فحينئذ جلس الشيخ متثاقلا وصاح غاصا بدموعه: إميليا! متى جئت يا حبيبتي؟ فانطرحت الفتاة بين ذراعيه وصارا يبكيان بكاء اللقاء بعد طول الفراق.
ولم يدون علم الطب قط في تاريخه حادثة شفاء من الجنون كهذه الحادثة الغريبة، وكل من سمع بها رجح أن الشفاء كان من فراغ جنون الشيخ في تهيجه الأخير على لوقا، وإن كان لصوت ابنته دخل في ذلك أيضا.
وإذ سألت إميليا أباها عن حالته وسبب وجوده هناك، ولبسه تلك الملابس، وجدته أشد منها عجبا ودهشة من ذلك؛ لأنه بعد رجوع عقله إليه نسي كل ما كان. •••
وبعد ساعة ونصف حضر «مزين» من بشري، فأصلح شعر الخواجه متى، وألبس ملابس نظيفة، ونقل إلى صدر خيمة إميليا، وكان الناس في الخارج قد ضجروا وهم ينتظرون «يوم كلدن»، فلما بلغ ضجرهم إلى المستر كلدن قال لإميليا باسما: لا أنا ولا أنت، بل إن أباك هو الذي سيعمل يوم كلدن.
فجيء بكيس كبير من ريالات بقيمة ألف جنيه فحمل مفتوحا على بغل، وسار وراءه الخواجه متى بملابسه النظيفة المرتبة وشعره المصقول، وصار يفرق في الجماهير الحاضرة ريالا ريالا لكل واحد من الأولاد وريالين ريالين لغيرهم. وكانت الجماهير تزحمه من كل جانب.
فلما أبصر سليم وكليم صاحبهما «ملك رأس القضيب» بتلك الحالة الجديدة اعتراهما العجب الشديد، فكانا يدنوان منه ويتأملان فيه، أما هو فلم يعرفهما، ولم تفارقهما الدهشة حتى أطلعهما الترجمان على تفصيل الحادثة. •••
وفي المساء عزم كلدن وزوجته على السفر من الأرز للرجوع إلى أميركا بعد وجودهما ضالتهما المنشودة، فقوضا الخيام وعزما على الركوب، وكان لوقا طمعون قد انفرد عنهما بعد الحادثة ولم يلتق بمتى، فقبل السفر قصد إميليا وسألها ضاحكا أتسمح له الآن بوكالة الأشغال التي طلبها ؟ وكان كلدن حاضرا، فأجابه: هذه المسألة صارت متوقفة على رضى الخواجه متى.
وإذ قصت هذه القصة على الخواجه متى وطلب رأيه فيها ضحك أولا، ثم أطرق مفكرا، وبعد ذلك قال: رأيي أن الصفح أولى؛ فإن الوحش الذي في الإنسان لا تذلله المقاومة والعناد، بل الحلم والصفح؛ ولذلك يكون الأقل حيوانية والأكبر عقلا أكثر صفحا وحلما.
فلو سمع سليم وكليم هذا الجواب لقالا: إن فلسفة صاحبنا في «الوحشية» وهو مجنون مخالفة - من حسن الحظ - لفلسفته فيها وهو عاقل. •••
وقبل السفر استدعى كلدن سكرتيره وقال له وهو يطوف معه بين أشجار الأرز: مستر كرنيجي، أما تعلمت شيئا من هذه الحادثة؟ فأجاب كرنيجي: تعلمت وجوب الرحمة للضعفاء الذين يسقطون في جهاد الحياة، وإلا لم يكن هنالك فرق بين البشر وبين الحيوانات. فقال: صدقت يا صديقي؛ إذن خصص في كل عام مليون فرنك لمساعدة العيال التي تسقط، واكتب لمحلنا أن يقرض مليون دولار لمحل خصمنا «أرميس» الذي أفلس من مزاحمتنا، ومليونا آخر لمحل «ودن» الذي خسر ثروته في احتكاراتنا، فإنني بعد الآن صرت أرى أن البشر لا يكونون بشرا إذا كانوا يصرفون كل ما أعطاهم الله من النباهة والعقل والقوة في مجاهدة بعضهم بعضا ليستأثر أقوياؤهم بالمنافع والخيرات دون الضعفاء، ويدوسوهم كما يدوسون الحيوانات الدنيئة.
صفحة غير معروفة