تمهيد
شكر وتقدير
1 - الفلسفة كأسلوب حياة
2 - التحول إلى الفردية
3 - الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
4 - الصدق
5 - فردية مكبوتة؟ الوجودية والفكر الاجتماعي
6 - الوجودية في القرن الحادي والعشرين
المراجع
قراءات إضافية
مسرد المصطلحات
تمهيد
شكر وتقدير
1 - الفلسفة كأسلوب حياة
2 - التحول إلى الفردية
3 - الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
4 - الصدق
5 - فردية مكبوتة؟ الوجودية والفكر الاجتماعي
6 - الوجودية في القرن الحادي والعشرين
المراجع
قراءات إضافية
مسرد المصطلحات
الوجودية
الوجودية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
توماس آر فلين
ترجمة
مروة عبد السلام
مراجعة
محمد فتحي خضر
إلى روز وبوب فلين، وبرادي وكولين وألانا
تمهيد
شاع ارتباط الوجودية بالمقاهي الباريسية في ليفت بانك و«عائلة» الفيلسوفين: جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، التي اجتمعت هناك في الأعوام التي أعقبت مباشرة تحرير باريس في نهاية الحرب العالمية الثانية. يتصور المرء مفكرين غير تقليديين وطليعيين، لا تفارقهم السجائر، يستمعون إلى موسيقى الجاز وهم يناقشون في حرارة تبعات حريتهم السياسية والفنية المكتسبة حديثا. يسودهم مزاج الحماس والإبداع وتحليل الذات القلق، والحرية ... دائما الحرية.
على الرغم من أن هذا يعكس الصورة التي تروج لها وسائل الإعلام اليوم ويجسد - بلا شك - روح العصر، فإنه يخفي الدلالة الفلسفية للفكر الوجودي، مصورا إياه كظاهرة ثقافية مرتبطة بفترة تاريخية معينة. ربما يكون هذا هو الثمن الذي يدفعه أسلوب فكري يميل إلى النظر إلى الفلسفة نظرة مادية بدلا من نظرة مجردة وخالدة. كانت رغبة الوجوديين في الارتباط بالعصر سببا في التزامهم الاجتماعي والسياسي، لكنها ربطتهم أيضا بمشكلات زمانهم، ودعت الأجيال اللاحقة إلى النظر إليهم كظاهرة عفى عليها الزمن.
هذا سوء تفسير للفكر الوجودي آمل أن أصححه في هذا الكتاب القصير. لو كانت الوجودية تحمل آثار ظهورها بعد الحرب، فإنها على الأقل - من حيث كونها أسلوبا للتفلسف والتعامل مع الموضوعات المهمة في حياة الناس - قديمة قدم الفلسفة نفسها، وهي معاصرة شأن الحالة الإنسانية التي تعكف على دراستها. ولكي أضمن منذ البداية عدم إغفال هذه النقطة، سأبدأ
الفصل الأول
بمناقشة علم الفلسفة، لا كمذهب أو نظام فكري وإنما كأسلوب حياة. وقد استوحيت عنوان
الفصل الأول
من دراسة الباحث الكلاسيكي بيير هادو عن عودة المذهب الرواقي كمثال يوضح كيف تستطيع الفلسفة «القديمة» أن تجعل لحياة الناس معنى حتى في أيامنا المعاصرة. ومع أن هادو يفضل فلسفة الإغريق والرومان، فإنه يجد اهتماما مشابها في كتابات سورين كيركجارد وفريدريك نيتشه، المعروفين ب «رائدي» الحركة الوجودية في القرن التاسع عشر، ولدى خلفائهما في القرن العشرين.
من المعروف عموما أن الوجودية فلسفة تدور حول الفرد بكيانه المادي الملموس. وهذه نقطة قوتها ونقطة ضعفها في الآن ذاته. ففي عصر وسائل الإعلام الجماهيرية والدمار الشامل، يحسب للوجودية دفاعها عن القيمة الأصيلة لمن يسميه مناصرها الرئيسي سارتر «الفرد الطبيعي الحر»، أي الفرد الفاعل المكون من لحم ودم. ونظرا إلى الانجذاب الذي يكاد لا يقاوم نحو الانصياع للعادات في مجتمعنا الحديث، فإن ما سنسميه «فردية وجودية» يعد إنجازا، لكن ليس دائما. فنحن نولد مخلوقات بيولوجية، لكننا يجب أن نصبح أفرادا وجوديين عن طريق تحمل مسئولية أفعالنا. هذا تطبيق لنصيحة نيتشه بأن «تتصرف على طبيعتك التي جبلت عليها». لا يعترف كثير من الناس بهذه المسئولية وإنما يتهربون من فرديتهم الوجودية إلى أمان الزحام المفتقر إلى الهوية. وكدرس عملي للتحول إلى الفردية، سأتناول في
الفصل الثاني
ما يسميه كيركجارد «دوائر» الوجود أو «خطوات على طريق الحياة»، وسأختم ببعض الملاحظات حول كيف كان نيتشه سينظر إلى مشروع التحول إلى الفردية الوجودية هذا.
بعد انتهاء الحرب بقليل، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» هزت الحياة الثقافية في باريس وكانت بمنزلة بيان رسمي بإطلاق الحركة الوجودية. منذ ذلك الحين، ارتبطت الوجودية بنوع معين من الفلسفة الإنسانية التي تولي الإنسان والقيم الإنسانية مكانة مرموقة، وارتبطت بانتقاد صور بديلة من الفلسفة الإنسانية المقبولة وقتذاك. في
الفصل الثالث
أناقش آثار هذه المحاضرة المعقدة، وهي الوحيدة التي ندم سارتر على نشرها، علاوة على «رد» معاصره مارتن هايدجر في مقاله الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية».
ومع أنه قد شاع أن القيمة الأسمى للفكر الوجودي هي الحرية، فإن فضيلته التي تحتل الصدارة هي الصدق. يخصص
الفصل الرابع
للحديث عن هذا الموضوع بالإضافة إلى طبيعة وصور خداع الذات، التي تمثل نقيضا له. وقد ربطت بين الصدق والفردية الوجودية، وفكرت في احتمالية وجود خلق صدق قائم على المسئولية الوجودية.
ولكي أواجه النقد، الذي انتشر عقب الحرب مباشرة، بأن الوجودية ليست إلا صورة أخرى من الفردية البرجوازية المجردة من الوعي الجمعي وغير المبالية بالحاجة إلى تناول المشكلات الأخلاقية للعصر، خصصت
الفصل الخامس
للحديث عن مشكلة «الفردية المكبوتة»، حسبما يحاول الوجوديون تصور التضامن الاجتماعي بأسلوب سيعزز حرية ومسئولية الفرد بدلا من أن يهددهما، وهو ما يبقى أمرا غير قابل للتفاوض.
أما في الفصل الأخير، فإنني أتناول الجوانب السابقة وغيرها التي يتسم بها الفكر الوجودي للتدبر في ارتباط الفلسفة الوجودية المستمر بعصرنا. من الضروري أن نفصل بين الدلالة الفلسفية للحركة ورؤاها القوية واهتمامها بالملموس، وبين الزخارف الجذابة والبالية في الوقت نفسه التي اتسمت بها في سنوات مراهقتها في ليفت بانك. ومن بين عدة موضوعات مرشحة محتملة اخترت أربعة موضوعات مهمة في عصرنا كان للوجوديين فيها إضافة فلسفية.
ثمة سمتان لهذا الكتاب المختصر قد يعتبرهما القارئ من أوجه القصور، حتى في مقدمة قصيرة، وهما: غياب عدد كبير من «الوجوديين» المعروفين، وعلى النقيض من ذلك، الحضور - المفرط أحيانا - لجان بول سارتر على مدار صفحات الكتاب. فيما يتعلق بالسمة الأولى، فعلى الرغم من أنه كان بمقدوري أن أذكر - على سبيل المثال - ديستويفسكي أو كافكا، أو جياكوميتي أو بيكاسو، أو يونسكو أو بيكيت، وكلهم نماذج قوية للموضوعات الوجودية في الفن، فقد انصب اهتمامي على التعامل مع الوجودية كحركة فلسفية ذات آثار فنية بدلا من اعتبارها (مجرد) حركة أدبية ذات ادعاءات فلسفية، وهو المفهوم الشائع مع خطئه. السبب وراء عدم مناقشتي بوبير أو بيرديف، أو أورتيجا إي جاسيت أو أونامونو، وغيرهم الكثير من الفلاسفة الذين يستحقون الذكر هنا، هو أن هذا الكتاب ما هو سوى مقدمة قصيرة «جدا». وسيجد المهتمون بقراءة المزيد عن الموضوعات التي نوقشت هنا اقتراحات بمصادر مفيدة في نهاية الكتاب.
أما فيما يخص الإكثار من ذكر سارتر، فهو وسيمون دي بوفوار الفيلسوفان الوحيدان في هذه المجموعة اللذان اعترفا بأنهما وجوديان. ونظرا لأن الوجودية حركة منتمية إلى القرن العشرين، فقد تركزت هذه الحركة بالتأكيد على أعماله. ولا يوجد من يمثل الاتحاد والتوتر بين الفلسفة والأدب، التصوري والخيالي، النقدي والملتزم، الفلسفة باعتبارها تأملا والفلسفة باعتبارها أسلوبا للحياة، وهي السمات المحددة للحالة الوجودية للتفلسف؛ أفضل من جان بول سارتر.
شكر وتقدير
ألف هذا الكتاب المختصر في ظل ظروف مثالية وفرها لي «مركز البحث الإنساني» بجامعة إيموري. وأوجه جزيل الشكر إلى «زمالة الأبحاث العليا» بالإضافة إلى مساندة تينا براونلي وستيف إيفريت وكيث أنطوني وإيمي إربيل وكوليت بارلو من المركز، والذين ساعدوني في إتمام تأليف الكتاب.
بالغ تقديري لتعليقات ديفيد كار وتوني جينسن وفانيسا رامبل وسيندي ويليت على أجزاء معينة من المخطوطة الأولية للكتاب. وإنني لأتحمل المسئولية الكاملة عن أي إغفال وسهو وأخطاء من المحتم أن تظهر في هذه الدراسة القصيرة البسيطة عن هذا الموضوع شديد الطول والتعقيد. وبالغ شكري أيضا لجون ميرسير على إسهامه.
وأخيرا، أود إهداء هذا العمل إلى أختي وزوجها وأسرتهما، الذين يبقى حبهم لي صادقا وإنسانيا. كم هو جميل ولطيف أن نبقى معا على وئام!
الفصل الأول
الفلسفة كأسلوب حياة
لو لم أعبر عن آرائي في العدالة بالكلمة، فإني أعبر عنها بالفعل.
سقراط إلى زينوفون
على الرغم من ادعاء الوجودية أنها مفهوم جديد غير مسبوق، فإنها تجسد تقليدا راسخا في تاريخ الفلسفة في الغرب، يعود على الأقل إلى زمن سقراط (469-399ق.م)؛ ألا وهو مزاولة الفلسفة باعتبارها «اعتناء بالنفس». فتركيز الوجودية ينصب على الأسلوب اللائق للتصرف لا على مجموعة مجردة من الحقائق النظرية؛ لذلك، يعترف الجنرال الأثيني لاشيز - في إحدى محاورات أفلاطون التي تحمل اسم لاشيز - أن ما يعجبه في سقراط ليس تعاليمه، وإنما التوافق بين تعاليمه وحياته الخاصة. ويحذر سقراط نفسه المحكمة الأثينية في محاكمة إعدامه من أنهم لن يجدوا بسهولة شخصا آخر مثله يعلمهم أن يعتنوا بأنفسهم أكثر من أي شيء آخر.
ازدهر هذا المفهوم عن الفلسفة وسط الرواقيين والأبيقوريين في العصر الهيليني؛ إذ انصب اهتمامهم بصورة أساسية على القضايا الأخلاقية وتبين الأسلوب المناسب لأن يعيش المرء به حياته. وكما قال أحد الباحثين القدماء: «كانت الفلسفة عند الإغريق تشكيلية في طبيعتها أكثر منها تثقيفية.» كان الفيلسوف أشبه بطبيب الروح الذي يصف السلوكيات والممارسات اللائقة التي تعزز الصحة والسعادة.
لا شك أن الفلسفة بوصفها سعيا وراء أبجديات الطبيعة البشرية والكون كانت منتشرة بين الإغريق القدماء، وكانت أحد مقومات الاعتناء بالنفس. وقد أدى هذا المنهج النظري إلى نهوض العلم، وهو الذي سيطر على تعليم الفلسفة في العصور الوسطى والحديثة. وفي واقع الأمر، يشيع اليوم اعتبار كلمة «نظرية» مرادفا لكلمة «فلسفة» عموما، كما في تعبيري «النظرية السياسية» و«النظرية الأدبية»، حتى إن تعبير «الفلسفة النظرية» يعد نوعا من التكرار غير الضروري.
في قلب هذا التمييز بين شكلي الفلسفة (ضمن أشياء أخرى) هناك استخدامان مختلفان لكلمة «حقيقة»، وهما: الاستخدام العلمي والاستخدام الأخلاقي. الأول معرفي ونظري بدرجة أكبر، والثاني أكثر تشكيلا للذات وعملي بدرجة أكبر، كما في «كن صادقا مع نفسك». وبينما لم يحدد الاستخدام الأول شروطا لنوع الشخص الذي يجب أن يتحول إليه المرء كي يعرف الحقيقة (في نظر فيلسوف القرن السابع عشر رينيه ديكارت، يستطيع الآثم أن يفهم معادلة رياضية تماما مثل القديس)، فإن النوع الثاني من الحقيقة اشترط على المرء كي يستطيع بلوغه ضبطا معينا للنفس؛ أي مجموعة من الممارسات تجاه الذات مثل: الاهتمام بالتغذية، والتحكم في القول، والتأمل المنتظم. كانت المسألة متعلقة بالتحول إلى نوع معين من الأشخاص، وفق أسلوب الحياة الخاص الذي جسده سقراط، وليس بالوصول إلى وضوح معين في الحجة أو الرؤية على النحو الذي اتبعه أرسطو. فعلى مدار تاريخ الفلسفة، همش الاعتناء بالنفس شيئا فشيئا واقتصر تدريجيا على مجالات التوجيه الروحي، والتكوين السياسي، والاستشارة النفسية. كانت هناك استثناءات مهمة لهذا الإقصاء للحقيقة «الأخلاقية» عن المجتمع الأكاديمي. وكتاب «اعترافات القديس أوجستين » (397 بعد الميلاد) وكتاب «خواطر» لبليز باسكال (1669) وكتابات الرومانسيين الألمان في مطلع القرن التاسع عشر؛ هي أمثلة لأعمال شجعت على هذا الفهم للفلسفة باعتبارها اعتناء بالنفس.
في إطار هذا المنهج الأوسع يمكن اعتبار الوجودية حركة فلسفية، ويمكن النظر إلى الوجوديين على أنهم هم من أحيوا هذا المفهوم ذا الصبغة الذاتية عن «الحقيقة»؛ الحقيقة التي نعيشها بمعزل عن الاستخدام العلمي والموضوعي للمصطلح، وكثيرا في تضاد معهما.
ليس غريبا أن تكون لدى كل من سورين كيركجارد (1813-1855) وفريدريك نيتشه (1844-1900) - «رائدي الوجودية» في القرن التاسع عشر - مواقف متضاربة تجاه فلسفة سقراط؛ فمن ناحية، كان ينظر إلى سقراط كمدافع عن نوع من العقلانية يتخطى القيم التقليدية والشخصية الخالصة إلى معايير أخلاقية عالمية، وهو ما أشاد به كيركجارد وانتقده نيتشه. لكن كليهما احترم «قفزته» الفريدة عبر فجوة العقلانية بين أدلة الخلود الشخصي واختياره قبول حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة الأثينية. (حوكم سقراط وأدين بتهمتي الإلحاد وإفساد عقول الشباب بتعاليمه). بعبارة أخرى: أدرك كلا الفيلسوفين أن الحياة لا تتبع التدفق المتواصل للحجة المنطقية، وأن المرء عليه غالبا أن يخاطر بتجاوز حدود المعقول كي يعيش الحياة بكل معانيها. وكما علق كيركجارد، قدم الكثيرون أدلة على خلود الروح، لكن سقراط - بعد افتراضه أن الروح «قد» تكون خالدة - خاطر بحياته وفي ذهنه هذا الاحتمال. لقد شرب السم كما أمرته المحكمة الأثينية، وهو يتحدث طوال الوقت مع أتباعه عن احتمال أن حياة أخرى «قد» تكون في انتظاره. اعتبر كيركجارد هذا مثالا على «الحقيقة الذاتية». وكان يقصد بهذا القناعة الشخصية التي يكون الشخص مستعدا للتضحية بحياته من أجلها. وفي كتابه «اليوميات»، كتب متأملا: «المسألة هي إيجاد حقيقة صحيحة في نظري، إيجاد الفكرة التي يمكنني أن أعيش وأموت من أجلها» (1 أغسطس 1835). (1) الوضوح ليس كافيا
كتب جاليليو يقول: إن كتاب الطبيعة كتب برموز رياضية. وبدا أن التطورات اللاحقة في العلم الحديث تؤكد هذا الادعاء؛ فقد بدا أن ما هو قابل للوزن والقياس (تحديد كميته) يستطيع أن يمدنا بمعرفة موثوق بها، في حين أن ما لا يقبل القياس يترك لعالم الآراء المجردة. مجدت الفلسفة الوضعية هذا الرأي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين؛ إذ أصرت العقلية الوضعية على أن ما هو «موضوعي» مرادف لما هو قابل للقياس وما هو «مجرد من القيم». كان هدفها هو استخلاص الذات من التجربة للوصول إلى «رأي لا مرجع له» يتسم بالموضوعية الخالصة. أدى هذا إلى عدد من الاكتشافات المهمة، لكن سرعان ما اتضح أن مثل هذا المنهج غير متسق؛ فقصر ما يمكن معرفته على ما يمكن قياسه كان في حد ذاته قيمة لا يمكن قياسها. بمعنى أن اختيار هذا الإجراء كان في حد ذاته «قفزة» نوعية؛ أي يستتبع الإيمان بمجموعة من القيم التي لم تكن في حد ذاتها قابلة للقياس.
علاوة على هذا، فإن استثناء ما لا يقبل القياس مما يعد معرفة ترك بعضا من أهم أسئلتنا ليس بلا إجابة فقط، لكن أيضا غير قابل للإجابة. فهل قيمنا وقواعدنا الأخلاقية ليست سوى تعبير عن تفضيلاتنا الشخصية؟ إذا أعدنا صياغة ما قاله عالم الرياضيات والفيلسوف برتراند راسل، وهو أبعد ما يكون عن الوجودية: هل يمكن أن يصدق أحد حقا أن الاشمئزاز الذي ينتابه عندما يشهد القسوة غير المبررة هو ببساطة تعبير عن حقيقة أن ذلك تصادف أنه لا يروق له وحسب؟ كان هذا هو مذهب «الانفعاليين» في النظرية الأخلاقية، التي أحيانا يطلق عليها «النظرية الانفعالية للأحكام الأخلاقية». لقد دفعوا إلى هذا الاتجاه بسبب قبولهم لقصر الوضعيين للمعرفة على ما يمكن قياسه. لكن هل نحن حقا مؤهلون لنوع المعرفة الخالصة التي يطلبها الوضعيون من العلم؟ ربما يمكن إعادة تقديم الفرد المدرك إلى هذه المناقشات دون المخاطرة بموضوعيته. لكن سيعتمد الكثير على مراجعتنا لتعريفنا للموضوعية، وكذلك على اكتشاف استخدامات أخرى لكلمة «حقيقي» إلى جانب «قبول الوضعيين بالتجربة الشعورية». وقد استجاب الوجوديون ضمن آخرين لهذا التحدي.
يضرب جان بول سارتر (1905-1980) مثالا لهذه الاستجابة عندما يقول: إن النظرية الوحيدة التي تصلح اليوم عن المعرفة هي تلك التي تقوم على هذه الحقيقة الفيزيائية الميكروسكوبية القائلة : المجرب جزء من المنظومة التجريبية. ما كان يدور في عقله هو ما يطلق عليه «مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج» في الفيزياء الذرية الذي ينص - في تفسيره المعروف على الأقل - على أن الأدوات التي تمكننا من رصد مقدار زخم إلكترون مداري وموضعه تتدخل في عملية الرصد بحيث يمكننا أن نحدد إحدى السمتين فقط، لا كلتيهما في آن واحد. بالمثل، قد يعترض المرء على أن الفعل المجرد المتمثل في التدخل في حياة قبيلة «بدائية» يمنع الباحث في علم الأعراق من دراسة هؤلاء القوم بحالتهم الفطرية. أدت مثل هذه الاعتبارات إلى تقويض مفهوم الوضعيين عن المعرفة بوصفها قابلية القياس. لكنها حجبت أيضا رأي العقلانيين عن الواقع باعتباره خاضعا على سبيل الحصر لمنطق «إما/أو» دون مساحة للتفاوض. مثال آخر على هذا الأمر هو الضوء، الذي يتسم بصفات تشير إلى أنه موجة وأخرى تشير إلى أنه جسيم، ومع هذا يبدو أن هاتين السمتين تنفي إحداهما الأخرى، وهو ما يجعل السؤال: «هل الضوء موجة أو جسيم؟» غير قابل للإجابة وفق منطق «إما/أو» التقليدي؛ إذ يبدو الضوء كلا الشيئين، وفي الوقت نفسه ليس أيهما على وجه حصري. هنا نحتاج نوعا آخر من المنطق لفهم هذه الظاهرة. وقد ظهرت أمثلة عديدة أخرى من مجالي الفيزياء والرياضيات في مطلع القرن العشرين تناقض ادعاءات الوضعيين والعقلانيين عن المعرفة والعالم. (2) التجربة المعاشة
دخل الوجوديون في هذا العالم ذي الملاحظات والتقييمات المحدودة والنسبية بدافع «شخصنة» أكثر الظواهر موضوعية في حياتنا. ماذا - على سبيل المثال - يمكن أن يكون أكثر موضوعية وحيادية من الزمان والمكان؟ حتى وجهة النظر المنقحة عن الزمكان التي تقدمها لنا نظرية النسبية تعتمد على مرجع مطلق أو ثابت؛ ألا وهو سرعة الضوء. فنحن نقيس الزمن بالدقائق والثواني، ونقيس المكان بالياردات والأمتار. يبدو هذا أيضا كميا؛ ومن ثم موضوعيا في عرف الوضعيين. ومع هذا يضيف المفهوم الذي يطلق عليه الوجوديون اسم الوقتية «الوجدانية» بعدا كيفيا وذاتيا لظاهرة الوعي بالزمن. في نظر الفيلسوف الوجودي، فإن قيمة ومعنى كل بعد وقتي من الزمن المعاش مرتبطان بمواقفنا واختياراتنا. بعض الناس - مثلا - مضغوطون دوما للوفاء بالتزاماتهم، في حين هناك أناس آخرون لا يجدون ما يشغل وقتهم. يجري الوقت بسرعة حين تكون مستمتعا، لكنه يمر ببطء عندما تكون متألما. وحتى النصيحة الكمية بحسن استثمار أوقاتنا، من وجهة النظر الوجودية، هي توصية لمراجعة وتقييم قرارات الحياة التي تشكل أولوياتنا الوقتية في المقام الأول. لو أن «الوقت هو الجوهر»، ويصر الوجوديون على أنه كذلك، فجزء من كينونتنا إذن هو الأسلوب الذي نعيش به وجودنا «الحالي» و«المستقبلي»، والذي تشكله الكيفية التي نتعامل بها مع انخراطنا في الحياة اليومية.
غالبا ما يعبر الفيلسوف الوجودي تعبيرا دراميا عن هذا «الزمن المعاش». هكذا يصف ألبير كامو (1913-1960) في حكايته الرمزية عن الاحتلال النازي لباريس - بعنوان «الطاعون» - المواطنين في مدينة موبوءة بالطاعون وخاضعة للحجر الصحي، فيقول: «عدائيون مع الماضي، ونافدو الصبر مع الحاضر، ومخدوعون في المستقبل، كنا مثل من أجبرتهم عدالة البشر، أو كراهيتهم، على العيش خلف قضبان السجن.» إن مفهوم الاحتجاز وكأنه «قضاء عقوبة في السجن» هو مفهوم وجودي بصورة واضحة. وسارتر - في تحليل ثاقب للوعي الانفعالي - يتحدث عن شخص «يقفز من أجل السعادة» كأسلوب لاستخدام تغيراته الجسمانية في استحضار احتمال إحداث موقف مرغوب فيه «فجأة»، وكأنما بفعل السحر، دون الاضطرار إلى انتظار التكشف الزمني اللازم. ومع أن سارتر ذكر هذه الفرضية في ثلاثينيات القرن العشرين، فالمرء يتذكر فورا صورة هتلر وهو «يختال فرحا» أسفل قوس النصر خلال الاحتلال الألماني لباريس. للوقت لزوجته الخاصة، كما قال ميشيل فوكو. والوقتية الوجدانية تجسد تدفقه.
لكن المكان الوجودي مشخصن أيضا. يستشهد سارتر بالمفهوم الذي وضعه عالم النفس الاجتماعي كيرت لوين عن الحيز «النفسي» (المكان المعاش) كمرادف كيفي للزمن المعاش خلال وجودنا اليومي. تحكي القصة عن شخصين: أحدهما يفضل أن يقترب أكثر ما يمكن وجها لوجه في محادثته، والآخر يفضل الابتعاد والانعزال، فيستحثان وينفر أحدهما من الآخر في الغرفة في حفل كوكتيل عند محاولة إجراء حوار. المكان المعاش مفهوم شخصي؛ هو الطريق المعتاد الذي أسلكه إلى عملي، أو تجهيزات الجلوس التي تفرض نفسها بسرعة في الفصل الدراسي، أو ترتيب الأدوات على مكتبي؛ هو ما يسميه علماء النفس «منطقة راحتي». هذا أيضا مرتبط بمشروع حياتي. وتعتمد كيفية تعاملي مع «الأماكن» التي تهمني على كيفية اختياري تنظيم حياتي.
هناك بالطبع اعتبارات نفسية، لكن من السمات المحددة للفكر والمنهج الوجودي أن هذه الاعتبارات تحمل دلالة وجودية كذلك؛ فهي تعبر عن طرائقنا في الوجود وتفتح بابا لمعنى واتجاه حياتنا. وكما سنرى لاحقا، مع أن العديد من الفلاسفة مالوا إلى انتقاص أو حتى انتقاد الدلالة الفلسفية لمشاعرنا وأحاسيسنا، فقد رفع الوجوديون من شأن مشاعر مثل «القلق» (الذي وصفه كيركجارد بأنه وعينا بحريتنا) وأحاسيس مثل «الغثيان» (الذي وصفه سارتر بأنه تجربتنا مع صدفة الوجود و«ظاهرة الكينونة»). يضعهم هذا فورا في حوار محتمل مع الفنانين المبدعين الذين يتاجرون بحياتينا العاطفية والخيالية. في واقع الأمر، لطالما كانت العلاقة بين الوجودية والفنون الجميلة قوية، حتى إن نقادها غالبا ما كانوا يرفضون الاعتراف بها كحركة أدبية وحسب. وبطبيعة الحال، فإن ما يثبت هذا الارتباط هو الطبيعة الدرامية للفكر الوجودي، علاوة على احترامه للقوة الكاشفة للوعي الشعوري واستخدامه «التواصل غير المباشر»، الذي سنتحدث عنه بعد قليل. لكن القضايا التي يتناولها الوجوديون، والاختلافات الدقيقة التي يحددونها، وتوصيفاتهم المتزمتة، وفوق كل هذا، حوارهم الصريح مع أبناء المذاهب الفلسفية الأخرى يجعل الوجودية بشكل واضح حركة فلسفية في المقام الأول، حتى وهم يشددون على غموض الحد الفاصل بين الخيالي والمجازي، وبين الفلسفي والأدبي. (3) «حقيقة تستحق الموت من أجلها»
لو أمكن شخصنة المكان والزمان الموضوعيين وإخضاعهما لاختيارنا ومسئوليتنا، كذلك سيكون الأمر مع مفهوم الحقيقة «الموضوعية». فكما هو مذكور في البداية، فرق كيركجارد بين «الموضوعي» و«الشخصي» في التفكير والحقيقة. وقد أخذ بعين الاعتبار الاستخدامات العلمية الشائعة للتفكير الموضوعي التي وصفها كالتالي:
يجعل أسلوب التفكير الموضوعي الذات عرضية؛ وبالتالي يحول الوجود إلى شيء محايد، شيء متلاش. وبعيدا عن الذات يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى الحقيقة الموضوعية، وفي الوقت الذي تصبح فيه الذات وذاتيتها محايدتين، تصبح الحقيقة أيضا محايدة، وهذه الحيادية هي بالضبط ما يمنحها صلاحيتها الموضوعية؛ لأن كل منفعة - مثل كل قرار - متجذرة في الذاتية. يؤدي أسلوب التفكير الموضوعي إلى التفكير التجريدي، إلى الرياضيات، إلى المعرفة التاريخية بمختلف الأمور، ودائما ما يبتعد عن الذات التي يصبح وجودها أو عدم وجودها، بحق، حياديا إلى ما لا نهاية.
موضوعات الوجودية الخمسة
هناك خمسة موضوعات أساسية ينظر الفلاسفة الوجوديون إلى كل منها بأسلوبه الخاص. وبدلا من حصر «الوجودية» في تعريف ضيق، يمكن تبينها من خلال التشابه (تداخل الموضوعات وتلاقيها) بين هؤلاء الفلاسفة. (1) الوجود يسبق الجوهر:
ما أنت عليه (جوهرك) هو نتاج اختياراتك (وجودك) وليس العكس. الجوهر ليس المصير؛ فأنت من تختار لنفسك ما تكون عليه. (2) الوقت هو الجوهر:
نحن أساسا كائنات مرتبطة بالزمن. وعلى عكس زمن الساعة القابل للقياس، فإن الوقت المعاش كيفي؛ فمصطلحات زمنية مثل «ليس بعد» و«بالفعل» و«الحاضر» تختلف فيما بينها في المعنى والقيمة. (3) الإنسانية:
الوجودية فلسفة تركز على الإنسان. وعلى الرغم من أنها لا تعارض العلم، ينصب تركيزها على بحث الذات الإنسانية عن الهوية والمعنى وسط الضغوط الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الكبير الساعية لفرض السطحية والامتثال للتقاليد. (4) الحرية والمسئولية:
الوجودية فلسفة تدور حول الحرية، وقوامها يتمحور حول حقيقة أننا نستطيع الانفصال عن حياتنا لوهلة وتأمل ما كنا نفعله فيها. بهذا المعنى فإننا دائما «أكثر» من أنفسنا. لكننا مسئولون مثلما نحن أحرار. (5) الاعتبارات الأخلاقية هي الأهم:
مع أن كل فيلسوف وجودي يفهم الأخلاق - مثل الحرية - من منظوره الخاص، فالاهتمام الأساسي ينصب على تحفيزنا على تأمل جودة حياتنا الشخصية ومجتمعنا.
الوجوديون ليسوا لاعقلانيين بحيث ينكرون صلاحية الجدال المنطقي والتفكير العلمي، لكنهم ببساطة يشككون في قدرة مثل هذا التفكير على التغلغل إلى المعتقدات الشخصية الراسخة التي توجه حياتنا. يقول كيركجارد عن العقلانية الجدلية لهيجل: «محاولة أن تعيش حياتك بهذه الفلسفة التجريدية تشبه محاولتك إيجاد طريقك داخل دولة الدانمارك بخريطة تظهر فيها هذه الدولة بحجم رأس الدبوس.»
على عكس التفكير الموضوعي الذي يتجاهل الوجود الفردي ، يتحدث كيركجارد عن التفكير الشخصي وما يرافقه من حقيقة بوصفه الذاتية:
عندما تصبح الذاتية هي الحقيقة، يجب أن يضم تعريف الذاتية تعبيرا عن معارضة الموضوعية؛ رسالة تذكير بمفترق الطرق، ويجب أن يعكس هذا التعبير أيضا التوتر الداخلي [علاقة الذات بنفسها]. إليك مثل هذا التعريف للحقيقة: الحقيقة هي عدم اليقين الموضوعي الصامد في مواجهة أي عملية استيلاء على الجوهر الأكثر انفعالا، وهي أسمى حقيقة متاحة لشخص موجود.
إنها أيضا مسألة تغيير للاتجاه الذي يسلكه المرء في حياته، هي «مفترق الطرق». هذا ما يجعل خيار التفكير الذاتي خيارا وجوديا. لو كانت المسألة ادعاء موضوعيا عن إحدى حقائق أو قوانين الطبيعة، لكنا تعاملنا في هذه الحالة مع «اليقين الموضوعي» ولن يكون للوجود الشخصي أهمية. سيكون المرء ببساطة متبعا لجميع الاتجاهات. كانت هذه ستصبح حال سقراط لو كان إيمانه بخلود الذات مجرد نتيجة منطقية توصل إليها. لكن «الحقيقة» هنا ذات طبيعة «أخلاقية». وكما يقول كيركجارد، هي مسألة «استيلاء» (تملك) لا «اقتراب» من حالة موضوعية، بنفس الأسلوب الذي يزن به الإنسان احتمالات نتيجة معقولة أو يقرأ لافتات المسافات بطول الطريق إلى وجهة معينة. وكما يشير في مكان آخر، فلكي تكون الحقيقة ذاتية، يكون التركيز على «كيفية» ممارستنا لمعتقداتنا وليس على «ما» تكونه هذه المعتقدات. دفع هذا البعض إلى إساءة فهمه؛ فحسبوا أنه يدعي أنه لا يهم ما تؤمن به ما دمت مقتنعا به. لكن مع أن كيركجارد نادرا ما كان يدافع عن النسبية الدينية، لكونه مسيحيا ملتزما، فإنه كان مهتما بمقاومة الإيمان الديني الفاتر أو الاسمي أكثر من اهتمامه بالدفاع عن المسيحية.
لو ترجم المرء إحدى الحقائق الوجودية العلمانية إلى لغة فلسفة معنى الحياة، فستشير إلى أنه لا وجود لطريق صحيح «موضوعي» يمكن اختياره. بدلا من ذلك، في نظر الوجودي، بعد أن تتضح له الخيارات والنتائج المحتملة، فإنه «يتخذ» الخيار الصحيح بتنفيذها. في نظر الوجودي، هذه الحقيقة هي مسألة قرار لا اكتشاف. لكن، بالطبع، لا يتخذ المرء هذه الخيارات جزافا أو دون معايير (بعكس المغالطة الشائعة). لكن طبيعة الاختيار نفسها تكون «مؤسسة» للمعايير وليست خالية من المعايير، مثلما اعترض البعض. ما يتحدث عنه كيركجارد يعبر عما يمكن أن يسميه المرء بتجربة «تحول»، حيث لا يكون الانتقال الحاسم فكريا محضا بل مسألة إرادة وإحساس (ما يسميه كيركجارد ب «العاطفة») أيضا. هذه هي طبيعة ما يسمى ب «القفزة الإيمانية العمياء» التي تلقي بالمرء إلى المحيط الديني للوجود، كما سنرى في الفصل القادم. لكنها تنطبق أيضا على «تحولات» أخرى جوهرية في حياة المرء، بدءا من التغير الأساسي في معتقداته السياسية وصولا إلى الوقوع في الحب.
شكل 1-1: سقراط يتحدث عن خلود الذات قبيل تجرعه السم بأمر المحكمة.
1
ليس هذا إلا جانبا واحدا من الجوانب الكثيرة التي تتداخل فيها الفلسفة الوجودية والبراجماتية و«التحليلية». يقدم عالم النفس الأمريكي العظيم والفيلسوف البراجماتي ويليام جيمس - مثلا - ادعاء مماثلا في كتابه «إرادة الإيمان» عندما لاحظ أن طبيعتنا العاطفية لا تجعلنا نتخذ خيارا بعينه من الخيارات المطروحة فقط، وإنما تلزمنا بذلك، وهذا وقتما يكون الخيار حقيقيا لا يمكن بالطبيعة حسمه بناء على الأسس العقلية. لكن بعضا من هذه الخيارات هي، كما أطلق عليها عالم الأخلاق البريطاني آر إم هير، «قرارات المبدأ». لا تقوم مثل هذه القرارات في حد ذاتها على المبادئ؛ لأنها هي التي تؤسس المبادئ التي بناء عليها سنتخذ خياراتنا اللاحقة في الحياة. تشبه هذه المبادئ «قواعد اللعبة» التي يختارها المرء عندما يقرر المشاركة في اللعبة لكنها لا تطبق قبلها. فأنت لا تلتزم بهذه القواعد قبل أن تقرر أن تلعب اللعبة، ويعني قرارك باللعب التقيد بهذه القواعد تحديدا. هذه هي نوعية الخيارات التي سميتها بالخيارات «المؤسسة للمعايير». وكما سنرى، هذا مشابه لما يسميه سارتر «الخيار الأساسي» أو المبدئي الذي يعطي الوحدة والاتجاه لحياة المرء. ونحن نكتشفه بواسطة تأمل اتجاه حياتنا وصولا إلى الوقت الحاضر. إنه «خيار»، حسب زعم سارتر، نكتشف أننا اتخذناه ضمنيا بالفعل طوال الوقت. (4) فلسفة وأدب ملتزمان
كانت «الحقيقة» الذاتية التي تحدث عنها كيركجارد بشيرا بما سماه سارتر «الالتزام» في القرن التالي. وكأن سارتر يريد الانتقاص من أهمية مفهوم الحقيقة الموضوعية، أو على الأقل تأييد معنى جديد «للموضوعية» في ضوء العلوم الحديثة، فيعلق قائلا: «توجد فقط معرفة ملتزمة.» على الجانب الآخر، فإنه يؤيد أيضا النظرة «الموضوعية» الكلاسيكية للمعرفة والحقيقة التي يقترحها إدموند هوسرل (1859-1938) وأسلوبه الوصفي للظواهر (انظر لاحقا). إحدى الطرق للتوفيق بين هاتين النظرتين الادعاء مع كيركجارد بأن كلا من النظرتين تشير إلى استخدام مختلف لمصطلح «الحقيقة». في حالة سارتر، قد تكون مسألة دمج الأوصاف الظاهرية (الفينومينولوجية) في مفهوم أكثر براجماتية وجدلية للحقيقة؛ بمعنى التوفيق بين المزاعم المتباينة في وجهة نظر أسمى. سيتوافق هذا أكثر مع ظاهرة تفسيرية أو تأويلية كتلك التي طرحها مارتن هايدجر (1889-1976) في نهاية عشرينيات القرن العشرين (انظر
الفصل السادس ). أصر نيتشه على أن جميع المعارف تأويلية وأنه لا وجود لنص «أصلي» غير قابل للتأويل. بعبارة أخرى: ما يعتبر معرفة كان تأويلا «في أساسه». وعليه، فسواء كنت تتفق كلية مع نيتشه أو جزئيا مع كيركجارد، فإن الحقيقة أيضا قد «شخصنها» الوجوديون. وهكذا لم يعد تعبير «حقيقتي» تعبيرا يناقض نفسه.
