الإهداء
الجزء الأول: مدخل إلى عالم باول تيليش
1 - الالتقاء بين الوجودية والدين
2 - ما هي الفلسفة الوجودية؟
الجزء الثاني: مصادر فلسفة تيليش، النماء، والثمرة
3 - سيرة تيليش: تطوره الفكري وتشكل الأطر
4 - أعماله
5 - تحديث اللاهوت
الجزء الثالث: فلسفة تيليش: اللاهوت والوجودية
6 - تعامد القطبين: اللاهوت والفلسفة
صفحة غير معروفة
7 - الوجودية الدينية
8 - المتعالي ... القصي
9 - اللاهوت الحضاري
الإهداء
الجزء الأول: مدخل إلى عالم باول تيليش
1 - الالتقاء بين الوجودية والدين
2 - ما هي الفلسفة الوجودية؟
الجزء الثاني: مصادر فلسفة تيليش، النماء، والثمرة
3 - سيرة تيليش: تطوره الفكري وتشكل الأطر
4 - أعماله
صفحة غير معروفة
5 - تحديث اللاهوت
الجزء الثالث: فلسفة تيليش: اللاهوت والوجودية
6 - تعامد القطبين: اللاهوت والفلسفة
7 - الوجودية الدينية
8 - المتعالي ... القصي
9 - اللاهوت الحضاري
الوجودية الدينية
الوجودية الدينية
دراسة في فلسفة باول تيليش
تأليف
صفحة غير معروفة
يمنى طريف الخولي
الإهداء
إلى الإنجيليين الأقباط ... والإخوة الأعزاء بالهيئة الإنجيلية القبطية للخدمات الاجتماعية، مودة وتقديرا لأنشطتها الثقافية الجادة.
ي. ط.
الفلسفة الوجودية تطرح بصورة جديدة وجذرية،
تساؤلات ... إجاباتها معطاة في الإيمان بالدين.
57
مقدمة
اللاهوت الوجودي
بقلم أ.د. حسن حنفي
صفحة غير معروفة
كان مصير اللاهوت دائما معلقا بتاريخ المذاهب الفلسفية، يتغير بتغيرها. فعندما نشأت الفلسفات الحسية والتجريبية والطبيعية نشأ اللاهوت الطبيعي عند بالي وهيوم، وبعد نشأة المذاهب العقلانية الكبرى نشأ اللاهوت العقلي عند فولف وليبنتز وكانط.
وعندما ظهر الطريق الثالث في الفلسفة بين هذين التيارين المتعارضين اللذين جعلا الوعي الأوروبي أشبه بالفم المفتوح؛ أي طريق فلسفات الحياة والظاهريات وفلسفة الوجود، ظهر اللاهوت الوجودي عند فروم وتيليش وبارت وبولتمان، يرتبط بالإنسان، وليس بالله، ويحلل الوجود الإنساني في أبعاده المختلفة من هم وقلق وموت ويأس وأمل وزمان وجسم. ومنذ فيورباخ في «جوهر المسيحية» لم يعد اللاهوت «علم الله»، بل تحول إلى «علم الإنسان»، وتحول الموقف الزائف المغترب في الدين إلى موقف شرعي أصيل. فالله هو أعز ما لدى الإنسان، جوهره وماهيته، يقذفها الإنسان خارجا بدلا من أن يبقى فيه فينشأ اللاهوت المزيف المغترب القديم، أو يسترده الإنسان فينشأ اللاهوت الإنساني الوجودي الشرعي الأصيل.
وقد ساهم اللاهوت البروتستانتي في بلورة اللاهوت الوجودي أكثر من اللاهوت الكاثوليكي، وذلك منذ أن ربط لوثر بين الحقيقة الدينية والإيمان الشخصي في اللحظة وليس في التاريخ. فالإيمان علاقة رأسية بين الله والإنسان، وليس علاقة أفقية بين المسيح والكنيسة. فالإيمان شخصي وليس تاريخيا، والوحي في الكتاب وليس في التراث الكنسي. ويتم الخلاص بالإيمان وحده - التقوى الباطنية، وليس بالأعمال - أفعال الشريعة والمظاهر الخارجية.
وهنا تبدو الوجودية عند تيليش وبارت وبولتمان وجوجارتن وياسبرز ومارسيل وبيرديائيف وشستوف وروبنسون فلسفة إيمانية، بالرغم من أنها تركز على الوجود الإنساني، كما هو الحال في «لاهوت الأزمة» و«لاهوت الألم». وكما هو الحال في الوجودية، السؤال أهم من الجواب ووصف الأزمة أهم من حلها. ولا فرق بين وجودية مؤمنة من نوع وجودية تيليش، ووجودية أخرى عند نيتشه وهيدجر وسارتر لا تشير إلى البعد الإيماني صراحة، وإن كانت البدائل المطلقة موجودة، مثل: إرادة القوة والإنسان المتميز والحياة عند نيتشه، والوجود العام والزمان عند هيدجر، والحرية والعدم عند سارتر.
ولأول مرة في اللغة العربية تظهر هذه الدراسة، في فلسفة بول تيليش بعنوان: الوجودية الدينية عن اللاهوت الوجودي، في مجتمع ما زال يعلن أن اللاهوت علم مقدس ثابت لا يتغير، وأن الوجودية كفر وإلحاد وإنكار الدين والإيمان، وما زال يظن أن الحديث عن الوجود الإنساني دون ذكر الله صراحة أو البداية به أقرب إلى العلمانية الغربية منه إلى الإيمان الإسلامي، بالرغم مما قاله الصوفية من المقارنة بين الله والإنسان الكامل، وبالرغم مما ورد في الأثر الفلسفة الوجودية تطرد بصورةمن أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.
وهي دراسة عامة وشاملة، تبدأ بمدخل إلى عالم بول تيليش، وتبين الالتقاء بين الوجودية والدين، وأن الوحي ليس فقط إجابة على أسئلة نظرية، بل يقدم أيضا حلولا لمشاكل عملية متجاوزا الوجودية الخالصة التي تقوم على التساؤل. ثم تعرض الدراسة لأهم ملامح الفلسفة الوجودية، مثل رفض الأنساق الفلسفية التي تقوم على الماهية، والتركيز على أبعاد الوجود الإنساني، مثل الفردية والذاتية والوجود الأصيل، والحرية الإنسانية، والموقف، والمسئولية والالتزام، مع بعض الاستطراد قبل الدخول في الوجودية الدينية عند تيليش.
كما تؤصل الدراسة اللاهوت الوجودي عند أوغسطين، والمعلم إيكارت، ويعقوب بوهمه، دون ذكر كبار الصوفية في العصر الوسيط، مثل القديسة تيريز من أفيلا، والقديسة كاترين من جنوا، والقديسة كاترين من سين. كما تؤصله عند بعص الفلاسفة المحدثين مثل بسكال ومين دي بيران، أو الذين يعطون الأولوية للتجربة الحية السابقة على التفكير. وقد كان سقراط من قبل إماما للجميع.
