وأما النقد فكان علينا أن ندرس «النقد الجديد» والنقاد «الجدد» في أمريكا وبريطانيا، ثم نكتب بحثا مطولا عن منهج أحدهم. ولما كنت بطبعي لا أحب التعميم والتجريد، فقد اخترت ناقدا يطبق هذه النظريات «الجديدة» (وما هي بجديدة في الواقع) على الشعر والدراما والرواية، وهو «كلينث بروكس»، في خمسة كتب، هي: «الإناء المحكم الصنع» و«الشعر الحديث والتقاليد»، و«تفهم الشعر» (الطبعة الثالثة)، و«تفهم الدراما»، و«تفهم الرواية». وكان أهم ما أتى به «بروكس» مما يمكن أن يعتبر جديدا هو أن لغة الشعر تعتمد على «المفارقة»، وتتوسل «بالتورية الساخرة» (وهي ما ترجمها بعضهم بالسخرية)، وأن ذلك عام وشائع في شتى المذاهب الأدبية، وإن كانت صورته في الشعر الرومانسي تختلف عن صوره في الشعر الكلاسيكي؛ لأن الإحساس ب «الدهشة» الشعرية هو أساس مفارقات الشعور في الأول، والإحساس ب «المفارقة الذهنية» هو أساس توريات السخرية في الثاني. وكان «بروكس» يعمد في تطبيقاته النقدية إلى إعلاء قيمة ظلال المعاني في إيجاد أو توليد هذه المفارقات، مستندا إلى ما ذكره «وليم إمبسون» عن «الغموض» الذي يعتبر سمة مميزة للغة الشعر عن لغة النثر، وإلى ممارسات الفرنسيين في إطار منهج «شرح النصوص».
وعندما طلبت أحد كتب «بروكس» من المكتبة، قيل لي إن معيدة اسمها «نلي عزيز» قد استعارته، فذهبت إليها فوعدتني خيرا وعرضت علي أن أقرأ البحث الذي كتبته هي في الموضوع نفسه. كانت نلي فتاة رائعة الجمال، فارعة الطول، يتدلى شعرها الأصفر حتى وسطها تقريبا، خضراء العينين، وذات أنف روماني رأيت فيه مخايل السلطة القاهرة! وكانت خفيضة الصوت، مهذبة القول، فقرأت البحث على عجل واختلقت بعض نقاط الخلاف حتى أسألها فيها، وأطيل المكوث معها، أنظرها وأستمع إليها (كم جئت ليلى بأسباب ملفقة). وكانت أختها «فيوليت» تعمل أمينة للمكتبة الخاصة بقسم اللغة الإنجليزية، وكان الدكتور مجدي وهبة هو الذي أنشأ تلك المكتبة على حسابه الخاص، وكان هو الذي يدفع مرتب أمينة المكتبة. وقد وقعت مأساة أتصور أن أقصها هنا بإيجاز، استباقا لموقعها الزمني؛ إذ حدث في عام 1961م أن أعلنت نتيجة البعثات الدراسية، وكان من نصيب نلي بعثة منها، ويبدو أن الخلاف قد دب بينها وبين ضابط يدعى «عادل» كان متيما بحبها ويريد الاقتران بها قبل رحيلها فرفضت، وعندما احتد الخلاف في منزلها، استل مسدسه «الميري» مهددا إياها به، ولكنها سخرت منه فاشتدت ثورته، وازدادت سخريتها، ففقد التحكم في أعصابه وأعد السلاح للإطلاق فذعرت فيوليت وتدخلت بينهما فأصابتها رصاصة أودت بحياتها، ثم أطلق عادل طلقة أخرى أصابت نلي فوقعت، ورأى عادل المشهد فأطلق الرصاص على نفسه فمات في الحال. ومن ثم نقلت نلي إلى المستشفى حيث عولجت وبرئت من إصابتها، وسافرت إلى إنجلترا لاستكمال دراستها، حيث كانت تنتابها نوبات اكتئاب دفعتها إلى محاولة الانتحار عدة مرات، كان آخرها عام 1975م حيث ألقت بنفسها من سلم المستشفى، فقضت نحبها، رحم الله نلي.
