ولذلك فعندما تجمعت سحب التوتر والحرب في سماء الشرق الأوسط وجد فيها الصحفيون فرصة لتحويل الأنظار عن فيتنام، ووجد فيها رجال الإعلام اليهود بصفة خاصة فرصة لشغل الرأي العام بقضية أخرى أقرب إلى اهتمامات الإنجليز المباشرة، خصوصا لأن الكثيرين من كبار السن في بريطانيا كانوا قد شاركوا في الحروب الاستعمارية القديمة، أو هم يذكرونها بوضوح، وكانت منطقة الشرق الأوسط تمثل للكثيرين «مسارح شباب»؛ فالبعض حارب في الحرب العالمية الأولى، والبعض في الثانية، وكانت العراق وبيداء الشام وفلسطين والصحراء الغربية المصرية مناطق ذات ذكريات حية في نفوسهم، وكنت ما أزال أذكر المستر بيفن وهو شيخ في أرذل العمر، يعيش في منزل ضخم ذي حديقة فسيحة، وكان سامي أبو طالب قد أخذني لزيارته ذات يوم؛ لأنه كان يقيم في المنزل قبل الانتقال إلى فنزبري بارك، وكان أطرف ما حدثني به سامي عنه هو أنه كان يعتمد تماما على عجوز ترافقه ليل نهار حتى تصور سامي أنها زوجته، وعندما ذكر سامي ذلك له هال المستر بيفن ما يسمع، وقال له ما معناه «حاشا لله أن تكون زوجتي. إنها ترعاني فحسب!» وكنت حين زرته مع سامي قد أيقظت حواسي كلها لالتهام ألفاظ ذلك الهرم، وكان يتحدث مثل الشخصيات المسرحية التي يصورها الكتاب (وكان قد ذكرني بشخصية سبونر في مسرحية «العزلة» لهارولد بنز) فهو يتكلم في عبارات متوالية مثل طلقات المدفع ثم يردفها بسؤال إلى سامعه، دون أن يتوقع في الواقع إجابة أو تجاوبا، وانطلق في ذلك اليوم يتحدث عن ذكرياته في العراق إبان الحرب العالمية الأولى، فأسهب وأطال، وعندما أتت المرأة بالشاي ونحن نستمتع بدفء ذلك النهار، لاحظت أن بيفن قد شردت به الذكريات فقالت له مؤنبة: «يكفي ذلك يا كريس! تعلم أن ذلك مضر لك.» ولم أفهم ما تعني إلا بعد أن شرحت لنا العجوز أنه كان ينسى نفسه حين يسترسل في ذكرياته ويتوقف عند حادثة أسره في شمال العراق، ثم يعاني من الكوابيس التي تأتيه ليلا فيصدر أصواتا مزعجة ويوقظها بصراخه وعويله!
تذكرت تلك الحادثة بوضوح، ثم ذكرت أن مشرف النظافة في بيت الطلاب نفسه كان دائما يقول لي إنه حارب في مصر، وكان يستوقفني بعد عودتي أو إذا صادفني واقفا في الردهة ليحدثني عن قناة السويس، وكذلك كان أحد البوابين - وكان فارعا ذهب شعر رأسه ويلبس نظارة طبية سميكة - وكان منظره يوحي بالأستاذية والاحترام، وكان كثيرا ما يسر إلي بأخبار الطلاب، ويهوى الغمز واللمز، ولم أكن في البداية أفهم كلامه، ثم علمت منه فيما بعد أنه كان يعمل في سلاح التموين بالجيش البريطاني في فلسطين، وكان يمارس هواية تقديم الخدمات الغرامية للضباط (ويبدو أنه احترفها فيما بعد) إذ كان يتحدث بخبرة العارف المحيط ببواطن الأمور عن «الفتيات اليهوديات» ومزاياهن. ويبدو أنه كان حزينا عندما اضطر إلى الرحيل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب بين العرب وإسرائيل في عام 1948م، وكنت أشعر من حديثه أنه يندم على تحويل الفندق إلى بيت للطلاب؛ إذ كان يستطيع في الأيام الخوالي أن يواصل هوايته الخبيثة، وكان أسلوبه في الحديث يؤكد إتقانه لهذه الهواية (أو الحرفة) فقد كان يحب الهمس والحديث الملتوي، ولكن دون حركات الأيدي، وكان ذلك هو أهم ما يفرق بينه وبين الطائفة التي ينتمي إليها أمثاله في مصر.
هؤلاء الإنجليز الذين يقرءون الصحف يريدون أخبارا عما يعرفونه، وهذا هو ما انتبه إليه رجال الإعلام فحولوا دفة التركيز من فيتنام إلى الشرق الأوسط، خصوصا وأنهم لم ينسوا هزيمة «إيدن» في عام 1956م، والانتصار المعنوي الكبير الذي حققه العرب على أطراف العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل)، كما استغل الإعلام عداء الحكومة البريطانية لجمال عبد الناصر باعتباره الزعيم الذي ساهم في تقويض الإمبراطورية البريطانية، وكان ما يزال يعمل على مناهضة النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، بل ويحارب ذلك النفوذ عمليا في الجزيرة العربية، فكان اسمه رمزا لما يحب الإنجليز أن يحاربوه، وكان اسمه هو الراية التي يجتمع العرب في ظلها في كل مكان؛ فلقد كان «المعنى» الجديد والهوية الجديدة للكيان العربي، وكنا نرفع الرأس في كل مكان فنحن من بلد ناصر، وكان الكثيرون يحادثوننا بتعاطف المؤمن بالوجود العربي، وبالتاريخ العربي، وكانت أنباء التوتر في الشرق العربي باختصار موضوعا حيا، يضمن لقراء الصحف مادة ساخنة.