وتعرض الدراسة لمصادر فكر تيليش، ابتداء من عرض سيرة حياته وتطوره الفكري، وتأثره بشلنج الذي كانت فلسفته أيضا تحويلا للدين - في «مقدمة في علم الأساطير» - إلى تجارب إنسانية حية تعبر عن نفسها بالأسطورة، وكما فعل شتراوس ورينان في «حياة يسوع». فالأساطير الدينية في بدايتها تجارب حية فردية واجتماعية وتاريخية تتم صياغتها بالخيال من خلال البعد الفني، قبل أن تتحول إلى تصورات تقوم على التنزيه العقلي؛ لذلك ارتبط تيليش بكيركجارد، وشلنج ونيتشه، بفيلسوف الوجود، وفيلسوفي الأسطورة.
ثم تعرض الدراسة لفلسفة تيليش واللاهوت الوجودي لديه، ومدى تعاون اللاهوت والفلسفة في صياغة الفكر. الفلسفة تعطي الفكر، واللاهوت يعطي الأنطولوجيا. الفلسفة تعطي المعرفة، واللاهوت يكشف الوجود؛ وبالتالي، أصبح تيليش فيلسوف وجود وأحد مؤسسي الأنطولوجيا المعاصرة. وكان من الطبيعي بعد حربين عالميتين طاحنتين، كانت ألمانيا فيهما هي الخاسرة، أن يحاول تيليش إعادة بناء الأمة والوطن، على أساس ديني، آخذا في الاعتبار أزمة الواقع ومتطلبات العصر. فأسس «لاهوت الحضارة» كي يمكن إعادة بناء الحضارة الإنسانية على ماهية أو جوهر مستمد من الدين باعتباره حاملا للقيم الإنسانية الثابتة والمطلقة.
ويبدو أن عصر النهضة بعدما تحول من التصور المركزي حول الله
صفحة غير معروفة
THEOCENTRISM
إلى التصور المركزي حول الإنسان
ANTHOROPOCENTRISM
انتهى إلى خسارة الاثنين معا؛ فقد كان الله أولا بلا إنسان، ثم أصبح الإنسان ثانيا بلا إله. وفي كلتا الحالتين ضاع الإنسان لغيابه أولا، ثم لحضوره وحيدا ثانيا. أعلن نيتشه «أن الله قد مات» في أواخر القرن الماضي حتى يحيا الإنسان. ثم أعلن رولان بارت «أن الإنسان قد مات». فمن الذي يعيش الآن؟ ومن ثم ضاعت القيم، وانهارت الحضارة، وعم العدم، وانتشر الموت في الروح، ما دام الإنسان هو النسبي، إنسان القوة والمصلحة، إنسان بروتاجوراس؛ لذلك حاول تيليش العودة إلى الأساس الإلهي لبناء الوجود الإنساني والحضارة الإنسانية على الشرعية الإلهية (الثيونومي).
ومن هنا أتت ضرورة إعادة بناء الفكر الديني طبقا لكل عصر. فقد عكس كتاب الأناجيل تصورهم للعالم، وأحوال عصرهم. فالإيمان منذ البداية كان يعبر عن حالة الجماعة المسيحية الأولى، تجربة معاشة، كما تشكلت العقائد في المجتمع وفي حياة الناس، وكما عرضت مدرسة «تاريخ الأشكال الأدبية» عند بولتمان وديبليوس. وهذا يستلزم تحديث اللاهوت حتى يعبر عن أوضاع كل عصر.
واللاهوت قادر على الاستجابة لمتطلبات كل عصر. فاللاهوت كالأيديولوجية السياسية وكالمذهب الفلسفي. وتستطيع الذاكرة أن تقوم بإعادة البناء هذه، بما لديها من رصيد تاريخي طويل. ولا فرق في ذلك بين المسيحية وسائر الأديان في ضرورة إعادة البناء طبقا لحاجات العصر.
لقد انتهت العلمانية الغربية إلى إنسان ومجتمع بلا إله؛ لذلك يعيد تيليش بناءها حتى تقوم على أساس من القيم الثابتة باسم الدين وليس ضده؛ لذلك يظهر الله باعتباره رمزا دينيا ليس كما يتصوره اللاهوت، بل كما يتصوره فيلسوف التعالي والمفارقة، أو ما أسماه المسلمون «التنزيه»، حتى يتجاوز الوعي ذاته باستمرار إلى ما هو أعلى وأشمل وأعم. وعلى هذا النحو يمكن تجاوز الاشتراكية المادية كما تمثلت في الماركسية، أو الاشتراكية القومية كما تمثلت في النازية، إلى الاشتراكية الدينية التي تقوم على الإيمان بالله وعلى المساواة بين البشر.
وتمتاز هذه الدراسة بقدرة على الفهم والتعمق للموضوع ووضوح العرض، وبالثقافة الواسعة والاعتماد على الدراسات السابقة، والإحالة إلى المراجع. تجمع بين تحليل المصادر الأصلية والدراسة المباشرة للنصوص الأولى. لم تكتف بما قيل في الموضوع، ولم تقتصر على التحليل المباشر للمادة العلمية، بل جمعت بين الاثنين؛ بين اجتهادات السابقين واجتهاد المحدثين.
ومع ذلك يكتفي البحث بالعرض دون التطوير، وبالتعاطف دون النقد، وبالحماس للموضوع دون التباعد عنه، الضروري للحكم عليه. وربما غاب عنه التركيز على قضايا المجتمع والعدالة الاجتماعية والسياسية كما غاب وضع الآخر خارج الحضارة الأوروبية، وضع الإنسان الوجودي في العالم الثالث . كما غابت المقارنات مع حضارات أخرى قد تكون قد اجتهدت أيضا في تأصيل اللاهوت الوجودي في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
والدكتورة يمنى طريف الخولي صاحبة هذه الدراسة أستاذ بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، تلميذة لي، تشرفت بالتدريس لها على مدى أربع سنوات في السبعينيات، وهي صاحبة وجهة نظر شاملة للفلسفة، لا تقتصر فقط على فلسفة العلوم - وهو تخصصها الدقيق - بل تمتد اهتماماتها إلى الفلسفة الإنسانية والاجتماعية بوجه عام، كما هو الحال عند فيلسوفها «كارل بوبر». تعيش فكرها وتخلص له، تؤمن بما تكتب، وتكتب ما تؤمن به. وعت الفكر منذ أن كانت طالبة، واجتهدت فيه في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، حتى ترقيتها. ما زالت تعطي، في فلسفة العلوم، وفي الفلسفة العامة. الفكر لديها حياة، والفلسفة لديها التزام، والبحث قضية، والعلم موقف. الفلسفة لديها رسالة وليست مهنة، دعوة وليست حرفة، نبوة وليست كهانة. وبهذه الدراسة تفتح الطريق لمزيد من الدراسات اللاهوتية المعاصرة، حتى نتجاوز مفهوم اللاهوت الثابت الأبدي: نظرية الذات والصفات والأفعال، لاهوت كل العصور. فاللاهوت متغير بتغير العصر، يعبر عن روحه وثقافته واحتياجاته. اللاهوت علم إنساني، يكشف عن طبيعة الموقف الإنساني، وعن تغيره بتغير المجتمعات ومراحل التاريخ.
