إن العالم الإسلامي والعالم الأوروبي الآن متدينان دينا جغرافيا أكثر منه دينا حقيقيا؛ فكلاهما فقد في تدينه الروح واحتفظ بالنظر. غاية الأمر أن العالم الأوروبي آمن بالعلم واتخذه إلها، والعالم الإسلامي آمن بالخرافات والأوهام واتخذها إلها، فلا بد لصلاحهم من دين يعنى فيه بالروح أكثر مما يعنى بالنظر، والعالم الأوروبي الآن إذا هدي إلى التدين أفاده المنهج العلمي في عرضه العقائد والديانات على محك النظر، فيكون دينه دين عقل وشعور معا، وهذا هو الدين الراقي والذي يتطلبه الإسلام؛ فكم من آيات القرآن ختمت بقوله - تعالى:
أفلا تعقلون ، وتعيير الكفار بأنهم:
لا يفقهون ، والدين الصحيح يتطلب أن يعرض الانسان العقائد الشائعة بما فيها من خرافات وأوهام على محك العقل؛ ليجد لها أساسا واحدا يؤلف بينها، فينفي ما بطل، ويثبت ما صح، وهذا ما فعله محمد
صلى الله عليه وسلم
عند تعبده في غار حراء بعد أن رأى العرب وما يدينون به، والنصارى في الشام وما يدينون به، وسمع من سلمان الفارسي أخبار الفرس وما يدينون به، فكل هذه مجموعة من العقائد تستلفت النظر؛ ليعرف الصحيح منها والفاسد، وأخيرا هداه الله إلى أن العقيدة في الأصنام ليست عقيدة صحيحة، والعقيدة في اتخاذ الملوك والأحبار والرهبان آلهة ليست عقيدة صحيحة، وأن العقيدة الصحيحة التي تبقى على محك النظر الاعتقاد بإله واحد فوق المادة وفوق البشر، يأمر بالعدل والصدق، وينهى عن الفحشاء والمنكر.
وشيء آخر لا بد منه للمسلمين وهو اجتماع كلمتهم وتوحيد خطتهم،
4
وليس الأمر كما قال المرحوم سعد زغلول: إن صفرا + صفرا يساوي صفرا، بل إنه −5 × −5 = 25 ... وقد أدرك هذا القادة السابقون في العصور الحديثة، وسموها الجامعة الإسلامية، ونادى بها محمد بن عبد الوهاب، ولكن هزم حربيا، ثم نادى بها على أثره السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الشيخ محمد عبده، والسيد عبد الرحمن الكواكبي، وإن كانت طرقهم مختلفة؛ فالسيد جمال الدين كان يرى تنفيذ الجامعة بثورة الشعوب على الأمراء وعلى المستعمرين، والشيخ محمد عبده يرى تنفيذها عن طريق التربية والتعليم، والكواكبي ثار على الأمراء أكثر مما ثار على الاستعمار في كتابه: «طبائع الاستبداد»، ورسم طريقة تنفيذ الجامعة الإسلامية في كتابه «أم القرى»، وكان يساعد هذه الحركة الشيخ علي يوسف في جريدته «المؤيد»؛ إذ ينشر فيها مقترحات المفكرين وأخبارا عن أنحاء العالم الإسلامي، والسلطان عبد الحميد كان يناهض الحركة أولا، ثم أيدها أخيرا، والأوروبيون رعبوا من هذه الدعوة إلى الجامعة الإسلامية؛ لأنها ستقف سدا منيعا ضد استعمارهم؛ ولذلك تحفزوا ضدها، وشهروا بها، وكرهوا المسلمين المثقفين في اعتناقها بدعوى أنها تثير التعصب الإسلامي البغيض. ولا ضير من هذا التعصب إنما الضير من تعصبهم هم؛ لذلك نفر عدد من المثقفين المسلمين من هذه الفكرة، وقد اجتهد رئيس المبشرين المستر زويمر في عقد مؤتمر للنظر في هذه الكارثة، كارثة اجتماع المسلمين على رأي واحد، ومما قاله الرئيس في ذلك: «إن المبشرين المنتشرين على ضفتي النيل، وشرقي أفريقيا، وبلاد النيجر، والكونغو يشكون مر الشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء. وبالرغم من أن انتشاره في الهند الهولندية قد لقي الموانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولندية والألمانية؛ فهو يتوطد ويثبت هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون التقاليد الخرافية بعقائد ثابتة قويمة، وفي أمريكا عدد كبير من المسلمين لا يستهان به؛ إذ بلغ «56» ألفا.»
ثم قال: «إن العصر الأخير امتاز بالانقلابات السياسية التي حدثت أخيرا في العالم الإسلامي، فشكرا لله على حدوث هذه الانقلابات؛ لأنها أقامت الحرية على أنقاض الاستبداد، وصار التجول في البلاد العثمانية والعربية والفارسية مسموحا به، وأن الإسلام قد بدأ يتنبه لحقيقة موقفه، ويشعر بحاجته إلى تلافي الخطر، وهو يتمخض الآن عن ثلاث نهضات: الأولى: إصلاح الطرق الصوفية. والثانية: تقريب الأفكار، من الجامعات الإسلامية. والثالثة: إفراغ العقائد والتقاليد القديمة في قالب معقول.
ومصدر هذا الشعور بالحاجة إلى إصلاح واحد وهو التغير الذي حدث في الإسلام عندما اكتسحت أهله الأفكار العصرية والحضارة الإفرنجية، ولا يمنع هذا أن يكون الشعور راجعا لعاطفة الخوف والحذر من الحضارة الغربية، أو التوفيق بين مبادئ الإسلام والمدنية الغربية، وكلاهما يؤدي إلى غاية واحدة وهي جعل الإسلام متمشيا مع الأفكار العصرية.»
صفحة غير معروفة