وبدت لعيني الطيوف!
لكنني حتما سأرجع،
إن كان فنان إلى الجنات في يوم سيرجع!
ولم أكن أعرف كيف أضع لها عنوانا. هل أسميها «عبثا تسائلني منى ماذا أنا؟» ولكنني أدركت أن ذكر الاسم سوف يتسبب في المزيد من المشاكل فكتبتها في دفتر خاص، وألقيت بها في الدرج، وقررت ألا أطلع عليها إلا أقرب الأصدقاء، وكان أخشى ما أخشاه أن يصدق ما حذرني منه الدكتور شكري عياد وهو الصراع بين النقد وبين الإبداع، وكان دائما يقول لي: «انظر كيف يضيع يوسف الشاروني موهبته في كتابة النقد! حذار من التردد بين هذا وذاك! انته أولا من الدراسة ثم اكتب الشعر!» ولكنني كنت أدرس الشعر! وكلما تعمقت في التحليل النصي ازداد إيماني بضرورة الاستزادة من القراءة؛ تحقيقا للهدف الأسمى، وهو الإبداع! وكنت أذكر حوارا دار بيني وبين الدكتور عبد الرءوف مخلوف قبل عدة أعوام عندما قلت له: لماذا يضيع الأستاذ جرجس الرشيدي وقته في دراسة برنارد شو للدكتوراه؟ لماذا لا يصبح هو برنارد شو؟ وكان رده هو: هذا طريق وذاك طريق آخر! وإن كانا يسيران متوازيين، وربما جنح السائر في أحدهما إلى أن يسلك الآخر - فاسلك ما شئت وانظر أنى يمضي بك!
كنا نقف ذلك اليوم في شارع نوال، الذي جرت العادة على نطقه دون شدة على الواو، وكان ذلك الحديث قد مضى عليه ما يزيد على خمسة أعوام، ولكنه كان لا ينسى! وتطورت المذاهب النقدية في السبعينيات في أوروبا وأمريكا، وكان من أهم ما انتهت إليه إزالة الحاجز بين النقد والإبداع، فالإبداع جهد نفسي وذهني معا، بغض النظر عن مجاله؛ أي إنه ليس مقصورا على اللغة والأدب، فالمخترع مبدع، والمفكر مبدع، وقد تجد مبدعين في كل لون من ألوان النشاط الإنساني؛ ولذلك فالناقد العظيم مبدع ولا شك، وإن كان لا يكتب أي صورة من صور «الأدب الخيالي» (أي أي نوع أدبي مثل الشعر أو القصة أو المسرح)، ويتجلى إبداعه في التجاوب الصادق مع النص، وفهمه الخاص له وتفسيره وتحليله إياه، ويكفي أن تقرأ شرح ديوان المتنبي لأبي العلاء المعري؛ لتعرف كيف يكون الناقد مبدعا، أو أي كتاب «تحليلي» كتبه دافيد ديتشيز للرواية الإنجليزية حتى تقنع بصدق هذه المقولة! وإذا كنا نميل، ابتغاء التبسيط، إلى وصف «الإبداع» بالابتكار التشكيلي والتركيبي، ووصف «النقد» بالابتكار التحليلي، فما ذلك إلا تيسيرا على الطالب ومعاونة له في فهم الفرق بين هذين اللونين من ألوان النشاط الإنساني، ولكن كلا منهما إبداع لا شك فيه!
لم أكن حينذاك أعرف تلك الخبايا، بل ولم تتضح صورتها إلا بعد أكثر من ربع قرن عندما شاركت في مؤتمر كيمبريدج للأدب الحديث، وطرحت القضية وأثارت من الأفكار ما أثارت (عام 1987م)، أما في عام 1960م فكان كل همي هو أن أفر من الشعر فرارا؛ إبقاء على جهدي في الدرس والاطلاع. وذات يوم ذكرت المشكلة للدكتور مجدي وهبة فضحك وقال: «لا تقاوم الشعر حين يأتي! ومن يدري فربما استطعت الجمع بين الشعر والنقد، فأفضل الشعراء هم أفضل النقاد!» وعندما أبديت دهشتي قال لي: «بالمناسبة .. لدي مشروع لترجمة أهم نصوص النقد الإنجليزي .. هل تود المشاركة فيه؟» ورحبت طبعا بالفرصة السانحة وقلت له: أي نص تريد أن نبدأ به؟ فقال: «درايدن!» (مقال في الشعر المسرحي!) ثم أردف على الفور قائلا: «وسوف أدفع لك السعر الرسمي للترجمة .. احسب الأجر وقل لي!» وأحصيت الكلمات بالتقريب، وحسبت التكلفة على أساس مليمين للكلمة (السعر في الدولة حاليا ستة مليمات بناء على القرار الجمهوري عام 1978م، وستة قروش في المجلس الأعلى للثقافة، و38 قرشا بالأمم المتحدة!) وكان الأجر الكلي 42 جنيها، دفع لي الدكتور مجدي عشرة جنيها منها بصفة مقدم، على أن أبدأ الترجمة على الفور.
