تقديم
تصدير
إهداء
تصدير
المنبع عند المصب
في المدينة
المسرح الحي
تقديم
تصدير
إهداء
صفحة غير معروفة
تصدير
المنبع عند المصب
في المدينة
المسرح الحي
واحات العمر
واحات العمر
سيرة ذاتية: الجزء الأول
تأليف
محمد عناني
تقديم
صفحة غير معروفة
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا ، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
صفحة غير معروفة
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
هذه هي واحات العمر - السيرة الذاتية الأدبية - التي كانت قد صدرت في ثلاثة أجزاء على مدى خمس سنوات (1998-2002م)، وكان الجزء الأول يحمل عنوان واحات العمر (1998م) والثاني واحات الغربة (2000م) والثالث واحات مصرية (2002م)، وهي تمثل خيطا متصلا من الأحداث الأدبية في فترات ثلاث؛ فالجزء الأول يختص بالجذور والنشأة والتكوين (1945-1965م)، والثاني يتناول فترة التخصص العلمي في الخارج والاصطدام بثقافة أجنبية (1965-1975م)، والثالث يتناول العودة إلى مصر والعمل بالكتابة المسرحية والنقد والترجمة حتى نهاية العمر الوظيفي الرسمي (1975-2000م).
وقد رأى صديقي الأديب والناقد والمترجم سمير سرحان أن يجمع بين الأجزاء الثلاثة بين دفتي مجلد واحد، ما دام الخيط الزمني ممتدا ولم ينقطع؛ حتى ييسر على القارئ العربي متابعة الأحداث الأدبية التي أرويها، فهي أحداث متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ويصب بعضها في البعض، وهي ذاتية لأنني أرويها من وجهة نظري الخاصة، ولكنها موضوعية أيضا لأنها تتناول الأحداث الأدبية العامة في مصر في النصف الأخير من القرن العشرين، وتعتبر من ثم شهادة على عصر التحولات الكبرى في المجالات الأدبية المذكورة؛ في المسرح، وهو الفن الأدبي الذي أكتبه، وفي النقد، وهو الفرع الأدبي الذي أمارسه بحكم التخصص العلمي، والترجمة وهي النشاط الذي توفرت عليه احترافا وهواية، بل وحبا جارفا كاد أن يجور على حبي للمجالين الأولين، وأقصد بالتحول بزوغ مفاهيم جديدة في كل مجال ورسوخ أقدامها، وهو ما يهم المتخصص وغير المتخصص على حد سواء.
ولقد عدت إلى زيارة هذه الواحات هذا العام (2002م)، فوجدت حكايات كنت أهملتها في غضون حرصي على التسلسل الزمني الصارم لواحات العمر، وألح علي بعض الأصدقاء ممن أكن لهم الاحترام والتقدير والحب أن أفرد لها كتابا يكون ذيلا أو ذيولا للواحات، ففعلت ذلك، وسوف تصدر حكايات الواحات باعتبارها من حواشي واحات العمر في وقت قريب، بإذن الله، في مجلد صغير منفصل.
وبعد، فلقد احتفظت في هذه السيرة الأدبية الكاملة بكل ما تميزت به الأجزاء المستقلة، ولم أشأ تغيير شيء، بما في ذلك التصديرات والمقدمات، عسى أن يجد فيها القارئ صورة لعصر كامل من التحولات، بألوانها المختلفة وكل ما تحفل به من تضارب أو اتساق؛ فالسيرة الذاتية الأدبية تجمع بين خصائص الأدب وخصائص التاريخ، وفيهما ما فيهما من فن وتسرية ، والله من وراء القصد.
محمد عناني، 2002م
إهداء
إلى رفيقة الحياة،
صفحة غير معروفة
بكل ورودها وأشواكها،
نهاد صليحة،
حبيبة وزوجة وصاحبة.
تصدير
هذه فصول من ترجمة ذاتية حاولت التزام الصدق فيها إلى أبعد مدى ممكن، ولكن الصدق لا يأتي دائما بالحقيقة، فالحقيقة «فرض» يضعه الكاتب لما يظن أنه رآه أو سمعه، وقد يصدق الظن أو يكذب، ولكن المشاهد والمسامع تظل حية في ذهنه، وقد تتلون بتلون الدنيا من حوله، أو بتلونه هو مع الدنيا، وقد آثرت عندما قررت زيارة واحات العمر أن أتجرد مما أصبحت عليه اليوم، وأن أعيش فيها من جديد بالقلب القديم والعقل القديم معا، ولكن هيهات! فقد تصدق الذاكرة ويخون الإحساس! وقد يخرج المشهد صادقا (وفقا للمذكرات التي كنت أسجل فيها ما يحدث بانتظام، وللخطابات التي تشهد على ما وقع)، ولكن الإحساس المصاحب له قد يختلف فيغير من معناه.
ولذلك فإذا رأى بعض من عاش في هذه الواحات معي في تلك السنوات الحافلة أنني أغفلت ما لا ينبغي أن أغفل، أو دسست من مشاعري الحالية ما لا ينبغي أن أدسه، فعذري أنني تغيرت، وما فتئت أتغير، وقد أعود لما أغفلت في الجزء المقبل من الترجمة.
محمد عناني
القاهرة 1997م
المنبع عند المصب
1
صفحة غير معروفة
كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا عندما دق جرس الباب، واتجه والدي إليه ليرى من الطارق فوجد «أم سميح» باكية، وكنت أقف خلفه في دهشة أتطلع إلى الوجه الباكي من فرجة بين ثوبه الأبيض وبين الباب، ولم أفهم كل ما قيل، ولكنني تابعت الحوار حتى انتهى وانصرفت المرأة، وأغلق والدي الباب عائدا إلى والدتي وهو يقول: «أم سميح تقول إن الذئب أكل البطيخ». لا أدري كم كان عمري إذ ذاك، ولكننا كنا قد تخطينا سنوات الحرب العالمية الثانية؛ ولذلك فلا بد أنني كنت قد تجاوزت السادسة. وارتدى والدي جلباب الخروج الذي يضرب لونه إلى الصفرة، وخرج في عجلة إلى الحقل، أو ما كان يسميه «الأرض».
ولم يكن بوسعي أن أذهب معه لأستجلي الأمر؛ فقد كان علي أن أذهب إلى المدرسة، وأرتدي زي المدرسة وهو «حلة» ذات سروال قصير، والطربوش، دون أن أحمل كتبا؛ لأن المدرسة كان بها «درج» يغلق بقفل، توجد فيه جميع الكتب والكراريس. وشغلت طول اليوم الدراسي بموضوع الذئب. لم أكن قد رأيت ذئبا في حياتي، وإن كانت صورته في ذهني أقرب إلى الوحش الأسطوري، وكان وجوده في ذهني مرتبطا بسورة يوسف، وكنت قد حفظتها في الكتاب، وترددت في سمعي آيتان
وأخاف أن يأكله الذئب ،
قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . الذئب إذن وحش كاسر قادر على التهام غلام، وليس من المستبعد أن يلتهم ثمار البطيخ، وعندما عدت من المدرسة سألت عمي عبد المحسن الذي كان يسكن في الشقة المقابلة أن يحدثني عن الذئب، فقص علي بعض القصص، ومن بينها «ذات الرداء الأحمر»، وقصة الرجل الذي أراد أن يداعب أبناء القرية فصاح مستغيثا «الذئب الذئب!» فلما اكتشف الناس أنه يهزل لم يعودوا يصدقونه؛ ولذلك تركوه لمصيره عندما أتاه الذئب حقيقة وصاح مستنجدا في هلع حقيقي دون أن يكترث له أحد!
وعندما انصرف عمي قصت علي والدتي قصة «الذئب والحمل»، وهي من «خرافات» لافونتين، ولكنها قصتها بعربية ما زلت أذكر منها «يا هذا عكرت علي الماء!»، ولا بد أنها كانت في قصص المدرسة لديها. وحاولت في ذهني أن أتصور كيف يأكل الذئب البطيخ دون أن يقطعه، وظل اللغز قائما يمثل «بقعة زمنية» أعود إليها لأتصور الحوض الذي زرع فيه البطيخ، وكيف كنت أراه في أرض والدي صغيرا مصفرا ثم أخضر، وكيف يمكن أن يكون الداخل أبيض ثم يتحول إلى الأحمر، وعندما علمت من والدي أن اليوم الذي أكل الذئب البطيخ فيه كان اليوم المحدد للجني وحمله إلى السوق أو إلى منازل الأقارب، تصورت أن الذئب اهتاج للون الأحمر فظنه دما أراد أن يلعقه، أو نسيجا حيا يريد أن ينهشه.
كان المنزل يسمى «بيت عناني » وهو منزل حديث الطراز، يقع في شارع النيل؛ أي إنه كان يقع في الشارع الموازي للنيل، وإن كان يفصله عن المنزل منزل أو منزلان متجاوران؛ هما منزل الكسار (وأسرة الكسار من تجار الخشب)، ومنزل محارم (وهي أسرة أخرى يعمل رجالها بالتجارة)، وبين المنزلين فضاء يرى منه الرائي النيل، وهو فضاء يشغله بعض الصيادين الذين كانوا يرسون قواربهم لدى الشط، ويعملون فيه بإصلاح شباكهم ونشرها في الشمس. وكانت البلدة - وهي رشيد - تشغل مساحة كبيرة ممتدة على شاطئ النيل، ويبدو أنها كانت تزداد توسعا في كل يوم في اتجاه الشمال الذي نسميه «بحري» (أي ناحية البحر المتوسط - حيث مصب النيل)، وتزداد هجرا للمناطق الجنوبية التي كنا نسميها «قبلي» (أي في اتجاه القبلة)، وكان الحي البحري خصبا وافر النماء، تلتف فيه أشجار الموالح والنخيل، ويستمر ما بعد محطة القطار بكيلومترات عديدة. وأذكر فيه منزلا يسمونه فيلا بدر الدين، كان يملكه الأستاذ عبد القادر بدر الدين أحد نظار المدرسة سابقا، الذي كان يرتبط بصلة قرابة إلى أسرة والدتي. وكان ذلك المنزل يلوح على البعد بلونه الضارب إلى الحمرة، وتحيطه الأشجار، وربما كانت حديقة غناء، ولكن أحدا منا لم يكن يجرؤ على الاقتراب منه. فالناظر هو الناظر، وكان له من الهيبة ما يلقي الرعب في القلوب. وكانت تقع بالقرب منه بعض مضارب الأرز التي كانت تسمى «دوائر»، منها «دايرة» عناني؛ أي مضرب الأرز الذي كان يملكه جدي ثم ورثه الأبناء، ومضرب «عرفة»، وغيرهما. وأمامهما على امتداد النيل فضاء بالغ الاتساع يسمى «المنشر» أي المكان الذي ينشر فيه الصيادون شباكهم لتجف، وإن كنا نستخدمه ملعبا لكرة القدم.
ولا أذكر الكثير عن «بيت عناني»، وإن كنت أذكر أنه يتكون من ثلاثة طوابق، وكان له سطح فيه قبة مكشوفة، وأظنه لا يزال قائما حتى اليوم. وكانت الشقة التي نسكنها تتكون من غرف كثيرة، أهمها غرفة المكتبة، وكثيرا ما كنت أتطلع من وراء زجاج الدواليب (خزانات الكتب) إلى عناوين المجلدات التي تصطف في شكل هندسي بديع - «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» و«العقد الفريد» و«نهاية الأرب» و«وفيات الأعيان» و«الأغاني» وهكذا - وأعجب مما عساها تقوله. وأذكر مرة كان والدي يحكي لي قصة يقرؤها في المكتبة عن قراد بن أجدع الذي عرض نفسه رهنا لسداد دين الأعرابي، وفحواها أن الملك النعمان بن المنذر ملك الحيرة أيام الجاهلية خرج في رهط له يصطاد، فضل عن الركب، ثم انتهى به الأمر إلى خباء أعرابي استضافه ثلاثة أيام حتى أدركه صحبه، فعرض عليه الملك أن يزوره في قصره ليجزيه أجر ما صنعه، وعندما وصل كان ذلك يوم نحس الملك. إذ إن الملك كان قد حدد يومين من أيام العام؛ يوم سعد، ويوم نحس، كل من يدخل عليه في يوم السعد يجازى خير جزاء، وكل من دخل عليه في يوم النحس يقتل. وعندما رآه الملك صاح: لو دخل علي ابني قابوس في هذا اليوم لقتلته! وإذ ذاك استسلم الأعرابي لأمر الملك ولكنه طلب منه أن يمهله عاما يصلح فيه من أحوال أهله، ويستعد للموت، ورفض الملك إلا أن يضمنه أحد الناس، فضمنه قراد بن أجدع. وكان الملك يأمل أن يذهب الأعرابي وينجو بحياته وأن يقتل قراد بدلا منه، وفي اليوم الأخير من العام قال قراد الشعر الذي كان والدي يحفظه، وهو مقطوعة تبدأ بالشطرة:
أيا عين لا تبكي قراد بن أجدعا!
واستعد الملك لقتل قراد، وأحضر السيف والنطع، ولكن قرادا أصر على الانتظار قائلا البيت الذي جرى مجرى الأمثال:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
صفحة غير معروفة
فإن غدا لناظره قريب
وقبل أن تغرب شمس اليوم الأخير، والجلاد يوشك أن يهوي بالسيف، لاحت في الأفق سحابة يثيرها فرس الأعرابي، فانتظر الجميع وصوله، ولامه الملك على عودته سائلا إياه: «ما دفعك على أن تعود وقد نجوت؟» فأجاب الأعرابي: «ديني!» فسأله الملك: «وما دينك» قال: «النصرانية!» ومن ثم سأله الملك عما يفرضه الدين من الوفاء، فاعتنق الدين على الفور، واعتنقته معه المملكة، ومن ثم ألغي يوم السعد ويوم النحس جميعا.
كنت قد تركت الكتاب، وهو مدرسة تحفيظ القرآن آنذاك، وكانت تسمى «مدرسة الحكيمة»؛ لأن المنزل كانت تملكه حكيمة أي طبيبة، ما تزال قصتها مثار خلاف ومجالا للظن والتخمين. وكنت أتردد عليها منذ الثالثة، وفيها عرفت بعض الصغار الذين كانوا قد اقتربوا من «الختمة» (أي حفظ القرآن كاملا)، وكانوا يكبرونني بعدة أعوام، وكنت أتسلى في الفسحة (أي في ساعة الراحة) بالاستماع إلى بعضهم وهو «يسمع» أي يقرأ غيبا ما حفظه من الدروس، وكان «التوكيد» من الدروس التي «سمعها» أحدهم وما يزال مطلعه عالقا في ذاكرتي «التوكيد: التوكيد نوعان لفظي ومعنوي»! كان ذلك لغزا رفض الجميع إيضاحه لي حتى تولى ذلك الشيخ عبد الحليم الدسوقي عندما وصلت إلى السنة الثالثة الابتدائية.
