كان صديقي الحميم أحمد السودة قد عين وكيلا للنيابة الإدارية، وهي الهيئة التي كانت قد أنشئت من فترة قصيرة، ولكنه كان يتردد - ريثما يتم تعيينه - على مكتب أحد المحامين الأذكياء واسمه محمد عبد المطلب، وكان مكتبه يقع في عمارة أنور وجدي بباب اللوق، وكنت أتردد مع صديقي على هذا المحامي، وهناك تعرفت على بعض المحامين كان أهمهم كمال خالد الذي قدر له أن يشتهر فيما بعد بالدفاع عن القضايا السياسية. وفي عام 1962م ترك محمد عبد المطلب المكتب، وترك لي مفتاحه حتى أستخدمه في الكتابة حينما أريد، ومن ثم نقلت إليه بعض الأدوات المكتبية والأشياء التي تلزمني ومن بينها العود القديم الذي كنت اشتريته من محمود علي.
وفي الوقت نفسه شاركت أحد الأصدقاء في استئجار شقة في شارع الإخشيد بالروضة، وكنت أختبئ فيها عن الدنيا والناس حين أريد التركيز في عمل أدبي أو في ترجمة شيء ما، وكان إيجار الشقة ثمانية جنيهات في الشهر، أدفع منها أربعة، وأتولى الإنفاق على كل مستلزماتها أثناء سفره؛ إذ كان يعمل في الخارج ولا يعود إلا في الصيف. وفي خريف عام 1963م كان شغلي الشاغل هو أن ترى «البر الغربي» النور، فكنت أقضي ساعات طويلة في تنقيحها أو في ترجمة مسرحية شكسبير «حلم ليلة صيف» دون أن أحلم بنشرها، فمن أكون إلى جانب أساطين الترجمة الأدبية في بلادنا؟ ولكنني كنت أكتب الشعر الذي أحتفظ به لنفسي بعد أن قررت هجرة هذا الفن «على المستوى العام»!
كانت مزية شقة الروضة هي أنها تطل عبر النيل على كازينور! فكنت أعبر كوبري عباس للانتقال من المقهى إلى الشقة أو العكس، وقد أبقيت هذه الشقة سرا كاملا حتى لا يعرفها الأصدقاء فتراودهم نفوسهم باستغلالها لأغراض لا أرضاها، وكثيرا ما كنت أقضي الليل كله جالسا إلى المنضدة التي اتخذتها مكتبا حتى يبزغ الفجر، ثم أسير مع النسمات الأولى للصباح حتى ميدان الجيزة ثم أستقل الأتوبيس إلى منزلنا فأنام حتى الظهيرة!
وفي خريف عام 1963م بدا لنا جميعا أن أحلام السفر قد تحطمت على صخرة علي صبري، وأن المستقبل الأكاديمي كئيب مظلم، وكان أصدقاؤنا يشفقون علينا من المأزق الذي نعيش فيه، فلا نحن انتهينا من رسائل الماجستير، ولا نحن سافرنا، ولا نحن حققنا أمجادا أدبية مما كنا نطمح فيه. وناقشت الأمر ذات يوم مع الدكتور مجدي وهبة فقال لي: عليك بالصبر؛ فأنت ما زلت صغيرا، والحياة الجامعية «حبالها طويلة»، ودعاني إلى فنجان قهوة في المساء في «لاباس» (بشارع قصر النيل) مع بعض الأصدقاء، ودهشت عندما ذهبت؛ لأن هؤلاء الأصدقاء كانوا يعرفونني جيدا، وبعد محاورات قال أحدهم: لقد كلمت لطفي الخولي في الموضوع، وهو على استعداد لمساعدتك في موضوع السفر وموضوع المسرحية! وفعلا عندما قابلت لطفي الخولي قال لي: «المسرحية حلوة وجريئة وضد الدكتاتورية .. وإحنا بلد ضد الدكتاتورية .. ولازم ألاقي لك مخرج تقدمي يعملها!» أما البعثة فقال إنه يعرف وزيرا مفوضا اسمه سميح أنور يستطيع مخاطبة علي صبري في الموضوع.
وكان المخرج التقدمي هو عبد القادر التلمساني الذي قرأ النص في ديسمبر، ولم يتمسك بأي ممثلين من النجوم، ولكنه اقترح بعض التعديلات؛ من بينها حذف مشهد الأراجوز الأخير، وهو فعلا أسوأ مشهد في المسرحية. الغريب أن كل مخرج كان يقول لي ما قاله رشاد رشدي من ضرورة حذف المشهد الثاني من الفصل الثاني! وقد حذفه المخرج هذه المرة دون استشارتي!
وفي ديسمبر كان هناك حدثان مهمان يلوحان في الأفق؛ أولهما اقتراب موعد غناء أم كلثوم من تلحين عبد الوهاب، والثاني صدور مجلة المسرح التي يرأسها رشاد رشدي ويعمل في سكرتارية تحريرها سمير سرحان وأنا. وفي مستهل عام 1964م افتتح مسرح الحكيم بمسرحية «بيجماليون» - وكان البطل هو حسين الشربيني، والبطلة بثينة حسن (التي كانت آنذاك زوجة للممثل حسن مصطفى). وكان العرض محزنا كئيبا؛ فالأبطال يتكلمون العربية الفصحى، ويحاولون إقناعنا أنهم يعيشون في بلاد اليونان القديمة، وراقصات الباليه يفتقرن إلى الحد الأدنى من اللياقة البدنية، ويتحركن بصعوبة شديدة على المسرح، وكانت الأضواء خافتة على المسرح توحي بالانقباض والهم المقيم، وكان من الطبيعي أن تفشل المسرحية جماهيريا فكان الإيراد اليومي يتراوح بين جنيه واحد وجنيهين.