11
كان ربيع عام 1960م ربيعا فذا؛ فلأول مرة كنت ممتحنا وممتحنا معا، وكانت أبحاثي قد اكتملت وسمعت ما اطمأن قلبي له من الدكتور روفائيل والدكتور رشدي - ومجدي، بطبيعة الحال. وقررت البقاء في القاهرة ذلك الصيف وعدم الذهاب إلى رشيد؛ فلدي ما أفعله، فعكفت على الانتهاء من ترجمة «الرجل الأبيض»، وذهبت إلى المراجع الأستاذ عثمان نوية (وتنطق بتشديد الياء - تصغير نواة) في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة، وسلمته المخطوط، وخرجت سعيدا على وعد بلقاء آخر، وفي يونيو - أثناء امتحانات الفصل الدراسي الثاني - اكتشفت مقهى جميلا على شاطئ النيل اسمه كازينور (أي كازينو نور، زال من الوجود الآن) بجوار كازينو الحمام، ولم يكن يغالي في الأسعار؛ فالشاي بقرش صاغ واحد، والقهوة بقرش ونصف، ولا يطالب الرواد بأكثر من طلب واحد! كان يطل على النيل مباشرة، وعندما يأتي موسم الفيضان تأتي المياه الحمراء وتعلو حتى تصل إلى مسافة قريبة من الجالسين، ويبدو النيل منبسطا شاسعا، وعلى الضفة الأخرى مباني وأشجار حي الروضة، وعلى صفحة الماء تنساب السفن المتجهة شمالا لتمر تحت كوبري عباس، بينما تحلق الطيور التي تنقض كالسهم المارق لتلتقط الأسماك، فكان المشهد يذكرني برشيد وموسم صيد السردين في سبتمبر وأكتوبر من كل عام.
كانت العادة أيام الخريف في رشيد أن تخرج سفن الصيد مبحرة مع التيار إلى مصب النيل حيث تتجمع ملايين أسماك السردين بنوعيها - المفطرة والمبرومة - أما الأولى فهي في الحقيقة صغار سمك الماكريل والبيلشارد، وأما الثانية فهي السردين الحقيقي الذي وصل إلى النضج، وأصبح لحمه سمينا بل وتمتلئ بطنه بالدهن الذي عرفت فيما بعد أنه مضاد للكولسترول. وكانت السفن (التي تسمى بلنصات - جمع بالانص) تعود في المساء إلى شاطئ رشيد لتفرغ حمولتها في بتيات (جمع بتية - وهي كلمة فصحى، صحتها بتية بفتح الباء وكسر التاء وتشديد الياء، وتعني البرميل الضخم من الخشب، ويقول السيد آدي شير في «الألفاظ الفارسية المعربة» إنها تعريب كلمة «بتو» الفارسية بمعنى القربة والقمع)؛ ومن ثم يوضع بعضه في ثلاجات ويرسل إلى الإسكندرية والقاهرة فورا، والبعض الآخر يوضع عليه الملح ويحفظ للأكل فيما بعد. ولكن مقدارا كبيرا من المصيد كان يستهلك محليا، فيشوى ويأكله الناس مع الأرز أو مع الخبز، وكان سعر الطورة (أي الأربعة، وهي وحدة القياس التجاري) يتراوح بين قرش صاغ وقرشين؛ تبعا للنوع.
أما سر صيده في ذلك الموسم بالذات فهو أن مياه الفيضان تأتي معها بملايين الكائنات الحية الدقيقة (البلانكتونات) التي يتغذى عليها السردين، فيتجمع من أنحاء البحر المتوسط للتغذي عليها، فيفيض النيل العظيم ويفيض البحر بالخير على أهل البلد. وكان من الطبيعي أن تزدهر صناعة بناء السفن بأنواعها على طول شاطئ رشيد، وما تتطلبه من حرف مساعدة مثل صناعة الحبال، والشباك، والنسيج (للقلوع) والبكرات الخشبية، والبراميل، والثلج، والملح، وما يتطلبه ذلك كله من آلات حديدية وخشبية، فكان يوجد في حي «قبلي» سوق النجارين وسوق الحدادين وسوق النحاسين والألفطية (الألفاط أو القلفاط هو الذي يسد الشقوق الخشبية في السفن بالليف المستخرج من النخيل) وحرف الدهانين والنقاشين وما إلى ذلك. وكان يمتد على الشاطئ نفسه صف طويل من محلات الوزانين والكيالين، وكان الوزان يسمى القباني لأنه يستخدم الميزان الذي يحمل ذلك الاسم، والكيال يسمى الكيلاني، وكان من مهامهم وزن ما تأتي به الفلاحات عبر النيل من السمن واللبن والجبن بأنواعها؛ بغية تحديد أسعاره. وكانت القوارب تنقلهن من «البر الثاني» وهو الجزيرة الخضراء، أو من الشط البعيد الذي كان يتبع محافظة الغربية (كفر الشيخ الآن). وكان أهل الجزيرة الخضراء يعرفون بأنهم ينطقون القاف قافا لا همزة، ومن ثم يسخر منهم أهل رشيد بتكوين جمل تتضمن قافات متعددة (عبد القوي وقع في القنا قام قرموط قلع عينه!) وكانت الفلاحات يتحدثن لغة جميلة تذكرك بلغة «العرب»، والمقصود بهم بعض القبائل البدوية التي تسكن الصحراء جنوب رشيد، وتعيش حياة بدوية خالصة، تعتمد على الرعي ومنتجات النخيل، وكانوا أحيانا يسمون «الغجر»، وإن كان المشهور عنهم هو الترحال والتنقل وعدم الثبات في مخيم واحد.
صفحة غير معروفة