في مجموعة مقالات شهيرة بعنوان «ما الأدب؟» نشرت عام 1948، وضع سارتر مفهوم «الأدب الملتزم». اعتمدت فكرته الأساسية على أن الكتابة هي شكل من أشكال الفعل التي يجب أن نتحمل عنها المسئولية، لكن هذه المسئولية تتعلق بمضمون الفعل لا بشكله فقط. لقد أمدت تجربة الحرب العالمية الثانية سارتر بحس المسئولية الاجتماعية التي - حسبما يزعم - كانت مفقودة أو على الأقل غير متقنة الصياغة في رائعته «الوجود والعدم» (1943). في واقع الأمر، طالما لاقى الوجوديون انتقادا عاما بسبب ذاتيتهم المفرطة وافتقارهم الواضح للضمير الاجتماعي. أما سارتر - الذي ميز نفسه بالفعل بعدد من المسرحيات التي لاقت قبولا جماهيريا وبروايته المثيرة للإعجاب «الغثيان» - فيتناول الآن المسئولية الأخلاقية لكاتب النثر. وهو يعترف قائلا: «على الرغم من أن الأدب شيء والأخلاق شيء آخر، فإننا في قلب الضرورة الفنية نجد الضرورة الأخلاقية.» وتحديدا الثقة في حرية كلا الطرفين. يعتبر مفهوم العلاقة بين الفنان والجمهور القائمة على «جاذبية الموهبة » مفهوما محوريا في جماليات سارتر، وسيفيد قريبا كنموذج للعلاقات الاجتماعية المتوطدة بصفة عامة؛ تلك العلاقات التي لا تعامل البشر كجمادات أو أدوات، لكن كقيم في حد ذاتهم. إن ما قد يتبدى على أنه حالة احترام شكلية من طرف إحدى الحريات لأخرى يقضي بوجود شخصية حقيقية، وعن هذا يقول سارتر:
إن وجهة النظر الفريدة التي يستطيع المؤلف أن يعرض العالم بها لتلك الحريات التي يتمنى أن يحقق الانسجام بينها هي عن عالم مخصب دائما بالمزيد من الحرية. لن يكون معقولا استخدام هذا التعبير عن الكرم الذي يستثيره الكاتب في فرض الظلم، وأن يستمتع القارئ بحريته وهو يقرأ عملا يوافق على استعباد إنسان لإنسان، أو يقبله، أو ببساطة «يمتنع عن إدانته».
بعبارة أخرى كما سنرى: تنمي الوجودية ضميرا اجتماعيا، إلى جانب الإيمان بأن الفنون الجميلة - أو الأدب على الأقل - يجب أن تكون ملتزمة اجتماعيا وسياسيا.
في هذا المقال المبتكر، المكتوب في السنوات التالية مباشرة للحرب العالمية، وفي تعليق سيندم سارتر عليه بعد ذلك، نجده يميز بين الشعر والنثر. يدل الشعر، وفق هذا التمييز، على أية صورة غير أدواتية للغة، أو أي شكل فني مثل الموسيقى والفنون التشكيلية والبصرية. تسعى مثل هذه الأشكال بصفة أساسية وراء الفن من أجل الفن؛ وبالتالي تكون عاجزة عن الالتزام بالتغيير المجتمعي خشية انتهاك طبيعتها الفنية. أما النثر - من ناحية أخرى - فبما أنه أدواتي بطبيعته، فإنه يستطيع ويجب، في أيامنا، أن يكون ملتزما برعاية الحرية الفردية والجمعية عن طريق الموضوع الذي يتناوله وأسلوب تناوله. ومع أن سارتر سيعدل لاحقا هذا الفرق في مقال عن الطابع الثوري في الشعر الفرانكفوني للأفارقة، فتبقى فرضيته العامة بأن الأدب، على الأقل في موقفنا الحالي الذي يرى فيه قمعا اجتماعيا واستغلالا اقتصاديا، يجب أن يلتزم بطابعه التسكيني. وكما كتب، فإن مجرد العجز عن إدانة هذه الممارسات غير كاف. المعارضة القوية مطلوبة. وسوف نستكمل الحديث عن موضوع المسئولية الاجتماعية لدى عدد من الكتاب الوجوديين في
الفصل الخامس . لكن الآن يكفينا أن نذكر طابع «الالتزام » الاجتماعي والسياسي للأعمال الفنية التي أنتجها العديد من هؤلاء الكتاب.
شكل 1-2: سارتر يخطب في إحدى مظاهرات الطلاب في عام 1968.
2
جان بول سارتر (1905-1980)
ولد في باريس، وقد يكون أشهر فلاسفة القرن العشرين. جاب العالم كثيرا، عادة مع رفيقة حياته سيمون دي بوفوار. أصبح اسمه مرادفا للحركة الوجودية. كتب العديد من المسرحيات والروايات والأعمال الفلسفية، لعل أشهرها مقال «الوجود والعدم» (1943). فاز بجائزة نوبل في الأدب، لكنه رفض هذا التكريم. كان شديد الالتزام تجاه اليسارية معظم حياته العامة. وعندما مات، نزل الآلاف من معجبيه إلى الشوارع بصورة عفوية للانضمام إلى موكبه الجنائزي. ووقتها جاء عنوان إحدى المطبوعات: «فقدت فرنسا ضميرها». (5) الوجودية والفنون الجميلة: التواصل غير المباشر
لطالما كانت الوجودية وثيقة الصلة بالفنون الجميلة بسبب نظرتها الدرامية إلى الوجود، واستخدامها الواسع للصور القوية في نقاشاتها، ومناشدتها الاستجابة الشخصية في تواصلاتها. في واقع الأمر، عرض على كل من كامو وسارتر جائزة نوبل في الأدب (لكن سارتر رفضها). وكان كيركجارد شاعرا يستخدم الأسماء المستعارة والحكايات الرمزية وصورا أخرى من «التواصل غير المباشر» ليحفز ارتباطنا الشخصي بالموضوع المطروح. وكان نيتشه أحد كتاب النثر العظماء في اللغة الألمانية وحكايته الرمزية عن النبي التقي في «هكذا تحدث زرادشت»، مثل رواية سارتر «الغثيان»، هي نموذج للدراما الفلسفية. وكذلك كانت روايات سيمون دي بوفوار (1908-1986) تعبيرا عن آرائها الفلسفية. وكتب جابرييل مارسيل (1889-1973) الفلسفة بأسلوب تأملي وصفه ذات مرة بأنه تبدى على أوضح ما يكون في مسرحياته الثلاثين المنشورة. من بين الفلاسفة الذين نناقشهم، ربما لا ينطبق هذا التصنيف بالدرجة عينها من الدقة على هايدجر وكارل ياسبرز (1883-1969) وموريس ميرلوبونتي (1908-1961). ومع هذا، باستثناء ياسبرز، كتب الآخران دراسات مهمة في علم الجمال، واستعان ثلاثتهم بالمنهج الفينومينولوجي الذي يعطي قيمة للنقاش بالأمثلة. أصر كل منهم على أن الفنان - خصوصا الشاعر في حالة هايدجر، والفنان التشكيلي في حالة ميرلوبونتي - يتوقع وغالبا ما يعبر كما ينبغي عما يحاول الفيلسوف تصوره. قوي هو تأثير الأفكار الوجودية في الفنون الجميلة إلى حد أن البعض - كما رأينا - يفضل أن يصف الوجودية بأنها حركة أدبية. لا شك أن مؤلفين مثل دوستويفسكي وكافكا، وكتاب مسرحيين مثل بيكيت ويونسكو، وفنانين مثل جياكوميتي وبيكاسو يجسدون العديد من السمات المميزة للفكر الوجودي.
يجد مفهوم الالتزام تجاه الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي الذي يميز كل هؤلاء الكتاب أنسب تعبير له فيما أطلق عليه استخدامهم «التواصل غير المباشر» لنقل أفكارهم. يعكس المصطلح خطوة بلاغية تخفي هوية الفيلسوف الأدبية كي يستدعي توحد القارئ مع شخصيات العمل الأدبي عن طريق تعطيل حالة عدم التصديق لديه. هكذا استطاع كيركجارد أن يكتب تحت أسماء مستعارة مختلفة لمؤلفين وهميين، كل منهم يشير إلى وجهة نظر معينة مرتبطة بهذه الشخصية وليس بالفيلسوف نفسه تحديدا. كما تمكن نيتشه من تأليف محاكاة ساخرة عن نبوءة مكتوبة رغم تقليله من شأن الإيمان الديني في «هكذا تحدث زرادشت». وحتى أقواله المأثورة، مع أنها تحمل اسمه، تحمل قوة بلاغية صادمة، بصرف النظر عن هواجس المرء العابرة حول مصدرها، أي نوع «الحجة» الكامنة وراءها. بالمثل، كان كل من سيمون دي بوفوار وسارتر وكامو ومارسيل قادرا على كتابة الروايات والمسرحيات التي تعكس أفكاره بصورة ملموسة أمام جمهور عطل - في الوقت الراهن على الأقل - فتوره النقدي. وقد سئل سارتر ذات مرة عن سبب تصويره مسرحياته في الأحياء البرجوازية من المدينة بدلا من المناطق التي تضم الطبقة العاملة، فأجاب بأنه ما من برجوازي يستطيع مشاهدة عرض إحدى مسرحياته دون تكوين أفكار مسلية «تخون طبقته». هذه هي قوة الفن في توصيل دعوة فلسفية لأسلوب حياة. (6) هوسرل والمنهج الفينومينولوجي
على الرغم من أن المنهج الفينومينولوجي الذي وضعه إدموند هوسرل في الثلث الأول من القرن العشرين تبناه بشكل أو بآخر الوجوديون في نفس تلك الفترة، فإن الكثيرين من معتنقي المنهج الفينومينولوجي - وربما معظمهم - ليسوا وجوديين. لكن كلهم يقبل الادعاء الأشهر والأخطر لهذا المنهج، وهو أن كل وعي هو وعي بالآخر. بعبارة أخرى: من طبيعة الوعي أن يستهدف (يقصد) الآخر. وحتى حين يكون الوعي موجها نحو نفسه، فإنه يكون موجها بالمثل نحو «الآخر». يسمى هذا بمبدأ القصدية. في هذا السياق، فإن «القصد» ليست له علاقة ب «التعمد»، بل هو مصطلح فني يعكس ما هو فريد في أفعالنا العقلية؛ حيث تمتد هذه الأفعال فيما وراء نفسها ونحو الآخر.
إدموند هوسرل (1859-1938)
ولد في مدينة بروسنيتز بجمهورية التشيك، وحصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات قبل التحول إلى دراسة الفلسفة. درس في جامعة جوتنجين بألمانيا بين عامي 1901 و1916، وفي فرايبورج إم برايجاو منذ عام 1916 وحتى تقاعده في عام 1928. يعد رائد المنهج الفينومينولوجي، ولعب دورا تأسيسيا في الفلسفة الأوروبية في القرن العشرين. كان مارتن هايدجر أشهر تلامذته وقد خلفه في فرايبورج. بسبب أصوله اليهودية شهدت سنوات حياته الأخيرة كربا شديدا مع بزوغ النازية. عقب وفاته في فرايبورج، نقل صديق له - قس بلجيكي - أرملته ومخطوطاته إلى جامعة لوفين قبل أن يتمكن النازيون من تدميرها.
لهذا المبدأ أهمية مضاعفة، فهو يتغلب على مشكلة «الربط» بين الأفكار الموجودة «داخل» العقل والعالم الخارجي الذي يجب أن تتشابه الأفكار معه. ليست لدينا «عين ثالثة» لنقارن ما يوجد داخل العقل بما يوجد خارجه لتأكيد ادعائنا بأننا نعرف العالم الخارجي. ورثنا هذه المشكلة عن رائد الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت (1596-1650) وأتباعه. فخلال رحلة بحثه عن اليقين في مواجهة الشك، استخلص ديكارت أنه متيقن من شيء واحد، ألا وهو أنه مفكر؛ لأن الشك صورة من صور التفكير. بدا هذا وكأنه يبرر ادعاءه البديهي: «أنا أفكر إذن أنا موجود.» إلا أن هذا اليقين الذي بلغه بصعوبة لم يكن إلا نصرا مصحوبا بالخسائر؛ إذ تركه محاصرا «داخل» عقله، ليواجه مشكلة «رأب» الفجوة بين الواقع الداخلي والخارجي. فكيف يمدد هذا اليقين إلى العالم «الخارجي»؟
شكل 1-3: إدموند هوسرل، مؤسس الحركة الفينومينولوجية.
3
حسب مبدأ القصدية، كانت هذه مشكلة زائفة؛ إذ لا يوجد وعي داخلي خارجي. فكل فعل واع «يقصد» شيئا موجودا بالفعل «داخل» العالم (أي مرتبط عن قصد به). أسلوبنا في «قصد» هذه الأشياء سيختلف عندما نفهمها، أو نعيها، أو نتخيلها، أو نتذكرها - مثلا - أو عندما نرتبط بها ارتباطا عاطفيا. لكن في كل حالة، الوعي هو طريقة للوجود في العالم.
فكر مثلا في انطباعاتنا الذهنية. أشار سارتر في دراسة قديمة إلى أن الانطباعات الذهنية ليست منمنمات محفورة «داخل العقل» تنعكس على العالم الخارجي؛ مما يثير مشكلة التوافق بين الداخل والخارج مرة أخرى. بدلا من ذلك، يعتبر الوعي الانطباعي أسلوبا «للاغتراب» عن عالم مدركاتنا الذي يظهر سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي الدقيق. لو تخيلنا تفاحة سبق أن رأيناها - على سبيل المثال - فإن وصفا دقيقا للتجربة سيكشف كيف يختلف التخيل عن رؤية نفس هذه التفاحة؛ لسبب واحد: أن التفاحة المتخيلة لا تحمل إلا تلك السمات التي نختار أن نعطيها لها، على عكس التفاحة المرئية. والانطباعات الذهنية بهذا الشكل لا تعلمنا شيئا. هكذا هي الحال مع بقية أفعالنا الواعية؛ حيث يكشف كل منها سماته المميزة عند الوصف الفينومينولوجي.
لكن لأن الوعي «يقصد» موضوعاته بطرق مختلفة، يمكننا استخدام منهج الوصف الفينومينولوجي المسمى «الاختزال الاستحضاري» أو «التنويع التخيلي الحر للأمثلة» للوصول إلى الحد أو الجوهر الواضح لأي من هذه التجارب الواعية المتنوعة. وهذه المهمة التخيلية المتعلقة بالوصف الدقيق لما «يعطى» للوعي في حالات «عطائه» المتنوعة هي ما يفضلها الوجوديون عند بناء حججهم المتماسكة. وقد قال هوسرل ذات مرة، هدف المنهج الفينومينولوجي ليس الشرح (بإيجاد الأسباب) وإنما دفعنا إلى الرؤية (بتقديم الجوهر أو رسم الحدود الواضحة).
تأمل هذين المثالين: قد تقوم رسامة جنائية برسم صورة مجرم كي يتعرف عليها شاهد العيان. وحسبما تضيفه أو تلغيه من ملامح في الصورة، سيوافق شاهد العيان أو يعترض على مدى التشابه إلى أن يقول عند الوصول إلى أفضل نتيجة: «نعم، هذا هو الجاني؛ هذا كان شكله.» هذا تشبيه بسيط للوصف الاستحضاري الذي يستعين بالتنويع التخيلي الحر للأمثلة للوصول إلى الرؤية، أي الإدراك الفوري للشيء المقصود.
دعونا نتناول في مثالنا الثاني «حجة» فينومينولوجية شهيرة من مقال سارتر «الوجود والعدم»، التي أعتبرها صورة أقل فنية للاختزال الاستحضاري: يتلصص أحدهم عبر ثقب المفتاح على زوجين، حتى يسمع فجأة ما يعتقد أنها خطوات أقدام خلفه. خلال نفس هذا الفعل، يشعر أن جسمه أصبح «موضوعا» لوعي آخر. إحساسه المتصاعد بالحرج، ووجهه المتقد احمرارا، هما مرادف لحجة مزدوجة عن وجود عقول أخرى (لغز فلسفي قديم) وعن جسمه باعتباره عرضة للتجسيد الموضوعي بصورة لا يتحكم فيها. حتى لو كان المتلصص متوهما (كان مصدر الصوت هو الرياح التي تداعب الستائر أمام النافذة المفتوحة مثلا)، فستظل التجربة تبرر إيماننا بالعقول الأخرى بشكل أسرع وبيقين أكبر مقارنة بأي حجة يطرحها التشبيه، الذي هو الدليل المعياري لمعتنق التجريبية. هذا مصدر قوة «الاختزال الاستحضاري» الناجح؛ فهو يرصد الجوهر أو الحد الواضح في تجربة ذات أخرى باعتبارها ذاتا، وليست موضوعا وحسب.
يكمن موطن قوة هذه الحجج ونقاط ضعفها المحتملة - فيما يتعلق بالوصف الفينومينولوجي أو التنويع التخيلي الحر للأمثلة - في تركيزها على تسميته «الحد الواضح». هذا نوع من الرصد الفوري لوجود «الشيء نفسه»، حسب قول هوسرل، وهو شبيه ب «لحظة التجلي» التي نمر بها في نهاية مسألة منطقية أو رياضية (يحمل هوسرل درجة الدكتوراه في الرياضيات). المفترض أنه لو كان الوصف محددا بدقة، فسيرى السائل الشيء بوضوح من تلقاء نفسه. أما نقطة الضعف المحتملة بالطبع فهي أنه - استجابة للادعاء «لا أراه» - لا يستطيع متبني المنهج الفينومينولوجي الرد إلا بأن يقول: «حسنا، انظر عن كثب.» لكننا، في الحقيقة، غالبا ما نفهم المقصود؛ إذ ننجح في رؤية «الجوهر» الثابت عبر الأشكال المتغيرة المتعددة. هذه الحجج القائمة على الأمثلة لا تمد الوجودي فقط بأسلوب التفكير المادي الذي يسعى إليه، بل إنها تكاد تتوسل من أجل التجسد في الأدب التخيلي والأفلام والمسرحيات.
ذكرت أن العديد من معتنقي المنهج الفينومينولوجي لا يؤمنون بالوجودية. والعكس صحيح أيضا؛ فمع أن فلاسفة الوجودية في القرن العشرين تقبلوا مفهوم هوسرل عن القصدية لأنه فتح بابا واسعا لمنهجهم الوصفي، فقد رفضوا سمة أخرى في فكره اللاحق بسبب تعارضها مع معنى الوجودية، وهي مشروعه عن «تعطيل» الوجود. تحدث هوسرل عن السلوك الطبيعي، الذي قد يوصف بأنه دون فلسفي وساذج في تقبله غير النقدي لعالم التجارب اليومية الواقعي. أصر هوسرل، في سعيه إلى تحويل المنهج الفينومينولوجي إلى علم شديد الحسم كالفلسفة نفسها، على أنه يجب على المرء تعطيل الإدراك الساذج للسلوك الطبيعي والتغاضي عن - أو تعطيل - مسألة وجود أو كينونة الأشياء الخاضعة للوصف الفينومينولوجي. أطلق هوسرل على هذا اسم «الاختزال الفينومينولوجي»، أو «التوقف»، وتصور أنه قادر على إعاقة الاعتراضات الشكوكية التي يخضع لها السلوك الطبيعي. وقد اعترف بأن المرء يستطيع القيام ب «اختزال استحضاري» للسلوك الطبيعي والوصول إلى نوع من النفسية «الاستحضارية». لكنه برهن لاحقا أن هذا ترك سؤالا شكوكيا بلا إجابة: «هل ما تصفه حقيقي في العالم الواقعي؟» كان هدف هوسرل أنك إذا قمت بهذا الاختزال الإضافي وعطلت «مسألة وجود» الأشياء محل السؤال (أي التغاضي عن مسألة ما إذا كانت الأشياء موجودة «في الحقيقة» أم أنها «داخل العقل» وحسب)، فإنك تجرد الشاك؛ الذي يشك في قدرتك على بلوغ «الواقع» أبدا، بتوصيفاتك. هدف الاختزال الفينومينولوجي هو ترك كل شيء كما هو «باستثناء» الأشياء التي يجري «اختزالها»، والمسماة الآن «الظواهر». عندما تعطل مسألة الوجود، فإنك تحتفظ بكل التجارب وما يتعلق بها من أشياء كنت تعرفها سابقا (الإدراكات الحسية، والصور، والذكريات، وغيرها)، لكن باعتبارها الآن مرتبطة بالوعي؛ أي كظواهر. بطريقة ما، أنت تتمتع بنفس اللحن الذي تتمتع به خلال السلوك الطبيعي لكن بمقام موسيقي مختلف. فبعد أن صرت محصنا ضد الشك - الذي كان قوة سلبية تحرك الفلسفة منذ زمن الإغريق - يمكنك الآن القيام بتحليلات وصفية دقيقة لأي ظاهرة مهما كانت. ستوضح التوصيفات نفسها الفرق بين التفاحة المرئية - مثلا - والتفاحة المتخيلة. تبدو هذه طريقة مبتكرة لتهميش الشك الفلسفي والتأكيد على معرفتنا اليقينية بالعالم. كان هذا حلم هوسرل.
يقدم الوجوديون سببين لرفض الاختزال الفينومينولوجي الذي طرحه هوسرل؛ أولا: أنه يجعل علاقتنا الأساسية بالعالم نظرية أكثر منها عملية، كما لو أننا ولدنا نظريين ثم تعلمنا العملية. أصر تلميذ هوسرل - مارتن هايدجر - على العكس؛ أي إننا كنا أصلا «في العالم» بفضل اهتماماتنا العملية، وإن الفلسفة يجب أن تحلل هذا الوعي «دون النظري» بهدف الوصول إلى الوجود. بالمثل، أصر سارتر - كما رأينا - على أن كل المعرفة «ملتزمة». كما تحدث ميرلوبونتي عن «قصدية فاعلة» معينة لأجسادنا العائشة كانت تتفاعل مع العالم قبل تصورنا التأملي له. حتى هوسرل، في سنوات حياته اللاحقة، بدا وكأنه يعترف بهذه الادعاءات عن طريق تقديم مفهوم «عالم الحياة» باعتباره الأساس دون النظري لتفكيرنا النظري.
بيد أن الاعتراض الأساسي للوجوديين هو أن الوجود نفسه ليس «جوهرا» خاضعا للاختزال، كما صاغ ميرلوبونتي عبارته الشهيرة «الاختزال [الفينومينولوجي] الكامل أمر مستحيل» لأنك لا تستطيع «اختزال» الموجود «المختزل». يمثل الفرد الموجود ما هو أكثر من «صفاته» التي قد يتمنى المرء تحديدها في مفهوم نظري. وقد احتج سارتر قائلا إن هناك «ظواهر وجودية»، مثل تجربتنا الشعور بالغثيان، تكشف أننا موجودون وأننا لا نحتاج إلى الوجود «صدفتنا». إلا أن هذه التجربة ليست إدراكية، وإنما هي مسألة إحساس أو وعي وجداني؛ أي مسألة تحديد الأوصاف والطباع.
هوامش
الفصل الثاني
التحول إلى الفردية
لا يوجد كائنان، ولا موقفان، متكافئان تماما أحدهما مع الآخر.
الوعي بهذه الحقيقة يعني التعرض لأزمة من نوع ما.
جابرييل مارسيل
عرفت الوجودية باعتبارها فلسفة «فردية». وسوف نقيم وجهة النظر هذه عندما نستعرض بعدها الاجتماعي في
الفصل الخامس . لكن من البداية يجب أن نلاحظ أنه، في نظر الوجودي، كونك فردا في مجتمعنا الضخم هو إنجاز وليس نقطة انطلاق. مرة أخرى، سيتعامل كل وجودي مع هذا الموضوع بأسلوبه الخاص، إلا أن فكرتهم الأساسية هي أن اتجاه المجتمع الحديث يبعدنا عن الفردية ويأخذنا نحو الامتثال المجتمعي. في هذا الشأن، يشير كيركجارد إلى «الدهماء»، في حين يتحدث نيتشه بلهجة أكثر انتقادا عن «القطيع»، وهايدجر عن «الفرد»، وسارتر عن «الذات». في كل حالة، تكون الإشارة إلى التفكير، والفعل، واللبس، والتكلم، وغير هذا مما يفعلونه «هم». في القصة القصيرة التي كتبها ليو تولستوي بعنوان «موت إيڤان إيليتش»، غالبا ما يشير المتحدث - وهو شخص ممتثل للأعراف المجتمعية ووصولي - إلى اتباع سلوك «لائق»، حتى إلى درجة استخدام العبارات الفرنسية التي تفضلها الطبقات الاجتماعية الأرقى التي يطمح إلى الانضمام إليها. بهذا المعنى، فإن التحول إلى الفردية هو مهمة يمكن تنفيذها ومواصلتها لكنها ربما لا تكتمل على نحو دائم أبدا. فكما أشرنا في الفصل السابق، تتطلب الطبيعة الزمنية للحالة الإنسانية أن يكون وجود الفرد دائما ديناميكيا وقيد التشكيل، وألا يكون أبدا ساكنا وتاما. وبحسب الظروف، قد ينطوي الأمر أيضا على مخاطرة كبيرة.
تحدث نيتشه بفصاحة عن الوحدة التي يشعر بها الفرد الذي يرتقي فوق القطيع. وكما هي حال الوجوديين غالبا، كانت حياته الخاصة برهانا مأساويا على الثمن الذي يدفع دائما مقابل هذا الخروج عن الامتثال المجتمعي، وذلك خلال سعيه - وفق أسلوب سقراط - إلى تحقيق التناغم بين حياته وتعاليمه. لسنوات جاب نيتشه أوروبا دون أن يمكث في مكان واحد أكثر من بضعة أشهر، فنزل في غرف مؤجرة أو كضيف لدى أحدهم، وكان يعاني صداعا نصفيا حادا وآلاما في المعدة، ومضطرا في أغلب الأوقات إلى دفع ثمن نشر أعماله التي لم تصل أبدا إلى جمهور عريض خلال سنوات حياته. لقد شبه نفسه بإسبينوزا، فيلسوف القرن السابع عشر الهولندي المنحدر من أصول يهودية الذي نبذه الكنيس اليهودي بسبب آرائه غير التقليدية. وهو يقول في إحدى مقولاته المأثورة: «يقول أرسطو إن المرء لكي يعيش وحده يجب أن يكون وحشا أو إلها، متجاهلا الحالة الثالثة: يجب أن يكون المرء كليهما؛ أي فيلسوفا.» يصر نيتشه على أن الفيلسوف يجب أن يتصرف ضد أفكار عصره المتلقاة، فيقول:
اليوم ... عندما يكرم حيوان القطيع ... فإن مفهوم «العظمة» يستلزم أن يكون نبيلا، وراغبا في أن يصبح على طبيعته، وقادرا على أن يكون مختلفا، واقفا وحده ومضطرا إلى أن يعيش مستقلا، ولسوف يخون الفيلسوف أحد مثله العليا عندما يفترض أن «الأعظم هو من يستطيع أن يكون الأشد وحدة، والأكثر اختباء، وانحرافا، الكائن البشري غير خاضع لمعايير الخير والشر».
بهذه المعايير، كان سورين كيركجارد صورة مصغرة من نيتشه، مع أن الثاني بدا أن له مجرد معرفة عابرة بعمله. كتب كيركجارد مقالات ونشرات يهاجم فيها القوى الثلاث الأوسع تأثيرا للامتثال المجتمعي في كوبنهاجن عصره؛ ألا وهي الصحف العامة ، والكنيسة الرسمية، والفلسفة السائدة، وهي فلسفة جي دابليو إف هيجل (1770-1831)، وفي كل منها كان يتحدث باسم الفرد. كانت الصحف العامة، في رأيه، تفكر بالنيابة عن الناس، والكنيسة تؤمن بالنيابة عن الناس، والفلسفة الهيجلية تختار بالنيابة عن الناس، بمعنى أنها «توسطت» بين ما كان سيصبح قرارات فردية وحولته إلى وجهة نظر عليا وشاملة في عملية تسمى «الجدلية». بعبارة أخرى: حولت الفلسفة الهيجلية تحدي «إما/أو» إلى عملية «كل من/و» مريحة. ومع أن هذه الآراء السلبية اتخذت بحجة التحول إلى الفردية، فقد عزلت كيركجارد عن مجتمعه وتسببت في ردود فعل عنيفة من جانب المؤسسة الدينية. في واقع الأمر، روي أنه كان يفضل أن يكون النقش المكتوب على شاهد قبره هذه العبارة البسيطة: «هذا فرد منعزل». أضف إلى هذا حادثة فسخ خطبته الشهيرة والقاسية فيما يبدو مع ريجين أولسن؛ لأنه ظاهريا لم يرغب في أن يثقل كاهلها بندائه الداخلي الفردي، علاوة على حياته المتبتلة اللاحقة، فصار لدينا المفكر المنعزل الذي يمجده نيتشه بوصفه الفيلسوف الحقيقي. وبطريقة ما - كما سنرى بعد قليل - كان فارس الإيمان المثالي في نظر كيركجارد أيضا «لا يقيم بمعايير الخير والشر»، وإن لم يكن بنفس دقة استخدام نيتشه لهذا التعبير الشهير. (1) نظرية المراحل لكيركجارد
يظهر أكثر التحليلات شمولا لمشروع التحول إلى الفردية في عملين، هما: «إما/أو» و«خطوات على طريق الحياة» لكيركجارد، وكلاهما مثال لأسلوبه في التواصل غير المباشر. يحكي كلاهما قصة - أكثر من قصة في الواقع - تحت أسماء مستعارة لتمكيننا من رؤية واختبار الأخلاق الفردية الواردة بهذه القصص في حياتنا. تقدم حججهما القصصية مجتمعة وصفا دقيقا إلى حد ما لدوائر الوجود الثلاث التي شكلها كيركجارد ليتعقب عملية التحول إلى الفردية. ومع أنه سيكون علينا أن نعدل ونفصل هذه العملية عند وضعها، فإن الدوائر أو المراحل ثلاث (جمالية وأخلاقية ودينية). لكل مرحلة نموذجها الخاص بما يناسب القصة الأخلاقية: دون جوان، ضمن آخرين، في الدائرة الجمالية، وسقراط، أيضا ضمن آخرين، في الدائرة الأخلاقية، وإبراهيم في الدائرة الدينية. تمثل هذه الشخصيات قوة عاطفية ملموسة «للحجة» لدى تكشفها. ومثل المحاضر في المعرض الفني، يظل كيركجارد يشير إلى النموذج ليمكننا من أن نرى كيف يدعم هذا النموذج السمة محل النقاش؛ لذا دعونا نسر على هذا الدرب ونقابل شخصياته الأدبية والتاريخية ونحن نتلمس طريقنا نحو الفردية. ومثلما يتوقع المرء من تحليل وجودي، ستكشف كل مرحلة أو دائرة عن علاقتها بالوقتية، التي تميزها عن الدوائر الأخرى. ومرة أخرى، الوقت هو جوهر كل شيء.
ربما أفضل طريقة للبدء هي البدء من النهاية، عندما تلخص إحدى الشخصيات - شخصية «الأخ تاسيتيرنوس» - في خطاب موجه إلى قراء «خطوات على طريق الحياة» المراحل أو الدوائر كالآتي:
هناك ثلاث دوائر وجودية: الجمالية والأخلاقية والدينية ... الدائرة الأخلاقية هي مجرد دائرة انتقالية؛ ولهذا فأسمى تعبير لها هو التوبة كفعل سلبي. الدائرة الجمالية هي دائرة الفورية، والدائرة الأخلاقية هي دائرة الحاجة (وهذه الحاجة لامتناهية للغاية حتى إن الفرد دائما ما يكون مفلسا)، والدائرة الدينية هي دائرة الإشباع، لكن انتبه من فضلك، فليس المقصود بالإشباع أن يملأ المرء صندوق صدقات أو أن يملأ حقيبة بالذهب؛ لأن التوبة خلقت بالتحديد فضاء لا حدود له؛ وبالتالي خلقت تناقضا دينيا؛ أن تكون وسط ماء يبلغ ارتفاعه 70 ألف قامة وتظل سعيدا في نفس الوقت.
يقلل تحليل الأخ تاسيتيرنوس - الذي من الواضح أنه كتب من وجهة نظر «دينية» - من شأن استقرار ودوام الدائرة الأخلاقية، كما لو أن أوجه قصورها - التي سنشهدها عما قليل - تجعلها غير ملائمة عند التعامل مع أكثر مشكلات الحياة إلحاحا، على سبيل المثال: الأمر الشائن المتمثل في وقوع الأمور السيئة لأناس طيبين. من منظور معاكس، سيعلن سارتر، كما سيعرض كامو في روايته «الطاعون»، أن «الشر لا يمكن الخلاص منه». هذه - على الأقل - هي وجهة نظر الوجودي الملحد. على أي حال، من الواضح أن ما سوف تسمى لاحقا ب «الوجودية» تتعامل مع أفراد محددين في مواقف متأزمة ملموسة؛ لهذا دعونا نتناول هذه المراحل عن كثب.
شكل 2-1: سورين كيركجارد، في الحادية والأربعين من عمره، قبل وفاته بعام واحد .
1
سورين كيركجارد (1813-1855)
ولد في كوبنهاجن وعاش بها طوال حياته، وقد عرف بأبي الوجودية الإلحادية. درس اللاهوت والفلسفة الهيجلية في الجامعة المحلية، ودخل في مجادلات حادة مع الكنيسة الرسمية، والصحف العامة، وأنصار الفلسفة الهيجلية؛ ربما لأنه اعتبر رسالته الخاصة مهمة مؤلمة وفردية. فسخ خطبته مع ريجين أولسين - ابنة عائلة محلية بارزة - وبقي عزبا بقية حياته. نشر الكثير من الأعمال الفلسفية واللاهوتية، العديد منها بأسماء مستعارة، وهي تتميز بمنطقها الحصيف وأفكارها النفسية الثاقبة. (1-1) المرحلة الجمالية
هذه هي دائرة الحاضر «الفوري» من المنظور الزمني. وقد لوحظ أن نطاق الاختلافات التي تتصف بها قد يمتد من المادية البسيطة إلى أعلى درجات التطهير الفكري. يركز الشخص الذي يعيش هذه المرحلة - والمرء يستطيع أن يعيشها طيلة حياته - على الحاضر ويظل غير مبال بالتوبة من الماضي أو بالالتزام تجاه المستقبل إلا على نحو حذر يهدف إلى تجميل الحاضر، كما سنرى بعد قليل في حالة يوهان فاتن النساء. لقد أعجب كيركجارد بأوبرا «دون جيوفاني» التي تروي قصة زير النساء غير التائب «دون جوان»، الذي لحن موتزارت قصته كغاو لا يمل من ملاحقة النساء في أحد أفضل العروض الأوبرالية على الإطلاق. الدون، الذي يأخذه كيركجارد نموذجا رئيسيا للدائرة الجمالية، يعيش فقط من أجل الإشباع الجسدي في اللحظة الحالية. ويتكرر حضوره في الأوصاف الواردة في كل من «خطوات على طريق الحياة» و«إما/أو».
القصة الأولى في كتاب «خطوات على طريق الحياة» هي قصة اجتماع «جمالي» عادي بعنوان «النبيذ مصل الحقيقة»، وهي تمثل كلمة السر في الحدث. القصة محاكاة ساخرة لمأدبة أفلاطون الشهيرة عن الحب «المائدة». في كلا العملين ينصب تركيز حاضري المأدبة السكارى على الشرب والخطب تمجيدا في الحب. لكن إن كانت حفلة أفلاطون تركز أخيرا على مشاعر «الحب» الدائم والصادق التي تنتاب المرء بالتضاد مع الانجذاب العابر للجمال الحسي، فإن «النبيذ مصل الحقيقة» هي احتفال بالجمال الحسي في لحظاته العابرة. في حقيقة الأمر، فورية وآنية الحدث مفهومة من خلال تقديم الدعوات في الدقيقة الأخيرة واستعداد طاقم العمل لتفكيك مكان الاجتماع فور انتهائه. وكما يعلق أحد المشاركين: «لكي يكون الشيء جميلا، لا بد أن يكون فوريا؛ لأن «الفورية» هي الأروع من بين جميع الصفات ...» تذكر تحليل سارتر للشخص الذي «يقفز من أجل السعادة» حرفيا في محاولته العبثية لتكثيف تجربة مبهجة في لحظة واحدة.
المثير للدهشة أن المعربدين يدخلون قاعة المأدبة على ألحان أوبرا موتزارت، وتدور حواراتهم المتنوعة حول الحب الشهواني أو العلاقات المبتذلة بين الرجال والنساء. يقدم الحوار الختامي إحدى شخصيات كيركجارد - يوهان فاتن النساء - التي قدمها في عمل سابق، وهو «إما/أو». وبما أنه يجسد الحياة في الدائرة الجمالية، دعونا نستعرض هذا النطاق بالتفصيل بالرجوع إلى مقدمته في ذلك العمل السابق. «مذكرات فاتن نساء» هي إحدى أروع قصص كيركجارد عن الحياة في الدائرة الأولى، وتحكي عن مكائد «يوهان فاتن النساء»، الذي تعد خططه محاكاة ساخرة للتطور الخليع لدون جوان. في حقيقة الأمر، استخدمت سطور من الأوبرا كقصيدة قصيرة ساخرة في بداية القصة. ينجذب يوهان إلى شابة تبلغ ستة عشر عاما، اسمها كورديليا؛ حيث يلاحظها في الشارع برفقة خالتها التي تعتبر أيضا راعيتها، ثم يصادف بعد ذلك رجلا شابا من الواضح أنه مسحور بنفس الفتاة، ويشرع في مصادقته بحجة مساعدته في التودد إليها. وبعد أن يتمكن من دخول بيت الفتاة بصفته صديق الرجل الشاب، يشرع يوهان في الفوز باستحسان الخالة حتى وهو يفتن الفتاة العذراء. وسرعان ما ينبذ الرجل الشاب من صحبة يوهان لاعتباره عائقا أكثر منه ميزة. تروى قصة إغواء الشابة كورديليا وهجرها لاحقا في سلسلة من الخطابات المتبادلة بينهما. يبدو يوهان غير مبال بالألم الذي يسببه، عاقدا العزم بشدة على الحصول على «اللذة المطلقة»، التي يحتال بعدها على كورديليا ليقنعها بأن تفسخ خطبتهما فتتحمل هي مسئولية الانفصال. يعلق يوهان: «يكمن شقاء الخطبة دائما في جانبها الأخلاقي. والأخلاقي ممل في الفلسفة مثلما هو كذلك في الحياة ... سأعمل ما بوسعي بالتأكيد كي تفسخ هي الخطبة.» لا شك أن يوهان أقل عفوية من الدون، إلا أن هدفه واحد: الاستمتاع اللحظي الذي يعقبه هجر دون ندم. يجسد يوهان الغموض الثري لمصطلح «الجمالي» ولهذه الدائرة الوجودية عندما يجادل قائلا: «إضفاء طابع شعري على الذات للتأثير على فتاة شابة هو فن، أما إضفاء طابع شعري على الذات للهروب منها فهو تحفة فنية.» إن محب الجمال هو شاعر من نوع ما. (1-2) المرحلة الأخلاقية
يدرك كيركجارد أن يوهان ليس فاسقا، وإنما يفشل ببساطة في ممارسة اللعبة الأخلاقية من الأساس؛ فقواعد الصواب والخطأ لا تنطبق على دائرة وجوده. فكل اعتبار لديه يستهدف الحاضر، حتى لو كان هذا «الحاضر» يكمن في المستقبل، كما في تقديرات فاتن النساء بخصوص كورديليا. لا مجال هنا للتوبة من الماضي أو التعهد تجاه المستقبل، وهما السمتان المميزتان للدائرة الأخلاقية. يغيب مفهوم الوجودي عن «الالتزام» عن هذا الحديث. فالتوبة، والتعهد، والالتزام هي صفات أخلاقية يظهر دورها بعد تجربة «الانتقال» أو «التحول» التي تعتبر تدريبا على الاختيار الحر؛ وبالتالي على الفعل الفردي. وفي خطوة سوف نستفيض فيها بعد قليل، فإن هذا «الانتقال» ليس التطور الطبيعي - ناهيك عن كونه الضروري - للمرحلة السابقة كما توحي القراءة الهيجلية للموقف. يبدو أن كيركجارد يؤمن بأن معظم الناس يعيشون طيلة حياتهم في الدائرة الجمالية. على أي حال، فإنه يرى أن محب الجمال غير قادر على الاختيار الذي يمكنه من أن يصبح فردا. مثلما يحذر القاضي ويليام - شخصية أخرى من شخصيات كيركجارد - محب الجمال الشاب الذي يصر - في «إما/أو» - على أن الحياة حفلة تنكرية:
ألا تعلم أن الليل عندما ينتصف يخلع الجميع أقنعتهم؟ ... لقد رأيت رجالا في الحياة الواقعية لطالما خدعوا الآخرين، حتى إن طبيعتهم الحقيقية في النهاية لا تستطيع أن تكشف نفسها ... أو هل يمكنك أن تفكر في أي شيء أكثر ترويعا من أن تصبح طبيعتك متعددة، أنك قد تصبح حقا أكثر من واحد، تصبح - مثل أولئك الممسوسين التعساء - حشدا فتفقد بذلك أعمق وأقدس شيء على الإطلاق في الإنسان، ألا وهو القوة الموحدة للشخصية؟ ... قد يكون [مثل هذا الشخص] منغمسا بشكل غير مفهوم في علاقات الحياة التي تتجاوز نفسه بكثير، حتى إنه يكاد لا يستطيع أن يكشف عن نفسه. لكن من لا يستطيع أن يكشف عن نفسه لا يستطيع أن يحب، ومن لا يستطيع أن يحب فهو أتعس إنسان على الإطلاق.