صفحة غير معروفة
الجزء
مدخل إلى عالم باول تيليش
الفصل الأول
الالتقاء بين الوجودية والدين
باول يوهانس أوسكار تيليش
(1886-1965م)، قسيس بروتستانتي، ومنظر لاهوتي، وفيلسوف ديني من أعظم وأبرز فلاسفة المسيحية في القرن العشرين. آمن بأن الوحي ليس فقط إجابة عن تساؤلات نظرية، بل أيضا حلول مثلى للمشاكل العملية؛ فكان أقدر من عبر عن علاقة العقيدة الدينية بالحياة الحضارية للإنسان المعاصر وبموقفه الوجودي، وبصور جعلته من طليعة المعنيين بالإشكالية الحضارية المعاصرة، سواء لاهوتيون أو علمانيون؛ فهو على الحدود بينهما. وسوف نرى أن مجمل فلسفة تيليش - ككل وكأجزاء - إنما يلخصها الموقف: على الحدود.
تدور أعماله الجمة حول تأكيد قدرة اللاهوت الفذة والفريدة على تقديم الإجابات المرضية والمشبعة لتساؤلات الوجود الإنساني الملحة، وبالتالي على تقديم العلاج الناجع للأدواء المزمنة التي تعاني منها الحضارة الغربية في القرن العشرين. هذا شريطة الثورة على الميراث التقليدي، وتحديث اللاهوت وإعادة صياغته. وقد فعل تيليش هذا، لكن على أسس وجودية.
إن اللاهوت والوجودية يتآزران ويتلاحمان في فكر باول تيليش، ليمثلا نقطة انطلاق إلى غد أفضل، لحضارة أفضل ... إلى وجود جديد، لإنسان جديد؛ لذلك كان هذا الكتاب من أجل الوقوف على الوجودية اللاهوتية أو الدينية كما تحققت مع باول تيليش، في واحدة من أقوى وأخصب صورها.
والواقع أن ثمة أكثر من دافع وراء هذا الكتاب، وأكثر من هدف يزمع تحقيقه. فعلى الرغم من كثرة متكثرة من الفلاسفة والمفكرين والأدباء الذين يندرجون بصورة أو بأخرى تحت مصطلح «الوجودية
Existentialism » المراوغ؛ فإن القلة هي التي تعترف بالهوية الوجودية صراحة، ربما لأن القلة هي التي تدرك صراحة المعنى الدقيق لهذا المصطلح الواسع الانتشار، والكثير الالتباس. وعلى أية حال، فإن تيليش من الوجوديين الذين يؤكدون بمنتهى الإصرار والإمعان - قولا وفعلا - على وجوديتهم.
صفحة غير معروفة
فهل هذا لأنه قسيس بروتستانتي؟ •••
فقد كان الأب الشرعي للفلسفة الوجودية هو البروتستانتي الدنماركي العظيم سرن كيركجور
Soren Kierkegaard (1813-1855م)، أكثر البروتستانتيين بروتستانتية، أو هو «بروتستانتي البروتستانتية»،
1
ومع هذا جرى العرف على تقفي أثره وتتبع مسارات ونمو الفلسفة الوجودية بعده في معاقل الفكر العلماني - في الفلسفة، وبعض التيارات والأعمال الأدبية.
ولكننا لاحظنا أن فلسفة اللاهوت البروتستانتي في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت شد ما تأثر بالفلسفة الوجودية واستقطبها، وعرف كيف يستغل مقولاتها في إقامة دعاويه.
وعلى الفور يبرز في هذا الصدد اللاهوتي الوجودي المميز رودلف بولتمان
R. Bultmann (1884-1976م)؛ فقد رأى أن العهد الجديد في جوهره رسالة وجودية بأعمق ما في الكلمة من معنى، لكن الكوزمولوجيات البدائية المعاصرة له - ذات الأصل الغنوصي - قد ألحقت به الأساطير وشوهته، بحيث نجده لا يصلح البتة موضوعا للإيمان الحقيقي للإنسان في القرن العشرين - في أوج عصر العلم. من هنا كان بولتمان ناقدا تاريخيا قاسيا للعهد الجديد، بغية إعادة صياغته على أسسه الحقيقية - أسسه الوجودية - التي تجعله أجدر وأقدر على البقاء في الحضارة المعاصرة؛ أي هدف بولتمان إلى إعادة بناء المسيحية على أسس وجودية، تنتهي إلى قرار إنساني باختيار الوجود الأصيل دونا عن الوجود الزائف. وهذه رسالة يعجز عنها العقل المنطقي، وكانت وسيلة بولتمان لتحقيقها هي المفاهيم الوجودية، ومصطلحات مارتن هيدجر
M. Heidegger (1889-1976م) بالذات. وثمة - على وجه الخصوص - مفهومان، قدمهما هيدجر بالألمانية - لغته ولغة بولتمان - وليس لهما مقابل دقيق بالإنجليزية، اكتسبا أهمية خاصة بالنسبة لهيدجر، وقد جعلهما بولتمان هكذا بالنسبة للاهوت الوجودي. هذان المفهومان هما: «أولا
Fragestellung ؛ أي طريقة طرح التساؤل، التي تتناول التساؤلات اللاهوتية بوصفها قبل كل شيء تساؤلات عن وجود الإنسان في علاقته مع الرب، وتفسر الكتابات المقدسة بوصفها عبارات معنية أساسا بوجود الإنسان. وثانيا مفهوم
صفحة غير معروفة
Begriffichkeit ؛ أي نسق من المفاهيم الأساسية، مشتقة من فلسفة الوجود.»
2
وبرفقة بولتمان يقف فردريش جوجارتن
F. Gogarten (1887-1967م)، الذي آمن بأن إمام البروتستانتية مارتن لوثر قد حطم من ثقل الميتافيزيقا على اللاهوت، ووجه تفكير الكنيسة إلى ما نسميه الآن ب «القنوات الوجودية». بيد أن استبصارات لوثر ضاعت في فترة أصوليات البروتستانتية التقليدية التي تلته، ونحن الآن في حاجة إلى إعادة توكيدها، وأفضل طريقة لفهمها ليست عن طريق اللاهوتيين، بل عن طريق فلاسفة علمانيين أمثال مارتن هيدجر،
3
والإيمان في نظر جوجارتن ينشأ على أساس التفسير الوجودي للتاريخ المقدس، الذي يجعلنا نراه فضا لمغاليق وجودنا نحن التاريخي، في ظل الثقة بكلمة الرب. وهذا شيء لا نتعلمه فقط من الوجودية الحديثة، بل وأيضا من الفهم السليم لتعاليم لوثر. أما فريتس بوري
Fritz Buri
فقد صدق بمجامع نفسه على دعوى بولتمان بالتفسير الوجودي للعهد الجديد، وتجريده من الأساطير، ولدرجة جعلته بولتمانيا أكثر من بولتمان نفسه؛ فقد سار في طريقه إلى أبعد مما سار. وأعمق صورة لتطبيق الوجودية على المشاكل اللاهوتية وأكثرها جذرية إنما نجدها في مشروع بوري ل «لاهوت الوجود».
