الإهداء
تحية
الوعظ القصصي
الوعظ الكاذب
الباز واللقلق
ابن الرومي1
ما رأيك؟1
أبو العلاء المعري في لزومياته
ظلي1
الخسوف والكسوف 1
آلام الفقير1
فن الكتابة أو كيف ندرس فن الإنشاء1
في العام السادس1
جحيم دانتي1 وقصة «الكوميديا الإلهية»
نظرات في تاريخ الإسلام1
هل يشبهك ابنك؟1
آخرة العالم كيف تكون1 ...؟
مناظرة الكسائي وسيبويه1
في بلاد العمالقة1
مفتاح القراءة1
رسالة الغفران
حقائق يجهلها الأطباء عن الغذاء1
الشعراء المعاصرون: أبو شادي1
مذكرات عجائبي1
الطيرة والتشاؤم بين المعري وابن الرومي1
الدين في إسبانيا
الإهداء
تحية
الوعظ القصصي
الوعظ الكاذب
الباز واللقلق
ابن الرومي1
ما رأيك؟1
أبو العلاء المعري في لزومياته
ظلي1
الخسوف والكسوف 1
آلام الفقير1
فن الكتابة أو كيف ندرس فن الإنشاء1
في العام السادس1
جحيم دانتي1 وقصة «الكوميديا الإلهية»
نظرات في تاريخ الإسلام1
هل يشبهك ابنك؟1
آخرة العالم كيف تكون1 ...؟
مناظرة الكسائي وسيبويه1
في بلاد العمالقة1
مفتاح القراءة1
رسالة الغفران
حقائق يجهلها الأطباء عن الغذاء1
الشعراء المعاصرون: أبو شادي1
مذكرات عجائبي1
الطيرة والتشاؤم بين المعري وابن الرومي1
الدين في إسبانيا
الوعظ القصصي
الوعظ القصصي
والوعظ الكاذب ومقالات أخرى
تأليف
كامل كيلاني
الإهداء
والدي البار الشيخ كيلاني إبراهيم: رأيتك - منذ حداثتي - تقرأ الكتاب وتتخذه صاحبا ورفيقا؛ فحببني ذلك في الكتاب وما زلت أحبه إلى اليوم.
ولقد طالما سلكت في تأديبي طريق الوعظ القصصي؛ فكنت أول من حبب إلي هذه الفكرة، وكان لك الفضل الأول في أخذي بهذا الأسلوب، وتمكينه من نفسي، وكنت نعم القدوة لابنك في تربية ولده مصطفى، وأخويه. •••
ولقد تفضلت يا والدي العطوف فشرفت ولدك بسماع هاتين المحاضرتين كما تفضلت بقراءة بقية المقالات المنشورة بهذا الكتاب وأظهرت لي رضاك عنها فكان ذلك أكبر مشجع لي على إهدائك هذا الكتاب - وهو ثمرة من ثمار غرسك - فإذا راقتك منه فكرة طريفة فإنما يرجع فضلها إليك، وإني بهذا الرضى لسعيد.
كامل كيلاني
تحية
إلى صديقي الأستاذ النابغة كامل أفندي كيلاني:
يا صديقي العزيز «كامل» حيي
ت بقلب وهبته صفو قلبك
ليس أسمى من المحبة إهدا
ء فهل لي سوى مجاراة حبك
وأراك الغنى عن كل شكر
كغناء الضياء والطيب عنا
إن من طبعه المحبة والإن
صاف يغنى بطبعه حين يغنى
ولو اخترت في اكتفاء مثالا
لوفاء لعشت سيد خلق
فإن ذاك الذي أضاف كمالا
من نبوغ إلى مكارم خلق
وتحملت في سنين توالت
كتوالي الأعباء تهذيب جيل
واتخذت التواضع الحلو كالست
ر لما قد وهبته من جميل
فإذا أنكر الغبيون جدوا
ك وأمثالهم منال الجحود
فلأنت الذي تسامى ولم يع
بأ بما قاله شيوخ القرود!
أبو شادي
الوعظ القصصي
قال لي صاحبي وهو يحاورني: «لقد نكبتنا وزارة الأوقاف؛ حين حتمت علينا أن نؤلف خطبا ونسجلها في الدفاتر!»
قلت: «لقد أسدت إليكم معروفا أي معروف!»
قال: «أفي مقدوري أن أعظ وأن أخطب؟»
قلت: «ولم لا؟»
قال: «إني لأعجز عن تسجيع جملتين اثنتين في يوم واحد.»
قلت: «وما شأن هذا بالخطابة؟»
قال: «وكيف تكون خطابة بلا سجع؟»
قلت: «بل كيف يكون سجع وخطابة؟»
قال: «أمرك عجيب!»
قلت: «أمرك أعجب!»
قال: «دع المزاح جانبا وخذ في الجد»
قلت: «إني لا أمزح؛ إلا إذا كنت تسمي الصدق مزاحا، إنك تتصور الخطابة تصورا فاسدا خاطئا، وهذا التصور وحده هو علة عجزك عن القيام بها، إن الوعظ أيسر مما تظن بكثير.
إن كل أمر بالمعروف، وكل نهي عن المنكر؛ هو وعظ له قيمته وخطره فإذا سرت في الطريق ورأيت حادثا من الحوادث - خيرا كان أو شرا - فقصصته على سامعيك مثنيا على جانب الخير منددا بالجانب المرذول حاثا الناس على الاقتداء بالأول محذرا إياهم من الوقوع في الثاني، فقد أحسنت، وأجدت، وكنت الخطيب المفوه، والواعظ المرشد الأمين.
وبهذا تكون قد قدمت للناس أمثلة يقتدون بها، وأمثلة يحذرون الوقوع فيها، ووعظتهم بما حدث لسواهم من خير وشر. «والسعيد من وعظ بغيره والشقي من وعظ بنفسه.»
قال: «ما كنت أحسب الوعظ بهذه السهولة.»
قلت: «إن سوء فهم كثير من الخطباء معنى الوعظ؛ هو علة تخبطهم فيه وعجزهم عن القيام به.» •••
قالوا: إن مربية أولاد لويس الرابع عشر طلبت إلى أحدهم - وكان صغير السن - أن يكتب كتابا إلى أبيه، وكان بعيدا عنه، فقال لها مدهوشا: «أفي قدرتي أنا أن أكتب كتابا؟»
فقالت له: «هب أباك حضر فماذا أنت قائل له؟»
قال: أقول له: «لقد أوحشتنا واشتقنا إلى رؤيتك!»
قالت: «فاكتب له هذا.»
ثم قالت له: «قل له: إن البيت يحترق!»
فقال لها: «هذا كذب!»
قالت: «قل له إذن: إن الخادم ينظف غرفة الاستقبال.»
قال: «وهذا خبر تافه!»
قالت: «لقد عرفت الآن كيف تكتب الكتاب، فليس يكلفك ذلك أكثر من أن تكتب ما تشعر به مبتعدا عن الكذب، وعن الحقائق التافهة!»
وهذه أيها السادة هي وظيفة الخطيب تماما. •••
وفي إحدى روايات «موليير» نرى أحد المولعين بالدرس - على كبر - يشرح له معلمه النظم والنثر، فيقول له: «النظم هو الكلام الموزون المقفى.»
فيسأله: «وما النثر؟» فيقول له: «هو ما تتكلمه الآن.»
فيقول: «وا عجبا، إذن فأنا أتكلم النثر أربعين سنة وأنا لا أدري!» •••
ولعل أكثركم سيدهش أيضا حين أقول له إنك كثيرا ما تكون خطيبا - عن غير قصد منك - وإنك تكون واعظا بليغا كلما قصصت على إخوانك أو أهلك أو طلبتك قصة بليغة ذات مغزى حكيم!
ولعل أيسر وأبلغ طريقة يتبعها الواعظ - في بيته وطريقه وعلى منبره - هي ضرب الأمثال ورواية القصص.
ولقد فرغ علماء التربية من التدليل على أهمية الأمثال والقصص، وقد سبقهم القرآن الكريم إلى ذلك فقال:
وتلك الأمثال نضربها للناس
وقال:
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين . •••
ولقد بلغ ولوع بعض الناس بالأسلوب القصصي حدا عجيبا:
أذكر لكم - على سبيل المثال - أن مدرسا فاضلا من مدرسي العربية كان يدرس لنا - في مدرسة أم عباس الابتدائية - وكانت نتائجه أبهر النتائج وتلاميذه أقوى التلاميذ، وكان السر في ذلك؛ هو إسرافه في حب القصص، وقد بلغ به ولعه بالأسلوب القصصي حدا مدهشا جعله يشرح لنا - في قواعد اللغة - «أثر كان وأخواتها، وأثر إن وأخواتها» بأسلوب قصصي جذاب يحبب في النحو أزهد الناس في النحو.
كان يشرح لنا أثر كان وأخواتها في معموليها، وأثر إن وأخواتها كذلك فيقول المبتدأ والخبر أخوان، وهما دائما رافعا الرأس، ففي ذات يوم بينما هما جالسان في بيتهما، إذ سمعا قرعا بالباب؛ فأسرعا إلى زائرهما ففتحا له الباب ورحبا به، وأرادا أن يقدما له شيئا من الحفاوة، بعد أن سألاه عن اسمه فقال لهم «اسمي كان» فقالا له: «أهلا وسهلا بك ومرحبا، ماذا نستطيع أن نقدم لك من قرى؟» فقالت: «أريد أن أصاحبكما وأن تترك صحبتي أثرا ظاهرا تميزاني به من بين رفاقكما جميعا.»
فقالا: «وأي أثر تريدين؟»
فقالت: «أن أنصب أحدكما.»
فلا تكاد تتم قولها حتى يتقدم إليها الخبر مرحبا بشرطها هذا راضيا بحكمها.
وإنهم لكذلك إذ يسمعون قرعا عنيفا بالباب، فإذا فتحوه وجدوا طائفة من الضيفان، فيسألونهم: «من أنتم؟» فيقولون لهم: «نحن أخوات كان.»
وبعد أخذ ورد يظفرن بمثل ما ظفرت به كان.
فإذا جاء اليوم التالي جاءت «إن» زائرة، وطلبت إليهما أن يمنحاها ميزة كما منحا كان بالأمس.
فيتقدم المبتدأ في هذه المرة مرحبا بشرطها، ولا يكاد يفعل حتى تأتي جميع أخوات إن طالبة مثل طلبها فيظفرن به.
هكذا كان يسلك ذلك المدرس الظريف في شرح النحو وتحبيبه إلى نفوس الطلبة، وهي طريقة طريفة كانت تحبب الطلبة في دروسه، وترغبهم في الاستفادة من علمه. •••
وكثيرا ما لجأ أبي - في تربيتي - إلى ضرب الأمثلة، والقصص. أذكر لكم أن بعض أشقياء الصبية أغراني بتسلق «الترام» - وأنا صغير - فرآني أبي وأنا أفعل ذلك ولم أره.
فلما عاد إلى المنزل قال لي: «لقد حدث اليوم يا ولدي أمر عجيب، فقد هوى ولد شقي تحت عجلات الترام فقطعته شطرين، وظل الناس يلعنونه ويلعنون أهله. «وهنا ذكرتك يا ولدي فحمدت الله على حسن أدبك وبعدك عن هذه الدنايا.»
أقول لحضراتكم: إن الأرض كادت تغوص بي، وكان هذا آخر عهدي بهذا العمل الممقوت. •••
وفي ذات يوم قلت له - وكنت طفلا: «إني لأخشى العفاريت، والحشرات المؤذية حين أصعد سلم البيت في ظلام الليل.»
فقال لي: «من الذي يحرسك وأنت نائم؟»
قلت: «هو الله.»
قال: «أتظن أن من يحرسك وأنت نائم لا يحرسك وأنت يقظان؟» فكان ذلك آخر عهدي بالخوف أيها السادة.
ولقد قرأ لي أبي كثيرا من القصص في فجر حياتي، لا أزال مدينا لها - إلى الآن - بما يظنه في بعض من يحسنون الظن بي من خيال وأدب. •••
ليست وظيفة الواعظ منحصرة في أن يقول للناس: «اتقوا الله واخشوا عذابه واحذروا ناره»، في كل أسبوع بعبارات مختلفة، وأن يقول:
عباد الله
أوصيكم وإياي بطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره.
إلى آخر هذه الكليشيهات والعبارات المحفوظة حفظا، والجمل المرصوفة رصفا.
ولكن وظيفته وواجبه في أن يحسن التعبير عما يشعر به من خوالج، وعواطف صادقة.
