كان منظر النيل في الفيضان أو بعده ساحرا، وكان هو الرابطة التي تشدني دائما إلى بلدي، وإذا كان الناس قد اختلفوا واختلفت أنماط الحياة في القاهرة عنها في رشيد، فالماء ما يزال يتدفق، وكنت أراه منطلقا نحو البحر فأعجب له وأكاد أسأله كيف يحملني معه! وسرعان ما أصبح كازينور مكاني الذي أعمل فيه قارئا ومترجما، ومن ثم أصبحت حقيبتي الجلدية الصغيرة لا تفارقني في حلي وترحالي، واكتشف بعض الأصدقاء ذلك المكان فغدوا يزورونني فيه دون أن يقاطعوني في القراءة أو الترجمة، وأذكر ليلة من ليالي الصيف، كنت عرضت فيها بعض أشعاري على ماهر البطوطي، وجلسنا نناقشها حين دخل علينا سمير سرحان ووحيد النقاش! واستمع الجميع إلى الشعر، ثم ذكر وحيد شاعرين جديدين يفعلان ما أفعل؛ هما صلاح عبد الصبور وحجازي! وقلت له إنني أعرف الأخير، فأضاف إن الأول أعظم وأعمق، وأسمعنا بعضا من شعره فقلت في نفسي: هذا والله هو الشعر، وذلك هو الذي يبرر الخروج عن الشعر العمودي! كان شعر صلاح يقول لي: ما أصغر حظك من الموهبة! أنت صغير وأنا كبير! وقلت لسمير سرحان إنني أحس أنني صغير! فقال وحيد: وهما كانا صغارا! فقلت: لا .. الشاعر يولد كبيرا! وقررت أن أبقى على ما أكتبه، فلا أمزقه، ولا أنشره، ولا أعلنه!
وفي طريق العودة، قال لي سمير سرحان: اسمع! أنا عايز أجيب جيد جدا .. إيه رأيك؟ ورحبت طبعا بهذه الروح وكنت أظنه غير آبه بالحياة الجامعية بسبب انشغاله بالنشاط الأدبي؛ إذ كان قد أصدر كتابا مترجما، وبدأ يمارس الكتابة الصحفية وكتابة المسرح، من خلال الإذاعة. وتناقشنا في وسائل تحقيق هذا الحلم، خصوصا إزاء ضرورة التسلح بالمادة العلمية المستقاة من المراجع، وظللنا نتهادى في سيرنا حتى وصلنا إلى كوبري الجلاء، فافترقنا؛ أنا وماهر إلى العجوزة، ووحيد إلى الدقي، وسمير إلى الجيزة.
وتركت ماهر أمام منزله وواصلت المسير في شارع المراغي، ثم في شارع نوال حتى شارع النيل، ثم سرت في الضوء الخافت تحت أشجار الكافور الباسقة على شاطئ النيل حتى وصلت إلى كوبري الزمالك الصغير، فتجاوزته، وواصلت المسير شمالا إلى إمبابة، ولا بد أن الساعة كانت تقترب من الثالثة صباحا؛ فالبدر قد مال إلى الغروب على يساري فوق حدائق ما كان يسمى بأرض الترسانة المقابلة لنادي الزمالك، ونسائم السحر الباردة تهب على وجهي من الأمام، وأنا أسير بنشاط لا أدري له دافعا، وأحسست أنني أنهب الأرض نهبا، غير عابئ بالسيارات التي كانت تبطئ من سرعتها عندما تصل إلى حيث أسير؛ كأنما ليتحقق راكبوها من شخصية السائر، وتخطيت منطقة «الكيت كات» وتوغلت في إمبابة، وكانت آنذاك حدائق على النيل وعوامات راسية فيه (تسمى ذهبيات)، وتقيم فيها بعض الأسرات، وكلها ساكنة ساكتة، حتى وصلت إلى كوبري إمبابة ثم استدرت راجعا بنفس النشاط وعند كوبري الزمالك سمعت أول أغنية لطيور الصباح، وكان صوت الكروان الذي أعرفه جيدا في رشيد، فأدركت أن الفجر وشيك، وسرعان ما ترددت شقشقة العصافير، ونداءات أبو قردان، وصوت غريب عرفت فيما بعد أنه صوت مالك الحزين، وكان قد بنى عشا على شجرة ضخمة من الصفصاف تتدلى غصونها في النيل، فوقفت أستمع إليه، فصمت فعاودت المسير، وأمام مستشفى العجوزة لمحت تباشير الصباح في الأفق الشرقي - فوق الزمالك.
وتذكرت أنشودة كنت كتبتها في العام السابق صبيحة العيد الصغير، عيد الفطر، حين انتهيت من الصلاة وسرت في حي الحسين أرقب يقظة القاهرة، وكان مطلعها يقول:
يا خد الشمس يقبله الفجر المقرور،
ونسيم الصبح يعانقه الطير المبهور،
وسحابة نور تحتضن الأفق المسحور،
وجفوني بسمت للنور تحس الدفء المخمور!
فإذا بي أعيد صياغتها لتصبح:
يا خد الشمس تقبله خيبة آمال،
صفحة غير معروفة