كانت «مدرسة الحكيمة» تقع في حي «الإدفيني» (وهي نسبة إلى بلدة إدفينا) بالقرب من مسجد يحمل نفس الاسم، وكانت تحيط بها أشجار كثيرة ونخيل ملتف، وأمامها فضاء يعقد فيه سوق الثلاثاء، حيث يأتي الفلاحون والفلاحات بالمحاصيل الزراعية والطيور والحيوانات الداجنة، ولكن السوق كان فارغا طوال أيام الأسبوع، وكنت أتطلع إليه من شباك المدرسة فأرى في غير أيام السوق أشباحا غريبة، رجالا يأتون ويذهبون، ويتهامسون ويتسارون، ثم يختفون في الطرقات فجأة مثلما ظهروا، وظل هذا المشهد يشغل أحلامي أعواما طويلة، دونما سبب ظاهر، حتى عهد قريب.
وانتقلنا للسكنى في «بيت بدر الدين» وهو بيت جدي لوالدتي. ولا أدري متى انتقلنا إذ كنا ننتقل كثيرا بين المنزلين، ولكنني أذكر أنني كنت فرحا به لرحابته، فهو قديم بالغ القدم، ويتكون من عدة طوابق متداخلة (ثلاثة بالحساب الحديث) يستخدم الطابق الأرضي مخزنا، وبه «منضرة» (أي منظرة أو مكان انتظار الرجال)، وباب يؤدي إلى مكان مهجور يسمى «القاعة» وكانت هذه تنتمي إلى الجزء القديم جدا من البيت الذي تعرض للحريق في العصور الغابرة، وكان دخولها شبه محرم على الصغار؛ إذ قيل لنا إن بها عفاريت مقيمة، بعضها مؤمن وبعضها كافر، وكانت تظهر أحيانا في صورة كائنات حية كالثعابين والأرانب والقطط السوداء. وكنا نخاف أشد ما نخاف هذه الحيوانات خصوصا بالليل، لاحتمال أن تكون من العفاريت المتجسدة.
وكان باب البيت الأمامي مملوكيا ضخما ، لا مفتاح له، بل يغلق بالمزلاج من الداخل فقط، وفي ردهة البيت عند الباب زير من الفخار، لا أدري إن كان فارغا أو مليئا، وكان الطريق من الردهة يؤدي إلى مدخل «الصهريج» - وهو البئر الموجود تحت البيت، وهو بئر ممتد بطول البيت وعرضه، مثل السراديب القديمة، وهو مقام على ما يشبه القباب والأعمدة وكان يملأ أيام الفيضان، أي أيام فيضان النيل، ويشار إلى الفيضان في «رشيد» فقط باسم النيل، فيقال «في النيل» أي في وقت فيضانه، فيأتي السقاءون أولا لتنظيف الصهريج من الطمي الراسب، وتجفيفه، ثم تطهيره، وبعد ذلك يصب فيه الماء المنقول في براميل على عربات تجرها الحمير، حتى يقارب الامتلاء ثم يحكم إغلاقه. ولكن له فتحة علوية يخرج منها عمود ضيق يشبه المدخنة، ويمر بالطوابق الثلاثة، وبكل طابق فتحة يدلى منها دلو بحبل فيمتلئ بالماء الذي يكون قد صفا وأصبح زلالا، وما كان أبرده وأشهاه في الصيف!
أما الزير القائم في الردهة فقد شغلني، وكم تمنيت أن أملأه من بغلة العرش! وقصة «بغلة العرش» قصة رمزية لم نكن نشك في صدقها صغارا. وموجزها هو أنه في ليلة العاشر من المحرم، تمر بغلة تحمل قربتين مملوءتين بالماء على البيوت، ثم تقف البغلة أمام بيت من البيوت، عندما يميل القمر إلى المغيب، وتسود الحلكة التي تسبق السحر، وتهز البغلة رأسها فيعلو رنين الأجراس المعلقة في رقبتها، فإذا سمعها سامع وكان الحظ حليفه استيقظ وفتح الباب. والبغلة تحمل على ظهرها رأسا مقطوعا، فما على المسعود إلا أن يرفع الرأس ويقبله ويضعه جانبا، ثم يفرغ الماء في الزير الفارغ بجوار الباب. ثم يعيد الرأس مكانه، ويعود للرقاد. فإذا أصبح وجد الماء في الزير وقد تحول إلى ذهب وجواهر نفيسة. الواضح أن اسم بغلة العرش تحريف لبغلة العشر، أي يوم عاشوراء، والرأس ترمز لرأس الحسين عليه السلام الذي قتل في كربلاء، يوم الكرب والبلاء، وأن الماء يرمز إلى عطشه إذ مات فيما يرويه الرواة دون أن يشرب، ومن ثم تكون القصة ذات جذور فاطمية، وربما تسربت إلى التراث الشعبي أيام حكم الفاطميين، وتناقلتها الأجيال وأضافت إليها مخيلات أبناء الشعب تفاصيل كثيرة.
والغريب أنني كنت وأترابي حتى بعد أن تخطينا تلك السن المبكرة لا نكتفي بتصديق تلك القصة، بل كنا نناقش تفاصيلها في الليلة السابقة لعاشوراء، بعد الإفطار (إذ كنا نصوم التاسع والعاشر من المحرم)، وما بين صلاة المغرب والعشاء، ونعد العدة لها، وكثيرا ما كان أحدنا يستيقظ في هدأة الليل، ويظل ساهدا في فرق ووجل؛ آملا أن يسمع الأجراس، ثم يغلبه النعاس فيرى فيما يرى النائم أن البغلة مرت ومضت، فيهب مفزوعا ويستغفر الله ويدعوه أن يوفقه في العام التالي. بل إن بعضنا كان يجازف بالخروج من المنزل ويطوف بالطرقات طلبا للبغلة، ثم يعود حزينا مهموما. وأخشى ما كنا نخشاه هو نداء «المزيرة». والمزيرة تحريف لكلمة المتزيرة أي التي ترتدي «التزييرة» أو ملابس الزيارة، أي الملابس الجميلة التي ترتديها المرأة للخروج من المنزل أو لاستقبال الزوار. كانت «المزيرة» تقيم في المنازل الأثرية، التي ترجع إلى عصور المماليك، والتي كنا نسميها «الأثرات» بالعامية. وأمرها غريب.
عندما يتأخر الرجل في العودة إلى منزله، خصوصا حين تشتد حلكة الليل، ويمر ببيت من هذه البيوت، فربما سمع غناء شجيا، وأصواتا ساحرة تدعوه، فإذا واتته الجرأة وتطلع إلى مصدر الصوت، وجد امرأة فاتنة الجمال في الدور العلوي، يضيء وجهها في الظلام ويسطع، فإذا لم يستعذ بالله ويعد إلى أهله، أي إذا استسلم للغواية وهاجت كوامنه فرام الاقتراب، وتحديدا إذا توقف في سيره وتمنى الصعود إليها في قلبه، شدته إليها بسحر ساحر فارتفع إليها ودخل غرفتها، وهناك تسقيه خمر الألحان وخمر الجمال وخمر العنب، فإذا أذعن واحتضنته، وخزته إحدى شوكتيها في رقبته، فعلى كل جانب من جانبي رقبة هذه «المزيرة» شوكة ماضية، فيها الهلاك على الفور. وعندها لا تبزغ شمس النهار إلا وقد سلبته حياته، وعندها يرى الناس آثار الشوكة ويعرفون أنه راح ضحية لغواية «المزيرة».
ولذلك كنا صغارا نخاف نداء المزيرة، ولا نجرؤ على التطلع للوجوه الجميلة خلف المشربيات في البيوت العتيقة، بل لم نكن نعرف من يسكنها، أو حتى إذا كان ساكنوها من الإنس أو الجن. وكان الحاج محمود الترامسي، رحمه الله، من أصدقاء والدي الذين يفخرون بقدرتهم على التمييز بين الجن والإنس فيما يرى من كائنات، لم يكن أحد يؤمن بأشباح الموتى، ولكن الجميع كانوا يشعرون بوجود الجن بين ظهرانيهم ومشاركتهم حياتهم. وكان الترامسي دائما ما يقص علينا نوادره مع «فرخ جن» (أي جني صغير) يسكن في أرض فضاء مجاورة لمنزله، وكان والدي رحمه الله يكذبه دائما وهو يقول له إن هذه «تهيؤات»، ولكن نبرات الصدق في حديث الترامسي كانت تشدني إلى ما يقول دائما، خصوصا لأنه كان في غير ذلك من أمور الحياة واقعيا منطقي التفكير، وكان يمتاز برجاحة عقل نادرة. ولذلك أصغيت مبهورا عندما قص علينا ذات يوم خبر اعتزامه الزواج من فتاة تصغره بأعوام كثيرة تقترب من الثلاثين، حتى يمنع «فرخ الجن» المذكور من الاقتران بها! وانهمك يحكي تفاصيل مناقشاته معه ووسائل إحباط مسعى «فرخ الجن» بقراءة القرآن، وما إن حل رمضان، الشهر الذي لا يسمح فيه للجن بالخروج من محابسها، حتى تزوج الترامسي من تلك الفتاة وفرض عليها أن تمكث في المنزل دائما بعد الغروب، وألا تنقطع عن قراءة السورة التي أحفظها إياها من القرآن (إذ كانت لا تعرف القراءة). ثم أصبح الترامسي يغيب كثيرا عن دروس العصر في الجامع، وبدأت ألاحظ في عينيه شرودا وفي كلامه بعض التردد، ولكنني لم أجرؤ على السؤال عما حدث لفرخ الجن بعد زواجه، ولم يكتب لي أبدا أن أعرف نتيجة الصراع بينهما حتى بلغني نبأ وفاته فجأة.
صفحة غير معروفة
لم أكن أخاف الجن في تلك الأيام، وكان والدي يسمح لي بصلاة الفجر في المسجد وأنا بعد صغير، وكان يتحدى من يقولون إنهم شاهدوا العفاريت قائلا: «أروني إياها!» وشاع في البلد أننا أسرة لا تستطيع رؤية العفاريت لأن دمها «زفر»، ولم أفهم أبدا معنى «زفارة» الدم وكيف يمكن أن تحول دون رؤية الجان. ولكنني كنت أخاف من الجمل ، ومن منظر النعش. وأذكر أنني ذات يوم كنت في السوق «البحري» وتطلعت فوقي فجأة فشاهدت بطن جمل، وربما كان ذلك سبب خوفي بسبب ما سمعته من أنه يبرك أو ينوخ على عدوه فيقتله، أما النعش فكنت أخافه بسبب الضجيج الذي كان يصاحبه، ولأن العادة كانت تقضي بوضع جثمان المتوفى في صندوق ينتهي بقامة عليها طربوش إذا كان ذكرا، وأن يحمله الناس ويسيروا خلفه في شارع السوق من المسجد الكبير - جامع المحلي، وهو شيخ اسمه «علي المحلي» (نسبة إلى المحلة الكبرى) - حتى المقابر في جنوب البلد، وكانت تسمى «الجبابين» لا الجبانات، ويتقدم الموكب شيوخ ينشدون كلاما دينيا له رنة غريبة، كنت أتبين نغمتها والألفاظ البارزة فيها، وهي «مولاي صل وسلم دائما أبدا» وبينهم شيخ أعرفه جيدا؛ لأنه يقفز أو يتواثب على عكازين بسبب ضمور ساقيه وهو الشيخ «حلمي الحداد» رحمه الله. وكانت الجنازة أحيانا تسمى «المشهد»، وقد لازمني الخوف من النعش حتى دخلت المدرسة الابتدائية.
2
كان والدي واحدا من تسعة إخوة وأخوات أنجبهم جدي الحاج محمد عناني الكبير، وكان لم ينجب من زوجته الأولى، وبعد أن توفيت تزوج أختها «رشيدة» فأنجب إبراهيم، ومحمد (والدي) وعبد المحسن، ومن الإناث زينب وفاطمة وسعاد، وعندما توفيت تزوج أختها الصغرى «فاطمة» وأنجب منها جميعة وصلوحة وأحمد. ثم توفي هو. وكان عصاميا وأميا، واشتغل بالتجارة أولا ثم عمل على إنشاء مصنع لضرب الأرز؛ أي لفصل القشر عن الحب، وبالأسلوب القديم الآلي، وكانوا يسمونه أسلوب «اللاط» أي الضرب بمطرقة خشبية تصعد وتهبط بمحرك يدار بالبخار. وكان أي محرك يعمل بالبخار يسمى «الوابور» ثم حرفت إلى «بابور»، وكان البخار الصاعد يستغل في إصدار صوت صفير كصفير القاطرة البخارية أو الباخرة (وابور البحر)، وذلك في مناسبات معينة، أهمها تحديد ساعة الإفطار، ولما كان البلد حافلا بمضارب الأرز، كنت تسمع عندما تغرب شمس نهار رمضان صفيرا عاليا يسمعه القاصي والداني؛ ولذلك كانت الإشارة إلى موعد الإفطار لا يشار إليها بالمدفع بل بالصفارة أو الزمارة (من المزمار). وكان ضرب الأرز حرفة أو صناعة متشعبة؛ فبعد الضرب تفصل الحبوب المكسورة بالغربلة وتسمى «الدشيش»، وتباع لخلطها بدقيق القمح للانتفاع بها في خبز «العيش البيتي» بنسبة كيلة دشيش إلى كيلتين من القمح المطحون، أما القشر الخارج من الضرب فكان يسمى «السرس» وكان يستعمل وقودا في الأفران البلدية، وكانت الصناعة تستلزم صناعات فرعية مساندة مثل صناعة الأجولة (جمع جوال من جوالق، والتي تحولت فيها الجيم المعطشة إلى شين). وصناعة الحبال، وعربات الجر، وكذلك تجارة الملح الذي يستخرج من ملاحات إدكو، وهي بلدة قريبة من رشيد، تجفف مساحات من بحيرتها ويصدر منها الملح الذي يستخدم في تجفيف الأرز قبل التعبئة بمقادير طفيفة.
ولذلك لم تكن «الدايرة» مضربا وحسب بل منطقة صناعية تجارية، لكنني لا أذكر أني شاهدت مديرا (ناهيك بمجلس إدارة) أو محاسبين أو مراجعين؛ إذ كان النظام ريفيا في جوهره يعتمد على «كلمة» البائع و«كلمة» المشتري، وكانت مناطق زراعة الأرز في شمال الدلتا قريبة من رشيد؛ مما كان ييسر نقل المحصول وتخزينه وضربه وتسويقه؛ إما بقطار البضائع (في السكك الحديدية) أو بالشاحنات الكبيرة إلى شتى البلدان المجاورة، وإلى الإسكندرية والقاهرة بطبيعة الحال. ونادرا ما كان النقل النهري من الوسائل الرئيسية؛ إما لصعوبة الإبحار ضد التيار، رغم توافر الرياح الشمالية المواتية، وإما بسبب وجود «سد إدفينا»، وهو سد ترابي كان يقام كل عام عند بلدة إدفينا القريبة لمنع مياه البحر المالحة من الدخول جنوبا في مجرى النيل؛ ولذلك كنت أسمع وأنا صغير إشارات إلى أسماك قبلي السد وبحري السد، أي النيلية والبحرية. وقد أقيمت في عام 1950م تقريبا قناطر إدفينا مكان هذا السد، وربما كان ذلك في عهد وزارة الوفد، لأنني أذكر أن مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء هو الذي افتتحها، ويقابلها على الفرع الآخر من النيل (فرع دمياط) سد فارسكور ثم قناطر فارسكور.