ولو كنت خطيبا في مسجد لما صعب علي أن أهتدي إلى موضوع صالح - كل يوم - بله كل أسبوع.
فأمامي الحياة اليومية أقتبس منها ألف مثل مما أراه في الطرقات وغيرها.
وأمامي التاريخ الحافل بالعظات، والعبر، والمثل العليا. (1) موقعة أحد
خذوا مثلا على ذلك موقعة أحد فهي وحدها تصلح موضوعا لعدة خطب. (1-1) عاقبة المخالفة
كان النصر محققا للمسلمين في بدئها فلما خالفوا أمر النبي - عليه السلام - وانتقلوا من موضعهم، كر عليهم المشركون، وقتلوا منهم عددا كبيرا فيهم «حمزة» عم النبي
صلى الله عليه وسلم
واستطاع العدو أن يخلص إلى النبي؛ فيرميه بالحجارة. قالوا: «ووقع لشقه؛ فأصيبت رباعيته وشج وجهه، وكلمت شفتاه، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وسقط في إحدى الحفر التي حفرها المشركون ليقع فيها المسلمون ... إلخ.»
أليس هذا موضوعا جليلا يبين لنا عاقبة المخالفة؟ (1-2) وفاء الصحابة
وفي هذه الموقعة يتجلى لنا مثل عال من أمثلة الإخلاص، والتفاني في الوفاء؛ إذ يقبل الصحابة على النبي مستبسلين يفدونه بأرواحهم، يأخذه علي بيده، ويرفعه طلحة بن عبيد الله، ويحيط به جماعة من الأنصار والمهاجرين؛ ليقوه السوء بنفوسهم، وتتجلى شجاعة المرأة العربية واضحة، فلا تقل عن شجاعة «جان دارك» التي لا يكاد يخلو من ذكرها كتاب فرنسي من كتب التاريخ، والتي ملئوا الدنيا إعجابا بها.
تنحاز «نسيبة بنت كعب» إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
وتتفانى في الذود عنه - وكانت تسقي في أول النهار - فلما رأت هزيمة المسلمين أسرعت إلى النبي تفديه بنفسها، ضاربة بسيفها مرة، ورامية عن قوسها أخرى، حتى أثخنتها الجروح.
أتريدون أمثلة أخرى من هذه الموقعة؟ لو شئتم لما وفت الليلة كلها إذا قصرناها على هذه الموقعة وحدها، فلنجتزئ بذلك ففيه الكفاية. أتريدون أمثلة على فضل الصبر؟
فضل الصبر (صبر الصحابة)
كان النبي يذكر يوما ما لقي من قومه من الجهد والشدة، قال: «لقد مكثت أياما وصاحبي هذا (يشير إلى أبي بكر) بضع عشرة ليلة ما لنا فيها من طعام إلا البرير «ثمر الأراك» في شعب الجبال.» •••
وكان «عتبة بن غزوان» يقول - إذا ذكر البلاء، والشدة التي كانوا عليها بمكة: «لقد مكثنا زمانا، ما لنا من طعام إلا ورق البشام، أكلناه؛ حتى تقرحت أشداقنا، ولقد وجدت يوما تمرة، فجعلتها بيني وبين سعد، وما منا اليوم إلا وهو أمير على كورة.»
وكانوا يقولون في من وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: «إن أسعد الرجلين من حصلت النواة في قسمه يلوكها طول يومه وليلته من عدم القوت.»
قال
صلى الله عليه وسلم : «لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط.» •••
أتريدون أمثلة على الاعتداد بالنفس؟!
جاء
صلى الله عليه وسلم
يوما ليدخل الكعبة فدفعه «عثمان بن طلحة العبدري» فقال: «لا تفعل يا عثمان، فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت!» فقال: «لقد ذلت قريش وقلت.» قال: «بل كثرت وعزت.»
وانظروا إلى حواره
صلى الله عليه وسلم
مع قريش حين قالت له تفاخره: «أتباعك من هؤلاء الموالي (كبلال، وعمار، وصهيب) خير من قصي بن كلاب، وعبد مناف، وهاشم، وعبد شمس؟»
فقال: «نعم، والله لئن كانوا قليلا ليكثرن، ولئن كانوا ضعفاء ليشرفن، حتى يصيروا نجوما يهتدى بهم ويقتدى فيقال: «هذا قول فلان» «وذكر فلان». فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية فلما يدهده الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين موتوا فيها .
فاتبعوني أجعلكم أنسابا. والذي نفسي بيده، لتقتسمن كنوز كسرى وقيصر!»
فقال له عمه أبو طالب: «أبق علي وعلى نفسك!» فظن النبي أنه خاذله فقال: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» ثم استعبر باكيا، ثم قام فلما ولى ناداه: «أقبل يا ابن أخي.» فأقبل فقال: «اذهب وقل ما شئت، فوالله لا أسلمتك لسوء أبدا!» •••
أرأيتم خيرا من هذه الأمثلة يسوقها الخطيب يعظ بها قومه، ويضرب لهم بها أعلى الأمثال؟
مثال الطمع وعاقبته
فإذا شاء الخطيب أن يقرب للناس مثل الطمع وعاقبته، فلعل أبلغ مثال يسوقه إليهم هو أن يقص عليهم: «حكاية الدرويش وصاحب الجمال»
وخلاصتها أن رجلا كان يملك ثمانين جملا، فكان يستأجره الناس لحمل متاجرهم من بلد إلى بلد، ففي ذات يوم كانت جماله الثمانون تحمل خشبا من بغداد إلى البصرة؛ فلقيه في طريقه درويش وسار معه زمنا، ثم جاء وقت الغداء فأكل الدرويش معه، وبعد قليل قال له الدرويش: «لقد صرنا رفيقين وصديقين، وسأرشدك إلى كنز ثمين تحمل منه ما شئت من ذهب ولآلئ - على جمالك - ثم نقتسم هذا الغنم معا، فما رأيك؟»
فهش الرجل، وطار فرحا بهذه الصفقة الرابحة التي تضمن له الغنى طول حياته.
وقاده الدرويش إلى ذلك الكنز الثمين، وفتحه، وحملا الجمال الثمانين ما استطاعت حمله من نفائس وذخائر.
ورأى الدرويش صندوقا صغيرا من الخشب فأخذه ثم سارا معا إلى مفترق الطريق، فتعانقا بشوق شديد، وأخذ كل منهما أربعين جملا وسار في طريقة، ولم يكد الرجل يبتعد قليلا حتى وسوس له شيطان الطمع فقال في نفسه: «ترى لو طلبت من ذلك الدرويش عشرة جمال أكان يرفض طلبي؟» ولم يكد يمر بذهنه هذا حتى أسرع يجري إلى الدرويش ويناديه بأعلى صوته ويلوح له بيديه: «يا درويش! يا درويش!» فعاد إليه الدرويش وسأله: ما الخبر؟ فقال له: «ماذا عليك إذا أعطيتني عشرة جمال من جمالك وأنت رجل زاهد لا يعنيك من أمور الدنيا شيء؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت.»
ففرح الرجل بذلك، وأخذ الجمال العشرة مغتبطا، ثم ودع صاحبه وعاد إلى طريقه.
ولكنه لم يكد يسير قليلا حتى وسوس له شيطان الطمع مرة ثانية، فقال في نفسه: «إنه رجل طيب القلب لين العريكة، وما أحسبه يرفض أن يعطيني عشرة جمال أخرى إذا طلبتها منه.»
وما كاد يستقر في نفسه هذا الهاجس حتى أسرع يعدو نحو الدرويش ويناديه بأعلى صوته: «يا درويش! يا درويش!» فلما عاد إليه الدرويش وسأله عما يريد، قال له: «ألا تسمح لي بعشرة جمال أخرى أيها الرجل الكريم؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت يا أخي.»
ففرح وأخذ منه الجمال العشرة، ولم يكد يودعه ويسير بضع خطوات، حتى عاوده الطمع فقال: «إن الجمال جمالي، ولولاها لما استطاع أن يحمل هذه النفائس الكثيرة، ثم إن هذا الدرويش زاهد في الدنيا، وأحسب أن عشرة جمال محملة نفائس وذخائر ثمينة تكفيه وتغنيه طول حياته.» وثمة أسرع يجري نحو الدرويش ويناديه: «يا درويش! يا درويش!» فعاد إليه الدرويش مستفسرا عما يريده فقال له الرجل: «إنك قد غمرتني بفضلك وكرمك، وأحسبني إذا طلبت منك عشرة جمال أخرى، لم تخيب رجائي.» فقال له الدرويش: «خذ ما شئت.» فأخذها وودعه، ثم عاوده الطمع مرة ثالثة في نفسه: «وما فائدة هذه الجمال العشرة لهذا الزاهد المشتغل بعبادة الله، إنه رجل متقشف وربما شغلته عن دينه، هذا إلى أنه رجل ضعيف وليس في قدرته أن يمنعني ما أطلب، وما أجدرني أن أنتهز هذه الفرصة النادرة فآخد منه بقية جمالي؛ فإذا أبى أن يعطنيها قتلته أو أخذتها منه قسرا.»
وثمة أسرع إلى الدرويش، وقال له: «أنت رجل زاهد متقشف، ولست في حاجة إلى هذه الجمال العشرة، فماذا عليك إذا سمحت لي بها وأضفت إلى إفضالك فضلا آخر لا أنساه لك ما حييت؟» فقال له الدرويش: «لك ما طلبت.» فشكره وودعه وأخذها وانصرف، ولكنه لم يكد يبتعد عنه قليلا حتى ذكر الصندوق الصغير الذي أخذه الدرويش من الكنز، فقال في نفسه: «لولا أن لهذا الصندوق الصغير قيمة أثمن من كل هذه النفائس لما سمح لي الدرويش بها جميعا راضيا مغتبطا!»
وما كاد يطيف بذهنه هذا الخاطر حتى أسرع يجري نحو الدرويش، فلما أدركه قال له: «لقد رأيتك تأخذ صندوقا صغيرا من الكنز، وأحب أن أعرف فائدة هذا الصندوق!»
فقال له الدرويش: «فائدة هذا الصندوق أن من يكحل به إحدى عينيه يرى كنوز الأرض قاطبة؛ فإذا كحل عينه الأخرى عميت عيناه جميعا.» فقال له الرجل: «إذن فاكحل عيني.» ولم يكد الدرويش يفعل حتى رأى الرجل كنوز الأرض كلها أمام عينيه، فقال في نفسه: «إذا كان من يكحل عينا واحدة يرى كل هذه الكنوز، فكيف بمن يكحل عينيه جميعا! لا شك أن هذا الدرويش يخدعني ويحرص على أن يحرمني فوائد عظيمة!»
ثم التفت إلى الدرويش وقال له: «اكحل لي عيني الأخرى.»
فحذره الدرويش من عاقبة هذا الشطط؛ فلم يزده التحذير إلا إلحاحا وعنادا، وبعد لجاجة طويلة أذعن له الدرويش وكحل له عينه الأخرى؛ فعميت عيناه جميعا، فأخذ الدرويش جماله الثمانين وسار بها إلى حيث شاء وترك صاحبنا يلقى جزاء طمعه وأنانيته. •••
أترون أيها السادة أبلغ من هذه الحكاية يقصها الخطيب؛ ليقرر للناس عاقبة الطمع؟! إليكم مثالا آخر:
عاقبة الغفلة
زعموا أنه كان أسد في أجمة، وكان معه ابن آوى يأكل من فواضل طعامه فأصاب الأسد جرب، وضعف شديد وجهد؛ فلم يستطع الصيد، فقال له ابن آوى: «ما بالك يا سيد السباع، قد تغيرت أحوالك؟»
قال: «هذا الجرب الذي قد أجهدني وليس له دواء إلا قلب حمار وأذناه.» قال ابن آوى: «ما أيسر هذا وقد عرفت بمكان كذا حمارا لقصار يحمل عليه ثيابه، وأنا آتيك به.»
ثم دلف إلى الحمار فأتاه وسلم عليه، فقال له: «ما لي أراك مهزولا؟» قال: «ما يطعمني صاحبي شيئا.» فقال له: «وكيف ترضى المقام معه على هذا؟» قال: «فما لي حيلة في الهرب منه، كلما أتوجه إلى جهة أضر بي إنسان فكدني وأجاعني، قال ابن آوى: «فأنا أدلك على مكان معزول عن الناس لا يمر به إنسان؛ خصيب المرعى، فيه قطيع من الحمر لم تر عين مثلها حسنا وسمنا.» قال الحمار: «وما يحبسنا عنها؟» فانطلق به ابن آوى نحو الأسد، وتقدم ابن آوى ودخل الغابة على الأسد، فأخبره بمكان الحمار فخرج إليه وأراد أن يثب عليه فلم يستطع لضعفه، وتخلص الحمار منه، فأفلت هلعا على وجهه، فلما رأى ابن آوى الأسد لم يقدر على الحمار، قال له: «أعجزت يا سيد السباع إلى هذه الغاية؟» فقال له: «إن جئتني به مرة أخرى فلن ينجو مني أبدا.»