4
إن بولتمان ومدرسته يقفون ضمن فيالق الثورة على اللاهوت الليبرالي أو اللاهوت المتحرر. واللاهوت الليبرالي بدوره حركة بروتستانتية انتشرت في القرن التاسع عشر، وذاعت وشاعت، حتى سادت الأجواء في مطالع هذا القرن، تفسر اللاهوت على ضوء الخبرة الإنسانية، وبالتالي المتغيرات الحضارية. واستمرت في ذيوعها حتى عام 1914م؛ أي قيام الحرب العالمية الأولى. فحتى هذا التاريخ كان اللاهوت الليبرالي - ومجمل الفكر الديني - يتطرف أكثر في اتجاه النزعة المتفائلة خصوصا بعدما تلقحت بروائح من الجدل الهيجلي والتطور الداروني. ولكن نواتج الحرب وما خلفته من كوارث جعلت أساسيات الحركة في حاجة إلى بعث وإعادة صياغة. وهذه هي المهمة التي تكفل بها باول تيليش، وأحرزها بنجاح ملموس. واللاهوت الليبرالي - قبل عام 1914م وبعده - يستند على خطوط وجودية واضحة، بل وإنه يستمد أولى أصولياته من القديس أوغسطين
صفحة غير معروفة
St. Augustine (354-430م) أول المبشرين بإرهاصات الوجودية. وكان الاتجاه البروتستانتي المعارض للاهوت الليبرالي يستند أيضا على الوجودية. فكارل بارت
K. Barth (1886-1968م) هو أشد اللاهوتيين البروتستانتيين نفورا من اللاهوت الليبرالي ورفضا له وتبرؤا منه، قاد الثورة عليه وقدم لاهوتا مناقضا يبدأ من الله كما تجلى في المسيح لا من الخبرة الإنسانية والحضارة، ويفسر اللاهوت بصلب ذاته. وبارت هو الآخر وجودي صميم، توضح أعماله، وأهمها «رسالة إلى أهل روما»، وأضخمها «دوجماطيقيات الكنيسة»، مدى اقتفائه لخطى كيركجور وانتهاجه لأسلوبه في الكتابة. «وكان لوجودية كيركجور تأثير عظيم على لاهوت بارت الخاص، وربما أيضا على اللغة التي عبر بها. وهو على أية حال قد اعتقد فيما بعد أن طريق الوجودية سوف يؤدي لا محالة لنقطة بدء القرن التاسع عشر إلى الإنسان الديني [أي إلى نقطة بدء اللاهوت الليبرالي] فكانت الوجودية معه فقط لتعطينا وصفا أعمق وأثقب لهذه الدينية في أفضل صورها، بيد أنها لا تمنحنا الأساس العقلي للاهوت يريد أن يتحدث عن الرب بمصطلحات عقلانية ومتعلقة، كما كان بارت في نهاية الأمر يطمح لأن يفعل، ومع كل هذا كان كيركجور معبرا هاما عبر عليه بارت إلى العالم الجديد للاهوته المطور، وربما لم يفلح تماما في زعزعة تأثيره.»
5
وسوف نتعرض فيما بعد بالتفصيل للاهوت الليبرالي، والصورة التي اتخذها مع تيليش تحت اسم «اللاهوت الحضاري»، وأيضا لموقف بارت المعارض.
وما ينبغي أن نصوب عليه الأنظار الآن، كيف أن كبار أئمة اللاهوت البروتستانتي الممثلين لأهم اتجاهاته المعاصرة، بولتمان وبارت وتيليش، على الرغم من اختلاف مشاربهم البروتستانتية بل وتناقضهم بصدد قضية مبدئية حول تفسير اللاهوت أمن صلب ذاته أم من حيثيات التجربة الإنسانية؟ إنما يتفقون في الانطلاق من الأرضية الوجودية. وهذا ينطبق أيضا على رجالات الصف الثاني لفلسفة اللاهوت البروتستانتي المعاصر أمثال أوجدن
S. N. Ogden
ووليم كاملاه
W. Kamlah
من أتباع بولتمان. وإميل برنر
E. Brunner (1889-1966م) أعظم الممثلين لما أسماه كارل بارت بلاهوت الكلمة، وإن كان قد افترق مع أستاذه في بعض النقاط، ويزامله في اتباع بارت اللاهوتي أوسكار كلمان
صفحة غير معروفة
O. Cullman . أما أخلص تلاميذ تيليش فهو الأسقف روبنسون
Bishop J. A. T. Robinson ، يوضح كتابه «مخلص للرب
Honest to God » كيف أنه أجاد استيعاب وتمثل فلسفة أستاذه، وأيضا تطويرها والإضافة إليها، حتى وصل إلى درجة أثارت عاصفة شديدة بين اللاهوتيين، حين صدوره عام 1963م. ولا يفوتنا ذكر أعلام لهم أهميتهم في اللاهوت الفلسفي البروتستانتي، ولهم أيضا استقلالهم، فلا هم رواد ولا هم أتباع. وأهمهم ديتريش بونهوفر
D. Bonhoeffer (1906-1945م) الذي ينافس تيليش في إيمانه بالقيمة العملية والفعالية الحية للاهوت، وأيضا ضرورة تحديثه، والعمل الذي توج حياته القصيرة «ثمن التبعية
The Cost of Discipleship » يذكرنا كل سطر من سطوره بروح كيركجور. وثمة أيضا راينهولد نيبور
R. Niebur (1872-1971م) الرافض للاهوت الليبرالي، «بحيث يعتبره البعض تابعا لبارت»،
6
أبدى اهتماما فائقا بالمسائل الاجتماعية والسياسية وعنى بنقد الليبرالية الديمقراطية للحضارة الأوروبية، مؤكدا على أهمية الدين الأخلاقية. وأهم أعماله في هذا «إنسان أخلاقي ومجتمع لا أخلاقي
Moral Man and Immaral Societyiet » سنة 1932م، «أبناء النور وأبناء الظلام
The Children of light and the children of darkness » وقد احتذى هو الآخر حذو كيركجور في اعتبار الإنسان معلقا بين التناهي والحرية، ولا مندوحة له عن تقبل كليهما كي يحيا بصحة روحية، وهذا التعليق للإنسان يتبدى من خلال القلق الذي هو ظرف مبدئي تنشأ عنه كل خطيئة.
