لكن كحركة فلسفية، في حدود ما كانت عليه، لعبت الوجودية بصورها المتنوعة دورا رئيسيا في الفلسفة الأوروبية على مدار أكثر من 50 عاما، وقد اندمجت الآن مع الحوار الفلسفي المستمر وتعبر فيه عن الهموم الأخلاقية الدائمة للوضع الإنساني. بعبارة أخرى: ما زالت تدافع عن الحرية الفردية والمسئولية والصدق، في خضم صور متنوعة من الجبرية والانصياع وخداع الذات واليوتوبيا التكنولوجية، وما شابهها من مصطلحات شديدة الانتشار في عصرنا. وهي عادة ما تفعل ذلك بأسلوب خيالي يوظف الفن والعبرة ليقدم بشكل ملموس مبادئ تجريدية كانت ستخاطر في ظل ظروف أخرى بأن تكون أمورا أكاديمية في غير محلها أو يكون الإعجاب بها من بعيد باعتبارها أمورا فكرية تثير الفضول. هذا هو نوع الفلسفة الملموسة الذي دفع سارتر إلى أن «يشحب من فرط الانفعال» - بحسب وصف دي بوفوار - عندما طرح عليهما صديقهما السابق ريموند آرون (1905-1983) احتمالية إعطاء وصف فينومينولوجي لكأس الكوكتيل أمامهما في مقهى باريسي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.
بالأمثلة، دعوني أناقش أربعة جوانب في الجدل الفلسفي الدائر حاليا، عبر عدة موضوعات مرشحة محتملة، قدم فيها الوجوديون بالفعل أو أوشكوا على تقديم إسهامات مهمة. على الرغم من أن إشارتي للموضوعات التالية ليست إلا على سبيل المثال ونادرا ما يكون شرحها كاملا، فإنها تدل على العلاقة المستمرة بين المؤلفين المذكورين في هذا الكتاب وبين معاصرينا الذين يسعون إلى توجيه حياتهم بأسلوب إنساني. فما قد يطلق عليه «المنهج» الوجودي يقدم الفلسفة كأسلوب حياة وليس كلعبة منزلية وحسب. فيما يلي سنرى كيف تشجع الوجودية على العودة إلى التجربة من «التحول اللغوي» للفلسفة الأنجلوأمريكية دون إسقاط الجوانب الإيجابية للمصطلح الثاني من الاعتبار، والدفاع عن الفعل الإنساني ضد سيطرة التحليلات البنيوية المجردة، وفي نفس الوقت احترام دور الهياكل البنيوية في علاقاتنا الاجتماعية، والاستفاضة في ثراء التفسير باعتباره أساسيا للوجود الإنساني بقدر ما هو مكمل للتفسيرات العشوائية في العلوم والحياة العادية، وكفلسفة للمسئولية التي تتوافق مع تجربتنا الأخلاقية الملموسة. (1) التجربة واللغة
غالبا ما نظر إلى «التحول اللغوي» في الفلسفة الأنجلوأمريكية بعيدا عن التجربة والأفكار وأنظمة الفكر، ونحو تحليل المفاهيم واللغة العادية، باعتباره النقلة التي فصلت الفلاسفة المعروفين ب «التحليليين» عن نظرائهم «الأوروبيين». في واقع الأمر، اتخذت الفلسفة الوجودية تحولها اللغوي الخاص، متأثرة من الجانب الفرنسي بكتابات عالم اللغويات السويسري فرديناند دي سوسور (1857-1913) التي نشرت بعد وفاته، أكثر من تأثرها بكتابات برتراند راسل (1872-1970) أو لودفيج فيتجينشتاين (1889-1951). أما من الجانب الألماني، فقد كانت هذه النقلة نحو اللغة أكثر وضوحا.