فمضى ابن آوى إلى الحمار فقال له: «ما الذي جرى عليك؟ إن أحد الحمر رآك غريبا فخرج يتلقاك مرحبا بك، لو ثبت لآنسك ومضى بك إلى أصحابه!»
فلما سمع الحمار كلام ابن آوى - ولم يكن رأى أسدا قط - صدقه وأخذ طريقه إلى الأسد، فسبقه ابن آوى إلى الأسد، وأعلمه بمكانه، وقال له: «استعد له فقد خدعته لك، فلا يدركنك الضعف في هذه النوبة فإن أفلت فلن يعود معي أبدا.»
فجاش جأش الأسد؛ لتحريض ابن آوى، وخرج إلى موضع الحمار فلما بصر به عاجله بوثبة افترسه بها، ثم قال: «قد ذكر الأطباء أنه لا يؤكل إلا بعد الغسل والطهور، فاحتفظ به حتى أعود فآكل كل قلبه وأذنيه وأترك لك ما سوى ذلك قوتا.» فلما ذهب الأسد ليغتسل عمد ابن آوى إلى الحمار فأكل قلبه وأذنيه رجاء أن يتطير الأسد منه فلا يأكل منه شيئا، ثم إن الأسد رجع إلى مكانه فقال لابن آوى: «أين قلبه وأذناه؟» فقال له: «ألم تعلم أنه لو كان له قلب يفقه وأذنان يسمع بهما لم يرجع إليك بعدما نجا من الهلكة؟!»
1 •••
أليست هذه مصداق الحديث: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.»؟ •••
ثم ذكر المحاضر أمثلة أخرى كثيرة وختم محاضرته بقوله: «فإذا أردت مثل العقوق ومثل الوفاء فأمامك حكاية «أبي صير وأبي قير» وهي في ألف ليلة، وإذا أردت مثل القضاء والقدر؛ فأمامك حكاية «الملك عجيب» وهي في ألف ليلة أيضا.
وإذا أردت مثلا على أن لكل مقام مقالا فاقرأ حكاية العم «عمارة» وهي مشهورة لا حاجة بنا لذكرها.» •••
وجماع القول أن القصص وضرب الأمثلة محببان إلى نفوس الكبار والصغار معا، وهما من خير الوسائل التي يلجأ إليها الخطيب لتقرير فكرة أو تعزيز مبدأ في أذهان سامعيه.
هوامش
الوعظ الكاذب
أيها السادة:
قال لي ولدي مصطفى - ذات يوم - وعلى وجهه أمارات الدهشة والعجب: «إنك توصيني يا أبي بالصدق!» قلت: «نعم!» قال: «تنهاني عن الكذب!» قلت: «نعم.» قال: «كذلك تقول المعلمة!» قلت: «حسن، فماذا حدث؟»
قال: «حدث أن معلمتي- التي توصيني بالصدق وتمدحه لي وتنهاني عن الكذب وتبغضني فيه - قد كذبت!» قلت: «وكيف كذبت يا مصطفى؟» قال: «إنها ضربتني فشكوتها إليك، فلما سألتها أنكرت!» فماذا ترون أيها السادة؟
إذا كان هذا الطفل - وهو لم يعد السادسة من سني حياته - قد فطن إلى التناقض بين قول المدرسة وفعلها، وأدرك أنها تأمر بما لا تأتمر به، أترونني قد بالغت إذا قلت: إن أذهان العامة لن تكون أقل من ذهن هذا الطفل إدراكا وفهما لما يقع من التناقض بين أقوال وعاظهم ومرشديهم وأفعالهم؟
الحق أن العامة - مهما بلغ بهم الجهل - لن يكونوا أقل انتقادا لوعاظهم من الأطفال.
ولست أدري كيف يأمرنا الواعظ بالصدق ويكذب، وكيف يأمرنا بترك الحلف ويحلف، كذلك الذي يقول: «والله ما حلفت صادقا ولا كاذبا.»
أو كذلك الذي أراد أن لا يبوح بحب معشوقته فباح بها في قوله:
لا لا أبوح بحب بثنة إنها
أخذت علي مواثقا وعهودا
وكيف يأمرنا الواعظ بحسن المعاملة وهو نفسه أسوأ مثل للمعاملة؟ وكيف تمتلئ قلوبنا خشية من واعظ منافق يأمر بما لا يأتمر به ويقرر ما لا يفعل؟! وكيف نخلد بثقتنا إلى رجل:
طلب الخسائس وارتقى في منبر
يصف الحساب لأمة ليهولها
ويكون غير مصدق بقيامة
أضحى يمثل في النفوس ذهولها
نعم، كيف نصغي إلى واعظ وصفه أبو العلاء وأبدع في وصفه فقال:
رويدك قد غررت - وأنت ندب -
بصاحب حيلة يعظ النساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها - على عمد - مساء
يقول «لقد غدوت بلا كساء
وفي لذاتها رهن الكساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى
فمن جهتين - لا جهة - أساء
فإن كان بعض الوعاظ يحسب أن ما يقترفه سرا من الشنع مستور غير معروف ولا ذائع فما أشد ضلالته ووهمه! قال كاتب إنجليزي:
إذا دار بخلدك - لحظة واحدة - أن أخفى أسرارك التي تحرص عليها وتمعن في تكتمها لم يعرفها الناس جمعاء فقد خدعت نفسك خداعا بينا.
وقال الشاعر العربي:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أيها السادة:
لقد استفاد الناس من أخلاق النبي، وأعماله أضعاف ما استفادوا من أقواله ومواعيظه.
كذلك كان الصحابة والخلفاء الراشدون أمثلة عملية للأخلاق الفاضلة؛ فاستفاد الناس من أفعالهم أضعاف ما استفادوه من أقوالهم.
ألا ترون مثلا إلى عمر بن الخطاب يجلد ولده - عقابا له - ولا يتهاون في إقامة الحد عليه؟
ثم ألا ترون إليه وهو يعنف ابن العاص بقولته الحكيمة المأثورة: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
ألا ترون إليه تخطئه امرأة؛ فتحجه فيعترف لها بالغلبة ويذعن للحق إذعانا ويقول قولته المشهورة: «أخطأ عمر وأصابت امرأة.»
وليس هذا إلا مثلا من أمثلة عدة يعيينا أن نتقصاها.
ألا ترون إلى «كاميل فلاماريون» مثلا كيف عاقب نفسه بغرامة وقد كان قاضيا فأصدر على نفسه حكما كما يصدره على عامة الناس.
ألم تسمعوا قصة القاضي الذي أهانه ابن مليكه وهو في منصة القضاء؛ فزج به في السجن؛ فلما علم الملك بذلك فرح أشد الفرح وقال: «الحمد لله الذي جعل في بلادي قضاة يقيمون العدل حتى على ولدي نفسه!» •••
هذه - أيها السادة - أمثلة عملية قليلة من أمثلة كثيرة يجدر بمن يتصدون للنصح أن يتخذوها نموذجا لهم؛ ليكونوا جديرين بوعظ الناس وإرشادهم، فإن الناس يستفيدون من النموذج العالي أكثر مما يستفيدون من الحكم والمواعيظ الخطابية.
وفي قدرة كل منكم أن يكون مثلا أعلى لأبنائه، وأفراد أسرته، وعشيرته، وجيرانه؛ ليقلدوكم في ذلك. •••
وأنا أضرب لكم مثلا يبين لكم فائدة هذه النماذج الصالحة: وجدت أبي - وأنا طفل - لا يكاد يترك الكتاب من يده، فأحببت أن أكون مثله وقلدته في ذلك حتى أصبح ذلك دأبي إلى الآن، وانقلب التطبع طبعا أصيلا، ووجدته يصل الرحم فقلدته في ذلك، ولو رأيته - على عكس هذه الصفات - لقلدته فيها كذلك، وما أصدق قول القائل:
مشى السرطان يوما باعوجاج
فقلد شكل مشيته بنوه
فقال: علام تنحرفون؟ قالوا:
بدأت به فنحن مقلدوه
فخالف سيرك المعوج واعدل
فإنا - إن عدلت - معدلوه
أما تدري أبانا كل فرع
يجاري بالخطى من أدبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه!
فما أجدر وعاظنا ومرشدينا أن يعنوا بهذه الحقيقة، فلا يكتفي الواحد منهم بسرد تلك الألفاظ الميتة التي ألفوا ترديدها في خطبهم، مقتصرا على تلاوة عبارات مرصوفة محفوظة واصطلاحات عتيقة بالية لا تعبر عن نفسه؛ فإن من يسلك هذه الطريق مسيء لا محسن، ورب داع إلى الفضيلة هو - على الحقيقة - أشد خطرا عليها من ألف داع إلى الرذيلة. •••
وأنا أختم هذه المحاضرة بالقصيدة التالية التي تلخص لكم أثر الوعظ الكاذب في النفوس - وقد ترجمتها عن الفرنسية - وأظنها تعبر عن ذلك المعنى أدق تعبير.
الباز واللقلق
قنص الباز قنبره
وعلا البشر منظره
فانبرى لقلق له
ورمى الباز بالشره
قال: أطلق سراحها
تأت برا ومأثره
صوتها ساحر فلا
تحرم الناس مصدره
ضعفها ظاهر وفي
ك صيال ومقدره
فاحبها نعمة الحيا
ة جميلا فتشكره •••
هزئ الباز قائلا:
سيدي! ألف معذره
غير أني تريبني
فعلة منك منكره
ضفدع بين مخلبي
ك تزجيه كالكره
ضعفه ظاهر، وفي
ك صيال ومقدره
فاحبه نعمة الحيا
ة جميلا فيشكره
إن للخير إن أرد
ت طريقا ميسره
فافعل الخير بادئا
ثم لمني على الشره •••
كم خطيب على المكا
رم قد حث معشره
إن رأى ناكبا عن الخي
ر لحاه وعيره
هنوات الورى يرا
ها ذنوبا مكبره
ثم يلفي ذنوبه
هنوات مصغره
مثل هذا منافق
جعل النصح متجره
نصحه كله خدا
ع وغش وثرثره!
ابن الرومي1
كيف أغفله صاحب الأغاني
لو نطق الدهر هجا أهله
كأنه الرومي أو دعبل
أبو العلاء
ألف أبو الفرج كتابه الأغاني لغرض خاص هو إثبات المائة الصوت التي اختارها المرشد، ثم جره ذلك إلى الاستطراد، فذكر من الطرف والبدائع شيئا كثيرا حتى أصبح كتابه كنزا من كنوز الأدب العربي لا مثيل له.
فإذا أغفل أبو الفرج التنويه بشاعر فحل كابن الرومي، فهل نجد من يحتج له بهذا العذر، وأية دهشة تتملكنا، بل أية حيرة تملأ نفوسنا حين نجيل البصر في هذه المجلدات الضخمة التي تؤلف دائرة معارف أدبية نادرة، فنرى مؤلفها الذي أغفل ابن الرومي قد استطرد أكثر من ألف مرة إلى ذكر من يستحق الذكر ومن لا يستحقه والتنويه بشعراء - إن أجللناهم مرة - نزهنا ابن الرومي عن أن يوضع معهم في ميزان أو يقاس إليهم بمقياس، ورأيناهم - إلى جانبه - أقزاما أمام عملاق!
فإذا زعم زاعم أن شعر ابن الرومي لم يغن به، قلنا له: هذه «مسألة فيها نظر» وليس لدينا الآن ما ندحض به زعمه، فإن أخبار ابن الرومي لم يصلنا منها شيء يذكر، وقد أجمع المؤرخون - أو كادوا يجمعون - على إغفال هذا الشاعر العظيم كما تعمد أبو الفرج أن يغفل ذكره إغفالا يكاد يكون تاما، في حين أنه ملأ الدنيا بأخبار البحتري الذي كان يعاصر ابن الرومي، وأخبار أبي تمام أستاذ البحتري وكثير من معاصريهما، وغيرهم من المشهورين كأبي نواس ودعبل ... إلخ، وقد عني أبو الفرج - في غير كتابه الأغاني - بدواوين من يحبهم من الشعراء؛ فجمع ديواني أبي تمام والبحتري، ورتب ديوان كل منهما على الأنواع - لا على الحروف - كما عني بجمع ديوان أبي نواس!
