Ultimate Concern - كما فهمناه - هو ببساطة التفسير الوجودي للإيمان. ولعل الإيمان هو الذي دفع تيليش أصلا لمغامرة تحديث اللاهوت؛ فقد لاحظ أن الإيمان «فقد معناه الحقيقي واتسع حتى أصبح يدل على الاعتقاد في أشياء لا يمكن الاعتقاد بها»، و«أنه في حاجة إلى إعادة التأويل أكثر من أي مصطلح ديني آخر.»
18
ومثلما قال القديس أوغسطين إن الإنسان خلق بحيث يوجهه حب فائق، يقول تيليش إن الإنسان خلق بحيث يوجهه اهتمام قصي،
19
ما معنى الاهتمام بشيء؟ معناه أننا منشغلون به، ونشارك فيه بمجامع النفس، بل وأكثر من هذا، يعني الطريقة التي نشارك بها؛ أي بقلق
Anzious . وبراعة اللغة تطابق بين الاهتمام والقلق في هذا اللفظ (وأيضا في العربية: الشخص المهموم، المشتقة من نفس مصدر الاهتمام، تعني الشخص القلق). هذا الاهتمام القلق قد يكون بالعمل وأدائه والنجاح أو الفشل فيه، أو بالآخرين ... بالأصدقاء وحبهم وتشاركهم الروحي معنا والخوف من أن نفقدهم أو نضرهم، والخوف مما قد يكون مخبوءا في نفوسهم من غيرة وحسد أو حتى كراهية ... الاهتمام القلق قد يكون بأنفسنا بمسئولية التطور تجاه القوة والنضح والحكمة، ثمة أيضا التوق للسعادة واتخاذ القرارات السديدة، وثمة طبعا الاهتمام القلق بالحياة اليومية والخبز والكساء والمسكن ... مثل هذه الاهتمامات ليست حقيرة أو تافهة، بل ضرورية لكي تستمر الحياة والحضارة؛ لكن ... ألا يوجد فوقها اهتمام أعلى منها جميعا؟
بالتأكيد يوجد فوقها الاهتمام القصي، الذي يمثل هدفا أخيرا لا هدف بعده للحياة ... للتجربة الوجودية، ولا بد لها من مثل هذا الهدف، لكي يكون لها معنى. ولنلاحظ أن ما أسماه تيليش بالقلق الروحي، قلق الخواء واللامعنى، ينجم عن فقدان اهتمام قصي، فقدان معنى يمنح المعنى لكل المعاني، فقدان إجابة - مهما كانت رمزية وغير مباشرة - للسؤال عن معنى الوجود، وتيليش يؤكد أن كل شخص لا يسأل عن معنى وجوده هو شخص غير ناضج حتى ولو كان عالما مبدعا أو سياسيا عظيما.
الاهتمام القصي إما أن يكون دينيا، أو دنيويا بواحد من أو حتى بكل شواغل الدنيا السامية: الأشياء المادية والأموال، أو المركز الاجتماعي، أو مصالح الطبقة أو الأمة، أو الحركة السياسية، أو المثل العليا من الأشخاص العظام سواء دينيين أو علمانيين، والأشكال الحضارية والثقافية كالفن والفكر والعلم ... إلخ،
20
كلها مواضيع تستحق الاهتمام القلق، بل وإن بعضها - خصوصا العلم والمال والطبقة - كانت في مراحل تاريخية متفاوتة بمثابة آلهة، إنها أشياء هامة، لكن لا تكفي، لا تصلح لأن تكون الاهتمام القصي الحقيقي ؛ لأنها متناهية وقتية متغيرة زائلة، وتشكل عبئا ينوء بثقله وعينا لأنه يعجز عن أن يعدل بينها.
صفحة غير معروفة