يوضح القاضي الفكرة الوجودية العامة بأن الاختيار مكون للذات ومحرر لها. تذكر أنه على الرغم من أن الفلسفة الهيجلية، من وجهة نظر كيركجارد، تشدد على «التوسط» بين البدائل، الذي ترقيه إلى مرحلة أو وجهة نظر أسمى وأشمل، فإن الفكر الوجودي يشدد على الاختيار؛ على «إما/أو» التي تنطوي على المخاطرة والالتزام والفردية. يقترح القاضي تشبيها ملائما:
فكر في القبطان على متن سفينته في اللحظة التي يجب فيها تغيير اتجاهها. قد يقول: «أستطيع أن أفعل إما هذا أو ذاك»، لكن في حالة ما لم يكن ملاحا متمكنا، فسيكون واعيا في الوقت نفسه بأن السفينة تبحر في مسارها المعتاد، ولهذا فالسفينة لا تأبه للحظة واحدة بما إن كان سيفعل هذا أو ذاك. الاختيار إذن في يد إنسان. إذا نسي أن يضع تحركها إلى الأمام في الاعتبار، فستأتي في نهاية المطاف لحظة لن يكون فيها بعد ذلك أي مجال لإما/أو، ليس لأنه قد اختار، لكن لأنه أهمل الاختيار، وهو مرادف لقولنا: إن آخرين اختاروا بالنيابة عنه، أو إنه خسر نفسه.
يعلمنا هذا الدرس الوجودي القائل: إن حياتنا كلها عملية اختيار متواصل، وإن الفشل في الاختيار هو في حد ذاته اختيار نحن مسئولون عنه بالقدر نفسه. يصوغ سارتر هذا بوضوح حين يجزم بأنه في نظر الواقع البشري [الكائن البشري]، الوجود يعني الاختيار، وعدم الاختيار يعني عدم الوجود. كما يردد سارتر ما قاله كيركجارد عن علاقة الاختيار بتكوين الذات عندما يضيف أنه - في نظر الواقع البشري - كي توجد لا بد أن تختار نفسك. «الاختيار» الأساسي الذي يطرحه القاضي أمام محب الجمال الشاب هو ما سميناه بالاختيار المؤسس للمعايير. كما يفسر قائلا: «لا يشير استخدامي لإما/أو في الحالة الأولى إلى الاختيار بين الخير والشر، لكنه يشير إلى الاختيار الذي وفقا له يختار الإنسان الخير «و» الشر/أو يستثنيهما.» بعبارة أخرى: إنه يمثل قرارا ب «ممارسة اللعبة» التي تطبق فيها تصنيفات الخير والشر الأخلاقية. في حالة كيركجارد، فإن السمة المميزة للأخلاق هي الطبيعة العامة وغير الاستثنائية لقواعدها. يجعل الخلق الذي يطرحه كيركجارد - والمستوحى من كتابات الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر - جوهر الفسوق في جعل المرء نفسه استثناء لقاعدة يريد الجميع أن يلاحظه. ويشير كانط أيضا إلى أن السبب الوحيد الذي يجعلنا نكذب أو نخون أو نسرق هو أن الآخرين لا يفعلون ذلك. ليس هدفه ببساطة هو أن العواقب الاجتماعية لهذا الاختيار ستكون وخيمة، مثلما يجادل النفعيون (الذين يؤمنون بأن الأفعال تكون صوابا لو كانت مفيدة للأغلبية)، وإنما هدفه هو أن تعميم الممارسة - أي ترغيب الجميع بأن يفعل المثل - أمر مستحيل من الناحية العملية؛ لأنه لو كذب الجميع، فلن يصدق أحد؛ وبالتالي سيصبح الكذب مستحيلا. يدل هذا أيضا على أن هذا السلوك سيحول الآخرين الذين يطيعون القواعد الأخلاقية إلى مجرد أدوات تخدم غايات من لا يطيع القواعد، وفي هذا انتهاك صريح للقيمة الجوهرية لكل فرد، وهو ادعاء وجودي تقليدي. إننا نتعامل مع مجموعة من القواعد مثل الوصايا العشر أو القاعدة الذهبية، لكنها مصاغة بلغة غير دينية. يمكن أن يكون الشخص عادلا أو مستقيما، مثلما كان سقراط والقنصل الروماني بروتس (الذي لم يستثن ابنه من عقوبة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى، مع أنه كان بوسعه ذلك)، دون أن يكون مطلعا على التوجيهات الإنجيلية. في واقع الأمر، يعتبر سقراط - بسبب إطاعته لقوانين أثينا حتى عندما أدانته ظلما - نموذجا معبرا عن الدائرة الأخلاقية؛ فهو لم يضع نفسه فوق القاعدة العامة، مع أن ما فعله سبب له ضررا واضحا. يسمي كيركجارد هؤلاء الأفراد ب «الأبطال التراجيديين» لكنه يضيف أنه - على عكس إبراهيم - «يبقى البطل التراجيدي داخل نطاق الدائرة الأخلاقية». (1-3) المرحلة الدينية
في رأي كيركجارد، تشكل «القفزة» الإيمانية مدخلا إلى الدائرة الدينية وأعلى صورة من صور التفردية. هنا، ليست التصنيفات المؤثرة هي اللذة والألم - كما في الدائرة الجمالية - ولا الخير والشر - كما في الدائرة الأخلاقية - بل الخطيئة والنعمة الإلهية. نموذجنا هنا هو إبراهيم، الذي كان في القصة الواردة في سفر التكوين مستعدا للتضحية بابنه الوحيد طاعة لأمر الله، على الرغم من الوعد الإلهي بأن الرجل العجوز سيكون أبا «للعديد من الأمم». يتمثل البعد المؤقت لهذا الحدث الاستثنائي في «اللحظة» التي تتم فيها هذه النقلة «اللانهائية». تتوقف التصنيفات الأخلاقية استجابة لأمر إلهي موجه إلى إبراهيم وحده وباسمه. في هذا السياق، لا يمكن تعميم دوافع الأفعال في المرحلة الدينية مثلما تتطلب المرحلة الأخلاقية. بعبارة أخرى: الفرد المتدين «لا يخضع لمعايير الخير والشر»، بحسب نيتشه؛ وبالتالي يمكن اعتبار تصرفاته فاسدة. من الناحية الأخلاقية، لا يملك إبراهيم كلمات يبرر بها تصرفه الغريب لزوجته. وهو لا يستطيع الاعتماد على يقين المبادئ العامة ولا على دعم المنطق العام. إنه وحده بين يدي الله؛ الواحد الكامل. يخرج إبراهيم من هذا الملجأ المجهول (الذي «يوجد» فيه) بأكثر الصور تطرفا. وهو يقوم بهذه النقلة متجاوزا الدائرة الأخلاقية، فإنه يشعر بالقلق الناجم عن حريته، حتى مع إدراكه لمجازفة أن هذا الأمر، المناقض للمبادئ الأخلاقية العامة، قد لا يكون إلهيا من الأساس. يرقى الفرد المتدين فوق ما هو عام، ومن وجهة النظر الدينية، فإن «الإغراء» الآن يتمثل في عكس هذه العلاقة، أي جعل الأخلاقي/العام مطلقا، بمعنى عمل ما هو «أخلاقي» وعدم طاعة الأمر الإلهي. هذه بحق «قفزة» إيمانية.
يقال إن تفسير كيركجارد لهذه القصة الإنجيلية أدى على نحو عفوي إلى ظهور ما يسمى ب «أخلاقيات الموقف» المرتبطة بوجودية سارتر ونيتشه. إنها مقاربة لفهم عملية اتخاذ القرار الأخلاقية التي تراعي كل حالة أخلاقية باعتبارها حالة فريدة ولا شبيه لها، إلا لو كانت قاعدة عامة لا خلاف عليها. هكذا يتحدث سارتر عن رجل شاب يواجه خيار البقاء في فرنسا التي احتلها النازيون مع أمه التي يشتبه في تعاون زوجها مع العدو والتي قتل ابنها البكر في الهجوم الألماني عام 1940، أو مغادرة البلاد ليحارب مع القوات الفرنسية الحرة. لو طلب النصح من طرف يميل إلى أحد الخيارين أو الآخر، لكان بالفعل اتخذ قراره. بدلا من ذلك، يتحدى سارتر قائلا: «أنت حر، لهذا اختر؛ ابتكر.» وكما أوضح: «لا توجد قاعدة أخلاقية عامة يمكن أن تريك ما عليك عمله؛ لا توجد إشارات تريك ما عليك عمله في هذا العالم. سيجيب الكاثوليك: «لكن هناك قواعد فعلا!» حسنا، مع هذا، فأنا نفسي - في كل حالة - من يجب أن يفسر هذه الإشارات.» تعد مخاطر وثمار «الإبداع الأخلاقي» فكرة أساسية في الكتابات الوجودية، لا سيما التي يتناولها نيتشه وسارتر ودي بوفوار.
بالتأكيد لم يقترح كيركجارد أن ينبذ المرء الأخلاق. في واقع الأمر، لقد أشار إلى تصرف إبراهيم على أنه «تعطيل غائي للأخلاق»، وليس تخليا عنها. فالدائرة الأخلاقية توقفت من أجل هدف أو «غاية» أسمى؛ ألا وهي طاعة أمر إلهي. وعندما يهبط إبراهيم من الجبل الذي كان سيشهد التضحية (ثبت ملاك يده، في إشارة إلى أن إبراهيم قد اجتاز اختبار الإيمان غير المشروط بالله)، يعود إلى الدائرة الأخلاقية، لكن على نحو مختلف. فهو يعرف الآن أنها قابلة للاستثناءات وأن ملاحظته لمبادئها وقواعدها قائمة على ولاء أسمى. في التحليل الأخير - كما يلخص كيركجارد - يفوق الفرد العالم. لم تعد القواعد الأخلاقية المعيارية مطلقة من حيث مطالبتها الجميع باتباعها دائما.
يثير هذا موضوع العلاقة بين هذه الدوائر ووحدة الحياة. فعند حديث القاضي عن «إهدار» الحياة في الدائرة الجمالية - بمعنى تجزئتها وتشتتها - فإنه يحذر محب الجمال الشاب قائلا: «[في وضعك الحالي] أنت عاجز عن الحب؛ لأن الحب يتطلب التضحية بالذات، وأنت لا تملك ذاتا لتضحي بها.» وهو يشير إلى تكامل الدوائر الثلاث: «إذا لم تستطع أن تصل إلى مرحلة رؤية الجمالي والأخلاقي والديني كحلفاء ثلاثة كبار، وإذا لم تعرف كيف تحافظ على وحدة المظاهر المتنوعة التي يتلبسها كل شيء في هذه الدوائر المتنوعة، فالحياة إذن خاوية من المعنى؛ وعلى المرء إذن أن يسلم بأنك محق في استمرارك في الاقتناع بنظريتك المفضلة القائلة إن المرء يستطيع أن يقول عن أي شيء ، «سواء فعلتها أم لم تفعلها، فستندم في كلتا الحالتين».» يبدو أن البديل لهذا الاستنتاج - في حالة محب الجمال هذا على الأقل - سيكون الشك و/أو العدمية.
شكل 2-2: إبراهيم على وشك التضحية بابنه.
2
لم يكن تفسير كيركجارد لهذه المراحل أو الدوائر متسقا كلية؛ فمن ناحية، كان يشدد على «إما/أو» التي تنقل المرء من حالة إلى أخرى. من الواضح أن القرار المتفرد يشكل أساس كل نقلة. ويبدو أنه لا توجد عودة سهلة إلى الدائرة السابقة بعد أن تحدث القفزة. فبمجرد اختيار ممارسة اللعبة الأخلاقية - كما هي - لا يستطيع المرء إعادة التفكير والعودة إلى الجمالي المحض دون شروط. لقد خسرت براءتك، بالمعنى الحرفي للكلمة، وتستطيع الآن مواصلة سلوكك الساعي وراء اللذة كشخص فاسد فقط. من منطلق مماثل، سيبدو أن الفرد المنعزل الذي قام بالقفزة الإيمانية لا يستطيع الارتداد إلى الجمالي المحض أو حتى إلى الأخلاقي الصرف (كما لو أن التجربة لم تقع) دون تحمل عقوبة «الخطيئة»، وهو تصنيف ديني تماما، مع أن كيركجارد خلط أحيانا بينها وبين الرذيلة الأخلاقية. ومع هذا، فكما لاحظنا للتو، يوحي الهدف من رؤية هذه الدوائر باعتبارها «ثلاثة حلفاء كبار» إما بأنها «استنتاج» هيجلي (عودة المكبوت) أو «تداخل» يتناغم مع صورة الدائرة أكثر من تناغمه مع صورة المرحلة. في كلتا الحالتين، تعتبر الفكرة الموجهة «للاختيار» المتفرد مهددة تهديدا جادا. ما لا يمكن إنكاره أن إحدى مزايا هذا التواصل غير المباشر، مثل استخدام كيركجارد للأسماء المستعارة (أو استخدام نيتشه للحكايات الرمزية، أو حتى استخدام أفلاطون للحوارات) هي أن المرء ليس مضطرا إلى تحقيق الاتساق بين هذه الأصوات. وكما سنرى، يقدر الوجوديون الغموض. لكننا نكرر بأنهم ليسوا غير عقلانيين، وإنما يهدفون بقدر الإمكان إلى فهم العالم الذي تصادف وجودنا فيه. (2) الحرية لكن ليس للجميع: نيتشه
الوجودية فلسفة عن الحرية، حتى لو لم يوافق هؤلاء المفكرون على المعنى الدقيق لهذا المصطلح الأساسي. اشتهر نيتشه - مثلا - بإنكاره لفكرة الإرادة الحرة والاختيار الأخلاقي الذي يستتبعها. وقد حوله مشروعه عن إعادة الإنسان إلى الأرض وبعيدا عن أوهامه حول المتسامي والخالد، نحو البعد البيولوجي للوجود الإنساني، وغرائزه ودوافعه اللاعقلانية: ما سماه ب «إرادة القوة»، التي على الرغم من اقترانها الشائع بالاختيار والسيطرة، فإنها في الواقع إجابة للسؤال الميتافيزيقي «ما الموجود، في جوهره؟» وهذا على الرغم من كرهه للميتافيزيقا. في سياقها الواسع، فإن إرادة القوة هي القوة التي تحرك العالم؛ من الناحية البيولوجية، هي زخم الحياة الذي لا يمكن مقاومته ويحرك المحيط الحيوي. ومن الناحية النفسية، هي الدافع للهيمنة والسيطرة. و«أسمى» تعبير لها هو التحكم في النفس الذي تمارسه الأرواح الحرة التي يخصص لها نيتشه فضيلة «أسمى» من الأخلاقيات الدينية للقطيع. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل هار «الطبيعة ككل هي إرادة القوة»، وهي تعبر عن نفسها في كل بعد وجودي. لهذا السبب صنف الفيلسوف بول ريكور نيتشه من بين «زعماء الشك»، إلى جانب ماركس وفرويد؛ حيث يلقي كل مفكر منهم بظلال من الشك على تقديراتنا الظاهرية حول سبب قيامنا بما نقوم به. يكمن السبب الحقيقي لسلوكنا - حسبما يدعون - في شيء آخر. في حالة نيتشه، هذا المصدر المطلق هو إرادة القوة. وكما سيقول فوكو لاحقا على نسق نيتشه، فإن الجهود السامية للإصلاح العقابي في مطلع القرن التاسع عشر - مثلا - كانت في أساسها تعبيرا عن الرغبة في مزيد من السيطرة الفعالة على الآخرين.
شكل 2-3: نظرة نيتشه العميقة.
3
أي مكان - إذن - في هذا العالم تتاح فيه الحرية الإبداعية بالمعنى الوجودي؟ ما أساس المسئولية التي نشعر بها في داخلنا وننسبها إلى الآخرين؟ هذه هي المشكلة السرمدية للحرية في مقابل الجبرية، لكن بعد إضفاء الصبغة الدرامية المتناسبة مع التفسير الوجودي. في عالم لكل حدث فيه سبب وكل سبب ملزم (كلا الادعائين مفتوح للتفنيد)، لا يبدو أن هناك مكانا باقيا «للبدايات المطلقة» التي ينادي بها الفهم الشائع للحرية الوجودية. فلكل حدث سابقة (سواء طبيعية أو ثقافية حسب نوع الجبرية الذي يقترحه المرء) وكل سبب ملزم. في الحقيقة، تحت هذا التوصيف، لم يكن لأحد أن يتصرف على نحو غير الذي تصرف به .
يصر نيتشه على أن «خطأ» الإرادة الحرة هو الاعتقاد بأن الاختيار - وليس القوى الفسيولوجية والثقافية - هو أساس أحكامنا بالاستحسان أو الرفض الأخلاقي. وهو يعلق، مظهرا ولعه بالتفسيرات النفسية أكثر من الوجودية، قائلا: «تقوم الأفعال الشريرة التي نمتعض منها كثيرا على خطأ الافتراض بأن من يرتكبها في حقنا يمتلك الإرادة الحرة، أي إنه كان بوسعه «اختيار» ألا يسبب لنا الأذى.» لو كان نيتشه محقا، فسيستتبع ذلك ألا تكون هناك حدود لتسامحنا؛ لأنك «عندما تفهم كل شيء تسامح على كل شيء»، وذلك على حد قول روائية الحقبة الرومانسية الفرنسية مدام دي ستايل. على الرغم من أن هذه قد تكون حكمة إسبينوزا ونصيره الألماني، فإنها نادرا ما تكون المنطق السليم للقطيع.
فريدريك نيتشه (1844-1900)
ولد في روكين بألمانيا. كان شديد الذكاء حتى إنه لقب بأستاذ فقه اللغة في جامعة بازل قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه. بسبب تدهور صحته معظم سنوات حياته، تخلى عن أستاذيته بعد عشر سنوات وقضى العقد التالي متجولا في أوروبا، يكتب مقالات معروفة بفطنتها اللاذعة وإيمانها بالحياة. يعتبر نيتشه أبا الوجودية «الإلحادية»، وأشهر مقولاته هي «مات الإله»؛ بمعنى أن العلم الحديث جعل الإيمان بإله أمرا في غير محله. كانت المهمة التي حملها على عاتقه هي هزيمة العدمية التي استتبعها هذا الحدث. وقع فريسة للجنون خلال العقد الأخير من حياته.
إلا أن نيتشه، في حكايته الرمزية عن النبي التقي - زرادشت - يضع احتمال وجود خلق «أسمى» قائم على حرية/قدرة صياغة القيم. بشكل ما، مع «موت الإله»؛ أي مع استمرار انتهاء فكرة الرب اليهودي المسيحي، تواجه الأرواح الحرة (الأفراد الحقيقيون في نظر نيتشه) تحدي تحمل الامتيازات الإلهية، التي من أهمها صياغة قيم أخلاقية تؤمن بالحياة وقيم جمالية تحسن الحياة. يرى نيتشه أن «الإنسان حيوان مقيم»، وقيم النبل الأخلاقية وقيم الحسن الجمالية تندمج في مشروع تحويل حياة المرء إلى عمل فني. يمكن أن يحمينا هذا الاندماج بين النبيل والحسن من أنفسنا كما فعل مع الإغريق القدامى؛ أي يحمينا من اليأس الناجم عن إدراكنا بأن الكون لا يهتم. يحل الفن محل الدين، حسب رأي نيتشه، تماما مثلما سيعد لاحقا بنوع من الخلاص لأنطون روكوينتين - بطل رواية سارتر الفلسفية «الغثيان» - لذا يبدو أن أخلاقيات الحرية متاحة لهذه «الأرواح الحرة» التي تملك آذانا لتصغي وشجاعة لتؤيد صحة ما تسمعه. هل كان بإمكان هذه الأرواح الحرة أن تفعل غير ذلك؟ يبدو أن نيتشه يعتبر هذه مشكلة وهمية يثيرها الإيمان الخاطئ بالإرادة الحرة. في واقع الأمر، هم لن يفعلوا «غير ذلك»، لو كانوا حقا أرواحا حرة، بما أن نبل مولدهم وشخصيتهم يحتم عليهم أن يتصرفوا بهذا الأسلوب بالتحديد.
يرى نيتشه أن أخلاقياتنا اليهودية المسيحية الحالية هي نتيجة لممارسة إرادة القوة من جانب «العبيد» الذين عكسوا، أو «أعادوا تشكيل» فضيلة «الأسياد» الأصلية. حسب وصف نيتشه الرائع، أقر الزعماء «الوثنيون» الأصليون بفضيلة معززة للحياة لكل من النبيل والوضيع. كانت هذه القيم هي النقيض التام للفضيلة اليهودية المسيحية التي نعرفها. يفترض نيتشه أن طبقة العبيد الكهنوتية - مدفوعة بشعور «الامتعاض» ضد ممارسة السادة لإرادة القوة البسيطة والمعززة للحياة - أعادت تشكيل قيم السادة إلى تصنيفاتها الخاصة فيما نسميه اليوم «الخير والشر» الأخلاقيين عن طريق ممارسة خفية لإرادة القوة؛ ومن ثم، فإن الخير والشر لدى السادة (النبيل والوضيع) قلبا إلى الشر والخير لدى العبيد، على الترتيب. فما اعتبره السادة خيرا، حكم عليه العبيد بأنه شر، وما ازدروه لوضاعته أصبح «فضائل» في نظر العبيد، كالتواضع والرحمة وما شابههما. ينصح نيتشه «الأرواح الحرة» بفضيلة أسمى تتكون من عكس القيم المقلوبة للعبيد، مثل تحول الأنانية من نقيصة بالنسبة للعبيد إلى فضيلة بالنسبة للسادة، وهكذا؛ وبالتالي فإن هذه الفضيلة الجديدة (أو القديمة) «تتجاوز الخير والشر» حسب الأخلاقيات اليهودية المسيحية، لكنها تؤيد «الخير والشر» حسب فضائل السادة. في الوقت الذي كانت فيه ممارسة السادة لإرادة القوة صريحة وغير مقيدة نسبيا، اتسمت ممارسة العبيد ب «امتعاض» خفي ومنكر للحياة. وهذا العكس الذي يعلمه نيتشه للأرواح الحرة سيعزز الحياة مجددا. لكن ذلك موجه للقلة فقط.
يعرض نيتشه على أولئك القادرين اعتناق مذهب القدرية الذي يعد أكثر تحديا للروح الوجودية من الجبرية التي تحدثنا عنها للتو. طبقا لهذه النظرية، فإننا مقدرون لعمل ما نفعله بالضبط. يطلق نيتشه على هذا فرضية «التكرار الأزلي». وهو يرى أن ذلك نابع من حقيقة أن خياراتنا محدودة لكن الزمن غير محدود. وهكذا، كما يفسرها، فأيما ما يحدث سيتكرر لعدد لا يحصى من المرات. لو كانت الجبرية تسترجع الماضي، فالقدرية تستشرف المستقبل؛ فهي تدور حول ما يسجل في كتاب الحياة، الذي لم تقلب صفحاته بعد. بالنظر إلى هذا الموقف، ليست نصيحة نيتشه استسلاما سلبيا، لكنها «حب للقدر» يتسم بإيجابيته، كما كان يعظ الرواقيون القدامى. سوف نعود إلى تناول كامو لهذا المذهب لاحقا. لكن سواء تقبل المرء هذه النظرية حرفيا أو قرأها - وهو الأكثر معقولية - كأمر أخلاقي للتصرف بشجاعة وحذر، أي «التحرر من الماضي بفعل قوي الإرادة»، كما يحث زرادشت، فإنها تثير مجددا مسألة مدى «حريتنا» في اتباع نصيحة نيتشه أو رفضها. وهذا في حد ذاته مفارقة مناسبة لكيركجارد.
المثير للاستغراب أن شخصية القاضي ويليام التي وضعها كيركجارد تواجه محب الجمال الشاب قليل الحظ بتحد مماثل شيئا ما عن طريق الإشارة إلى نوع من التكيف النفسي الاجتماعي:
من وجهة نظري فإن لحظة الاختيار جادة للغاية ... بسبب ... خطورة أنه في اللحظة التالية قد لا تكون لدي نفس القدرة على الاختيار، وأن شيئا قد جرب لا بد من تجربته مجددا. التفكير في أنه للحظة يستطيع المرء أن يبقي شخصيته خاوية، أو بشكل أدق، يستطيع المرء أن ينفصل ويوقف مسار حياته الشخصية، هو وهم. فالشخصية تكون مهتمة فعلا بالاختيار قبل أن يختار المرء، وعندما يؤجل اتخاذ الاختيار تختار الشخصية بصورة لاواعية، أو تقوم قوى غامضة داخلية بالاختيار. وهكذا، عندما يتخذ الاختيار أخيرا، يكتشف المرء (ما لم تكن الشخصية قد تبدلت كلية، كما أشرت سابقا) أن شيئا يجب أن يتكرر، شيئا يجب أن يبطل، وهذا في العادة صعب للغاية.
في حالة كيركجارد، فالاختيار تبادلي مع «الذات» حتى إنه يؤسس ويعبر . و«الشخصية» هنا تشبه أكثر «غريزة» نيتشه الضمنية التي تحث على اتخاذ القرار وتعتبر الوضع التلقائي للإنسان. أو ربما الأفضل القول إنها عادة ناتجة عن تراكم الاختيارات السابقة، وفي هذه الحالة يمكن الحفاظ على استقلالية الخيار الوجودي.
كتب سارتر مقالا بعنوان «الحرية الديكارتية» طور فيه رؤية نيتشه بأننا - في غياب الإيمان بالله - يجب أن نتحمل مسئولية الحرية المطلقة التي نسبها ديكارت إلى الذات الإلهية. من الناحية الفينومينولوجية، يعني هذا أن كل «العالم» (أفق غاياتنا) هو خلقنا الذي نتحمل عنه كامل المسئولية. ويصر قائلا: «لا حجة لنا.» مثل نيتشه، ركز سارتر تركيزا أساسيا على خلق القيم الأخلاقية، كما رأينا. لكن على عكس سابقه، ادعى أن هذه القيم كانت نتيجة «اختياراتنا» الإبداعية. أما نيتشه، فعلى العكس بدا مؤمنا بأن «أولئك الذين يستطيعون أن يسمعوا» - أي الأرواح الحرة - قادرون بالفطرة على التأثر بقوة حججه التي تهدد القطيع أو تستعصي على فهمه. لو كان هذا حقيقيا، فإنه يؤيد نوعا من الجبرية النفسبيولوجية (يجب أن نتبنى ما نرى أنه الحجة الأقوى، والأرواح الحرة فقط هي القادرة على تقدير تلك الدوافع التي تعزز الحياة بشكل لائق). وهذا يفصله عن سارتر ودي بوفوار، لكن ليس عن كيركجارد، كما رأينا للتو. (3) «التفلسف في ضوء الاستثناء»
أول من قدم فلسفة «الوجودية» كان الطبيب النفسي والفيلسوف الألماني كارل ياسبرز. ومع أنه أفرد العديد من الصفحات لنيتشه وبضع صفحات فقط لكيركجارد، فربما كان الثاني هو أكثر من أثر فيه. كان ياسبرز أول مفكر بارز يتحدث عنهما كثنائي. وعلى الرغم من آرائهما المتناقضة حول وجود الله، اعتبر ياسبرز أن كيركجارد ونيتشه هما أهم مفكرين في القرن التاسع عشر بعد هيجل، والمفكران اللذان مهدت أعمالهما بشكل فعال للفكر الأوروبي في القرن العشرين. عندما بدأ النظام النازي يحكم قبضته على المجتمع الألماني وثقافته في عام 1935، تحدث ياسبرز - وهو شخصية شجاعة معادية للنازية - بالآتي في محاضرة عامة: «بخصوص الوضع المتعلق بالتفلسف والحياة الواقعية، يعلق كيركجارد ونيتشه على الكارثة الوشيكة التي لم يدركها أحد في ذلك الوقت (إلا كإحساس داخلي وقتي وسريع النسيان) لكنها كانت واضحة لهما.» هذه الكارثة تمثلت في التقليل من قيمة ما سماه ياسبرز ب «الوجودية» (الطريقة الإنسانية اللائقة للوجود) لمصلحة صورة ساذجة من المعرفة العلمية. دون الانزلاق إلى اللاعقلانية ومع كامل الاحترام لقوى المنطق وقيوده التي تقود حياتنا، انتقد كل من كيركجارد ونيتشه التفسيرات «المنهجية» مثل تلك التي قدمها هيجل عن وجودنا الغامض والمحير. لقد تحدث كلاهما إلى الفرد، إلى الذات التي تتمتع بالروح القادرة على فهم ما يقومان بتعليمه وقبوله. في هذا الشأن اقتبس كيركجارد ما قاله الكاتب الساخر والعالم الألماني من القرن الثامن عشر جورج كريستوف ليتشنبيرج في إحدى قصائده الساخرة: «هذه الأعمال مثل المرايا؛ لو نظر بها قرد، فلن تنعكس عليها صورة مصلح أخلاقي.»
في رأي ياسبرز، سعى الرجلان إلى قيم الصدق والالتزام و«الحقيقة الأصلية»، متجاوزين حدود القدرة الجسدية والنفسية على الاحتمال. كانا بالفعل استثناءين، نعجب بهما لكن لا نقلدهما. بدا بذلك وكأنه يقول: لا أحد مجبور على الشهادة. فمثل سقراط، عاشا وعانيا بسبب صدق تعاليمهما، وكانت حياتهما أشبه بما وصفه ياسبرز ب «حطام سفينة». وعلى هذه الحال، فهما يمثلان إنذارا ضد الشطط الذي يجب ألا نتبعه، وفي نفس الوقت يمثلان نموذجا للفضائل التي يجب أن نحاكيها. وهذا يلهم ياسبرز درسا من حياتهما: «التفلسف في ضوء الاستثناء دون التحول إلى استثناء».
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
أعتقد أن البطولة والقداسة لا تروقانني حقا. ما يهمني هو أن أكون إنسانا.
ألبير كامو، «الطاعون»
لو كانت هناك نزعة إنسانية اليوم، فإنها تجرد نفسها من الوهم الذي أجاد فاليري تصويره عند حديثه عن «هذا الإنسان الصغير داخل الإنسان الذي دائما ما نفترض وجوده».
موريس ميرلوبونتي
في 29 أكتوبر 1945، ألقى سارتر محاضرة عامة بعنوان «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» سرعان ما أصبحت بيانا رسميا بإطلاق الحركة الوجودية. من جميع النواحي، كانت حدثا فكريا غذى بالتأكيد نيران الحركة التي كانت تنتشر من مقاهي ليفت بانك ومسارح المنوعات في باريس إلى أوكار مشابهة عبر أنحاء أوروبا والعالم. لخصت هذه المحاضرة - التي ألقيت على جمع حاشد من الجماهير - بإيجاز ما صار يعرف بالسمة المميزة لوجودية سارتر: الادعاء بأن «الوجود يسبق الجوهر». بالنظر إلى النزعة الإلحادية المفترضة في رأي سارتر، بدا أن ذلك يترتب عليه أن الأفراد متروكون ليصوغوا قيمهم الخاصة؛ لأنه لا يوجد نظام أخلاقي في الكون يمكن أن يوجهوا أفعالهم وفقه، وأن هذه الحرية - في واقع الأمر - كانت في حد ذاتها القيمة المطلقة التي يمكن أن يلجأ إليها المرء (أو كما يقول هو: «عند اختيار أي شيء على الإطلاق، فإنني قبل أي شيء أختار الحرية.») كان من الممكن أن يكتشف كل هذا القدر أي شخص قرأ كتابه الأهم «الوجود والعدم»، الذي نشر قبل ذلك بعامين. لكن هذا الكتاب الطويل والصعب لم يكن حقا أعلى الكتب بيعا، بل يمكن أن نضيف أنه، مثل كتاب داروين «أصل الأنواع»، كان يقتبس منه أكثر مما يقرأ.
لم يكن ما جعل هذه المحاضرة ضرورية هو أنها بسطت العديد من الملامح الأساسية لعمله الأكبر وحسب، بل إنها حاولت الإجابة عن اعتراضات نقاد سارتر الكبار من كلا الجانبين الشيوعي والكاثوليكي بأن هذه الفلسفة الجديدة كانت تجسيدا للفردية البرجوازية، وأنها لم تراع مطلقا متطلبات العدالة الاجتماعية التي تثقل المجتمع الأوروبي المنهك بالحرب. بعبارة أخرى: كان الصوت القائد للفكر الوجودي يواجه تحدي الإجابة عن المزاعم القائلة: إن فلسفته لم تكن إلا مخدرا نرجسيا لإبعاد الشباب عن مهمة إعادة بناء مجتمع عادل من بين أطلال التراجيديا الفاشية؛ ما يعني أن الوجودية ستفقد مصداقيتها أمام العامة لو لم تستطع تقديم فلسفة اجتماعية قابلة للتطبيق وذات صلة بحياتهم.
نادرا ما يمكن تحقيق مثل هذه المهمة في محاضرة مسائية. في واقع الأمر، تكمن مزايا وعيوب هذا الخطاب القصير في محاولته تحقيق ذلك. استعان سارتر بنظرية كانط عن المبادئ العامة (المبادئ التي أوقفها إبراهيم - أحد شخصيات كيركجارد - من أجل هدف أسمى) عندما قال إنه ما من إنسان يستطيع أن يكون حرا بالمعنى الملموس (وليس فقط بالمعنى المجرد المستخدم في «الوجود والعدم» الذي يصف الفرد بأنه حر) ما لم يكن الجميع أحرارا. وهو يصر على قوله: «عندما أختار، فإنني أختار لجميع الناس.» وفي كلمات تحمل نبرة كانطية مميزة، يدعو سارتر كل فرد أن يسأل نفسه: «هل أنا من له الحق في التصرف بالشكل الذي يجعل البشرية تنظم نفسها وفق تصرفاتي؟» بدا أن هذا يعكس حس المسئولية تجاه الآخر وحتى تجاه المجتمع ككل بشكل يختلف عن آرائه السابقة. مع هذا طرح سارتر مبدأ أخلاقيا آخر عندما أكد أنه مع كل اختيار أخلاقي فإننا نكون صورة عن الشخص الذي نريد أن نكونه، بل في الواقع نكون صورة عما يجب أن يكون عليه أي شخص أخلاقي، فقال: «في الحقيقة لا يوجد فعل واحد من أفعالنا، عند تكوين صورة الشخص الذي نريد أن نكونه، لا يكون في نفس الوقت «صورة» عن الإنسان الذي نحكم بأنه «يجب» أن يكون عليه.» مهما كان دور هذه المبادئ في تشكيل النظرية الاجتماعية، فلم يبد أن أيا منها يستكمل ما نشره سارتر حتى ذلك الحين. وفي ضوء عمله اللاحق عن الأنطولوجيا الاجتماعية (انظر
الفصل الخامس )، تعد هذه الملاحظات استبصارية، لكنها تظهر في هذه المحاضرة كجسم غريب لإنقاذ المؤمن بالفردية من نقاده الماركسيين والدينيين. إننا نشهد - في الواقع - سارتر وهو يفكر بصوت عال، ويتفلسف «هائما». لقد مثلت التناقضات البادية في هذه المحاضرة إحراجا واضحا له، على أهميتها في تسجيل تطور فكره. وفي الحقيقة، هذا هو العمل الوحيد على الإطلاق الذي أعلن صراحة ندمه على نشره. ومن قبيل المفارقة يبدو أن هذا هو عمله الفلسفي الوحيد الذي يقرؤه الجميع.
عندما قال سارتر إن الوجودية فلسفة إنسانية، كان يعني أنها تضع الإنسان في مركز اهتمامها وعلى قمة هرم قيمها. ومع أنه يذكر الوجوديين الملحدين في هذه المحاضرة، مستشهدا بياسبرز ومارسيل كمثالين، فإنه من الصعب إيجاد مكان لهم في نص خطابه. بدلا من ذلك، فإنه يصر على أن القيمة المطلقة، أو غاية محاولاتنا، يجب أن تكون رعاية حرية الفرد، التي قصد بها تحسين إمكانياته الملموسة في الاختيار. وهو يشير إلى أنه لا يجب التضحية بهذه الحرية الإبداعية من أجل أي قيمة «أسمى»، سواء أكانت «الطبقة» لدى الماركسيين أم «الإله» لدى المؤمنين المتدينين. يتطابق هذا مع الصورة التي سماها نيتشه ب «الأرواح الحرة» في كتابه «هو ذا الإنسان». عندما يصر سارتر أنه على المرء أن «يختار، أي أن يبتكر»، فإنه لا يعني ببساطة أن «يرتجل»، بل يشير إلى القرار المسئول بأن يكون مع أو ضد الحرية نفسها.
شكل 3-1: الأمل الوحيد هو أن ندرك أنه لا يوجد أمل (مطلق).
1
يتفق ألبير كامو مع سارتر ونيتشه في أنه مهما كانت الغاية التي يحويها عالمنا، فإن الأفراد هم من يخلقونها سواء وحدهم أو في علاقات اجتماعية، لكنه يرى هذا مصدرا لقلقنا؛ فنحن نشتاق إلى غاية يقدمها كون يهتم لكننا لا نجد إلا سماء خاوية. ماذا نفعل في مواجهة ما يسميه ب «عبثية» هذا الموقف؟ يقدم كامو عزاء وجوديا في تفسيره لأسطورة سيزيف الإغريقية؛ ذلك الإنسان الفاني الذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرة صاعدا بها الجبل، فإذا بلغ قمته رآها تسقط، وهكذا يتكرر الموقف بلا نهاية. ومع هذا يزعم كامو أنه يعتبر سيزيف سعيدا في اللحظة التي يعود فيها إلى استرداد الصخرة عند سفح التل. لماذا يعتبره سعيدا؟ لأن سيزيف سما فوق قدره، ليس بالاستسلام المتبلد بل «بالاختيار المتعمد». وبهذا يظهر أنه أفضل من هذه الصخرة الجامدة. وحسبما قاله نيتشه، فقد حول «ما كان» (ماضيه ومعطيات موقفه) إلى «هذا ما أردته».