وتعمد الإغفال ظاهر، فإن أبا الفرج لم يذكر ابن الرومي في كتابه (الأغاني) إلا مرتين، وكأنه لم يذكره إلا ليسيء إليه بدلا من أن يشيد بذكره.
فقد ذكره في الموضع الأول؛ بمناسبة انتحاله بيتا من الشعر لإبراهيم بن العباس،
2
وذكره في مكان آخر من الكتاب؛ بمناسبة نكبة سليمان بن وهب وابنه
3
ليظهر لنا بمظهر الشامت وكلا الموقفين لا يشرف صاحبه.
ففي الموقف الأول: يعرفنا به سارقا منتحلا بيتا من الشعر.
وفي الموقف الثاني: يقدمه لنا هاجيا في غير موقف هجاء؛ ليثبت أبو الفرج - في نفس الصفحة - رثاء البحتري لسليمان بن وهب الذي جود فيه - كما يقول أبو الفرج - ثم يتبع ثناءه على البحتري بإطرائه إبراهيم بن العباس، والإشادة بذكره!
فإذا لم يكن ذلك إغفالا فهو عندنا شر من الإغفال، وإذا لم يكن أبو الفرج الأريب الفطن الراوية قد تعمد الإساءة إلى ابن الرومي فكيف يكون تعمد الإساءة بعد ذلك؟ •••
لم يكن ابن الرومي خاملا في عصره حتى يقتصر أبو الفرج على رواية أربعة أبيات من شعره في هذه الموسوعة الضخمة، وقد زعم بعض الأدباء أنه كان خاملا وهو وهم يفنده الواقع، فلم يكن ابن الرومي خاملا - لا في عصره ولا بعده - ولكنه كان مكروها من الناس؛ لإفحاشه في الهجاء حتى لم يكد يسلم من لسانه إنسان له خطر!
4
فإذا قال قائل: «ولماذا نوه أبو الفرج بدعبل وذكر كثيرا من أخباره وهو كابن الرومي في سلاطة اللسان والإقذاع في الهجاء؟»
قلنا: إن عصر دعبل قد تقدم عصر ابن الرومي بقليل وقد مات من أساء إليهم دعبل وقل حقد الناس عليه، فلم يبق هناك بأس من الإشادة بذكره والتنويه بفضله.
أما ابن الرومي فقد أساء إلى أعيان الدولة، وكبار رجالها، كما أساء إلى شيوخ الأدب وزعماء الشعر، ولم تزل إساءته - إلى زمن أبي الفرج - عالقة بالأذهان. ولا زال بعض من أفحش ابن الرومي في هجائهم عائشا في زمن أبي الفرج، وربما كان من بينهم أقاربه، وأصدقاؤه، ولقد كان أبو الفرج من المتشيعين، وكان ابن الرومي متهما بالتشيع، ولم تكن هذه الصلة شفيعا له عنده ولا سببا يدعوه إلى التنويه بذكره. (1) هجاء البحتري والأخفش
ولقد هجا ابن الرومي البحتري الشاعر هجاء مقذعا وأفرط في شتمه، وكان للبحتري مكانة بين أعيان الدولة، وكبار رجالها - حتى بعد موته - وقد رأيت أن أبا الفرج كان يحبه ويشيد بذكره ويعنى بآثاره ... ولا يتسع هذا المقام الضيق للإسهاب في ذلك وشرح الأسباب التي دعت إليه، فلنجتزئ بقوله في هجائه من قصيدة:
قد قلت إذ نحلوه الشعر: حاش له
إن البروك به أولى من الخبب
وفيها يقول:
وحسبه من حباء القوم أن يهبوا
له قفاه - إذا ما مر - بالعصب
5
ثم يقول:
الحظ أعمى ولولا ذاك لم تره
للبحتري بلا عقل ولا أدب
وفي هذه القصيدة يقول:
قبحا لأشياء يأتي البحتري بها
من شعره الغث بعد الكد والتعب
كأنها حين يصغي السامعون لها
ممن يميز بين النبع والغرب
رقى العقارب أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب
وقد يجيء بخلط، فالنحاس له
وللأوائل ما فيه من الذهب
سمين ما نحلوه من هنا وهنا
والغث منه صريح غير مجتلب
يسيء عفا، فإن أكدت وسائله
أجاد لصا شديد البأس والكلب
ثم يقول:
عبد يغير على الموتى فيسلبهم
حر الكلام بجيش غير ذي لجب
ما إن تزال تراه لابسا حللا
أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب
شعر يغير عليه باسلا بطلا
وينشد الناس إياه على رقب
إلى آخر هذه القصيدة الطويلة التي لا نسمح لأنفسنا بنقل ما ورد فيها من الهجاء المقذع، والفحش الشنيع في مثل هذا المقام، فليرجع إليها القارئ في ديوانه إذا شاء. •••
ولا تنس هجاء ابن الرومي للأخفش - أستاذ أبي الفرج - فقد كاد ابن الرومي يقف حياته على هجاء الأخفش، وكاد الأخفش يقف حياته على التشنيع به والزراية عليه، فلا غرو أن يغرس الأستاذ في نفس تلميذه بذور الكراهية والبغض لابن الرومي - منذ الصغر - أو يغضب التلميذ لأستاذه فيتعمد إغفال من جعل همه الأول شتم أستاذه والتشهير به «وآفة الرأي الهوى!» •••
وإلى القارئ شيئا من هجاء ابن الرومي للأخفش ليتبين صحة ما ذهبنا إليه، قال من قصيدة طويلة رائعة:
قلت لمن قال لي: عرضت على الأخ
فش ما قلته فما حمده
قصرت بالشعر حين تعرضه
على مبين العمى إذا انتقده
ما قال شعرا ولا رواه، فلا
ثعلبه كان، لا ولا أسده
فإن يقل: «إنني رويت» فكالدف
تر جهلا بكل ما اعتقده
أرمت زيني بأن تعرضني
لمدحه؟ فالذليل من عضده
أم رمت شيني بأن تعرضني
لثلبه؟ فالسليم من قصده
إلى أن قال:
شعري شعر إذا تأمله الإن
سان ذو الفهم والحجا عبده
لكنه ليس منطقا بعث الله
به آية لمن جحده
ولا أنا المفهم البهائم والطي
ر سليمان قاهر المرده
وما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقرده
ثم قال بعد أبيات:
لا رحم الله أم أخفشكم
ولا سقى قبر والد ولده
ماذا عليه وقد رأى ولدا
أعور جم العوار لو وأده!
سأسمع الناس ذمه أبدا
ما سمع الله حمد من حمده
وفي هذه القصيدة أيضا من هجر القول ما لا يسمح بذكره المقام.
وقال من قصيدة أخرى:
لا يأمنن السفيه بادرتي
فإنني عارض لمن عرضا
عندي له السوط إن تلوم في السي
ر وعندي اللجام إن ركضا
وفيها يقول:
أضحى مغيظا على أن غضب الل
ه عليه ونلت منه رضا
قولا له: ينطح الجدار إذا أع
يا، وصم الصفا إذا امتعضا
ولا يحمل ضعيف منته
حربي، فما مثله بها نهضا
إلى أن يقول:
أقسمت بالله لا غفرت له
إن واحد من عروقه نبضا
فإذا ذكرنا - إلى ذلك الهجاء المقذع - أن في التنويه بابن الرومي إساءة إلى جمهرة من أعيان الدولة، وكبار رجالها الذين هجاهم ابن الرومي أو هجا آباءهم - كما أسلفنا القول - عرفنا السر في هذا الإغفال.
هوامش
ما رأيك؟1
عجوز أظهرت دهشا كبيرا
أتعرف كل دهشتها لماذا؟
شرت لقرينها خبزا، فلما
أتت ألفته مات، فكان ماذا؟
شرت كفنا له توا وعادت
فألفته صحا، دهشت لهذا
أبو العلاء المعري في لزومياته
أبو العلاء رجل سوداوي المزاج؛ ممعن في السخط على الحياة، بالغ في سخطه وبرمه مدى لا يشركه فيه إلا القليل النادر من الفلاسفة المتشائمين.
وهو مطلع واسع الاطلاع على آداب أكثر الأمم التي نقلت آدابها إلى العربية، وعالم واع أخبارها، صادق حين يقول:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أخبارهم طرف
وهو - مع هذا العلم الغزير بتواريخ الأمم المختلفة، والرواية الواسعة لآدابهم المتباينة - ممحص فطن خبير بتمييز الأخبار، دقيق في نقد زائف القول من صحيحه.
وأبو العلاء مفكر؛ عميق التفكير، ملهم المعنى ملقى الحجة، وعالم من أكبر أساطين اللغة المشهود لهم بالسبق والتفوق.
وهو - إلى ذلك - شاعر فنان، عريق في الفن، عارف بروائعه، خبير بأسرار الجمال، ومواطن الجلال، وهو حر الفكر واسع الخيال فياض المعاني مشرق الديباجة لا يعوقه عن بلوغ غايته شأو، ولا يقف في سبيله حاجز. •••
هذه الميزات الباهرة هي أول ما يبدهك من شعر أبي العلاء - الحافل بروائع الفن والفلسفة - حين تقرأ كتاب اللزوميات؛ فتطالعك كل صفحة منه بما يزيدك اقتناعا بتلك المزايا العالية التي أفردت أبا العلاء فأحلته أسمى مكان بين شعراء العربية جميعا، وتعاونت على تكوين شخصيته الجذابة فمازته من بين جبابرة الفكر وأساطين الفن المبرزين.
وأي روض من رياض الفكر، أحفل بروائع الفلسفة والفن من ذلك الروض الفكري البهيج الذي تتملى به في كل صفحة من صفحات اللزوميات؛ إذ تقرؤها فتطالع فيها سفرا من أسفار الحياة حافلا بأسمى وأروع ما يبدعه العقل الإنساني، ونتمثل فيها الخوالج النفسية واضحة جلية، لا لبس فيها ولا إبهام. •••
اقرأ كل صفحة من صفحات الكتاب بروية وأناة، وأنا الزعيم لك بأنك لن تجد إلا ما حدثتك عنه من الروعة والجلال، فإذا حال دون إمتاعك به كلمة غريبة عنك، أو لفظة تنبو عنها أذناك، فحذار أن تعجل بالحكم على الرجل قبل أن تتثبت من وجهها الصحيح، فليس هذا ذنبه، وليس من العدل أن يؤخذ بتبعته، وإنما إثم ذلك عائد إلى تسرعنا في الحكم أو قلة محصولنا اللغوي، أو عدم إلمامنا بقسط كاف من تاريخ الأمم العربية والأمم الأخرى التي أثرت في تاريخها، وفي أدبها معا، أو قصورنا في درس جغرافية تلك البلاد. •••
وليس على أبي العلاء إثم إذا عثرت كذلك في شعره بكلمة غريبة، وتبادرت إلى ذهنك كلمة حسبتها أليق منها وأبلغ في أداء المعنى ، فمضيت في حكمك لا تلوي على أحد!
نعم! فإن الرجل دقيق يعني ما يقول، وليس مغرورا يولع بالبهرج، ولا منافقا يكذبك نفسه، ولا قليل البضاعة يزجيها عليك؛ ولكنه رجل واسع الفكر بعيد المرمى، وليس أجدر بالروية والأناة من قارئ الأدب العلائي، فإذا وقع بصرك على مثل قوله:
لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته
فقير معري، أو أمير مدوج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة
ويحرم قوتا واحد وهو أحوج
فتبادر إلى ذهنك أن كلمة «مدوج» ثقيلة على السمع، وأن التزامه الإغراب هو السر في التجائه إليها، وأنه كان جديرا أن يقول بدلها «متوج». وما أليق هذه الصفة بالأمير! وما أخفها على السمع وألطف مدخلها في القلب ...!
فتريث قليلا، وانظر إلى المعنى - بعد أن فتنك بهرج اللفظ - وخبرني بعد ذلك: «أيقابل عري الفقير تاج الأمير؟» وقل لي بربك: «كم تفقد تلك الصورة الشعرية من الجمال إذا وضع هذا اللفظ بدل ذاك؟» •••
إذن فقد أراد أبو العلاء اللفظة الأولى، وقصد إليها قصدا، ولو كان يتكلم نثرا لأتى بها ولم يرض عنها بديلا، وما أروع تلك الصورة الشعرية الجميلة التي تتمثلها في هذا البيت الدقيق؛ إذ «ترى الشتاء زاحفا بقره ومطره وزمهريره، وترى فقيرا بائسا يستقبل هذا الفصل القاسي عاريا لا يجد ما يدفئه أو يقيه غائلة البرد، ثم ترى - إلى جانبه - أميرا مثريا متدثرا بلحاف فوقه لحاف، لا يكاد يشعر بألم البرد القارس أو يحس زمهريره.
