وجاء المصريون بعد فقلدوهم في أعمالهم وساروا على منوالهم. ثم قلدهم غيرهم من الممالك المحيطة بهم كسوريا وغيرها. وكان هناك نوع آخر من الاحتكاك بالأوروبيين وهو إرسال البعثات إلى أوروبا وخصوصا فرنسا وإنجلترا؛ لتعزيز الجيش وتنظيمه على نظام جديد، ولذلك عني محمد علي بتأسيس كلية الطب؛ للمحافظة على أرواح الجنود، وأنشأ كثيرا من المدارس لخدمة الجيش، وغرس الأشجار وخاصة القطن لإصلاح الثروة القومية.
والعامل الثاني كان إنشاء المطبعة، فقد كانت سببا في نشر الكتب القديمة، وترجمة الكتب الحديثة، ووصولها إلى عدد كبير من الخاصة وتوسيع ثقافتهم، وقد انتشرت المطابع على أساس المطبعة التي أتت بها حملة نابليون وسميت بالمطبعة الأهلية، ثم كان من أسباب هذا الوعي القومي الوسائل الثلاث التي تكونه عادة، وهي: الصحافة، والسينما، والإذاعة.
فالصحافة غذت الرأى العام كثيرا بما كانت تنشره من آراء ضد عسف الأمراء وجورهم، وهي أيضا أسست على أنقاض جريدة حملة نابليون. وقد تطورت هذه الصحافة بتطور الرأي العام، تغذيه كل يوم بآرائها وأفكارها وأخبارها. وأما السينما؛ فكانت وسيلة لنقل الحياة الأوروبية بجدها ولهوها إلى الشعوب الإسلامية، وعرض الحياة الأوروبية في المنازل والحروب وما إلى ذلك، فكانت عاملا كبيرا في نقل المدنية الغربية. وأما الإذاعة؛ فإن كبار الكتاب والأدباء بما يلقون من محاضرات، وكبار الفنانين بما يعرضون من فن قد رقوا الرأي العام وبلوروه، على أنه - والحق يقال - لا يزال الرأي العام في البلاد الإسلامية في بدء نهضة، لم ينضج بعد النضج الكافي؛ فإنه لا يزال يخدع بالترهات، ويستولي عليه المهوشون، ولا يستطيع التفرقة الدقيقة بين الحق والباطل، وبين ما يجب وما لا يجب، وهو يهتم عادة بالمطالب أكثر مما يهتم بالمسئوليات، ولا تزال الصحافة والإذاعة والسينما مقيدة الحرية اللازمة لتكوينه تكوينا تاما. وهو لا ينضج حتى يعقله المصلحون، ويمرنوه على المنطق الصحيح والنظام والطاعة والحرية.
ومن العجيب أن أعراض المرض في كل الأقطار الإسلامية تكاد تكون متماثلة؛ لأن ما جرى عليها من أحداث متماثل، والمصلحون يتشابهون أيضا في جوهر إصلاحهم. غاية الأمر أن الاختلاف بينهم إنما هو اختلاف في البيئات التي كونتهم، ومقتضيات كل بيئة، فإصلاح محمد بن عبد الوهاب إصلاح مصبوغ بالصبغة البدوية لبيئته البدوية، وجرى على أثره السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، وإن كانت آثار الحضارة ظاهرة في إصلاحهما، وإصلاح مدحت باشا وخير الدين التونسي إصلاح مدني بتقليد الغربيين في نظام الحكم وإصلاح الحكومة وما إلى ذلك، متأثرين بثقافتهما الأوروبية، وإصلاح تركيا الفتاة ومصطفى كمال إصلاح أوروبي بحت لا ينظر إلا إلى ما فعلته أوروبا في قوانينها ونظمها وعلومها من غير نظر إلى الإسلام وما يتطلبه وما لا يتطلبه تبعا أيضا لبيئتهم.