بالنظر إلى هذه الحكاية الرمزية عن العبثية المطلقة التي تتسم بها الحياة، يشير كامو إلى أن أملنا الوحيد هو الاعتراف بأنه لا يوجد أمل مطلق. ومثل الرواقيين القدامى، يجب أن نحجم توقعاتنا في ضوء فنائنا. (1) الفلسفة الإنسانية واللاوعي
يتمثل شعار الفلسفة الإنسانية لدى سارتر، الذي يتردد صداه في أعمال كامو ودي بوفوار، في أنك تستطيع دائما أن تصنع شيئا مختلفا عما وجدت نفسك عليه. وهكذا تحوي «التشاؤمية» الوجودية مضرب الأمثال أملا عميقا، وإن كان محدودا. كانت هذه رسالة كامو في مقاله «أسطورة سيزيف»، مثلما كانت رسالة نيتشه في اعتناقه للقدر. إنها النتيجة الإنسانية الرئيسية لرفض سارتر اللاوعي الفرويدي؛ لأن هذه الدوافع والقوى تسلبنا حريتنا ومسئوليتنا.
لا يتسم جميع الوجوديين بكل هذا الشك في اللاوعي؛ فقد شاهدنا شخصية القاضي ويليام - التي رسمها كيركجارد - وهي تشير إلى الاختيارات اللاواعية والقوى الغامضة. وفي ضوء ادعاءات نيتشه حول الدوافع والغرائز اللاعقلانية، يمكن أن يقدر المرء اعتراف فرويد بأن نيتشه سبقه في جوانب عديدة. ولو كان قيل إن هايدجر لا يبالي بالتحليل النفسي، فقد ناقش على الرغم من ذلك كثيرا من ممارسي التحليل النفسي في مناسبات عدة بناء على طلب صديقه المقرب - المحلل النفسي السويسري مينارد بوس. في الحقيقة، صاغ لودفيج بينسوانجر مقاربة مؤثرة للتحليل النفسي اعتمدت على مفاهيم هايدجر. أما موقف ميرلوبونتي تجاه اللاوعي فبدا غامضا. في واقع الأمر، لقد رأى أن اللاوعي لم يكن بعد فكرة مكتملة لدى فرويد نفسه، وكان مؤمنا بأن مصطلح فرويد اقترب مما سماه مفكرون آخرون تسمية أدق ب «الإدراك الغامض» أو «الإدراك غير العاكس»، وهو رأي يتفق معه سارتر. على أي حال، احترم ميرلوبونتي التحليل النفسي الفرويدي طيلة حياته المهنية. وحتى معارضة سارتر الشهيرة للاوعي قابلة للشك. وقد ذكر تلميذه السابق والمحلل النفسي المرموق جين برتراند بونتاليس أنه يوما ما سيكتب تاريخ العلاقة التي امتدت ثلاثين عاما بين سارتر والتحليل النفسي، وهي مزيج غامض بين شعورين عميقين متساويين من الانجذاب والنفور، وربما يعاد تفسير أعماله في ضوئها. أما كارل ياسبرز - وهو طبيب نفسي ساعده سارتر في ترجمة بحثه الأهم «الأمراض النفسية العامة» إلى الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين - فتحدث عن «أرض الوعي الإنساني بعيدة المنال».
لكن اللاوعي الفرويدي يثير حنق الوجوديين؛ فياسبرز نفسه - الذي يتحدث مثل سارتر - ينتقد الرأي الفرويدي القائل: «الإنسان دمية في يد لاوعية، و[أنه] عندما يلقى ضوء واضح على اللاوعي، سيكون الإنسان سيد نفسه.» وعلى النقيض، يعترض ياسبرز قائلا:
انتقاد المفكر الصادق لنفسه - الذي بلغ ذروته لدى كيركجارد ونيتشه بعد فترة طويلة فاصلة من الإيمان بالمسيحية - قد انحط في ضوء التحليل النفسي إلى اكتشاف الرغبات الجنسية والتجارب النمطية للطفولة؛ إنه تقنيع لانتقاد صادق وخطير في نفس الوقت للذات عن طريق إعادة اكتشاف الأنماط المألوفة في عالم من الرغبات الملحة المفترضة، حيث تعتبر المستويات الأدنى من حياة الإنسان ذات صلاحية مطلقة.
من بين هذه المجموعة - وقتذاك - أظهر ميرلوبونتي وحده اهتماما كبيرا باللاوعي الفرويدي، وكذلك نسخته الفرنسية البنيوية التي روجها المحلل النفسي جاك لاكان (1901-1981). وكي لا يستنتج المرء أن قبول اللاوعي الفرويدي يتعارض مع الإنسانية الوجودية في مجملها، يجب أن ينتبه إلى الاحتمالية النيتشية الخاصة ب «استقلال الذات» التي سعى التحليل النفسي إلى بلوغها والتي يشكك ياسبرز فيها. موضع الجدال هنا هو نوع الحرية التي يمكن أن يتوقعها المرء من عامل متجسد وقائم اجتماعيا. ويبدو أن الوجوديين منقسمون حول هذا.
شكل 3-2: هايدجر والحديقة، ووراءهما الغابة.
2 (2) بديل للفلسفة الإنسانية؟
لم أناقش بعد فكر مارتن هايدجر بالتفصيل. يزعم الكثيرون من أتباعه أن هذا الفيلسوف الأوروبي البارز لم يكن وجوديا على الإطلاق. لا بد بالتأكيد من التسليم بأن اهتمام هايدجر المعلن كان منصبا على معنى الوجود، وليس على المسائل الأخلاقية أو النفسية التي اهتم بها كيركجارد ونيتشه. وقد سأل في أهم أعماله «الوجود والزمن» (1927): «ما معنى أن توجد؟» وتعكس كتاباته اللاحقة تركيزا شاعريا - إن لم يكن صوفيا - على التخلص من العقبات في حياتنا الشخصية والثقافية لحين وقوع ما أطلق عليه اسم حادثة الوجود. بعبارة أخرى: على مدار حياته المهنية، انتقد هايدجر أولئك الذين صرفوا انتباهنا عن بلوغ الوجود عن طريق التركيز على مسائل ميتافيزيقية متعلقة بالجوهر والوجود، والسبب والنتيجة، والذات والموضوع، ونظريات حول الطبيعة البشرية.
في مقال هايدجر الشهير «رسالة في النزعة الإنسانية» (1947)، الذي كتب ظاهريا كرد على محاضرة سارتر المذكورة آنفا، انتقد الفلسفة الإنسانية التقليدية بسبب تعريفها «للإنسان» باعتباره «حيوانا عاقلا» أو «حيوانا ناطقا». ينتقص مثل هذا المفهوم - في رأي هايدجر - من قيمة الإنسان، ويؤدي بسهولة إلى ظهور مجتمع صناعي يعرف الإنسان من حيث إنتاجيته، ويقيم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي أو الشخصي. يرى هايدجر أن سارتر عاجز عن الهروب من هذه الميتافيزيقا التقليدية والأنثروبولوجيا الفلسفية الناتجة عنها. تكمن عظمة «الإنسان» (أو ما يسميه هايدجر «الكائن هنا»، قاصدا الطريقة الإنسانية للوجود) في انفتاحه على الوجود، وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم ليمارس فيه ما سماه هايدجر بواقعة وجوده. وفي تعبير شهير مأخوذ من عمله اللاحق، يطلق هايدجر على الإنسان/الكائن هنا اسم «راعي الوجود». وعظمته في البقاء منفتحا ويقظا «للنداء» أو للبعد «المقدس» هي التي تتجاوز همومنا اليومية. ينصحنا هايدجر بضرورة تعلم أن «نفكر شاعريا» بدلا من التصرف بدافع ذرائعي وحسب. لو تقبل المرء هذه النصيحة، يمكن إذن النظر إلى هايدجر في كتابه الثاني على أنه مبشر بالنزعة الإنسانية «الحقيقية»: النزعة التي تركز على أقوى إمكانات الإنسان؛ وهذا هو ما ادعاه في رسالته.
مارتن هايدجر (1889-1976)
نظرا لترعرع هايدجر وسط جبال جنوب غرب ألمانيا، لم يفتر حبه للطبيعة أو احترامه للحياة البسيطة. تلقى تعليمه في جامعة فرايبورج إم برايجاو، حيث عمل مساعدا لإدموند هوسرل، واعتبر زملاؤه كتابه الأول «الوجود والزمن» (1927) عملا عبقريا؛ لأنه قدم فينومينولوجيا تفسيرية اختلفت عن تلك التي تبناها أنصار هوسرل التقليديين. ومع هذا، خلف هايدجر هوسرل - بناء على توصية من هوسرل نفسه - في رئاسة قسم الفلسفة في فرايبورج. يبقى ارتباطه لاحقا بالحزب الاشتراكي القومي (النازي) مثار الكثير من الجدل. إلا أن سمعته كفيلسوف بارز لا غبار عليها.
لكن يجب أن نضيف أن هذا الحديث يبدو بعيدا كل البعد عن الموضوعات الوجودية والفرضيات التي ناقشناها حتى الآن. في واقع الأمر، يتبنى هايدجر في كتابه الأول، «الوجود والزمن»، العديد من مفاهيم كيركجارد ونيتشه ليفسر كيف نبلغ كياننا الذي لدينا عنه بالفعل قدر من المعرفة. وهو يوظف أسلوبا «تفسيريا»، أو تأويليا، ليوضح هذه المعرفة الأساسية. ويبين ظهور هذا الفهم المسبق ارتباط فكره بالفكر الوجودي. ومع أننا سنتناول الأمر بمزيد من التفصيل في الفصل الأخير، فيجب أن ننتبه هنا إلى أن مفاهيم مثل «القلق » (القلق الوجودي) والوقتية الوجدانية - التي سبق مناقشتها - تتجلى بصورة رئيسية في فكره المبكر، وكذلك فكرة وقتنا الفاني (وجودنا المتجه نحو الموت)، أي الإدراك والقبول الإيجابي الذي يجسد ضعفنا ويجعلنا منفتحين على معنى الوجود من خلال مواجهتنا باحتمال نهاية وجودنا.
يجسد الروائي سول بيلو هذه الرؤية الهايدجرية من خلال تأملات شخصية موسى هيرتزوج في رواية تحمل نفس الاسم:
لكن ما فلسفة هذا الجيل؟ ليست أن الإله قد مات؛ فهذه النقطة انتهت منذ زمن طويل. ربما من الأجدر أن تكون «الموت هو الإله». يعتقد هذا الجيل - وهذه هي أهم أفكاره - أنه ما من شيء يتسم بالإيمان والضعف والهشاشة يمكن أن يعمر طويلا أو يملك أي قوة حقيقية. ينتظر الموت هذه الأشياء مثلما تنتظر الأرض الإسمنتية سقوط مصباح كهربائي. فالصدفة الزجاجية الهشة تفقد خواءها الصغير بانفجار، فينتهي أمرها. وهكذا يعلم بعضنا بعضا الميتافيزيقا.
شكل 3-3: مارسيل، فيلسوف الأمل، يبدو بمظهر متسامح.
3
لكن الأنطولوجيا (طريقة فهم الوجود) وليس الميتافيزيقا (دراسة التصنيفات المطلقة التي ننظم بها أفكارنا) هي ما تهم هايدجر هنا. إن القدرة الموحدة لفنائنا الشخصي، التي تجمع شتات انشغالنا وتلهينا في الهموم اليومية المعتادة، تحمل دلالة «إنسانية» استطاع سارتر التعرف عليها، حتى لو ادعى هايدجر أن الوجودي - بالتركيز على الجوانب الأخلاقية والنفسية لفنائنا بدلا من التركيز على قدرته على كشف ما يعنيه الوجود - عاجز عن رؤية الغابة بسبب الأشجار.
بعد النظر إلى جميع الاعتبارات، مهما وصف المرء مشروع هايدجر الفلسفي في مجمله، فمن الصعب إنكار أنه قدم مساهمة مهمة للحركة وأن أعماله الأولى يمكن أن توصف بأنها تحمل الصبغة «الوجودية».
شكل 3-4: كارل ياسبرز وعالمه.
4 (3) الحرية الإبداعية في مقابل الولاء الإبداعي: الإنسانية التوحيدية
رأينا سارتر يذكر بإيجاز الوجوديين التوحيديين في محاضرته ثم يواصل مناقشة الوجودية بأسلوب بدا وكأنه يستبعد - أو على الأقل يسقط من الاعتبار - الإيمان بالله. لكن ليست الفلسفة الإنسانية بأكملها إلحادية. في حقيقة الأمر، وبأسلوب مماثل لأسلوب هايدجر، يقول التوحيديون إن الإلحاد ينتقص من القيمة الحقيقية للإنسان؛ لأنه يختزله إلى مجرد منتج أنتجته الطبيعة، دون قيمة جوهرية أو أمل مطلق. مرة أخرى، هناك عوامل كثيرة تشكل نوع الحرية أو الاستقلالية التي ينسبها مدعي الوجودية إلى الفرد. يدعي الملحدون أن هذه الحرية مطلقة. أيا كانت المزايا الكاملة التي نسبها البشر إلى الله، فإنهم يصرون على أنها مكتسبة على حسابهم وأن علم اللاهوت هو ببساطة علم الإنسانيات معكوسا. أدت فرضية نيتشه عن موت الإله إلى دعوته إلى نوع من الإلحادية البطولية يتقدم بها الإنسان إلى الأمام مثل سيزيف، رغم عدم الاهتمام المزعوم من جانب الكون.
على العكس من ذلك، يرى التوحيديون أن السمة المميزة للإنسان هي انفتاحه، ليس فقط على الوجود الهايدجري (مع أن البعض يفسر هايدجر تفسيرا إيمانيا غامضا)، لكن على إله يفهم ويهتم. من منظورهم، الحرية أصلية لكنها مصنوعة. وهم يرون العالم ووجودنا كهدية ودعوة لرد فعل مسالم. يجب أن يكون موقفنا المترتب على ذلك هو ما يسميه جابرييل مارسيل «الولاء الإبداعي» تجاه هذه الهدية. مثل هايدجر، يرفض مارسيل وثنية العالم الصناعي والتفكير الحسابي القائم عليه. (قال هايدجر إن انتصار الجانب الصناعي في مجتمعنا المعاصر واختزال كل من الطبيعة والبشر إلى مجرد «موارد» كانا النتيجة المنطقية لنسياننا الوجود على مدار عقود ورغبتنا في السيطرة؛ مما يدعم مذهب نيتشه عن إرادة القوة.) وفي مناقضة صارخة لاعتراض كامو على أي أمل مطلق، ينص تركيز مارسيل تحديدا على معاني الأمل الإنساني، الذي يرتبط بالولاء والثقة في وعد «الآخر» لكنه ليس بضمان محسوب لقوة ما غير ذاتية. وكما لو أن مارسيل أراد بوضوح أن يعارض موقف كامو، فقد أصر على أنه من الناحية الميتافيزيقية، الأمل الوحيد الحقيقي هو الأمل فيما لا يعتمد علينا؛ أمل نابع من التواضع وليس من الكبر.
جابرييل مارسيل (1889-1973)
عاش في باريس طيلة حياته، وكان أول من أطلق لفظ «الوجودي» على سارتر. أراد أن يكون فيلسوف الملموس، وذلك كرد فعل على الفلسفة المثالية التي كانت سائدة في عصره. وباستثناء محاضرات جيفورد البارزة التي نشرت بعنوان «لغز الوجود» (1950)، فإن معظم كتاباته الفلسفية ، بداية من «مذكرات ميتافيزيقية» (1927)، كان ينحو منحى تأمليا. بعد أن اعتنق المذهب الكاثوليكي، ظل محافظا على بعد ديني راسخ. ولكي يوضح الاتحاد الوجودي بين الفلسفة والأدب التخيلي، أشار إلى أن فكره الفلسفي قد يكتشف بالشكل الأمثل في مسرحياته المنشورة على مدار أكثر من 30 عاما.
يستفيض كارل ياسبرز في مفهوم «الإيمان الفلسفي» الذي يفرق بينه وبين كل من الإيمان الديني الموحى والإلحاد. يستتبع هذا الإيمان اعتبار «التسامي» أقوى احتمالية «لوجودنا»، ويعبر عن تجربة فنائنا في «مواقف محدودة» مثل: المعاناة والإحساس بالذنب والموت. وعلى نحو مشابه - إجمالا - لفكر هايدجر عن الوجود المتجه نحو الموت، ينبهنا مفهوم ياسبرز عن الموت باعتباره موقفا محدودا - على سبيل المثال - إلى بعد «وجودي» يفوق تصورنا. بهذه الطريقة، نستطيع بلوغ التسامي بلوغا غير مباشر وليس عن طريق المجادلة العقلانية التقليدية. من وجهة نظر ياسبرز، فإن التسامي هو الآخر المطلق الذي يقوم عليه «وجودنا». ومثل مارسيل، فإنه يتحدث عن «الوجود» باعتباره هدية هذه الكينونة غير الموضوعية التي يسميها التسامي. ومثل هايدجر، فإنه يصر على أن التسامي يظهر نفسه «للوجود» فقط (وهو ما يماثل «الكائن هنا» لهايدجر، أي الطريقة الإنسانية للوجود). وحدهم البشر هم من يفكرون في سبب وجودهم من الأساس، وهذا يثير القضية الوجودية التقليدية المتعلقة بوجودنا المحتمل.
كارل ياسبرز (1883-1969)
نشأ في أسرة ثرية في أولدينبرج بألمانيا، وتدرب على ممارسة الطب، وكان أول عمل رئيسي منشور له هو «الأمراض النفسية العامة» (1913). سرعان ما تحول إلى دراسة الفلسفة، فنشر «سيكولوجية الحياة الإنسانية» (1919)، وعين رئيسا لقسم الفلسفة في هايدلبرج في عام 1921. كان أول من يسمي مذهبه ب «فلسفة الوجود». تركز الوجودية التوحيدية على «مواقف محدودة» مثل المعاناة والإحساس بالذنب والموت. تؤدي تجربة هذه المواقف إلى الإحساس بفنائنا ومعرفتنا المحدودة بما يسميه «التسامي»، أو الأساس الذي يقوم عليه «وجودنا». نظرا إلى «عدم إمكانية الثقة به سياسيا»، حرمه النازيون من درجة الأستاذية في عام 1937. (4) تجربة الاحتمال
كان العمل الذي بنى سمعة سارتر مبكرا هو روايته الفلسفية «الغثيان». وفي فقرة كثيرا ما تقتبس منها ، تجلس شخصية أنطون روكوينتين على مقعد حديقة، متأملا جذور شجرة كستناء:
لقد أسرت لبي. لم أفهم قط على مدار الأيام القليلة الماضية معنى «أن أوجد» ... نحن هنا، كلنا، منزعجون، خجلون من وجودنا، ليس لدينا سبب لنوجد هنا بدلا من هناك، محتارون، مضطربون لسبب غامض، شاعرون بأن بعضنا زائد عن حاجة بعض. كانت هذه الزيادة عن الحاجة هي العلاقة الوحيدة التي بوسعي عقدها بين هذه الأشجار، هذه السياج الشجرية، هذه الممرات. جاهدت عبثا أن أحصي عدد أشجار الكستناء، أو بعدها عن فيليدا، أو طولها مقارنة بشجر الدلب؛ كل منها اختلفت عن النمط الذي حددته لها، فزادت عنه أو نقصت. وأنا أيضا بينها، تافه، ضعيف، فاسق، أمضغ جرة أفكاري، أنا أيضا كنت زائدا عن الحاجة. [وأقصد هنا بكلمة «أنا» نفسي أو أنت أو أي شخص.] من حسن الحظ أنني لم أشعر بالأمر، أنا فقط فهمته، لكني شعرت بعدم الراحة لأني كنت خائفا من أن أشعر به ... فكرت بتردد أن أنفصل عن نفسي، أن أنفصل على الأقل عن أحد هذه الوجودات الزائدة عن الحاجة. لكن موتي - جثتي ودمي المراق على هذا الحصى، وسط هذه النباتات، في هذه الحديقة المتبسمة - كان سيصبح زائدا عن الحاجة هو أيضا. كنت زائدا عن الحاجة إلى ما لا نهاية.
من نواح عدة، يشكل هذا الوصف التخيلي - مثل وصف سول بيلو ل «المصباح الكهربائي الساقط» - «حجة» وجودية، كما يعرض العلاقة الوثيقة التي تربط بين الفلسفة الوجودية والأدب التخيلي. لا يثبت هذا الوصف شيئا أو يفسره، لكنه يمكننا بصورة غير مباشرة من المرور بتجربة؛ وبالتالي - كما يقول هوسرل - أن نرى؛ أي إنها تجسد تجربة نقول فيها: «أجل، هكذا هو الأمر.» في الوضع الحالي، فالتجربة هي عن احتمالنا، عن الحقيقة المجردة بأننا موجودون وأننا لسنا مضطرين إلى الوجود. إنها ليست تلك الحقيقة البديهية القائلة إنه إذا لم يلتق أبوانا، ف «إننا» لن نكون موجودين هنا. على العكس، يستعين الوجوديون من جميع الأقطاب بهذه الرؤية المتكررة فلسفيا التي تركز على الفرق بين «ما» نحن عليه و«وجودنا» من الأساس، مع التشديد على مرورنا بتجربة «عدم» الاضطرار. ماذا يعني كل هذا؟
يرتبط البعد الإنساني للوجودية بحقيقة وجودنا. وما يميز الموحدين عن الملحدين هو إجابة كل منهم عن السؤالين: «لماذا نوجد؟» و«لماذا يوجد أي شيء على الإطلاق بدلا من لا شيء؟» بخلاف فلاسفة مثل برتراند راسل ممن ينكرون أن للسؤال معنى من الأساس، فإن الوجوديين - سواء كانوا موحدين أو ملحدين - يأخذونه على محمل الجد، وكيفية إجاباتهم هي التي تشكل «النزعة الإنسانية» التي يقترحونها. رأينا أننا، في نظر كامو، كنا نواجه تحدي استغلال موقف عبثي استغلالا أمثل. سيتفق سارتر مع روكوينتين بأن وجودنا ليس إلا حقيقة قاسية، وأننا زائدون عن الحاجة. وسيتفق كلاهما مع سطر النهاية السيزيفية لمسرحية سارتر «لا مخرج»: «حسنا، لنواصل الأمر.» ليس معنى أنه لا يوجد أمل مطلق أننا محرومون من أي أمل على الإطلاق؛ فالحكمة المستخلصة من تجربة سيزيف ليست في تثبيت الصخرة لكن في إزاحة عبئها عن كاهله! فمن الأجدى أن نسعى إلى أهداف محدودة لكن يمكن تحقيقها؛ مثل الرواقيين القدامى.
هل الأمل في شيء يفوق جهودنا يشوه قيمتنا الجوهرية أو يحد إمكاناتنا؟ يهتم الموحدون بما يبدو دافعا طبيعيا لتجاوز حدودنا في الأمل والطموح. وبالحديث عن هذه الفقرة من رواية سارتر، يعلق مارسيل قائلا:
أرى أنه من المسلم به أن هذه التجربة حقيقية، ويجب أن يشكل تفسيرها تمهيدا لأي تحليل لأنثروبولوجيا سارتر، وأريد أن أقول فورا إنها، في حد ذاتها، تبدو لي غير قابلة للجدل. مشكلتنا - وهي مشكلة عويصة - هي أن نعرف القيمة التي ننسبها إليها.
هل وجودنا حقيقة قاسية علينا التعامل معها، أم هبة علينا قبولها بروح شاكرة؟ يقترح مارسيل حله الخاص، معلقا بأن مادية جذر الشجرة ووجوده الخاص «لا يعتبرهما سارتر زيادة عن حاجة الوجود، بل هما جوهريان وعبثيان». على العكس منه، يعتبرهما مارسيل فيضا إعجازيا للوجود ومثالا لافتا للنظر للمبدأ الأفلاطوني القديم الذي يقول: إن الخير يميل إلى نشر نفسه كالحب الذي يصر على الانتقال، أو تجربة الجمال التي تتطلب المشاركة. (5) إنسانيات وحريات (ميرلوبونتي)
في ظل الجدل الذي نتج عن محاضرة سارتر المبتكرة، نشر صديقه ورفيقه الفيلسوف موريس ميرلوبونتي مقالا بعنوان «الصراع من أجل الوجودية» صاغ فيه الجدل في إطار من النزعة الإنسانية. وكما ذكر، فإن القضية «هي أن نعرف الدور الذي تلعبه الحرية وهل نستطيع أن نعطيها شيئا دون التخلي عن كل شيء». لخص هذا التعليق الجاد القضية بإتقان: ما المكان الملائم للإنسان في العالم المادي والحضاري؟ على عكس الماديين - خصوصا الماديين الجدليين الماركسيين - تحاول الوجودية أن تبرهن أن الإنسان أكثر من مجموع القوى الاجتماعية والنفسية والجسدية. وتشير لفظة «أكثر» إلى وعينا الذي نستطيع أن نقيم به ونستجيب لهذه القوى تحديدا. لكن على عكس «الروحانيين» - وهنا كان يقصد اليمين الديني كما نسميه اليوم - تشدد الوجودية على وضعيتنا، بداية من تجسدنا الذي يعطينا منظورا، ويجهض كل محاولة لتبديد وجودنا وتحويله إلى روح حرة الانطلاق تهيم فوق العالم. وكما يصر ميرلوبونتي (ويتفق معه مارسيل)، فليس لي جسد، «أنا» جسدي. بين طرفي النقيض هذين يحاول الوجودي فهم وجوده. يوضح ميرلوبونتي قائلا:
ميزة هذه الفلسفة الجديدة بالتحديد هي أنها تحاول، من منطلق وجودي، أن تجد أسلوبا للتفكير في وضعنا. أو بالمعنى العصري للكلمة، فإن «الوجود» هو تلك الحركة التي عن طريقها يوجد الإنسان في العالم ويدمج نفسه في موقف اجتماعي وجسدي يتحول بعد ذلك إلى وجهة نظره عن العالم.
ربطتنا الفلسفة الكلاسيكية - مثل فلسفة ديكارت - بالعالم من خلال المعرفة بالأساس. لقد رأينا كيف رفض الوجوديون ما اعتبروه مواصلة هوسرل لهذا التحامل الديكارتي بأسلوبه الفينومينولوجي. تدعي الوجودية أننا موجودون في العالم بفضل علاقة كينونية، تكون فيها الذات - من قبيل المفارقة - «هي» جسدنا وعالمنا وموقفنا، بشيء من التبادل. وكما قال هايدجر، فإن «الكائن هنا» موجود في العالم في الأصل بفضل اهتماماته العملية وليس إدراكه النظري. يفسر ميرلوبونتي هذا بتركيز انتباهه على أولوية أجسادنا النابضة بالحياة.
على الرغم من أن ميرلوبونتي سوف يتجاوز الوجودية قبيل وفاته، التي حلت على نحو مباغت وهو في الثالثة والخمسين من العمر، فقد تمثل إسهامه في الفكر الوجودي بالأساس في تحليله الدقيق لوجودنا الجسدي و«العالم المتداخل» للوجود الاجتماعي الذي أسقطه سارتر من اعتباره في بداية حياته، وإن لم يكن قد تجاهله تماما. أعمال ميرلوبونتي الأولى في علم النفس التجريبي ميزته عن معظم الوجوديين الذين - باستثناء ياسبرز - بدوا غير مبالين بالعلم التجريبي. وكما سنرى في
الفصل السادس ، فنتيجة تأثره باللغويين البنيويين الجدد؛ بدأ تدريجيا يجعل اللغة مركز تفكيره، فأثرت بالتالي توصيفاته الفينومينولوجية، إن لم تكن حلت محلها.
هوامش
الفصل الرابع
الصدق
يبدو اختيار الصدق قرارا «أخلاقيا».
جان بول سارتر
في نظر الوجوديين، تحمل الاعتبارات الأخلاقية أهمية كبرى. من المحتمل أن سارتر كان يصف نفسه، عندما كتب عن ألبير كامو عند موته، بأنه يمثل ميراث هذه السلسلة الطويلة من الأخلاقيين الذين تشكل أعمالهم ما يمكن أن يعد أكثر الأعمال أصالة في الأدب الفرنسي. من وجهة نظر سارتر، أعاد المذهب الإنساني المتعنت الذي وضعه كامو التأكيد على وجود الحقيقة الأخلاقية في مواجهة النفعيين الانتهازيين و«الواقعيين» اللاأخلاقيين في عصره.
سواء كنا ننظر إلى كيركجارد أو نيتشه، هايدجر أو ياسبرز، سارتر أو دي بوفوار، مارسيل أو كامو، فكل بطريقته الخاصة كان مهتما ب «الحقيقة الأخلاقية»؛ حقيقة أننا مغمورون بالتزامات وقيم ليست هي النتيجة المنطقية لأي سلسلة من الحقائق الموضوعية عن العالم. إذا أعدنا صياغة كلمات الفيلسوف ديفيد هيوم (1711-1776)، فإنه لا توجد حقائق يمكن أن تبرر التزاما دون وجود التزام آخر يقدم مسبقا ولو ضمنيا على الأقل خلال هذه العملية. على سبيل المثال: لو كانت نتيجتك هي أنه يجب ألا يقدم أحدهم على القتل، فلا بد أن يكون أحد أسبابك على الأقل لهذا التحريم هو الزعم بأن القتل ينتمي إلى مجموعة الأفعال التي يجب عدم ممارستها. قد يفكر المرء أن القتل تعد ظالم مع سبق الإصرار والترصد على حياة إنسان، وأنه يجب ألا يمارس المرء الأفعال الظالمة. حتى لو طالت قائمة الأسباب المقدمة، فأحد الأسباب الواردة بها هو أمر أو تحريم يؤدي إلى تحويل القائمة الوصفية إلى إلزام. وكما تقضي الحجة البالية فإنه: لا يمكن أن يستمد «واجب» القيمة الأخلاقية أو الالتزام من «واقع» التوصيف الفعلي بمجرد الربط بين أفعال لا أخلاقية. بخصوص سؤال نيتشه «لماذا أكون أخلاقيا؟» الذي يمكن أن تطرحه أيضا شخصية محب الجمال التي رسمها كيركجارد، لا يستطيع المرء أن يقدم إجابة لا أخلاقية مثل: «سيسعدك هذا»؛ إذ ستحول هذه الإجابة الفضيلة إلى أداة في يد شيء آخر، وهي السعادة في هذه الحالة، في حين أن التحلي بالأخلاق - حسبما يزعم - هو غاية في حد ذاته. إن «البطل التراجيدي» لكيركجارد، فليكن مثلا القنصل الروماني بروتس، ربما لم يكن سعيدا لحكمه على ابنه المذنب بالموت. يسمى هذا غالبا «استقلالية» العالم الأخلاقي، وهو جزء من الميراث الكانطي الذي يتشارك فيه الوجوديون؛ كل بأسلوبه الخاص طبعا.
في حالة سارتر، من الواضح أن المغزى الأخلاقي للقصة هو أن هناك دائما مغزى أخلاقيا للقصة. تذكر أنه اعترف ذات مرة أن مهمته تتمثل في خلق ضمير مذنب للطبقة البرجوازية. ليس الأمر أن سارتر كان واعظا مؤنبا، بل على العكس، كان يصر على أن يقر كل منا بما يفعله في حياته الآن. ومثل شخصية ربان السفينة لدى كيركجارد، الذي تردد في الالتفاف بالسفينة في حين أن السفينة تواصل في نفس الوقت الإبحار في اتجاهها الحالي، فنحن أيضا نواجه تحدي تحمل أن السفينة تواصل في نفس الوقت الإبحار في اتجاهها الحالي، فنحن أيضا نواجه تحدي تحمل مسئولية اختياراتنا المحددة لذاتها؛ فنتملكها وبالتالي نصبح أنفسنا عن طريق الإقرار بما نحن عليه بالفعل. هذه إحدى وصفات نيتشه كي «تكون ما أنت عليه»؛ إنها مسألة أن نعيش حقيقة أنفسنا، ووضعنا كبشر. أما الشخص غير الصادق، فهو في رأي سارتر، يعيش أكذوبة.
وما حقيقة وضعنا هذه، وكيف نعيشها؟ على الرغم من أنه من الواضح أن الأمر ينطوي على مقوم واقعي - كما سنرى - فإن الحقيقة التي يعيشها الشخص الصادق هي في الأساس أسلوب حياة؛ أي طريقة وجود. في هذا الشأن، فإنها تشبه حقيقة كيركجارد الذاتية ، الحقيقة باعتبارها تخصيصا، باعتبارها «صنيعة يده»، حيث يكون التركيز على كيف بدلا من ماذا. لكن على عكس الحقيقة الذاتية المرتبطة بالشك الموضوعي، يقوم الصدق السارتري على حقيقة واقعية عن الوضع الإنساني، على الرغم من أن هذا يستلزم أن يتحمل المرء مسئولية الطريقة التي ينوي أن يعيش بها مواقف الغموض في مستقبله.
لكن الإشارة إلى الأساس الواقعي للصدق تعيدنا إلى السؤال الجوهري الذي تطرحه الفلسفة الإنسانية: ماذا يكون الإنسان؟ ماذا يميزنا - بأي درجة - عن بقية كائنات الطبيعة؟ لقد لاحظنا أن هايدجر ينأى بنفسه عن الإجابات التقليدية عن هذا السؤال الذي رأى أنه ينتقص من قيمتنا. ومع هذا فهو من قدم لنا استخداما خاصا لمصطلح «الصدق» الذي سرعان ما أصبح الفضيلة الوجودية الرئيسية. لقد اعترف سارتر باقتباسه المصطلح من هايدجر. لكن على الرغم من أن هايدجر أصر على أن الكلمة وعكسها - عدم الصدق - لا تحملان أي دلالة أخلاقية، فإن سارتر لم يؤمن بهذا. على الجانب الآخر، ابتدع سارتر مصطلحين ذوي صلة، هما: «الصدق مع الذات»، وعكسه «خداع الذات»، منكرا أنهما يحملان دلالة أخلاقية، مع أن هايدجر أكد أنهما يحملانها بوضوح. في واقع الأمر، لقد أخطأ كلا المؤلفين، أو الأصح لم يكن كل منهما على استعداد للاعتراف بالصبغة الأخلاقية التي اصطبغت بها هذه المصطلحات، بصرف النظر عن نوايا مبتكريهما الخاصة. (1) الوجود في الموقف
لكي نستعرض الحقيقة الوجودية لوضعنا ودلالتها الأخلاقية، دعونا نبدأ بالنظرة الوجودية التي تفيد بأن البشر يوجدون في الموقف. لا يعني هذا فقط أننا لسنا أرواحا حرة تهيم فوق الكون المادي كالطيور التي ترفرف فوق صفحة الماء، بل إن الوجود في الموقف يشدد على أننا جزء لا يتجزأ من هذا الكون والعالم الحضاري الذي يغلفه. نحن أقل درجة من الملائكة، لكننا أعلى درجة من الآلات. الموقف هو مزيج غامض مما يسميه سارتر «واقعيتنا» و«تسامينا». تشير «الواقعية» إلى معطيات موقفنا مثل: العرق والبلد اللذين ننتمي إليهما، ومواطن قوتنا ونقاط ضعفنا، والآخرين الذين نتعامل معهم، بالإضافة إلى خياراتنا السابقة . أما «التسامي»، أو المدى الذي يتجاوز به وعينا هذه المعطيات، فيشير إلى مخرجات موقفنا، بمعنى: كيفية مواجهتنا هذه الواقعية. يشبه التسامي إلى حد ما «قصدية» الوعي، إذا فهمنا هذا المصطلح بمعنى ديناميكي. فقد يواجه بعض ممن ولدوا بإعاقة جسدية هذا التحدي مواجهة إيجابية وبناءة، في حين قد يسمح آخرون لأنفسهم بالاستسلام لهذه الإعاقة. يعترف سارتر بأن مصطلح «الموقف» غامض من حيث إن المرء لا يستطيع أن يقيس المساهمة الدقيقة لما هو معطى وما هو مخرج في كل موقف. على سبيل المثال: إلى أي مدى ينسب فشلي في أن أكون جراحا إلى ضعف ذكائي ومهاراتي الجسدية أو وضعي الاجتماعي الاقتصادي المعدم (الواقعية) وإلى أي مدى ينسب إلى تكاسلي العقلي وعدم انضباطي (التسامي)؟ لكن، مثلما تشير سيمون دي بوفوار، قدمت الوجودية نفسها منذ البداية باعتبارها فلسفة الغموض. لا يمكن وزن هذه العوامل الذاتية والموضوعية أو قياسها بدقة. في حقيقة الأمر، يتخلل غموض المعطيات والمخرجات حياتينا الاجتماعية والشخصية. وكما حذرنا أرسطو، فمن الخطأ السعي إلى درجة من الوضوح أعلى مما تتيح المادة؛ فأنت لا تبحث عن الدقة الرياضية في الأمور الأخلاقية، والوجودي يطبق هذا على الحياة نفسها؛ فإذا أردنا فحصها بهدف التخلص من كل الغموض لصار ذلك أشبه برسم لوحة انطباعية بأسلوب رسام الصور الظلية. لم يشدد أحد على هذا الغموض الجوهري في الموقف الإنساني أفضل من ميرلوبونتي، الذي كان فيلسوف الغموض «بلا منازع».
ما يصفه هايدجر على أنه «انغماسنا» في عالم الحياة اليومية ينطوي بالضرورة على هاتين السمتين. إذا استرجعنا البعد الزمني الذي يميز الوجود الإنساني بشكل أساسي، يمكننا أن نصف ثنائية الواقعية والتسامي هذه باعتبارها ماضينا ومستقبلنا الوجداني، على التوالي. هايدجر هو مصدر هذا التفسير الثلاثي لوقتيتنا الوجدانية، بمعنى: (1) الماضي باعتباره حقيقة أو «عملية إلقاء» (فنحن لا نحضر إلى المشهد بصفحة بيضاء لكن بماض فعلي). (2) المستقبل باعتباره «وجودا وجدانيا» أو «بروزا» (فنحن نعيش في زمن «لم يأت بعد»، زمن «الممكن»). (3) الحاضر باعتباره انغماسا في فيض همومنا اليومية.
من بين هذه الأبعاد الوجدانية، يعد بعد المستقبل - باعتباره الممكن - هو الأهم. فنحن مخلوقات تسعى إلى «الممكن». حتى مدمن الكحول المتعافي الذي يحاول أن يعيش الحياة «يوما بيوم»، لا يستطيع تجنب شبح المستقبل. وكما يعلق سارتر، يجب أن يجدد المقامر التائب وعده لنفسه كلما اقترب من غرفة المقامرة. القلق الوجودي هو تجربتنا للممكن باعتباره مكمن حريتنا. تصف نكتة قديمة رجلا يسقط من قمة مبنى شاهق، وهو يمر سريعا بالطابق الثلاثين يصرخ أحدهم قائلا: «كيف حالك؟» فتكون إجابته المتفائلة: «بخير حال، حتى الآن!» المثير للضحك بشكل مأساوي هو استخفاف هذا الشخص ببعد الممكن الذي يعد ضروريا في موقفه. وهذه الإمكانية تتضاءل بسرعة الجاذبية.
