الشاب :
برد، برد شديد! ماذا كنت سأفعل لولا الدنانير؟ الدنانير؟ بل لولا دينار واحد؟ كنت هلكت كالبهيم ونفقت كالحمار. عندما دخلت المطعم بعد طلوع الفجر، حقا إنها حكاية! النادل العجوز يكنس السلم. عبرته غير مبال، دخل ورائي مسرعا، صعد في بصره وأنزله ... لماذا تنظر هكذا! وبصوت مرتفع كالأعيان وأصحاب الأملاك هيا ... أعد الفطور! ولا تنس شرائح اللحم، والبيض والجبن من كل الأنواع. لماذا تنظر إلي أيها الأبله؟ ألا أليق بهذا الفطور الملكي؟ لا ترضيك سترتي البالية وشالي المعفر ووجهي الذي لطمت الرياح والأمطار والعواصف صخرته الناتئة وجعدتها وملأتها بالشقوق؟ وهرعت إلى الدنانير ... أخرجت الكيس وأسمعته الرنين، فزع المعتوه. ترك المكنسة وربط المداعة، وأقبل على العمل. هل يطلب سيدي شايا بالحليب؟ قهوة بالحليب يا ثور! هكذا يفعلون في بلاد الله المتحضرة. قهوة باللبن، وسكر كثير كثير. فالطريق وعر لا يزال ... الطريق وعر على الدوام. ولا تسل عن الانحناءات والاحترامات والتحيات. هذا لك! والدعوات أيضا والابتهالات (يخرج الكيس ويرنه)
هكذا تفعل أيها السم البراق! تفتح العيون وتغمضها وتدفع الأبواب بالأقدام. دينار معك فأنت مع نفسك، مع الحق، مع القوة، مع العدل والحقيقة ... الحقيقة؟ تتمدد كالجثة إن لم ينفخ فيها الدينار الدفء. إن لم تنعشها شمس الدينار الذهبية! بوركت أيتها المرأة الطيبة! أيتها الحاجة الصغيرة البائسة! الحاجة! ها ها! سميتها الحاجة، ولم لا؟ صيد ثمين يا غزال! صيد يكفيني مئونة الشتاء. وماذا كنت أفعل الآن بغير دفء ولا شراب؟ ليت الوقت اتسع، ليت الذاكرة لم تكن كالغربال المخروق. إذن لطلبت شايا وسكرا وبنا وكومة أرغفة تعين على الطريق. الطريق طويل يا امرأة. الطريق وعر يا حاجة! آه لو عرفت أنه يؤدي دائما إلى الجحيم! الجنة! أجل أجل، حلمت بها طويلا، وحرقت عيون الفكر والعزم والخيال. حاولت أن أصنعها للأطفال والجيران والأصحاب وأهل القرية. وفي كل مرة تتهشم أجنحة الحلم على صخرة القبح والظلم. في كل مرة تسحقها أقدام القردة، وتلوكها أنياب الذئاب والكلاب، حتى الحمير الراضية القانعة تصمم أن يكون العلف من الأحلام. فإذا شبعت تمددت في الشمس ورفعت النهيق آمين آمين! وأنا المطارد والمطرود. أهيم من بلد إلى بلد بلا عدة ولا حذاء، جواب آفاق أم أفاق؟ حالم بالجنة أم هارب من الجحيم؟ ودائما أعود إلى المركز، وألف حول الدائرة وحيدا في البرد والليل، في الصحراء والهجير. ابتعدي أيتها الذكريات! بدأت الشمس تسلط على رأسي سياطها فدعيني. وماذا أفعل الآن؟ لا بد من الاحتياط، ربما يكون الثور المخمور في أعقابي. ربما أفاجأ به يقبض على خناقي، فلأسرع أيتها الحيلة أين وصاياك وعكازك؟ أين نذورك وبخورك وألاعيبك يا شيخ السوء وحاوي السيرك المغمور؟ ها ها! ها هي ذي! الجبة والشال والعمامة. لو لبست الجلباب لعرفني. لو بقيت بهذه الأسمال لوقعت في القفص كالنسناس المذعور. والشال الأسود ... حمدا لله أنني لم أنسه على رقبتي! وشكرا لك أيها المعتوه، أنا الشيخ الذي تنتظره ... أنا الذي سيرسل ابنك للجنة ... يرسله؟ ولماذا لا آخذه معي؟ لماذا؟ (ينزع الشال الأسود، ويلقيه في الجراب، يستخرج الجبة والعمامة والشال الأبيض، يتلفت حوله) .
أرض بور ! أرض خراب ! أشواك وبقايا جذوع وشواهد قبور، أما من شجرة أقبع في ظلها أو أستند عليها وأغير ملابسي؟ أدائما تكشف الرغبات وتعرى الأحلام؟ وماذا لو رأيته الآن ووقعت في الفخ؟ من أجلك يا سيدتي المسكينة. من أجلك يا حاجة أحتمل عذاب الرحلة للجنة أو للجحيم. (يبدأ في تغيير ملابسه قطعة قطعة وهو يدندن بلحن الأغنية التي سمعها من النساء والأطفال مع بعض التغيير):
يا جارة مرحى يا جارة،
قد جاء رسول ببشارة،
ورآك وحقق أوطاره،
واحتال الشاطر بشطارة،
يا جارة مرحى يا جارة.
عظيم! شيخ أخنى عليه الزمان، معلم لم تعلمه الأيام. من أجلك أيتها المسكينة، وأنت أيها الطفل المسكين، هل بقي شيء؟ نعم نعم. الجراب، لا بد من إخفائه، أين أخفيه؟ أين أخفيه؟ لعن الله هذا الخلاء. لم تبق إلا الأرض، أيها الرحم المفتوح على الدوام. أيها الكهف الأمين اللعين. وأين المهرب منك؟ اليوم تلقم الجراب وغدا صاحب الجراب! (يحفر حفرة يخفي فيها الجراب. يرتب ملابسه وعمامته ويفتح كتابا في يده، يتلفت وراءه فيلمح شيئا يتقدم نحوه) .
صفحة غير معروفة