خرجت في صحبة الزائر الكريم وأنا متضجر متأنف، ولم يهن الأمر على نفسي إلا حين خطر بالبال أن بكائي سيطول على الصحة التي أنفق منها بلا حساب في سبيل الأدب، فأنا أشتغل في كل يوم أكثر من سبع عشرة ساعة، وجبال الكحل تفنيها المراود، وهيهات أن تبقى صحتي مع هذا الكدح المخيف، وأخشى ألا أظفر بكلمة رثاء يوم يشيعني الناس إلى قبري، فذاكرة بني آدم ضعيفة جدا، وهم لا يذكرون إلا من يؤذيهم، أما الذي يخدمهم ويشقى في سبيلهم فلا يذكره أحد منهم بالخير إلا وفي كلامه نبرة تشير إلى أنه يتصدق بكلمة المعروف، عفا الله عنكم يا بني آدم وعفا عني!
خرجنا فمضينا إلى منزل الصديق فرأيناه يسمر مع زوجته، ولم يكن ينتظرنا كما زعم صاحبي، ولكنه مع ذلك جرى على الفطرة العراقية فاسقبلنا أكرم استقبال، وتلطفت الزوجة الكريمة فأحضرت فناجين القهوة والشاي، وبعض الطيبات من الفاكهة والحلوء.
أما الصاحب الموصلي فأخذ يتلهى بالخطاب الموجه إلى ليلى المريضة في الزمالك على صفحات الصباح، وأما الصديق البغدادي فشاركني في متابعة الأغاني التي يجلجل بها المذياع، ودار صوت من أصوات أم كلثوم فكدت أبكي، ثم ابتسمت فجأة حين تذكرت أنه لا بد من انتهاب قبلة أو قبلتين من أم كلثوم يوم أعود، وهل تستطيع أم كلثوم أن تفر من يدي؟ هيهات هيهات!
وانقطعت الأغاني وشرع طبيب يتكلم عن العناية بصحة الطفل، فقام صاحب البيت وأغلق المذياع بعنف. - فقلت: ما هذا الحمق؟ - فقال في ألم موجع: إن هذا الطبيب هو الذي قتل طفلي، ومد يده إلى الحائط فأنزل لوحة فيها صورة طفل يشبه أدونيس ابن أفروديت، وجريت على عادتي في درس الوجوه والعقول والقلوب، فرأيت الزوجة تتطلع إلى صورة الطفل وهي في مثل حال الظبية المروعة التي اختطف الأسد رشأها منذ لحظة أو لحظتين.
ثم تغير حالي أشد التغير، وغلبني الحزن، وتذكرت الدواء الناجع الذي ينقذني من أحزاني، وهو دواء مركب من ثلاثة عناصر هي: الكتاب والقلم والقرطاس، فجريت إلى معطفي ألبسه لأخرج، فنظرت الزوجة نظرة تلطف، وقالت: هذا منزلك يا دكتور، فما الذي أزعجك؟
ثم وقف في وجهي صاحب البيت، وهو يقول: لن تخرج، لن تخرج، ورأيت موقفي صار سخيفا جدا. - فقلت: اسمع يا صديقي، أنا أخشى أن تكون دسيسة من دسائس الدكتور طه حسين!
فضحك، وقال: وهل للدكتور طه حسين دسائس؟
فقلت: هو يحاول منذ سنين أن يخلق لي صداقات كريمة تصدني عن متابعة الإنتاج الأدبي، وأخشى أن يكون كرمك من عقابيل تلك الدسائس، وكانت فكاهة غمرت المجلس بالضحك، وساعدتني على الخلاص. •••
وفي السيارة تحدث الرفيق الموصلي. قال: يظهر أنك مصمم على العودة إلى منزلك. - نعم، وهل في هذا شك؟ - ولكن الساعة العاشرة لم تحن، وأنت وعدت بأن نظل معا إلى الساعة العاشرة. - أعفني يا صديقي، فأنا أشغل مطبعتين في بغداد، وسيطرقون بابي مع الشروق، ليقدموا التجارب ويطلبوا الأصول. - تذكر أني راحل إلى الموصل. - ألم أقل إني سأزورك في الموصل؟ - أنا لا أضمن ذلك، وتكفيني ساعة واحدة في صحبتك، من التاسعة إلى العاشرة. - ألم تسمع حكاية العالم مع الأمير؟ - وكيف كان ذلك؟ - زعموا أن عالما دخل على أحد الأمراء فدعاه الأمير إلى المنادمة، فقال العالم: إنما وصلت إلى مولاي بالعقل، فأنا أكره ما يذهب العقل، وأنا يا صديقي لم أصل إلى مسامع أهل العراق إلا بالمحافظة على الوقت، فأنا أكره ما يضيع الوقت، ولولا هذه المزية لما أمكن أن أكون من كبار المؤلفين. - هي ساعة واحدة تكرم بها أدبيا يعشق أدبك، ثم تعود فتخلو إلى قلمك كيف شئت. •••
وكانت لحظة دار فيها رأسي فتذكرت ما كتبت عن أدب الأخوة في كتاب التصوف الإسلامي، وتذكرت الحكيم الذي قال: «إذا قلت لصاحبك: هلم بنا، فقال: إلى أين؟ فليس بصاحب». فقلت: لك يا صديقي ما تشاء، على شرط واحد. - ما هو؟ - أن نفترق في الساعة العاشرة. - وهو كذلك، ولك الفضل.
صفحة غير معروفة