يومها وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب؛ يصعب على واحد ويضحك عليه عشرون. الستات تشير إليه وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط. والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله. والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام. عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست، نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عتريس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي. انظري.
وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه، وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة. رأسه تحت ورجلاه في السماء. وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون، وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!
في الزنزانة المعتمة على البرش الخشب، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه. وبالليل طلعت له الست الطاهرة، وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم. - كلهم يا ست؛ المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، الأفندية، والفلاحون. - ورموك في الزنزانة. - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟
فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد. تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست. أبدا أبدا.
1964
ابن السلطان
رأيته لأول مرة في دكان أبي.
كنت في ذلك الحين في السابعة أو الثامنة من عمري، أختلف على المدرسة الابتدائية الواقعة في البلدة المجاورة على حمار هزيل يعرف الطريق أكثر مما أعرفه، وربما كان يعرف عن العالم أكثر مما أعرف.
كنت أقرأ درسا في كتاب الجغرافيا، عن منطقة عجيبة اسمها المنطقة الاستوائية. وكان اليوم من أيام الصيف القائظة، وجسدي ينضج بالعرق، ورأسي مثل قدرة الفول تغلي وتفور، أغلقت الكتاب وأخذت أفكر فيما قرأت، هل يمكن أن تكون الحرارة في خط الاستواء أشد مما هي عليه في بلدنا؟ وأيقنت أن الكتاب لا ريب مخطئ، وأن خط الاستواء يمر من بلدنا بغير شك، وأقبلت على الساحة المواجهة أبحث فيها عن مكان الخط الملتهب فلم أر أمامي غير سوق القرية يحوطه سور خشبي مهدم في أكثر أجزائه، وترقد فيه قطعان من الخرفان والجاموس والحمير، وأحسست بفيض من السعادة وأنا أنظر إلى هذه القطعان التي لا تعرف شيئا عن خط الاستواء.
كان ذلك في يوم السوق، وكان دكان أبي في مدخل القرية، يلتقي فيه الفلاحون القادمون من الكفور المجاورة فيطلبون طبقا من الفول، أو يستريحون في الظل، وكنت أعجب لأن أبي يعرفهم جميعا، وأعجب أكثر من ذلك؛ لأنه يحبهم جميعا. فلا يكاد أحدهم يدخل الدكان مجهدا من عناء السكة الطويلة حتى يستقبله مرحبا، مناديا باسمه، سائلا عن الصحة والعيال، بل لقد كان يعرف من طلق منهم زوجته، ومن مات ابنه، أو فطست بهيمته، أو سرق أولاد الحرام جرنه، كل منهم يجد الكلمة الحلوة عنده: ربنا يعوضك خيرا، كل شيء قسمة ونصيب، الحمد لله على الستر، النسوان ليس لها أمان، والمرأة مثل القطة تأكل وتنكر، الأمر أمره؛ لهذا كان أبي تاجرا ناجحا، وكل من يحاول أن يفتح مطعما إلى جوارنا تكسد تجارته، ويعزل بعد أيام.
صفحة غير معروفة