صفحة غير معروفة
7
كل هؤلاء اللاهوتيين البروتستانتيين، وسواهم ممن لا يتسع المجال لحصرهم، وجوديون صرحاء، ولكن طبعا بدرجات متفاوتة في مدى تمثلهم وتمثيلهم للفلسفة الوجودية. ولئن كان لاهوت بولتمان ومدرسته أكثر وأخلص وجودية من لاهوت تيليش، فإن تيليش هو أقدر من استطاع في آن واحد أن يجعل الوجودية تنساب في شرايين البروتستانتية، والبروتستانتية تنساب في شرايين الوجودية، والحياة تنساب في شرايين كليهما.
إن اللاهوت الفلسفي هو البحث في التضمنات الفلسفية للعقيدة الدينية، وليس يصعب إدراك الخاصة الوجودية للتضمنات الأساسية المميزة للبروتستانتية، فلا يدهشنا كل هذا الالتقاء بين اللاهوت البروتستانتي والفلسفة الوجودية، إنه مسألة تتبدى لكل من يمعن النظر في منطلقات ومضمون دعوة لوثر؛ أما عن الزاوية التاريخية لهذا الالتقاء، فقد أشار إليها تيليش نفسه، حين فرق بين ثلاثة وجوه للوجودية: الوجودية بوصفها وجهة نظر؛ وبوصفها اعتراضا أو احتجاجا
؛ وبوصفها تعبيرا. وهو يؤكد أن الوجودية كوجهة نظر حاضرة في القطاع الأعظم من اللاهوت، وأيضا من الفلسفة ومن الفكر، لكنها قد لا تكون على وعي بذاتها. أما الوجودية بوصفها احتجاجا فقد ظهرت كحركة واعية بذاتها منذ الميلاد الرسمي للوجودية مع كيركجور، لتصبح بوصفها تعبيرا خاصة مميزة للفلسفة والفن والأدب، وسادت أوروبا في مرحلة الحربين العالميتين،
8
وإذا كان ديكارت - كما هو معروف - قد شق الطريق المناوئ للوجودية، فإن تيليش يؤكد أن البروتستانتية برفضها للإثقالات الميتافيزيقية والأنطولوجية على العقيدة الدينية، كانت هي التي تحمل لواء وجهة النظر الوجودية. لكن البروتستانتية تراجعت عبر تاريخها عن الكثير من الأراضي الوجودية، وخصوصا تحت ضغط المجتمع الصناعي الذي تنامى في القرن الثامن عشر، الذي يتطلب لحسن إدارته لنفسه وللعالم فلسفة ضد الوجودية ولاهوتا ضد الوجودية، وفقط تحت تأثير الحركات الاجتماعية والتيارات السيكولوجية في القرن العشرين أصبحت البروتستانتية أكثر انفتاحا على المشاكل الوجودية للموقف المعاصر،
9
فكان ما أشرنا إليه من التقاء حميم بين اللاهوت البروتستانتي والفلسفة الوجودية.
وبعد كل هذا، يظل التوقف عند مثال تطبيقي وتمثيل عيني لهذا الالتقاء، هو فلسفة باول تيليش، ليس فقط وقوفا عند شريحة معبرة عن قطاع هام من الفكر اللاهوتي أو الغربي المعاصر، بل هو مسألة أعمق؛ إنه وقوف على طبائع وخصائص مميزة لعناصر أساسية. •••
فلئن كانت الطبيعة الخاصة للبروتستانتية تلقي بها توا في قلب الفلسفة الوجودية، فإن العكس ليس صحيحا، والطبيعة الخاصة للفلسفة الوجودية لن تلقي بها في قلب البروتستانتية فقط، بل كفيلة بجعلها تتوغل في أعطاف أي فكر لاهوتي رام وشائج فلسفية حية، وإذا كان المنشور البابوي الكاثوليكي لعام 1950م قد استبعد الوجودية بوصفها واحدة من الفلسفات المعارضة وغير المرغوب فيها، فإننا نرى هذا عندا في البروتستانتية وليس في الوجودية. وثمة فلاسفة وجوديون وكاثوليك، من الطراز الأول في وجوديتهم وفي كاثوليكيتهم، من أمثال جبريل مارسيل
صفحة غير معروفة
G. Marcel .
إن الوجودية هي الأساس الفلسفي للنظر في الموقف الإنساني المتعين بمسئوليته الفردية الرهيبة؛ حيث لا ينفع المنطق البارد، ولا يشفع المنهج العقلاني الصارم؛ لذلك «يصعب أن يناقش أي لاهوتي متفلسف دعاويه بغير الاستعارة من القاموس الوجودي والالتجاء إلى المفاهيم والمصطلحات الوجودية، من قبيل الهم والقلق والتناهي والإثم والاغتراب، والوجود الأصيل أو الشرعي والوجود الزائف ... إلخ.»
10
وإذا كان ماكينتري صاحب هذه الملاحظة يقول في التعقيب عليها «إن الوجودية في حقيقة الأمر مبدأ لاهوتي محايد؛ لأنها تبرر الولاء للاعتقاد بأن الشخص قد اختاره، وهذا تبرير ينطبق أيضا على العقائد الإلحادية.»