وترى في البيت الثاني مجدودا، تكدست أمامه أقوات أمة بأسرها؛ وإلى جانبه مسكين قد حرم قوت يومه!» •••
حسبنا هذا المثل من أمثلة عديدة يعيينا استقصاؤها ولا يتسع الوقت لذكرها، ولكن حذار أن يدخل في روعك، أو يدور بخلدك - لحظة واحدة - أننا ننزه أبا العلاء عن الزلل؛ وأننا نطلق القول إطلاقا، فنعصمه من كل خطأ أو نزعم له شيئا من ذلك، فإنما هو إنسان قبل كل اعتبار وبعد كل اعتبار.
ولكن كل ما نقوله: إننا ألفنا منه الدقة والإحكام؛ ولم يعودنا الثرثرة، والهذيان، وإننا وضعنا في البوتقة جل ما قدمه لنا من المعادن؛ فألفيناه ذهبا خالصا غير مختلط بنحاس، فإذا شذ من ذلك شيء فهو الفكر الإنساني الذي لا يسلم صاحبه من عثار أو كبوة إلى الأرض - أثناء تحليقه في سماواته العلي - وهو الشعر كالشجر:
ركب فيه اللحاء والخشب اليا
بس والشوك بينه الثمر
ونوجز فنقول: «إننا إذا عددنا نخبة المفكرين، والفلاسفة المعدودين الذين تركوا أوضح أثر في تاريخ الفكر الإنساني والذين هم أبعد الناس عن الإسفاف واللغو، فإن أبا العلاء بلا شك يكون في أعلى ذروة يجلس فيها أساطينهم وجبابرتهم.»
وهذا كلام نؤكد للقارئ أننا نعنيه تماما وأننا نقوله جادين، وأننا أبعد الناس عن المبالغة حين نقرره.
فليس يمتري أحد درس أبا العلاء حق دراسته في أنه قد خط للشعر العربي طريقا جدية فلسفية، وأنه قد أودع لزومياته أسمى المبادئ الاجتماعية، وأرقى أساليب النقد الصحيح، والسخرية الخفية اللاذعة، والدعابة القاسية التي تحوي الجد المر بين ثناياها، والتي تكشف عن النفس الإنسانية، وعن الطبيعة الخالدة سجفها، وأستارها الكثيفة؛ فتجليها في أبهى حللها، وتطلع الإنسان على أخفى خفاياها. •••
وهذه الميزات الباهرة التي نكبرها في «أبي العلاء» والتي نعجب بأدبه من أجلها وندعو الناس إلى الإقبال على آثاره الخالدة؛ ليمتعوا أنفسهم بها، هي وحدها السر في عزوف فريق الأدباء الجامدين عن كتب أبي العلاء، وبغضهم للأدب العلائي والفلسفة العلائية، فإن أذهانهم الضيقة لا تتسع لفهم معانيه العميقة، وصدورهم الحرجة لا تنفسح لحريته البعيدة المدى.
ولا غرو إذا عجزوا عن فهم شعره فنتقصوه وعابوه، فقد ألفوا من الشعر لغوا وهذيانا، ودعابة، وترديد معان سخيفة أنهكها التكرار الممل، ونوعا من الشعبذة الكلامية تلتئم مع طبائعهم الممسوخة وأذهانهم الملتوية الفاسدة. وما أجدر هؤلاء أن يبغضوا شعر أبي العلاء ويعزفوا عنه! وما أخلقهم أن لا يصدعوا أدمغتهم بجده القاسي الذي لا تحتمله أذهانهم اللطيفة! •••
فإذا كان لا بد لهم أن يحفظوا شيئا يتندرون به من كلام أبي العلاء ليتمموا به سلسلة محفوظاتهم الأدبية، فأمامهم بضع قصائد قالها في أول حياته الأدبية - في كتاب سقط الزند - وتبرأ منها في مقدمته؛ كقوله مثلا:
إذا خفقت لمغربها الثريا
توقت من أسنته اغتيالا
وقوله:
ولو أن الرياح تهب غربا
وقلت لها: «هلا» هبت شمالا
وأقسم لو غضبت على ثبير
لأزمع عن محلته ارتحالا
وقوله:
يذيب الرعب منه كل عضب
فلولا الغمد يمسكه لسالا
وقوله:
وكأن الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقان
وقوله:
وعلى الأفق من دماء الشهيدي
ن - علي ونجله - شاهدان
إلى آخر ذلك الهذر والعبث الذى يلائم مزاج تفكيرهم وأسلوبهم. •••
على أنهم سيجدون - حتى في هذه القصائد الأولى وأشباهها - بضع أبيات فلسفية رائعة تبغضهم في شعر أبي العلاء، وتستدر نقمتهم على أدبه!
ولكن ما لنا ولهذه الفئة الأمية الفكر الحقيرة الشأن، وقد أوشكت تنقرض وسمعنا صوت احتضارها الخافت، لا شأن لنا بهم بعد أن اكتسحت نهضتنا المباركة أكبر زعمائهم - فيما اكتسحته - وستأتي على الباقين منهم في القريب العاجل!
فلنترك إذن هذه الفئة تحتضر، ولنغتبط برواج الأدب الحي، وانتشار الفن الصحيح بين أبناء الشرق الناهض، فليس أدعى إلى الاغتباط من نفاد طبعات ثلاث من هذا السفر الأدبي النفيس، وشدة الإلحاح المتواصل في طلبه.
وما أجدر الأدباء بذلك، وما أجدر الأدب العلائي أن يجذب إليه أنظار المفكرين في هذا العصر الناهض الحافل بالجد والحياة! وأخلق بذلك الإقبال أن يتخذ دليلا لا يقبل الشك، على صدق نهضة الشرق، وعنايته بالأدب الصحيح، والفن العالي!
وفي بعض هذا ما يفسح مجال الأمل في رقيه، ويدعو إلى التفاؤل الصادق بنجاح سعيه، وإدراك غايته النبيلة التي يسعى إليها بخطواته السديدة، فقد فرغ الباحثون من التدليل على أن كل نهضة لا تعتمد على الأدب زائفة وشيكة الإخفاق، وأن الأدب الصادق أساس كل نهضة حقة، ورائد كل حركة قومية منتجة. •••
وأي أدب أصدق من الأدب العلائي الذي يحوي لب اللباب، ويشرح أخفى الخوالج الإنسانية، ويوضح أدق وأسمى إحساسات النفوس العالية؟
ظلي1
أنت يا ظلي رفيق عمري
أنت يا ظلي عجيب الأمر
كم تطول
ثم تبدو غاية في القصر
أو تزول
ثم تعدو - بعدها - في أثري •••
إن ظلي مشبهي كل الشبه
كلما استيقظت ألفيه انتبه
قافزا خلفي - طورا - وأمامي
صامتا لم يدر ما معنى الكلام
حركاتي كلها يأتي بها
لا يبالي سهلها من صعبها •••
أنت قد حيرتني في أمري
أنت خلفي - حين أجري - تجري
أنت - إن أبطئ - بطيء السير
أي نفع لك؟ لست أدري
الخسوف والكسوف 1
(1) ذعر الأقدمين منهما - وبضع أساطير الأولين عنهما
لا نكاد نسمع - في هذه الأيام - بقرب حدوث خسوف أو كسوف؛ حتى نترقبه بفارغ الصبر، فإذا وقع اندفعنا إلى رؤيته متهافتين تحفزنا الرغبة العلمية الصحيحة، أما في غابر الأزمان فقد كان للناس شأن آخر - على نقيض ذلك - إذ لم يكونوا يفهمون لحدوثهما معنى؛ إلا الإنذار بوقوع نكبات وويلات عاجلة.
أثر الخسوف في جيش الإسكندر
ولقد كاد يتحتم الفشل على الإسكندر في موقعة «إربل»، وكاد يكتب لجيشه الخذلان بسبب الخسوف؛ إذ جن الليل، وخسف القمر على مرأى من رجال الجيش الذين أيقنوا أنه نبوءة صادقة بالهزيمة؛ فدب الخوف في قلوبهم، وسرى الوهن والفتور إلى عزائمهم، لولا ما بذله الإسكندر من جهد في تسكين روعهم، وإعادة الحماسة إليهم، وليس هذا إلا مثلا واحدا لما كان يسود الناس في تلك الأزمان من الأوهام التي نجمت عن جهلهم علم الفلك، وقوانين الطبيعة.
أثر الخسوف في نجاح كولمب
ويذكر لنا المؤرخون الذين كتبوا عن اكتشاف أمريكا، أن «خرستوف» مدين بحياته وحياة رجاله لعلم الفلك، ولولاه لماتوا جوعا، فقد نفدت ذخيرتهم في «جمايكا»، وضن عليهم الأهلون بالزاد لما كانوا يشعرون به من الكراهية لهؤلاء الغرباء، وكان «كولمب» يعلم أن القمر لا بد أنه مخسوف في الليلة التالية؛ فجمع رؤساء العشائر وخطبهم متوعدا إياهم بشر النكبات إذا أصروا على عنادهم وأبوا أن يلبوا طلبته، ومما قاله لهم: «سترون غدا مبلغ سلطاني على الطبيعة؛ حين أبدأ بحرمان بلادكم ضوء القمر!»
والحق أن رؤساء القوم قد ساورهم القلق حين سمعوا منه هذا الوعيد، وتملك نفوسهم ذعر غامض لا يعرفون كنهه، فقد كانوا يخشون سطوة هؤلاء البيض الذين جابوا الأرض والمحيط حتى وصلوا إليهم، على أنهم أخفوا ذلك القلق، وأظهروا «لكولمب» كثيرا من التجلد؛ إذ لم يدر بخلدهم أن قوته - مهما عظمت - تستطيع أن تغير من نظام الشمس أو القمر؛ فخرجوا من عنده يهزون أكتافهم ساخرين.
فلما حانت الليلة التالية ورأوا بأعينهم ضوء القمر يتضاءل ثم يتلاشى بعد ذلك خلع الذعر قلوبهم؛ فأسرعوا ضارعين إلى «كولمب» أن يرفع عنهم تلك النقمة. وبهذه الحيلة ظفر «كولمب» بكل ما يحتاجه من الزاد بعد أن وعدهم بإرجاع الضوء إلى القمر في الحال، وما كادوا يبصرون البدر مؤتلقا زاهيا في السماء بنوره الفضي حتى آمنوا بقدرة «كولمب» وهيمنته على عناصر الطبيعة كلها.
2
أمثلة من خرافات المتقدمين
ولقد كان المتقدمون - سواء منهم الغربيون والشرقيون - يذعرون أشد الذعر كلما وقع كسوف أو خسوف، وكان للخرافات عندهم سوق رائجة؛ وإليك بعض ما كانوا يتناقلونه ويؤمنون بصحته من تلك الأساطير:
كان يعتقد بعضهم أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا إذا وقعا فريسة لشرير من العمالقة أو المردة التي تسعى لالتهامهما، فكان «الأوريون» ينسبون ذلك إلى مارد عملاق اسمه «مابويا»، يعزون إليه كل ما يصيبهم من شر أو يحل بأرضهم من طوفان أو بلاء، بينما يتخيل «الهندوس» أن ذلك المارد على صورة حية هائلة، ويعتقد جيرانهم أنه نمر غاية في الضخامة، ويتمثله آخرون كلبا عظيم الجرم من كلاب البحر؛ أما أهالي سومطرة وملقا فكانوا يدينون بأن القمر والشمس لا ينكسفان إلا لأن حية كبيرة تلتف حول أحدهما لتخنقه.
3
وفي أساطير بعض الأمم «أن الشمس والقمر امرأتان، وأن النجوم بنات القمر، وأن الشمس قد كان لها في غابر الزمان بنات كبنات القمر.»
قالوا: «ثم خشيتا
4
أن يعجز الناس عن احتمال كل هذا النور والحرارة؛ فاتفقتا على أن تأكل كل منهما بناتها، أما القمر فنكثت بعهدها، وأخفت بناتها عن عين الشمس التي برت بوعدها ولم تتردد في أكل بناتها، على أنها لم تكد تفعل حتى أظهرت القمر بناتها من مخبئهن؛ فلما رأت الشمس ذلك غيظت من القمر، وأنشأت تطاردها لتقتلها، ولا تزال كذلك إلى اليوم، وقد تدنو منها فتعضها وهذا هو الخسوف.»