كما قلت في البداية، يشخصن الوجودي البعد الزمني إلى جانب البعد المكاني. فالزمان والمكان حسب القواعد العلمية، مثل مفهوم أرسطو للزمن باعتباره مقياسا للحركة أو مفهوم أينشتاين لمتصل الزمكان، هما فكرتان تجريديتان مستخلصتان من التجربة المعاشة للزمن والمكان الوجوديين. إذا لم يكن لدينا هذه التجربة الأصلية قبل القياسية المتعلقة باندفاع الزمان وتمدد المكان، فلن يكون لدينا شيء نستخلص منه هذه المفاهيم العلمية، ولن يكون لهذه الأفكار أي تأثير على حياتنا. لكن على الرغم من أن هايدجر يستخدم هذه التجارب ليكشف الأفق الزمني الذي تقع فيه الكينونة (الكينونة، لهايدجر، ليست خالدة)، يصر سارتر دون تردد على التشديد على مسئوليتنا عن الموقف الغامض بالضرورة الذي نعيشه. فأيا كان موقفنا، فسينطوي دوما على إمكانية تجاوزه. وكما قلنا، فإن شعار الفلسفة الإنسانية لدى سارتر هو أنك تستطيع دائما أن تصنع شيئا مما وجدت نفسك عليه؛ لأنك تتسامى دائما فوق واقعيتك. (2) الوعي المزدوج
من الأمور المحورية بشأن فكرة سارتر عن الموقف وخداع الذات الناتج عنه هو فهم سارتر للوعي باعتبار أنه يتكون من شقين: قبل التأملي والتأملي. بصورة أساسية، يتسم الوعي بأنه موجه نحو موضوع (متعمد) واضح، فهو لا يحوي بقعا عمياء؛ فأنت تقرأ هذه السطور وأنت تعي معناها في إطار المناقشة التي تتبعها، أي إنك واع بالمناقشة بشكل قبل تأملي. لكن إذا قاطعك أحد بالسؤال «ماذا تفعل؟» تستطيع أن تجيب، حاليا بشكل تأملي: «أنا (كنت) أقرأ». على الرغم من أن وعيك كان موجها في الأصل إلى المناقشة التي كنت تتبعها، فإن وعيك التأملي صار موجها الآن إلى فاعل «أنا» وحادثة موضوعية «كنت أقرأ». يقصد سارتر أن الوعي الأول قبل التأملي كان وعيا مضمرا بالذات (أي، غير موضعي)، لكنه كان وعيا ظاهرا (موضعيا) بالمناقشة في الصفحة. ومع هذا كان الفاعل موجودا، وإن كان «في الكواليس»، مثلما كان في الوعي الظاهر بالموضوع، وإلا لما استطاع المرء أن يجيب (بشكل تأملي) ««أنا» كنت أقرأ».
يتعرض المرضى للتخدير الكلي قبل الجراحة لحجب وعيهم قبل التأملي تحديدا، وهو ما يترك الوعي التأملي خاويا. بعبارة أخرى: من المفترض أن تكون الإجابة عن السؤال «بم شعرت خلال الجراحة؟» هي «لا شيء»؛ إذ لا توجد «تجربة» واعية قبل تأملية مر بها المريض كي يسترجعها بعد ذلك. يعلق سارتر قائلا: «كل وعي موضعي بالموضوع هو في نفس الوقت وعي غير موضعي بالذات.» بالنظر إلى العلاقة المباشرة وغير الإدراكية للذات بنفسها (وعي غير موضعي بالذات)، يستطيع سارتر أن يؤكد أننا دائما وبشكل مضمر واعون ب «ذاتنا» في كل عمل واع، وأن هذا الوعي بالذات يصبح ظاهرا أحيانا بالتفكير اللاحق. هذا هو الفرق بين إجابتينا عن السؤالين السابقين: كنت واعيا وعيا مضمرا بذاتي عندما كنت أقرأ الكتاب واعيا، لكني لم أكن واعيا وعيا مضمرا بذاتي عندما كنت غير واع على فراش العمليات.
لهذا الزعم دلالة أخلاقية وإدراكية؛ أولا: لا ضرورة لوجود اللاوعي الفرويدي ليخفي أفعالنا الواعية أو يسترها، بحيث يهدد مسئوليتنا عنها. وثانيا: يمكننا أن نتجنب التفكير العبثي في عملية التفكير بلا نهاية بهدف إدراك الوعي بالذات. إن «كل» فعل واع هو في طبيعته وعي بالذات، وإن كان مضمرا (أي: غير موضعي). بشكل ما، يشدد هذا أيضا على مسئوليتنا. وكما يقول سارتر مؤكدا: «لا عذر لنا.»
إذا اعتبرنا أن «المعرفة» تدل على الوعي التأملي، فيمكن القول إننا واعون بأكثر مما نعرف. مثل متبع الحمية الغذائية ضعيف الإرادة ، نحن واعون بشكل قبل تأملي بنيتنا في أن نأخذ قطعة ثانية حتى ونحن نعارض أنفسنا (بشكل تأملي) قائلين: «لن أفعل هذا.» سيطلق سارتر لاحقا على هذا الوعي قبل التأملي اسم «الاستيعاب»، مشددا على أننا نستوعب أكثر مما نعرف. وهذا بدوره يمكنه من إضافة عدد من مصطلحات التحليل النفسي إلى تفسيره للوضع الإنساني دون الاستعانة باللاوعي الذي يعتقد أنه يحرمنا من حريتنا الوجودية، كما ذكرنا من قبل. هذه الطبيعة المزدوجة للوعي هي التي تجعل خداع الذات ممكنا دون مساعدة اللاوعي.
نظرا إلى أننا نوجد بصورة أساسية داخل موقف، ولأن هذا الموقف متدفق وغامض مثل الزمن والوعي نفسيهما، لا يعتبر البشر هويات سرمدية وثابتة. أيا كانت الهوية التي نتمتع بها فإنها إما مفروضة علينا من الخارج (وهو ما يجعل صورة من صور سوء النية ممكنة، كما سنرى بعد قليل) أو يعززها مشروعنا الوجودي المستمر والمميز للذات؛ ألا وهو مشروع «اختيارنا» الجوهري. هذا الفشل في التطابق مع أنفسنا هو أساس كل من حريتنا وقدرتنا على خداع أنفسنا. نحن بالأساس عمل قيد التنفيذ، قصة لم تزل تكتب بعد. وإنكار هذا الوضع يعني أننا نخدع ذواتنا. (3) سوء النية
أكثر التصنيفات الوجودية شهرة في مذهب سارتر الوجودي هو «سوء النية». وهو بلا شك مستخدم على نطاق أوسع في اللغة الدارجة أكثر من «حسن النية». ربما لأنه - كنوع من خداع الذات - أكثر انتشارا بسبب وثاقة صلته بالناس. يرى هايدجر أننا غالبا ما نكون منغمسين في الحياة اليومية التقليدية وننزع إلى تجاهل انفتاحنا على الكينونة، وهكذا «نستسلم للتيار» ببساطة، أي إننا نعيش بلا صدق كما يعيشون «هم». وفي إشارة واضحة لمفهوم «الخطيئة الأولى» الإنجيلي، يشير هايدجر إلى هذا الانغماس باعتباره سقوطا. ويبدو أن سارتر يوافق على أننا ننزع في العادة إلى إنكار مسئوليتنا عن موقفنا، أي بسوء نية. ينطبق هذا تماما على المجتمعات التي يتفشى فيها الاستغلال والقمع، كما سيقر لاحقا. في واقع الأمر، يدعي سارتر أن كتاب «الوجود والعدم» كان دراسة فينومينولوجية للأفراد داخل مجتمع متسم بالجفاء . تعزز مثل هذه المجتمعات خداع الذات حيال الظلم الهيكلي الذي تحمله ممارساتنا. في هذه الحالات، حتى ادعاؤنا لحسن النية هو ادعاء أساسه سوء النية؛ لأنه يفترض أننا نستطيع أن نتحلى بحسن النية مثلما تكون الصخرة مجرد صخرة؛ أي أن نتوافق تماما مع أنفسنا ونتحرر من المسئولية، في حين أننا دائما ما نتجاوز أنفسنا؛ وبالتالي فنحن بلا عذر. بعبارة أخرى: دائما ما يكون وعينا الزمني سابقا على ما نحن عليه، إلى حد أن سارتر يدعي أنه بصرف النظر عما قد نكون عليه، فنحن «لا نمارسه». هذه الفجوة التي يقدمها الوعي الزمني إلى حياتنا هي التي تفسر حريتنا وتمثل أساسا لمسئوليتنا. وهي منبع هذا القلق (الجزع) الوجودي المعروف الذي يشير إلى وعينا المضمر بحريتنا باعتباره إمكانية الإمكانية.
على نهج كيركجارد، يفرق الوجودي بين القلق والخوف؛ فللخوف هدف محدد، كأن يخاف المرء السقوط من شفا جرف ضيق، أما القلق فهو الوعي بأن المرء يمكن أن يسقط من فوق الحافة. إنه الوعي بأن أي اختيار يقع في نطاق قدرتنا على اتخاذه، حتى لو استعصى علينا نجاحه. لكن على الرغم من لغة الوجودية التجريدية غالبا، فإنها - كما رأينا - تهدف إلى أن تكون فلسفة ملموسة. إن الإمكانيات التي تشير إليها، حتى الإمكانية دون وجود هدف محدد - أي مجرد الوعي بالحرية - تدل على الوعي ب «حريتي» الموضعية وإمكانيتي. وكما يصوغها سارتر: «المجند الذي يتطوع في بداية الحرب للقتال من الممكن في بعض الحالات أن يخاف من الموت، لكن الأغلب أنه «يخاف من أن يخاف»، أي إنه مملوء بقلق يفوق قدرته.» (4) «يقين» سوء النية
قبل الانتقال إلى النوعين الأساسيين من سوء النية، دعونا ننتبه إلى ما سماه سارتر «اليقين» بسوء نية؛ لأنه يكشف معياره المرتفع بإفراط حول ما يشكل «دليلا» ويفسر سوء النية باعتباره اختيارا يمكن الاقتناع به بناء على دليل «غير مقنع». باختصار: يتبنى سارتر نظرة شبه فينومينولوجية، مبنية على الأدلة، عن المعرفة باعتبارها الحضور الفوري للوعي بالموضوع نفسه. كما رأينا في
الفصل الأول ، تضعنا الطبيعة القصدية للوعي فورا في العالم دون الحاجة إلى أفكار في العقل نفترض أنها تشبه ما يوجد في العالم «الخارجي». وهو يفرق بين «اليقيني» و«المحتمل» بناء على ما إن كان هذا الموضوع قد جرى استيعابه بشكل تأملي وبحدس فوري بديهي، مثلما يفهم المرء مسألة رياضية أو يضبط شريك حياته «يرتكب إثما»، أو العكس: ما إن كان الموضوع المتابع أشار إليه شيء آخر يمثل دليلا على وجوده أو ضد وجوده، مثلما يحاول المرء إثبات فرضية علمية أو عند ملاحظة أحمر الشفاه على ياقة القميص. في الحالة الأولى يرى المرء الموضوع موجودا كما ينبغي، وفي الحالة الثانية يمتلك المرء تلميحا أو دليلا على الموضوع الذي لم يتضح بذاته بعد، أي لم يتأكد بعد. يفترض سارتر أن الاعتقاد بشكل عام هو التوجه الذي يعتمد على أدلة من النوع الثاني، في حين تتطلب المعرفة الاستيعاب الفوري للموضوع ذاته، وهذا في الواقع معيار مرتفع لما يعتبر معرفة. مثل هذا الاعتقاد يكون «حسن النية» بالمعنى المعرفي لو قيد نفسه بدليل مقنع، ويكون «سيئ النية» لو رضي سلفا بدليل غير مقنع. وهو يرى أن سوء النية يعني الاستعداد التلقائي من جانب المرء للقبول بأدلة غير مقنعة. فما إن «يقع المرء في حب» شخص معين - مثلا - فقد يبحث عن دليل يدعم «قراره» ويهمل عن قصد - وإن كان بشكل قبل تأملي - أي دليل مناقض، حتى وإن شكك أصدقاؤه فيما يعتبره المرء جذابا في هذا الشخص. وصف سارتر هذا بقوله: «وضع المرء نفسه في موقف سوء النية يشبه ذهابه إلى النوم، ووقوعه في إساءة النية يشبه معايشته للأحلام.» لكن بسبب العين اليقظة للوعي قبل التأملي، يكون المرء واعيا برضاه عن هذا الدليل غير المقنع، ويظل مسئولا عن استمراره في سوء النية. (5) نوعان من سوء النية
الهروب من القلق على حريتنا هو الذي يحفز سوء النية، وازدواجية الوضع الإنساني الممثلة في كل من الواقعية والتسامي هي التي تجعل سوء النية ممكنا. إن سوء النية هو محاولة الهرب من ضغط هذه الازدواجية عن طريق إنكار أحد قطبيها. وفقا لذلك، يتحدث سارتر عن نوعين من سوء النية. يحاول النوع الأكثر شيوعا إسقاط تسامينا (إمكانيتنا) لمستوى واقعيتنا (وضعنا السابق)؛ نتيجة لذلك، يهرب المرء من المسئولية بادعائه: «هذه هي طبيعتي.» تقدم صور الجبرية المتنوعة - بدءا من الجبرية الاقتصادية لماركس ووصولا إلى الجبرية النفسية لفرويد - صورا نظرية لهذا النوع الأساسي من سوء النية. وهي تريحنا من القلق على حريتنا عن طريق إنكار أننا أحرار بهذا المعنى الوجودي المبتكر. ينصاع هذا النوع من سوء النية لنمط الحياة المقدم سلفا الذي لا يسيطر عليه الإنسان؛ وبالتالي هو غير مسئول عنه. سيكون هذا عكس «الاختيار» المبتكر لشخصية سيزيف لكامو، أو نصيحة ديلان توماس لأبيه المحتضر:
لا تستسلم لهذه الليلة الجميلة.
ثر، ثر ضد احتضار النور.
يشدد كل من الروائي والشاعر على وعي الفاعل ومسئوليته. مرة أخرى، هذه الأمثلة عن الصدق هي صور من تحول نيتشه من «ما كان» إلى «هذا ما أردته». من ناحية أخرى، توحي الصورة الجبرية لخداع الذات باستسلام متبلد لمصير المرء. وحسبما ذكرنا سابقا، هذا هو أساس إنكار سارتر للاوعي الفرويدي. ومع هذا، فقد لاحظنا أنه يستبقي العديد من الآراء «الفرويدية» بالاستعانة باستيعابنا «قبل النظري» لأفعالنا التي تسبق وعينا التأملي الظاهر. وفي ظل هذه «الوحدة» التي يتسم بها الوعي المتوتر يحدث خداع الذات؛ لأنه - وبشكل متناقض - لا يستطيع المرء أن «يكذب» على نفسه ما لم يكن منقسما بشكل أساسي، ومع هذا لو كان المرء مختلفا كلية عن المخدوع، فلن يوجد خداع للذات، لكنها ستكون حالة أطلق عليها سارتر «الكذبة الساخرة». يحمل سوء النية تناقض الوعي نفسه. يقول سارتر: إن سوء النية هو «المعرفة الجاهلة والجهل العارف». وهذا يحدث في إطار وحدة نفس الوعي المضمر بالذات.
تتجسد الصورة الثانية من هذا السقوط للتسامي (الإمكانية) في موقف سوء النية الذي يتيح لفاعل آخر تحديد «الهوية» التي نحاول التوافق معها. تتجذر هذه الصورة في علاقاتنا الشخصية، فيما سماه سارتر ب «الوجود من أجل الآخرين». ومن الأمثلة القوية على هذا مثال سارتر عن النادل المثالي. فحركة النادل سريعة ومحسوبة. هو قلق بعض الشيء حيال طلب العميل. وهو يعود موازنا صينيته بإهمال لكنه مع هذا يعطي إيحاء بالسيطرة التامة، وهكذا. يرى سارتر أنه يتظاهر «بكونه» نادلا في المقهى. لقد صار عبدا لصورة فرضتها عليه توقعات الآخرين التي نسبها إلى نفسه. يظهر سوء النية عندما يعتبر الفاعل أن أي سلوك آخر غير متصور. فهو ببساطة «كان» نادلا بكل كيانه، مثلما أن الصخرة هي مجرد صخرة. لكن وعيه يجعل هذه الهوية الكاملة مستحيلة. بشكل قبل تأملي، هو واع باللعبة، لكنه يركز بشكل تأملي على إنجاز العمل بهذه الطريقة المعينة واختار أن يتجاهل مظهره الذي يقصي أي احتمالات أخرى. من ناحية أخرى، إذا اختار أن يعيش قلق الاستمرار في تجديد هذا المظهر وهو مدرك تماما أنه في أي لحظة يمكن للمرء أن ينزع مريلته ويترك مهنته، فسيكون هذا نوعا من حسن النية والصدق مع الذات. لكن عادة ما يتجنب هذه الحرية والقلق المصاحب لها.
أما النوع الثاني - والأقل شيوعا - من سوء النية فيكمن في إسقاط وضعنا السابق من الاعتبار على نحو غير واقعي بالمرة، كما لو أننا مجرد إمكانية محضة دون واقع، نعيش بالكامل في المستقبل، وغير مهمومين بأي ماض. هذا هو سوء النية للحالم كما تجسده شخصية جيمس ثوربر «والتر ميتي». فوالتر شخص حالم عاجز عن التواصل مع العالم الواقعي، وأي موقف قادر على تحفيزه على تخيل البطل الذي يريد أن يكونه في حين أن حياته - في حقيقة الأمر - خاوية من المغامرات وعادية. كذلك الأمر مع الطالبة التي تصر على أنها ستصبح جراحة مخ، لكنها تضغط تلقائيا على زر الغفوة في منبهها بدلا من أن تنهض من فراشها لتحضر فصل الكيمياء، فهي أيضا تخدع ذاتها. فهي أيضا - مثل ربان السفينة - اختارت ألا تختار، وهو ما يعني أنها (بشكل قبل تأملي) اختارت ألا تكون جراحة لكن دون الإقرار (بشكل تأملي) بهذه الحقيقة؛ فهي سيئة النية وتخدع نفسها.
يرتبط كلا النوعين من سوء النية بكذبة حول الوضع الإنساني، مع الإصرار على أنه إما تسام أو واقعية في حين أنه - في الحقيقة - كلا الأمرين معا، لكن في مزيج غامض يعتبره أولئك الذين لا يطيقون العيش في غموض شيئا مثيرا للأعصاب. لكن من يقبلون تحدي العيش وفق حقيقة وضعهم هذه هم من يصفهم سارتر بأنهم «صادقون». (6) الوجود الصادق
لقد تحدثنا عن المشروع الوجودي المتعلق بالتحول إلى فرد. يعتبر الصدق سمة من سمات الفرد الوجودي. في الواقع، تبدو الفردية والصدق الوجوديان وكأنهما وجهان لعملة واحدة. ففردية المرء (بالمعنى الوجودي) لا تقل عن صدقه. ولكي تكون صادقا بحق يجب أن تدرك فرديتك، والعكس صحيح. كل من «الفردية» و«الصدق» الوجوديين كلمة إنجاز. فالشخص الذي يتجنب الاختيار، والذي يصبح وجها وسط الزحام أو ترسا في الماكينة البيروقراطية، قد فشل في أن يكون صادقا؛ وهكذا نستطيع الآن أن نصف الشخص الذي يعيش حياته وفقا لأوامر أو توقعات «الآخرين» بأنه غير صادق.
يعيش بطل رواية تولستوي «موت إيڤان إيليتش» معظم حياته غير صادق. وعندما يتقبل أخيرا موته الوشيك بدلا من أن يستسلم لحدوثه، يصبح صادقا. هذا الانتقال من إدراك الموت الذي يختبره «الآخرون» كبشر إلى تقبل الموت الذي يحمل اسمي أنا هو خطوة نحو الصدق. في نظر هايدجر، فإن البعد الزمني للمستقبل باعتباره ممكنا يغلب بعد الماضي كواقعية، على الرغم من أن كليهما لا يمكن تجاهله عند تقييم صدق «الكائن هنا». وهو يرى أن وجوده المتجه نحو الموت - أي زمنه الفاني - هو أكثر الإمكانيات ملاءمة له؛ لأن هذه الإمكانية هي التي تمثل نهاية إمكانياته الأخرى، والإمكانية، في نظر هايدجر، هي أهم بعد بين الأبعاد الثلاثة للوقتية الوجدانية. في هذا الشأن، يكمن عدم الصدق في الهروب من فنائنا عن طريق التخفيف من شأنه ليصبح حادثة تقع لكل الناس. يعترض إيڤان إيليتش قائلا:
إن القياس المنطقي الذي تعلمه من منطق كيسويتر: «كايوس إنسان، والإنسان فان، لهذا كايوس فان» بدا له دائما صحيحا عند تطبيقه على كايوس، لكن بالتأكيد ليس عند تطبيقه على نفسه. كان كايوس هذا - الإنسان في صورته المجردة - فانيا، وهذا صواب تماما، لكنه لم يكن كايوس، ولم يكن رجلا مجردا، بل هو مخلوق منفصل بالكامل عن الآخرين ... لقد كان كايوس بالفعل فانيا، وكان صوابا من وجهة نظره أن يموت، أما أنا - ڤانيا الصغير، إيڤان إيليتش - بكل أفكاري ومشاعري، فالأمر مختلف بالنسبة لي تماما؛ فلا يمكن أن يكون موتي وجوبيا. سيكون هذا بشعا للغاية.
في نظر هايدجر، فإن القبول الحازم لوجودنا المتجه نحو الموت هو الذي يلملم همومنا المبعثرة دونه لإدراك ما يجب أن يكون عليه الموت. هذه طريقة أخرى لتجربة وجودنا المحتمل. فما إن ندرك أننا في مرحلة زمنية ما لن يكون لنا وجود، حتى نكتشف معنى أن نوجد. وحتى لو آمنا بخلود الذات، فإن حلول تلك «الليلة الجميلة» لا يخلو من المخاطر، مثلما أدرك مارسيل. ومثلما قال موسى هيرتزوج: «هكذا نعلم بعضنا بعضا الميتافيزيقا.»
يختلف سارتر عن هايدجر من حيث إنه يعتبر «موتي» دخيلا على تجربتي. صحيح أنني أستطيع أن أرى احتضار أحدهم وأتخيل نفسي في هذا الموقف، لكن الأمر يتوقف عند هذا الحد. فموتي كما يسميه سارتر «غير مدرك»؛ لأنه يوجد خارج إطار تجربتي، وهو درس تعلمه بلا شك من أبقراط (341-270ق.م). ومع هذا فهو يربط أيضا بين الصدق ووحدة الحياة. لكن في حالته فإن المشروع أو «الاختيار» المميز بذاته هو الذي يجعل تعددية همومنا كلا واحدا ويفسح المجال لقبولنا الصادق.
سواء أدركنا الأمر تأمليا أم لم ندركه، يؤمن سارتر بأن «الاختيار» الجوهري (الذي سنميزه بعلامتي التنصيص كي نفرقه عن بقية القرارات والاختيارات التي نتخذها في ظل هذا «الاختيار» الموجه للحياة) هو المعنى والاتجاه الموحدين في حياتنا. بهذا المعنى الجوهري يكون «الاختيار» قبل تأملي. إنه ما نكونه وليس فقط ما نفعله. نحن نصل إلى الوعي التأملي بعد اتخاذ هذا «الاختيار» بالفعل. وصوره الملموسة هي الخيارات العديدة التي تمثل هذا المشروع.
يرى سارتر أن «اختيارنا» الأصلي هو سعينا العبثي إلى التطابق الواعي مع هوياتنا. لقد رأينا أن السعي إلى الهوية يتعارض مع وعينا «بعدم» تطابقنا مع هوياتنا. ومع هذا ، يتصرف معظمنا وكأنه يستطيع أن يكون مثل الأشياء في صلابتها وهويتها الثابتة؛ أي إننا نستطيع أن نكون أشياء واعية. وهو يعترض قائلا: إن هذا هو المثل المستحيل للألوهية، وسعينا وراءه يعكس هروبا غير صادق من القلق على حريتنا. فحريتنا هي حرية «عدم» التطابق مع الهوية. أيا ما كنا، سواء كنا ندلا أو جنودا أو نساء في موعد غرامي، وهذه ثلاثة من أمثلته، فنحن نتمتع بكل سمة بأسلوب «أخروي»؛ أي بأسلوب الفاعل الواعي. ولو اتصفنا بأي من هذه السمات في نظرنا أو في نظر الآخرين، فإننا نحافظ عليها عن طريق تجاوزها بقدر ما؛ فنحن مسئولون عن الطريقة التي نحافظ بها على هذه السمات. وحسب عبارة سارتر الدرامية: «نحن محكوم علينا بالحرية.»
لكن بصفة عامة، لو سعى الناس غالبا إلى أمان التطابق مع أدوارهم في الحياة أو مع ما يتوقعه الآخرون منهم، على الرغم من أن القلق الناجم عن حريتهم المكبوتة لا يمكن إخماده، فإن كل شخص يعبر عن «خياره» الوجودي بشكل معين يتطابق مع واقعية موقفه. يؤمن سارتر بأن «الواقع الإنساني» وحدة كاملة، وليس أجزاء مفككة. مرة أخرى، نحن قصة لم تكتب بعد، ولسنا مجموعة منفصلة من الأحداث مرصوصة جنبا إلى جنب وحسب. هذا «الخيار» أو «المشروع» المميز للحياة هو الذي يوحد تجاربنا وتعددية خياراتنا القائمة على هذا «الاختيار».
يستتبع هذا أنه من المفترض أن يكون المرء قادرا على اكتشاف طريقته المميزة للاتفاق مع نفسه عن طريق مراجعة الخيارات الفردية التي تصف حياته حتى هذه المرحلة. يطلق سارتر على تفسير هذه الخيارات التي تكشف «الخيار» الجوهري اسم «التحليل النفسي الوجودي». لا يستعين هذا التحليل النفسي باللاوعي القامع للحرية، لكن سارتر يقر بأن هذا التحليل يحتاج إلى شخص مثل فرويد. وعلى الرغم من أنه يعترف بإمكانية «التحول الجذري»؛ حيث «يختار» المرء أن يعيش وجودا قلقا ناجما عن حرية صادقة دون السعي إلى التطابق مع الذات، فإن هذه التغيرات الجوهرية في اتجاه الحياة نادرة.
ومع هذا فسواء كان استثنائيا أم لا، فإن خلق الصدق - مثل ذلك الذي وعد به سارتر في إحدى حواشي كتاب «الوجود والعدم» - أمر ممكن. وأي شخص يسعى إلى تفاصيله، من منظور سارتر، يستطيع قراءة كتابه المنشور بعد وفاته «مذكرة في فلسفة الأخلاق»؛ ففيه سيجد سارتر يعبر عن فرضيات، ويشير إلى رؤى، ويحدد عناصر فلسفة أخلاقية لم يصغها ككل. وهذا اختلاف شاسع عن صورة الوجودي التقليدي الذي جسد في كتاب «الوجود والعدم». أهذه إشارة إلى تحول جذري؟ كلا، ليست كذلك، لكنها تقدم نظرة على الجانب الإيجابي للأخلاقيات الوجودية التي ستنشأ بمجرد تفكيك «المجتمع المتسم بالجفاء» الموصوف وصفا فينومينولوجيا في الكتاب الأول.
يتمثل المنظور الوجودي للإنسان، الذي كثيرا ما يعبر عنه دراميا حسب الصورة الخيالية التي يوحي بها الموضوع، في أن الاحتمالية تتخلله؛ احتمالية كتلك التي اختبرها روكوينتين في «الغثيان». ومثل رؤية هايدجر في مواجهة فناء الذات أو رؤية نيتشه عن «الأرواح الحرة» التي ترحب في شجاعة بالتكرار اللانهائي للماضي، فإن الفرد الصادق، في نظر سارتر، هو من يعتنق هذه الاحتمالية ويعيشها بالكامل. (7) أخلاقيات الصدق
غالبا ما ينظر إلى الصدق باعتباره أداة أخلاقية لحفظ التوازن تساعد المرء على البقاء في حالة سقوط أخلاقي نيتشوية (نسبة لنيتشه). لو كان الشخص الصادق «مبدعا» من الناحية الأخلاقية وتجاوز المنارة الأخيرة للأمان الأخلاقي، ولو عطل الفاعل - مثل شخصية إبراهيم لكيركجارد، أو الروح الحرة لنيتشه - القواعد الأخلاقية التقليدية باستعانته بالقواعد العالمية بناء على القول السائد «ماذا لو فعل الجميع هذا؟» من أجل ما هو فريد وغير مسبوق وموقفي، فلأي معيار إذن يحتكم المرء كي يثبت الادعاء بأنه يلعب اللعبة الأخلاقية من الأساس؟ سيبدو أن الإبداع الأخلاقي المزعوم مجرد غطاء للعدمية، أو على الأقل قناع للانتهازية البحتة. ومع هذا فلقد ذكرنا أن الوجوديين يضعون الاعتبارات الأخلاقية في أعلى مرتبة. فأي نوع من الأخلاق تراهم يقترحونه؟
لقد أشير إلى أن ما يعرضه الوجوديون علينا على المدى البعيد هو «أسلوب» أخلاقي أكثر منه محتوى أخلاقيا. قد ينصحوننا بالكيفية التي نعيش بها ، لكنهم - مثلما تصر دي بوفوار - لا يعرضون علينا وصفات أخلاقية. وهذا ليس ادعاء غير مبرر. لقد شدد نيتشه بالتأكيد على أهمية الأسلوب مقارنة بالجوهر، الذي اعتبره ميتافيزيقا فاسدة، وهو ينصح القادرين على تنفيذ هذه النصيحة بأن يصنعوا من حياتهم تحفة فنية. وشبه سارتر الخيار الأخلاقي بعملية تصميم عمل فني من حيث إن الفن والخيار الأخلاقي لا يخضعان للقواعد الصارمة. لكن على عكس نيتشه ومثل كيركجارد، أضفى سارتر على الأحكام الأخلاقية صبغة «عالمية». تعلق دي بوفوار قائلة: «إن أخلاقيات الغموض ترفض إنكار الأمر البديهي القائل إن الموجودات المنفصلة يمكن أن تكون - في الوقت نفسه - متصلة بعضها ببعض، وإن حرياتها المستقلة يمكن أن تصوغ قوانين تصلح للجميع.» في واقع الأمر، تواصل دي بوفوار تشديدها على «أهمية هذه الغاية المطلقة والعالمية التي تنطوي عليها الحرية نفسها».
تشكل الحرية القيمة المطلقة للوجوديين تماما مثلما أن الصدق هو فضيلتهم الأساسية. لكن، كما تشير دي بوفوار، ليست هذه حرية فاترة جوفاء (حيث «كل شيء مباح»)، لكنها أيضا ليست «الحرية» الخاضعة ل «الإنسان الجاد» المقيد بالقوانين الذي يحجب حريته انصياعا لإملاءات المجتمع. ومثل نيتشه، فهي تجد جذور العدمية مترسخة في فشل روح الجدية هذه. فعندما يرفض الناس التصنيفات الأخلاقية الصارمة التي تتسم بها التقاليد الدينية أو الفلسفية، ينتهي الحال بهم رافضين أي قيم مطلقة من الأساس، وهو موقف يسمى ب «العدمية». لكن على العكس من ذلك، أولئك الذين يشعرون بسعادة الوجود وينعمون بنفحاتها (أي: أولئك الذين يعتنقون احتماليتهم في سعادة)، فإنها تقترح أنهم سيصمدون أمام عاصفة العدمية التي أثارها نيتشه ب «موت الإله». بعبارة أخرى: فإن «محتوى» الخيار الوجودي هو الحرية نفسها التي تتجسد باعتناق احتماليتها المطلقة، أي فقدانها تطابق الذات. مرة أخرى، أيا ما كنت، فأنا لا أكونه؛ أي إنني لست مقيدا به وأحاول تجاوزه واعيا.
لكن ألا ينقلنا هذا - في نهاية المطاف - إلى أسلوب مجرد في الحياة؟ هل يهم ما «يعتنقه» المرء بحرية ما دام يعتنق شيئا من الأساس؟ إذا كان معنى «الصدق» هو اعتناق المرء لاحتماليته بسعادة، ألا يمكن أن يكون المرء صادقا في معاداة السامية أو النازية؟ ترى دي بوفوار أن المتطلب الحقيقي لحرية المرء هو ملاحقتها ما يسمى ب «المستقبل المفتوح» عن طريق السعي إلى تجاوز نفسها من خلال حريات الآخرين. بعبارة أخرى: تتعزز حريتي، ولا تنتقص، عندما أعمل على بسط حريات الآخرين. هذا هو تفسيرها لزعم سارتر - المذكور في
الفصل الثالث - بأن حريتي الملموسة تتطلب أنني، عند الاختيار، يجب أن أختار حريات الآخرين. و«الحرية» بهذا المعنى الملموس تعني السعي إلى «المستقبل المفتوح» للآخرين، أي بلوغ أقصى إمكانياتهم إلى جانب إمكانياتي. بناء على هذا، لن يكون من «الصدق» ترك الآخرين في عبودية أو في حالة قمع، ناهيك عن استعبادهم بنفسك؛ لأن الحرية - كما تشرح دي بوفوار - تعزز نفسها بصدق فقط حين تكون حركة غير محدودة تعمل من خلال حريات الآخرين.
وهكذا، مع أن للصدق الوجودي «محتوى» بالفعل؛ ألا وهو تعزيز حرية المرء والآخرين، فلا يزال من الواجب تحليل معنى هذه الحرية. وقد أصبحت هذه مهمة الوجوديين وهم يواجهون مشكلة الحرية الملموسة والأخلاق الاجتماعية.
الفصل الخامس
فردية مكبوتة؟ الوجودية والفكر الاجتماعي
في التاريخ أيضا، يسبق الوجود الجوهر.
جان بول سارتر
قد يكون من المخزي أن يكون المرء سعيدا بمفرده.
ألبير كامو، «الطاعون»
عندما دخل سارتر قاعة المحاضرات في إحدى ليالي شهر أكتوبر من عام 1945، كان يواجه الاعتقاد الشائع بأن فلسفته حديثة الانتشار هي ببساطة نسخة جديدة من الفردية البرجوازية، وأنها لا تراعي على الإطلاق الصداقة الإنسانية التي هزمت الفاشية لتوها عبر أرجاء القارة. تأكد هذا الشك من خلال السطر قبل الأخير، كثير الاقتباس، «الجحيم هو الآخرون» الوارد في مسرحيته «لا مخرج» التي افتتحت في العام السابق. بدت ثورة إبداع سارتر التي أعقبت تحرير باريس وكأنها تعزز النرجسية المضمرة لخلق الصدق ونقده لخداع الذات، اللذين لم يجابه أي منهما قضايا اجتماعية ملحة. كانت هذه يقينا وجهة نظر كل من نقاده الشيوعيين والكاثوليكيين الذين أجاد الحديث عنهم في هذه المحاضرة، وكلاهما أيد نظريات صريحة - وإن كانت غير متوافقة - عن العدالة الاجتماعية وبرامج تطبيقها. ومع هذا، فما كنا نصفه بأنه منهج وجودي - على الرغم من تشديده على التحول إلى الفردية - كان ينتقد انتقادا رسميا المجتمع البرجوازي بسبب ولعه بالتطابق والرفاهية المادية، وسعيه إلى الأمان وتجنبه المخاطر، وتحفظه اللامحدود. لكن هل يتجسد هذا في نظرية اجتماعية كاملة الأركان، خصوصا لو كانت تعترف بوجود الاستغلال والقمع وتؤيد القضاء عليهما؟ سأجيب عن طريق تحليل الإجابات الخاصة بكل من الفلاسفة البارزين المنتمين إلى هذا المنهج. (1) رأي كيركجارد ونيتشه في الثقافة البرجوازية
أشرت سابقا إلى أن كيركجارد عرف بمعاداته للمؤسسات الهيكلية الثلاث في المجتمع الدانماركي في عصره؛ الفلسفة الهيجلية وكنيسة الدولة والصحف المطبوعة. استبدلت الفلسفة الهيجلية، في نظره، المفهوم المجرد بالحياة. وقد اتفق مع المدرسة الفكرية السائدة آنذاك في الدانمارك في أن الحياة يمكن فهمها «من الناحية التاريخية» من حيث إن النظام الهيجلي يمكن أن يكشف عن حتمية الأحداث بعد وقوعها. لكنه أصر على أن هذا الافتراض لا يصح أمام احتمالات الحياة التي نعيشها.
صحيح تماما - كما يقول الفلاسفة - أن الحياة يجب أن نفهمها في ضوء الماضي. لكنهم نسوا الافتراض الآخر بأننا يجب أن نعيشها في ضوء المستقبل. («المذكرات»، 1843)
يمكن تنظيم الأفكار، أما الحياة فلا. إذا حاولت أن تعيش حياتك بالاعتماد على الفلسفة الهيجلية المجردة - حسبما يتهكم كيركجارد - فسيكون الأمر أشبه بتسليم ثيابك المتسخة إلى مغسلة مكتوب عليها «انتهى الغسيل» واكتشاف أن اللافتة للبيع!
لكن الكنيسة اللوثرية الرسمية للدولة لم تكن أفضل حالا؛ فعندما تولى كيركجارد مشروع إعادة تقديم «المسيحية» الإنجيلية إلى «العالم المسيحي»، وصف كيركجارد العالم المسيحي بالحضارة التي روجت للرضى عن الذات والطمع والقبول الرمزي بالفقراء والمعذبين، مع الاستفادة من تطابقها مع القوى السياسية والاقتصادية السائدة في هذا العصر. وقد نبه إلى أن الدولة توظف ألف مسئول (رجال الدين) ممن، في أثناء مزاولتهم للمسيحية، لا يهتمون في الواقع إلا بمدخولاتهم، ويمنعون الناس بالفعل من معرفة المعنى الحقيقي للمسيحية. صحيح أن أخاه كان قسا، وسورين نفسه فكر في الالتحاق بالدير، إلا أن تدينه الخاص وضعه في وضع حرج مع الكنيسة الرسمية.
وكانت هناك الصحف المطبوعة التي اعتبرها كيركجارد مؤسسة مخلة بالأخلاق؛ فهي تنتقص من قيمة البحث الجريء عن الحقيقة وتعمل بدلا من ذلك على تشكيل الرأي العام، أي وجهة نظر الكثرة الذين لا يريدون المخاطرة باحتمالية الإقصاء عن الأغلبية نتيجة فكرهم المستقل. وقد دفع ثمن هذه الآراء غاليا من خلال السخرية التي عاناها على يد دورية أسبوعية ساخرة بعينها، وهي «القرصان»؛ فقد صورته رسومها الكاريكاتيرية على أنه أضحوكة كوبنهاجن، حتى إنه صار يتردد في الخروج في جولات المشي المحببة إليه في أرجاء المدينة.
أما عن الطبقة البرجوازية بصورة عامة، فقد كتب أن الأخلاق، بالنسبة إليهم، تحتل الصدارة، وهي أهم من الذكاء، لكنهم لم يشعروا بالحماس قط تجاه العظماء الموهوبين، حتى ولو بمظهر ادعائي استثنائي. إن «أخلاقياتهم» هي خلاصة موجزة للشعارات المتنوعة التي يرفعها رجال الشرطة؛ بمعنى أن أهم شيء هو أن يكونوا أعضاء نافعين في المجتمع، وأن يبثوا آراءهم خلال اللقاءات المسائية، وهم لا يشعرون أبدا بهذا الحنين إلى شيء مجهول، شيء بعيد، ولا يشعرون على الإطلاق بخطورة كونهم نكرات. («المذكرات»، 14 يوليو 1837).
كان من الممكن أن يعبر نيتشه عن كل هذه الآراء؛ فقد اتسم كلاهما بالصراحة الفجة والقدرة على رصد الجبن والنفاق. وقد استعان كل منهما بالاستعداد السقراطي للتعرض للاضطهاد في سبيل الحق، وكلاهما كتب بذكاء وحيوية.
