وقد كان يختلج في صدري معنى قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز «2»، لجمعه بين الكتاب والميزان والحديد على تنافر ظاهرها من المناسبة، وبعدها قبل الرؤية [4 ب] والاستنباط عن جواز المشاكلة والمجانسة، وسألت عنه عدة من أعيان العلماء المعروفين «3» بالتفسير، والمشهورين من بينهم بالتذكير، فلم أحصل منهم على جواب يزيح العلة، ويشفي الصدر وينقع الغلة «4»، حتى أعملت التفكر، وأنعمت «5» التدبر، فوجدت الكتاب قانون الشريعة «6»، ودستور الأحكام الدينية، يبين سبل المراشد، ويفصل جمل الفرائض، ويرتهن مصالح الأبدان والنفوس، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ورفض التباغي «7» والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، في اقتسام «8» الأرزاق المخرجة لهم بين رجع السماء وصدع الأرض، ليكون ما يصل منها إلى أهل الخطاب، بحسب الاستحقاق بالتكسب، دون التغلب والتوثب، واحتاجوا في استدامة حياتهم بأقواتهم مع النصفة المندوب إليها إلى استعمال آلة للعدل يقع بها التعامل، ويعم معها التساوي والتعادل، فألهمهم الله اتخاذ الآلة التي هي الميزان، فيما يأخذونه ويعطونه لئلا يتظالموا بمخالفته «1» فيتهالكوا به، إذ لم يكن ينتظم لهم عيش مع سوغ «2» ظلم البعض منهم للبعض «3».
ويدل على هذا المعنى قوله جل ذكره: والسماء رفعها ووضع الميزان [5 أ]. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان «4»، وذلك أنه تعالى جعل «5» السماء علة للأرزاق والأقوات، من أنواع الحبوب والنبات، فكان ما يخرج منها من أغذية العباد ومرافق حياتهم، مضطرا إلى أن يكون اقتسامه بينهم على الإنصاف، دون الجزاف «6»، ولم يكن يتم ذلك إلا بهذه الآية المذكورة، فنبه «7» الله على موضع «8» الفائدة فيه، والعائدة به، بتكرير ذكره ومعانيه «9»، فكان ما تقدم ذكره معنى الكتاب والميزان.
صفحة ٨