وأمسكها بيدها يصدها عن الخروج وأقفل الباب. - اسمعي أخبرك حقيقة الحال، ابنك سرق من البيت ليلة ولد. - كذب! كذب أنت قتلته. - وسنبحث عنه فنلقاه إن شاء الله. - كذب، كذب، تلقاه في البحيرة؟ أنت رميته في البحيرة. - مليح، أنا رميته في البحيرة، فاعملي ما يخطر لك. وفتح إذ ذاك الباب. - روحي، روحي واتركيني في بلائي وحدي، ما بالك وقفت؟ ما بالك سكت؟ آه يا مريم لو علمت ما أنا فيه، لو علمت ما أنا أقاسي من أجلك، لو علمت ما أنا أدبر لك، مريم، بنتي! سكني روعك، وأنصتي إلى كلامي، الحياة يا مريم لعنة في الأرض، لعنة هي الحياة، خير لي لو لم تلدني أمي، خير لك لو لم تلدك أمك، أمك! أتعرفينها! أباك أتعرفينه؟ ألم تلعنيهما أمامي مرارا؟ كذلك ولدك المولود بالإثم يلعنك، المجتمع البشري لم يزل ينظر إلى مثلك وأبناء مثلك نظر الأمير إلى عبيده، والحكومة لا تمتعكم بشيء من حقوق الإنسان، تعيشون مذمومين، منبوذين، بائسين، يائسين، وحقا لكم أن تعيشوا مثل أسيادكم الأدعياء في مجتمع نخر السوس عظامه وألبسه الظلم ثوب الجلاد. مريم، بنتي، لا يحرمونك الحقوق الاجتماعية والمدنية والدينية فقط بل يفسدون عليك حقوقك الطبيعية، يقول لك الكاهن: ولدت بالإثم فالجحيم مأواك. ويقول لك القاضي: ولدت خارج الشرع فلا حقوق لك في مجتمع شرعه سلطان. ويقول لك عبيد العادات والتقاليد: ولدت في الفسق والشقاء فافترشي الفسق حياتك والبسي الشقاء حتى مماتلك. أما أنا وليك، أبوك، أخوك، صفيك، فأقول لك يا مريم: ولدت كما تلد الأزاهر، وكما تلد الأطيار، وكما تلد مخلوقات الله جمعاء، فلا أحرمك عطفي وحبي وولائي إلى أن يحرمك الله نور شمسه، لا أنبذك يا مريم إلى أن تنبذك الشمس وينبذك القمر، فاشكري الله الآن على خلاصك، ولا تسترسلي إلى الحزن فتنتكسي، أنا لك ما زالت لي قوة تساعدني على السعي في سبيلك في سبيل سعادتك، جئت بك هذه الناحية لأقيك شر الناس، لأنقذك من البلاء والعار، وقد فزنا بشيء من رغبتنا والحمد لله، ليس لبشر كل ما يريد في الأرض، كم من أمهات يلدن ويحزن ساعة الولادة! بل كم من أمهات يمتن في الولادة! وكم من أمهات يربين أولادهن ويفقدنهم وهم في عنفوان الشباب! وكم من بنات تبتلين مثلك فلا يجدن مأوى يأوين إليه ولا من يعطف عليهن ويمد إليهن يدا بيضاء، فاشكري ربك، يا بنتي، ما زلت معك لا يمسك شر إن شاء الله. - وأي شر أكبر من هذا الشر! ليتك تركتني في عاري، في بلائي، فأتعزى في الأقل بولدي. - لتعزيك الآن سلامتك، يا بنتي. - لا كانت سلامتي، لا كانت.
ولزمتها إذ ذاك نوبة عصبية فأغمي عليها وسقطت إلى الأرض، فنهض القسيس بها يعالجها حتى استفاقت ولزمت ذاك اليوم فراشها، ثم أخذت بعدئذ تقضي حاجات البيت وقلما تفوه بكلمة، وظلت أسبوعا على هذا الحال، تخرج ووليها إلى النزهة على شاطئ البحيرة أو في منحدرات الربى، فتنصت لإرشاداته وتمتثل أوامره وهي ساكنة مطرقة، وفي ذات يوم سألته عن عارف مبارك، فقال لها: إنه بعث يبحث عنه في حيفا فلم يجده، وقد كتبت إلى أخي يوسف وهو الآن في سوريا عل ابنه يكون هناك، وكتبت أيضا إلى مصر، فعسى أن يجيئني جواب مرض من إحدى البلادين قريبا. - يا قس جبرائيل! - نعم يا بنتي.
فنظرت مريم إليه ساكتة وقد ترقرقت عيناها بالدموع، فطايبها وحاول أن يستطلع ما تفكر به فلم تتكلم، كأن ما في نفسها من الغم والحسرة أوقع السكتة في لسانها، وظلت كذلك أياما لا تدري ما تصنع وما تقول، كأن شيئا رهيبا غير حزنها على ولدها بدأ يشغل قلبها ويضرم فيه نيرانا زادها السكوت التهابا، فتسمع في النهار تأججها وتكاد ترى في ظلمات الليل شرارها.
