63

يوم الإسلام

تصانيف

وقد قلنا من قبل إن عقيدة الألوهية صعبة إلا على الخاصة، وإن المسلمين لم يلبثوا أن نسوا الوحدانية، وعادوا إلى الوثنية، وكذلك كان؛ فقد عظمت القبور، وقدس الأولياء، واتخذت الأضرحة معابد، وعبد الحكام والأمراء من دون الله، ولذلك كان من دعاة الإصلاح مثل محمد بن عبد الوهاب، والشيخ محمد عبده، من هاجم القبور والأضرحة والأولياء والاستشفاع بهم عند الله؛ لأنهم رأوا هذه كلها بدعا دخلت في الإسلام فأفسدت العقيدة الصافية عقيدة الوحدانية التي تتمثل في «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وقد توسع المسلمون في هذا توسعا غريبا، فقدسوا باب المتولي وشجرة العذراء ونعل الكلشني ونحو ذلك، حتى تدنوا من ذلك إلى الحضيض، ونسوا أساس الإسلام، وأقيمت الموالد لإعظام شأن الأولياء وأصحاب الأضرحة، واخترعوا لكل شيخ مولدا تذبح الذبائح عنده، وتقرب فيه القرابين، ونحو ذلك مما لا يتفق مع الإسلام في قليل ولا كثير. وقد اهتم الإسلام بالعمل الصالح؛ فنجد القرآن دائما أو على الأقل في الغالب يقرن عمل الصالحات بالإيمان بالله، وهو يقصد بالعمل الصالح «الجهاد - والعدل - والشجاعة - ونحو ذلك من الفضائل» وبجانبها الشعائر الدينية من صلاة وصوم وزكاة وحج، فلما انهار المسلمون فقدوا الاهتمام بالعمل الصالح،ووجدت النزعات الصوفية التي يرى بعضها أن الأعمال الصالحة لا قيمة لها إذا تم الإيمان، بل وجد من الطوائف الصوفية طائفة الملامتية التي ترى أن لا يوجه اللوم إلى مرتكبي الجرائم لعل بينهم وبين الله صلة، كما وجد في الفلاسفة من نادوا بأن الايمان وحده يكفي المتفلسف، وإنما شرعت الأعمال للعامة لا للفلاسفة والخاصة. حتى الشعائر الدينية فقدت صبغتها الروحية وأصبحت مجرد حركات ميكانيكية لا تمت إلى القلب بسبب؛ فهي مجرد أعمال بهلوانية وحركات شيطانية.

ولما انحل العالم الإسلامي في الداخل انحلالا كبيرا بفضل الثورات بين شيعة وسنية وخوارج، وبين المذاهب من شافعية وحنفية وحنبلية، وبين العناصر من عرب وفرس وترك؛ أمكن العدو الخارجي أن يتقدم خطوات، وينال منهم، ويستولي على أراضيهم، فبعد أن كانوا يغزون وينهزمون أمام المسلمين أصبحوا يغزون ويتقدمون؛ بدءوا ذلك في عهد سيف الدولة الحمداني في حلب، وكان عهده أسوأ مثل للاستبداد من فرض ضرائب باهظة على الناس، وضم كثير من البلاد إلى ممتلكاته الخاصة، فانتزع حلب سنة 945 من أيدي الإخشيديين المتغلبين على مصر، وأراد أن يبسط سلطانه على دمشق ولكنه أخفق، غير أن حسنته الكبرى موقفه أمام البيزنطيين، وكانت الحرب أولا غزوات صيفية ومناوشات حول القلاع والحصون، وكان النصر فيها للعرب حينا وللبيزنطيين حينا، وقد سجل هذه الحروب في الانتصارات والانهزامات المتنبي الشاعر الكبير، وأبو فراس ابن عم سيف الدولة الذي كان عاملا على منبج ثم أسره الروم، وقال في ذلك قصائده الكثيرة المشهورة بالروميات المثيرة للعواطف، وكان العداء شديدا في هذه الحروب بين الصليبيين والمسلمين كما تدل على ذلك الكتب الإسلامية المؤلفة في الحض على الجهاد في ذلك العصر، وكما يدل على ذلك أيضا تحمس النصارى وشدة قتالهم، والنصارى يكرهون المسلمين ويعادونهم أكثر من عدائهم حتى لليهودية والوثنية، وما زال العداء مستمرا إلى اليوم بنصرتهم لليهود على المسلمين وانتزاعهم فلسطين من أيديهم.

وقد وقعت الحرب حين ذلك لتعود بشكل أقسى، فإن هؤلاء الصليبيين ظهروا في سوريا بقيادة جودفري دي بويون وجماعة من الزعماء الفرنسيين والنورمنديين، وانتهزوا فرصة التناحر بين السلاجقة، وحاصروا أنطاكية، ثم سقطت في أيديهم بخيانة أحد الحراس، وكانت القدس تحت سلطنة المصريين ولكن ما لبثت أن سقطت في يد الصليبيين، وقبل ذلك سقطت الرها في أيدي بولدوين، وفي سنة 1101عهد إلى الكونت ريمون دي تولوز أن يفتح طرابلس الشام لتكون قاعدة لإمارة جديدة، ثم سقطت بعد حصار دام ست سنوات، وقد احتفظ الصليبيون بها نحو عام، حتى إذا جاء الربيع التالي من القرن الثاني عشر اعتز الإسلام بآل زنكي فناضلوا نضالا شديدا ضد النصارى، فكان أولهم عماد الدين زنكي وكان جنديا بارعا وسياسيا لبقا فوفق لهذه الصفات إلى توسيع رقعة سلطانه شيئا فشيئا، فلما توفي بكاه الناس بكاء مرا؛ لعدالته ورأفته برعيته والعمل لصالحهم، وقد أمكنه أن يأخذ الرها من يد النصارى بعد أن ظلت في أيديهم نحو نصف قرن، وقتل شهيدا وهو يحاصر عكبرة، ولما قتل اقتسم مملكته ابناه سيف الدين غازي، وقد استولى على الموصل والجزيرة حتى الخابور، ونور الدين محمود استولى على سوريا، وجعل قاعدته حلب، وهو الذي احتمل مسئولية محاربة الصليبيين، وكانوا قد عادوا فاستولوا على الرها على يد الكونت جوسلين، وأثار المسيحيون في البلاد الإسلامية ثورة داخلية لمساعدة الصليبيين فأخمدها نور الدين وقضى عليها.