11
فإننا قياسا على تعقيب ماكينتري نقول إن الفلسفة الوجودية هي فقط الكفيلة بإعطاء الإيمان الديني تعميقا وتفسيرا وتبريرا، لا بد أن تسلم بها جميع الأطراف، حتى وإن كانوا ملحدين؛ فالرأي عندي - وهو رأي سيعطينا تيليش المثال الحي والشاهد الأصدق عليه - أنه لا توجد وسيلة لا سبيل لدحضها لتفجير الحياة في اللاهوت وتعميق معايشة التجربة الدينية أنجح وأفضل من الفلسفة الوجودية أو حتى تباريها، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الدين أولا وقبل كل شيء عقيدة، ثم يأتي تطبيق الشريعة كنتيجة ومحصلة للإيمان بالعقيدة، أو بالتعبير الوجودي لقرار اختيار العقيدة تحقيقا للوجود الشرعي (أو الأصيل في ترجمات أخرى نراها الأصوب). •••
وإذا تركنا الآن رحاب اللاهوت الفلسفي، ودلفنا بتوغل أكثر إلى رحاب الفلسفة ذاتها - لكن الفلسفة اللاهوتية أو المستعينة باللاهوت أو حتى مجرد الفلسفة المؤمنة؛ أي إذا تركنا باول تيليش اللاهوتي - سنجد أن باول تيليش الفيلسوف واحد من أربعة فلاسفة ممثلين لتيار هام من تيارات الفكر الغربي المعاصر هو تيار الفلسفة اللاهوتية، التي ترتكز على اللاهوت، وتستمد منه حلولا للمشاكل التي تتصدى لها. وجملتهم باحثون عن الانطلاقة أو الثورة الروحية للإنسان؛ بغية رأب الصدع العميق في بنيان الواقع الجاف ؛ منهم من عرف كيف يحطم الحدود التقليدية المستهلكة للملة اللاهوتية، من أجل تطويرها وتوسيعها وإثرائها ، فتكون أقدر على إنقاذ «الوجود الشخصي». وكانوا بهذا يعطوننا أمثلة نموذجية على الفلسفة الوجودية، وأسلوب ارتكازها على الدين واللاهوت، واستعانتها به، هؤلاء الأربعة هم: ماريتان بوبر
M. Buber (1878-1965م) ممثل الفلسفة اليهودية وذو التأثير الكبير على تيليش؛ وجاك ماريتان
J. Maritain (1882-1975م) ممثل الفلسفة الكاثوليكية؛ ونيقولا بيرديائيف
N. Berdyaev (1874-1948م) ممثل الفلسفة الأرثوذكسية. ويأتي باول تيليش ليمثل الفلسفة البروتستانتية. لقد انتقينا هؤلاء الأربعة فقط ليمثلوا الملل اللاهوتية الأربع في الفكر الغربي المعاصر، لكن من ورائهم يقف جمع غفير لفلاسفة تكفلوا بمثل هذه المهمة، ولعل إسبانيا تتقدم بأكفأ فيلسوفين في هذا الصدد، هما ميجل دي أونامونو
صفحة غير معروفة
M. de Unamuno (1864-1936م)؛ وأورتيجاي جاسيت
Ortega Y Gasset (1883-1955م)؛ ويمثل إنجلترا جون مكموري
G. Macmurry ، وثمة أيضا كارل هايم
K. Heim (1874-1959م)، وسرجيوس بولجاكوف
S. Bulgakov (1870-1944م) ... ويوضح المؤرخ جون ماكوري أن هؤلاء الفلاسفة - خصوصا بيرديائيف وأونامونو اللذين يعتبرهما أعظم ممثلين للوجودية - حين أثبتوا أن الدين أساسا فعالية شخصية، إنما يمهدون لما تطور بعدهم في صورة اللاهوت الوجودي،
12
الذي رأيناه مع تيليش وبولتمان وزملائهما اللاهوتيين، حين اكتملت فلسفة الوجود الشخصي بفلسفة الأنطولوجيا.
وبالتوغل أكثر في رحاب الفلسفة، نلقى في النهاية الوجودية المؤمنة فحسب، وعلى رأسها الفيلسوفان الشهيران صاحبا البصمات الواضحة في بلورة وتطوير مفهوم الوجودية، وهما الفرنسي جبرييل مارسيل، والألماني كارل ياسبرز
K. Jaspers (1883-1969م) الذي فلسف للاهوت الليبرالي البروتستانتي، ومع هذا كان له تأثير على جورجاتن بقوله إن اللطف والوحي ليسا في فعل معين، وثمة كثيرون أقل شهرة، أهمهم الروسي ليون شستوف
Leon Shestov (1866-1938م) الذي جعل عنوان أهم كتب كيركجور (أما ... أو
صفحة غير معروفة
Either ... Or ) أساسا أو هيكلا لفلسفته. وقد انشق شستوف بوجوديته المؤمنة عن الثورة البلشفية، فانضم مع بيرديائف إلى سرب الطيور المهاجرة التي غادرت روسيا طوعا أو كرها. •••
ومن الوقوف على لاهوت فلسفي ثم على فلسفة لاهوتية، نخلص إلى أن العلاقة تبادلية بين اللاهوت والدين وبين الفلسفة الوجودية؛ فكما استعان اللاهوت البروتستانتي بالفلسفة الوجودية ليكون أقوى وأكثر حياة، فإن الفلسفة الوجودية أيضا قد تستعين باللاهوت والدين لتكون أقوى وأكثر حياة ، بل ولتكون أكثر وجودية. فكما قال الرائد كيركجور: «الوجودية الحقة هي المسيحية، أو هي بتعبير أدق صيرورة الإنسان مسيحيا.»
13
إن صلب التفكير الوجودي يقوم على المقابلة بين «الوجود-لذاته»؛ أي الإنسان، وبين «الوجود-في ذاته»؛ أي الشيء. ولا مخرج من هذه المقابلة إلا بوجود-من أجل- ذاته، ومن أجله كل وجود آخر؛ أي الألوهية. وحين يحقق الإنسان مبدئيات الموقف الوجودي؛ أي حين يصوب تفكيره تجاه ذاته المتشخصة الوحيدة المحاقة بالقلق والاغتراب والتناهي والعدم، والمثقلة بعبء الحرية الرهيب؛ فالأرجح أن يلتجئ فورا إلى الموجود المتعالي، الله، أو كما يقول بيرديائيف: «عالم الذات كلما أحكم إغلاق الباب على نفسه، فإنه يكتشف فجأة وجودا متعاليا.»
وليست الألوهية فحسب، بل أيضا الدين بمعناه الحرفي، والمقصود الأديان السماوية؛ فحديثنا لا ينطبق على الكونفوشية أو البوذية مثلا - الدين السماوي له قدرة يصعب منافستها على تضخيم مسئولية الوجود الفردي إلى الحد الذي يجعله حقيقا بالنظرة الوجودية - ولنخطو خطوة أبعد، ونقول ليس التجربة الدينية في عموميتها، بل وأكثر من هذا التجربة الصوفية هي التي تحمل أقصى تحقق للفلسفة الوجودية، والمتصوفة الذين هم أكثر عباد الله عبودية - أو عبودة حسب المصطلح الإسلامي الدال على الدرجة القصوى - هم أيضا أكثر الوجوديين وجودية؛ فالوجودية فلسفة للذات لا الموضوع، والإنسان لا الطبيعة، والتجربة الحية لا العقل النظري، ولن نجد ذاتية تنبذ كل موضوعية، وإنسانية تزدري الطبيعة المادية، وتجربة ذوقية وجدانية تضرب عرض الحائط بمقولات العقل والعقلانية، مثلما نجدها مع المتصوفة. وهل يجادل أحد في أن الميستر إكهارت
Eckhart (1260-1327م) «طليعة عظام المتصوفة»
14
هو مفكر وجودي من الطراز الأول، وأن يعقوب بوهمه
J. Boehme (1575-1624م) أعظم المتصوفة، هو حامل لواء الوجودية في الفترة القبل ديكارتيه.
15
صفحة غير معروفة
ومحصلة كل هذا ما نلمسه من أن الغالبية العظمى من الفلاسفة الوجوديين، كانوا ذوي علاقة متينة مع الدين. والوجوديون الملاحدة الممثلون لمعالم على طريق الوجودية قلة (نيتشه وهيدجر وسارتر وربما كامي) وإن كانت لهم فعلا أهمية كيفية تفوق كل كم، فليست تتعلق أهميتهم الكبيرة بمقولة الإلحاد في حد ذاتها، ولا هي أكسبت فلسفاتهم شيئا مما لها من قوة فائقة.
