وهذه أول مرة سادت أحقاد القس جبرائيل على حلمه، فظل في الدير يدير شئونه بيد من حديد وعين لا تنام، وكان يزور بيت أخيه كل أسبوع ليتفقد شئون مريم بالرغم عما كان يقاسيه من أشياء في نظرات تلك الفتاة وكلماتها حار فيها لبه.
وفي ذات ليلة بعد أن ارفضت جلسة «القمار» في بيت مبارك وانصرف المقامرون، أظهر يوسف أفندي لزوجته اشمئزازه من تصرف رئيس الدير وحديثه. - يا هند، هذا القسيس خبيث منافق، فإذا كنت تحبين زوجك وتحترمينه لا تقبلي في بيتك من ينم على سلفك ويدس له الدسائس، وسلفك مثال الفضل والتقوى.
فسكتت زوجته هنيهة ثم قالت وهي تشهر الحرب عليه: وهذه الخادمة مريم شيبت رأسي، لم أر بزماني فتاة عنيدة، عتية، وقحة مثلها، وماذا بينها وبين أخيك القسيس؟ ألا ترى كيف يختلي بها كلما جاء يزورنا، وكيف ينور وجهها وتلعب عيناها حينما تراه؟ يوسف، أخوك لا يليق أن يكون في الدير وبالقرب منا، هتك حرمة بيتنا، فضحنا. - وأنت أيضا من أعدائه؟! أنت تناصرين الرهبان عليه؟! أنت تصدقين ... - أن مريم ابنته، نعم، وخير له ولنا أن يأخذ الفتاة ويسافر وإياها إلى حيث لا يعرفه أحد، أن يبعد؛ يبعد عنا. - هند، من كان بيته ... -لا يراشق بالحجارة، يا يوسف.
فاستشاط يوسف أفندي غيظا ووثب إليها رافعا يده، ولكن تمالك نفسه والتزم السكوت.
وبعد أيام دخلت مريم على سيدها صباحا تحمل إليه حسب العادة الأركيلة والقهوة وكانت - وقتئذ - سيدتها في الكنيسة، فوقفت أمامه والحرد يلوح في عينيها. - في وجهك خبر يا مريم. - لا تؤاخذني سيدي، أحب أن أترك البيت. - ولماذا؟ - أنت تعلم. - هل تخافين مني؟ وأخذ بيدها وأدناها منه ثم ضمها بلطف إلى صدره وجعل يقبلها ويطيب نفسها، فتفلتت منه وهي تقول: لا لا، أحب أن أترك البيت اليوم. - ولماذا، ألا تخبريني؟ - في كل السنين التي قضيتها في الدير لم تضربني الراهبات إلا مرتين، والست هند تضربني دائما كل يوم، صباح مساء لأقل الأسباب وبدون سبب، الست هند تكرهني ودائما تلعن أبي وأمي، وأنا أكرهها ولا أحب أن أخدمها. - طيب، لا تخدميها، ابقي في البيت ولا تخدميها، وأنا ... أنا - فاحتدمت إذ ذاك شعلة الغرام في جوارحه كلها - أنت خادمتي أنا، أنت مرمورتي.
وطوقها بذراعيه وقيدها بعينه فتبرمت وتأففت، وطفقت تبكي وهي تحاول أن تتفلت منه، فوقعت على الديوان فنهض بها يسكن روعها ويقول: لا تخافي، فلا أضرك أبدا امسحي دموعك، كوني مطمئنة البال، غدا أسافر إلى حيفا لقضاء بعض الأشغال فتسافرين معي تتفرجين على المدينة.
فخرجت مريم من غرفة سيدها وأوداجها تنتفخ وصدغاها ينبضان كالساعة الدقاقة.
وفي ذاك اليوم جاء القس جبرائيل فتضرعت إليه أن ينقلها من بيت أخيه. - ولأي سبب. - لا أحب أن أخدم هنا، أحب أن أسافر، إلى سوريا، إلى مصر، إلى أي مكان كان لا فرق عندي بشرط أن ...
ولأي سبب؟ هل حدث حادث؟ هل أهانك أحد؟ هل ضربتك سيدتك؟ - لا لا، معلمتي لطيفة ليس مثلها بين النساء، ومعلمي من أفضل الرجال، ولكني لا أحب أن أخدم في هذا البيت.
فاضطرب القس جبرائيل مما تخفيه مريم، ولقد طالما سمع شكواها ولم ينسب ما تبديه من القلق والضجر إلى غير الطفيف من الأسباب، أما الآن فبدأت تتجلى له الحقيقة في المسئولية التي اتخذها على عاتقه، ألح عليها أن تجهر بما تخفيه فتلجلجت وبكت. - أخدم في الدير عندكم. - ولكنك تكرهين الأديرة، وأنت الآن في بيت أماجد يحبك آله ويودونك، وإذا انتهرك سيدك فإنما يريد صلاحك، ومع ذلك فقد قلت لك: إنني أنوي أن أنقل إلى لبنان فأستصحبك إن شاء الله. - لا، لا، أحب أن أترك اليوم، فجهمها القسيس قائلا: هذا مستحيل يا مريم، ستبقين هنا إلى أن أنظر في أمرك، خرجت من الدير تحت رعايتي، فلا أعمل إلا ما يعود عليك بالخير. - وهل تنقلني من هنا؟ - إذا عملت بإشارتي. - أنا مطيعة لك رهينة إشارتك، لا تنسني، دخيلك، دخيلك. - وأخذت يده فقبلتها فاعترت الراهب هزة وردت وجنتيه خجلا وبين هو خارج التقى بأخيه في الباب عائدا من المحكمة. - ارجع تعش معنا. - لا، لا، غير ممكن. - وماذا جرى؟ - كلهم جبناء أخساء؛ إذا حضرت يعفرون وجوههم أمامي وإذا غبت يسعون بي وينمون علي. - والرئيس العام غير سياسته، فينبغي لك أن تظل في الدير إلى أن يتم لنا النصر. - لا أترك الدير مأمورا مهما جرى، داروا مريم داروها من شأني.
صفحة غير معروفة