رأي الهنود في النيرين «ومن سنة بعض حكماء الهنود - فيما يقول الشهرستاني - أنهم إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها، وقالوا: «ما أحسنك من نور ! وما أبهاك وما أنورك! لا تقدر الأبصار أن تلذ بالنظر إليك!
فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح، وإياك نطلب، وإليك نسعى لندرك السكنى بقربك، وننظر إلى إبداعك الأعلى، وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر - أنت معلول له - فهذا التسبيح وهذا المجد له، وإنما سعينا وتركنا جميع لذات العالم لنصير مثلك، ونلحق بعالمك، ونتصل بمساكنك. إذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال فكيف يكون بهاء العلة وجلالها ومجدها وكمالها؟! فحق لكل طالب أن يهجر جميع اللذات ليظفر بالجوار بقربه، ويدخل في غمار جنده وحزبه».
5
وفي الهند فرقتان تعبد إحداهما الشمس، والأخرى القمر:
عبدة الشمس: «فأما عبدة الشمس - كما يقول الشهرستاني - فقد زعموا أن الشمس ملك من الملائكة، ولها نفس وعقل، ومنها نور الكواكب وضياء العالم، وتكون الموجودات السفلية، وهي ملك الفلك يستحق التعظيم والسجود والتخير والدعاء.
ومن سنتهم أن اتخذوا إليها (صنما) بيده جوهر - على لون النار - وله بيت خاص باسمه، وقفوا عليه ضياعا وقرابين، وله سدنة وقوام، فيأتون البيت ويصلون ثلاث كرات، ويأتيه أصحاب العلل والأمراض فيصومون له ويصلون ويدعون ويستشفون به».
5
عبدة القمر: «وأما عبدة القمر، فقد زعموا أنه ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأمور الجزئية فيه، ومنه تتضح الأشياء المتكونة واتصالها إلى كمالها، وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات، وهو تلو الشمس وقرينها، ومنها نوره، وبالنظر إليها زيادته ونقصانه.
ومن سنتهم أن اتخذوا صنما - على صورة عجل - وبيد الصنم جوهر. ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه، وأن يصوموا النصف من كل شهر ولا يفطروا حتى يطلع القمر، وهم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن، ثم يرغبون إليه، وينظرون إلى القمر ويسألونه حوائجهم، فإذا استسهل الشهر علوا السطوح، وأوقدوا الدخن، ودعوا عند رؤيته ورغبوا إليه، ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور، ولم ينظروا إليه إلا على وجوه حسنة.
6
وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار؛ أخذوا في الرقص واللعب والمعازف بين يدي الصنم والقمر».
5
كيف كانوا يدفعون عنهم نكبات الخسوف والكسوف
وهكذا كثرت الإشاعات، وتعددت الأوهام، فلم تسلم منها أمة قديمة من سكان المعمورة كلها.
أما الوسائل التي كانوا يدفعون بها تلك النكبات الموهومة التي يترقبون وقوعها زمن الخسوف أو الكسوف فهي كثيرة؛ أهمها أنهم كانوا يتظاهرون - رجالا ونساء - ثم يحدثون أقصى ما يستطيعون من جلبة وضوضاء؛ ليخيفوا تلك الجبابرة - أو المردة - التي تحاول التهام الشمس أو القمر، فكنت ترى - في حيثما ذهبت - رجلا يحمل معه طنبورا أو بوقا، وإلى جانبه امرأة أو فتاة معها دف - أو ما يقوم مقامه إن أعوزها الدف
7 - وربما ربط بعض الأمم كلابهم وانهالوا عليها جلدا بالسياط بكل ما فيهم من قسوة حتى يرتفع عواؤها إلى عنان السماء.
أما الصينيون فكانوا يضيفون إلى ذلك خروج جنودهم إلى ساحات الفضاء متنكبين أقواسهم فلا يزالون يطلقون سهمامهم - بلا انقطاع - رغبة في إنقاذ الكوكب المخسوف.
وقد كان بعض المتقدمين يعلل الخسوف والكسوف - فيما يقول مؤرخو اليونان والمشارقة - بأنه ناجم من طوفان أتي من الجحيم؛ فغمر الشمس أو القمر وسبب الكسوف، وكان هذا الاعتقاد يدفعهم إلى دق النواقيس - في كل مكان - استنزالا للرحمة، وطردا لتلك الأرواح الشريرة التي سببت لهم هذا البلاء.
وكان من عادة الإيطاليين أن يلجئوا إلى ذلك حتى في أوقات اشتداد العواصف. ولم يكن الفرنسيون أقل هلعا من غيرهم عند حدوث الكسوف، فلم تكد تنكسف الشمس في يوم 16 يونية سنة 1406 حتى انخلعت قلوبهم من الذعر، وهرع جمهورهم إلى الكنائس معتقدين أن آخرة العالم قد حانت، مؤثرين أن يموتوا في الكنائس شهداء أبرارا، ولم يكن رعبهم من الكسوف الذي وقع في شهر أغسطس من عام 1654 بأقل من سابقه، ولقد مرض لويس الرابع عشر ملك فرنسا العظيم مرضا خطيرا بسبب ما لحقه من الرعب من كسوف 3 مايو سنة 1715
وكان ذلك خاتمة الحوادث التي أثارها الكسوف والخسوف، ثم استنار الناس وعلموا حقيقة هذه الظاهرة، فلم يعد يخشاها أحد! (2) ابتهاج المتأخرين بهما
ولم يكد يتقدم علم الفلك حتى عرف الناس ما لم يكونوا يعرفون، وأدركوا ما في تلك الأساطير من خطل؛ فتبدل خوفهم أمنا وطمأنينة، ماذا؟ بل انقلب الأمر من النقيض إلى النقيض؛ فأصبحوا يترقبون - بفارغ الصبر - رؤية الكسوف والخسوف، وآية ذلك ما أظهروه من الغبطة والفرح بالكسوف الذي وقع في باريس يوم 22 مايو من سنة 1724؛ فقد حدث ذلك قبيل الغروب، وكان بدؤه في الساعة 5:35:18 مساء، وقبل أن تنقضي ساعة أصبح الكسوف تاما، وغطيت صفحة الشمس كلها بظلام دامس؛ فبدل النهار ليلا حالك الإهاب، وظهرت النجوم في السماء، ولكن فرح الجمهور المتلهف لم يطل، فقد أرخى الليل سدوله - بعد دقيقتين - قبل أن يتملى الناس برؤية هذا المنظر الرائع - منظر خروج الشمس من ذلك الظلام الحالك الذي غطى صفحتها - فقد توارت عن العيان، ومالت إلى الأفق الغربي بين أسف الجمهور ولهفته، وكان رجال البلاط قد أعدوا عدتهم لرؤية ذلك الكسوف، وجلسوا في أعلى مكان في القصر الملكي - ومعهم نظاراتهم الفلكية - وفي وسطهم الملك الشاب «لويس الخامس عشر»، وكانت سنه حينذاك أربعة عشر عاما، وجلس إلى جانبيه الفلكيان الشهيران اللذان يعدان أكبر رجال الفلك في ذلك العصر؛ وهما «جاك كاسيني» و«جاك مور الدي»، فكان لويس يشهد ذلك الكسوف من خلال مرقب كبير أمامه، وكان يسمع منهما غرائب ما يشرحان له من طرائف علم الفلك بأذن سميعة وقلب واع، ولم يكد ينتهي ذلك الكسوف حتى أعقبته فكاهة طريفة ظلت حديث عصره ردحا من الزمن: فقد رأى الملك سيدتين من سيدات البلاط تقبلان في اللحظة التي غربت فيها الشمس، فقال لهما مازحا: «لقد فاتكما هذا الكسوف، فانتظرا الكسوف التالي بعد قرنين.» ولكن إحداهما ابتدرته قائلة بسذاجة نادرة: «كيف؟ ألا يستطيع «كاسيني» الفلكي إذا أمرته جلالتكم أن يعيد لنا تلك الظاهرة من جديد؟»
فأغرب الملك في الضحك وتبعه رجال حاشيته في ذلك مجاراة له، ولم يفت أحد ظرفاء ذاك العصر أن ينظم أغنية جميلة ضمنها تلك النادرة!
وقد شغل الناس بالحديث عن ذلك الكسوف زمنا ما؛ فنسوا كل كلام سواه، وعلقوا على صدورهم شارات رمزوا بها إلى الكسوف، وصنعوا ألوانا من الحلوى أطلقوا عليها اسم الكسوف؛ منها رقاقة ابتكرها تاجر من تجار الحلوى أسماها «رقاقة الكسوف»، وهي رقاقة بيضاء مغطاة بطبقة سوداء من الشكولاته، رمزا إلى نور الشمس المكسوف، كما مثلوا على المسارح كوميديا ذات ثلاثة فصول اسمها كوميديا الكسوف!
وفي هذا أكبر دليل على مقدار ما وصل إليه ابتهاج المتأخرين بالكسوف واحتفائهم بوقوعه. •••
على أن الفلكيين كانوا في حاجة إلى الاستزادة من الدرس؛ فأخذوا يترقبون بفارغ الصبر وقوع كسوف آخر.
ومضى على ذلك ثلاثة أرباع قرن سهلت في أثنائها المواصلات، وأصبح من اليسير على العلماء أن يسافروا إلى أي مكان يقع فيه الكسوف، فلم يفتهم أن يذهبوا إلى أواسط فرنسا لمشاهدة كسوف 8 يوليو 1842، ولمشاهدة الكسوف الذي وقع في «الماليزيا» و«الهند» في 18 أغسطس سنة 1868. ورحل العلماء من كل صوب لرؤية الكسوف الذي وقع في إسبانيا وشمال أفريقيا في 30 أغسطس سنة 1905، وكان كسوفا كليا توفروا على درسه بروية واطمئنان.
وفي السابع عشر من شهر إبريل سنة 1912؛ وقع في فرنسا كسوف لا يقل خطره عن كسوف سنة 1724 الذي أسلفنا ذكره؛ فخف سكان باريس وغيرهم إلى مشاهدته في الضواحي؛ لا سيما في منطقة «سان جرمان».
فضل الطيران على رجال الفلك
ولا يفوتنا أن نذكر - قبل ختام هذا المقال - أولا فضل أداة الطيران لرجال الفلك، وكيف أعانهم على درس الكسوف الذي وقع في 10 سبتمبر سنة 1923 في «كاليفورنيا»؛ حيث ذهب العلماء من أقاصي الأرض رغبة في درسه، ولقد كاد يعتريهم الخبال ويستسلمون لليأس؛ حين رأوا الضباب يحجب عنهم السماء وشمسها فلا يتبينون شيئا، ولكن العلماء تمكنوا بفضل الطيارات من اجتياز هذه العقبة؛ فحلق سرب مؤلف من سبع عشرة طيارة إلى ارتفاع خمسة آلاف متر، ثم تمكنوا من رؤية السماء، وتصويرها، ونجحوا في إدراك ما يبتغون.
ومع تلك الدجنة الحالكة التي سببها الضباب ، فإن العلماء لم يوفقوا في حياتهم إلى مثل ما وصلوا إليه في هذه المرة - بفضل الطيران - من النتائج الباهرة!
8
هوامش
آلام الفقير1
سألني الغني: «مم يتألم الفقير؟» فأجبته أن اتبعني - حيث أقودك - وأنا الكفيل بإقناعك! •••
كنا في المساء، وكان منظر الطرقات - التي تراكمت على أرضها الثلوج - يدعو إلى الانقباض والوحشة، وكنا مرتدين لباسا سميكا أحكمنا دثاره لشدة البرد، ولكن ذلك لم ينقذنا من قشعريرته.
وإذا بشيخ مسن مررنا به في طريقنا، ولم يكن في رأسه إلا خصل قليلة من الشعر الأبيض، فسألته: «ما الذي أخرجك من بيتك؟ وماذا تعمل في هذه الليلة القرة؟»
فأجابنا: «حقا إنها ليلة قاسية البرد؛ ولكنني لم أجد وقودا في بيتي فاضطررت إلى مغادرته واستجداء الناس المعونة.» •••
ورأينا طفلة صغيرة عارية القدمين، تسأل الناس بصوت مرتفع جريء، فسألتها: «وماذا تصنعين هنا في هذه الريح الصرصر؟»
فقالت: «إن أبي لا يستطيع مغادرة البيت الآن؛ فقد ألزمه المرض فراشه، وثم اضطررت إلى الخروج أستجدي الناس لعلي أحصل على بلغة
2
من العيش.» •••
ورأينا امرأة جالسة على صخرة تستريح، وعلى صدرها طفلة، وفوق ظهرها أخرى، فسألتها: «وما الذي أخرجك في هذه الريح العاتية؟»
فالتفتت إلى طفلها الذي كان من خلفها، وأمرته أن يكف عن صياحه، ثم قالت لنا: «إن زوجي جندي طوح به القدر إلى مكان قصي، فلم أجد مندوحة عن الذهاب إلى الكنيسة متكففة.» •••
وهنا ألتفت إلى صاحبي الغني - الذي وقف حينئذ واجما - وقلت له: لقد سألتني: «مم يتألم الفقير؟».
