وبقدر ما كان عدم تدخل الحكومة في شئون المعارف وبالا على التعليم فإنه كان نافعا للصناعة، إلا أنه لم يكن في البلاد النشاط الكافي لتنعم عليها برخاء كالرخاء الذي كان يسود لمبارديه.
وكانت أكثرية الناس تحترف الزراعة نصفهم أصحاب أملاك، والثلث أصحاب مزارع، أما طرق الزراعة فكانت متأخرة ولا شك في أن القرويين لم يكونوا قد تقدموا في الفهم الاقتصادي، إلا أنهم كانوا يأكلون طعاما جيدا وكانت حالتهم مؤمنة، وطالما خيم البؤس المدقع على الفلاحين الذين كان عددهم في تزايد، وعلى الرغم من أن التسول كان ممنوعا في فلورنسة، فإن عدد المتسولين فيها كان كثيرا.
وخلاصة القول أن السائح الذي يتجول في طوسكانه حينما يشاهد رخاء البلاد ورضاءها يلوح له أن طوسكانه هي أسعد قطر في العالم، أما الحقيقة فهي أن هذا البناء الجميل كان مشيدا على أساس واه، وإذا كان في هذه البلاد من يمكن اعتبارهم متمتعين بالحياة الحقة الخصبة؛ فأولئك هم أهل الساحل الأشداء في ليفورنا وتلاميذ جامعتي «بيزه وسينه».
دويلات الكنيسة
تقع هذه الدويلات وسط إيطالية، ويبلغ عدد نفوسها مليونين ونصف المليون، وكان الفرق البارز بين هذه الدويلات وبين جميع دول أوروبا هو حكومة رهبانها، وكان العالم الكاثوليكي يرى أن شرف البابا وكرامته يتطلبان بأن يتمتع بحقوق الأمير وامتيازاته ومن أجل ذلك تأسست دولة مستقلة يحكمها البابا بصفته ملكا، ومعنى هذا أن رجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يديرون شئون حكومة الله، فهم الذين يضعون القوانين، ويحكمون الإيالات، ويقضون في المحاكم، ويديرون شئون التعليم والشرطة، وكان مجلس الكرادلة المقدس الذي ينتخب البابا أعضاءه مسرحا للدسائس الإفرنسية والنمسوية.
وكانت الدولة الكاثوليكية ترى أن مصلحتها تقضي بأن ينتخب بابا ضعيف الإرادة كبير السن رازحا تحت ثقل تعهدات يتحملها على عاتقه أمام الحزب الذي انتخبه.
وقد قال شاتو بريان: «إن أصل البلاء في حكومة روما أن شيوخا طاعني السن يعينون شيخا طاعنا مثلهم، وإن هذا الشيخ مقابل ذلك لا يعين كردينالا إلا من الشيوخ.» ومن ضروب الأمثال الشائعة في روما المثل الآتي: «حكومة كل بابا عدوة للحكومة التي سبقتها.»
وقد كانت الحكومة خارج روما أيضا بيد رجال الدين، فكان الكرادلة يحكمون البلدان الأربعة «الروماني وبولنية وفراره ورافينته وفورلي»، وكان الأساقفة يحكمون البلدان الأخرى ذات الأهمية الضئيلة، وكانت سلطة الكرادلة لا حد لها فكانوا يطالبون بحق فرض الضرائب كما يشاءون، ويهملون أوامر روما، بل ينحرفون عنها.
وكان هؤلاء الأمراء الكهنة يعاكسون كل تجدد، ففي نظرهم أن السكة الحديدية والبرق والتجارة الحرة واكتشاف لقاح الجدري والأدبيات الحديثة هي عدوة الكنيسة، ولقد كانت الشئون المالية في هذه الدولة على أسوأ حال.
أما الضرائب فكانت خفيفة الوطأة، ولكن التجارة كانت مقيدة بالحواجز الجمركية، فضلا عن فقدان السكك الحديدية والطرق الصالحة، وتخبط الحكومة وانغماسها في المراسم، وكانت العصابات منتشرة في بعض النواحي، ولا سيما بالقرب من الحدود المتاخمة لمملكة نابولي، وكان لكل إيالة نظام خاص للموازين والمكاييل، وقد أدت الضرائب إلى ازدياد حوادث التهريب، وكان الأسقف الذي يتولى شئون الخزينة يستنكف من درس الاقتصاد السياسي، زاعما أنه ضار.
صفحة غير معروفة