وكان والدي يصحبني أحيانا إلى «الدايرة» لمتابعة العمل، ولكن الواضح أنه لم يكن يشغل باله بشئون التجارة، بل كان يقضي الوقت في القراءة، وفي تأمل الطيور الزائرة لمصر، وفي إعداد «الأرض» التي اشتراها واستصلحها لتكون حديقة غناء تأتي إليها طيور أوروبا. وكانت «الأرض» فدانين لا أكثر من الرمال في المدخل الجنوبي للمدينة، تولى تمهيدها وتزويدها بالمياه العذبة، وزراعة النخيل (البلح الزغلول أساسا) وأشجار المانجو (الأنبج) والقشدة الخضراء، وشجرة برقوق واحدة، وشجرتين للتفاح. وبنى في وسطها منزلا صغيرا سرعان ما أزال سقفه وأحاله مشتلا، وأحاط الحديقة بأشجار الكازورينا سريعة النمو، حتى بدأت الحديقة تزهر وتثمر، وأذكر أنها كانت تشبه جنة خضراء وارفة الظلال، في وسطها حوض البطيخ الذي أكله الذئب!
كان والدي قد ورث مالا كثيرا عن أبيه، إلى جانب الشقة التي يسكنها ونصيبه في مضرب الأرز، ولكنه كان ينفق بلا حساب على الأرض وعلى الكتب، ولا يكاد يلقي بالا إلى شئون «الدائرة». وقد علمت فيما بعد أنه كان قد التحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة، بعد حصوله على البكالوريا من الفريدية الثانوية (حيث كان يجلس إلى جوار المرحوم الدكتور عبد العزيز كامل، وزير الأوقاف الأسبق) ثم أقنعه أخوه الأكبر بترك الجامعة والتفرغ للتجارة والعودة إلى رشيد، وكان ذلك بعد مولدي بفترة قصيرة. لا أعرف تماما ظروف هجر الدراسة المنتظمة، ولكن الثلاثينيات لم تكن بالفترة التي يأمل الصغار فيها تأمين مستقبلهم عن طريق الوظائف، ولا شك أن والدي كان لكثرة ما قرأ من كتب العرب يرى أنه يعيش في عصر سابق لهذا العصر؛ فهو لم يسمع أن أحدا ممن قرأ لهم في تلك العصور الخوالي كان موظفا في «الحكومة» أو يتقيد بساعات وظيفية محددة، وكان يحب الحرية التي أتاحها له المال، وربما كان ذلك دافعا على العودة إلى رشيد.
اعتدت أن أراه منذ نعومة أظفاري يقظا في الصباح الباكر؛ إما في الفجر أو قبل أن تشرق الشمس، وكان يصلي ويخرج للعمل في «الأرض» حتى يبدأ حر النهار فيعود إلى «البلد» ويشتري لوازم البيت ويرسلها إلى المنزل، ثم يصلي الظهر في مسجد المحلي ويعود لتناول الغداء ثم ينام ساعة أو بعض ساعة، وينهض ليتوضأ ويصلي العصر، ويبدأ القراءة والكتابة. فإذا اقترب موعد الغروب خرج ثانية إلى المسجد وأحيانا كان يلتف حوله بعض أهل البلدة ليطرحوا أسئلة دينية كان يجيب عليها، وكثيرا ما كنت أصحبه أثناء العطلات في جولاته اليومية؛ إذ كنت أستمتع بالقصص التي يقصها عن العرب القدماء، ويروي ما فيها من شعر صحيحا معربا، فأكاد أتصور نفسي وقد عدت القهقرى في الزمن إلى عصر هؤلاء الأجداد، وكان يساعدني على تصور الحياة البدوية ما يحيط برشيد من رمال شاسعة، بحار لا نهاية لها من الرمال تنمو فيها آلاف النخيل، بل آلاف الآلاف لأنك حين تركب القطار المتجه من رشيد إلى الإسكندرية ترى النخيل ممتدة حتى الأفق على الجانبين لعشرات الكيلومترات، وكانت الترعة التي تخرج من النيل «قبلي السد» تمتد وسطها، وعلى الجانبين توجد حقول واسعة يمتلكها بعض أبناء البلد، ويسمى كل منها «غيط فلان»، وكانت هذه الغيطان «مسقاوية» أي تعتمد على الري وتزرع فيها المحاصيل، في حين كانت النخيل، بطبيعة الحال، «بعلية» أي تروى بماء المطر.
كنت أحب قصص القدماء، وأحب اللغة التي تدر علي دخلا لا بأس به، قرشا أو قرشين لاستكمال «مصروفي» وشراء ما يلذ لي من اللب (بذور البطيخ) والفول السوداني والحمص من مقلى شهير في شارع السوق اسمه مقلى إمام، وكان الشائع نطقها بإضافة هاء؛ أي «مقلاة»، وذلك قبل أن تتحول الكلمة في القاهرة إلى كائن غريب اسمه «المقلة» بفتح الميم لا بضمها. وكنت أغافل والدي أحيانا فلا أنبهه إلى أنه سبق أن سألني نفس السؤال؛ إذ كان كثيرا ما ينسى، فأفوز بالقرش دون وجه حق! واكتشفت ذات يوم وسيلة «للتنبؤ» بما سوف يطرحه علي من الأسئلة، إذ كان يترك كتبه مفتوحة عند الصفحات التي يريد نقل اقتباسات منها في مجلد ضخم يسجل فيها ما يعجبه من الشعر والنثر، وكان يسميه «الموسوعة الأدبية أو بيت الحكمة». ولن أنسى المأزق الذي وقعت فيه حين قرأت ذات يوم بيتا من الشعر لم أفهمه، ولم أكن أعرف كيف أفهمه، ولا كنت قادرا على فتح دولاب الكتب (فهو يغلقه بالمفتاح) الذي يوجد فيه القاموس المحيط للفيروزابادي. وكنت أخشى أن يسألني عن معناه في وقت قريب، وكان لي بعض الأصدقاء الذين يدرسون في المعهد الأزهري في الإسكندرية من زملائي السابقين في الكتاب، فسألت أحدهم في عصر ذلك اليوم ونحن نسير على شاطئ النيل عن معناه وهو:
لو بغير الماء حلقي شرق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
صفحة غير معروفة
فأجابني بأنه لا يعرف وأنه «غير مقرر»، ولم أفهم معنى المقرر آنذاك؛ فقد كان الأمر يتعلق بقرش يأتي بقراطيس اللب والفول السوداني والحمص، وربما بعض الجلاطة (الجيلاتي) أيضا، ولم أستطع أن أعثر على أحد يدلني على المعنى، وكان أن ضاع القرش! أما المعنى فلم أعرفه إلا عند ضياع القرش؛ ولذلك ظل محفورا بألفاظه في ذاكرتي لا أنساه أبدا «شرقت بالماء، ولو غصصت بغيره لشربت الماء لإزالة الغصة؛ أي للاعتصار!» أي ما يقابله بلغة الصحافة اليوم دوائي هو الداء فأين الدواء؟
كنت أحب والدي لما يرويه من قصص، ولما يتغنى به من أغاني عبد الوهاب. كان صوته رخيما وكان مشهورا في رشيد بإجادة قراءته للقرآن، وإنشاده التسابيح، التي كانوا يسمونها «تواشيح»، قبل أذان الفجر في رمضان، فكان يصعد إلى المئذنة في جامع المحلي، دون مكبر صوت طبعا، وينشد تلك التسابيح التي كان يسهر لها أهل البلد. وكان يحب الشيخ مصطفى إسماعيل (رحمه الله) حبا جما، وكان الشيخ مصطفى صديقا لأحد الأثرياء في رشيد واسمه إبراهيم حجاج، فكان يستضيفه لقراءة القرآن في مناسبات لا أذكرها، وكانت الخيمة، أو السرادق الذي يقام خصيصا له يزدحم بالرجال بعد صلاة العشاء للاستماع إليه حتى ساعة متأخرة من الليل. وكان والدي يحفظ أسلوب الشيخ مصطفى في الأداء وينفي عنه أنه يلحن القرآن، على عكس ما كان يرميه منافسوه به، وكان يقول لي إن التلحين هو فرض قالب موسيقي خارجي على الكلمات قد يقتضي الخروج عن أصول القراءة، إما بإضافة حركات في غير موضعها أو بحذف المد من مواضعه وهكذا، مثلما يقول عبد الوهاب في الخطايا :
حسبنا ما كان فاهدأ ها هنا
في ضلوعي واحتبس خلف الحنايا
فإنه يغنيها بإضافة ألف مد بعد الحاء في الحنايا هكذا «خلفا لحانايا» ولكن الشيخ مصطفى لا يفعل ذلك أبدا. والعامية المصرية «تخطف» الحركات؛ أي تلغي المد وتسكن أواخر الكلمات وتغير تشكيلها (أي حركاتها الداخلية)، وهي لهذا - يقول والدي - لغة ملحونة!
ومثلما أحببت الشيخ مصطفى إسماعيل أحببت عبد الوهاب، وكنت أسمع كلا منهما بصوت والدي، وقد أتانا جهاز الراديو لأول مرة في بيت بدر الدين في تلك الأيام، وربما كان موجودا منذ قيام محطة الإذاعة اللاسلكية في منتصف الثلاثينيات، ولكنني أصبحت مدركا لوجوده وأهميته في أوائل الأربعينيات وأواسطها، وكان الشيخ محمد رفعت يرتل سورة الكهف كل يوم جمعة في الشتاء، وربما كان ذلك عام 1944م، فحفظت أسلوبه في قراءتها، وحذقت طريقته في «التقفيل» (أي العودة إلى الطبقة الصوتية التي بدأ منها) و«التصدير» أي الخروج عن «سلم الأداء» ثم العودة إليه، وما زلت أذكر تسجيلاته التي ضاعت، أو قراءته التي لم تسجل، ولكن والدي كان متعصبا للشيخ مصطفى إسماعيل ويقول دائما «أبو درش ما فيش منه» وأبو درش، أي أبو درويش، هي كنية كل من يسمى مصطفى، وأبو، حسبما شرح لي والدي، قد تعني «الابن» بالعربية، فهي تفيد النسبة وحسب، كأن تقول حسن أبو علي لتعني حسن بن علي، وربما كان السبب في هذا هو ميل الأب إلى تسمية ابنه باسم الجد، فتجد في بعض الأسرات سلاسل من مصطفى درويش وحسن علي وعلي حسن وغير ذلك.
وكانت الإذاعة اللاسلكية تذيع برنامجا في الثانية عصرا اسمه «أسطوانات»، تقدم فيه أغاني أم كلثوم وبعض مطربي ومطربات العصر الغابر، وكنت أستمع أنا ووالدتي إلى هذه الأسطوانات، فلم يكن مسموحا لي أن أستمع إلى الراديو وحدي؛ حتى لا أستهلك البطارية السائلة، وكان يأتي بها رجل اسمه أحمد القناديلي يعمل في الدائرة كل يومين، ويأخذ الفارغة إلى «كهربائي» لشحنها، وهي تشبه بطاريات السيارات تماما. وكانت جدتي تستمع كل صباح في السابعة والنصف إلى القرآن حتى الثامنة، وكان يعقب التلاوة حديث للشيخ محمود شلتوت، ومن الراديو تعلمت أشياء كثيرة ، وبعد أن تعددت البطاريات سمح للأطفال (أنا وأخي حسن الذي يصغرني بعامين) بالاستماع إلى الراديو الذي كان يبدأ إرساله في الخامسة بعد الظهر، وكنا نحرص على برنامج «بابا شارو» - أي برنامج الأطفال - ونتابع البرامج الغنائية مثل «علي بابا» و«عوف الأصيل» و«آذار» و«قسم» و«خوفو»، وكنت أحفظها حوارا وأنغاما عن ظهر قلب.
وذات يوم في عام 1948م مرض جدي الحاج أحمد بدر الدين مرضا شديدا، وكنت أدرك من القلق البادي على الوجوه، وحضور أخوالي من القاهرة والإسكندرية إلى رشيد، أن الأمر خطير. ولم يلبث أن توفي، ومن ثم استقر بنا الحال بصفة نهائية في «بيت بدر الدين» لا يسكنه غيرنا، مع جدتي، إذ كان أخوالي الدكتور محمد علي، وعبد الحليم، ومصطفى كمال يعيشون خارج رشيد، وخالتي سكينة في القاهرة، وكانت قد تزوجت من الأستاذ حسن الخطيب الذي كان مراقبا عاما بوزارة المعارف ثم أصبح أستاذا في كلية الشريعة، وخالتي الحاجة لطيفة تقيم مع زوجها الأستاذ أحمد عجمية في منزل مستقل (فيلا بلغة العصر الحديث) على الطريق الزراعي. وفي تلك الأيام كنا نسمع عن الحرب بين العرب وإسرائيل، وسمعنا عن اغتيال الكونت برنادوت مندوب الأمم المتحدة في فلسطين، وكان ذلك على ما أذكر في رمضان، في شهر يوليو، وكنا ننام بعد الإفطار ثم نقوم في الثانية صباحا لتناول السحور، وفي اليوم التالي جاءنا خبر الحريق الذي شب في مضرب الأرز الذي تملكه أسرة عجمية ويديره زوج خالتي.
كان هذا الحريق رمزا للتحول الكامل في صناعة ضرب الأرز. فالواقع أن بعض المصانع الحديثة كانت قد أنشئت في الإسكندرية وبدأت «تسرق» السوق من رشيد. فهي لا تعتمد كثيرا على اليد العاملة (ما يسمى بكثافة العمالة بلغة الاقتصاد)، بل تستخدم الآلات في معظم المراحل، وهي تعتمد أيضا على ما يسميه المتخصصون باقتصاد الحجم الكبير، أي توسيع نطاق الإنتاج تخفيفا للتكاليف، ومن ثم كانت منافستها لا تحتمل، وكان على مضارب الأرز في رشيد إما أن تتحول إلى النظم الحديثة أو تفلس. وهكذا وجدها آل عجمية فرصة لتحديث المضرب، وكلفهم ذلك خمسة عشر ألف جنيه، وكانت ثروة هائلة بأسعار تلك الفترة، وأصبح مصنعا حديثا قادرا على البقاء وسط عمالقة مدينة الإسكندرية. ولكن ذلك «الرمز» لم يصل معناه إلى كثير من المضارب الأخرى التي تقاعست عن التجديد أو لم تجد التمويل اللازم آنذاك، وكان أن انطوت صفحتها وكاد أن يقضى على صناعة ضرب الأرز في رشيد.
كنا في رمضان، كما قلت، وكان أولاد خالتي (أبناء الأستاذ حسن الخطيب) يأتون في الصيف لقضاء العطلة في بيت الأسرة الكبيرة. وكان صلاح أقربهم مني سنا وميولا، فكنا نخرج معا لأداء صلاة العشاء و«التراويح» (صلاة القيام) في مساجد مختلفة، وتعلمت من والدي بعض التسابيح التي كنت أرددها بصوت عال بعد كل ركعتين؛ فالتراويح عشرون ركعة، وما زلت أذكر إحداها وهي «يا علام الغيوب، أطفئ ظمأ القلوب، وتب على من يتوب، واغفر لنا يا كريم». وكان في الشهادة الابتدائية أي في الرابعة، وأنا في الثالثة، وكانت تلك شهادة عامة (أي تعقد على مستوى المنطقة كلها)؛ ولذلك فرح بنجاحه فرحا شديدا، وكانت تتلوها المرحلة الثانوية من خمسة أعوام وتنقسم إلى قسمين: الشهادة العامة وهي الثقافة (بعد أربع سنوات) ثم الشهادة الخاصة وهي التوجيهية لعام واحد. وكنا نلتقي أحيانا مع والدي لنتحادث في اللغة والدين، ولكن ابن خالتي لم يكن يحب ما يسميه بالأسئلة، وما أعتبره أنا مصدرا لزيادة الدخل!