ولصعوبة الوحدانية، وميل العوام دائما إلى الوثنية، ودعوة الإسلام إلى الإيمان بالمغيبات من جن وملائكة كثرت الخرفات والأوهام، وعاد الناس إلى وثنيتهم الأولى يقدسون الأبطال والأضرحة والأولياء كما يقدسون أماكن خاصة وأزمنة خاصة، من مثل: نعل الكولشني، وبوابة المتولي، وشجرة العذراء، وأمثالها. لذلك لم يعتمدوا كثيرا على ربط الأسباب بالمسببات؛ فهم يدفعون الحروب بالدعوات، ويستجلبون الشفاء بطلب البركة، ويمنعون الشرور بالتعاويذ، إلى أمثال ذلك.
وقد ظهرت آثار الوعي القومي في مناهضة الاستعمار ومناهضة من يلوذ به من أهل البلاد، فجعلت الحكم الأجنبي صعبا عسيرا ليس بالسهل اليسير كما كان، ونبهت الخاصة إلى وجوب تنشئة علماء ليسوا كالعلماء السابقين ممن يعنون بالطبيعة والكيمياء ونحوهما، وأنهضت الصناعة بعد أن فهمت أن البلاد ليست حقلا زراعيا للمستعمر، وأن البلاد لا بد أن تنهض على الصناعة والزراعة معا. وأصلحت ما أمكن إصلاحه من الشئون الاقتصادية؛ فزادت ثروة البلاد، وقاربت بين الطبقات، ثم طالبت بالاستقلال التام، فمنها من نجح بفضل قوته وانقسام الدول الأوروبية على نفسها في الاستعمار كسوريا ولبنان، ومنها من خطت خطوة لا بأس بها في هذا الاستقلال وإن لم يتم بعد كمصر والعراق.
لقد قلت محاضرة وأنا في السنة الثالثة من مدرسة القضاء سنة 1910 بمناسبة افتتاح السنة الهجرية، كان من رأيي إذ ذاك أن من أكبر أسباب انحطاط المسلمين الحكام ورجال الدين، ولا يزال هذا القول صحيحا إلى اليوم؛ فالحكام بيدهم زمام الشعوب وقد قال الله - تعالى:
ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ، وقال:
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، وقد أساءوا إلى المسلمين من جهتين: فأولا من جهة تنازعهم على الخلافة أو الإمارة أو السلطة، وقد كان هذا العمل سلسلة في تاريخ الإسلام لا تنقطع من عهد أن اختلف علي مع أبى بكر، ثم اختلف علي مع عثمان ثم معاوية، ثم نكل السفاح بالأمويين وذبحهم وشردهم، ثم ما كان من الاختلاف بين المأمون والأمين حتى قتل الأمين، ثم ما كان من الخلاف بين السلجوقيين وتنازعهم على الملك، وتقاسمهم العلماء والأدباء، وتعريضهم للقتل أو النفي. ومن ناحية أخرى إمعانهم في شهواتهم ولهوهم، وجباية الأموال بالقتل أو المصادرة أو كثرة الضرائب، وعكوفهم على الخمر والنساء، وحسبك دليلا على ذلك أن كان يقدر ما يصرف على قصر يلدز في عهد السلطان عبد الحميد بألف جنيه كل يوم، مع أن قدرة الجنيه على الشراء وقتئذ أكثر من ثلاثة أمثاله اليوم.
أما العلماء؛ فمسئوليتهم من ناحيتين أيضا؛ الأولى: أنهم أذاعوا في عامة الشعب الأحاديث والتعاليم التي تؤيد السلاطين في عصورهم من مثل: السلطان ظل الله في أرضه، وأنه إنما يحكم بأمر الله وإرادته، وأنه إن ظلم فإنما يظلم بظلم الناس. ومن ناحية أخرى استخدامهم في تخدير الشعب ورضاه بحالته من طريق خطب يوم الجمعة في المساجد أو الدروس الدينية أو الوعظ والإرشاد وما إلى ذلك، قال الغزالى في الإحياء: «اعلم أن الخلافة بعد رسول الله
صفحة غير معروفة