وكان الدكتور مجدي يركز في دروس مناهج البحث على أصول البحث وطرق العثور على المراجع، وكان يساعدنا بكل ما أوتي من صبر وحكمة، لا يضيق صدره بسؤال، ويبدو دائما على استعداد للتعلم، وهو أعلم العالمين، فكان الجميع يحبه ويقدره ويسعى للاستماع إليه، وأذكر أنني عرضت عليه الصورة الأولى من بحث الشعر فقضى من وقته الثمين شطرا في التوجيه والإرشاد، حتى أصبحت لا أتصور حياة الجامعة دون وجود أستاذ من هذا اللون، وكنت في أعماقي أجعله مثلا أعلى يحتذى في كل شيء، وما زال (رحمه الله) حيا في قلبي وعقلي، أتوجه بالخطاب إليه، وأسعى للظفر برضائه.
كانت الإذاعة لا تشغل أي جانب من تفكيري، فكنت أترجم ما يطلب مني بصورة آلية، وأقضي باقي «الوردية» في القراءة حين أنتهي من الترجمة، حتى رأيت إعلانا عن تعيين مدرسي لغة إنجليزية بالقسم، في صحف يوم 31 ديسمبر 1959م فقدمت استقالتي إلى مدير الإذاعة رغم احتجاجات إسحاق حنا، وغضب إبراهيم وهبى، وذكرت للأستاذ شفيق رئيس التحرير العربي في قسم الأخبار الأجنبية أنني سوف أرسل له بديلا أفضل مني؛ هو الأستاذ عبد الفتاح العدوي، فاطمأن قلبه.
وعندما تم توقيع الاستقالة أصبحت غير موظف، ولم أقلق على التعيين في الجامعة؛ إذ كنت قد بدأت احتراف الترجمة، ومزاولة عمل آخر أحببته حبا جما وهو كتابة التمثيليات الإذاعية. كنت أسير ساعات طويلة أفكر في «الموقف» ثم أعود إلى المنزل لأكتب النص في ليلة، وأذهب للتسجيل وأتقاضى ثمانية جنيهات كاملة.
10
في بداية عام 1960م كلفني الدكتور عبد الحميد يونس بترجمة فصول من كتاب «رحلة في عالم النور»، وكان قد ترجم الفصول الأولى مترجم اسمه «أحمد خيري» لم يكتب له أن يعيش حتى يستكمل الترجمة، وكنت قد اكتسبت خبرة لا بأس بها من العمل في كتاب «فنون الجنس البشري»؛ فأصبحت قادرا على الترجمة دون أن أكتب؛ أي على «إملاء» النص المترجم على كاتب يكتبه (أي
at sight translation ) فأعارني الدكتور يونس سكرتيره الخاص (أحمد) الذي كان يعمل سائقا أيضا لديه، يقود سيارته «التاونوس»، وكثر ترددي على فيلا الدكتور يونس، فتعرفت على ابنته هالة وابنه أحمد (الدكتور الآن)، وذات يوم لا أستطيع تحديد زمنه، وإن كنت أستطيع استدعاء صورة المشهد كاملة، زاره شخص مكفوف البصر، وشكا إليه عجزه عن اقتناء آلة تسجيل للصوت، وعدم قدرته على استخدام لغة أو نظام كتابة «برايل»، وحيرته في العثور على أسلوب للقراءة والاطلاع، على طموحه وعلو همته، وكنت أجلس في ركن قصي بالغرفة ريثما ينصرف الزائر، وبعد ثوان مرت كأنها دهر طويل قال الدكتور يونس للشاب: انتفع بعيني إنسان لا يعرف كيف ينتفع بهما.
قال ذلك بالحرف الواحد، وشعرت بأن تلك الكلمات قد انطبعت في ذهني إلى الأبد! وعندما أصابني الله بالمرض اللعين عام 1992م وأجريت لي عملية، بل سلسلة من العمليات الجراحية، حرمت فيها الكلام شهرا كاملا، وكنت أتفاهم مع من حولي في المستشفى كتابة (بالفرنسية) ثم عدت إلى الكلام غير الواضح تدريجيا، كنت دائما أردد قول الله تعالى: {
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين }، وأقول في نفسي: حقا لقد جعل الله لي عينين! وإن يكن لساني قد أصابه ما أصابه، وفي هذا بلاء أي بلاء! فما زالت لدي العينان، وما زلت أعرف كيف أنتفع بهما!
صفحة غير معروفة