صفحة غير معروفة
وفي العيد زارنا خالي عبد الحليم بدر الدين، وكان قد استقر في تجارة الأجهزة العلمية وأدوات المعامل في القاهرة، وانفرد بإدارة الشركة وملكيتها بعد عودة «هيلشر» شريكه الألماني إلى برلين الغربية. وكان خالي قد تخرج في مدرسة المعلمين العليا (التي توازي كليات التربية حاليا) وعمل بالتدريس فترة في الثلاثينيات قبل أن يشارك هيلشر التاجر الألماني الذي كان قد أوكل إليه إدارة فرع الشركة في القاهرة، ثم افتتحا فرعا في الإسكندرية وآخر في الخرطوم، وكلها تتبع الفرع الرئيسي في برلين. فلما نشبت الحرب جاء إلى القاهرة وتولى إدارة فرع القاهرة بنفسه، وحالت الحرب دون عودته، فلما انتهت الحرب أعاد خالي إلى إدارة الفروع المحلية، ثم نقل إليه ملكية الشركة وعاد هو لبنائها من جديد في ألمانيا. وكانت أحوال التجارة قد تدهورت أثناء الحرب، ولكن لم تمض ثلاثة أعوام حتى عادت للانتعاش، وأذكر مناقشة مستفيضة لتلك الأحوال ذات مساء على ضوء الكلوب (الجلوب)، وأذكر أن خالي عرض على والدي المشاركة في رأس مال الشركة بألف جنيه، سرعان ما بارك الله فيها، وكانت آخر ما بقي له من التركة التي كان ينفق منها بسخاء على الكتب وعلى «الأرض».
وكان ثمة عامل مشترك يجمع بين والدي وخالي؛ وهو حبهما للصيد. ففي الشتاء كانا يذهبان لصيد البط البري المهاجر من أوروبا في بحيرة إدكو، وكانا مع رفقائهما من أعضاء «نادي الصيد الملكي» يقضيان جزءا من الليل في استراحة يملكها السيوفي بك، الأمين الثاني للملك فاروق في مكان يسمى «المعدية» وهو مكان التقاء البحيرة بالبحر المتوسط، ثم ينهضان في الفجر للصيد في براميل خاصة وضعت وسط أعشاب البحيرة الطويلة، بينما يحضر الصبيان لهما ولزملائهما الطيور التي صيدت وسقطت في ماء البحيرة، بقوارب مسطحة صغيرة. أما في سبتمبر، فكان موسم صيد الطيور المهاجرة من أوروبا لقضاء فصل الشتاء في السودان. وكان والدي يهتم بجمال الطيور وألوانها أكثر من اهتمامه بأكل لحومها، وكثيرا ما كنت أشاهده في أثناء قيامه بتحنيط بعض تلك الطيور أو رسم صورها بألوانه الخاصة.
وحل في العام التالي (1949م) حدث كبير؛ هو المعرض الصناعي الزراعي في مدينة القاهرة، فاصطحبني والدي لزيارته، ونزلت أنا ضيفا عند خالي، بينما أقام والدي عند أحد أقاربه. وكان يأتي كل يوم لاصطحابي إلى المعرض، وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها تلك المدينة الشاسعة، وكان والدي من عشاق الخديوي إسماعيل، فكان يتعمد بعد كل زيارة لمتحف أو لنصب أو لمكتبة أن يعدد لي مناقبه، وما زلت أذكر أول مرة أشاهد فيها دار الأوبرا القديمة، وميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا )، وأرى ثكنات الجيش البريطاني قائمة بلون برتقالي فاتح ظننته أحمر، في مكان مبنى جامعة الدول العربية وفندق هيلتون النيل. كانت المشاهد مثل الأحلام لطفل في العاشرة، وأذكر أننا عبرنا كوبري قصر النيل سيرا على الأقدام، ودخلنا المعرض بينما كان والدي منهمكا في رواية التاريخ القريب لي، وكفاح المصريين من أجل الاستقلال.
وتركني والدي في المعرض ذات يوم خارج مكان لبيع الأسطوانات، وغاب طويلا لكنني لم أقلق؛ فقد كانت الرؤى مثل عالم جديد جميل، وكان الرائحون والغادون يرتدون الحلل الزاهية، والنساء والفتيات يرتدين الملابس الأوروبية، حاسرات ضاحكات عابثات، وكانت فنون العرض باهرة، وبائعو المشروبات يبالغون في أسعارها، ولا يمكن شراء شيء بمليمين أو ثلاثة مثل رشيد، ثم عاد والدي ومعه أسطوانة مسجلة بصوته. كان صاحب الشركة قد أعجب بصوته وطلب منه تسجيل بعض أسطوانات القرآن، وأعطاه هدية هي تسجيل صوته هو وهو يقرأ سورة طه. وكان يحاكي فيها أسلوب الشيخ السعدني في القراءة وهو الذي كنا نسمعه في محطة الشرق الأدنى. وما زلت أحفظ هذا الأسلوب، وكان الوجه الأول ينتهي بالآية
الرحمن على العرش استوى . وعندما عدنا إلى رشيد كان والدي قد أعد لي مفاجأة إذ أتى لي ببعض أسطوانات أم كلثوم كنت أديرها على الحاكي (الجراموفون) ذي البوق الضخم، الذي يملأ باليد (زنبرك) وكانت لدينا أسطوانات قديمة لمنيرة المهدية وعبد الحي حلمي ومحمد عثمان وصالح عبد الحي.
ويبدو أن خالي قد اتفق مع والدي على أن يتولى هو إدارة مكتب الإسكندرية مقابل مرتب شهري، على أن تنتقل الأسرة إلى الإقامة في الإسكندرية؛ حتى لا يضطر إلى السفر كل يوم (المسافة ستون كيلومترا). وفعلا انتقل الجميع في سبتمبر 1949م؛ أنا وأخواي حسن ومصطفى ووالدتي للإقامة في شارع جرين في حي محرم بك. والتحقت أنا بمدرسة العباسية الثانوية الواقعة في الشارع نفسه، والتحق أخواي بمدرستين قريبتين. كانت الإسكندرية صورة من القاهرة، ولكن أهم ما يميزها هو وجود أعمامي وعماتي فيها، ووجود أقرب الناس إلى قلبي؛ خالي الدكتور مصطفى كمال بدر الدين، الذي كان قد حصل لتوه على الدكتوراه في طب الأطفال، وعين مدرسا في كلية الطب بجامعة فاروق الأول (الإسكندرية).
3
كانت العباسية الثانوية بالنسبة لي مدينة غريبة. كان أول إحساس لي هو أنني غريب. لم يكن أحد يعرفني، بينما كان الجميع في رشيد يعرفونني نسبا ونشأة. لم أكن بلغت الحادية عشرة بعد، ولكنني كنت أشعر دائما أنني أكبر ممن حولي. كان يشاركني في المقعد تلميذ يسمى محمد البحر، وهو من أحفاد سيد درويش، وكان في آخر الفصل تلميذ يسمى خميس عبيد جاد، اشتهر بإجادته الخطوط العربية، وبأنه «حلنجي» أي بارع في التحايل والمراوغة. وكنت أجلس إلى جوار النافذة، مما جعلني أسرح الطرف فيما حولي، أسمع نداءات البائعين من نغم البيات، وأرقب السيارات (لم يكن في رشيد سيارات)، وأصغي إلى الدروس في الوقت نفسه. كنت تائها معظم الوقت، حتى جاء أستاذ اللغة العربية «عباس القاضي» وطلب منا كتابة موضوع إنشاء في المنزل. وعندما أعاد لنا الكراسات لم يعطني درجة بل كتب «إن كان هذا كلامك فهو حسن.» ولم يرق لي الشك في أمانتي فاعترضت، فقال لي «أعرب لفظة كلامك، فإن أصبت قبلت الموضوع»، فقلت له إنها خبر كان مضاف، ولا بد أن تفتح! فطرح السؤال على باقي الطلبة فاختلفوا ثم قرروا التضامن ضد الرشيدي الغريب فقالوا إنني أخطأت، ولا بد أن ترفع، ويبدو أن المدرس كان يخشى بأس التلاميذ فقال إنها مسألة خلافية يجوز فيها الرفع والنصب، ولكنني اعترضت وقلت إن التقدير هنا لا لزوم له، فكيف نتصور أنه اسم كان مؤخر مع أنك إذا قلبت الجملة وأخرت اسم الإشارة؛ أصبح نوعا من التوكيد وضاع منا الخبر! وكأنما صدمته الإجابة فقال لي أفصح! فقلت نصب الكلمة لا يقتضي تقديرا؛ فاسم الإشارة مبتدأ لا يحتاج إلى بدل لوجود الكلام نفسه أما في حالة التقدير فسوف تكون الجملة معقدة: إن كان كلامك هذا [هو كلامك] - بل إن المعنى سوف يتغير! وتفكر لحظة وقال: عندك حق! وعندها هاج الطلبة وماجوا، وكنت سعيدا بانتصاري، ولكن الأستاذ عاد فقال: «لا لا! الكلام مستواه أعلى من سنة أولى! عموما ننتظر ونرى!» وفرح الطلبة وسكتوا.
في ذلك اليوم خرجت مهموما. وظللت أقلب الجملة في رأسي. ربما كنت مخطئا. هل يصح الرفع؟ ولم أبح بالسر لأحد. ولم أعد إلى المنزل في ساعة الغداء، بل اشتريت «شقة فول» بنصف قرش، واكتشفت أن البائع باعني ثلث رغيف فقط ليزيد من مكسبه، ولكنه كان لذيذا على أية حال، وانتهيت منه بسرعة وذهبت إلى ملعب الجمباز، فرأيت طالبين (محسن والمصري) يتدربان على جهاز «المتوازي» وجهاز «العقلة» وذهلت! وألهاني الاستمتاع بفنونهما عن الخبر المنصوب، وبعد الفسحة لم يكن في ذهني سوى الرياضة! كانا «يتشقلبان» في الهواء مثل البهلوانات، وكان المنافسون لهما يقعون ولا يفلحون! وقررت أن أحاول الالتحاق برياضة ما في المدرسة، فقالوا لي عليك بالملاكمة لأنها تحتاج إلى «النفس الطويل»، ومن ثم أقلعت عن عادة العودة إلى المنزل في الفسحة وصرت أقضي الوقت في التدريب، ومن بعده الحمام البارد، دون أن أخبر أحدا.
ويبدو أنني كنت أتقدم في التدريب، إذ جاءني الأستاذ «فضالي» ذات يوم، مدرس الألعاب، وقال لي إنك مطلوب للبقاء في المدرسة ثلاثة أيام في الأسبوع للاستعداد للبطولة. ولم أعلق. ولكنني عندما أخبرت والدي رفض رفضا حاسما، وقال إن الرياضة يجب ألا تطغى على الدراسة، وإن علي أن أهتم بدروسي أولا. وأيدته والدتي. وانتهى حلم الملاكمة.
صفحة غير معروفة
وفي يوم جمعة لا أنساه، عندما عدت من الصلاة في المسجد القريب، وجدت خالي في المنزل. وانتهزت الفرصة لأسأله عن كيفية نظم الشعر. كنا في يناير 1950، وكان الجو صحوا، وهو في حالة نفسية رائعة، بعد أن شاهد فتاة أحبها وقرر الزواج منها. ولم يسألني خالي (الطبيب) كيف عرفت أنه يكتب الشعر أو يعرف أسرار النظم، (وكنت قد عثرت على مجموعة شعرية قديمة كتبها في صباه بين الكتب في منزل بدر الدين)، ولكنه جاء بالورق والقلم وشرح لي بأسلوب المدرس المحترف كيفية تقطيع البيت التالي:
إذا كشف الزمان لك القناعا
وهب إليك صرف الدهر باعا
وتركني وذهب إلى والدتي ليصل ما انقطع من حديثه. وسرعان ما كتبت كلاما على الوزن نفسه، هو:
وكم من أحجيات قد رأينا
يحار لحلها العقل اللبيب
ولكنني لاحظت أنني، على نجاحي في محاكاة الشطر الثاني تماما، سكنت خامس التفعيلة في الشطر الأول مرتين. وحاولت مرارا إصلاح ذلك دون جدوى، فسألت خالي فقال دون اهتمام ودون تقطيع: «صح. يجوز»، وعاد للحديث مع والدتي. وقضيت اليوم كله أحاول أن أكتب كلاما له معنى في هذا البحر، وكلما عرضته على خالي ضحك وقال: لا .. لا معنى له! وعندما دافعت قائلا إنه له معنى ما بالتأكيد، رد قائلا: المفروض أن يكون له معنى له قيمة، معنى يعتد به! وعندما كبرت ودرست قول القائل إن الشعر كلام موزون مقفى له معنى، عادت إلى ذهني هذه العبارة التي قالها طبيب لم يدرس النقد الأدبي ولم يتخصص فيه.
وعثرت ذات يوم على صفحة في الكتاب الذي كان يسجل فيه والدي ما يعجبه من أقوال (الموسوعة الأدبية) تتضمن بحور الشعر الستة عشرة، وأمام كل بحر شطر يذكر الإنسان بالوزن؛ فالرجز أمامه «في أبحر الأرجاز بحر يسهل»، والهزج أمامه «على الأهزاج تسهيل»، والطويل «طويل له دون البحور فضائل» وهكذا، وقد علمت فيما بعد أن واضعها هو صفي الدين الحلي. وتعلمت أن أنظم الكلام في معظم البحور، وإن كان بعضها يمثل عقبة كأداء مثل المديد والمقتضب والمنسرح والمضارع، ولكن السريع كان دائما يتحول إلى رجز! ولم تمض شهور حتى أصبحت أجيد تقطيع ما أسمعه من نظم. وكان خالي قد خطب الفتاة واسمها اعتدال (واسم الدلال عدولة)، ونظم أبياتا أعطاها لوالدي ليلحنها له. ولم أكن سمعت بذلك إلا في اجتماع عائلي، وكان خالي معجبا بصوت والدي أيما إعجاب، ويقول إنه لو احترف الغناء لأصبح مثل عبد الوهاب! كانت كلمات المطلع تقول:
اعتدالي وأنت صفو الغواني،
اعتدالي يا خلودا في الزمان!
صفحة غير معروفة
وشعرت على الفور أن هناك خللا ما، فأحضرت الورق والقلم، وتأكد لي أن كلا من الشطرين ينتمي لبحر مختلف؛ الأول للخفيف والثاني للرمل! وكنت سأبدي هذه الملاحظة لولا أن والدي استمر في الغناء - وكان الشطر الثالث «أين روحي والورد في وجنتيك» وهو خفيف صريح، ولكن الذي راعني هو أن اللحن مسروق من عبد الوهاب: (والفراشات ملت الزهر لما .. حدثتها الأنسام عن شفتيك) - عندها تكلمت، فقال لي خالي: إن عبد الوهاب نفسه يسرق الألحان الغربية والشرقية! ولكن والدي قال إنه مقتبس، مع التعديل، فعدت أقول: ولكن المزج هنا واضح بين الرمل والخفيف! فضحك الجميع؛ فالمناسبة لم تكن تحتمل المناقشات العروضية.
