فأجابني بأنه لا يعرف وأنه «غير مقرر»، ولم أفهم معنى المقرر آنذاك؛ فقد كان الأمر يتعلق بقرش يأتي بقراطيس اللب والفول السوداني والحمص، وربما بعض الجلاطة (الجيلاتي) أيضا، ولم أستطع أن أعثر على أحد يدلني على المعنى، وكان أن ضاع القرش! أما المعنى فلم أعرفه إلا عند ضياع القرش؛ ولذلك ظل محفورا بألفاظه في ذاكرتي لا أنساه أبدا «شرقت بالماء، ولو غصصت بغيره لشربت الماء لإزالة الغصة؛ أي للاعتصار!» أي ما يقابله بلغة الصحافة اليوم دوائي هو الداء فأين الدواء؟
كنت أحب والدي لما يرويه من قصص، ولما يتغنى به من أغاني عبد الوهاب. كان صوته رخيما وكان مشهورا في رشيد بإجادة قراءته للقرآن، وإنشاده التسابيح، التي كانوا يسمونها «تواشيح»، قبل أذان الفجر في رمضان، فكان يصعد إلى المئذنة في جامع المحلي، دون مكبر صوت طبعا، وينشد تلك التسابيح التي كان يسهر لها أهل البلد. وكان يحب الشيخ مصطفى إسماعيل (رحمه الله) حبا جما، وكان الشيخ مصطفى صديقا لأحد الأثرياء في رشيد واسمه إبراهيم حجاج، فكان يستضيفه لقراءة القرآن في مناسبات لا أذكرها، وكانت الخيمة، أو السرادق الذي يقام خصيصا له يزدحم بالرجال بعد صلاة العشاء للاستماع إليه حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان والدي يحفظ أسلوب الشيخ مصطفى في الأداء وينفي عنه أنه يلحن القرآن، على عكس ما كان يرميه منافسوه به، وكان يقول لي إن التلحين هو فرض قالب موسيقي خارجي على الكلمات قد يقتضي الخروج عن أصول القراءة، إما بإضافة حركات في غير موضعها أو بحذف المد من مواضعه وهكذا، مثلما يقول عبد الوهاب في الخطايا :
حسبنا ما كان فاهدأ ها هنا
في ضلوعي واحتبس خلف الحنايا
فإنه يغنيها بإضافة ألف مد بعد الحاء في الحنايا هكذا «خلفا لحانايا» ولكن الشيخ مصطفى لا يفعل ذلك أبدا. والعامية المصرية «تخطف» الحركات؛ أي تلغي المد وتسكن أواخر الكلمات وتغير تشكيلها (أي حركاتها الداخلية)، وهي لهذا - يقول والدي - لغة ملحونة!
ومثلما أحببت الشيخ مصطفى إسماعيل أحببت عبد الوهاب، وكنت أسمع كلا منهما بصوت والدي، وقد أتانا جهاز الراديو لأول مرة في بيت بدر الدين في تلك الأيام، وربما كان موجودا منذ قيام محطة الإذاعة اللاسلكية في منتصف الثلاثينيات، ولكنني أصبحت مدركا لوجوده وأهميته في أوائل الأربعينيات وأواسطها، وكان الشيخ محمد رفعت يرتل سورة الكهف كل يوم جمعة في الشتاء، وربما كان ذلك عام 1944م، فحفظت أسلوبه في قراءتها، وحذقت طريقته في «التقفيل» (أي العودة إلى الطبقة الصوتية التي بدأ منها) و«التصدير» أي الخروج عن «سلم الأداء» ثم العودة إليه، وما زلت أذكر تسجيلاته التي ضاعت، أو قراءته التي لم تسجل، ولكن والدي كان متعصبا للشيخ مصطفى إسماعيل ويقول دائما «أبو درش ما فيش منه» وأبو درش، أي أبو درويش، هي كنية كل من يسمى مصطفى، وأبو، حسبما شرح لي والدي، قد تعني «الابن» بالعربية، فهي تفيد النسبة وحسب، كأن تقول حسن أبو علي لتعني حسن بن علي، وربما كان السبب في هذا هو ميل الأب إلى تسمية ابنه باسم الجد، فتجد في بعض الأسرات سلاسل من مصطفى درويش وحسن علي وعلي حسن وغير ذلك.