كما أشرت في
الفصل الثاني ، فكثير مما سبق ذكر تأييدا «للفرد»، وهو ما يبرر سمعة كيركجارد باعتباره ميالا للنخبة وغير سياسي. وعدم ثقته في الثورات وفي عامة الشعب الذين يشنونها هو أمر مفهوم تماما. وإذا كانت سخريته الجافة لم تستثن الدولة الملكية أو الأرستقراطيين، فيجب ألا ننظر إلى هذا على أنه إشارة بالنزوع إلى المساواة. بل على الأصح، دافع كيركجارد عن نوع من الرجعية تلجأ إليه غالبا التوجهات المتشككة. وبهذا المعنى، تمثل «فرديته» نقطة الانطلاق لمحاولتنا تعقب مسار الضمير الاجتماعي في المنهج الوجودي.
لكن قبل الانتقال إلى نيتشه - وهو الشخصية الثانية في هذه المرحلة المبدئية - يجب أن نذكر أن مسيحية كيركجارد - وهي النموذج عينه الذي هاجم من خلاله «العالم المسيحي» - كانت تراعي بوضوح المأزق الذي يعانيه الفقراء والمقموعون. كان نقده لسياسة الكنسية والموظفين الكنسيين قائما على «القيم الإنجيلية». وسواء أصاب أم أخطأ، فقد ركز نقده لكنيسة الدولة على أنها تهدم هذه القيم عمليا وهي تنادي بها نظريا. لكن طوال سنة مزدهرة بالثورات الأوروبية (1848) - بما في ذلك الثورة التي وقعت قبالة نافذة مكتبه وهو ينقح تجربة كتابه الجديد - بدا كيركجارد مهموما أكثر بالحياة الداخلية؛ حيث ركز على تعزيز السلوك الرحيم تجاه المحتاجين ومنهم، أكثر من تركيزه على الممارسات الاجتماعية الظالمة التي أشعلت جذوة السلوك الثوري. بالطبع تعتبر مقارنته بين زمن الثورة باعتباره مفعما بشكل أساسي بالعواطف المشحونة وبين الزمن الحاضر باعتباره «بشكل أساسي زمنا عاقلا وتأمليا وخاويا من العاطفة، يتفجر بالحماس السطحي قصير العمر ويتمرغ في التراخي بكل احتراز»؛ نقدا نفسيا اجتماعيا. وفي حين جعلته فصاحته يهاجم في ضراوة - مثل تعليقه بأنه «على العكس من زمن الثورة، الذي كان فعلا، فإن الزمن الحاضر هو زمن الدعاية، زمن التصريحات المتنوعة: لا شيء يحدث لكن مع هذا هناك دعاية فورية» - فإن ذكاءه المتشكك قيده؛ ولذلك يصر على أن فصلا في كتابه «أعمال حب» (1847) الذي يتحدث عن «الرحمة» قد كتب بهدف معارضة الشيوعية مباشرة. ويبدو أن التغيير السلوكي بدلا من الانقلاب الاجتماعي هو حله المفضل؛ أي التحول الذاتي بدلا من الثورة السياسية.
كان نيتشه بالمثل لا يثق في «القطيع»، وازدراؤه للديمقراطية السياسية لا يقل عن ازدراء كيركجارد لها. نادرا ما هدأت أفكاره أو - حسبما كان يدعي - تشتتت بفعل القيم الإنجيلية، التي كان يغيرها بانتظام في أكثر من مناسبة. فالشفقة، إذا انتقينا مرادفا قريبا من «رحمة» كيركجارد مثلا، اعتبر أنها تحط من قدر المفعول وغير جديرة بالفاعل. في واقع الأمر، يبدو أن نيتشه يشارك كيركجارد قلقه حيال توجهات الأفراد أو أرواحهم، بدلا من القلق حيال الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية التي يعملون في ظلها. ومع أن «مثله الأعلى» هو الإغريق أو - مثل جوته - الشخصيات متعمقة الثقافة، في حين كان أبطال كيركجارد من وحي الإنجيل بشكل أساسي، فإن كليهما لم يتناول موضوع المسئولية الاجتماعية أو غيرها من الموضوعات الرئيسية في الفلسفة السياسية إلا بشكل عابر. ومثل كيركجارد، كان نيتشه مهتما بتكوين الأفراد أكثر من اهتمامه بتغيير المجتمع؛ وبناء عليه، تعين على المنهج الوجودي أن يواجه ما عرف بعد ذلك في القرن التاسع عشر بالقضية الاجتماعية؛ كيفية التوزيع العادل للثروة المتنامية وخدمات المجتمعات الصناعية في مواجهة صعود طبقة البروليتاريا. (2) هايدجر وياسبرز: الوجود الاجتماعي وفخ الاشتراكية القومية
لو كان نيتشه منزعجا من سحابة العدمية السوداء التي رآها تغلف المجتمع الأوروبي مع إدراكه «موت الإله»، فقد كان هايدجر وغيره من المفكرين الألمان الذين ينتمون إلى نفس جيله أكثر قلقا حيال نهوض البلشفية والخطر الذي يمثله أنصارها على الحضارة الغربية. ولاح خطر مماثل من جانب المادية الشديدة واليوتوبيا التكنولوجية للرأسمالية الأنجلوأمريكية، وإن كانت إشاراتها أصعب في الملاحظة. لقد كانت الثقافة الألمانية - باعتبارها وريثا واضحا للحضارة اليونانية القديمة (وهي وجهة نظر اقترحها في ألمانيا فقهاء اللغة والأثريون الكلاسيكيون البارزون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) - تتعرض للهجوم من اتجاهين وعلى مستويين فيما وصفه هايدجر في إحدى محاضراته ب «كماشة كبيرة، تضغطها بين روسيا من جانب وأمريكا من الجانب الآخر».
على الرغم من القوة المتفردة النابعة من قبول المرء بثبات لوجوده الذاتي المتجه نحو الموت، فقد تحدث هايدجر عن وجودنا الاجتماعي كبنية أساسية للإنسان؛ فالبشر كائنات اجتماعية بالفطرة؛ فنحن نولد في الأصل (أو بلغة الوقتية الوجدانية، يستخدم هايدجر مصطلح «نلقى») في عالم حضاري يتطابق فيه وجودنا الاجتماعي مع ما يفعله «أي شخص»، ونشكل ما يسميه علماء الاجتماع ب «الذات الاجتماعية»، وما يسميه هايدجر ب «الذات الأخرى» غير الصادقة، كتلك التي تمتع بها إيڤان إيليتش، الذي استعبده الرأي العام. من منظور تاريخي، فإن هذا المجتمع الحضاري هو ما يسميه هايدجر ب «التقاليد»، أو بمنظور لغوي ذلك الذي «نقل» إلينا واستقبلناه كجزء من موروثنا الشعبي. وتساهم هذه التقاليد في تشكيلنا كأفراد. وهو يتحدث أحيانا عن «القدر» في هذا السياق، دون أن يقصد القدر الأعمى وإنما يقصد الحدود الموضوعية والإمكانيات التي تنبثق من ماضينا الجمعي. من المنظور الوجودي، يمكن استغلال هذه الإمكانيات كفرصة للاختيار الصادق أو غير الصادق.
لكن ثمة لحظات تاريخية تؤدي إلى ظهور وجود اجتماعي صادق، وهايدجر اعتبر (أو أخطأ في اعتبار) الثورة الاشتراكية القومية (أي النازية) واحدة من هذه اللحظات. ويلخص أحد كتاب التراجم - وأعتبره شخصا موضوعيا - هذه المسألة الخلافية قائلا:
ما زال هناك قدر كبير من عدم الارتياح حتى يومنا هذا تجاه مشاركة هايدجر السياسية. من المنظور الفلسفي، فقد أصبح لفترة أحد الثائرين المنتمين إلى الاشتراكية القومية، لكن فلسفته ساعدته أيضا على تحرير نفسه من المشهد السياسي. لقد تعلم درسا مما فعله، فركز تفكيره فيما بعد على مشكلة إغواء الروح من جانب إرادة القوة.
على الرغم من أن الوجوديين يميلون إلى عدم الانصياع للمجتمع، وهايدجر - كما رأينا - شدد على القوة المتفردة النابعة من قبول المرء بثبات أن يعيش «وجوده» المتجه نحو الموت، فقد ثبت أن مفهوم الوجود الاجتماعي «الصادق» محفوف بالمخاطر مثلما هو مغر. بدا أن هايدجر قد أغرته القوة الهائلة للحركة النازية والفرصة التي بدت أنها تعرضها لإصلاح التعليم الذي ربما يلعب فيه دورا مهما. وما قاله الفيلسوف جورجين هابرماس (1929- ) عن هايدجر كثيرا ما انطبق على سارتر في هذا الشأن: أنهما بجعل الفرد النقطة المحورية لفلسفاتهما تجاهلا الجانب الاجتماعي الذي تتسم به الحياة الإنسانية. ومع أن هذا النقد يعتبر تقييما غير دقيق لكل من هايدجر وسارتر، فإنه يشدد على حقيقة أن مسئولية إثبات وجود فلسفة اجتماعية ملائمة تقع على أنصار فكرة الفرد الصادق.
على الرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية بالخزي لهايدجر، فقد حاز كارل ياسبرز على الاحترام لثباته على أخلاقياته. فمع أن ياسبرز آمن بدوره بأن المهمة الحضارية لألمانيا هي تقديم خيار ثالث إلى العالم يجمع ما بين «السوط الروسي والاتفاق الأنجلوساكسوني»، فقد عبر عن هذا الرأي عقب الحرب العالمية الأولى، وليس في ظل انتصار النازية، على العكس من هايدجر. لقد صمد في وجه الاحتلال النازي على حساب أستاذيته في الجامعة، وفي نهاية الحرب ألقى عددا من المحاضرات نشرت بعنوان «مسألة الذنب الألماني» (1947). وفيها فرق بين أنواع الذنب والمسئولية ليوضح كيف يجب أن يشرح الألمان موقفهم الحالي في أعقاب هذه الكارثة. وقد ميز بين أربعة أنواع من الذنب: الذنب الإجرامي (انتهاك القوانين غير القابلة للالتباس)، والذنب السياسي (درجة الانصياع السياسي في أفعال النظام النازي)، والذنب الأخلاقي (ضمير شخصي يتشكل بالاتفاق مع مجتمع المرء الأخلاقي)، والذنب الميتافيزيقي (القائم على تضامن جميع البشر باعتبارهم ببساطة بشرا؛ مما يسفر عن حالة من المسئولية المشتركة، خصوصا تجاه الممارسات المجحفة التي يعيها المرء ولا يفعل ما بوسعه لمقاومتها). كان هذا المفهوم من المسئولية الجمعية جديدا على الفكر الوجودي، لكن سرعان ما تناول سارتر الموضوع في مجادلاته مع جماعات ومجتمعات متنوعة تتسم بالاستغلال والقمع. وبعد ذلك بسنوات، ستلهم هذه المحاضرات سارتر فيكتب مسرحية «سجناء ألتونا» (1959)، التي - على الرغم من أنها ظاهريا تصور مسئولية الألمان عن الحرب العالمية الثانية - كانت في الحقيقة حكاية رمزية تعبر عن إحساس الفرنسيين بالذنب تجاه قمعهم الثورة الجزائرية التي كانت دائرة في ذلك الوقت.
كانت تجربة الحرب العالمية الثانية وما أعقبها حاسمة في نظر ياسبرز مثلما كانت في نظر سارتر. يتجلى القلق الأخلاقي المستمر للفكر الوجودي في استعانة ياسبرز بالجانب الأخلاقي لتقييد الجانب السياسي. سيرفض «الواقعية» اللاأخلاقية المكيافيللية الفجة التي تدعي بأن الغاية تبرر الوسيلة. وقد أثبتت تجربة ياسبرز مع النازيين هذه النقطة لو أنه عمل على تحليلها. لكن اختراع القنبلة الذرية ضاعف المخاطر باطراد. يعلق ياسبرز - مثل كيركجارد لكن في ظل قدر من التغيير المؤسسي أيضا - أنه ليس كافيا إيجاد مؤسسات جديدة؛ يجب أن نغير أنفسنا، وشخصياتنا، وإراداتنا السياسية الأخلاقية. فما اتسم به الفرد لمدة طويلة بالفعل - وما كان مؤثرا في الجماعات الصغيرة، لكنه بقي غير مؤثر في المجتمع ككل - أصبح الآن وضع الوجود الإنساني المستمر.
قبل ذلك ببضع سنوات، عبر جابرييل مارسيل عن خوف مشابه عندما لاحظ أننا نواجه موقفا غير مسبوق أصبح الانتحار فيه ممكنا على نطاق إنساني واسع. وهو يصر على أنه من المستحيل التفكير مليا في هذا الموقف دون الوعي بأن كلا منا يصبح في كل لحظة تقريبا في حضرة خيار جوهري، وأنه يساهم بما يفكر فيه، وبما يفعله، وبما يكونه، إما بمضاعفة أو - على العكس - بتقليل احتمالية حالات الانتحار عالمية النطاق. لكنه يؤمن بأنه على المستوى الفلسفي فقط يمكن توضيح الطبيعة الجوهرية لهذا الخيار، وهذا ما شرع في عمله. تتطلب الوجودية ضميرا اجتماعيا. لكن إلحاح هذا المطلب يمثل استجابة لما يعتبره واقعا غير مسبوق في تاريخ العالم؛ ألا وهو قدرتنا على إحداث دمار شامل للحضارة التي نعرفها.
من منظور وجودي، لا يقترح ياسبرز قواعد أخلاقية جديدة، على الرغم من اعترافه بأن «صورة» من العمومية يجب أن تظل باقية، ألا وهي «الوجوب» غير المشروط للالتزام الأخلاقي. وبخصوص محتوى هذا الالتزام، فهو يصر على أن «ما» يجب أن أفعله تحديدا لا يمكن استنباطه من صورة الالتزام غير المشروط بعمل شيء. لا شك أنه يجب عمل الخير وتجنب الشر؛ فأنا «يجب» أن أفعل واجبي. لكن ما واجبي في اللحظة الحالية؟ ما الخير الذي يجب أن أسعى إليه في هذا الموقف؟ مثلما عرف ياسبرز من واقع خبرته، يتطلب هذا الاكتشاف/الابتكار شجاعة التضحية من جانب الفاعل الأخلاقي بالإضافة إلى صورة من المنطق تفوق الذكاء. ويحذرنا ياسبرز من أن روح الشعب تصبح مذهبا أخلاقيا عندما تستنزف نفسها بالأوامر والمحظورات. وهنا يظهر دور التزامه التوحيدي؛ فهو يؤكد لنا أن «ما هو خفي في الجانب الأخلاقي هو أكثر من مجرد جانب أخلاقي». إنه «المتسامي»، بل حتى «المقدس»، لكنه ليس دينيا حسب الاستخدام الشائع للكلمة الذي يشير إلى الدين الموحى والسلطة المؤسسية. ومثلما فعل كيركجارد ونيتشه - كل بطريقته - يتركنا ياسبرز معرضين لخطر الإبداع الأخلاقي، لكنه يفعل ذلك في إطار الجانب المتسامي، أو «المطوق» حسب تسميته، الذي يتحدانا لإدراك حريتنا بأسلوب ينطوي على المسئولية المطلقة عن حرية الآخرين . (3) تحدي المجتمع الجماهيري: مارسيل
على الرغم من أن ياسبرز أطلق على فكره اسم «فلسفة الوجود»، يبدو أن جابرييل مارسيل هو من ابتكر مصطلح «الوجودي» ووصف به سارتر. أما تسميته المفضلة لأعماله الخاصة، فهي «السقراطية الحديثة». مثل سقراط، كان مارسيل ناقدا صريحا للمجتمع المعاصر. ومثله، هو مدافع شجاع عن الحق في مواجهة إرادة القوة، أو في هذا السياق، إرادة الحق التي انتقدها نيتشه باعتبارها صورة غير معترف بها من إرادة القوة.
في كتاب نشر عام 1951، يلخص عنوانه نقدا اجتماعيا وجوديا، «الإنسان في مواجهة المجتمع الجماهيري»، يتجاوز مارسيل الازدراء الرومانتيكي الحديث للمجتمع الصناعي وورثته المصطنعين، الذين يرتبط الوجوديون بهم عموما، ليتحدث عن الموضوعات الوجودية النموذجية المتعلقة بالحرية، وخصوصية الإنسان، وأزمة القيم، والصدق الأخلاقي. لكن على يد مارسيل، يأخذ كل موضوع من هذه الموضوعات طابعا اجتماعيا منفتحا يقوم على نقد الاستبداد من جانب والمادية من جانب آخر. وفكرته الأساسية هي الصراع بلا هوادة ضد ما سماه «روح التجريد». تتجسد هذه الروح بالضرورة - مثلا - في إعلاننا الحرب واستمرارنا فيها. فسواء كانت مسألة مهاجمة العدو الموصوفة عادة بصفات مهينة، أو إطلاق صواريخ لا يشهد المرء تبعاتها البشرية، فإن المرء يجتنب التجربة الأليمة للواقع الملموس الناتج عن تصرفاته. تتضح هذه النقطة بقوة في الفيلم الرافض للعنف «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية»، حيث يتجسد تجريد قتال العدو في مواجهة الواقع الملموس لحرب الخنادق خلال الحرب العالمية الأولى. يعتبر نقد مارسيل لروح التجريد استمرارا لبحثه عن فلسفة ملموسة حازت على اهتمام العديد من الفلاسفة وأرشدت سارتر إلى الفينومينولوجية في ثلاثينيات القرن العشرين.
من منظور سياسي، يجد مارسيل روح التجريد متجسدة في تعصب من يسميهم ب «الجماهير». وكما يشرح، فإن الموقف السياسي الحالي يجعل أعدادا كبيرة من الناس في حالة هوان واغتراب؛ فهم يفتقرون إلى حس تقدير الذات ويشعرون بالاغتراب عن أنفسهم وبعضهم عن بعض. والنتيجة هي أن الجماهير تميل حتما إلى التعصب، والدعاية في هذه الحالة لها نفس التأثير التشنجي الناتج عن الصدمة الكهربائية التي يتعرض لها الإنسان. ويدعي مارسيل أن الفيلسوف يجب أن يعمل للوصول إلى نظام اجتماعي يحرر أكبر عدد ممكن من الناس من هذا الوضع التكتلي.
يعرض مارسيل بعد ذلك وصفا فينومينولوجيا للضمير «المتعصب». فالمجتمع الجماهيري هو نسخة مارسيل من «قطيع» نيتشه. يمكن تدريب أفراده، لكن لا يمكن تثقيفهم. ومع هذا، فعلى عكس نيتشه، يحث مارسيل عن اتخاذ خطوات اجتماعية وسياسية «لإخراج» هذه الكائنات من حالة الهوان والاغتراب. يتسم حله بأنه «شيوعي» أكثر منه «ليبراليا» حسب المصطلحات السائدة اليوم، بمعنى أنه يميل إلى مصلحة الجماعات الوسيطة مثل نظام النقابات المهنية القديم لتخفيف وضبط الميول الاستبدادية للدولة. المصطلح الأكثر أهمية هو «التشارك» الذي، حسب تعريفه، يدل على احترام متبادل بين أعضاء مجموعة ما يتشاركون الهموم والاهتمامات. وهذا لا يختلف عما كان يسميه سارتر في نفس الوقت تقريبا ب «المؤاخاة».
أساس هذا التحرر هو الانتقال من التفكير المجرد إلى الملموس. فالبشر بالأساس يوجدون في موقف من نوع أو آخر، لكن هذا ما تميل الفلسفة الإنسانية التجريدية إلى تجاهله. هذا ما كان يقوله سارتر في محاضرته عن الفلسفة الإنسانية؛ فهو يصر على أننا لو أردنا أن نسعى إلى الحرية سعيا ملموسا بدلا من أن نحلم بها وحسب بصورة تجريدية، فيجب أن نتناول موقف الآخرين الاغترابي. لا يمكن أن نكون أحرارا إلى أن يتحرروا هم أيضا. كانت هذه حجته في محاضرة «هل الوجودية فلسفة إنسانية؟» لكن مثلما قال سارتر عن المعادين للسامية، لا يمكننا أن نتخذ فعلا مباشرا تجاه حرية الآخرين؛ يجب أن نتعامل مع وضعهم، يجب أن نغير «أسس وهياكل» اختيارهم. يتفق مارسيل مع سارتر في أن هذه الأسس والهياكل لا يمكن أن تكون اقتصادية وحسب أو مادية بالضرورة. لكنه ينضم إلى ياسبرز في إصراره على أن القيمة الحقيقية للإنسان تكمن في قدرته على تجاوز وضعه والاتجاه نحو الانفتاح على التسامي. تساعد رعاية هذا الانفتاح في كبح الميول الاستبدادية للدولة الحديثة وتفسح المجال لدوجماتية النظم الأخلاقية. (4) رأي سارتر وكامو في الحرب الجزائرية
يدعي سارتر أن تجربته في التجنيد الإلزامي في الحرب العالمية الثانية أخرجته من فرديته وقادته إلى اكتشاف المجتمع. يتذكر ميرلوبونتي دهشته من غياب سارتر عن الساحة السياسية والتاريخية خلال السنوات التي سبقت الحرب. وفي الأيام الأولى التي أعقبت تحرير فرنسا دخل سارتر عالم السياسة. أولا في السياسة غير الشيوعية للتيار اليساري، لكن مع تأزم الحرب الباردة، شارك الهموم السياسية والاجتماعية لنقاده السابقين، وهم الحزب الشيوعي الفرنسي. ومع أنه لم ينضم أبدا للحزب، فقد نشأت علاقة حب وكراهية بينه وبين الحزب الشيوعي الفرنسي حتى الثورة المجرية (1956) عندما بدأت هذه العلاقة تضعف، ثم انتهت هذه العلاقة الإيجابية تماما مع الاحتلال السوفييتي لبراغ (1962).
كان سارتر في صميمه متمردا سياسيا (أو ما سماه الفرنسيون «اشتراكيا تحرريا») من حيث إنه رأى بأن كل العلاقات يجب أن تكون طوعية ومتساوية. وقد وصف السلطة بأنها «الآخر في داخلنا» وكان يشكك في جميع صورها. لكنه كان أيضا أخلاقيا، بمعنى أن مشاركاته السياسية كانت تحمل دائما بعدا أخلاقيا. وقد قال ميرلوبونتي ذات مرة إنك إذا فرقت بين الأفعال القمعية والهياكل اللاشخصية للاستغلال، فإن سارتر كان يركز دوما على الفعل أكثر من البعد الهيكلي للمشكلة التي يجري تناولها. هنا تكمن المسئولية الأخلاقية. لا يعني هذا أنه تجاهل ما سماه الفيلسوف لوي ألتوسير «السببية الهيكلية»؛ فهو لم يفعل ذلك. لكنه يصر على أن هذه الهياكل الاجتماعية كانت ترسبات لأفعال سابقة وتبقيها الأفعال الحالية؛ لهذا عندما يصف - مثلا - الاستعمار باعتباره «نظاما»، ويقول إن «الدناءة موجودة في النظام»، فإنه يعني أنها هيكل استغلالي يتطلب ويحيا على الممارسات القمعية. بعبارة أخرى: «الدناءة» ليست في النظام كلية. مبدئيا، يجب أن يكون المرء قادرا على اكتشاف الأطراف المسئولة، أي أن يحدد أسماءهم. هذا افتراض وجودي أساسي.
كان «تحديد الأسماء» فيما يتعلق باشتراك فرنسا في قمع الثورة الجزائرية هو ما جعل سارتر يعارض صديقه ألبير كامو. فبما أن كامو ولد في الجزائر لأب فرنسي وأم إسبانية، فقد كان عضوا نشطا في حركة المقاومة خلال الاحتلال النازي. وبصفته محررا في جريدتها السرية «المعركة »، كان مطلوبا من البوليس السري النازي. ونظرا لتلقيه تدريبا متواضعا في الفلسفة، كان بصفة أساسية صحفيا وممثلا. أدى نقد سارتر المتحمس لروايته الأولى «الدخيل» إلى مقابلتهما وصداقتهما أخيرا. وفي واقع الأمر، عرض عليه سارتر دور البطولة في مسرحية «لا مخرج»، الذي فكر فيه كامو لكنه رفضه لاضطراره إلى الاختباء من الاحتلال.
على الرغم من أن كامو كتب مقالات يؤيد بها الشعب العربي في الجزائر، وكان هذا أحد أسباب حاجته إلى الانتقال للحاضرة الفرنسية، فقد فكر أنه يجب عدم حرمان العرب من مزايا المواطنة الفرنسية، مثل منظومتها التعليمية التي مكنت شابا فقيرا مثله من الهروب من الفقر. ورأى الثورة تعبيرا عن توسع القومية العربية بقيادة مصر. بين طرفي النقيض المتمثلين في إبقاء الوضع الراهن أو الثورة الكاملة، نصح كامو بنوع من الفيدرالية. بعبارة أخرى: نصح مؤلف «المتمرد» بحل وسط. أيد سارتر - الذي نادرا ما كان يميل إلى التوسط أو الحلول الوسط، لا سيما في السياسة - الثورة بشدة، حتى إن الجماعات المناهضة للتغيير فجرت قنابل عند مدخل مبناه السكني في مناسبتين مختلفتين. ومع اتجاه سارتر إلى ما سماه لاحقا بفترة «الواقعية اللاأخلاقية»، دعما للثورة حيثما اعتبرها ضرورية، اتجه كامو أكثر فأكثر إلى الجانب الأخلاقي للحراك الاجتماعي والسياسي، معارضا عقوبة الإعدام ومروجا لنوع من رفض العنف قبيل موته المفاجئ في سن السابعة والأربعين.
شكل 5-1: ألبير كامو، والجريدة، والمدينة.
1
ألبير كامو (1913-1960)
ولد في الجزائر لنسب ألزاسي إسباني، ومات أبوه في الحرب العالمية؛ الأولى فعاش فقيرا في كنف أمه الأرملة. في الجزائر، كان ناشطا في مجال المسرح والصحافة قبل الانتقال في عام 1940 إلى باريس، حيث اشترك في حركة المقاومة، وكتب في جريدتها السرية «المعركة». كانت روايته الأولى «الدخيل» إلى جانب مقاله «أسطورة سيزيف» - المنشورين في عام 1942 - سببا في شهرته واهتمام جان بول سارتر به. سرعان ما أصبح مرتبطا بالحركة الوجودية. وقد حاز جائزة نوبل في الأدب عام 1957، ومات في حادث سيارة عام 1960.
كان الهجوم القاسي، الذي تعرض له كتاب كامو «المتمرد» من طرف أحد معارف سارتر المقربين بالمجلة التي أدارها سارتر، هو الذي أنهى هذه الصداقة. كان الانفصال حتميا. فقد كان سارتر يأخذ السياسة بمحمل جاد مقارنة بصداقاته، كما سنرى في حالة ميرلوبونتي أيضا. ومع تحول سياسة سارتر أكثر فأكثر نحو اليسارية، عزل نفسه عن أصدقائه السابقين الذين كان تطورهم السياسي يسير في اتجاه مضاد. وقبيل ثورة الطلاب في عام 1968، كان سارتر مرتبطا بمن عرفوا ب «الماوتسيين» الفرنسيين الذين لا يمتون للصين بأدنى صلة، لكنهم كانوا مرتبطين بأفكار تمردية كلاسيكية مثل «الديمقراطية المباشرة». وقد تمكن سارتر وقتها من أن ينشر مقالا بعنوان «الشيوعيون خائفون من الثورة»، وهو ما يمثل تطرف الوجودية السياسية لدى سارتر.
ساهمت مناقشات حديثة في تلميع صورة كامو في هذه العلاقة، فبدا الطرف الأكثر توازنا والأقل جدلية بين الاثنين. لكن ما من شيء في تاريخ علاقتهما يعكس إنصاف أي من الطرفين أو تسامحه.
شكل 5-2: فرانز (فرنسا) يتحمل المسئولية الكاملة عن ويلات الحرب (في مسرحية سارتر «سجناء ألتونا»).
2 (5) رأي سارتر وميرلوبونتي في الحزب الشيوعي
عقب الحرب مباشرة، انضم موريس ميرلوبونتي إلى سارتر وسيمون دي بوفوار وغيرهما لتأسيس مجلة يسارية لطرح الأفكار والنقد اسمها «الأزمنة الحديثة» (تيمنا باسم فيلم تشارلي تشابلن الذي أحبه سارتر كثيرا)، سرعان ما أصبحت صوت الوجودية الفرنسية وما زالت تحظى بانتشار واسع حتى يومنا هذا. احتوى إصدارها الأول (في خريف عام 1945) على مقدمة كتبها سارتر كانت إعلانا رسميا لبدء انطلاق الحركة في فترة ما بعد الحرب، وقدمت نظرة عامة على المبادئ الفلسفية للمشاركة السياسية التي ستميز حياة سارتر العامة. وبصفة خاصة، شددت على التزامها باستقلالية الفرد، والدفاع عن حقوقه، والحاجة إلى التضامن تحقيقا لهذه الأهداف. «بالتزامه التام وحريته الكاملة، يجب فك أسر هذا الشخص الحر عن طريق توسيع إمكانيات اختياره.» وهو يشرح برنامج مجلتهم قائلا: «باختصار، نيتنا هي العمل على إحراز تغييرات معينة في المجتمع المحيط بنا.» كانت المشكلة في طبيعة «التضامن» اللازم لتحقيق هذه الأهداف.
شكل 5-3: موريس ميرلوبونتي يقرأ ملاحظاته.
3
علقنا على حالة الشد والجذب التي ميزت علاقة سارتر بالحزب الشيوعي الفرنسي. كان ميرلوبونتي العكس تقريبا. ومع أنه لم ينضم للحزب قط، فقد كان مؤيدا للماركسية ونشر كتاب «الفلسفة الإنسانية والإرهاب» (1947) الذي دافع عن ضرورة العنف لبناء دولة شيوعية والحفاظ عليها ضد أعداء يحدقون بها ومصممين على تدميرها. المثير للاهتمام أن هذا كان نوع الحجج الذي سيستخدمه سارتر لاحقا لنفس الغاية. بحلول ذلك الوقت، كان ميرلوبونتي قد انفصل عن سارتر وانسحب من المشاركة السياسية النشطة. لكن خلال السنوات الأولى من إصدار «الأزمنة الحديثة»، وجدا نفسيهما متفاهمين. فبينما كتب ميرلوبونتي في عام 1947 أن «الفعل السياسي هو بطبيعته غير طاهر؛ لأنه فعل شخص واحد تجاه شخص آخر، ولأنه فعل جمعي»، كتب سارتر مسرحية بعنوان «أياد قذرة» تتناول نفس القضية في العام التالي.
كانت مناسبة الشقاق بينهما هي الحرب الكورية. فقد نظر ميرلوبونتي إلى التدخل الصيني السوفييتي مثلما نظر سارتر لاحقا إلى التدخل الروسي في المجر وتشيكوسلوفاكيا باعتبارهما أمثلة للإمبريالية السوفييتية. كان كلا الرجلين يناهضها لكن بفارق ستة عشر عاما. على الرغم من أن ميرلوبونتي كان رئيس تحرير القسم السياسي بالمجلة، ففي غيابه ومع معرفة رأيه عن الأمر، نشر سارتر مقالا ينتقد التدخل الأمريكي في الصراع الكوري. استقال ميرلوبونتي كرئيس للتحرير واستمر في رفضه للماركسية السوفييتية في كتابه «مغامرات الجدلي» (1955)، الذي احتوى على مقالة نقدية لاذعة عن سياسة سارتر بعنوان «سارتر والبلشفية المتطرفة». استكمالا للقصة، ردت سيمون دي بوفوار في نفس العام تقريبا بمقال يحمل عنوان «ميرلوبونتي والسارترية الزائفة». وهكذا وقع شقاق آخر. عناوين المقالات تدل على ذلك. ومع هذا، فما كان يمكن اعتباره اختصاما عائليا، حيث كان يشار إلى بطانة سارتر غالبا ب «العائلة»، كان في حقيقة الأمر تجسيدا دراميا للحرب الباردة المندلعة على مسرح الأدب الفرنسي. كانت الشخصيات مشكلة للرأي وانتشرت خلافاتهم عبر وسائل الإعلام. من منظور الضمير الاجتماعي، كانت الوجودية قد نضجت، ومتاعبها المتزايدة كانت تتجسد في الروايات والمسرحيات وكذلك الصحف.
موريس ميرلوبونتي (1908-1961)
مثل كامو وسارتر، مات أبوه وهو طفل صغير وربته أمه. كان زميل سيمون دي بوفوار في الدراسة وأصغر من سارتر بعامين في «مدرسة الأساتذة العليا ». كانت دراساته الأولى في علم النفس التجريبي، خصوصا الجشطالي. ظهر عمله الأهم «فينومينولوجيا الإدراك» في عام 1945. التحق بجامعة لوفان في بلجيكا ليدرس مخطوطات إدموند هوسرل غير المنشورة التي أثرت تأثيرا مهما في فكره، مثلما أثرت فيه أعمال هايدجر فيما بعد. أسس مع سارتر ودي بوفوار وآخرين مجلة «الأزمنة الحديثة» الطليعية. ومات فجأة على مكتبه وهو في الثالثة والخمسين من عمره. (6) سيمون دي بوفوار والحركة النسائية الوجودية
عندما نشرت سيمون دي بوفوار عملها الفذ «الجنس الثاني» (1949)، كانت قد حققت بالفعل شهرة واسعة. فقد كتبت عدة مقالات، منها «أخلاقيات الغموض»، وروايتين، ومسرحية، وكانت من بين مؤسسي مجلة «الأزمنة الحديثة». لكن هذا العمل المكون من جزأين كان إنجازها الأهم. وربما يبقى النص الفلسفي الأهم فيما سيسمى لاحقا بالحركة «النسائية».
شكل 5-4: سيمون دي بوفوار، دائما تعمل.
4
سيمون دي بوفوار (1908-1986)
مثل سارتر، ولدت وماتت في باريس. ومثله أيضا التحقت ب «مدرسة الأساتذة العليا» المرموقة التي تخرج فيها معظم مفكري فرنسا البارزين. درست في المدارس الثانوية حول فرنسا لكنها لم تدرس بالجامعة قط. تعتبر واحدة من أشهر نساء عصرها، وكانت أيضا من أكثرهن شعبية. من بين العديد من مسرحياتها ورواياتها ومقالاتها الفلسفية ومذكراتها متعددة الأجزاء، فإن العمل الذي عزز شهرتها العالمية وكان بمنزلة نص مؤسس للحركة النسائية هو كتابها «الجنس الثاني» (1949). مع أنها وسارتر لم يتزوجا قط، فقد بقيا شريكين معظم حياتهما الراشدة.
كان العماد الفلسفي للكتاب هو الفكرة الوجودية القائلة إن الواقع الإنساني موجود «في الموقف» وأن هذا الموقف أساسا غامض وغير ثابت. لكننا رأينا أنها سبقت سارتر في دراستها للبعد الاجتماعي لموقفنا. يطور كتاب «الجنس الثاني» مفهوم «الموقف» عن طريق التشديد على الدور الذي يلعبه نوع الفرد وبناؤه الاجتماعي. وقد كتبت في أشهر جمل الكتاب قائلة: «لا يولد المرء امرأة، بل يصبح كذلك.» في واقع الأمر، الجنس ليس مرادفا للنوع. فالكلمة الأولى حقيقة بيولوجية، في حين أن الكلمة الثانية بناء اجتماعي. وقد خصصت جزءا كبيرا من دراستها للنشأة التاريخية ل «المرأة» والدور الثانوي المخصص للأنثى في المجتمعات «الذكورية» على مدار التاريخ. وسؤالها الأساسي هو «كيف أصبحت المرأة «نوعا آخر» في الجنس البشري؟ كيف أصبح جنسها هو الجنس «الثاني»؟»
من بين المغالطات التي دحضت مغالطة «الأنثى الخالدة»، التي عبر عنها جوته على نحو معروف في مسرحيته «فاوست»، لكن، في حقيقة الأمر، فإن المفهوم الممتد عبر قرون طويلة عن جوهر الأنثى الخالدة، الذي يتجلى كنموذج للسلبية والنقاء عسير التحقيق، هو في تضاد مع الجوهر الذكوري الضمني كنموذج للنشاط والذاتية. تنادي دي بوفوار بأن هذا يقيس النساء بمقياس غير واقعي ويتجاهل السمات الخاصة لموقف كل امرأة. من منطلق وجودي، يعد هذا ادعاء كاذبا؛ لأنه غير ملموس بشكل كاف؛ فهو لا يتطابق مع التجربة المعاشة لكل امرأة على حدة. ولأنها تتفق مع سارتر في «أخلاقيات الغموض» بأنه لا توجد طبيعة بشرية، فهي تصر الآن على أنه لا يوجد جوهر أنثوي أيضا، ولنفس السبب: لأن الوجود يسبق الجوهر، ولا يأتي بعده. وهي تأخذ هذه بمنزلة دعوة للانتقال من الأنطولوجيا إلى علم الاجتماع والسياسة.
لكن أسطورة الأنثى الخالدة تضع عبئا على النساء أيضا بسبب سماتها المتناقضة؛ فهي تصور المرأة على أنها الأم ومصدر الغذاء التي ندين لها بحياتنا والتي تستحق امتناننا الصادق، وأيضا على أنها مصدر فنائنا (حواء في جنة عدن بالكتاب المقدس)؛ وبالتالي تستحق كراهيتنا ولومنا. «تلخص المرأة الطبيعة كأم وزوجة وفكرة؛ تمتزج هذه الصور الآن وتتصارع الآن، وكل منها يحمل مظهرا مزدوجا». تقصد دي بوفوار أن ما بني اجتماعيا يمكن تفكيكه اجتماعيا (وسياسيا)؛ وبذلك يمكن القضاء على قمع النساء الذي ينتج في كنفه.
حسبما نراه الآن كجزء لا يتجزأ من المنهج الوجودي، فإن تحرير الأفراد ممكن دائما. لكن في ضوء البعد الواعي اجتماعيا للحركة، يدرك المرء أننا لا نستطيع القيام بفعل مباشر تجاه حرية أي من القامع أو المقموع. بدلا من ذلك، يجب أن تستهدف جهودنا تغيير ما ذكرنا أن سارتر يسميه «أسس وهياكل الاختيار». هذا هو معنى نص دي بوفوار الذي يعتبر نداء للتصرف؛ فهو لا يوقظ فقط وعينا تجاه مشكلة اجتماعية، لكنه يصف أيضا وسائل القمع، وبهذه الطريقة يقترح وسائل البدء في تصحيح هذه الهياكل. الأهم من كل ذلك أن كتابها يمثل هجوما على هياكل القوى «الذكورية» ودعوة لضعضعتها.