والقس جبرائيل - وهو لا يدري لسذاجة فطرية فيه أن الفتاة تسيء فهم كلامه ولا تهتدي إلى الصواب في تصرفه - كان يواظب على خطته صابرا، متجلدا، متيقنا أن سعادة مريم موكلة بها، فخاطبها مرة يقول: لم هذا السكوت يا بنتي؟ ما بالك لا تكلميني؟ لم أنت دائما يائسة؟ ألم أخلصك من السجن؟ ألم أنقذك من الموت؟ ألم أخرج من الدير وأتنكر في هذه الأثواب من أجلك؟ ألم أقتبل الفضيحة والعار حبا بك؟ ألم أبذل ما بوسعي لأعيد إليك طهارة ماضيك؟ لقد أخطأت مرة وجل من لا يخطأ، وسوف لا تخطئين ثانية بإذن الله، فقد ذقت مر الحياة ... فقاطعته مريم قائلة: نعم وذقت حلوها أيضا، ووقع عندئذ نظرها على نظره فارتعشت نفسها، بل أحست بسحر عينيه يجري في عروقها كلها فيسكن آلامها، بل شعرت بلذة غريبة من مجرد نظراته تلك الساعة، فأخذها بيدها وأجلسها إلى جنبه قائلا: حلو الحياة يزول يا بنتي، وذكراه حينما يزول تؤلم، أما مر الحياة فيلازمنا إلى القبر، حقيقته وذكراها كلتاهما مكربة مريعة، كلتاهما توجع وتغم، وليس أشقى من المجرمين غير البائسين الذين يولدون خارج الحظيرة، يولدون ونير العبودية على رقابهم، يلعنون في المهد، يرهقون في المدارس، ينبذون في المجتمعات، ويساقون إلى المآثم والجرائم، ألا تذكرين كيف عوملت في الدير؟ فلو كان لك أب يكرمك وأم ترعاك لما شقيت يا بنتي، فلا تحزني ولا تجزعي، روحي إلى طبريا تشاهدي هناك شقاء البنين والأمهات، مريم، إني أحبك، أحبك من صميم قلبي، وأود صالحك، وأنشد سعادتك، وأسعى في سبيلك طاقتي، أحبك ابنة لي وأختا، ولقد نجوت الآن من البلاء والعار وستكونين رفيقتي إن شاء الله في هذا الوادي؛ وادي الدموع، ستقيمين معي إن شئت وستلاقين دائما ما يسرك ويرضيك، سيفتح الله طريقا لك تتنعمين فيها، وإذا كنت تتضجرين مني ولا تريدين الإقامة قربي فسيكون لك من تحبين، ولكني أقسم بالله إنني لما أكون قربك أشتم شذاء نفسك فأنتعش، وأرى في عينيك نورا يشع في فؤادي فيدفئه، النور يا بنتي، في النور خلاصنا، في النور سعادتنا، شذا الورد خير من الوردة، خيال الشجرة قصيدة حبها، أنعام الأطيار ألذ ما فيها، أنت الآن ابنتي، ولي في ظلك ونورك ونغمات صوتك وطيب شذاك ما يخفف أماني فيك إن شاء الله.
لا، لا، لن أعود بك إلى الدير، فإني أعلم منك بأسراره وخباياه، ولكني أعد لك في سويداء قلبي مركزا لا تمسه يد بشرية ولا تدنسه الأهواء والشهوات، في الحياة الروحية يا مريم، وفي البعد عن الناس وعن الأديرة تمام السعادة، وإن لك بيتا على شاطئ هذه البحيرة في هذه الأرض المقدسة تقيمين فيه ومن تحبين، لا إخالك تجهلين يا مريم ما أقاسيه في مناهضة الميول السافلة وفي مكافحة الشهوات، هاتي يدك أرفعك إلى الذروة التي وصلت إليها، انظري إلي، هاتي يدك أرفعك فوق ما فيك وفي من آثار بربرية وغرائز حيوانية، لا شيء يدوم يا مريم غير الروح وآثارها السامية، اللذات تزول يا بنتي ولا يزول قرفها، ولا تزول سوء مغبتها، ما بالك؟ ألا يروقك كلامي؟ أتتضجرين مني؟ تكلمي ولا تخافي، ألا تريدين أن تبقي معي وأن تقيمي في الأقل بجواري؟ أنا مدبر لك ما يرضيك في الحالين، فلا تتبرمي، ولا تستسلمي إلى السكوت واليأس والسويداء. - ليس في طاقتي، ولا أعرف كيف أعبر عما في قلبي، فلا تؤاخذني إذا سكت. - ولكني أود أن أصرف أفكارك عن حزنك، فإن التفكر الدائم في ما كنت فيه يضرك. - الموت خير لي من الحياة، ولو فهمت معنى كلامك فلا أفهم معنى ما في نفسي، وما في نفسي يكاد يقتلني. - اعترفي لي بذلك يا بنتي، ولا تخافي، الاعتراف مرهم للقلوب الكليمة. - وكيف أعترف لك وأنت سبب حسرتي وبلائي، منذ عرفتك يا سيدي منذ رأيتك أول مرة منذ أخذت يدي بيدك ، سرى إلي منك شيء عجيب لا أعرف ما هو نور فؤادي وفتح عيني وبدد غيمة أثقلت وقتئذ نفسي وأظلمتها، ولم يزل ذاك الشيء العجيب ينمو في ويزعجني، يعذبني، وبالأخص حينما أكون قربك.