فلننظر بعين الاعتبار - مثلا - إلى الكتابات اللاحقة لهايدجر؛ فمع أنه لا يؤمن بعلم اللغة السوسوري، فقد تحدث عن اللغة باعتبارها بيت الكينونة؛ وبناء على ذلك وظف المجادلات المتعلقة ب «فقه اللغة» لفك شفرة استخداماتنا العادية والكشف عن الكينونة المتخفية فيها. كان هذا ما يفعله حتى في كتاباته «الوجودية» الأولى. تأمل تحليله لكلمة «الوجود» التي أرجعها إلى أصولها اللاتينية المكونة من شقين، وهما «البروز» و«خارجا»، بمعنى أننا يمكننا تفسير «الوجود» على أنه «البروز خارجا» من بين الزحام، من الحياة اليومية العادية، حتى من أنفسنا (حسب تفسير سارتر). تذكر ادعاء سارتر بأننا «نتجاوز» أنفسنا، في إشارة منه إلى وعينا الذي يتجاوز دائما الحاضر والواقعي إلى المستقبل والممكن. لقد رأينا أننا حين ننظر إلى الوجود من منطلق زمني، فإنه يدل على المستقبل باعتباره لم يحدث بعد وباعتباره ممكنا. في هذا التحليل، يلفت المصطلح انتباهنا إلى الأفق الزمني الذي يمكن في إطاره الآن فهم الكينونة السرمدية على نحو تقليدي. بدت بعض «التحليلات اللغوية» التي قام بها هايدجر للتعبيرات اليونانية الكلاسيكية متكلفة غالبا، ولم تتوافق مع التفسيرات الشائعة لفقهاء اللغة الكلاسيكيين، لكنها كانت منطقية في سياق محاولته استعادة الوعي الأصلي بالكينونة الذي - حسب فرضيته - تغافل المنهج الميتافيزيقي الغربي عنه وتجاهله. الهدف من ذكر هذا المنهج هو التأكيد على أن هايدجر نسب أهمية إلى اللغة فاقت أهمية فلاسفة اللغة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. ومع هذا فإنه لم يقصد أن يخلط بين البيت وسكانه مهما بدت وثاقة الصلة بينهم. ربما تكون اللغة هي بيت الكينونة وربما نكون حراسها، لكننا لسنا أسرى لها.
كان هذا هو الوضع أيضا في حالة ميرلوبونتي، خصوصا في مقاربته الفينومينولوجية الأولى للغة؛ فهو يرى اللغة كتعبير وكصورة من صور الإيماءات الأخرى، وهو ينسب إلى أجسادنا قصدية كان هوسرل قد خصصها للوعي. يتعقد مفهوم التجربة ليضم رؤى وجودنا الجسدي. وهو يصر على أن اللغة هي في حد ذاتها نوع من الوجود. لكن مع اكتشافه لعلم اللغة البنيوي الذي وضعه فرديناند دي سوسور في أواخر أربعينيات القرن العشرين، تغير فهمه للغة.
قبل دراسة هذا التغيير، دعونا نتوقف لنتأمل في عجالة طبيعة الفهم البنيوي للغة ولماذا يبدو مناقضا كثيرا للمنهج الوجودي. مثار المناقشة هو دور الفرد الحر المسئول، وهما السمتان المميزتان للفكر الوجودي. فباختصار، تعطيه البنيوية أهمية محدودة، أو لا تعطيه أهمية على الإطلاق. وكما يوحي الاسم، تعنى «البنيوية» اللغوية بدراسة الصورة أو الهيكل البنائي وليس محتوى اللغة. ومثل فني الأشعة السينية الواقف أمام جسم ما، يسعى البنيوي إلى الكشف عن التنظيم التحتي للغة بدلا من استعمالها الملموس «من لحم ودم». فهو يعتبر اللغة ترتيبا منظوما للإشارات التي تتيح التواصل وتقيده في نفس الوقت، تماما مثلما يسهل الهيكل العظمي حركتنا ويقيدها في نفس الوقت. لكن على عكس الهيكل العظمي في الأشعة السينية، تعمل الإشارات اللغوية بأسلوب «مختلف»، أي إن «معناها» يعتمد على اختلافها عن الإشارات الأخرى في نفس النظام أو اللغة. من منظور واقعي، لا يتعلم المرء كلمة، وإنما لغة. ودون الإشارة الضمنية إلى لغة طبيعية مثل الإنجليزية أو السواحلية، «فالكلمة» ليست حتى كلمة، بل مجرد صوت.