لكن كما سيقول سارتر لاحقا عن الاستعمار، على الرغم من أن الدناءة موجودة في النظام، فإن المرء لا يستطيع تبرئة الأفراد لمجرد تصرفهم «مثل كل شخص آخر». فما قد يبدو متناقضا - أو ببساطة متعارضا - يصبح مفهوما بمجرد أن يدرك المرء الغموض الأساسي الذي يتسم به «الموقف» الإنساني؛ حقيقة أنه يتكون من التسامي الحر لهيكل تكيفي. مرة أخرى، نحن نواجه مساهمة كلا الطرفين في تدمير النظام الذكوري أو إبقائه. وبصفة خاصة، تؤثر ما تسميها دي بوفوار «قوة الظروف» في كتاب يحمل نفس الاسم تأثيرا حقيقيا، مع أنه ليس حاسما، وهذا يجعل اللجوء إلى المجهود الفردي معضلا، كما هو في نظر العديد من الوجوديين. على سبيل المثال: «كيف يبلغ المرء لغة محايدة للنوع؟» هذا ما سنسأله اليوم. وستكون الإجابة الوجودية النموذجية هي «كلمة وراء أخرى». ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه «المؤيد للاسمية» يتجاهل قوة الظروف، أي تأثير العوامل الاجتماعية مثل الرأي العام والتقاليد في تشكيل اللغة. ما إن اكتشف سارتر ودي بوفوار المجتمع، حتى كان عليهما مواجهة ظاهرة السببية الاجتماعية اللائقة، وهي نوع من التأثير الذي يثري فعل الفرد دون صهره في كيان جمعي غير ذاتي. قد يصف المرء هذا وصفا حيا باعتبار أن «الوجودية تتلاقى مع الماركسية وتحاول أن تخلع عليها صفة إنسانية». كانت دي بوفوار تحاول عمل هذا في تناولها لقضية تحرير المرأة. وهذه هي المشكلة التي سيتولى سارتر حلها بصورة عامة عندما يكتب «نقد المنطق الجدلي» في العقد التالي.
تختتم دي بوفوار بحثها المطول برؤية لمجتمع غير مغترب ومتحرر من القمع، آملة أن تتحقق عن طريق التغييرات الاقتصادية الاجتماعية الضرورية، لكنها تتطلب أيضا تعاون الفاعلين الأحرار بعضهم مع بعض:
الأمر رهن بالإنسان كي يؤسس عهد الحرية وسط عالم جبري. ولكي ينال النصر الكامل، من الضروري أن يثبت الرجال والنساء أخويتهم بشكل قاطع، عن طريق اختلافاتهم الطبيعية مثلا.
يشبه هذا الرأي إلى حد ما فكرة «التبادلية الإيجابية» بين الفاعلين الأحرار التي يشير إليها سارتر في «مذكرة في فلسفة الأخلاق»، التي تعود إلى نفس الفترة الزمنية لكنها لم تنشر إلا بعد موته، والتي يسميها «المؤاخاة» في «نقد المنطق الجدلي». (7) الأفراد المترابطون: الوجودية الاجتماعية
يجب أن يكون واضحا أن الوجوديين نادرا ما يكونون مفكرين يسكنون أبراجا عاجية. فقبل أن يتحدث سارتر عن «الالتزام» بكثير، تناول كيركجارد ونيتشه الأمراض الاجتماعية المتفشية في عصرهما، وفي حالة كيركجارد على الأقل، يمكن رصدها وسط مجادلاته المحلية. ومع الاضطرابات اللاحقة التي نتجت عن حربين عالميتين، اتبع الوجوديون «الكلاسيكيون» - كما يطلق عليهم - نصيحة زرادشت وحولوا المشاركة الحتمية إلى خيار وجودي. وحسبما صاغه سارتر باستفزاز، فإن «كل شخص يواجه الحرب التي يستحقها» و«لم نكن أبدا أحرارا بقدر ما كنا تحت الاحتلال». لقد غطت «خياراتهم» النطاق بأكمله؛ بداية من مشاركة هايدجر المشئومة في عالم السياسة ووصولا إلى مخاطرة كامو بحياته في حركة المقاومة.
لكن على الرغم من أن الحركة اعترفت وأتاحت المجال «لقوة الظروف»، فقد فعلت ذلك بأسلوب حافظ على الحرية والمسئولية الفرديتين في المجال الاجتماعي. يعرض سارتر - في مقال «البحث عن منهج» - الادعاء الأنطولوجي الأساسي: هناك أفراد فقط وعلاقات حقيقية فيما بينهم. وفي «نقد المنطق الجدلي»، يشرح فهمه للكيفية التي تستطيع بها الجماعات والمؤسسات الاجتماعية امتلاك سمات تفوق كل فرد على حدة دون صهر حرية ومسئولية هذا الثاني، اللتين يجري إثراؤهما، في حالة النشاط الجماعي، أو تهديدهما، في حالة الكسل المؤسسي، لكن دون تدميرهما تماما أبدا.
تحدث ميرلوبونتي عن التفاؤل الواقعي الذي يتسم به الوضع الوجودي في المجال الاجتماعي عندما بسط شعار سارتر الإنساني ليطال العالم الاجتماعي فقال:
العالم الإنساني هو نظام مفتوح أو غير مكتمل، ونفس الاحتمالية الجوهرية التي تتهدده بالشقاق تنقذه أيضا من حتمية الفوضى وتمنعنا من اليأس منه، وتجعل المرء يتذكر فقط أن آلياتها المتنوعة هي في الحقيقة بشر، وتحاول الحفاظ على علاقة الإنسان بالإنسان وبسطها.
هوامش
الفصل السادس
الوجودية في القرن الحادي والعشرين
البقاء منفتحين على مغامرات التجربة.
موريس ميرلوبونتي
على الرغم من أن «الوجودية» تظل مصطلحا كثير الذكر، وعلى الرغم من أن سارتر يعد - على الأرجح - أشهر فلاسفة القرن العشرين، فغالبا ما يسمع المرء الادعاء بأن هذه الحركة قد اندثرت، وأن موجتين متعاقبتين من الفكر الفرنسي قد حلتا محلها؛ هما البنيوية في ستينيات القرن العشرين، وما بعد البنيوية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وبعدها تبددت قوتها مع موت أبرز رموزها الفلسفية. باعتراف الجميع - باعتبارها ظاهرة انتشرت في الثقافة الغربية الشعبية - بلغت الوجودية أوجها في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة. كان هذا عصر الرقص الوحشي، وموسيقى الجاز في نوادي ليفت بانك المغشية بالدخان، ومسرح العبث، والحرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ أو حسب التعبير الفرنسي، كانت الوجودية ثمرة التحرير. كان من الصعب الحفاظ على قوة هذه اللحظة، ومع هذا بقيت روحها في أعماق المجتمع الغربي؛ فتجلت في عدة حركات انشقاقية في العقود اللاحقة، وربما كانت سببا في اندلاع أحداث مايو 1968.
رفع الجرافيتي المرسوم على الجدران الباريسية خلال ثورة الطلاب عام 1968 شعار «كل القوة للخيال»، وهو ما يجسد التلقائية، والأمل اليوتوبي، وربما العبث المطلق الذي يتسم به هذا الانقلاب الطلابي، والذي كان يوصف أحيانا بأنه ثورة «سارترية». لخص هذا التعليق الفكرة الوجودية القائلة إننا ما دمنا نوجد في الموقف فإننا مخلوقات تعتنق الممكن، فيما سماه سارتر بالتسامي، أو المستقبل إذا تحدثنا من الناحية الزمنية. لقد ذكرت أنه في منظور سارتر يدل «التسامي» بصفة أساسية على نشاط وعينا التخيلي الذي عن طريقه نتجاوز ما نعرفه بالفعل إلى ما يمكن أو يحتمل معرفته. لم ير أحد قط الحصان وحيد القرن، لكن لدينا صورا لما يمكن أن يراه المرء إذا كان هذا المخلوق موجودا في العالم الواقعي. وحسبما كتب سارتر في دراسته عن الروائي والمسرحي جين جينيت: «يمكن نفس القصور الإنسان من تكوين صور ويمنعه من اختلاق كائن.» يعتمد الوعي باعتباره غيابا أو قصورا في الوجود (فيما يسميه «العدم» في كتابه «الوجود والعدم») على الوجود، مثلما تعتمد صورتنا عن الحصان وحيد القرن على ما عرفناه عن الخيول والقرون وما شابه ذلك مما لا يستطيع الوعي أن يختلقه، لكنه حر في تشكيله حسبما يريد. خيالنا الإبداعي هو تعبير عن هذه الحرية التي تميزنا كبشر.
لكن الوعي السارتري يتصف بالالتزام؛ فهو ليس مجرد خيال حر. وعندما تتحول الحرية التي يسعى إليها إلى شيء ملموس، يصبح الالتزام سياسيا أكثر فأكثر، مثلما هي الحال مع الجانب «الخيالي» الذي يعبر عنه. ويشكل تصوره «لمدينة الغايات»، حيث جميع العلاقات متساوية (أي عند مستوى واحد) وغير موضوعية، نموذجا يوجه تفاعلاتنا الاجتماعية. إن العلاقة بين الفنان والجمهور التي يصفها سارتر بأنها قائمة على الانجذاب تجاه الموهبة حيث يتفاعل الأفراد وهم يحترم بعضهم حرية بعض؛ تمثل الآن نموذج التفاعل الاجتماعي الصادق بصفة عامة. ليس معنى هذا أن سارتر يميل إلى الفلسفة الجمالية (إحلال الجميل محل الأخلاقي، والفن محل الفضيلة)، بل هو - في حقيقة الأمر - يكتب عن الحب الصادق والصداقة بلغة مشابهة لتلك التي استخدمها في كتابه «مذكرة في فلسفة الأخلاق» الذي نشر بعد وفاته، وهي رؤية مربكة للوجوديين الذين يلتقون في عطلة نهاية الأسبوع والمعتادين على تحليل الحب (غير الصادق) الذي صور من الناحية السادية/الماسوشية في كتاب «الوجود والعدم».
ربما إذن كانت للوجودية - كظاهرة ثقافية - أيام مجد. ومع هذا، فحتى من منطلق ثقافي، تركت الوجودية آثارها في الثقافات الفرعية المتنوعة التي تلتها، وفي صياغة مصطلحات القلق وخداع الذات والالتزام والصدق، وما شابهها من مصطلحات ما زالت تتداخل مع أحاديثنا؛ إلا أنها في هذا الصدد يمكن اعتبارها مرحلة.
لكن كحركة فلسفية، في حدود ما كانت عليه، لعبت الوجودية بصورها المتنوعة دورا رئيسيا في الفلسفة الأوروبية على مدار أكثر من 50 عاما، وقد اندمجت الآن مع الحوار الفلسفي المستمر وتعبر فيه عن الهموم الأخلاقية الدائمة للوضع الإنساني. بعبارة أخرى: ما زالت تدافع عن الحرية الفردية والمسئولية والصدق، في خضم صور متنوعة من الجبرية والانصياع وخداع الذات واليوتوبيا التكنولوجية، وما شابهها من مصطلحات شديدة الانتشار في عصرنا. وهي عادة ما تفعل ذلك بأسلوب خيالي يوظف الفن والعبرة ليقدم بشكل ملموس مبادئ تجريدية كانت ستخاطر في ظل ظروف أخرى بأن تكون أمورا أكاديمية في غير محلها أو يكون الإعجاب بها من بعيد باعتبارها أمورا فكرية تثير الفضول. هذا هو نوع الفلسفة الملموسة الذي دفع سارتر إلى أن «يشحب من فرط الانفعال» - بحسب وصف دي بوفوار - عندما طرح عليهما صديقهما السابق ريموند آرون (1905-1983) احتمالية إعطاء وصف فينومينولوجي لكأس الكوكتيل أمامهما في مقهى باريسي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين.
بالأمثلة، دعوني أناقش أربعة جوانب في الجدل الفلسفي الدائر حاليا، عبر عدة موضوعات مرشحة محتملة، قدم فيها الوجوديون بالفعل أو أوشكوا على تقديم إسهامات مهمة. على الرغم من أن إشارتي للموضوعات التالية ليست إلا على سبيل المثال ونادرا ما يكون شرحها كاملا، فإنها تدل على العلاقة المستمرة بين المؤلفين المذكورين في هذا الكتاب وبين معاصرينا الذين يسعون إلى توجيه حياتهم بأسلوب إنساني. فما قد يطلق عليه «المنهج» الوجودي يقدم الفلسفة كأسلوب حياة وليس كلعبة منزلية وحسب. فيما يلي سنرى كيف تشجع الوجودية على العودة إلى التجربة من «التحول اللغوي» للفلسفة الأنجلوأمريكية دون إسقاط الجوانب الإيجابية للمصطلح الثاني من الاعتبار، والدفاع عن الفعل الإنساني ضد سيطرة التحليلات البنيوية المجردة، وفي نفس الوقت احترام دور الهياكل البنيوية في علاقاتنا الاجتماعية، والاستفاضة في ثراء التفسير باعتباره أساسيا للوجود الإنساني بقدر ما هو مكمل للتفسيرات العشوائية في العلوم والحياة العادية، وكفلسفة للمسئولية التي تتوافق مع تجربتنا الأخلاقية الملموسة. (1) التجربة واللغة
غالبا ما نظر إلى «التحول اللغوي» في الفلسفة الأنجلوأمريكية بعيدا عن التجربة والأفكار وأنظمة الفكر، ونحو تحليل المفاهيم واللغة العادية، باعتباره النقلة التي فصلت الفلاسفة المعروفين ب «التحليليين» عن نظرائهم «الأوروبيين». في واقع الأمر، اتخذت الفلسفة الوجودية تحولها اللغوي الخاص، متأثرة من الجانب الفرنسي بكتابات عالم اللغويات السويسري فرديناند دي سوسور (1857-1913) التي نشرت بعد وفاته، أكثر من تأثرها بكتابات برتراند راسل (1872-1970) أو لودفيج فيتجينشتاين (1889-1951). أما من الجانب الألماني، فقد كانت هذه النقلة نحو اللغة أكثر وضوحا.
فلننظر بعين الاعتبار - مثلا - إلى الكتابات اللاحقة لهايدجر؛ فمع أنه لا يؤمن بعلم اللغة السوسوري، فقد تحدث عن اللغة باعتبارها بيت الكينونة؛ وبناء على ذلك وظف المجادلات المتعلقة ب «فقه اللغة» لفك شفرة استخداماتنا العادية والكشف عن الكينونة المتخفية فيها. كان هذا ما يفعله حتى في كتاباته «الوجودية» الأولى. تأمل تحليله لكلمة «الوجود» التي أرجعها إلى أصولها اللاتينية المكونة من شقين، وهما «البروز» و«خارجا»، بمعنى أننا يمكننا تفسير «الوجود» على أنه «البروز خارجا» من بين الزحام، من الحياة اليومية العادية، حتى من أنفسنا (حسب تفسير سارتر). تذكر ادعاء سارتر بأننا «نتجاوز» أنفسنا، في إشارة منه إلى وعينا الذي يتجاوز دائما الحاضر والواقعي إلى المستقبل والممكن. لقد رأينا أننا حين ننظر إلى الوجود من منطلق زمني، فإنه يدل على المستقبل باعتباره لم يحدث بعد وباعتباره ممكنا. في هذا التحليل، يلفت المصطلح انتباهنا إلى الأفق الزمني الذي يمكن في إطاره الآن فهم الكينونة السرمدية على نحو تقليدي. بدت بعض «التحليلات اللغوية» التي قام بها هايدجر للتعبيرات اليونانية الكلاسيكية متكلفة غالبا، ولم تتوافق مع التفسيرات الشائعة لفقهاء اللغة الكلاسيكيين، لكنها كانت منطقية في سياق محاولته استعادة الوعي الأصلي بالكينونة الذي - حسب فرضيته - تغافل المنهج الميتافيزيقي الغربي عنه وتجاهله. الهدف من ذكر هذا المنهج هو التأكيد على أن هايدجر نسب أهمية إلى اللغة فاقت أهمية فلاسفة اللغة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. ومع هذا فإنه لم يقصد أن يخلط بين البيت وسكانه مهما بدت وثاقة الصلة بينهم. ربما تكون اللغة هي بيت الكينونة وربما نكون حراسها، لكننا لسنا أسرى لها.
كان هذا هو الوضع أيضا في حالة ميرلوبونتي، خصوصا في مقاربته الفينومينولوجية الأولى للغة؛ فهو يرى اللغة كتعبير وكصورة من صور الإيماءات الأخرى، وهو ينسب إلى أجسادنا قصدية كان هوسرل قد خصصها للوعي. يتعقد مفهوم التجربة ليضم رؤى وجودنا الجسدي. وهو يصر على أن اللغة هي في حد ذاتها نوع من الوجود. لكن مع اكتشافه لعلم اللغة البنيوي الذي وضعه فرديناند دي سوسور في أواخر أربعينيات القرن العشرين، تغير فهمه للغة.
قبل دراسة هذا التغيير، دعونا نتوقف لنتأمل في عجالة طبيعة الفهم البنيوي للغة ولماذا يبدو مناقضا كثيرا للمنهج الوجودي. مثار المناقشة هو دور الفرد الحر المسئول، وهما السمتان المميزتان للفكر الوجودي. فباختصار، تعطيه البنيوية أهمية محدودة، أو لا تعطيه أهمية على الإطلاق. وكما يوحي الاسم، تعنى «البنيوية» اللغوية بدراسة الصورة أو الهيكل البنائي وليس محتوى اللغة. ومثل فني الأشعة السينية الواقف أمام جسم ما، يسعى البنيوي إلى الكشف عن التنظيم التحتي للغة بدلا من استعمالها الملموس «من لحم ودم». فهو يعتبر اللغة ترتيبا منظوما للإشارات التي تتيح التواصل وتقيده في نفس الوقت، تماما مثلما يسهل الهيكل العظمي حركتنا ويقيدها في نفس الوقت. لكن على عكس الهيكل العظمي في الأشعة السينية، تعمل الإشارات اللغوية بأسلوب «مختلف»، أي إن «معناها» يعتمد على اختلافها عن الإشارات الأخرى في نفس النظام أو اللغة. من منظور واقعي، لا يتعلم المرء كلمة، وإنما لغة. ودون الإشارة الضمنية إلى لغة طبيعية مثل الإنجليزية أو السواحلية، «فالكلمة» ليست حتى كلمة، بل مجرد صوت.
في نظر البنيويين، لا «تسمي» الإشارات اللغوية الأشياء كما يتوهم الناس عادة أن اللغة تفعل ذلك، لكنها على الأحرى تفرق بين أعضاء مجموعة من الإشارات. المحصلة هي أن المعنى - في نظر البنيوي - هو شأن لغوي محض وليس علاقة بين اللغة والعالم، كما يعتقد الفينومينولوجيون أو عموم الناس. وهذا يمكن المرء من التركيز على الهياكل البنيوية ورموز التواصل تركيزا علميا بدلا من الغرق وسط الالتباسات اليومية لأفعال التحدث الفردية الواعية. لكن هذا الدافع نحو التجريدي والعلمي يتجاهل الفرد الوجودي الذي يعطي المعنى. في حقيقة الأمر، يسقط البنيويون من اعتبارهم دور الوعي الذي يشكل جوهر الفلسفة الوجودية والمنهج الفينومينولوجي.
تحت تأثير علم اللغة البنيوي، يغير ميرلوبونتي فهمه السابق القائم على الوعي للغة باعتبارها تعبيرا لتصبح منهجا أكثر شكلية واختلافا يستخدمه البنيويون. فاللغة - حسبما يرى الآن - «هي نظام الاختلافات الذي يفهم الفرد من خلاله علاقته بالعالم». بعبارة أخرى: لم تعد تعبيرا عن المعاني المفهومة بالفطرة عن طريق الاختزال الاستحضاري، كما يؤكد هوسرل. بل هي بالأحرى ظاهرة لغوية محضة، مبنية على الاختلاف النسبي في الإشارات بعضها بين بعض في نظام أو «لغة» ما.
لكن يبقى ميرلوبونتي ملتزما كما ينبغي بالقيم الوجودية المتمثلة في حرية ومسئولية الفرد ليقاوم الاستسلام الكامل للادعاء البنيوي بأن اللغة «تتحدثنا» وليس العكس. ما يحفظ هذه القيم وسط القوى البنيوية هو تمييزه بين كون المرء «مجبرا» بسبب العوامل الاجتماعية الاقتصادية (وهو ما ينكره)، وكونه «محفزا» بنفس العوامل (وهو ما لديه استعداد لقبوله). مقصده مشابه لمقصد من يعرفون ب «منظرو الفعل» في الفلسفة الأنجلوأمريكية الذين يفرقون السلوك، الناجم عن سبب وليس حرا، عن الفعل الذي يبرر بأسباب ويكون الحديث فيه عن الحرية والمسئولية لائقا. مثل سارتر، نجد ميرلوبونتي حساسا للغاية تجاه البعد التاريخي الاجتماعي للمعاني الذي نفسر به حياتنا ونوجهها، في حين يميل المنهج البنيوي إلى إهمال الجانبين الوجودي والتاريخي لمصلحة الهياكل البنيوية غير التاريخية. وهو يطلق على هذه السمة اسم «تاريخية المعرفة». سيوافق سارتر لاحقا على أننا يجب أن نتعلم تركيب وتصنيف الظواهر بصورة أقل تزمتا. وميرلوبونتي يفسر بالفعل «المعاني» الفينومينولوجية في سياق تاريخي. إن لم يكن هذا الرأي استسلاما للنسبية التي تحاشاها هوسرل، فإنه يوحي بميل معين نحو البراجماتية والجانب التاريخي اللذين يحافظان على تفاعل الهيكل البنيوي والممارسة، واللغة والكلام، في ظل توتر إبداعي.
ما يغذي هذا التوتر هو ما يسميه ميرلوبونتي ب «الأعراف»:
ما نفهمه من مفهوم الأعراف هو تلك الأحداث التي تمنح التجربة أبعادا ثابتة في علاقتها بسلسلة كاملة من التجارب الأخرى التي تكتسب معنى أو تبني سلسلة مفهومة أو تاريخا، أو مجددا تلك الأحداث التي ترسب في داخلي معنى، ليس فقط كأمور باقية ورواسب، لكن كدعوة إلى تكملة لاحقة؛ ضرورة المستقبل.
بعبارة أخرى: الأعراف هي مجموعة من الأحداث التي «تبني » تجربتي، لكن تعدلها تجربتي بدورها وتعيد صياغتها. فالأعراف كهياكل بنيوية - بدلا من أن تكون مجموعة منغلقة من جميع التركيبات الممكنة كتلك التي يجدها ميرلوبونتي في «لغة» سوسور، أو هياكل النسب في أنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس - هي قوائم من «الاحتمالات المعقدة والمتنوعة والمقيدة دائما بالظروف المحيطة»؛ وبالتالي فهي منفتحة على «مغامرات التجربة». هذا تعديل وجودي ومساهمة للاعتبارات البنيوية.
باعترافه الشخصي، لم يصغ سارتر فلسفة للغة، لكنه أصر على أن عناصرها منتشرة في جميع أعماله. كانت اللغة - في نظره - ظاهرة تعبيرية تتجاوز الكلمات إلى الرموز والإيماءات غير اللفظية. ومثل ميرلوبونتي، يرى سارتر أن مشكلة اللغة مطابقة تماما لمشكلة الأجسام؛ فأنا لا أستطيع أن أسمع نفسي أتكلم ولا أن أرى نفسي أبتسم.
من منظور أنطولوجي، تنتمي اللغة إلى تصنيف «الوجود من أجل الآخرين» في كتابه «الوجود والعدم» وإلى نطاق «الجامد العملي» في كتابه «نقد المنطق الجدلي». لكن في كلتا الحالتين، يفسر سارتر الانتقال من اللغة بصفة عامة إلى اللغات الطبيعية كالفرنسية والألمانية ثم إلى اللهجات المحلية واللغة العامية، وانتهاء بفعل التحدث الفردي باعتباره انتقالا من المجرد إلى الملموس أكثر فأكثر. سيصبح فعل التحدث الذي يقوم به الفرد الكائن أكثر ظاهرة لغوية ملموسة. واللغة، في هذا السياق، هي تقنية أساسية لتخصيص العالم وليست وسيلة لتشكيله، مثلما يصر ما بعد البنيويين. يبين هذا قول سارتر بأن «الحرية هي الأساس الممكن الوحيد لقوانين اللغة»، وهو ادعاء ينكره البنيويون إنكارا قاطعا. بعبارة أخرى: تمتد حريتنا ومسئوليتنا إلى اختيارنا للكلمات؛ وبالتالي إلى نظام اللغة نفسه (على سبيل المثال: صفتا العنصري والمتحيز لجنسه) الذي نسانده بهذه الاختيارات. هذا فهم وجودي نمطي للغة في مراعاتها للدلالة الأخلاقية الضمنية التي تتسم بها أفعالنا التعبيرية والتواصلية الملموسة. ومع هذا فهو يقيد - بشكل ملحوظ - قدرة اللغة على تشكيل المعنى إلى جانب ادعاءات ما سمي ب «المثالية اللغوية»؛ أي إنكار وجود واقع خارجي ومستقل عن اللغة التي من المفترض أن يعتمد عليها استخدامنا للكلمات.
لكن هذه العلاقة المجردة الملموسة أرخت في كتاب سارتر «نقد المنطق الجدلي» (1958). الآن حل «التطبيق العملي» (النشاط الإنساني في سياقه الاجتماعي التاريخي) محل الوجود من أجل الوجود أو الوعي، وتولى «الجامد العملي» (التطبيقات العملية السابقة المترسبة التي تقيد وتسهل في نفس الوقت التطبيقات العملية الحالية بنفس الأسلوب الذي تقيد به اللغة أفعال التحدث وتسهلها في نفس الوقت) وظيفتي الوجود في حد ذاته أو اللاوعي في كتاب «الوجود والعدم». على عكس الوجود في حد ذاته، فالجامد العملي هو مصدر الغائية المضادة، أو العواقب غير المقصودة لقراراتنا العملية. فمثلا: يمكن أن تؤدي ممارسة إزالة الغابات بغية زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة إلى تأثير مضاد عن طريق تسببها في فيضانات. يستشهد سارتر بهذا باعتباره دورا للجامد «العملي»؛ أي، كمثال لتطبيقاتنا العملية السابقة التي تعود لتنتقص من قيمة مشروعاتنا الحالية. مثل السابق، فالعلاقة بين اللغة وأفعال التحدث الخاصة تجريدية أكثر منها ملموسة. لكن الإمكانيات الموضوعية والغائيات المضادة في اللغة التي تقوم بدور الجامد العملي تطور - بشكل ملحوظ - التضاد الغامض إلى حد ما بين التجريدي والملموس في موقف سارتر السابق. ثمة ثقل كبير منسوب الآن إلى قوة اللغة من حيث إنها تمارس ما سماه الماركسي البنيوي لوي ألتوسر نوعا من «السببية البنيوية» على أفعال التحدث التي نقوم بها. من خلال مفهومه عن الجامد العملي، يعترف سارتر في الواقع بصحة علم اللغة السوسوري كما فسره ميرلوبونتي، وفي نفس الوقت يواصل إصراره على الأولوية الوجودية لتطبيقات الفرد العملية في فهمه للظواهر اللغوية.
يتمثل الهدف من هذه الدراسة المختصرة للمقاربات الوجودية للغة في الإشارة إلى الدرجة التي تصبح بها التجربة المعاشة - وليست اللغة - هي أساس المناقشات. اللغة مهمة، لكن فقط من حيث تعبيرها أو صياغتها للتجربة في علاقة متبادلة وإن كانت غالبا متوترة.
نادرا ما يمثل التهديد بالاحتجاز فيما سماه فريدريك جيمسون «سجن اللغة» مشكلة في نظر الوجوديين، بقدر ما كان كذلك في نظر العديد من المثاليين اللغويين في كل من القارة الأوروبية والعالم الناطق بالإنجليزية. بفضل نظرية القصدية لهوسرل، كان الوعي دائما «في العالم» بالفعل. وحتى عندما اتسعت دائرة اهتمام الوجوديين من الوعي إلى التجربة المعاشة ، فإن تجربة اللغة ولغة التجربة - بدلا من اللغة في حد ذاتها - هما أكثر ما أثار اهتمامهم. ومع أن تناول كتابات ميرلوبونتي الأولي للغة كان ذرائعيا على الأرجح، حسبما يتمثل في تمييز سارتر الخاطئ في كتاب «ما الأدب؟» بين الشعر والنثر من حيث قدرتهما الخاصة على الالتزام، فقد كان يتجاوز بالفعل هذه النظرة المبالغ في بساطتها إلى حد ما وصولا إلى مفهوم للغة أكثر بنيوية وقت موته. سيطور سارتر أيضا فرضيته الأولى ليكيف الجانب اللغوي وغيره من الهياكل البنيوية تحت مفهوم الجامد العملي في كتابه «نقد المنطق الجدلي». (2) البنيوية وما بعد البنيوية
ذكرت أن «الحركة» الوجودية قد انطمست بمدرستين فكريتين متعاقبتين؛ هما البنيوية وما بعد البنيوية على التوالي، ووجودهما لم يزل ملموسا حتى يومنا هذا. وسواء اتفق أعضاء المدرسة الفكرية البنيوية البارزون على هذا التحديد أم لا، فقد كان أبرز هؤلاء الأعضاء هم: عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس، والمنظر الماركسي لوي ألتوسر، والمحلل النفسي جاك لاكان، والناقد الأدبي والسيميولوجي رولان بارت، وطبعا عالم اللغويات البنيوي فرديناند دي سوسور الذي وضعت أعماله في علم اللغة الأساس النظري للحركة كما رأينا في الجزء السابق. مرة أخرى، كما يوحي الاسم، فالبنيوية هي مقاربة أفلاطونية إلى حد ما للظواهر الاجتماعية تبحث عن الهياكل الموضوعية والضرورية التي توجه وتقيد بشكل واع عملياتنا وممارساتنا الفكرية. من هذا المنطلق، تعتبر عمليات التفكير التي يقوم بها «البدائيون» منطقية كتلك التي يقوم بها الأفراد العصريون. يفرق هذا المنهج بين الاعتبارات غير الزمنية للممارسة الحضارية، مثل قواعد تشكيل اللغة أو قوانين النسب لقبيلة ما، وبين جانبيه التطويري أو التاريخي، مثل الأسلوب الملموس الذي تطبق به هذه القواعد عمليا. يوجه البنيويون مزيدا من الاهتمام إلى البعد غير الزمني في هذه الظواهر خلال بحثهم عن قواعد عامة تكسب دراساتهم الخاصة وضعا علميا عاما. وهكذا يمكن توضيح علاقات النسب داخل مجتمع «بدائي» - مثلا - بأنها تتبع «منطقا» غير واع للعلاقات الثنائية (الدمج والإقصاء) التي تحدد مقدما من مسموح له بالزواج ممن، ومن ممنوع عنه عمل ذلك. في معظم الأنظمة القانونية الغربية - على سبيل المثال - ممنوع زواج الأقارب من درجة العمومة الأولى أو أقرب. لكن في المجتمعات الموصوفة بأنها «بدائية»، كما يبين ليفي شتراوس، يتبع هذا النظام للزيجات المحرمة والمباحة قواعد أكثر تعقيدا من مجرد منع زواج الأقارب. بشكل نظري، يمكن رسم هذه الأنماط أو الهياكل البنيوية حسب «رموز» معينة يفكها الباحث البنيوي. وبأسلوب مماثل، يمكن ملاحظة منطق غير واع مشابه يطبق في الأعمال الأدبية (بارت)، وفي اشتراكية ماركس العلمية (ألتوسر)، وفي إعلان لاكان الشهير بأن اللاوعي «مبني مثل اللغة»، وهي صياغة انجذب إليها سارتر برغم أنه ظل معترضا على مفهوم اللاوعي.
شكل 6-1: البنيويون البارزون يستخدمون التفكير «البدائي».
1
هنا أيضا، ما يجعل البنيوي مضادا للمقاربة الوجودية لهذه الموضوعات هو الدور الموضوعي الحتمي الذي يخصص لهذه الهياكل الاجتماعية؛ أي الادعاء بأنها موضوعية وعلمية. يمثل هذا بداية ما يعرف ب «لامركزية الذات» التي ستصبح الموضوع الأبرز لفكر ما بعد البنيوية. لكن ما وضع هذا المنهج في تضاد مع الفينومينولوجيا الوجودية وكان سببا في كثير من الكتابات؛ هو «معاداته للفلسفة الإنسانية» بشكل صريح. حسبما خمن ميشيل فوكو في نهاية رائعته «البنيوية» ذائعة الصيت «نظام الأشياء»، فإن نجاح البنيوية في ستينيات القرن العشرين يوحي بأن حدثا معرفيا قد يقع في المستقبل القريب من شأنه أن يغير البناء الجوهري لما نسميه حاليا «المعرفة» بسرعة مباغتة تشبه سرعة التغيير الذي - حسبما يرى - أوجد وضعنا العصري المتمركز حول الإنسان والصانع للمعنى من الأساس. لو وقع حدث متطرف كهذا - حسب ظنه - «يستطيع المرء أن يراهن بالتأكيد بأن الإنسان سيمحى كما الوجه المرسوم على رمال شاطئ البحر»؛ لأن هذه الهياكل ليست أكثر من نتاج لوسيلة فردية مقارنة بصور أو أفكار أفلاطون العامة. بدلا من ذلك، فالأفراد هم حاملو هذه الهياكل مثلما هم حاملو القواعد النحوية للغة التي يتحدثونها، وليسوا مبتكريها. لقد اختزل الفرد المسئول الذي ركز عليه الوجودي إلى «عنصر نائب» في الهياكل الموضوعية التي يجهلها عادة.
يؤدي هذا بالطبع إلى مشكلة شائكة عن معنى الوسيلة والمسئولية في عالم بنيوي. كيف يمكن تحميل المرء مسئولية التكيف الاجتماعي ذاته الذي حول المرء إلى هذا النوع من الأشخاص؟ يلاحظ المرء هنا المشكلة المتكررة المتعلقة بالتوفيق بين الحرية الفردية والعلم الاجتماعي. بحسب ما تحتم العلل والقوانين العلمية، ما من مساحة للحرية بالمعنى الوجودي. لكن ادعى البنيويون أنهم يسيرون على طريق هذه المقاربة «العلمية» للظواهر الاجتماعية التي صيغت بناء على«منطق» اللغة نفسه، ما لم تكن جزءا منه.
لاحظنا كيف كان ميرلوبونتي يقوم بعملية التوفيق بين القيم الوجودية عن الحرية والمسئولية، وبين المناهج العلمية لعلم اللغة البنيوي، وربما بين العديد من التطبيقات البنيوية لهذا المنهج الذي يسميه الفرنسيون العلوم الإنسانية. أصر سارتر، في مقال «البحث عن منهج»، الذي كان بمنزلة مقدمة لكتابه «نقد المنطق الجدلي»، على أن مهمة الوجودية تتمثل في «استعادة الإنسان داخل الماركسية». ما كان يقصده هو الخلاص من «الاقتصاد» الماركسي (الجبرية الاقتصادية) الذي يتبناه مستغلو الحزب، لكن سيكون لنقده صلة وثيقة بماركسية ألتوسر البنيوية الأكثر تعقيدا وأتباعه الذين سيحظون بالشهرة في منتصف ستينيات القرن العشرين. في «نقد المنطق الجدلي» - كما ذكرنا للتو - يحتفظ سارتر بمساحة أنطولوجية للهيكل البنيوي والدراسات البنيوية في نطاق «الجامد العملي» والتفكير التحليلي الذي يدعمه. مرة أخرى، يمكن رصد «العلل البنيوية» لألتوسر في نطاق الجامد العملي، مثلما هو الأمر مع شجرة النسب لليفي شتراوس. هذا دور رئيسي لمفهوم الجامد العملي الذي يجري تجاهله غالبا. لكن كما قلنا سابقا، فباعتباره الجامد «العملي»، يحمي المفهوم حرية ومسئولية الفرد حتى في علاقتهما بأكثر الهياكل الاجتماعية موضوعية و«حتمية». على سبيل المثال: يثير سارتر مسألة كيف تعمل هياكل النسب هذه لليفي شتراوس في وقت يتراجع فيه عدد السكان بسبب حرب أو كارثة طبيعية. ما يشير إليه هو أنها لا تفعل ذلك، وأننا لا نخدم هذه الهياكل، بل هي التي تخدمنا. يحفظ تفسير ميرلوبونتي للهياكل البنيوية - باعتبارها «احتمالات» وليست «حتميات» - الحرية الوجودية أيضا. ومرة أخرى، يقول شعار الفلسفة الإنسانية : «تستطيع دائما أن تصنع شيئا مما وجدت نفسك عليه .»
اتسمت الحركة التي عرفت بعد ذلك ب «ما بعد البنيوية» في الفلسفة أو «ما بعد الحداثة» في الأدب والفن والمعمار بما يسميه جان فرانسوا ليوتار (الذي في نظره تتداخل هذه التصنيفات) «انشطار المعنى». فمثلما يطلق الانشطار النووي (أو الانقسام أو الانفلاق) قدرا هائلا من الطاقة، فإن انقسام الوحدات المعيارية للجنس الأدبي والقصصي، للنوع والأسلوب، للعلاقة الطبيعية والنظام الهرمي، وفوق كل شيء، للمادة والذات، أنتج تعدديات وتناثرات. بالمثل، فإن التضادات الثنائية البنيوية التي كشفت «منطق» العلاقات الاجتماعية والثقافية انقسمت بسبب ما بعد البنيويين من أمثال فوكو إلى تعددية عقلانيات. وعلى الرغم من عودة كيركجارد ونيتشه إلى مركزهما السابق باعتبارهما مفكرين مناهضين للحداثة بسبب مفاهيمهما المتعددة عن الحقيقة وتأكيد كل منهما على حدة على قوة الإرادة وإرادة القوة، ينظر إلى الوجودية السارترية على أنها حداثية بشكل لا يمكن الفكاك منه بسبب اعتمادها الظاهري على «الكوجيتو» الديكارتي كنقطة بداية للتفكير الفلسفي. يمكن اعتبار فوكو ممثلا لحركة ما بعد البنيوية عندما يعلق قائلا بأسلوب شديد الرفض: ««نقد المنطق الجدلي» هو محاولة مهيبة ومحزنة لرجل ينتمي إلى القرن التاسع عشر أن يفكر بأسلوب القرن العشرين. بهذا المعنى، فسارتر هو آخر هيجلي، بل يمكن أن أقول آخر ماركسي.» وبعبارة أخرى: حسب رأي فوكو، لا تملك الوجودية السارترية شيئا تقوله للعقل المعاصر.
على الرغم من الاحتداد الطائش الذي اتسم به نقد فوكو، فمن المستحيل حصر سارتر حتى في القرن الذي يرمز إليه بلا شك، وذلك لسببين على الأقل؛ فالذات السارترية - كما أشرت - ليست ذاتا بل وجودا للذات. لقد رأينا أنها بالتحديد «غير» متطابقة مع الذات؛ وهو ما يستدعي حوارا مثمرا مع مؤلفي ما بعد الحداثة و/أو ما بعد البنيوية من أمثال بارت وفوكو الذين يتحدثون عن «موت» المؤلف و«خسوف» الذات. مع أن هناك ازدواجية أساسية تتخلل فكر سارتر، فإنها ليست الازدواجية المرفوضة عموما للعقل والجسد، للتفكير والمواد الممتدة وفقا لديكارت، لكنها ازدواجية التلقائية والجمود؛ هي ازدواجية وظيفية وليست جوهرية تتوافق مع فكر ما بعد البنيوية .
ثانيا: على الرغم من أن سارتر لا يؤيد تعددية العقلانيات، فقد ميز بوضوح بين اثنتين منها في «نقد المنطق الجدلي»، وهما المنطق الجدلي والتحليلي. الأول ديناميكي وتاريخي، والثاني ليس أيا منهما. يطرح هذا احتمالية وجود أنواع أخرى من التفكير إلى جانب هذين النوعين. علاوة على هذا، فقد ربط بين كليهما بطبقة سياسية واجتماعية، هما البروليتارية والبرجوازية على التوالي، في ميل منه نحو الوحدة الفوكولية (والنيتشية) للمعرفة والقوة؛ هذه فرضية تنتمي لما بعد الحداثة. في واقع الأمر، لا يعكس ادعاء سارتر بأن «كل المعرفة ملتزمة» مفهومه عن الاختيار الموجه للحياة فقط، لكنه يطرح أيضا مسألة القوة-المعرفة من منظور نيتشي إلى حد ما من قبل أن يجعل فوكو هذه العلاقة مميزة مرة أخرى. ولو كان سارتر يشكك في اللاوعي الفرويدي لخطره على الحرية الفردية، فإنه ينتقد بالتساوي الرؤية المنظورية المثيرة للشك وتعددية العقلانيات التي يرى أنها تحبط التغيير الاجتماعي الجذري؛ وبالتالي تميل إلى إبقاء الوضع الاقتصادي الاجتماعي على ما هو عليه. كان هذا بالفعل نقده لمقاربة صديقه السابق ريموند آرون للفهم التاريخي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين.