وقد سبب سقوط الرها تحمس الأوروبيين من جديد، ووجد البابا أرجانيوس الثالث فرصة في ذلك لتهييجه العواطف ضد المسلمين، وساعده على ذلك أنه كان داعيا بليغا وخطيبا مؤثرا، ومع أن الحملة منيت بخسائر كثيرة بسبب الجوع والمرض، فلم يصل منها إلى الأرض المقدسة إلا فلول هزيلة، فقد اتجهوا نحو دمشق معتزمين فتحها مهما كلفهم ذلك، فلما ظهرت الجيوش الصليبية على أبواب دمشق استنجد الأمير الحاكم بنور الدين، ولكن الصليبيين اضطروا إلى رفع الحصار قبل أن تتقدم جيوش نور الدين إلى دمشق ... إلخ.

حتى جاء صلاح الدين وكان يعمل في خدمة نور الدين، فأزال الدولة الفاطمية من مصر، وطرد الصليبيين من بيت المقدس، بعد أن عاثوا فيها الفساد. وكان العداء الشديد بين الصليبيين والمسلمين، حتى أن فلاسفة أوروبا ومفكريها وأدباءها قد وضعوا لغزو المسلمين وفتح بلادهم نحو مائة مشروع قدموها للباباوات، وبعض هذه المشاريع تجارية ترى غزو المسلمين عن طريق التجارة لا الحرب، وأكثرها حربي يضع الخطط للغزو إما عن طرق مختلفة أو عن طريق واحد وهكذا.

وكما هدد الصليبيون الشرق بحملاتهم المتوالية عليه؛ فقد أفلحوا في طرد المسلمين من الأندلس بعد أن أصيب المسلمون بالتفرق والانحلال، وانسحب الصليبيون من الشام ليعودوا إليه في حملة أخرى إذا واتت الظروف؛ فإن عداءهم للمسلمين لا يفتر. قال صاحب مجلة العالم الإسلامي الفرنساوية: «العالم النصراني على اختلاف أممه وشعوبه عرقا وجنسية هو عدو مقاوم مناهض للشرق على العموم وللإسلام على الخصوص؛ فجميع الدول النصرانية متحدة معا على دك الممالك الإسلامية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، والروح الصليبية كامنة في صدور النصارى كمون النار في الرماد، وروح التعصب لم تنفك حية معتلجة في قلوبهم حتى اليوم كما كانت في قلب بطرس الناسك من قبل، فالنصرانية لم يزل التعصب مستقرا في عناصرها، متغلغلا في أحشائها، متمشيا في كل عرق من عروقها، وهي أبدا ناظرة إلى الإسلام نظرة العداء والحقد والتعصب الديني الممقوت، وحقيقة هذا الأمر ونتيجته واقعتان في كثير من الشئون الخطيرة والمواضع الكبرى؛ حيث القوانين والشرائع الدولية لم تعامل فيها الأمم الإسلامية معاملة السواء مع الأمم النصرانية.

تنتحل الدول النصرانية أعذارا لها في كرهها وهجومها وعدوانها على الممالك الإسلامية وإذلالها وإكراهها بقولها إن الممالك الإسلامية هذه إنما هي من الانحطاط والتدلي بحيث لا تستطيع أن تكون قوامة على شئون نفسها، وفوق جميع هذا فهذه الدول النصرانية عينها لم تفتأ تعمل هذا من ناحية، وتتذرع بألوف الذرائع من نواح أخرى - حتى بالحرب والحديد والنار - للقضاء على كل حركة حاولها المسلمون لبلادهم وديارهم في سبيل الإصلاح والنهضة، وجميع الشعوب النصرانية مجمعة متفقة على عداء الإسلام، وروح هذا العداء متمثلة بجهد جميع هذه الشعوب جهدا خفيا مستترا متواليا لسحق الإسلام سحقا.

وتأخذ النصرانية مشاعر كل مسلم وآماله ورغباته التي تجول في صدره، ثم تمثلها بصور الهزء والسخرية والعبث والازدراء، وإن ما يدعوه الفرنجة عندنا في الشرق تعصبا مذموما محرما هو عندهم في بلادهم وأوطانهم العصبية الجنسية المباركة، والقومية المقدسة والوطنية المعبودة، وإن ما يدعونه عندهم في الغرب إباء للنفس، وشمما، وشرفا، ووطنية، وعزة قومية يعدونه في الشرق غلوا مكروها وإفراطا في حب الوطن ضارا ومقتا وشنآنا للأجنبي الغربي.

وجميع هذا يوضح أن العالم الإسلامي يجب عليه أن يتحد اتحادا دفاعيا عاما، مستمسك الأطراف، وثيق العرى؛ ليستطيع بذلك كله الذياد عن كيانه ووقاية نفسه من الفساد المطبق، وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى يجب عليه اكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على تفوقه وقدرته.»

2

صفحة غير معروفة