بعد أيام صحوت مبكرا، وكنا في فبراير؛ لأرى الثلج يتساقط لأول مرة في حياتي، لم يكن البرد، بل كان الثلج الذي عرفته فيما بعد في أوروبا، وإن كان من حادثتهم فيه أسموه صقيعا. وكانت الجدران حافلة باللافتات الخاصة بالدعاية الانتخابية، وكان مرشح حزب الوفد (1950م) اسمه الحلواني، وكان شارع محرم بك يمتلئ أحيانا بأنصار ذلك المرشح، وهم يحملون على الأكتاف شخصا يصيح «حلاوته حلوة» فيردون عليه: «حلواني» [حالواني]، ثم يصيح «كبش وعطاني» فيردون: حالواني، وهكذا.
وسرعان ما ظهرت جريدة الأهرام وعنوان الصفحة الرئيسية يقول [خطأ]: الوفد يشكل وزارته السابعة، ثم صححها في اليوم التالي إلى «السادسة»! ولكن المدرسة كانت فيما يبدو غير مستريحة للنتائج؛ إذ كثرت المظاهرات، وكان الطلبة يترقبون في لهفة وصول أصوات الهتاف الصادرة عن مظاهرة كلية الهندسة، قائدة جميع المظاهرات، فيهب منهم من يهتف «يسقط الاستعمار!» أو «الجلاء التام أو الموت الزؤام!» ويردد الباقون خلفه ما يقول، وينسحب المدرس في هدوء إلى خارج الفصل، ثم يجري إلى غرفة الناظر للاحتماء، ومعنى هذا أن الإضراب عن الدراسة قد بدأ، وكنت حينذاك ألتحق بالجموع الخارجة، حتى نغادر باب المدرسة، ومن ثم أعود إلى المنزل.
وكان لدينا مدرس للتاريخ والجغرافيا اسمه «يوسف خليل» يتميز بجرأة غير معهودة في ذلك الوقت؛ إذ كان يتحدث بإسهاب عن «سوء توزيع الثروة»، وهذه هي ألفاظه نفسها، وعن استغلال الفلاحين، وكان كل درس سواء في التاريخ أو في الجغرافيا يؤدي إلى مناقشة مستفيضة حول ما كان يسميه ب «أحوال البلد »، وكيف أن العلاج لن يأتي برحيل الإنجليز، فالقاعدة البريطانية في قناة السويس مآلها التصفية خصوصا بعد اتجاه إنجلترا إلى تصفية قواعدها «شرقي السويس»؛ لأن خروجها من الهند أدى إلى تغيير كامل في شكل الإمبراطورية القديمة، أما العلاج الحقيقي في رأيه فكان يتمثل في استثمار طاقات أهل البلد بنشر التعليم والتصنيع وتطوير الأساليب الزراعية العتيقة لتنويع المحاصيل. كان كلام يوسف خليل ثوريا، ولكنه كان يقوله بثقة العالم لا بحماس الثائر، وكان يدعم كل ما يقوله بالأرقام والإحصاءات، وكان قصير الجسم نحيلا، صوته خفيض، ونبراته مطمئنة لا تنم عن الفوران الداخلي الذي كانت تتسم به خطابات السياسيين.
كنت أستمع إلى ما يقوله صامتا، خصوصا إلى التعبيرات الجديدة التي كنت أنقلها إلى المنزل فلا تلقى صدى عند أحد. كنت غريبا في المدرسة وبدأت أحس بالغربة في المنزل، ووجدتني لأول مرة أهتم بقراءة الصحف، فسمعت عن كلمنت أتلي، رئيس حزب العمال البريطاني الذي أتى إلى الحكم، وسمعت قول ونستون تشيرشيل زعيم حزب المحافظين إن بريطانيا ستجلو عن قاعدة قناة السويس؛ اكتفاء بقاعدة قبرص، وبدأت أسمع عن مشكلة السودان، وأقرأ عن وحدة وادي النيل، واستمعت يوما في الراديو إلى أغنية أم كلثوم التي كان أحمد شوقي قد كتبها تحية لخروج عدد من الشبان المصريين من السجن، والتي تبدأ بالغزل قبل أن تنتهي إلى الموضوع الرئيسي للقصيدة، أي تبدأ هكذا:
بأبي وروحي الناعمات الغيدا
الباسمات عن اليتيم نضيدا
ثم ينتهي إلى القول:
طلبوا الجلاء على الجهاد مثوبة
لم يطلبوا ثمن الجهاد زهيدا
صفحة غير معروفة
والله ما دون الجلاء ويومه
يوم تسميه الكنانة عيدا
وتوقفت عند بيت آخر هو:
يرفلن في ذهب الأصيل ووشيه
ملء الغلائل لؤلؤا وفريدا
لأنه ذكرني بقصيدة كتبها والدي وأدرجها في كتابه المخطوط ولم ينشرها، والواقع أنه لم ينشر أيا من شعره أبدا:
الكون من أنفاسهن تعطرا
والغصن للإعجاب مال تخطرا
يذرفن في ذهب الأصيل ووشيه
دمعا على الخدين لؤلؤه جرى
صفحة غير معروفة
وبدت لي السرقة واضحة فسألت والدي فقال لي إنه يسمى تضمينا؛ فإن البحر الذي اختاره يماثل بحر شوقي (الكامل)، وهو الذي أتى إليه بالتعبير نفسه، وهذا من المسموح به في الشعر ! والواقع أن القصيدة كان الوالد قد كتبها في «مدح» الإمام حسن البنا قبل اغتياله؛ لأنه يخرج من الغزل إلى القول:
فسألتهن لم البكاء أجبنني
خوفا على الإسلام أن يتقهقرا
فأجبتهن الله أيد دينه
وأقام للإسلام فيه غضنفرا
هو ذلك البنا أساس جهادنا
منه الإله النفس والمال اشترى!
وكانت تلك آنذاك إشارة إلى شرعية جمعية الإخوان، ولكنني لا أذكر قط أن والدي كان يذهب إلى الشعبة (أي المقر المحلي للجمعية)، أو أنه كان يصادق أحدا من رجالها. ولم أفهم إلا بعد وقت طويل سبب عزوف والدي عن المشاركة في أي عمل يقتضي الإلزام والالتزام؛ إذ كان يرى ذلك ماسا بحريته، والحرية لديه هي الحياة نفسها. وكان يرفض الحديث في الموضوع، لكنني ألححت في السؤال، فقال لي إن حسن البنا «رجل طيب» ولم يزد.
وخرجت ذات يوم لصلاة الجمعة، وبعد الصلاة لم أشأ أن أعود إلى المنزل، بل سرت في شارع محرم بك حتى آخره، ودخلت في شارع الرصافة، الذي كان هادئا تظلله الأشجار، ثم عرجت على كوبري محرم بك، ومنه إلى حدائق الشلالات، وساعة الزهور، وعندها سمعت لأول مرة ما يسمى بالصوت الداخلي، أي صوت الأفكار، وهو يتحدث بالعربية الفصحى. كان الحديث أمشاجا مختلطة مما قرأته وسمعته، وقلت في نفسي إن هذا الصوت إذا كتب أصبح تأليفا، ولكنه نثر، أما لو كان نظما فربما أصبح شعرا، وعدت أدراجي مسرعا إذ كان الجو ينذر بالمطر وقد عقدت العزم على كتابة شيء ما، تمنيت أن يكون شعرا، دون جدوى. كان الصوت يتكلم بنبرة خطابية تبدو مضحكة على الورق، وكانت الأفكار هزيلة، فأيقنت أن الفصحى وحدها لا تصنع كاتبا.
لم أكن أدري أن ما انتابني هو صوت المراهق الذي دخل عامه الثاني عشر وأصبح يشعر بذاته لا أكثر، كنت أحس يوما بعد يوم بأنني فريد يختلف عن الآخرين، مثلما يحس كل مراهق، وأنه يريد أن يثبت ذلك بطريقة ما، ولم يكن أمامي إلا الشعر! ولكن الشعر لا يأتي بسهولة، وإن أمكن النظم فهل تأتي القوافي؟ كان الذي يشغلني أولا هو النظم، وكنت أقرأ أبياتا أظنها مكسورة وهي موزونة لأنني كنت لا أعرف شيئا عن الزحافات والعلل، ولم أقرأ ما يكفي من الشعر العربي حتى أعتمد على أذني وحدها، وكنت قد انتهيت لتوي من قراءة كتابين عن حياة نابليون؛ الأول من تأليف ستيفان زفايج، والثاني من تأليف حسن جلال، وهو مستشار في القضاء، يكتب كثيرا في المجلات السيارة. ولذلك فعندما قرأت قصيدة شوقي ومطلعها:
صفحة غير معروفة
أعلى الممالك ما كرسيه الماء
وما دعامته بالحق شماء
وأتيت إلى البيت الذي يقول فيه:
ما أنجبت مثل شكسبير حاضرة
ولا نمت عن كريم الطير غناء
تصورت أن به كسرا، وقلت لخالي إن الوزن يستقيم لو وضعنا نابليون مكان شكسبير! فضحك الجميع وقال خالي لي: إنه موزون، ولكن بالتفعيلة خبنا (أي حذف الثاني الساكن)، واعترضت لأن هذه تفعيلة الرجز وهذا بحر البسيط، فازدادت الضحكات، وقال لي والدي: «لا تشغل بالك بالأوزان واقرأ الشعر نفسه.» وعندما انقضى العام الدراسي وتقرر أن نعود إلى رشيد، لا أدري لماذا، كنت قد قررت أن أقرأ كل ما تقع عليه عيني من شعر، دون أن أحاول حفظه، وإن كنت أحفظه رغما عني، في العطلة الصيفية.
4
كانت العودة إلى رشيد عودة إلى الطبيعة، فعدت إلى ارتداء الجلباب، وتحررت من الملابس المدرسية، وعدت إلى أقراني أحدثهم عن الإسكندرية وهم يدهشون لما أحكيه، وكان لدينا زميل جديد يشاركنا اللعب بالكرة، ولكنه من القاهرة، وفد إلى رشيد بسبب انتقال والده إلى وظيفة حكومية في البلد. كان كلما ذكرت شيئا عن الإسكندرية يعلق قائلا: هذا لا شيء إذا قورن بالقاهرة! وكان يشتط في قصصه أحيانا فيحكي عن ملاعب لكرة القدم فوق أسطح المباني، فإذا صادف آذانا مصدقة زاد في القصة أن اللاعب قد «يشوط» الكرة من ملعب فوق سطح مبنى لتستقر في الهدف على سطح مبنى مجاور! وكان من أفراد الشلة من يكذبه، خصوصا زبقة (وتنطق زبأه - بفتح الزاي والباء وتشديد الهمزة) وسمونة، بتشديد الميم. كانا قد انقطعا عن الدراسة وعمل الأول في ورشة خراطة والثاني في صناعة الأقفاص من سعف النخيل (من الجريد)، لكنهما كانا لا يزالان في فريق الكرة، وكان «عجيب» - وهذا هو اسم القاهري - يحتقرهما ويقول لهما إن «الكرة الشراب» (أي المصنوعة من الجوارب القديمة) قطعا لا تستطيع الانتقال من سطح إلى سطح، بخلاف الكرة «الكفر» أي ذات الغطاء الجلدي الذي يحمي الأنبوب المطاطي الذي ينفخ بالداخل؛ فهي ذات مرونة كبيرة، وقد يضربها اللاعب فتحلق في الهواء مسافات بعيدة، بل قد يبلغ من قوة اندفاعها أن تقتل شخصا! ما الذي يحكيه «عجيب»؟ وانتحى بي زميل آخر كان قد انقطع عن الدراسة هو الآخر، واسمه سالمة (اسمه بالكامل محمود علي سالمة)، وقال لي: هل تصدق ما يقوله عجيب؟ إنه «نتاش» - أي فشار (أي نفاج بالفصحى)، ولم نكن قد سمعنا تعبير «يسرح ب» بعد، بمعنى يكذب علي - وهي كناية مهذبة. ولكننا كنا نعرف كلمات مثل «ينتش» بكسر التاء، ويمعر بضم العين. وكلها تصف النفج.
وعندما بدأ العام الدراسي، وكنا في السنة الثانية من الدراسة الثانوية (تقابل الشهادة الإعدادية حاليا)؛ كان في فصلي القديم تغيير لا شك فيه. كان يجلس إلى جواري غلام ضئيل الحجم، أسمر البشرة إلى حد بعيد، اسمه أحمد قادوم، وكان ذلك مصدر سخرية للطلبة، وكان بعضهم يدعوه «بالشاكوش»، وكنت أتصور أن اسمه تحريف للصفة قدوم بمعنى سريع القدوم أو مقدام، على غرار صيغة عطوف وخئون، وكان أبوه يعمل معاونا بأحد المساجد ويرتدي العمة والجبة والقفطان، ومن تحته الكاكولا، وكان لديه ستة إخوة وأخوات، وكان مجدا في دروسه ويؤمن بنظام دقيق في استثمار وقته في حفظ الدروس؛ فهو لا يؤمن مثلما كنت أومن بضرورة قراءة الصحف والكتب غير المدرسية؛ لأنها كانت في نظره مضيعة صريحة للوقت، وكان لدينا في الفصل نفسه تلميذ يكبرنا بعدة سنوات؛ لأنه لم يلتحق بالمدرسة إلا بعد الانتهاء من حفظ القرآن، فكنا نسميه الشيخ نجيب عبد الحليم ، وكان سعيدا بالتسمية، وكان يجلس في الصفوف الأخيرة مع اثنين من الكبار (وكانا في نحو الخامسة عشرة )، هما إبراهيم شحتوت، وإبراهيم عثمان. وكان كلاهما من لاعبي كرة القدم المهرة، وإذا كان نجيب خفيض الصوت رزينا، فإن كلا منهما كان عالي الصوت جهيرا، وكانا يشتركان أيضا في طول شعر الرأس وتصفيفه. ومن الأسماء التي راعتني شخص من إدكو اسمه «قاقا» (تنطق ءاءا)، يجلس بجوار تلميذ من أهل البلد اسمه «مطش» (وهو اسم العائلة التي تعمل بصناعة الأخشاب). كما كان من نوابغ الفصل شاب يميل إلى الطول اسمه خميس سعد خضر (الذي أصبح فيما بعد أستاذا في حقوق القاهرة)، وكنت أسمع عن وجود نابغة في سنة تانية «ب» اسمه مصطفى الجمال، من «البر التاني» أي من محافظة الغربية قبل أن ينقسم الجزء الشمالي ويصبح محافظة كفر الشيخ، وكان يعبر النيل في قارب كل يوم قادما إلى المدرسة وعائدا منها (وقد أصبح فيما بعد أستاذا في حقوق الإسكندرية مع ابن عمه عبد الحميد الذي أصبح عميدا للكلية نفسها).