وسكتت مريم هنيهة محنية الرأس ثم نظرت إليه نظرة حادة صافية، كأنها فازت على ما يقيد نفسها ويضغط عليها، وقالت: أتريد أن تعرف ما في أعماق قلبي؟ أتريد أن تطلع على رغبتي؟ أتريد أن تعرف سبب حزني وكمدي وحسرتي؟ أتريد أن أريك نفسي التي تحترق وتحرق كل جسمي؟ - تكلمي، تكلمي، ولا تخافي. - بل أخافك، وأشعر عندما أكون قربك كأني واقفة على شفير الهاوية، وفيها ما يجذبني إليها ويحببني بعمقها وبظلماتها، فهل تخطئ الفتاة إذا أظهرت ما في قلبها، إذا أعربت عن رغبة تحرقها وتحرمها النوم؟
وسكتت مريم تنتظر جواب القسيس فلم يفه بكلمة، ثم قالت: ألم تدرك معناي؟ ولدي، ولدي، أنت سلبتني ولدي، أنت قتلته ورميته في البحيرة. - لا تعيدي هذا الكلام يا مريم، لا تعيديه. - أتنكر أن ولدي مات، إذن - وهذه رغبتني - أسأل الله ولدا بدله، وأسألك أنت أنت، أطلب منك. - ولكنها حجبت وجهها عنه وطفقت تبكي، ثم جثت عند قدمي القسيس وأخذت يده تقبلها، وتقول: سامحني، واغفر لي، أنا ابنة خاطئة، أنا امرأة ضعيفة، فقيرة، حزينة، وحيدة، ليس لي في العالم غيرك، سامحني، سأظل معك، سأكون خادمتك، بل عبدتك، سأذهب وإياك حيث شئت. - انهضي يا بنتي، الله يغفر لك ويباركك، انهضي، آمني بالله، آمني بنفسك، آمني بي، الإيمان يا بنتي يذلل كل ما في الحياة من الأهواء المهلكة والأميال، آمني بالله وبنفسك التي هي من عنده تعالى، وفكري بمن مشى على هذه البحيرة وقدس بخطواته وبكلماته هذه الربى، فكري بالمريمات اللواتي رفعهن الإيمان إلى روحيات السيد المسيح، اسمعي يا بنتي! سنبقى هنا بضعة أيام ثم ننقل إلى بيتي في سهل المغير، وإذا كنت لا تحبين الإقامة هناك نسافر إلى لبنان فنقيم هنالك في ظل الأرز في تلك الجبال المقدسة، وعسى أن يجيئني قريبا جواب من سوريا فنلتقي هنالك بعارف أو أبعث أستدعيه إلينا.
فأجابت مريم برأسها بالإيجاب وهي دفينة غمها، وأقاما في ذاك الكوخ على شاطئ البحيرة أسبوعا آخر كان القسيس فيه يظهر لمريم أضعاف ما عودها من العطف والحب والحنان، ولكن مريم لم تجد في ذلك تعزية لنفسها أو مرهما لقلبها.
وفي ذات ليلة نهضت من فراشها تهرب من نار ليلها الآكلة، ومشت إلى الجهة التي ينام فيها الراهب فرأته متربعا في فراشه منكسا رأسه، كان يصلي ولم يرها فأصبحت واجفة، خجلة، وعادت إلى فراشها ذليلة، وفي اليوم الثاني نهضت على عادتها واليأس مالكها والذبول يحجب وجهها، فراحت تهيم في البرية وتقول: سئمت لطفه، سئمت كرمه، سئمت معروفه، سئمت تقواه، سئمته، مللته كرهته.
وفي ذاك اليوم سافر القس جبرائيل إلى تلحوم ليرى إذا كان جاءه جواب من سوريا أو من مصر، وبينا مريم عائدة إلى البيت من نزهتها مرت بالحمامات فشاهدت بعض السياح قادمين من سمخ، فوقفوا هناك ليتفرجوا على الحمامات، فسمعتهم مريم يتكلمون الإفرنسية فألقت إلى الامرأة بينهم السلام وعرضت عليها خدمتها: أتريدين أن تتفرجي على الحمامات؟ «بارايسي مدام».
صفحة غير معروفة