عندما يضيف المرء وجود دي بوفوار المستمر - والمثير للجدل أحيانا - في الحركة النسائية الحالية، فسيخلص إلى أنها هي وسارتر - دون كونهما منتميين إلى ما بعد الحداثة «قبل ظهورها» - يستطيعان الانضمام إلى الوجوديين الأولين - كيركجارد ونيتشه - في تعزيز هذا الجانب من الحوار الفلسفي في القرن الحادي والعشرين. (3) علم التأويل (الهيرمينوطيقا)
كانت أيضا الأهمية المتزايدة للهيرمينوطيقا الفلسفية في القرن العشرين قوة دافعة حملت الفكر الوجودي إلى القرن الحادي والعشرين. فباعتبارها أسلوبا لتفسير نص ما - في البداية كان نصا مقدسا، ثم بعد ذلك أصبح قانونيا، وأخيرا أي نص أدبي أو فني - لعبت الهيرمينوطيقا دورا مهما في الفكر الأوروبي. وبتوسع فكرة «النص» لتشمل تجسد أي فعل متعمد بداية من إنشاء مؤسسة إلى لكمات وهجمات ملاكم، توسع نطاق التفسير الهيرمينوطيقي بناء عليها. مع فيلهيلم ديلثي (1833-1911) وماكس ويبر (1864-1920)، أصبح استخدام «الفهم » منهجا مميزا للعلوم الإنسانية، خصوصا التاريخ وعلم الاجتماع الإنساني مقارنة بالعلوم الطبيعية. أما على يد هايدجر، وبصفة خاصة تلميذه هانز جورج جادامر (1900-2002)، فقد أصبح «الفهم» والتأويل أسلوبنا المميز للوجود في العالم.
مثل الفينومينولوجيا، تعتبر الهيرمينوطيقا بصفة أساسية منهجا وليست نظرية أنطولوجية أو ميتافيزيقية؛ فهي تفترض أن كل المعرفة سياقية (أو «موضعية»، حسبما يصفها سارتر) وأن العارف يواجه المشكلة «بتحيز» أو بفهم مسبق للموضوع محل المناقشة. هذه مشكلة قديمة قدم الجدل السفسطائي القائل إن التعلم مستحيل؛ لأنك إما تعرفه بالفعل وبالتالي لا يمكنك أن تتعلمه، أو أنه غريب عنك حتى إنك لن تعرفه لو صادفته. تصر الهيرمينوطيقا على أن التعلم ممكن بالفعل؛ لأننا نعلم ولا نعلم في نفس الوقت ما نتعلمه. تكمن المشكلة في شرح السياق الذي يثبت صحة هذا الادعاء المتناقض. يسمى هذا عادة ب «الدائرة الهيرمينوطيقية». ويعرف جادامر - أشهر ممارس للهيرمينوطيقا في عصرنا - المصطلح بأنه «[ترك] ما هو غريب من حيث الكلمة المكتوبة، أو ما هو غريب بفعل البحث الثقافي أو التاريخي يتحدث مجددا». بعبارة أخرى: هو منهج لفهم معنى نص غير مألوف، سواء كانت غرابته تاريخية؛ مثل النقوش القديمة، أو كان مجرد غريب علينا؛ مثل حديث شخص من ثقافة مختلفة أو حتى من مهنة مختلفة أو تخصص أكاديمي مختلف. وقد دخل إلى الفلسفة الحديثة على يد فريدريك شلايرماخر (1768-1834) وامتد إلى العلوم الإنسانية على يد ديلثي وويبر. بالنظر إليه في إطار المعنى الواسع «لاستيعاب» تصرف شخص آخر مقارنة ب «تفسيره» بأسلوب تعليلي (الأمر الذي قد يهدد حرية المرء)، فقد وظفه الوجوديون على نحو مكثف، كل بطريقته الخاصة. وسيكشف عرض مختصر لآراء خمسة من فلاسفتنا كيفية استخدامهم له بالإضافة إلى كيف تحمل الهيرمينوطيقا «الوجودية» صلة مستمرة بالمناقشات الحالية للموضوع.
الفيلسوف الأول هو نيتشه، الذي لم يحب شلايرماخر، والذي أصر على أن جميع المعارف قابلة للتأويل، وأنكر وجود أي «نص» أساسي لا يستطيع المرء تجاوزه في محاولة لاستيعابه نهائيا. لا يمكن أن تكون المعرفة مطلقة أو يقينية أبدا؛ فهي تأويل التأويل إلى ما لا نهاية. ويبدو أن هذا يؤدي إلى نوع من المقاربة البراجماتية للحقيقة والمعرفة التي يفضلها كل من نيتشه وما بعد الحداثيين. في هذا الشأن، تشبه المعرفة المشي فوق الماء، والحقيقة هي وسيلتنا لعمل ذلك. هذا بعيد عن فينومينولوجيا هوسرل التي كانت تهدف إلى مقاومة هذه «النسبية» إلى جانب «النزعة الاختيارية» (التركيز على الإرادة أكثر من الذكاء عند الاحتكاك بالعالم) التي آمن أنها تدعمها.
في حالة مارتن هايدجر، نجد أن الطبيعة المخالفة للفكر الديكارتي التي يتسم بها المنهج الهيرمينوطيقي تتصدر المقدمة. نحن الآن في وسط الدائرة الهيرمينوطيقية المذكورة آنفا. يرى هايدجر أن المرء يملك بالفعل معرفة محدودة (أو ما يسميه «فهما مسبقا») بالموضوع الذي يدرسه قبل السعي إليه فعليا، وإلا فلن يهتم المرء به على الإطلاق. كان هايدجر هو من اعتبر الفينومينولوجيا هيرمينوطيقية. في واقع الأمر، عكس عمله المميز «الكينونة والزمن» مجهودا طويلا للتعبير عن فهمنا المسبق للكينونة التي تجعل وجودنا معضلا لنا. هذا أيضا سبب آخر وراء رفض معلمه - هوسرل - الاعتراف بفينومينولوجيا هايدجر باعتبارها فينومينولوجيا صادقة.
يواصل سارتر هذا المسار البحثي في كتاب «الوجود والعدم» حيث يستعين ب «استيعابنا قبل الأنطولوجي» لمجموعة متنوعة من الموضوعات المتشابكة، بداية من الكينونة واللاكينونة ووصولا إلى معيار الصدق ومشروع المرء الأساسي. يتمثل دور الوصف الفينومينولوجي في جلب هذا الوعي الضمني إلى الوعي التأملي. يتسم مثل هذا الاستيعاب بالفورية وبعد النظر، وهو يمثل دليلا ملموسا لأبحاثنا اللاحقة التي يتم التوصل إليها بالتأمل والتعبير عنها بالمفاهيم.
تبنى كارل ياسبرز المنهج الديلثي والويبري في تطبيق الهيرمينوطيقا على العلوم الإنسانية، لا سيما علم النفس والتاريخ. وقد طرح ريموند آرون في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين مفهوم الاستيعاب الذي صاغه ديلثي ووظفه ويبر بهذا التأثير في فرنسا. في حقيقة الأمر، كان عمل آرون هو الذي أثار اهتمام سارتر بفلسفة التاريخ. وقد آمن ياسبرز والآخرون بالتصور الديلثي لهيرمينوطيقا نصية سوف تمكن المرء من «أن يفهم المؤلف أفضل مما يفهم نفسه». باعتبار الهيرمينوطيقا أداة مهمة في علم الأمراض النفسية لياسبرز - مثلما ستكون لاحقا في التحليل النفسي الوجودي لسارتر - فقد قامت ب «أنسنة» العلوم الإنسانية عن طريق إتاحة «حياتها الداخلية» لنا؛ أي النوايا والغايات التي تدفع الفاعلين إلى التصرف، بخلاف «العلل» الطبيعية التي تفسر سلوكياتهم.
لكن سارتر يقدم استخداما وجوديا إنسانيا خاصا للهيرمينوطيقا في نهاية كتاب «الوجود والعدم» عندما يتبناها كمنهج ل «التحليل النفسي الوجودي». هدف هذا المشروع هو استدراج «الخيار» الأساسي أو المشروع المحدد للحياة إلى الوعي التأملي للإنسان. كما لاحظنا في
الفصل الرابع ، فهو يفترض أن الحياة ظاهرة إجمالية مثل المتوالية القصصية التي تعتمد وحدتها على تبن قبل تأملي ومستمر لمجموعة من القيم والمعايير التي تعطي معنى/اتجاها لهذه الحياة. بما أن الوعي القبلي واضح تماما وواع بذاته ضمنيا، فإن مهمة المحلل الوجودي - الذي يمكن أن يكون هو نفسه الموضوع - هي تحويل هذا الاستيعاب إلى معرفة كاملة. يتحقق هذا بمساعدة الهيرمينوطيقا أو بتأويل الرموز التجريبية «للخيار» الأساسي. ومثل شخص يسير على شاطئ رملي، يستطيع المرء أن «يقرأ» اتجاهه بالنظر إلى آثار أقدامه. يسعى التحليل النفسي الوجودي إلى الكشف، ليس عمن نتظاهر في ظل خداع للذات بأننا نكونه أو نعتقد خطأ بأننا نكونه، لكن عمن تكشف أفعالنا السابقة أننا «اخترنا» أن نكونه. على الرغم من أن سارتر لا يستخدم التعبير الذي صاغه الهيرمينوطيقي جادامر، فيبدو أنه يطلب نوعا من «اندماج» الآفاق التأويلية بين المحلل والمحلل للنجاح في هذا. لكنه يتحدث عن «استيعابنا لاستيعاب الآخر» في التجارب الاجتماعية العادية، وكذلك في كتابة سيرة ذاتية وجودية مثل سيرة جوستاف فلوبير. يبدو هذا المقابل العملي لاندماج الآفاق في فعل التأويل الناجح.
علاوة على ذلك، يفترض المنهج الهيرمينوطيقي أن أي تعبير لغوي أو أي موضوع ثقافي مترسخ في تقليد ما. لكن هذا التقليد يمكن أن يعوق التواصل أو يعززه، حسب المنهج الهيرمينوطيقي المناسب الذي يستخدم. على الرغم من أن ديلثي دافع عن الهيرمينوطيقا باعتبارها المنهج المناسب للعلوم الإنسانية بالمقارنة بمنهج العلاقات الفعالة والتفسيرات السببية التي توظفها العلوم الطبيعية، يصف هايدجر «الفهم» باعتباره الأسلوب الأساسي للإنسان لكي يوجد في العالم. يستتبع هذا أن أسلوب الفهم ليس ببساطة مكملا للعلوم الطبيعية، مثلما لمح ديلثي ومثلما حث ويبر، لكنه أساس المعرفة الإنسانية بصفة عامة. يبدو سارتر متفقا مع هايدجر بأن وعينا قبل التأملي في «الوجود والعدم» جرى التوسع فيه ليصبح «استيعابا» في «نقد المنطق الجدلي»، حيث يوصف ببساطة على أنه وضوح التطبيق العملي بالنسبة إلى نفسه. ستصبح الهيرمينوطيقا عندئذ منهجا عالميا يلائم جميع صور الفهم الإنساني. ومع هذا، يتمنى سارتر - الذي يربط بين الهيرمينوطيقا والمنطق الجدلي والتطبيق العملي - الاحتفاظ بمكان للمنطق «التحليلي» كما هو مستخدم في العلوم الطبيعية. وإلى هذه الدرجة يتفق مع ديلثي وويبر. لكنه يكدر هذا الوضوح عندما يقدم فكرة «الأيديولوجية»، أو الوعي الزائف، إلى هذا المزيج. ليس لهذا أهمية هنا إلا أنه يحذرنا من أن العين اليقظة في الوعي السارتري أكثر عرضة للتعقيدات البصرية مما كنا نتصور سابقا. ومع هذا، فحتى لو قيد هذا نطاق حرية الإنسان ومسئوليته، فإنه نادرا ما يلغيها. (4) أخلاقيات المسئولية
في عالم ما بعد بعد الحداثة، يمثل التفتيت الموروث للمبادئ الموحدة والقيم المطلقة تحديا خاصا للنظرية الأخلاقية والممارسة الأخلاقية بأي معنى يمكن إدراكه لهذين المصطلحين. بداية، يبدو أن فكرة الهوية الأخلاقية تفترض ما يسميه ديلثي «ارتباط الحياة». فمنذ العصور القديمة، كان الأخلاقيون يصرون على أن الثبات على المبدأ مقوم أساسي في الحياة الأخلاقية. يستلزم الوجود الصادق بالمعنى الهايدجري التغلب على «تشتت» مجهوداتنا في الانشغال التام والفضول غير المجدي. ويتطلع هو وسارتر إلى مشروع ثابت ومستمر، أو «اختيار» تحقيق هذه الوحدة بدلا من اللجوء إلى نوع من الهوية الجوهرية. يتصور كل فيلسوف الإنسان فردا مسئولا. وبينما كان هايدجر عازفا عن الخوض في الأخلاقيات لحين تناول المسألة الأنطولوجية عن معنى الكينونة تناولا كاملا (وهو ما لم يحدث قط)، كان سارتر متشوقا إلى «إمداد الطبقة البرجوازية بضمير مذنب» بجذب الانتباه إلى زوايا من خداع الذات (مثل إنكار المسئولية) تختلط بحياتنا اليومية. في نظر سارتر، المسئولية، مثل الحرية، موجودة في كل مكان.
فتحت شعبية عالم الأخلاق الفرنسي إيمانويل ليفيناس (1905-1995) في مجال أخلاقيات ما بعد الحداثة بابا لعودة المفاهيم والقيم الوجودية إلى الحياة، على الرغم من أنه لم يكن ينظر إليه عموما على أنه وجودي. ما جذب العديد من مفكري ما بعد الحداثة إلى موقف ليفيناس هو رفضه للأساس الميتافيزيقي للأخلاق ولجوؤه إلى خلق المسئولية محل أحد المبادئ العالمية أو القيم المجردة. لو لم يكن ليفيناس موجودا، لأوجده ما بعد الحداثيين.
ومع هذا، فحتى ما بعد الحداثيين يعترفون بالحاجة إلى مبادئ أخلاقية أساسية مثل «العدالة» التي من المعروف أن جاك دريدا ادعى أنها «ربما غير قابلة للتفكيك». وهو يعني بهذا أنها ربما غير خاضعة لمنهج دريدا المعتاد (التفكيكي) لفك وحدة مفهوم ما بتحليل «النهايات غير المترابطة» أو «الآثار» التي آواها من افتراض ميتافيزيقي سابق. بعبارة أبسط: ربما كانت العدالة قيمة مطلقة في عالم نسبي.
بالمثل، أعطى ليفيناس العدالة قيمة نسبية معينة. في نظر ليفيناس، العدالة مشتقة من مجيء الطرف الثالث على الرغم من أنها قائمة على المسئولية الأصلية عن المواجهة المباشرة، وهذا هو تصنيفه الأخلاقي الأساسي. بهذا المعنى، تشبه العدالة مفهوم سارتر عن تضاعف «وجودنا من أجل الآخرين» بظهور طرف ثالث وسطنا. مثل النفعيين من قبلهم، وجد ما بعد الحداثيين مفهوم العدالة نقطة ضعفهم. فيبدو أنه يحمل سمة غير قابلة للتفاوض يجب أن ينصاعوا لها. فلا يوجد قدر من «اللعب» (مثلما اقترح ليوتار باعتبار العدالة لعبة خطيرة بصفة خاصة) أو حيلة مجازية يمكن أن تنجح في الهروب من متطلباتها المتزمتة. ومع هذا، مثلما هو الأمر في حالة البطل التراجيدي لكيركجارد، فالعدالة الموضوعية، غير المبالية «بتخفيف وطأة الظروف»، يمكن أن تسبب أذى كبيرا.
عند هذه المرحلة يقدم المفهوم الوجودي المتعلق بالوجود في الموقف المساعدة. مرة أخرى، هي حالة مراعاة للتفكير الملموس. ومرة أخرى، ليست المسألة في طرح أفكار جديدة بقدر ما هي في إعادتنا إلى رؤى تقليدية حتى لو لم يكن سياقها المفاهيمي كذلك. يستدعي هذا إلى ذاكرتنا حالتين للتفكير «الملموس» لدى أرسطو، وهما تمييزه بين العدالة والإنصاف (المساواة) وبين مفهومه للشخص الحصيف. في الحالة الأولى يمكن للمرء أن يتجنب عدم الإنصاف في تطبيق القانون غير المقترن بالأدلة بالنظر إلى تفاصيل القضية. والتمييز بين نص وروح القانون هو تعبير آخر لنفس هذا الاهتمام بالملموس.
بشكل ما، لا تعد فكرة خلق المواقف جديدة، فهي على الأقل بقدم مفهوم أرسطو عن الشخص الحصيف، وهو مثالنا الثاني. هذا هو الشخص الذي يعرف التصرف المناسب في الوقت المناسب وفي ظل الظروف المناسبة. قد تفهم الحصافة، مثلما يقول عالم الأخلاق جوزيف بايبر، على أنها «ضمير الموقف». يوجد تماسك واضح في القرارات «الحصيفة» حسب المنظور الأرسطي؛ فهي ثمرة دائرة معينة غير مفرغة؛ فالشخص الأخلاقي هو شخص يتخذ قرارات أخلاقية، لكن يجب أن يتعلم أن يكون شخصا أخلاقيا عن طريق اتخاذ هذه القرارات. هذا هو واقع الأمر. لا توجد نقطة بداية مطلقة؛ فالمرء دائما ما يكون في خضم الأشياء. ونحن نجد أنفسنا في النسخة الأخلاقية من الدائرة الهيرمينوطيقية.
ومثل الشخص الحصيف، يحكم الشخص الوجودي «في الموقف». لكن في حين «يكتشف» الحصيف الفعل الصواب، «يقرر» الوجودي الفعل الصواب. إنه «مبتكر» في حين أن الأرسطي مستقص. يتخذ الفرد «الصادق» قراره في ظل إدراكه الكامل لخطأ حكمه. لكن الشخص الصادق - كما رأينا - سيجعل الاختيار في ضوء أفضل الأدلة المتاحة دون استبداد، وفي ضوء تعزيز الحرية، اختيارا سليما بالمضي فيه وتنفيذه.
في هذا الإطار من السقوط الأخلاقي الحر يلبي الوجودي متطلبات ما بعد الحداثيين نحو الممارسة الأخلاقية دون التزام ميتافيزيقي أو قواعد وقوانين غير قابلة للانتهاك. ومثلما اقترحنا، يمكن أن تبدأ وجهة النظر السارترية عن خلق لتخصيص القيم يعبر عن الحرية، ويحافظ عليها على مدار حياة المرء في تلبية هذه المتطلبات ما بعد الحداثية في عالم ما بعد بعد حداثي. لو كانت وجهة النظر الحداثية للأخلاق - مثلما يدعي عالم الأخلاق زيجمونت بومان - هي الإصرار على أن الصراع بين استقلالية الحيوانات العاقلة وتبعية الإدارة العاقلة (بين الغايات والوسائل) قابل للحل نظريا، على الرغم من أنه لم يحل بعد ، في حين يكمن الموقف ما بعد الحداثي في القبول الاختياري بعدم قابليته للحل وتعزيز ما ينتج من تعددية للاختيارات، فإن الموقف الوجودي لما بعد بعد الحداثة يقدم كلا من قوة المثل الأخلاقي (على سبيل المثال: الوجود الصادق في مدينة الغايات لسارتر) والرغبة الواضحة في العيش في غموض حتمي، حسبما يقترح ميرلوبونتي ودي بوفوار. لا يختلف هذا عن تحذير أرسطو بعدم السعي إلى دقة أعظم في عالم الأخلاق أكثر مما يتيح الأمر، وبصفة خاصة، عدم البحث عن حلول كمية للمشكلات الأخلاقية. ولو لبى الخيار الوجودي المتطلب ما بعد الحداثي للبقاء بشكل غير ميتافيزيقي؛ وبالتالي غير أرسطي حتما في هذا السياق، فإنه يبقى «حداثيا» في التزامه بالفلسفة الإنسانية، لكنها فلسفة من تشكيله هو.
هوامش
المراجع
الفصل الأول
Albert Camus,
The Plague (New York: Vintage, 1991).
Foucault (Oxford: Blackwell, 1995).
Søren Kierkegaard,
Concluding Unscientific Postscript to
Fragments , tr. Howard V. Hong and Edna H. Hong (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1992). ---,
Selection (London: Penguin Books, 1996).
Dermot Moran,
Introduction to
(London: Routledge, 2000).
Jean-Paul Sartre, 'Intentionality: A Fundamental Idea of Husserl’s Phenomenology’,
Journal of the British Society for Phenomenology , 1 (2): 5. ---,
Sketch for a Theory of the Emotions (London: Routledge, 2002). ---,
What is Literature? And Other Essays (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1998).
الفصل الثاني
Joakim Garff,
Søren Kierkegaard: A Biography (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2005).
Karl Jaspers,
Basic Philosophical Writings (Atlantic Highlands, NJ: Humanities Press, 1994).
Søren Kierkegaard,
Either/Or , 2 vols., tr. Howard V. Hong and Edna H. Hong (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1987); an abridged version in one volume, tr. Alastair Hannay (London: Penguin, 1992). ---,
Fear and Trembling
and
Repetition , tr. Howard V. Hong and Edna H. Hong (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1983). ---,
Stages on Life’s Way , tr. Howard V. Hong and Edna H. Hong (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1988).
Friedrich Nietzsche,
The Anti-Christ, Ecce Homo, Twilight of the Idols: And Other Writings (Cambridge: Cambridge University Press, 2005). ---,
Beyond Good and Evil (Cambridge: Cambridge University Press, 2001).
Jean-Paul Sartre, 'Existentialism is a Humanism’, in Walter Kaufmann (ed.),
Existentialism: From Dostoevsky to Sartre (London: Penguin Plume, 1988).
الفصل الثالث
Saul Bellow,
Herzog (New York: Viking, 1961).
Albert Camus,
The Myth of Sisyphus and Other Essays (New York: Vintage, 1991).
Gabriel Marcel,
The Philosophy of Existentialism (New York: Citadel, 1961).
Maurice Merleau-Ponty, 'The Battle over Existentialism’,
Sense and Non-Sense (Evanston, IL: Northwestern University Press, 1964).
Friedrich Nietzsche,
Human, All Too Human: A Book for Free Spirits (Cambridge: Cambridge University Press, 1986). ---,
Thus Spoke Zarathustra (New York: Viking Compass, 1966).
Jean-Paul Sartre,
Being and Nothingness (New York: Citadel, 1984). ---,
Nausea (New York: New Directions, 1969).
الفصل الرابع
Simone de Beauvoir,
The Ethics of Ambiguity (New York: Citadel, 2000).
Jean-Paul Sartre,
Being and Nothingness (New York: Citadel, 1984). ---,
Notebooks for an Ethics (Chicago: University of Chicago Press, 1992), pp. 474-515.
Leo Tolstoy,
The Death of Ivan Ilyich (New York: Bantam Books, 2004).
الفصل الخامس
Simone de Beauvoir,
The Second Sex (New York: Knopf, 1989).
Karl Jaspers,
The Future of Mankind (Chicago: University of Chicago Press, 1968). ---,
The Question of German Guilt (Bronx, NY: Fordham University Press, 2001).
Søren Kierkegaard,
Two Ages: The Age of Revolution and the Present Age. A Literary Review (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1978).
Gabriel Marcel,
Man Against Mass Society (Chicago: Gateway, 1970).
Maurice Merleau-Ponty,
Humanism and Terror: The Communist Problem (Somerset, NJ: Transaction
Rüdiger Safranski,
Martin Heidegger: Between Good and Evil (Cambridge, MA: Harvard University
Jean-Paul Sartre,
The Condemned of Altona (New York: Vintage, 1963).
الفصل السادس
Zygmunt Bauman,
Ethics (Oxford: Blackwell, 1993).
Catherine Belsey,
A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University
Jean Grondin,
Introduction to
(New Haven, CT: Yale University Press, 1994).
Martin Heidegger, 'Letter on Humanism’,
Martin Heidegger: Basic Writings , ed. David Krell (San Francisco: Harper, 1993).
Jean-Paul Sartre,
Critique of Dialectical Reason , vol. 1 (London: Verso, 2002) and vol. 2 (London: Verso, 2006).
John Sturrock,
Structuralism , 2nd edn. (Oxford: Blackwell, 2003).
قراءات إضافية
مقدمات ودراسات عامة
An older but still valuable introduction to existentialism is
Irrational Man: A Study in Existential
by William Barrett (New York: Anchor Books, 1962, 2nd edn. 1990). Two helpful collections of writings by leading existentialist authors are
Existentialism: Basic Writings , ed. Charles Guignon and Derk Pereboom (Indianapolis, IN: Hackett, 1995) and
The Existentialist Reader: An Anthology of Key Texts , ed. Paul S. MacDonald (New York: Routledge, 2001). Someone wishing to pursue essays on the basic concepts of existential and phenomenological thought by a variety of authors, as well as existential and phenomenological contributions to a number of topics in current philosophical discussion should consult Hubert L. Dreyfus and Mark A. Wrathall (eds.),
A Companion to Existentialism and Phenomenology (Oxford: Blackwell, 2006).
Chapter-length essays on existentialism, phenomenology, and most of the individual philosophers discussed here, along with helpful suggestions for further reading, are available in the
Stanford Encyclopedia of Philosophy , online at
http://plato.stanford.edu .
Relevant essays on individual philosophers can be found in
The Macmillan Encyclopedia of Philosophy , 2nd edn. (Farmington Hills, MI: Thomson Gale, 2006);
The Routledge History of
, especially vol. 7,
The Nineteenth Century , ed. C. L. Ten, and vol. 8,
Continental Philosophy in the 20th Century , ed. Richard Kearney (London: Routledge, 1994);
The Edinburgh Encyclopedia of Continental Philosophy , ed. Simon Glendinning (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999); and
A Companion to Continental Philosophy , ed. Simon Critchley and William Schroeder (Oxford: Blackwell, 1998).
الفصل الأول: الفلسفة كأسلوب حياة
Those interested in this topic might consult Pierre Hadot,
What is Ancient Philosophy? (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2004), Michel Foucault,
Fearless Speech (Los Angeles, CA: Semiotext(e), 2004), and Alexander Nehamas,
The Art of Living: Socratic Reflections from
(Berkeley: University of California Press, 1998). Among the many arresting examples of the overlap between existential philosophy and imaginative literature are Fyodor Dostoevsky’s
Notes from Underground (New York: Penguin, 2004) and Franz Kafka’s
The Trial (New York: Schocken Books, 1998), or its film version by Orson Welles (1963) with Anthony
Sokolowski’s
Introduction to Phenomenology (Cambridge: Cambridge University Press, 1999).
الفصل الثاني: التحول إلى الفردية
A valuable survey of this topic is
Becoming a Self: A Reading of Kierkegaard’s Concluding Unscientific
, by Merold Westphal (West Lafayette, IN: Purdue University Press, 1996). Individualizing choice is a theme of Sartre’s play
The Flies
in
No Exit and Three Other Plays (New York: Vintage, 1989). Albert Camus’s
The Outsider (London: Penguin, 1970), translated in America as
The Stranger , is a classic study of becoming an existentialist individual. Of the many existential themes not treated here, 'alienation’ is certainly a major one. To fill this gap, consider Richard Schmitt’s
Alienation and Freedom (Boulder, CO: Westview Press, 2003). An excellent biography of Nietzsche is provided by Rüdiger Safranski,
Nietzsche: A Philosophical Biography (New York: Norton, 2002).
الفصل الثالث: الفلسفة الإنسانية: ما لها وما عليها
A helpful historical survey is Tony Davies’s
Humanism (London: Routledge, 1997). For an introduction to atheistic or naturalist humanism, consider Richard Norman’s
On Humanism (London: Routledge, 2004). For a theistic critique, see Henri de Lubac,
The Drama of Atheistic Humanism (San Francisco: Ignatius Press, 1995). Two relevant classics are Martin Buber’s
I and Thou (New York: Touchstone, 1996) and
The Courage to Be (New Haven, CT: Yale University Press, 2000).
الفصل الرابع: الصدق
A valuable overview is Jacob Golomb’s
In Search of Authenticity: From Kierkegaard to Camus (London: Routledge, 1995).
The Ethics of Authenticity
by Charles Taylor (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1991) has rightly become an influential study of this topic by a non-existentialist. Charles Guignon’s
On Being Authentic (London: Routledge, 2004) assesses the strengths and weaknesses of this concept in an accessible manner. Two careful studies of this topic in Sartre’s thought are Ronald E. Santoni’s
Bad Faith, Good Faith, and Authenticity in Sartre’s Early Philosophy (Philadelphia: Temple University Press, 1995) and Joseph S. Catalano’s
Good Faith and Other Essays: Perspectives on Sartre’s Ethics (Lanham, MD: Rowman and Littlefield, 1996).
الفصل الخامس: فردية مكبوتة؟ الوجودية والفكر الاجتماعي
De Beauvoir’s autobiography, especially
Force of Circumstance , covering 1944-62 (New York: Putnam, 1965), and
All Said and Done , covering 1962-72 (New York: Putnam, 1974), provides a first-hand account of those years of the existentialist movement. William McBride,
Sartre’s Political Theory (Bloomington, IN: Indiana University Press, 1991) offers a thorough analysis of Sartre’s political thought throughout his life. Thomas R. Flynn,
Sartre and Marxist Existentialism: The Test Case of Collective Responsibility (Chicago: University of Chicago Press, 1984) analyses Sartre’s social ontology. Many of Merleau-Ponty’s political essays are reprinted in
Sense and Non-Sense
and in
Signs (Evanston, IL: Northwestern University Press, 1964, both texts). Daniel Conway argues for the political significance of Nietzsche’s thought in
Nietzsche and the
(New York: Routledge, 1996). Similarly, see Tracy B. Strong,
Friedrich Nietzsche and the Politics of Transfiguration (Urbana, IL: University of Illinois Press, 2000).
الفصل السادس: الوجودية في القرن الحادي والعشرين
A rich and useful study is
Kierkegaard in
, ed. Martin J. Matuštík and Merold Westphal (Bloomington, IN: Indiana University Press, 1995).
The Cambridge Companion to Nietzsche , ed. Bernd Magnus and Kathleen Higgins (Cambridge: Cambridge University Press, 1996) contains several relevant essays. The collection
Questioning Ethics: Contemporary Debates in Continental Philosophy , ed. Richard Kearney and Mark Dooley (London: Routledge, 1999) brings existentialist concepts and authors into the recent discussion either explicitly or by implication. Gary Gutting,
Foucault: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2005) introduces Sartre into the discussion, as does Thomas R. Flynn,
Sartre, Foucault and Historical Reason , 2 vols (Chicago: University of Chicago Press, 1997 and 2005).
مسرد المصطلحات
البنيوية:
مثلما يوحي المصطلح، هي النظرية التي تقول إن تفاعلاتنا الاجتماعية - بداية من لغتنا (فرديناند دي سوسور)، ووصولا إلى منطق المجتمعات «البدائية» (كلود ليفي شتراوس)، وأيديولوجياتنا (لوي ألتوسر)، ومساعينا الأدبية (رولان بارت)، وحتى لاوعينا (جاك لاكان) - عرضة بالأساس للقواعد والقوانين اللاواعية التي تسبق وتوجه أفعالنا الواعية. وبسبب تركيزها على الهيكل البنيوي أكثر من المحتوى (المجرد والعام أكثر من الملموس والخاص)، بالإضافة إلى إسقاطها الإبداع الفردي من الاعتبار، فقد اعتبرت مضادة ل «الفلسفة الإنسانية» بصفة عامة وللوجودية بصفة خاصة.
التواصل غير المباشر:
الأسلوب الملتوي لنيل الانتباه التعاطفي من الجمهور بهدف توصيل القيم والمشاعر التي لولا ذلك لخضعت للتفكير العقلاني أو رفضت تماما. للفنون الجميلة فعالية خاصة في هذا النوع من التفكير «الملموس».
سوء النية:
مصطلح استخدمه سارتر، وهو يرى أن الجميع يقعون فيه بسبب التركيب المزدوج «للموقف» الإنساني؛ أي واقعيته وتساميه في الآن ذاته . يحافظ الوجود «الصادق» على هذه الازدواجية في توتر إبداعي . يحاول خداع الذات الهروب من هذا التوتر (و«القلق» الناجم عنه) إما بإسقاط التسامي إلى الواقعية أو بتصعيد الواقعية إلى التسامي. تمثل كلتا المحاولتين إنكارا لكياننا الأنطولوجي؛ وهما لهذا السبب عبثيتان.
الصدق:
حالة الاعتراف بفردية المرء المستقلة. في نظر هايدجر، ينطوي هذا على تقبل الإنسان بثبات لوجوده المتجه نحو الموت؛ وفي نظر سارتر، هو تحمل الإنسان لحريته ومسئوليته المطلقة. ولكل فيلسوف وجودي تعريفه الخاص لهذه «الفضيلة».
العدمية:
الإيمان بأنه لا وجود للقيم المطلقة، وبأن الحقيقة ذاتية محضة، وبأن الوجود الإنساني لا معنى له. آمن نيتشه بأن «القطيع» سيستسلم لنوع معين من العدمية بعد فقدانه إيمانه بالله، لكن «الأرواح الحرة» هي التي ستصمد في وجه هذا البلاء عن طريق اعتناق هذا الموقف واختلاق حقيقتها وقيمها الخاصة.
الفلسفة الإنسانية:
النظرية الفلسفية التي تضع الإنسان في محور الكون. تعتمد صورها المتعددة - على سبيل المثال: الإلحادية والدينية والماركسية والنهضوية والإغريقية الكلاسيكية وما شابهها - على ما تعتبره أفضل صورة كاملة يمكن للإنسان الوصول إليها.
الفينومينولوجيا:
إحدى الحركات الفلسفية البارزة في القرن العشرين، التي أسسها إدموند هوسرل. استخدمها الوجوديون - أمثال هايدجر وسارتر - كمنهج للوصف المتزمت لموضوعات الوعي.
القصدية:
السمة المميزة للوعي في نظر هوسرل، التي يستطيع الوعي بها أن يستهدف (يقصد) موضوعا ما في العالم. هذا يحرر الفينومينولوجي من مشكلة «الربط» بين العقل والواقع الخارجي الموروثة في الفلسفة الحديثة عن طريق نظرية المعرفة «الداخلية/الخارجية» لرينيه ديكارت (1596-1650).
القلق:
وعي بحرية المرء كإمكانية مطلقة. وهو يختلف عن «الخوف» الذي ينصب على موضوع معين. وهكذا، يمكن أن يخاف المرء السقوط من فوق منحدر شاهق لكنه يشعر بالقلق بسبب إمكانية السقوط من فوقه.
الكائن هنا:
المصطلح الذي استخدمه هايدجر للإشارة إلى الطريقة الإنسانية اللائقة في الوجود. باستخدامه هذا المصطلح بدلا من استخدام كلمة «الإنسان»، فإنه يتجنب «الفلسفة الإنسانية» التقليدية التي تقيد على نحو عفوي تميز الإنسان بالتركيز على الزعم بأن الإنسان «حيوان عاقل».
ما بعد البنيوية:
غالبا ما ترتبط بما بعد الحداثة، وهي تتسم بطبيعة فلسفية واجتماعية علمية أكثر منها أدبية وجمالية. وهي أيضا تتجاوز «شكليات» البنيوية لمصلحة تعددية العقلانيات ونقد الذات الصانعة للمعنى في الفينومينولوجيا والوجودية. تضم الحركة ميشيل فوكو (1926-1984) وغيره من البنيويين السابقين، مثل جاك لاكان (1901-1981) ورولان بارت (1915-1980)، من بين فلاسفتها.
ما بعد الحداثة:
بديل نقدي للحداثة أكثر من كونها مجرد خلف لها، وهي ترفض التشديد على الذات وعلى الوعي الذي يميز كلا من الفينومينولوجيا والوجودية. على الرغم من شيوع استخدام المصطلح إلى درجة صار معها عديم المعنى من الناحية العملية، فإنه بلسان مناصره البارز جان فرانسوا ليوتار (1924-1998) يرفض «اللغة السردية الشارحة» مثل النظرية الماركسية عن التاريخ باعتباره صراعا طبقيا وينادي ب «انشطار» المعنى؛ أي التفتيت المتعذر إصلاحه للأجزاء الموحدة الحاملة للمعنى في المجتمع المعاصر.
الموقف:
يوجد البشر «في الموقف»، أي إنهم ينغمسون في معطيات حياتهم الواعية مثل نسبهم وجنسيتهم وجنسهم وهويتهم الاجتماعية وخياراتهم السابقة. هذه هي «واقعيتهم». لكنهم أيضا «يتسامون» بهذه المعطيات عن طريق الأسلوب الذي يرتبطون به بواقعيتهم؛ على سبيل المثال: بالخزي أو الكبرياء، بالاستسلام أو الصمود، بالأمل أو اليأس. الموقف الإنساني مزيج غامض بالفطرة يجمع بين هذين المقومين؛ الواقعية والتسامي، المعطيات والمخرجات. (انظر خداع الذات.)
الهيرمينوطيقا:
منهج لتفسير وفهم معاني «النصوص»، وهو يشمل بصورة عامة أحلام ورموز ونوايا الفاعلين الآخرين، بما في ذلك المرء نفسه.
الوجود:
من المنحى الاشتقاقي، فإنه يعني «البروز خارجا»؛ فالبشر يوجدون، والأشياء ببساطة كذلك. يربطه الوجوديون ب «الوقتية الوجدانية» لا سيما مع المستقبل باعتباره إمكانية. يتجسد الوجود بوضوح في تشبيهات بلاغية كتلك التي استخدمها كيركجارد: «ما معنى أن توجد؟ أن توجد يعني أن تقف في طابور طويل للغاية ثم لا تشتري التذكرة عندما تصل إلى الشباك. لا، أن توجد يعني أن تتشبث باستماتة بشعر عنق الحصان وهو يجري في الوادي. لا، أن توجد أشبه بأن تكون في أشد استعجال ممكن وأنت راكب على ظهر مهر بطيء.» (انظر تواصل غير المباشر.)
الوقتية الوجدانية:
مصطلح طوره هايدجر، واقتبسه سارتر وآخرون، لكن صاغه كيركجارد . وهو يشير إلى الأبعاد الثلاثية لزمننا المعاش منفصلا عن زمن «الساعة» الكمي، أي الماضي باعتباره «إلقاء» أو واقعية، والمستقبل باعتباره «تصورا» أو تجليا، والحاضر باعتباره «سقوطا» أو انغماسا في الحياة اليومية العادية. وهو يستفيض في النظرة الوجودية بأننا بصفة أساسية مقيدون بالزمن، لكنه يركز على بعد المستقبل باعتباره إمكانية، بل فوق كل شيء، أكثر إمكانياتنا ملاءمة، ألا وهو وجودنا المتجه نحو الموت.
صفحة غير معروفة