فحينئذ ذهلت إميليا عن نفسها وعن زوجها وعن مقامها، ووثبت خارج الخيمة كالبرق الخاطف وهي تصيح: أين؟ أين؟
فتبعها المستر كلدن وسكرتيره ولوقا، وحينئذ عرف المستر كلدن من لوقا تفصيل ما جرى، فرام كلدن تسكين جأش زوجته وإقناعها بالانتظار إلى أن يصلحوا ملابس الشيخ ويحسنوا حالته، وينقلوه من تلك الغرفة، أما إميليا فلم تصغ لأحد، بل مرقت كالسهم قاصدة الغرفة.
فلم يكن لوقا ولا كلدن يعرفان - وا أسفاه - أنه مجنون. •••
فلما وصلت إميليا إلى باب الغرفة دفعته وهي ترتجف، ودخلت فأبصرت على الأرض شخصين مقيدين راقدين، والحقيقة أنهما كانا في نوبة الصرع كما تقدم.
فصرخت إميليا صرخة الجنون واليأس حين وقع نظرها على أبيها بتلك الحالة، ورجعت القهقرى خوفا، ولكنها كالبرق عادت إليه وأكبت عليه.
وكان الناس قد اجتمعوا في الخارج، فنادى كرنيجي اثنين منهم وحملهما مخلوف فنقلاه إلى الكنيسة فبقيت إميليا مع أبيها.
فانحنت الابنة حينئذ تقبل قدميه ويديه. وكانت تبكي وتناديه بصوتها اللطيف: أبتاه، أبتاه، انتبه فقد جاءت إميليا ... أبتاه، افتح عينيك وانظر إلي ... لقد جئتك بحفيدتين معي، قم وانظر إليهما فإنهما تذكرانك إميليا صغيرة ... أبي، هل غضبت علي ولعنتني لما تركتك؟ ... هل خطر في بالك أنني فررت من خدمتك؟ ... قم وأخبرني أنك لم تسئ الظن في ... إن ضربا من الجنون استولى علي ودفعني إلى السفر ... فلعل الله هو الذي أراد ذلك لأعود إليك بالخير والغنيمة والظفر ... أبي، ما لك لا تجيبني؟! ... ما هذا الرباط الذي في يديك ورجليك؟! ... ما هذا الجلد الخشن الذي يستر جسمك مع أنه كان يلبس الملابس الناعمة؟! ...
ما هذا الشعر الهائل الذي يغطي جبينك الذي كان صافيا هادئا؟! وما هذه القوة التي في قدميك؟! ... آه لقد تعذبت في شيخوختك كما تعذبت في صباي، ولكنا استرحنا الآن، فقم وعانقني، أبتاه، أبتاه، ما لك لا تجيب؟!
فيا لتأثير الحنان البنوي! يا لفعل القلب في القلب! يا للعدالة الأبدية التي لا تسمح بموت «الحق» في العالم!
فإن الشيخ الهائل لم يلبث أن تحرك لذلك الصوت الملائكي اللطيف، وانتفض وفتح عينيه، فجمدت إميليا في مكانها جمود الصنم، فأدار الشيخ نظره في المكان متحيرا كأن على عينيه غشاوة، ثم صاح: ماذا تريدون؟ فغصت إميليا بدمعها وأجابت: أبي، هل انتبهت؟ فبهت الشيخ وقال متحيرا: من أنت؟ فقالت: أنا إميليا، أنا إميليا.
صفحة غير معروفة