أما من الناحية الأخرى التي قدمنا بها الحديث؛ أي ناحية اللاهوت، فإن تيليش يعتبره «قد تلقى هبة عظمى من الفلسفة الوجودية»،
16
حتى إنه - أي تيليش - يؤلف مرجعا أكاديميا ضخما يحيط بتاريخ الفكر المسيحي منذ أصوله اليهودية والإغريقية وصولا إلى الفلسفة الوجودية أو انتهاء بها، مؤكدا أن الإنجيل يحمل عناصر مبكرة للتفكير الوجودي،
17
يقول تيليش إن المسيح أتى ليجلب دهرا جديدا
new eon ، وإن «الوجودية قامت بتحليل الدهر القديم؛ أي مأزق الإنسان وعالمه في وضع الغربة. والوجودية بإنجازها لهذا إنما هي حليف طبيعي للمسيحية. وذات مرة قال إيمانويل كانط إن الرياضيات هي الحظ السعيد للعقل الإنساني. وبنفس الطريقة يمكن أن يقول المرء إن الوجودية هي الحظ السعيد للاهوت المسيحي.»
18
أما بالنسبة للاهوت الإسلامي؛ أي علم الكلام، فإننا نلاحظ أن التصوف الإسلامي أنسب منه للاستفادة من الوجودية. ولكن لا تفكير في استفادة، بل فقط إفراغ الجهد في النيل من الوجودية لأنها فلسفة الانحلال والإلحاد! وذلك نتيجة لتعامل سطحي متسرع مع مظاهر بادية ورذاذ متناثر. •••
فبعد كل هذا الحديث في وجودية اللاهوت ولاهوتية الوجودية؛ أي العلاقة التبادلية الوثيقة بين الوجودية والدين، بقي أن نلاحظ أن الوجودية اللاهوتية أو حتى المؤمنة - وهي الأصل كما نشأت مع كيركجور توارت في الظل، وقنعت بالوقوف من وراء الوجودية الملحدة التي انشقت عنها، والتي حظيت بنصيب الأسد - إن لم نقل استأثرت بما لحق الوجودية من شهرة طبقت الخافقين، حين حطمت جدران الأروقة الأكاديمية وانسابت في تيار الحياة اليومية، كما لم تفعل فلسفة أخرى، لا من قبل ولا من بعد، باستثناء الماركسية طبعا.
صفحة غير معروفة
ذلك أن الوجودية قد ظلت كائنة في مستويات البحث العميق والثقافة الرفيعة، يعبر عنها فلاسفة راموا أن يكونوا إنسانيين بمعنى ما، وتلقي بظلالها على أعمال أدباء وشعراء عظام أمثال دستويفسكي وهولدرلين وإليوت، ثم جيمس جويس وكافكا وبيكيت وغيرهم ... حتى كانت الأربعينيات من هذا القرن، وكان جيلها في أوروبا ليشهد أهوال حربين عالميتين، فرأى أن الدول والحكومات النظامية تتخذ قرارات من المفروض أنها عقلانية مدروسة، فتؤدي إلى الخراب والدمار والفزع واليتم والترمل والثكل. ساد هذا الجيل القلق والمعاناة والرفض لكل ما هو موضوعي جمعي عقلاني، وآمن بأنه لا أمل إلا في الخلاص الفردي؛ فكان المرتع الخصيب للوجودية، تفجرت في بلدان القارة الأوروبية، وأصبحت زاد الثقافة، بل الحياة اليومية. على أن وطأة أثقال الحرب أشاعت التشاؤم والسوداوية وفقدان المعنى والأمل والثقة في كل كيان أكبر من الفرد، مما جعل الأجواء، مهيأة أكثر للسير في مقولة الفردانية حتى الوصول إلى أن الإنسان مهجور في هذا الكون - أي إنكار وجود إله يلوذ برحمته الواسعة وقدرته الشاملة، وكتيار فرعي للوجودية التي رأيناها أصلا وأساسا مؤمنة - اشتدت الوجودية الملحدة التي يعد فردريك نيتشه
F. Nietzche (1844-1900م) رائدها، وهيدجر أعظم منظريها، وهو في الواقع أعظم منظري الوجودية على إطلاقها. أما الوجوديون الملاحدة في فرنسا بزعامة قطب الوجودية الأشهر جان بول سارتر
J. P. Sartre (1905-1980م) - ورفقة سيمون دي بوفوار وألبير كامي - فقد تميزوا بموهبة أدبية دافقة، فصاغوا وجوديتهم العبثية التشاؤمية في قوالب فنية جذابة؛ مقالات ومسرحيات وروايات وقصص رائعة، أكسبتهم - دونا عن سائر الوجوديين - شهرة واسعة وجمهور قراء غفيرا، ما كان أحد منهم ليقرأ حرفا واحدا في البحوث الفلسفية المتخصصة. لقد كانت كتاباتهم إنجيل جيل الأربعينيات والخمسينيات.
ووصل هذا المد إلى المكتبة العربية في الستينيات، وامتلأت بأعمال جمة تعرض للفلسفة الوجودية، بحثا ودراسة ونقدا وترجمة ومقارنة وتأصيلا وأحيانا إضافة، ولكن أيضا كان الذيوع من نصيب الوجودية الملحدة؛ سارتر ثم نيتشه ثم هيدجر. حتى وإن كانت قد ظهرت بعد ذلك بعض الدراسات القيمة والترجمات الرصينة لآثار الوجودية المؤمنة، وعروض شمولية للوجودية تستوعبها، فإنه لا تزال الوجودية الملحدة، خصوصا عند سارتر بالنسبة للمثقفين، وعند هيدجر بالنسبة للمتخصصين، هي التي تقفز إلى الأذهان كلما ورد المصطلح في الأوساط العربية. وقد تذكر أو لا تذكر الوجودية المؤمنة، ودع عنك الوجودية اللاهوتية والدينية.
وبلغ هذا الخلل الفلسفي حدا، جعل مصطلح الوجودية يرتبط عندنا في أذهان أنصاف المثقفين بالإلحاد، وقد يطابقه!
والواقع أن هذا الخلل لا يعود فقط إلى قدرات الوجوديين الملاحدة الفلسفية ومواهبهم الأدبية أو إلى ظروف حضارية لهم موئسة، فساعدت على رواج أعمالهم؛ بقدر ما يعود إلى غموض والتباس شديدين يحيقان بمفهوم الوجودية، وليس فقط في أوساط المثقفين أو حتى المتخصصين، بل وأيضا في أوساط الفلاسفة، والفلاسفة الوجوديين أنفسهم! فمن ينطبق عليهم هذا الاسم جمع غفير من الفلاسفة «ليس يجمعهم شيء بقدر بغضهم وتقاذفهم لبعضهم، وتبرؤ معظمهم من هويته الوجودية.»
19
حتى شك سارتر نفسه في أن لقب الوجودية قد أصبح خاليا من المعنى. وهيدجر وياسبرز ومارسيل الذين لا بد أن يشملهم أي نقاش للوجودية، رفضوا جميعا هذا اللقب حتى انتهى «روجرشن» إلى أن الوجودي الذي يحترم نفسه لا بد أن يرفض أن يطلق عليه لقب وجودي، وهو يقصد أن الوجودي الحقيقي يرفض التقولب في قالب معين بحيث يصبح فردا في فئة تعرف بالوجوديين.
