moderation
باعتبارهما من سمات «التعقل». وكان الأجنبي الذي يستطيع استيعاب تلك الروح التقليدية يكتسب رضاء المجتمع الإنجليزي، ويفتح الإنجليزي له الأبواب مثلما يفعل الفرنسيون الذين يقبلون من يجيد لغتهم بل يعتبرونه واحدا منهم (
citoyen passé ). ويكفي أن أختم هذه الفقرة بالإشارة إلى إطلاق لفظ «الطبيعة» على من يتجنس بالجنسية الإنجليزية؛ إذ يسمونه
naturalized !
وقد ذكرت في الفصل الأول أن الصفات الخلقية التي ينسبها بعض النقاد إلى تراث النزعة البيوريتانية تعزى في الحقيقة إلى الممارسات التجارية التي لا تنجح إلا بالصدق والأمانة، وقد أضيف هنا أن صفات الوسطية والاعتدال والاتزان (balance)
والإنصاف ربما ترجع أيضا إلى الخبرات التجارية التي اكتسبها الإنجليز على مر القرون؛ فهذه جميعا من صفات التاجر الإنجليزي الناجح، وقل أن تجد بين الإنجليز من يكتب له النجاح إذا لم يتصف (أو لم يحاول الالتزام) بهذه الصفات. أما الاستثناءات فهي نوع من الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها.
وقد اضطررت إلى هذا الاستطراد القصير لأنني أجد فيه تفسيرا لاتجاه العقل الإنجليزي إلى الوضوح في التفكير والتعبير، وتفسيرا لميل الإنجليز إلى الإقلال من الكلمات، واعتبار الاقتصاد في التعبير أسمى الفضائل وأعلى قمم البلاغة؛ فما نظنه من قبيل «البرود» الإنجليزي هو في الحقيقة ضبط للنفس وضبط للسان خشية أن ينحرف أو يشتط، وأحيانا مخافة أن يقول ما يجب كتمانه، أو ما لا يجوز البوح به، فإذا تكلم آخر الأمر وجدت أنه واضح الفكرة والعبارة، لا يخرج عن «المسموح به» اجتماعيا أو يجنح إلى «ما لا يقال» (أي العيب)!
وأنا أذكر ذلك كله أيضا لأنه أوضح لي في سنوات التكوين البعيدة مدى تأثير التراث الإنجليزي في جيل كامل من أساتذتنا، وأنا أعتز بأنني تتلمذت على أيديهم، وإن كانت مبادئ هذا المنهج العلمي الصادق تضرب بجذورها - كما تعلمت في الكبر - في تراثنا العربي، ولكننا ننساها أو نتناساها في هذه الأيام، ونطلق ألفاظا عامة ظالمة على تراثنا كله، بل لا نفرق (أو لا نكاد نفرق) بين عصور ازدهار العلم العربي وعصور التخلف التي اتسمت بالنقل والمحاكاة دون تمحيص. ولكم كانت فرحتي حين اكتشفت أن الشاعر الذي أدرسه (وليم وردزورث) إنجليزي الطابع بالمعنى الذي ذكرته، وإن كنت هنا أستبق الأحداث؛ لأن ذلك لم يحدث إلا في مرحلة الدكتوراه في مطلع السبعينيات، فلأعد الآن إلى ما دعاني لهذه التأملات العابرة - ألا وهو عودة «عبده» من العطلة ومعه كاثلين!
كانت المفاجأة مذهلة؛ كنا في شهر أغسطس 1966م، وكان صيفا حارا بالمقاييس الإنجليزية، وكان سمير سرحان قد زارني مرتين في صيف ذلك العام، مرة وهو في طريقه إلى مصر لحضور مؤتمر المبعوثين الذي تحدث فيه جمال عبد الناصر شخصيا إلى ممثلي الطلبة، وكان من أبرز أحداث ذلك الصيف، ومرة أخرى وهو عائد إلى أمريكا ، ومكث معي في الغرفة وتحادثنا عن أحوالنا باستفاضة، وتنزهنا وقص علي ما يفعل ولكنه اعترض على التحاقي بالعمل المؤقت وطالبني بالانتهاء من الرسالة بأسرع ما يمكن حتى نعود لتحقيق أحلامنا في مصر، وبعد رحيله كنت أشعر بحزن دفين لم يخفف منه سوى توقع فرحتي بوصول زوجتي، وكنت كل يوم أفعل شيئا جديدا استعدادا لهذه الفرحة، بل كان لا يكاد يشغلني بعد رحيل سمير سرحان سوى إرسال الخطابات والبرقيات تلهفا على وصول نهاد.
وذات صباح دافئ، لا سحاب ولا مطر فيه، خرجت قاصدا النزهة، ولكنني لم أكد أخرج من باب المصعد حتى وجدت «عبده» أمامي ومعه فتاة إنجليزية سمينة، ناصعة البياض، قصيرة الشعر، عيناها زرقاوان، باسمة الوجه، فوقفت جامدا لا أستطيع الكلام. وإذا بها تقول ضاحكة: «لا بد أنك محمد!» وقلت نعم. تفضلا. وقالت بسرعة: «كنا ... أقصد ...» وأكملت لها العبارة التي يستخدمها الإنجليز فكهين في مثل هذه الظروف: «كنتما في المنطقة فقلتما ...» “you were in the neighborhood and thought ...” . فضحكت وقالت إنها «فكرة عبده!» وقلت لها: «لا بأس .. فلنخرج معا إلى الحديقة (هايد بارك) فالجو رائع!» وخرجنا.
صفحة غير معروفة