واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

محمد عناني ت. 1443 هجري
148

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

تصانيف

4

فاجأنا الربيع مثلما فاجأنا الشتاء، كما يقول الشاعر، وتحقق وعد السكرتيرة، فانتقلت إلى غرفة مستقلة، وأصبحت قادرا على أن أخلو بنفسي ساعات طويلة في المساء، أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية التي أصبحت هواية مفضلة، وأقرأ حتى الواحدة، وأنهض مع شروق الشمس فأذهب إلى الكلية وأسير في الحديقة فرحا بالزهور والبراعم التي تتفتح كل يوم، أو أتمتع فحسب بهواء الصباح المنعش الذي يذكرنا بالنيل عند رشيد، حتى تفتح المكتبة أبوابها، فأقرأ أو أكتب حتى ينتهي اليوم، ولم أعد ألتقي بأصدقائي العرب إلا فيما ندر؛ إما عند العشاء في الفندق، أو في قاعة الاستقبال حين ألقاهم مصادفة، وكان شهر مارس برمته شهر التجوال وتأمل الطبيعة، وكان يصحبني أحيانا بعض الأصدقاء ذاهبين إلى كلياتهم سيرا على الأقدام، وكان الحديث يتطرق أحيانا إلى أحلام المستقبل، فكان بعضهم يحلم بفيلا وسيارة، والبعض الآخر يحلم بالهجرة، وفئة ثالثة لا تعرف الأحلام، وكنت بالنسبة للجميع المرجع الذي يسألونه في اللغة الإنجليزية، ورغم تقاربنا في العمر كانوا يعتبرونني أخا أكبر، وكانوا لسبب ما يستودعونني أسرارهم، ويرون في قراءتي للأدب وهوايتي للفلسفة وعلم النفس مصدر حكمة يمكن أن تعين من يطلب العون، وهكذا وجدت أنني قد كتب علي وأنا بعد في السابعة والعشرين أن «ألعب دور» الشيخ الحكيم أو الأخ الكبير العاقل!

وأفضى إلي بعضهم بمغامراته مع بعض العاملات في الفندق (اللائي احتفظن بوظائفهن بعد تحوله إلى بيت طلاب) وكان معنا طالب نابه من جنوب السودان، لا يعتبره الشماليون عربيا مع أنه يتحدث العربية، ولكن ملامحه كانت زنجية خالصة، ولونه فاحم لامع، وكان طويلا فارعا لطيف المعشر، عقد صداقة مع فتاة برتغالية تعمل في الفندق، وكان كل منهما يقص علي أخباره مع صاحبه، وكانت هي أيضا فارعة الطول نحيلة، ملامحها شرقية، وغير جذابة، ولكنها كانت عاملة مجتهدة، تحاول أن تجد لنفسها ركنا تعيش فيه في أي مكان في العالم (

niche )، بعد أن ضاقت بها سبل العيش في بلدها، وكانت تتصور أن السوداني سوف يعود بها إلى جنوب السودان. أما هو فكان واضحا في موقفه وصريحا إلى أقصى درجة؛ فلا مكان للبرتغاليات في جنوب السودان - هذا إذا عاد هو إلى الجنوب - وعليها أن تظل في بريطانيا.

وعلى كثرة الجنسيات في ذلك الفندق القديم، وكثرة جنسيات من التحق بالعمل به بعد تحوله إلى بيت للطلاب، لم تكن بين الخادمات أو العاملات زنجية واحدة! كان الجميع تقريبا من أوروبا، ومعظمهن إما من أيرلندا أو إسبانيا ودول أوروبا الشرقية، وكان أصحاب الوظائف الإدارية من الإنجليزيات، ترأسهن مس ساتون

Miss Sutton

ذات الصوت المجلجل، والتي يرهبها الجميع فهي المديرة التنفيذية للبيت، وهي مسئولة عن كل صغيرة وكبيرة فيه، وأما السكرتيرة الهادئة مسز تريسي

Mrs. Tracy

فهي العقل المدبر والمدير المالي معا، تعرف جميع النزلاء وتحادثهم تليفونيا في غرفهم، ولها في غرفتها بالطابق الأرضي نافذة تطل منها على مدخل الفندق القديم فتعرف القادمين والخارجين وتكاد تتابع أخبارهم، ويبدو أنها أدركت من علاقتي بالعرب أنني أقوم بدور المترجم لمن لا تسعفه اللغة الإنجليزية؛ إذ كان بعضهم يأتي من بلدان عربية لا تشترط إجادة اللغة الإنجليزية قبل الشروع في الدراسة، فكانت تسألني في رفق أن أبلغهم الرسائل التي تريدها ، وتتصل بي تليفونيا لمعرفة الجواب.

وذات يوم عدت إلى غرفتي بعيد مغرب الشمس، ولم أكد أتخفف من ملابسي حتى جاءني صوت في التليفون يطلب الغوث! كان صوت إنجليزية صميمة، أبلغتني الرسالة بسرعة ووضعت السماعة فأسرعت إلى تريسي لأبلغها بنفسي حتى تطلب الطبيب؛ فتليفونها مشغول دائما. كان أحد نزلاء بيت الطلاب مصريا يدرس بعض الوقت في كلية الفنون التطبيقية (البوليتكنيك) ويعمل طول الوقت في مطعم في وسط لندن؛ فهو طباخ محترف، وكان يعاني من مرض غريب في أذنه، وسمعت أنه قريب لأحد الوزراء في مصر، وأنه حصل على البعثة بالواسطة (الوساطة!) للعلاج أساسا، وإن كان السبب المعلن هو الدراسة، ولولا الوزير ما غادر مصر أصلا. وكان يقيم وحده في غرفة مستقلة وتتردد عليه إحدى موظفات بيت الطلاب، وهي ربعة القوام غليظة مربعة، كنت أراها تحادث الدكتور سمير المنقبادي، وهو مصري يعد دراسات «ما بعد الدكتوراه» في القانون، ويقيم في النرويج ويدرس القانون في جامعة أوسلو بعد أن تزوج ابنة عميد كلية الحقوق هناك. كنت أراها تحادثه محادثة من يعرفه حق المعرفة، وقد تحقق ظني فيما بعد، وكانت هي التي حادثتني ذات المساء؛ لأنها كانت تزور صاحبنا ذا الأذن المعطوبة فأصيب بما يشبه الإغماء أو النوبة القلبية مما جعلها تستغيث بي. أبقيت الأمر سرا، بطبيعة الحال، ودفعني حب الاستطلاع إلى معرفة القصة الكاملة وهي مما لا يروى في مثل هذا السياق.

صفحة غير معروفة