في نظر البنيويين، لا «تسمي» الإشارات اللغوية الأشياء كما يتوهم الناس عادة أن اللغة تفعل ذلك، لكنها على الأحرى تفرق بين أعضاء مجموعة من الإشارات. المحصلة هي أن المعنى - في نظر البنيوي - هو شأن لغوي محض وليس علاقة بين اللغة والعالم، كما يعتقد الفينومينولوجيون أو عموم الناس. وهذا يمكن المرء من التركيز على الهياكل البنيوية ورموز التواصل تركيزا علميا بدلا من الغرق وسط الالتباسات اليومية لأفعال التحدث الفردية الواعية. لكن هذا الدافع نحو التجريدي والعلمي يتجاهل الفرد الوجودي الذي يعطي المعنى. في حقيقة الأمر، يسقط البنيويون من اعتبارهم دور الوعي الذي يشكل جوهر الفلسفة الوجودية والمنهج الفينومينولوجي.
تحت تأثير علم اللغة البنيوي، يغير ميرلوبونتي فهمه السابق القائم على الوعي للغة باعتبارها تعبيرا لتصبح منهجا أكثر شكلية واختلافا يستخدمه البنيويون. فاللغة - حسبما يرى الآن - «هي نظام الاختلافات الذي يفهم الفرد من خلاله علاقته بالعالم». بعبارة أخرى: لم تعد تعبيرا عن المعاني المفهومة بالفطرة عن طريق الاختزال الاستحضاري، كما يؤكد هوسرل. بل هي بالأحرى ظاهرة لغوية محضة، مبنية على الاختلاف النسبي في الإشارات بعضها بين بعض في نظام أو «لغة» ما.
لكن يبقى ميرلوبونتي ملتزما كما ينبغي بالقيم الوجودية المتمثلة في حرية ومسئولية الفرد ليقاوم الاستسلام الكامل للادعاء البنيوي بأن اللغة «تتحدثنا» وليس العكس. ما يحفظ هذه القيم وسط القوى البنيوية هو تمييزه بين كون المرء «مجبرا» بسبب العوامل الاجتماعية الاقتصادية (وهو ما ينكره)، وكونه «محفزا» بنفس العوامل (وهو ما لديه استعداد لقبوله). مقصده مشابه لمقصد من يعرفون ب «منظرو الفعل» في الفلسفة الأنجلوأمريكية الذين يفرقون السلوك، الناجم عن سبب وليس حرا، عن الفعل الذي يبرر بأسباب ويكون الحديث فيه عن الحرية والمسئولية لائقا. مثل سارتر، نجد ميرلوبونتي حساسا للغاية تجاه البعد التاريخي الاجتماعي للمعاني الذي نفسر به حياتنا ونوجهها، في حين يميل المنهج البنيوي إلى إهمال الجانبين الوجودي والتاريخي لمصلحة الهياكل البنيوية غير التاريخية. وهو يطلق على هذه السمة اسم «تاريخية المعرفة». سيوافق سارتر لاحقا على أننا يجب أن نتعلم تركيب وتصنيف الظواهر بصورة أقل تزمتا. وميرلوبونتي يفسر بالفعل «المعاني» الفينومينولوجية في سياق تاريخي. إن لم يكن هذا الرأي استسلاما للنسبية التي تحاشاها هوسرل، فإنه يوحي بميل معين نحو البراجماتية والجانب التاريخي اللذين يحافظان على تفاعل الهيكل البنيوي والممارسة، واللغة والكلام، في ظل توتر إبداعي.
ما يغذي هذا التوتر هو ما يسميه ميرلوبونتي ب «الأعراف»:
صفحة غير معروفة