أما التغيير الذي أحسسته فهو وجود موضوعات «سرية» يختص بها الكبار، ولا يسمح للصغار الجالسين في الصفوف الأولى بالاستماع إليها، ناهيك بالمشاركة فيها. وبدأ عدد من الصغار في محاولة استكشاف هذه الموضوعات، ويبدو أن بعض الأساتذة كانوا على علم بها، ويشيرون إليها باسم «الشقاوة» ويحذرون الفصل عموما منها، لكنني لم أشهد لا في المدرسة ولا خارجها ما يدل على «شقاوة» هؤلاء الكبار، بل إن الشيخ نجيب نفسه كان يشارك في الحديث مع الكبار في حلقات، وكانوا يطربون لسماع فتاواه! وتصورت أن وسيلتي لقهر الكبار هي الجد والعمل، ولاحت لي فرصة لإثبات ذلك حين عقد مدرس اللغة العربية الأستاذ عبد الفتاح خطاب مسابقة لنا في كتابة الإنشاء، وكان الموضوع هو مظاهر الجمال في البر والبحر بالليل والنهار! وكنت شبه واثق من فوزي بالمركز الأول، ولكن الذي فاز هو الشيخ نجيب، وقال المدرس وهو يعلن النتيجة في اليوم التالي: «لقد تساوت الكفتان، ولكن الآيات القرآنية رجحت كفة الشيخ عبد الحليم»، وهي الهزيمة التي علمتني ما يريده أساتذة العربية.
صفحة غير معروفة
وذات يوم تأخرت في العودة إلى المنزل؛ لأنني كنت مشاركا في جمعية الرسم، وكنا نقضي الوقت في غرفة فسيحة تحولت إلى مرسم في الدور العلوي، وكانت الغرفة تدخلها الشمس بعد الظهر، وبها مرآة ضخمة، ولا أدري ما الذي جعلني أقترب من المرآة، وأتأمل وجهي فإذا بسواد ينتشر تحت أنفي ظننته أول الأمر من ألوان الرسم، وكدت أحاول أن أزيله، لولا أنني عندما دققت النظر شاهدت زغبا كثيفا يكاد أن يكون شعرا! وأحسست بالخوف والفرحة معا، فأنا تجاوزت الثانية عشرة وربما بلغت مبلغ الرجال دون أن أدري! ودخل الغرفة فجأة إبراهيم عثمان، وكان فنانا موهوبا، وكان مدرس الرسم مفيد تاوضروس (الذي حذرنا من هجاء اسمه تادرس) يقول إن إبراهيم لديه من الصبر ما يجعله فنانا، ونظر إبراهيم إلي وقال بطريقة عابرة: «أنت طلع لك شنب! احلقه!» وأحسست كأن الرعدة تسري في أوصالي، ولم أعقب، بل عدت إلى اللوحة التي كنت أرسمها ونسيت الوقت حتى دخل الأستاذ مفيد وصاح بي: «اللوحة خلصت! لازم تبوظها؟» وقال إن عيبي أنني لا أعرف متى أتوقف! وأبديت الأسف وعدت إلى المنزل.
وفي اليوم التالي أحسست أن في الفصل همسات تتعلق بي، وضحكات مكتومة، وفجأة قبل أن يدخل المدرس بلحظات وجه إبراهيم شحتوت الخطاب إلي قائلا: «أنت جالك زردق؟» وارتفعت في مؤخرة الفصل ضحكات عالية، ولم يتح لي أن أسأل من هو زردق، وإن كان اسما معروفا لأسرة تعمل بنشر الأخشاب وإعدادها للنجارة في حي «قبلي». وشغلت بموضوع زردق طيلة النهار، حتى إنني كنت لا أستطيع التركيز في الدرس. وعندما انتهى اليوم الدراسي عدت في طريق المنزل شاردا، أفكر في حل ذلك اللغز، وكنت مارا في طريق السوق على مقهى صاخب يصدح فيه عبد الوهاب بأغنية الجندول، وتسمرت في مكاني! كانت الألحان قاهرة، والكلمات باهرة، واللحظة نفسها ساحرة! وناداني عامل المقهى ودعاني إلى الجلوس، ولكنني شكرته وانصرفت. وعندما وصلت إلى المنزل أحسست بعزوف عن الجميع، فأبدلت ملابسي وارتديت الجلباب وخرجت. كان في نفسي حزن غريب، حزن له جمال ورقة، دفعني إلى شاطئ النيل ، بدلا من «السكة الزراعية» وهي الطريق الذي يمر بين الحقول ثم يفضي إلى الصحراء، وظللت أسير وأبيات من الشعر تتزاحم في ذهني، كان أولها من أبي العلاء:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفاني
وسمعت الصوت الداخلي ينشد أبياتا أخرى وأخرى، حتى انتهيت إلى:
يا شاطئ النيل هل أشجتك أنغامي
وهل سمعت صدى شدوي وآلامي
وهل سمعت ترانيما معذبة
تفيض من خاطر يحيا بأوهام
واستقرت في داخلي إيقاعات عزيز أباظة وأحسست براحة عميقة لا علاقة لها بمعاني الكلمات، وعندما آذنت الشمس بالمغيب قفلت عائدا وأنا أستمع إلى الصوت الداخلي ينشد:
صفحة غير معروفة
يا شاطئ النيل هل أشجتك أنغامي
وهل سمعت صدى شدوي وآلامي
وهل سمعت ترانيما معذبة
تفيض من خاطر يحيا بأوهام
وحاولت أن أزيد فلم أفلح، ولم تكن علي واجبات مدرسية، فقضيت بقية المساء أقرأ الشعر حتى غلبني النوم.
وقد اكتشفت في الأيام التالية معنى «زردق»، لكنني لم أشف غليل السائلين أو أفصح لهم عما حدث لي أو يحدث لي؛ فقد كنت مشغولا أيضا بما يحدث في مصر منذ أن بدأت أقرأ الصحف، وأستمع إلى نشرات الأخبار، وأتردد على شعبة الإخوان المسلمين.
كانت الصحف غاصة بأخبار قضية «الأسلحة الفاسدة»، وهي القضية التي أثارها إحسان عبد القدوس في مجلة «روز اليوسف»، وكثيرا ما كانت المجلة تصل إلينا في رشيد قبل أن تصادر أعدادها في القاهرة، فكنا نقرأ ما لا يقرؤه القاهريون، وكانت أحيانا تصل وقد شطب الرقيب فقرات أو مقالات كاملة، وكان الهجوم شديدا على الفساد في الحكومة، وعندما وقعت مذبحة الشرطة في قناة السويس (على أيدي الإنجليز) كان الهجوم لا يتوقف على فؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، الذي أمر الشرطة بالمقاومة وهم لا قبل لهم بها، وكان الهجوم يصيب أيضا السيدة زينب الوكيل حرم النحاس باشا، وأحمد عبود باشا، صاحب شركات السكر والبواخر، وفرغلي باشا تاجر القطن، وباختصار كبار الرأسماليين وأصحاب الأراضي الشاسعة مثل البدراوي عاشور وغيره. وكان الأستاذ أنيس مدرس الجغرافيا قد قدم لنا تصوره عن الفرق بين الرأسمالية والشيوعية، فقال إن الأولى تتميز بملكية الأفراد لوسائل الإنتاج، والثانية بملكية الدولة لها، أما الاشتراكية فهي تملك العمال أنفسهم مصانعهم أو مزارعهم؛ ولذلك فهي تجعل العامل هو نفسه صاحب العمل؛ مما يجعله حريصا على نجاحه وصيانته وتطويره. وقال لنا إن العدل الحقيقي هو أن يكون الأجر جزءا من المكسب، وأن يشرف العمال على رعاية أنفسهم صحيا واجتماعيا، وأن تتحدد الأجور تبعا للعمل كما وكيفا، لا على أساس الامتلاك الذي يولد الاستغلال. وكان عبد المنعم درويش (واسمه الأصلي «الصباغ») رحمه الله مدرس التاريخ يقارن نفسه بمصطفى النحاس الذي ضحكت له الدنيا؛ لأنه دخل كلية الحقوق فأصبح قاضيا وسياسيا مرموقا، يرتدي رباط عنق بثلاثة جنيهات، بينما دخل هو كلية الآداب فأصبح مدرسا يرتدي رباط عنق «بعشرة صاغ من على الرصيف!»
ولما كان عطشي للقراءة لا يكاد يرتوي، لجأت إلى حيلة فريدة، فكنت أذهب إلى عطار في السوق الرئيسية اسمه أمين البحة (بتشديد الحاء)، وأقترض منه حزمة من المجلات القديمة التي تباع بالوزن لاستخدامها في بيع العطارة، وكنت أقرؤها ثم أعيدها مقابل نصف قرش فقط، فكنت آتي «بالمصور» و«الاثنين» و«آخر ساعة»، ومجلة الراديو القديمة وبعض الصحف أيضا، وكنت أبدأ بقراءة القصص والشعر، ثم آتي على التحقيقات الصحفية والتعليقات والأخبار التي تكون قد فقدت قيمتها. ولكن الاكتشاف الذي كانت له أكبر قيمة هو مخزن «المقتطف» و«الهلال» و«الكاتب المصري» و«الكتاب» (التي كان يحررها عادل الغضبان) في الطابق العلوي. كانت تنتمي لا شك لأخوالي باستثناء «الكتاب» التي كان والدي يشتريها بانتظام، وفيها وجدت مادة خصبة لخيالي، وقصصا بأقلام مشاهير المستقبل، وأشعارا لناجي والمازني ومحمود عماد؛ ممن كنا نجهل شعرهم في المدرسة. وأذكر من أسماء دار الهلال التي كانت تصادفني كثيرا بنت الشاطئ وأمير بقطر وطاهر الطناحي وعباس علام ووليم باسيلي وصوفي عبد الله وأبو بثينة (الزجال).
كان صيف 1951 ممتعا، لم يعكره لغز زردق (وقد اكتشفت أنه لم يكن زارني كما توهم «الكبار»)، بل كان الصيف رحلة دائبة لا تنقطع على صفحات الكتب والمجلات، وفي العصر كنا نخرج أنا والزملاء للنزهة على الطريق الزراعي الذي تحيطه الكثبان الرملية على الجانبين، ثم نعود فنتوقف قليلا عند «سينما رشيد»، وهو مبنى قديم كان يستخدم جراجا لشاحنات الجيش البريطاني، ثم اشتراه أحد التجار وحوله إلى دار للسينما، ولكن التذاكر كانت غالية، فكرسي البلكون رسميا بتسعة قروش ووديا بستة ونصف، ومنتصف الصالة رسميا بستة ونصف ووديا بقرشين ونصف، أما مقدمة الصالة فهي دكك خشبية خشنة، رسميا بقرشين ونصف، ووديا بقرش صاغ واحد. وكان الفيلم الذي استمر عرضه طويلا وكنا نقف خارج السينما للاستماع إلى أغانيه هو «غزل البنات» دون أن ندفع شيئا، وكان «الكبار» من زملائي يقفون وهم يذرفون الدموع مع أغنية عبد الوهاب الأخيرة «عاشق الروح»، لكنني لم أكن أشاركهم التأثر.
كان والدي في هذه الأثناء يذهب إلى فرع الشركة بالإسكندرية (وكان يسمى المكتب) وكان يعمل معه أيضا عمي عبد المحسن وعمي أحمد، اللذان شاركا خالي بمقدار معين من المال، وكان والدي يصطحبني أحيانا لقضاء أيام معه في الإسكندرية، وكنت أحب هذه الأيام، خصوصا ميل والدي إلى الأكل في المطاعم، وفي وقت مبكر، فما إن تحل ساعة الغداء في الثانية عشرة حتى يقول لي هيا! وكثيرا ما كنا نذهب إلى مطعم مصطفى درويش بائع الكباب، وكانت أشهى الوجبات لا يزيد سعرها عن قروش معدودة. وكان والدي قد تحول اهتمامه أو تحول جانب من اهتمامه إلى الطيور فصار يحدثني عن أنواعها وفصائلها، وخصائصها وألوانها وعاداتها، وكان يتحدث دائما بلهجة من يشاركها حريتها وانطلاقها، وكثيرا ما كان يقضي الوقت في قراءة كتب الطيور الأجنبية في ساعات العمل بالمكتب، أو في رسم صورها الملونة، وجمع المادة الخاصة بالطيور التي تزور مصر، وقد نمت تلك النزعة لديه حتى أصبح يمتلك مكتبة خاصة بالطيور يزيد عدد الكتب فيها عن ألف كتاب بالإنجليزية، ثم وضع المادة في صورة كتاب قام بتلوين لوحاته بنفسه ، واستغرق منه عشرين سنة.
صفحة غير معروفة
5
عندما عدت إلى المدرسة (الثالثة الثانوية) كانت قراءاتي قد تشعبت واتضح تأثير لغة الصحافة في معظم ما أكتب، فقلت الزركشة اللفظية بعض الشيء، وقل الاستشهاد بالشعر، وكان ذلك يجري دون وعي كامل مني، ولكنني اكتشفته فيما بعد عندما قرأت الخطابات التي كنت أرسلها إلى صلاح الخطيب ابن خالتي، في الجيزة. وكان أهم كنزين في حوزتي هما ديوان «الهوى والشباب» للأخطل الصغير، وديوان «شرق وغرب» لعلي محمود طه، وكان يجلس إلى جواري في الفصل تلميذ نابه اسمه طلعت لبيب عزيز، وكان هو مندوب مجلة «سندباد» في رشيد، وكانت صورته تظهر كثيرا في تلك المجلة، والغريب أنني لم أكن أغار منه مطلقا؛ ربما لأنني أتصور أن تلك المجلة هي حقا «مجلة الأولاد في جميع البلاد» كما كان سعيد العريان يكتب على غلافها، وربما لأنني لم أكن أولي النثر احتراما شديدا، ومع بداية العام حدث تطور لم أكن مستعدا له.
كنت واقفا في الفصل أهزل مع بعض الطلبة حين اقترب مني «طلعت الكسار» رحمه الله، وكان يجلس في الصف الأول وقال لي بلهجة جادة تكاد تكون مخيفة: «إياك والضحك؛ فإنه يميت القلب»، فسألته عما يعني، فقال إنك الآن تنتمي لجماعة جادة ولا بد أن تتسم بالرزانة والرصانة في كل سلوكك. فأنت مراقب. وسكت. وفي ساعة الغداء سألته عما يعني، فقال إن الزملاء في جماعة الإخوان لاحظوا أنني أحب الضحك والتلاعب بالألفاظ، وهذا لا يليق بعضو الجمعية. وأضاف قائلا احضر اليوم إلى الشعبة بعد صلاة العصر لتعرف ما أعني.
