واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

محمد عناني ت. 1443 هجري
168

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

تصانيف

سعر الواحد شلنان، فلفهما البائع في أوراق خاصة مثل ورق الصحف (لكن دون حبر الطباعة) وعدنا لتناول الغداء في الغرفة.

وذهبنا يوم السبت إلى السوق الشعبية فاشترينا الفاكهة والخضر وحملناها إلى الغرفة، وعشنا أياما طويلة جميلة على ثمار الصيف الإنجليزي، ورحبت نهاد بمسرات المشي مسافات طويلة في الحديقة المجاورة (الهايد بارك) أو في الشوارع الفسيحة، ونحن نتبادل الأخبار ونخطط للمستقبل، وكنت أحس صادقا أن غربتي قد انتهت، وأن الله قد من علي بحبيبة ورفيقة رائعة هي نهاد، وكان سيرنا معا مضرب الأمثال في بيت الطلاب، وعندما حل الخريف قررنا أن نفكر جديا في مسألة التحاقها بدراسة الماجستير، وكانت المصاريف الدراسية خمسين جنيها في العام، ولكن موعد التقديم كان قد فات، فقررت نهاد أن تلتحق بمعهد لدراسة الآداب واسمه

London Literary Institute

مصاريفه ثلاثة جنيهات في الفصل الدراسي، وأنشأه مجلس حي هولبورن في شارع جانبي هو (

Stukely Street ) بالقرب من مسرح كفنت جاردن، وقريبا من مكان عملي، وهو معهد أهلي لا يمنح شهادات رسمية، ولكنه يمنح الثقافة لمن يطلبها ويتولى التدريس فيه أساتذة جامعيون، ولا يضع أي قيود من أي نوع على التسجيل للدراسة، وعندما ينتهي الطالب (مهما يكن عمره) من دراسة المادة التي يدرسها يمنح شهادة بأنه انتهى من دراستها وتفاصيل تلك الدراسة إذا كان يريد ذلك.

وأنا أذكر الآن تلك الأيام بشوق وحنين، ولربما أضفى خيالي عليها جمالا زاد من جمالها الفعلي؛ فقد كان كل شيء جديدا، وأصبحت رحلة المسرح رحلة ذات مذاق فريد؛ فكثيرا ما كنا نقرأ المسرحية قبل مشاهدتها ثم نناقشها بعد المشاهدة، واكتسبنا في رحلات المسرح عادة الدقة المتناهية في احترام المواعيد، فمن يتأخر عن موعد رفع الستار مهما كانت منزلته، ولو كان ذلك دقائق معدودة، لا يسمح له بالدخول، وما تزال نهاد تستمسك بهذه العادة في مصر رغم ما تعرفه عن عدم احترام المواعيد لدينا، وقاعة المسرح مثل قاعة المعبد مقدسة، لا يأكل فيها أحد ولا يدخن (طبعا) ولا يتكلم، ولا يوجد ما يسمى بالمقاعد الخالية؛ فالمسرح «كامل العدد» دائما، وعند الدخول نشتري البرنامج المطبوع بشلنين، ونرجع إليه في صمت إن توافر الضوء الكافي، وفي الاستراحة يخرج من يريد إما إلى الكافتيريا لشرب المرطبات (الشاي أساسا) أو للتدخين، أو للحديث في صالة الاستقبال الرحيبة.

وازداد الخريف جمالا عندما بدأت الرياح تعصف بالأوراق الذابلة، وكنا قد اعتدنا أن نلتقي أنا ونهاد في فترة الغداء إما لديها في كافتيريا المعهد أو في مطعم من سلسلة مطاعم الليونز

Lyon’s Tea Shops (وأعتقد أنها اختفت الآن) وكان يقدم السلاطة بأربعة شلنات ونصف، وللطاعم أن يختار بنفسه ما يريد من الأطباق، فكان أول «بوفيه مفتوح» أراه في حياتي! لكن ألذ مذاق سأظل أذكره ما عشت هو مذاق ساندويتش الجبن الأبيض بالطماطم الذي أتت لي به نهاد ظهر ذات يوم من أكتوبر، وكان صحوا مشرقا، وكان من نوع الخبز الفينو الطويل، الذي يصفونه في إنجلترا بأنه «خبز فرنسي»؛ إذ أضافت إليه نهاد قطعا من الزيتون الأسود، فكنت أقضمه قضما بشهية لم أعهدها من قبل، ولا أظن أنني سأعرفها ما حييت.

إلى اليمين الأصلع ريمون مكلف ود. سامي أبو طالب أصدقاء العمل في كوينز هاوس.

وسرعان ما تعرفت نهاد على الطلاب العرب من نزلاء بيت الطلاب المذكور، وصرنا نتسامر معهم ومعهن أحيانا في المساء، وفي نوفمبر حلت طالبة سودانية ظريفة اسمها فهيمة، فكانت تحدثنا عن السودان حديثا يختلف عما كنت أسمعه من أصدقائي السودانيين الآخرين؛ مثل بشير إبراهيم بشير (أستاذ التاريخ الآن) وفاروق اليماني (المتخصص في المكتبات) والدكتور حسن شريف (الطبيب النابه) وكنا نستمع إليها في شغف، وذات يوم انضم إلى الحلقة ثلاثة من أبناء المغرب، هم فتحية وابنة أختها غيتة، وكان لغيتة أخ يدعى محمد، وسرعان ما تحولت دفة الحديث إلى الأطعمة الشرقية فذكرت للمغاربة البامية المصرية (

صفحة غير معروفة