وعندما تعالت أصوات بعض العرب تتهم عبد الناصر بأنه سمح لقوات الأمم المتحدة بالمرابطة في خليج العقبة على أرض مصرية، طلب عبد الناصر من أو ثانت (
U Thant ) و
U (أو) تعني السيد فحسب، الأمين العام للأمم المتحدة سحب تلك القوات في 17 مايو، وانصاع «أو ثانت» للطلب، وخرجت الصحف البريطانية يوم 18 مايو 1967م، تحمل أنباء انسحاب القوات الدولية، ونشرت صحيفة الجارديان الصورة صباح ذلك اليوم (وكان يوم خميس) صورة جمال عبد الناصر بطول الصفحة الأولى، ومعها عنوان مثير هو «عبد الناصر بطل العرب دون منازع». وعلى امتداد أسبوعين كاملين سادت أنباء «أزمة الشرق الأوسط» أجهزة الإعلام، وأصبحت الحديث اليومي للعرب في كل مكان، وعندما قابلني «سوخديف» الهندي في الكلية وفتح معي الموضوع قلت له: «لقد حان وقت محاسبة اليهود على ما فعلوه بأبناء فلسطين.» ولم يكن أحد يدري بما يدور في كواليس السياسة الدولية، ولا داعي للإفاضة فيما أفاض فيه المؤرخون، وما كشف عنه محمد حسنين هيكل النقاب؛ فأنا أروي فقط ما حدث لي في الغربة، وكيف عشنا تلك الأيام.
وتحول كل اهتمامي باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي إلى تساؤلات عن مدى الكذب الذي يعمد إليه أصحاب الصحف. إنه كذب من نوع غريب؛ فهو لا يقدم ما هو «غير حقيقي» بل يعمد إلى اختيار عناصر بعينها من الصورة فيلقي الضوء عليها، ويغفل عامدا غيرها من العناصر، وبعض الكتاب قد يكون لهم العذر بسبب الجهل مثلا، وإن كان الجهل عذرا قبيحا، ولكن الغالبية لا يعانون من الجهل بل يعملون لما أصبح يسمى «مصلحة البلد» وهو تعبير خبيث لا يقصد به في الحقيقة إلا المصالح المادية البحتة لفئة من المنتفعين بالنظام؛ فقد تكون تلك المصالح مصالح حزبية محضة ومن ثم فهي مصالح الفئة الحاكمة، وقد تكون مصالح اقتصادية أساسا، ولكنها في النهاية تنسب في لغة السياسة إلى «البلد». لم أكن مهموما بسبب ما تقوله الصحف؛ فأنا واثق من عدالة قضيتنا ومما أعرف أنه يتفق مع المثل العليا للأخلاق حتى في بريطانيا (بل وفي كل مكان)، سواء أكان مردها إلى البيوريتانية أم إلى النزعة التجارية. كنت ما أزال أثق في الإنصاف وفي الحق، وأثق قبل ذلك كله في نقاء نية زعيمنا، والجميع يشاركني في ذلك، ولا أستطيع أن أكتب عما لم أكن أعرفه من ملابسات وأسرار، فأنا في الغربة أسمع ما يقال وأقرأ ما يكتب فحسب، وسموم الدعاية الإنجليزية لا تقلق بالي، بل تدفعني إلى التفكير فحسب.
وعندما تصاعدت الأزمة لجأت إلى أحد زملائنا وهو الدكتور مسعد حجازي الذي عمل بعض الوقت ضابطا وشارك في حرب اليمن، فبث في نفسي قدرا كبيرا من الاطمئنان، ولكنني كنت في حاجة إلى أن أستمع إلى إذاعة القاهرة، فأتى محمد مصطفى رضوان بجهاز الراديو الضخم الذي يملكه إلى غرفتنا وكان قادرا على التقاط بث إذاعة مصر، واستمعنا في يوم الأحد 4 يونيو إلى المؤتمر الصحفي الذي تحدث فيه عبد الناصر، وكان شامخا مهيبا، وجاءت أنباء الصلح مع الملك حسين، واستعداد الدول العربية الأخرى للوقوف إلى جانب مصر إذا نشبت الحرب، فازداد اطمئنان الجميع، وأوينا إلى مخادعنا هانئين.
وفي صباح الإثنين 5 يونيو كنت قد قررت عدم الذهاب إلى الجامعة؛ لأن الملكة الأم كانت ستفتح جناحا جديدا بالكلية، والأفضل في هذه الحالة هو العمل في قاعة الدرس ببيت الطلاب، وبعد فترة لا أدري كم طالت، وكانت عقارب ساعتي تشير إلى التاسعة، جاءني محمد مصطفى رضوان مهتاجا؛ ليقول لي: «هل سمعت الإذاعة؟ لقد بدأت الحرب!» وحملت كتبي في عجلة وأعدتها إلى الرفوف، وجلست في غرفتي معه (وكانت نهاد قد خرجت إلى العمل) أستمع إلى صوت جلال معوض وهو يهدر، ويعلن إسقاط الطائرات الأجنبية، ثم وهو يعلن أن الأردن دخلت الحرب وتقدمت «واحتلت جبل المكبر في القدس.» وقلنا جميعا الله أكبر! وتوافد العرب علينا حتى امتلأت الغرفة، ثم جاءنا من يقول: إن الإذاعة البريطانية تزعم أن الطائرات الإسرائيلية قد دمرت الطائرات المصرية وهي في مرابضها على الأرض! كذب فاضح! وصحنا جميعا هذا ما لا يكون أبدا؛ فلقد فعلها الإنجليز والفرنسيون من قبل، ولكن إسرائيل لا تستطيع أن تفعلها أبدا! وخرجت إلى الطريق فاشتريت صحيفة المساء
The Evening Star
صفحة غير معروفة