ورغم التهليل الإعلامي لتوفيق الحكيم، أغلق العرض المسرحي بسرعة، وأثناء العرض الكئيب كنا نعمل بجد ونشاط في إخراج مجلة المسرح، فكلفني رشاد رشدي بكتابة مقال عن مسرحية آرثر ميلر وعنوانها «مشهد من الجسر» التي كانت تعرض في القومي، وجمعت المقالات وتمت في وقت قياسي طباعة ألفي نسخة، ثمن النسخة خمسة قروش، وكان تاريخ الصدور العاشر من كل شهر، وكان تاريخ صدور العدد الأول هو 10 فبراير 1964م (وكان يوم جمعة). وقابلت ماهر البطوطي في صباح ذلك اليوم وذهبنا إلى ميدان الجيزة لشراء عدة نسخ من المجلة، فلم نجد سوى نسخة واحدة، كانت الأخيرة؛ إذ نفدت الأعداد عن آخرها!
كان الناس يتحدثون أيضا عن «إنت عمري» أغنية أم كلثوم التي لحنها عبد الوهاب، وكان الجو قد سرت فيه الحياة والحيوية فجأة رغم برد الشتاء! واجتمعنا في إدارة المجلة في اليوم التالي، حيث اقترحت على رشاد رشدي ضم فاروق عبد الوهاب إلى سكرتارية التحرير فوافق، واقترح أحد الحاضرين مضاعفة عدد النسخ المطبوعة، فقال رشاد رشدي: في الشهر القادم نطبع ستة آلاف! والواقع أن الستة آلاف بيعت في نفس اليوم، وزاد العدد في الشهر التالي إلى ثمانية فنفدت النسخ، ولكن عندما طبعنا عشرة آلاف، كان هناك «مرتجع» فعلمنا أن حجم السوق لا يزيد عن عشرة آلاف! وفي فبراير أيضا سافر عبد العزيز حمودة إلى أمريكا، ويبدو أنه كان قد حصل على منحة ساعدته في التغلب على قيود علي صبري، ولكننا لم نحزن لعدم السفر، فكان في المجلة ما يشغلنا أنا وسمير!
7
في مارس 1964م عكفت على الانتهاء من ترجمة «حلم ليلة صيف»، تحفة شيكسبير الشعرية، دون أن أستطيع مجاراته نظما! ولكنني عندما وصلت إلى المشهد الأخير تمكنت من إخراج بعض ما فيه نظما، وكانت فرحتي به تعادل فرحة من كتب شعرا أصيلا غير مترجم! وكان مقر المجلة في الطابق الأول بمسرح محمد فريد خلية نشاط، يلتقي به جميع المهتمين بالمسرح من كتاب ونقاد وفنانين في شتى التخصصات، وكان رشاد رشدي أستاذا في فن العلاقات العامة، مثلما كان أستاذا في الأدب الإنجليزي وفي الكتابة المسرحية. فكان قادرا على «تطويع» أي موقف واستغلاله لصالحه، خصوصا من خلال ما كان سمير سرحان يسميه «الاستثمار البشري» أي اعتبار المعارف والأصدقاء رأس مال لا بد من استثماره بالصورة الصحيحة، وكان قد تمكن من عقد صداقة مع الوزير عبد القادر حاتم، فكان يخرج علينا بين الفينة والفينة بقرار وزاري جديد يدعم النشاط الثقافي ويشيع الأمل في أوساط الشباب؛ إذ تلا إصدار مجلة المسرح إصدار عدد من المجلات الثقافية، مثل مجلة «القصة» التي كان محمود تيمور يرأس تحريرها، ومجلة «الفكر المعاصر» التي تولاها زكي نجيب محمود، ومجلة «الشعر» التي كان يرأس تحريرها د. عبد القادر القط، ومع أن هذه المجلات لم تكن تتمتع بشعبية «المسرح» فقد التف حولها الكثيرون، ولكن وجود المسرح جعل الكثيرين يتجهون للكتابة إليه، حتى من بين من لم يحاولوا ذلك من قبل، مثل أنيس منصور (الذي كتب مسرحية فكاهية اسمها «حلمك يا شيخ علام» وترجم بعض المسرحيات العالمية) ويوسف إدريس، الذي كان معروفا بانحيازه للقصة القصيرة، وكان مسرح التلفزيون (أي فرق المسرح الخمسة التي تقدم المسرحيات بغرض تصويرها تلفزيونيا) نشاطا دائبا لا يتوقف، وازدهر معهد التمثيل لأن الخريجين أصبحوا يعملون بسهولة، بل ويستطيعون أن يحلموا بالمجد والثراء من المسرح الجاد. كانت الفرق هي: مسرح الحكيم، والمسرح الحديث، والمسرح العالمي، والمسرح الكوميدي - ومسرح الطليعة الذي كان ما يزال يسمى مسرح الجيب. أما المسرح القومي فكان المسرح العتيد الذي يضم أعظم الفنانين وأرسخهم قدما، وكان رشاد رشدي قد قدم إليه مسرحية «رحلة خارج السور» ليعرضها في إبريل من إخراج سعد أردش.
صفحة غير معروفة