وذهبت إلى الشعبة فوجدت لفيفا من تلاميذ المدرسة، لا تزيد أعمارهم عن الخامسة عشرة، ولم أكن أنا قد بلغت الثالثة عشرة، جالسين في حلقة كأنما ليتدارسوا أمرا ما، وكان بينهم أحمد مطش، وطلعت الكسار، وعدد آخر من الصغار؛ بعضهم من الفصل نفسه، والبعض الآخر توقف عن الدراسة، وإن استمرت معهم الصداقة، وشخص آخر يدعى عزت شحاتة، وكانوا ينادونه باسم الشيخ شحاتة؛ لأن والده كان أزهريا، وقد ورث اللقب عن والده. وبعد أن حدثنا طلعت عن تعليمات الإمام الشهيد بالتزام الجد والوقار، وأن ذلك أساس قهر أعداء البلد، وضرورة استكمال التدريب العسكري للذهاب إلى القناة، وكنا قد بدأنا نتدرب فعلا على مبادئ استعمال الأسلحة، ونحلم بالشهادة، قال إن الكتائب هي عصب الإخوان، والقتال لا يكون أبدا مع الهزل والسخرية، وخصوصا من الإخوان، وأشار إلي وقال: «مثلما يفعل الأخ عناني». وحاولت الرد ولكن الشيخ عزت أسكتني وقال لي لا تقاطع ولا تعترض. واستمر طلعت يقول إن محمد الفرس (الذي أصبح فيما بعد أستاذا في كلية العلوم، جامعة الإسكندرية) أخطأ في اللغة، فإذا بعناني بدلا من أن يؤيده، يقول «إن الفرس كسر العربية»، مما أدى إلى سخرية الفصل منه، واهتزاز صورة الجماعة بين الناس.
ودخل في هذه اللحظة قطبان من أقطاب الجماعة؛ هما عبد المنعم شتا الذي كان يدرس بالمعهد الأزهري في الإسكندرية، وأخوه عبد السلام الذي كان يشاركنا الفصل نفسه. وسلما وجلسا، ولا شك أنهما كانا يعلمان بما دار، فقال الأكبر: «هل وصلتم إلى قرار؟» وقال الشيخ عزت: «لقد وعد عناني بعدم العودة للهزل مطلقا، وعدم قزقزة اللب والأكل في الشارع، وهو يعرف جيدا أن تكرار ذلك سيؤدي إلى فصله.» وسرت همهمة بين الجميع تبينت فيها حروف «لا لا .. لا قدر الله!» ووجدتني أتصبب عرقا من فرط الحرج والدهشة. كنت كلما هممت أن أتحدث أسكتني عزت، وغمز لي من تحت منظاره السميك غمزة معناها «اصبر .. أنا معك!» وبدا كأن عبد المنعم شتا يتنفس الصعداء حين قال: «الحمد الله! هذا ما قاله لي حرفوش (الذي كان يدرس الطب في الإسكندرية)، وأحمد قنديل (الذي دخل الطب بعده بسنة) فهما يثنيان على ما يحفظه عناني من القرآن وعلى تفوقه». وفجأة نهض الجميع. كنت ذاهلا غير مصدق! إدانة بغير دفاع؛ والأدهى من ذلك أنهم كانوا يتحدثون في الموضوع دون علمي ويتخذون القرارات الملزمة لي خلف ظهري. لا أضحك؟ ولا أقزقز اللب؟ وذهبت من فوري إلى السيد بلال (واسمه الحقيقي عبد الفتاح يوسف بلال) وهو زميل في نفس السنة، ولكن في فصل آخر حيث كان يجلس في وكالة الفاكهة بشارع السوق، وكنت مهموما وأريد الحديث ، وقصصت عليه ما جرى.
استقبلني السيد بلال بترحاب شديد وفرح لنجاتي من براثن هؤلاء، وقال دون مبالاة: «هل يظنون أنهم قادرون على التحكم في عباد الله؟ لا تأبه لهم!» وعندما رآنا عبد الفتاح أمان (بتفخيم الألفين مثل الكلمة التركية) جاء يستطلع الخبر، وكان يجلس في دكان أخيه سعيد الكاتب العمومي، وكان تعليقه «ولا يهمك!» وأضاف: «ما الذي يجعلك تذهب إلى الشعبة؟ للعب البنج بونج؟ العب في المدرسة يا أخي! أم من أجل النزهة في القارب والسباحة في البحر؟ دعهم يتمتعون بعبوسهم! لم لا تعود إلى كرة القدم؟» وكأنما أتى الفرج بعدة الشدة، فقررت ألا أفصح عما دار في تلك الجلسة، ولا أعتقد أن أحدا أفصح عنها قبل اليوم، وأن أتظاهر بأنها لم تحدث، مع الامتناع عن زيارة الشعبة والعودة إلى فريق كرة القدم الخاص بنا في «المنشر»!
كان لبلدية رشيد فريق رسمي أذكر من أعضائه حارس المرمى واسمه عبد المنعم (وكنيته «الناعم» وهو ميكانيكي) وعلي عرفة وسعد عرفة (توءمان) وعبد المنعم السنوسي، وإبراهيم عثمان وأخاه الأصغر علي عثمان، وكان يشترك معهم بصفة غير منتظمة بعض طلبة المدرسة النابهين مثل صلاح جلال (الأستاذ حاليا في زراعة القاهرة) وعبد الحميد الجندي، وغيرهم. ولكننا كنا متواضعين في طموحاتنا فلم نهزم أبدا مدرسة دمنهور الثانوية، وعندما جاءنا مدرس لغة فرنسية اسمه حسان المغربي الذي كان يلعب لفريق الأوليمبي السكندري، قررنا ضمه للفريق رغم فارق السن؛ إذ كان قد تجاوز العشرين وكلنا دونها كثيرا.
وفي 26 يناير 1952م، وكنا في عطلة نصف العام، وقع حريق القاهرة، وكثرت الهمهمات في رشيد عن أسباب الحريق ومن وراءه، وتضاربت الروايات، ثم تعطلت الدراسة من جديد، وعندما عدنا للدراسة كان عزمي قد استقر على ممارسة الكتابة. وسمعت إعلانا في الإذاعة عن مسابقة لكتابة قصة بين الشباب «تعالج مشكلة الطلاق» وتصورت أن «معالجة» تعني إيجاد علاج، فجعلت أفكر في حل لمشكلة لا أعرفها؛ فكل ما عرفته عن الطلاق مستقى من روايات عصمت بدر الدين، التي تربطنا بها صلة قرابة بعيدة، وكانت تأتي لزيارتنا وتقص على والدتي قصصا ممتعة عن علاقاتها المتعددة مع أزواجها. كانت تروي ما يحدث بينها وبين كل زوج بأسلوب يمزج بين الحوار والسرد، وخصوصا ما نسميه البلاغة بالالتفات أي تغيير ضمير المتحدث من متكلم إلى غائب وهكذا. وما زلت أذكر استعمالها لصيغة الأمر في رواية خناقة زوجية: «حست زينب إن جوزها مزمزأ. بس! قومي يا زينب حطي حلة الملوخية في الحوض، وادلقيها وفوقها الدمعة، وقولي لي مطرح ما تحط راسك حط رجليك، وخدي هدومك وعلى ماما. وعنها لحد الوقت غضبانة.»
وكتبت إحدى روايات عصمت، ولكنها كانت تصف وتسرد دون أن تشفي الغليل، فلجأت لخالتي الحاجة لطيفة التي لم تكن تكبرني كثيرا وكانت قارئة ممتازة، وسرعان ما عثرت على نقاط الضعف في القصة، وجاءتني في اليوم التالي بقصة بارعة مثل قصص المحترفين جعلتني أمزق قصتي وأنسى موضوع المسابقة. كانت تصف وتسرد أيضا، دون حل للمشكلة بمفهومي الساذج، ولكنها كانت تنبض بالحياة، وتخلو تماما من الزركشة اللفظية التي لم أكن قد برئت منها، وتصور قداسة العلاقة الزوجية بسخونة لم أعثر على مثيل لها إلا في كتابات «هنري جيمس» بعد ذلك بسنوات طويلة.
النثر إذن صعب. كنت في الشعر أجد شكلا ثابتا على الأقل. فوجود قافية ووجود وزن يهبان الكتابة شكلا مميزا، أما كتابة النثر فلم أكن أدري لها شكلا. وذات يوم عثرت على كتاب مبسط بالإنجليزية يحكي قصص ألف ليلة وليلة، ومكتوب عليه ترجمة «ريتشارد بيرتون» واختصار وتبسيط «مايكل وست». كان ينتمي لأحد أخوالي ولا شك. وعندما شرعت في قراءته لم تستوقفني كلمات جديدة (مما نسميه الكلمات الصعبة) فإذا بي أسير فيه حثيثا إلى آخره. وتساءلت إذا كان الملخص المبسط بهذا الجمال فما بالك بالأصل! وأين عساه يكون الأصل؟ كانت الحكايات شائقة وممتعة. وتذكرت الحكايات التي كانت تحكيها لي أم سعد وأم إبراهيم، اللتان كانتا تقومان بخبز «العيش البيتي» لنا مرة كل ثلاثة أسابيع في فرن المنزل القديم، والقصص التي حكتها لي والدتي وجدتي، وحاولت أن أكتب إحداها، وكانت تتعلق «بأمنا الغولة» ومحاولتها التهام الأطفال، وخرجت المحاولة مضحكة، وحاولت كتابة قصة أخرى اسمها «القصر المنشي في الهوا يمشي» تتضمن أكل لحوم الأطفال، ووضع أرواح الأحياء في زجاجات وتعليقها على الشجر في الحديقة، ولم تكن النتيجة أفضل. وحاولت مرة أخرى؛ قصة «ماء الحياة» عن أميرة تحبس خطابها وتذيقهم مر الهوان، وأخرى عن «الطائر الذهبي» (الطيرة الدهب) وأبناء السلطان وسياحتهم في الأرض وما شاهدوه من ألوان السحر، وأخرى بعنوان «مطاوع أمه» الذي تزوجت أخواته من أسد وضبع وثعبان، وجاءت جيوش النمل لمساعدته، والكلاب وسحلية بارعة في صناعة الملابس، وكنت كلما أحاول الكتابة أصدم بالعقبة الكبرى وهي تحويل العامية إلى فصحى. لم تكن العقبة تتمثل في إيجاد المقابل، فالمقابل يسير - مثلا «مزمزأ» في عبارة عصمت في الفقرة الأخيرة قد تساوي كلمة متبرم أو ضجر، أو يوشك أن يبدأ شجارا، ولكن أيا من هذه المقابلات لن تكون في قوة «الزمزأة»، و«يدلق» تساوي يسكب، ولكن شتان، أما المثل الشعبي «مطرح ما تحط راسك حط رجليك» فلن يساوي أبدا مقابله بالفصحى «حتى لو انقلبت رأسا على عقب!» لا. ليست المشكلة في موازاة المعنى، بل في شيء آخر فشلت في تحديد كنهه، ولم أكن أجرؤ على تفادي المشكلة برمتها بأن أكتب الحكاية العامية! كانت العامية آنذاك أبعد ما تكون عن منزلة الأدب!
صفحة غير معروفة
وقد شغلني موضوع العامية شهورا؛ لأنني كنت أستمع بشغف إلى حكايات الناس في المسجد، وأتمنى أن أكتبها؛ فمعظمها يصلح قصصا خيالية مثل ألف ليلة وليلة، خصوصا حكايات «جنايني» (بستاني) اسمه ظفر (ولم أعرف له اسما آخر) إذ كانت جعبته حافلة دائما، وكان يروي مغامراته أثناء قضائه فترة التجنيد الإجباري في فرقة ضربت خيامها في منطقة قناة السويس، وكان يقص علينا كيف كان هو وزملاؤه يسرقون المؤن والذخائر من الإنجليز، وكيف يحفرون السراديب والخنادق ويضعون اللون الأسود على وجوههم حتى لا يراهم الأعداء، وكيف سرقوا ذات يوم دبابة كاملة! (وكم كانت دهشتي حين كبرت وقرأت الطبري - تاريخ الرسل والملوك - فوجدت الكلمة نفسها بمعنى آلة الحرب التي تدق الحصون ويختبئ فيها الرجال في الجزء الرابع!) كانت أقاصيصه تصلح مادة للتاريخ والأدب جميعا، وقد خرج علينا محمد حسنين هيكل في «ملفات السويس» بتفسير لها يقول إن الإنجليز كانوا على علم بالسرقات وكانوا يسهلونها للمصريين بغية الضغط على حكومتهم للجلاء عن القاعدة. على أي حال، كانت القصص بالعامية وتحويلها للفصحى يفقدها شيئا كنت أجهله، وأعرف الآن أنه، بلغة النقد الحديث، البعد الثقافي، فالثقافة ذات ارتباط وثيق بالزمان والمكان، والإحالة إلى الفصحى تحيل القارئ إلى مكان آخر وزمان بعيد! ولذلك فأنا أقول هذه الأيام إن الترجمة إلى العامية من لغة أجنبية أقرب إلى التمصير والتحديث منها إلى الترجمة.
وعندما اكتشف تلاميذ الفصل ثالثة «ب» أنني ذو ولع بالكتابة واللغة العربية، قالوا لي إن إمام الفصحى في المدرسة طالب اسمه فوزي أبو العلا، فهو خطيب مفلق، ومتحدث ذو بيان ساحر، وإن علي إن شئت الاستزادة أن أصادقه. ولكن فوزي كان يصادق تلاميذ من الكبار، ويستنكف مصادقة الأوائل العاكفين على الدروس، فكنت أقترب منه حذرا فأسمعه يغني لأم كلثوم، أو ينشد شعر شوقي الذي تغنيه، أو يكتب على السبورة في مدخل المدرسة أبياتا لشوقي يغنيها عبد الوهاب، وأذكر منها قصيدة دمشق. وحاولت الاقتراب ولاقيت الصدود، ونصحني سمير نور، ابن أحد حلاقي الصحة الرئيسيين (الآخر هو مصطفى عابدين)، أن أطلعه على شيء من شعري، وأومأت برأسي موافقا ولكن لم يكن لدي سوى البيتين القديمين، فأضفت إليهما بيتا هو:
هل كنت تسمع والأنسام تلعب بي
والليل يحضنني والبدر يرعاني
ودفعت بالأبيات الثلاثة إليه فأشرق وجهه، وقال لي: اليوم هو الخميس الأول من الشهر، وأم كلثوم ستغني في الإذاعة ثلاث وصلات، أراهنك على أن الأغنية الأولى هي: ياللي كان يشجيك أنيني (رامي والسنباطي)، والثانية هي النيل (شوقي والسنباطي)، فسألته: والثالثة؟ فضحك وقال: نكون نمنا! وقلت له إنني لا أستطيع السهر لسماع أم كلثوم فتعجب وقال: تعال معنا إلى كازينو أبو علفة! وكان ذلك مقهى ريفيا متواضعا أشد التواضع، يضع الكراسي على شاطئ النيل، ويقدم الشيشة (النارجيلة) للزبائن والشاي المغلي (بنصف قرش) أو الشاي الكشري؛ أي غير المغلي (بقرش كامل)، والقهوة للأغنياء (بقرش ونصف).
وذهبت للسهر مع الشلة، وكان ذلك بمثابة تخرجي من مرحلة الطفولة ومن الإخوان ومن حياة العزلة، ولكن البعوض كان جائعا جوعا غير مسبوق، فجعل يمتص دمي وأنا صابر حتى إذا بدأت قصيدة النيل عدت أدراجي، والمثل السائر يتردد في ذهني «ولا بد دون الشهد من إبر النحل!» لم ينقطع صوت أم كلثوم المنبعث من المقاهي حتى وصلت المنزل ونمت هربا من آلام البعوض، ولكن فرحتي بالتخرج أنستني كل شيء. وتمنيت لو من الله علي ببيت آخر أو بيتين يؤكدان «أوراق الاعتماد»، ولكن القريحة كانت قد نضبت.
