وبهذه الصفات نجح أبو بكر في التغلب على المصاعب والعقبات التي كانت تكتنفه.
وفي الحق أن الوقت كان عصيبا، وكانت الظروف غاية في الحرج، فقد كان موت النبي - الذي كانت تترقبه العرب منذ زمن طويل بفارغ الصبر - مؤذنا بالثورة في كل مكان، ولقد كنت ترى الثائرين - في حيثما ذهبت - رافعين علم الثورة والتمرد، وقد رجحت كفتهم أيما رجحان حتى لقد طردوا ولاتهم من بلادهم، فلم يجد هؤلاء أمامهم ملجأ إلا المدينة؛ فتقاطروا عليها من كل فج يحتمون فيها من أذاهم.
وكان لا يمر يوم حتى يفد على المدينة بعض الولاة، والعمال المطرودين، وأعدت القبائل المجاورة للمدينة عدتها لحصارها.
فكيف يقاومهم «أبو بكر» وليس لديه جيش يحاربهم به بعد أن أرسل جيشه إلى سوريا ليفتحها؛ تنفيذا لأمر النبي - برغم نصيحة المسلمين الذين رأوا خطورة الحال، ولقد ألحوا عليه أن يعدل عن تنفيذ فكرة الفتح حينئذ، فقال لهم: «لن أخالف ما أمر به النبي ولو أصبحت المدينة نفسها نهبا للثائرين والمتمردين، ولا بد لي من تحقيق مشيئته!»
ومن ثم ترى الخطر العظيم باديا، على أنه - على الحقيقة - خطر أقل مما تدل عليه ظواهره، فإن قوة الخصم الحقيقية لا تقاس بما لديه من عدة ورجال، بل بما عنده من قوة معنوية، وبما يصبو إلى تحقيقه من غاية سامية يتطلع إليها ويخوض غمار الحرب من أجلها، باذلا في سبيلها النفس والنفيس.
فما هي الغاية التي يسعى إليها الثائرون؟ وأي حافز يدفعهم إلى إضرام هذه الحرب؟
أهو إيمان وثيق متوشج في أعماق قلوبهم كإيمانهم القديم الذي كانوا عليه قبل البعثة؟ لو كان ذلك لما كان ثمة شك في انتصارهم الحاسم!
ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فإنهم لا يحاربون الآن لينصروا دينهم القديم ويؤيدوه؛ بل هم يثورون على دينهم الجديد؛ لأنهم لا يطيقون احتماله.
وليس هذا بالسبب القوي الذي يلهب حماستهم ويحفزهم إلى الإتيان بجلائل الأعمال، ولا هو بالسبب الذي يخلق البطولة والأبطال، فقد كان رؤساء القبائل المتمردة أنفسهم شاعرين كل الشعور بضعف قوتهم المعنوية؛ فلجأ بعضهم إلى فكرة سخيفة حسبوا أنها تعيد إليهم تلك القوة، فادعوا النبوة! وخيل إليهم أن محمدا لم ينجح إلا بهذه الفكرة؛ فأرادوا تقليده.
ولكنهم نسوا أمرا واحدا - هو سر نجاحه في بث دعوته - ذلك أنه كان مؤمنا بما يدعو إليه إيمان المستيقن الجازم، وهذا هو الذي يعوزهم وبغيره لا يتم نجاح.
صفحة غير معروفة