وقد أجابك كل هؤلاء! (1) صحبة الكرام
3
شقائق النعمان ضمت مرة
في طاقة الزهر مع القرنفل
فاكتسبت - في لحظة - من طيبه
ومن يصاحب ذا كمال يكمل (2) فخر المجد
4
أنا لا زلت تلميذا صغيرا
ولكني - على صغري - مجد
أسير إلى العلا سيرا حثيثا
وأنشط - نحو غايتها - وأعدو
وليس يضيرني صغري، إذا لم
يثبطني عن العلياء جهد
وما يغفني التي طول وعرض
إذا لم يغنه فهم ورشد
فليس يقاس إنسان بشبر
ليعرف قدره إن جد جد •••
ونبت القمح مرتفع قليلا
ولكن هل له في النفع حد؟
هو القوت الذي نحيا جميعا
به وهو الذي ما منه بد
وقد يعلو سنابله نبات
قليل النفع يعجب حين يبدو
وكم عود من القصب اعتلاه
وما هو - رفعة - للقمح ند
وفخر المرء علم يبتغيه
وإخلاص يحليه وكد •••
وسوف أكون مثل القمح نفعا
وقدما أحرز السبق المجد
نعم، وأحب فعل الخير جهدي
وأسهر للعلا والمجد بعد
وتدرك همتي شرفا ومجدا
وحسبي - غاية - شرف ومجد (3) أثر المصارحة
5
السيد :
هل لي أن أتعرف منك يا «جاك»، ما يقوله الناس عني؟
جاك :
نعم يا سيدي، متى وثقت من أن ذلك لا يهتاجك بحال ما!
السيد :
كلا، لن يضايقني أبدا.
جاك :
عافني من هذا، فإنني على يقين من أنه سيغضبك إغضابا.
السيد :
لا، لا، أؤكد لك لا ... إنه على العكس من ذلك، سيسرني إذ أعرف ما يقال عني.
جاك :
إذا كانت تلك هي إرادتك فإني مصارحك القول يا سيدي: إن الناس ليسخرون منك في كل مكان.
وإنهم ليقذفونك بمئات من النكات من كل صوب، وليس أتم لسرورهم، وأدعى لتفكهتهم من رواية الكثير من الملح والنوادر التي لا نهاية لها عن بخلك المزري.
فبينما يروي عنك أحدهم أنك تعنى بطبع تقاويم خاصة تضاعف فيها أيام الصيام المفروضة؛ لترغم عشراءك على عدم تناول طعام عندك في خلالها.
إذ يحدث عنك آخر أنك على استعداد دائم لخلق شجار بينك وبين خدمك في صبيحة اليوم الذي تطردهم فيه؛ لتجد لك بذلك مندوحة لحرمانهم من أجورهم.
ويقص علينا ثالث أنك كسرت رجل قطة جارك؛ لأنها أكلت فضالة فخذ شاتك.
ويقول عنك رابع: إنك تسللت ذات ليلة لتسرق علف خيلك، ففاجأك حوذيك - الذي كان عندك قبلي - فضربك بهراوته في الظلام. لا أدري كم ضربة من الضربات التي تحملتها مؤثرا ألا تقول لأحد عنها شيئا.
وبعد، أتريد أن أقرر لك أن الإنسان لا يكاد يهتدي إلى جهة واحدة يؤمها دون أن يسمع عنك ما تنوء بحمله من المثالب؟
فأنت المثل السيئ، وأنت الأسطورة المضحكة التي يتلهى بها الناس ، وأنت من لا يتكلم عنه أحد دون أن ينعته بالشحيح، الوغد، البشع، رمز الدنايا!
السيد
يضرب جاك مغضبا :
إنك لأحمق، خبيث، مختبل العقل.
جاك :
لا بأس من ذلك، ولكن ألم أتنبأ بهذه النتيجة من قبل؟ على أنك لم تشأ أن تصدقني حين أكدت لك القول بأن تقرير الحقيقة لا بد مهتاجك!
السيد :
تعلم كيف تقول!
هوامش
فن الكتابة أو كيف ندرس فن الإنشاء1
اقتباس وترجمة
ليست الصعوبة - التي تعترض الكاتب أو الشاعر - في أن يكتب أو ينظم في أي موضوع شاء؛ بل الصعوبة كلها في أن يقول ما يعنيه بالضبط في هذا الموضوع.
هكذا يقول بعض كتاب الإنجليز وأساطين مدرسي الإنشاء، وقد استشهدنا بهذا القول في مقدمة ديوان ابن الرومي حين عرضنا للكلام على دقته التي امتاز بها في شعره، كما استشهدنا بقول الشاعر العربي:
وفضلني في القول والشعر أنني
أقول على علم، وأعلم ما أعني
وهذه هي الغاية الجليلة التي يجب أن يفوق إليها كل رام سهامه ويجعلها نصب عينيه وحفل أذنيه، وهي الغاية التي نريد أن نبين الطريق المؤدية إليها، تاركين الكلام إلى أساتيذ التربية، وكبار المنشئين الذين قضوا حياتهم في تدريس هذا الفن الجليل، ملخصين آراءهم حينا، ومقتبسين بعض عباراتهم حينا آخر؛ رغبة في الاختصار الذي تحتمه علينا هذه المقالات الموجزة، وإلى القارئ خلاصة هذه الآراء: (1) تمهيد
أول ما نرمي إليه بتأليف هذا الكتاب هو أن نرسم لطالب الإنشاء خطة واضحة المحجة، ونبين له منهجا يترسم خطاه؛ ليصل إلى غايته رأسا، دون أن يضيع وقته عبثا في تمارين، لا نقول: إنها عديمة الفائدة فحسب، بل إنها - على الحقيقة - عائق يقف حجر عثرة في طريقه، ويحول دون نجاحه في الكتابة الصحيحة التي ينشدها.
أما التمارين التي نعنيها بهذا النقد فهي تمارين الإعراب، وتصريف الكلمات، وحل الجمل حلا لفظيا لا طائل تحته، فهذه - في نظرنا - وسيلة عقيمة بينة الخطل محققة الفشل، وهي كالمستنقع الضحضاح المملوء بالوحل، لا يستطيع السالك أن يسبح فيه أو يمشي.
ولبعض المؤلفين ولع شديد بإرهاق النشء بما يكدسه أمامهم من القواعد النظرية التي يحاول أن يقررها في أذهانهم ويجعل منها ضابطا لا معدي للطالب عنه ولا مفر من اتباعه، وليس ذلك من همنا، فلنترك النظريات التي يستحيل اتباعها عمليا مولين وجهنا شطرا آخر؛ فنعمل على أن نثبت أقدامهم، ونمكنهم من الكتابة التي تجمع بين الرشاقة والقوة، وتكون - إلى ذلك - خالصة من الشوائب دقيقة التعبير حسنة الأداء.
وللوصول إلى هذا طريق عملية واحدة؛ هي الإكثار من التمارين الإنشائية، إلى حد قد يظنه البعض غير ضروري، أو يرى فيه إسرافا لا داعي إليه - إسرافا في الجهود وإسرافا في الزمن - ولكن سلوك هذه الطريق الطويلة ضروري لا مناص منه، وليس طول الطريق دليلا على أن الطريق الأخرى - التي هي أقصر منها - خير منها.
ألا ترى إلى طالب العود أو البيانو؟ قل لي بربك: كم عاما يقضي في سبيل غايته؟ وكم من الزمن يمر عليه حتى يصل إلى درجة الإتقان، أو - على الأصح - حتى يدنو من درجة الإتقان؟
وإذا كان ذلك كذلك، فما بالك بمن يتطلع إلى إتقان الكتابة، والتصرف في فنون القول؟ ما بالك بمن تطمح نفسه إلى مثل هذا المطلب الوعر؟ وكم من السنين يجدر به أن يقضيها حتى يصل إلى غايته؟ «ومن يخطب الحسناء لم يغلها مهر.»
ما بالك بمن يريد أن يمتلك ناصية البيان، ويسمو بأسلوبه عن الركاكة، واللبس والتعقيد، وما إلى ذلك من عيوب الكتابة وصعاب اللغة، ويجمع - إلى ذلك - ذوقا فنيا عاليا.
أضف إلى ذلك أن من يريد أن يتعلم فن الإنشاء إنما هو - على الحقيقة - يريد أن يتعلم كيف يفكر، فهو في بحثه عن الكلمة الصحيحة الفصيحة، وتخيره الأسلوب الدقيق الأداء الموفق التعبير، يسلك كثيرا من شعاب القول وفنونه، ويمر بمنعرجاته ومنعطفاته الكثيرة، باحثا منقبا عن الفكرة المنشودة، متخيرا من بينها أمثل طريق، وهو بهذا يتعلم كيف يتعرف الخطأ والصواب، ويميز بين الحسن والأحسن، وكلما سار في هذه الطريق، تفتحت أمامه كنوز اللغة وفرائد المعاني، وكان مثله كمثل «سول» ذلك الفتى الذي تحدثنا الأساطير أنه ذهب يبحث عن جحوش أبيه وعيرانه فظفر بملك عظيم. (2) تمارين الإنشاء
أما تمارين الإنشاء فيجب أن تكون قصيرة، وأنا ألحف في الرجاء أن يعنى حضرات المدرسين بهذا الأمر كل العناية، وأن يجتنبوا دائما المقالات الطويلة، بل أن يحرموها على طلبتهم بتاتا؛ ذلك أنها منهكة لقواهم، مضيعة لوقت المدرسين بلا طائل، وهي - إلى ذلك - تعود الطلبة أن يجمحوا كثيرا، وربما تركوا جوهر الموضوع - كما يحدث ذلك أحيانا - وبعدوا عن أساسه. وشر عيوب الكتابة الشطط.
أضف إلى ذلك أن التطويل يعود الطالب الإهمال في صوغ عباراته بدقة، كما يعوده الإهمال في تخير الألفاظ؛ فلا ترى له إلا كتابة مفككة الأوصال، ركيكة التعبير، على حين أنه لو كتب موضوعا قصيرا لا يتجاوز عشرة أسطر - أحسن تنسيقها وعني بأدائها خير أداء - لكان ذلك أجدى عليه وأعود بالفائدة من كتابة موضوع مسهب في عشر صفحات قد رصفت فيه الكلمات رصفا بلا روية ولا إحكام. ويجدر بالمدرس أن يرشد الطالب إلى الطريق التي يسلكها ثم يدع له وحده تخير الجمل، وصقل الأسلوب.
أما الطالب فهو خليق أن يتخير من الموضوعات والمعاني ما يلائم تفكيره ويتناسب مع ميوله ومداركه؛ حتى يجيد أداءه.
ويجدر بالمدرس أن يصحح التمارين الإنشائية في الفصل - أمام التلاميذ - فإن ذلك أعون على توسيع مدارك الطالب وتنمية عقله، ثم ليقرأ الطالب موضوعه بصوت عال، وتبدأ المناقشة بين المدرس والطلبة في نقط الموضوع، وتبيان وجهات الخطأ والصواب فيه؛ فتتاح للطلبة فرصة الانتقاد، والأخذ والرد، والمناقشة، ويمتلئ الدرس حياة ونشاطا، ويتعود الطلبة الكلام والمحاجة منذ حداثتهم. (3) حوار شائق بين طالب ومدرس
طالب ناشئ يريد أن يصل إلى درجة عالية في فن الإنشاء، ويصبح قادرا على التعبير عن أغراضه بعبارة بليغة وأسلوب دقيق، وقد امتلأت نفسه بهذه الرغبة - التي تملكت عليه مشاعره - فلم يجد أمامه من يسترشد به في معرفة الطريق التي يسلكها للوصول إلى تحقيق غايته غير أستاذه، ولم يكد يوضح لأستاذه غرضه حتى دار بينهما الحوار التالي:
الطالب : «أريد أن أصل إلى درجة عالية في الإنشاء، وأن أصبح قادرا على الكتابة بأسلوب بليغ وعبارة مختارة، فما هي أقرب الطرق إلى ذلك؟»
المدرس : «إن غايتك التي ترمي إليها غاية نبيلة، ومطلبك الذي تسعى إلى تحقيقه مطلب سام جليل، فليس أبهج للنفس من القدرة على أداء الأغراض، والتعبير عن خوالج النفس بعبارة صحيحة بليغة، وسترى من إحكام لغتنا العربية، ووفرة أساليبها، ودقة تعبيرها ما يساعدك على إدراك طلبتك، فلقد تكون لغتنا أغنى لغة في العالم كله!»