وكانت الإذاعة اللاسلكية تذيع برنامجا في الثانية عصرا اسمه «أسطوانات»، تقدم فيه أغاني أم كلثوم وبعض مطربي ومطربات العصر الغابر، وكنت أستمع أنا ووالدتي إلى هذه الأسطوانات، فلم يكن مسموحا لي أن أستمع إلى الراديو وحدي؛ حتى لا أستهلك البطارية السائلة، وكان يأتي بها رجل اسمه أحمد القناديلي يعمل في الدائرة كل يومين، ويأخذ الفارغة إلى «كهربائي» لشحنها، وهي تشبه بطاريات السيارات تماما. وكانت جدتي تستمع كل صباح في السابعة والنصف إلى القرآن حتى الثامنة، وكان يعقب التلاوة حديث للشيخ محمود شلتوت، ومن الراديو تعلمت أشياء كثيرة ، وبعد أن تعددت البطاريات سمح للأطفال (أنا وأخي حسن الذي يصغرني بعامين) بالاستماع إلى الراديو الذي كان يبدأ إرساله في الخامسة بعد الظهر، وكنا نحرص على برنامج «بابا شارو» - أي برنامج الأطفال - ونتابع البرامج الغنائية مثل «علي بابا» و«عوف الأصيل» و«آذار» و«قسم» و«خوفو»، وكنت أحفظها حوارا وأنغاما عن ظهر قلب.
وذات يوم في عام 1948م مرض جدي الحاج أحمد بدر الدين مرضا شديدا، وكنت أدرك من القلق البادي على الوجوه، وحضور أخوالي من القاهرة والإسكندرية إلى رشيد، أن الأمر خطير. ولم يلبث أن توفي، ومن ثم استقر بنا الحال بصفة نهائية في «بيت بدر الدين» لا يسكنه غيرنا، مع جدتي، إذ كان أخوالي الدكتور محمد علي، وعبد الحليم، ومصطفى كمال يعيشون خارج رشيد، وخالتي سكينة في القاهرة، وكانت قد تزوجت من الأستاذ حسن الخطيب الذي كان مراقبا عاما بوزارة المعارف ثم أصبح أستاذا في كلية الشريعة، وخالتي الحاجة لطيفة تقيم مع زوجها الأستاذ أحمد عجمية في منزل مستقل (فيلا بلغة العصر الحديث) على الطريق الزراعي. وفي تلك الأيام كنا نسمع عن الحرب بين العرب وإسرائيل، وسمعنا عن اغتيال الكونت برنادوت مندوب الأمم المتحدة في فلسطين، وكان ذلك على ما أذكر في رمضان، في شهر يوليو، وكنا ننام بعد الإفطار ثم نقوم في الثانية صباحا لتناول السحور، وفي اليوم التالي جاءنا خبر الحريق الذي شب في مضرب الأرز الذي تملكه أسرة عجمية ويديره زوج خالتي.
كان هذا الحريق رمزا للتحول الكامل في صناعة ضرب الأرز. فالواقع أن بعض المصانع الحديثة كانت قد أنشئت في الإسكندرية وبدأت «تسرق» السوق من رشيد. فهي لا تعتمد كثيرا على اليد العاملة (ما يسمى بكثافة العمالة بلغة الاقتصاد)، بل تستخدم الآلات في معظم المراحل، وهي تعتمد أيضا على ما يسميه المتخصصون باقتصاد الحجم الكبير، أي توسيع نطاق الإنتاج تخفيفا للتكاليف، ومن ثم كانت منافستها لا تحتمل، وكان على مضارب الأرز في رشيد إما أن تتحول إلى النظم الحديثة أو تفلس. وهكذا وجدها آل عجمية فرصة لتحديث المضرب، وكلفهم ذلك خمسة عشر ألف جنيه، وكانت ثروة هائلة بأسعار تلك الفترة، وأصبح مصنعا حديثا قادرا على البقاء وسط عمالقة مدينة الإسكندرية. ولكن ذلك «الرمز» لم يصل معناه إلى كثير من المضارب الأخرى التي تقاعست عن التجديد أو لم تجد التمويل اللازم آنذاك، وكان أن انطوت صفحتها وكاد أن يقضى على صناعة ضرب الأرز في رشيد.
كنا في رمضان، كما قلت، وكان أولاد خالتي (أبناء الأستاذ حسن الخطيب) يأتون في الصيف لقضاء العطلة في بيت الأسرة الكبيرة. وكان صلاح أقربهم مني سنا وميولا، فكنا نخرج معا لأداء صلاة العشاء و«التراويح» (صلاة القيام) في مساجد مختلفة، وتعلمت من والدي بعض التسابيح التي كنت أرددها بصوت عال بعد كل ركعتين؛ فالتراويح عشرون ركعة، وما زلت أذكر إحداها وهي «يا علام الغيوب، أطفئ ظمأ القلوب، وتب على من يتوب، واغفر لنا يا كريم». وكان في الشهادة الابتدائية أي في الرابعة، وأنا في الثالثة، وكانت تلك شهادة عامة (أي تعقد على مستوى المنطقة كلها)؛ ولذلك فرح بنجاحه فرحا شديدا، وكانت تتلوها المرحلة الثانوية من خمسة أعوام وتنقسم إلى قسمين: الشهادة العامة وهي الثقافة (بعد أربع سنوات) ثم الشهادة الخاصة وهي التوجيهية لعام واحد. وكنا نلتقي أحيانا مع والدي لنتحادث في اللغة والدين، ولكن ابن خالتي لم يكن يحب ما يسميه بالأسئلة، وما أعتبره أنا مصدرا لزيادة الدخل!
صفحة غير معروفة