كان يوم الجمعة يوم راحة للجميع. وكانت والدتي لا تطبخ في هذا اليوم بل تعطيني عشرة قروش أشتري بثمانية أو تسعة أقة سمك (1,248 كيلوجرام)، وآخذه إلى الفرن حيث يشوى بنصف قرش، وأشتري بما يتبقى خضروات السلطة (طماطم وخيار وليمون وجرجير). كنت نسيت أحداث الليلة البارحة، وإن كانت أنغام «ياللي كان يشجيك أنيني» ما تزال تصعد بي إلى السماء، واتجهت قبل الصلاة إلى السوق لأشتري السمك، فإذا بفوزي أبو العلا مع الشلة يتسامرون، فخجلت أن أشتري السمك أمامهم، وترددت كثيرا، ثم ذكرت أن ثمة سوقا أخرى للسمك في «قبلي» فذهبت إليها، وصليت في مسجد آخر، وصنعت مثلما أصنع كل جمعة. ولكنني أحسست أن التخرج له ثمن أكبر من طاقتي، خصوصا عندما طلب مني إبراهيم شحتوت، وهو من دعائم الشلة، أن أتخلى عن الجلباب وأرتدي الحلة مثل بقية المحترمين!
فعلت مثلما فعلت مع الإخوان؛ إذ أظهرت الموافقة، وأضمرت الخلاف، وقررت أن أعود للحرية. وانتهزت فرصة انتهاء العام الدراسي وعدم الحاجة إلى ارتداء البدلة صباحا، وأصبح الجلباب هو زيي ليلا ونهارا. ولاحظت أن جدران البلدة ألصقت عليها صور شخص اسمه عبد الحليم حافظ، فسألت سمير نور فقال إنه مطرب جديد، وذات يوم وكنا في يوليو 1952م رأيت في الصحيفة إشارة في برنامج الإذاعة إلى أغنية اسمها «على قد الشوق»، فاتجهت إلى سمير نور، وكنا في مسجد المحلي نصلي العصر، ها هو المطرب سوف يغني اليوم، فقال بثقة لا لا .. هذا خطأ .. الأغنية اسمها «على مدد الشوف». وطبقا للقواعد الريفية أمن الباقون على كلامه، فلزمت الصمت، ثم انتظرت موعد الأغنية وكانت كما جاء في الصحيفة. من هذا المطرب؟
ولم تمض أيام حتى قامت الثورة، وبدأ الناس يتساءلون عما حدث، وقالت جدتي ماذا حدث للملك؟ «حسرة على شبابه .. ملك ويعملوا فيه كده؟» وكنت أنا نفسي لا أدري ماذا حدث؛ فالصحف تصف التأييد الشعبي الساحق، واللواء محمد نجيب يبتسم ابتسامته الساحرة، وعلي ماهر باشا مكلف بتشكيل الوزارة الجديدة، ولا أحد يعرف ما يكون. وناداني أحد معارف والدي وكان يجلس إلى منضدة صغيرة في مقهى كبير بشارع السوق وقال لي: «محمد أفندي! قل لي! الثورة دي حتعمل إيه؟ حتفتح مطاعم مثلا؟» ولم أعرف ماذا أقول. قلت له إنها ستزيل الفساد وتصلح الأحوال. فرد في يأس «يعني مش حتفتح مطاعم؟!»
6
صفحة غير معروفة
كانت الثورة بمثابة الحدث العام الذي يرمز إلى الحدث الخاص؛ على عكس ما تعلمته فيما بعد في النقد الأدبي! فطالما كنا في رشيد نحس كأننا بمعزل عن أحداث مصر، وكنا بالتأكيد بمنجى من الكوارث التي تصيب العاصمة، مثل وباء الكوليرا الذي لم يقرب من البلد (لبعد الشقة!) أو الحركات السياسية، ومصادمات جيش الاحتلال! كان «الكامبو» وهو معسكر الجيش الإنجليزي القديم يواجه حديقة والدي «الأرض» أيام الحرب، ولكن كل من كانوا فيه، حسبما سمعت، قد تأقلموا على الحياة الريفية التي هي أقرب إلى الحياة الصحراوية، رغم أنها «تعريفا» غير بدوية! كان الذي يشرف على «الأرض» شخصا يدعى الحاج غضبان شعير (وغضبان اسم الشهرة، فاسمه الحقيقي محمد)، وكانت كنيته «أبو سميح»، ومن هنا كانت زوجته تسمى «أم سميح» التي أبلغت والدي بنبأ أكل الذئب للبطيخ. وأذكر من أولاده «سميح» (طبعا) الذي كان فارع الطول (194سم؛ وفقا لشهادة التجنيد ) وإسماعيل الذي كان يشرب اللبن من ضرع الجاموسة مباشرة، وسلومة التي كانت تكبرني بعام، وفريحة (الكبرى) ثم «روضة» التي كانت تصغرني بعدة أعوام، ثم حسن، «هرطل»، وهو تحريف «هتلر» الاسم الذي أطلقه عليه جنود «الكامبو» الإنجليز. وكان الجميع يعيشون في «الأرض» ويتقاضون أجرا مقابل الحراسة والعمل الزراعي، إلى جانب مصاريف «الأرض» التي لم تكن حساباتها تتميز دائما بالدقة والأمانة. وبمرور الأيام تزوج الكبار وتركوا الأرض، وأصبحت أم سميح تستغل المساحات فيما بين الأشجار لزراعة الخضر، وتربية الدواجن، ولم يكن والدي راضيا عن ذلك، بل كان من الأسباب التي دفعته إلى بيع «الأرض» في نهاية الأمر.
كان الهدوء الذي يخيم على رشيد ليلا ونهارا، والجو الصافي، بسبب عدم وجود مصانع حديثة أو سيارات تخرج نفايات تلوث الجو، وسقوط الأمطار في الشتاء، وقربها من البحر (بل إن مياه البحر كانت تدخل إلى النيل بعد انحسار الفيضان) كان كل هذا مجتمعا، يساهم في خلق روح سلام واطمئنان يندر أن يعكره شيء. كما أن معرفة الناس بعضهم بعضا كانت بمثابة الآصرة القوية التي يصعب فصمها، فلا مهرب لمذنب، ولا مكان لمن يريد الاختباء! ولم تشهد البلد أي لون من «الصراع الطبقي» الذي امتلأت به أجهزة الإعلام في عهد الثورة؛ فأكبر ملكية للأرض كانت سبعين فدانا، وهي أرض العمدة (غيط العمدة)، وأكبر مصانع هي مصانع الطوب الأحمر (الآجر أو القرميد) على شاطئ النيل في أقصى الشمال التي تملكها أسرة يونس وأسرة منسي. وهي حتى بمقاييس ذلك الوقت متواضعة القيمة. وكانت الحيازة صغيرة قد لا تتجاوز قراريط وقد تصل إلى 15 فدانا، وكان يوجد على بعد عشرة كيلومترات تقريبا غرب رشيد، على طريق الإسكندرية، مكان مخصص للمشاتل واستنبات البذور وإعداد التقاوي، وكان يسمى «البصيلي»، وأعتقد أن الكلمة مشتقة من بصيلة وهي التي تستخدم في إنبات الزهور. ويمتد الطريق بعدها فيما بين بحيرة إدكو والبحر المتوسط حتى المعمورة، مارا بطريق فرعي يوصل إلى «أبو قير»، وعندما تبدأ الحدائق والمزارع الكبيرة في الظهور حتى نصل إلى المنتزه حيث يوجد القصر الملكي.
ولذلك لم يكن أهل رشيد يحسون أن قانون الإصلاح الزراعي الأول الذي صدر بعد أسابيع من قيام الثورة سوف يمسهم من قريب أو بعيد، وكان مشروع تجفيف بحيرة إدكو واستصلاحها الذي بدأته حكومة الوفد يجري تنفيذه، وكان الأهالي يشترون قطعا صغيرة من الأراضي المستصلحة، مما أدى إلى نشوء قرى ودساكر على طول طريق الإسكندرية، أصبحت محطات يقف عندها أوتوبيس رشيد، فبعد كوبري الجدية، يمر «بالبصيلي» ثم «الطرح» ثم «الطلمبات» ثم «إدكو» ثم «المعدية» ثم «المعمورة» «فالمنتزه» - والإسكندرية! وكما توحي أسماء هذه الأماكن، كان معظمها متصلا بعمليات الاستصلاح، والاستزراع، وعند البصيلي يتفرع طريق يؤدي إلى قرية «الحماد» التي دارت عندها موقعة رشيد الشهيرة عام 1807م - التي سنعود إليها.
كانت الثورة إذن مسألة بعيدة عن الحياة اليومية لأهل رشيد. كنا نسمع في الراديو: «ما خلاص اتعدلت، والحالة اتبدلت، ولا حدش عاد، يشكي استبداد، من يوم ما اتعدلت والحالة اتبدلت»، أو «ع الدوار ... بالأخبار قلبك يتهنى، كنا في نار وبقينا في جنة»، ولكنك لا تلمح أثرا لإحساس بالتغيير أو إدراك لمعناه، كأنما كان الأمر يعني بلدا آخر وزمانا آخر! إلا، وهذا هو المهم، في صفوف المدرسة الوحيدة التي أصبحت ثانوية قبل فترة قليلة؛ إذ كان بها من يقرءون ويكتبون، وكان يأتيها المدرسون كل يوم من الإسكندرية في قطار الصباح ثم يعودون آخر اليوم المدرسي.
في أول يوم من أيام الدراسة وقف الناظر للترحيب بالطلبة، وكان ضخما طويلا اسمه أحمد السعيد جاد، وقال لنا إن الألقاب قد ألغيت، وعلينا ألا نقول للمدرس يا بيه، ولكن يا أستاذي أو يا حضرة الأستاذ! وكان يلقي الأمر بأسلوب بث الخوف في النفوس، فكتمنا أنفاسنا ريثما صعدنا إلى غرف الدراسة، وبدأت الهمهمة. كنا الآن في الرابعة، أي في سنة شهادة عامة هي شهادة الثقافة، وامتحاناتها تعقد في الإسكندرية، على عكس امتحانات النقل التي تعقد داخل المدرسة. ولكنها كانت سنة اختبار من نوع آخر؛ إذ كان «زردق» قد زار جميع الطلبة، ولم يعفني أنا أيضا، فاستغل ذلك بعض الطلبة في طرح أسئلة على مدرس اللغة ظاهرها محاولة الاستفادة (شروط الغسل وإزالة الحدث الأكبر)، وباطنها السخرية منه، كما كان لدينا طالب من إدكو اسمه عبد الستار عبد الغفار شرف، يزعم الإحاطة التامة بالأمور التي كانت تهم الجميع في هذه السن، ويتجمع حوله الطلبة بين الدروس وهو يصدر فتاواه وأحكامه.
ثم بدأنا دروس اللغة الإنجليزية، وكان المدرس جمال السنهوري قد تخرج لتوه في كلية الآداب، شابا وسيما زاخرا بالحيوية والنشاط، وبعد أن أخضع الجميع له بنكاته «وقفشاته»، بدأ يحدثنا عما يهمنا جميعا خارج موضوع «زردق» وإن كان يتصل به من قريب، ألا وهو الحب، أو العلاقة بين الرجل والمرأة. كان الغريب أنه يتحدث الإنجليزية المبسطة التي كان معظمنا يفهمها، وهو ما لم نشهده من قبل، بل إنه منع الحديث بالعربية أثناء الحصة تماما، مما كان له تأثير الصدمة على البعض، فإن انتهك أحد تلك القاعدة أحاله إلى الناظر، وما أدراك ما الإحالة إلى الناظر! كانت تعني - دون تحقيق في الأمر أو دفاع - بأن «يعبط» المذنب، أي أن «يعبطه» (بمعنى يحتضنه) أحد الفراشين، ثم يضربه الناظر بالخرزانة على «ذنبه» (أي على مؤخرته)! أما الفارق الوحيد بين العقوبة المغلظة والعقوبة المخففة فلم يكن عدد الضربات، بل مكان توقيع العقوبة، فالمغلظة تجري علنا أمام الطلبة، وفي ذلك ما فيه من إهانة. والغريب أيضا ألا ينتهك أحد ذلك القانون الذي وضعه السنهوري، فكان من لا يستطيع أو قل من لا تواتيه الجرأة على النطق بالإنجليزية يخلد إلى الصمت.
وحدثنا السنهوري عن عقدة أوديب، وعن فرويد، وعن داروين، وأسهب وأفاض فيما لم يخطر لنا على بال. ولم تمض شهور حتى أصبحنا نتحدث عن تحرير المرأة؛ أولا بتمكينها من التعليم، ومن العمل جنبا إلى جنب مع الرجل، وأذكر أنه عندما ذكر ذلك التعبير بالإنجليزية قلت له أسأله: تعني أن تعمل المرأة قريبا من الرجل؟ فقال
not too close ، وضحك، ولم نفهم النكتة، ولكنني ضحكت مجاراة له فظنني الطلبة قد فهمت وأقبلوا علي يسألونني بعد الدرس. وتمنعت عن الإجابة ، فالصمت منجاة في حالة الجهل.
وقرر جمال السنهوري إنشاء جمعية للتمثيل بالعربية وبالإنجليزية! كان هو رمز الثورة التي اجتاحت المدرسة، وعلى الفور بدأنا العمل، وبرز في التدريبات المسرحية مهرج بالفطرة اسمه فؤاد خضر، كان أبوه شيخا للبلد، وكان «مرحا» بالمعنى الحديث، وشخص آخر يسمى «بشخر» (واسمه الأصلي محمد جلال)، وسرعان ما قدمنا حفلا متواضعا في نصف العام يتضمن مسرحية أعدها بنفسه عن قصة قرأها في إحدى الصحف، بالتعاون مع مدرس لغة إنجليزية آخر هو عصمت والي (الدكتور حاليا)، وتولى إخراجها بنفسه. ومن الطبيعي أن تلاقي «إسلام عمر» (وهذا هو اسم المسرحية) ترحيبا شديدا من الجميع، خصوصا من أهالي البلد الذين كانوا يشاهدون المسرح لأول مرة في حياتهم، وكنت أقوم فيها بدور «أبي جهل»، ولم يكن مسموحا بتمثيل الخلفاء على المسرح، فكان السنهوري نفسه يقوم بدور الراوي الذي يملأ الفراغات (بمعنى الثغرات) في الأحداث، ويروي كلام عمر بن الخطاب بلهجة إذاعية جذابة.
وفي بداية الفصل الدراسي الثاني سمعنا أن رجال الثورة مهتمون بموقعة رشيد، التي انتصر فيها أهل البلد على حملة فريزر، وأنهم قرروا زيارة رشيد لحضور الاحتفال الذي يقام يوم 31 مارس 1953م بهذه المناسبة. ومن ثم جمعنا الأستاذ عبد المقصود الطيباني مدرس التاريخ، وهو من أبناء رشيد، من أسرة تعمل بتجارة الحبوب؛ ليقص علينا قصة هذا الانتصار كما وردت في الجبرتي وعبد الرحمن الرافعي (باختصار) وليلهب مشاعرنا التي كانت قد بدأت تستجيب للروح الوطنية التي كانت تسود الجميع.
صفحة غير معروفة