وأنا أروي التأليف المذكور عن ولده الشيخ العلامة ناصرالدين أبي الفرج المراغي عن والده زين الدين المذكور عن مؤلفه، وقد أورد القصة فيه مبسوطة، لكن مع مخالفة لبعض ما تقدم، وذكر أن الوزير المذكور جمال الدين الموصلي فقال: وقد دعتهم أنفسهم في سلطنة الملك العادل نور الدين الشهيد إلى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)، وذلك أن السلطان المذكور كان له تهجد يأتي به بالليل وأوراد يأتي بها، فنام عقب تهجده فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: (أنجدني من هذين) فاستيقظ فزعا ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه، فاستيقظ ثم توضأ وصلى ونام فرآه أيضا مرة ثالثة، فاستيقظ، وقال: لم يبق نوم، وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل خلفه ليلا وحكى له جميع ما اتفق له فقال له: وما قعودك اخرج الآن إلى المدينة النبوية واكتم ما رأيت فتجهز في بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة في عشرين نفر وصحبته الوزير المذكور ومال كثير، فقدم المدينة في ستة عشر يوما فاغتسل خارجها ودخل فصلى في الروضة وزار ثم جلس لا يدري ما يصنع، فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد أن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم وأحضر معه مالا فاكتبوا من عندكم، فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر ليأخذ تأمله السلطان ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجد تلك الصفة فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انقضت الناس فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة؟ قالوا: لا، قال: فتفكروا وتأملوا، قالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان لأحد شيئا وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج، فانشرح صدره وقال: علي بهما، فأتى بهما، فرآهما الرجلين اللذين أشار إليهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: من أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب جئنا حاجين فاخترنا المجاورة في هذا العام، فقال: اصدقاني فصمم على ذلك، فقال أين منزلهما؟ فأخبر بأنهما في رباط قرب الحجرة الشريفة فأمسكهما وحضر إلى منزلهما فرأى فيه مالا كثيرا وختمتين وكتبا في الرقايق ولم ير فيه شيئا غير ذلك، فأثنى أهل المدينة عليهما بخير كثير وقالوا: إنهما صائمان الدهر ملازمان للصلاة في الروضة الشريفة وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة البقيع في كل يوم وزيارة قبا في كل سبت ولا يردان سائلا قط بحيث سدا خلة أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال السلطان، سبحان الله! ولم يظهر شيئا مما رآه، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه فرفع حصيرا في البيت فرآى تحته لوحا من الخشب أو نحوه، فرفع ذلك فرأى سردابا محفورا ينتهى إلى صوب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك فقال السلطان عند ذلك: اصدقاني حالكما، وضربهما ضربا شديدا فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة وأمالوهما بأموال عظيمة وأمروهما بالتحيل في شيء عظيم خيلته لهم أنفسهم وتوهموا أن يمكنهم الله وهو الوصول إلى الجناب الشريف ويفعلون به ما زينه لهم إبليس من النقلة وما يترتب عليها ففعلا ما تقدم وصارا يحفران ليلا ولكل واحد محفظة جلد على زي المغاربة، والذي يجمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته ويخرج لإظهار زيارة البقيع فيلقيه بين القبور إذا خلا، وأقاما على ذلك مدة فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجيف عظيم بحيث خيل إليهم ابتلاع تلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة واتفق مسكهما واعترافهما، فلما ظهر حالهما على يديه ورأى تأهيل الله له لذلك بكى بكاء شديدا وأمر بضرب رقابهما، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة ثم أمر بإحضار رصاص وملأ به الخندق فصار حول الحجرة سورا رصاصا خاصا إلى الماء ثم عاد وأمر بإضعاف النصارى وأن لا يستعمل كاتب في عمل من الأعمال، وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعها ، انتهى.
وهذه تشهد بما ذكره اليافعي في ترجمة السلطان المذكور أن بعض العارفين من الشيوخ ذكر أن السلطان نور الدين كان في الأولياء معدودا من الأربعين، وصلاح الدين نائبه من الثلاثمائة، انتهى
قال ابن الأثير: طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين. انتهى.
صفحة ١٣١