20
ويبدو أن هذا هو السبيل الوحيد الذي تراءى لشن «كي يخرج من متاهات الوجودية» ساعد على تفاقم أحابيلها الهرج والمرج والضجيج والجلبة التي لحقت بالوجودية في أعقاب الحرب العالمية، ولكن مع أفول الستينيات شب عن الطوق جيل لم يشهد أوزار الحرب العالمية، واستعاد الثقة بالعقل، وإلى حد ما بالهيئات النظامية، فلم يلق هواه مع الوجودية. لقد انحسرت موجتها بعد طول مد، وتقلصت، بل تلاشت كبدعة شعبية، يتشدق بها عن وعي وعن غير وعي المثقفون وأنصاف المثقفين وأشباه المثقفين، وتبقى الأسس النظرية إثراء للإنسانية، وموضوعا للبحث الأكاديمي، الهادئ الرصين والمثمر، فتوضع نقاط على الحروف.
صفحة غير معروفة
لكل ذلك وجدناه لزاما علينا قبل الدخول في عالم باول تيليش أن نبذل قصارى الجهد لتحديد مفهوم الوجودية تحديدا دقيقا، منذ نشأته مع كيركجور في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى تبلور تماما في الربع الثاني من القرن العشرين، وبفضل لا يمكن تجاوزه للوجوديين الملاحدة. وسوف يلاحظ إلى أي حد روعي أن يكون هذا التحديد شموليا وموضوعيا، وبصرف النظر عن قضية إيمان الوجودية أو إلحادها؛ حتى لا يحمل شبهة المصادرة على المطلوب. وسوف نلاحظ أيضا كيف سيتجه المنحنى الموضوعي من تلقاء ذاته في اتجاه الوجودية الدينية، وبالتالي في اتجاه عالم باول تيليش.
الفصل الثاني
ما هي الفلسفة الوجودية؟
لعل أحد مصادر ذلك اللبس - الذي رأيناه - أن الوجودية ذاتها تتسم بقدر من الهلامية؛ فهي ليست البتة مذهبا فلسفيا دقيقا، منهاجا وتطبيقا. كلا، ولا هي مدرسة يمكن صياغة تعاليمها في قضايا محددة.
بل وأن صميم فعل المخاض الذي أنجب الوجودية، والذي سيظل دامغا إياها بمعالمه هو ذاته النفور من المذهب والمذهبية. وعلى وجه التحديد يمكن اعتبار الميلاد الرسمي للفلسفة الوجودية بمثابة رد فعل رافض لمذهب الماهية
Essence ، كما وصل إلى ذروته مع هيجل
F. G. Hegel (1770-1831م). قامت الفلسفة الوجودية لتناهضه وتقول إن تلك الماهية الثابتة موضوع الخبرة المعرفية العقلانية، ليست هي الحقيقة في تعينها واكتمالها. الحقيقة هي - بالأحرى - الوجود الذي نمر به في الخبرة الفورية الحية، وسوف نرى أن التمييز بين الوجود والماهية من الأسس الكائنة في صلب الفلسفة الوجودية.
وكدأب البحث الفلسفي، بذلت محاولات عديدة لتعقب جذور الوجودية في أعماق التاريخ الفلسفي، وصلت حتى مين دي بيران
Main de Biran (1766-1824م)
1
صفحة غير معروفة
وبليز بسكال
B. Pescal (1623-1662م)، والقديس أوغسطين، بل وحتى سقراط العظيم،
2
ولكن المعتمد أكاديميا أن فلسفة كيركجور أول صورة ناضجة مكتملة لها، وصك شهادة ميلادها الرسمية التي لا بد أن يعترف بها الجميع. وفي عصر كيركجور، كان الافتتان بالعقل - الذي بدأه أبو الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت ووصل إلى ذروته مع هيجل - قد بلغ مداه؛ فنجيب العقل الأثير - أي العلم - قد أحرز الذروة الشاهقة بنظرية نيوتن، إنها نسق شامل للعلم بالطبيعة، تجاهد بقية أفرع العلوم البيولوجية والإنسانية للدخول في أعطافها. يوازي هذا نجاح الفلسفة العقلانية - خصوصا الألمانية - في بناء أنساق شامخة، تحاول استيعاب الوجود بأسره في قلب فئة من التصورات؛ فأشرق القرن التاسع عشر في أحضان ما يعرف ب «عصر التنوير» - عصر الإيمان بقدرة العقل على فض كل مغاليق هذا الوجود.
وكرد فعل متوقع، تمخض عصر التنوير عن الحركة الرومانتيكية، من حيث تمخض عن فلسفة كيركجور الوجودية، التي كانت نقطة بدايتها رفض العقلانية التنويرية حيث سيادة المذاهب النسقية ، سواء العلمية أو الفلسفية؛ فهي في كلتا الحالتين باردة جافة مقطوعة الصلة بالتجربة الحية المعاشة، وتنظر إلى أية حقيقة واقعية - حتى الإنسان - كموضوع، كشيء ما غريب عنه، وتسحق فردانيته بما فيها من موضوعية وعمومية وتجريد.
ولسوف يظل ديدن الفلسفة الوجودية منذ البداية وحتى النهاية رفض كل ما يمس فردانية الفرد؛ «فهم يجعلون محور النظر الفلسفي السؤال: ماذا أكون»
3
من أجل إبراز قيمة الفرد، و«تحليل الوجود البشري من حيث أخص ما فيه من فردية وعينية»،
4
ومن حيث هو جزئي عارض لا يندرج تحت أية بنية نسقية عقلية، ليصلوا إلى الوجود كما يتجلى في مواقف التفرد الإنساني - مواجهة الموت مثلا وهو أقصاها. فبهذا يصبح العالم متأصلا في صميم الفرد، لا مفارقا عنه في مذهب عقلي مصمت، لا يعترف به ولا بفردانيته.
صفحة غير معروفة
الوجودية إذن فلسفة للوضع الإنساني، على أن نميز بين اتجاهين لفلسفة الوضع الإنساني: الأول هو الماهوي الذي ينظر إلى الإنسان في حدود طبيعته الماهوية داخل الكون ككل؛ والاتجاه الآخر هو الوجودي الذي ينظر إلى الإنسان في معضلته في الزمان والمكان ويرى الصراع بين ما هو موجود فيهما، وما هو معطى في الماهية،
5
كإمكانية تنتظر التحقق.
والفيلسوف الألماني المنتمي للكانتية الجديدة هاينيمان
F. Heine mann
هو الذي قدم مصطلح «الوجودية
Existentialism » فقط عام 1929م،
6
وكان مصطلحا شديد الدلالة وصائبا جدا؛ فهو مشتق من الجذر
Ex-sistere
صفحة غير معروفة