الطالب : «ألا تنصح لي بقراءة شيء من الكتب التي ألفت في هذا الفن؟»
المدرس : «كلا كلا! لا حاجة بك إلى قراءة شيء من ذلك أبدا، أو - على الأقل - لا حاجة لك في هذه المرحلة الأولى التي تجتازها إلى قراءة تلك النظريات والقواعد البيانية والبلاغية وما إليها!»
إن كل ما تحتاجه الآن هو المرانة على الكتابة، والتعبير عن أغراضك بأسلوب عربي واضح، ولك أن تمارس ذلك في أي يوم تشاء أو في كل يوم.
وأحب أن أقص عليك تلك الحكاية المشهورة التي يروونها عن سيدة فرنسية كانت مربية لأولاد «لويس الرابع عشر» ملك فرنسا العظيم، لترى فيها المثال الذي أريد أن أنبهك إليه، وخلاصة هذه القصة أن تلك المربية سألت ولدا من أبناء لويس الرابع عشر - هو الدوق دي مين - أن يكتب إلى أبيه كتابا، فقال لها مدهوشا: «أمثلي يستطيع ذلك وأنا لا أعرف كيف أخط جملة واحدة منه؟»
فقالت له المربية: «ألست تفكر في أبيك أحيانا؟»
فقال: «أفكر فيه كثيرا، وأحزن لغيبته الطويلة عني أشد الحزن!»
فقالت له: «هذا حسن! هذا حسن! اكتب له ذلك إذن!
ولكن خبرني، أهذا هو كل ما تفكر فيه؟ ألا تشعر بشيء آخر؟»
فقال: «نعم؛ أود أن أراه، وسأكون سعيدا جدا إذا عاد إلينا من سفره!»
فقالت له: «ها هو كتابك قد تم إنشاؤه، ولم يبق عليك إلا أن تكتب له ذلك وتجعل له افتتاحا وختاما؟»
فقال لها متعجبا: «ما كنت أحسب أن كتابة الرسائل بمثل هذه السهولة! فقد كنت أتخيل أن من يريد كتابة رسالة جدير أن يملأها بألفاظ لغوية، وجمل منمقة لا يقدر على الإتيان بها إلا كبار البلغاء وأساطين الكتاب!»
فقالت له: «لا حاجة بك إلى شيء من هذا، وليس عليك إلا أن تكتب ما تشعر به بأسلوب واضح، وكلمات سهلة بسيطة!» •••
ولعلك تتبين من هذا المثال الخطة التي أريد أن أرسمها لك لتنتهجها في فن الإنشاء.»
الطالب : «وما رأي سيدي الأستاذ في القواعد النحوية، والتمارين الصرفية وما إلى ذلك، ألست مضطرا إلى معرفتها؛ لمراعاتها أثناء الكتابة؟»
المدرس : «كلا، لست في حاجة إلى ذلك كله؛ فستعرف الشيء الكثير منها أثناء الطريق. وأنت - إذا ملأت ذهنك بتلك القواعد في هذه المرحلة، وشغلت نفسك بها - كان مثلك كمثل من يود أن يتعلم المبارزة فيذهب إلى قاعة التمرين حيث يقلدونه حساما؛ فيترك العناية بما جاء لأجله من التدريب إلى الاشتغال بالنظر إلى حسامه وكيفية وضعه، وربما عثر به أثناء التفكير فيه.
يجب أن ينصرف عقلك - أثناء الكتابة - إلى الموضوع الذي تكتبه، وألا يبقى في ذهنك أي فراغ للتفكير في قواعد النحو، والصرف، والبيان حتى لا يشغلك ذلك عن متابعة المعنى، وتقصيه، وتخير الأسلوب الملائم الذي يؤديه أحسن أداء».
الطالب : «ولكنني - إذا فعلت ذلك - وقعت في أغلاط لغوية، ونحوية!»
المدرس : «قد يكون هذا، ولكنك - بلا شك - ستقرأ موضوعك بعد أن تتم كتابته، وهذه فرصة حسنة تعنى فيها بتصحيح ما وقعت فيه من الأخطاء! أما وقت الكتابة فيجب أن ينصرف عقلك إلى التفكير في الموضوع الذي تتصدى للكتابة فيه!»
الطالب : «وما رأي سيدي الأستاذ في تمارين الإعراب والتطبيق - وما إلى ذلك - أليست تساعدني على التفوق على أقراني في الإنشاء؟ ألا ترى فيها مرشدا لي؟»
المدرس : «بل أرى فيها شر مرشد يا ولدي، ويجدر بي أن أوضح لك ما أعنيه في هذه النقطة الدقيقة، وأن أجلي لك وهما يقع فيه كثير من أقرانك:
إن فائدة هذه التمارين - الخاصة بالإعراب والتطبيق ونحو ذلك - تنحصر في شيء واحد، هو تدريب عقلك على تعرف سر تركيب الجمل، وموقع الفاعل والمفعول من الجملة ... إلخ.
ولكن الإنشاء شيء آخر غير هذا كله، شيء يخالف ذلك كل المخالفة، وأوجز ما أقوله لك: إن عملك في الإنشاء هو عكس عملك في الإعراب وتطبيق القواعد النحوية ... إلخ.
ربما خطر ببالك أن التفوق في النحو- الذي يكسبك خبرة صحيحة بمواقع الكلمات من الجمل - سيكسبك نفس هذه الخبرة في إنشاء موضوع ما، وهذا وهم يكذبه الواقع، وتنقضه التجربة؛ فليست هذه القواعد عديمة الجدوى في تفوقك في الإنشاء فحسب، بل هي - إلى ذلك - أكبر عقبة تعترض سبيلك وتعوقك عن التقدم في هذا الفن والنجاح فيه.
وما ظنك برجل يريد أن يعلمك المشي مثلا، فلا يحفل بتدريبك عليه، بل يدع ذلك جانبا؛ ويبدأ بتعريفك كل دقيقة وجليلة من عضل الساق، وسر تركيبها، وعمل كل منها أثناء السير، وتوقف تحريك تلك العضلة على تحريك هذه، إلى آخر ذلك البحث المضني الشاق الذي لا يعنى به إلا المختصون من الأطباء بدراسة التشريح.
إنك تستطيع أن تدرك - بأدنى تأمل - أنك في غير حاجة إلى تفهم كل هذه المباحث العويصة، وأنك في حاجة إلى التمرين - قبل كل شيء - وأن التدريب وحده هو خير الطرق لتعويدك المشي، وحسبك إذا شئت أن تعرف أسماء العضل الرئيسي في الساق تاركا بقية التفاصيل إلى الأطباء المختصين.
ولقد تعلم الناس المشي - منذ آلاف السنين - قبل أن يعرفوا أسماء هذه العضل، ولم يكلفهم ذلك أكثر من محاكاة غيرهم وتقليدهم في ذلك.
واعلم يا ولدي أن المشي والكلام والكتابة غاية في اليسر، وأن كلا من هذه الأشياء الثلاثة لا يكتسب بغير المرانة، وأن على هذه المرانة وحدها يتوقف سر النجاح فيها جميعا.
إن في هذه الكتب - التي يضعها مؤلفوها لتعليم الإنشاء - كثيرا من العجائب إن لم أقل السخافات، مثال ذلك:
اكتب ثلاث جمل في كل منها فعل يتعدى إلى مفعولين، أو ثلاثة مفاعيل، أو نحو ذلك، أنشئ ست جمل مبتدأة أولاها بحرف ألف، وثانيتها بحرف باء ... إلخ. هذا نظام غير طبيعي، وهو نوع من التمارين الإنشائية المتكلفة التي لا تنطبق على حاجتنا في أداء أغراضنا ومعانينا في الحياة العملية، فإن أول شرط في الكتابة أن تكون طبيعية كالكلام والمشي، ولا جرم أن الإنسان - إذا تكلم أو كتب - لا يعنى بأمثال هذه السفاسف، وهو لا يتكلم - أو يكتب - إلا معبرا عما يدور بخلده من المعاني والأغراض، ومن ثم تواتيه الكلمات والجمل - عفو الخاطر - حتى يتم موضوعه دون أن يحفل مطلقا بجعل هذه الجملة قصيرة أو طويلة، فيها أفعال تتعدى إلى مفعول واحد أو ثلاثة مفاعيل، مبتدأة بحرف جيم أو حرف زاي، إلى آخر هذه الصغائر!
وموجز القول أن الإعراب والإنشاء متعارضان كل التعارض، وأن نظام هذا وطبيعته مناقضة كل المناقضة لنظام ذلك وطبيعته.
فعمل الإعراب: هو تفكيك الجملة - بعد أن وجدت - وعمل الإنشاء هو خلق تلك الجملة قبل أن توجد، هذا يفهمك مواقع الكلمات ووظيفتها؛ فيفكك أوصال الجمل للوصول إلى غرضك، وذلك يعلمك كيف تنشئ الجمل إنشاء من العدم لتؤدي المعاني المطلوب أداؤها منك، هذا هدم وذلك بناء، أو - بعبارة أخرى - هذا يمثل الفناء وذلك يمثل الخلق.
واعلم أنك - إذا عنيت بالنحو والإعراب وما إليهما، وشغلت نفسك بمراعاة مواقع الفاعل والمفعول، ونحو ذلك من كل جملة أثناء الكتابة؛ التوى عليك القصد وفسد المعنى، وجاءت كتابتك آية من آيات المسخ والتكلف والتشويه، ووقفت تلك القواعد التي تحسبها معينة لك - عقبة كأداء في سبيل نجاحك وتفوقك في الإنشاء.»
الطالب : «شد ما أدهشني يا سيدي الأستاذ! لقد كنت - إلى هذه اللحظة - أرى قواعد النحو والصرف أكبر معين لي على إدراك طلبتي!»
المدرس : «إنك إذا أتقنت النحو والصرف وصلت إلى نتيجة أخرى، وهي تعرف صحة الجمل، وتمييز الخطأ والصواب فيما تقرأه من الكلام، ولكن هذا كله لا يفيدك في تنظيم أغراضك، ولا يعدل من طريقة تفكيرك وكتابتك، بل أنا أقول لك: إن انشغال بالك بالنحو والصرف، وانصرافك إلى التفكير فيهما - أثناء الكتابة - قد يضرانك أشد الضرر، وربما جعلاك حذرا خائفا تتوقع الخطأ في كل جملة تكتبها أو تقولها.»
الطالب : «إذن يجدر بي أن ألقي بكتب النحو والصرف، وأن أركن إلى نفسي ما دمت في غير حاجة إليها!»
المدرس : «إنك - إن فعلت ذلك - ارتكبت أشنع الخطأ؛ فإن لهذه الكتب فائدة كبيرة، وحاجتك إليها شديدة - على شرط أن تستعملها في مكانها ووقتها الملائمين - ولكن هذه الكتب - بعد ذلك - لا تجدي في الإنشاء، ولا علاقة لها بضعفك أو تفوقك في هذا الفن، لأن النحو شيء والإنشاء شيء آخر!» •••
الطالب : «فبماذا إذن أسترشد، وبأي دليل أهتدي للوصول إلى غايتي في فن الإنشاء؟»
المدرس : «ليس لك إلا مرشد واحد، وهو انتهاج طريق الكتاب الممتازين، والإكثار من مطالعة كتاباتهم، وتفهم أسلوبهم الرصين وعباراتهم الرشيقة، أمامك رجال الفكر العربي، وأساطين الكتاب الممتازين - في مختلف العصور - فاقرأ كلامهم واستوعب كتابتهم؛ فإنك بذلك واصل إلى بغيتك.»
الطالب : «ألا يتفضل سيدي الأستاذ بذكر نخبة يختارها لي من أقوال الكتاب الذين يعنيهم؟»
المدرس : «إنهم كثيرون، وإني أذكر لك من هؤلاء الكتاب - على سبيل المثال - ابن المقفع، وأبا الفرج الأصبهاني، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني، وعبد الحميد.
كما أذكر لك خطب الحجاج وزياد، وأحب ألا تفوتك تلك المحاورات الشائقة التي دارت بين علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان، ولا تلك المراسلات المعجبة التي دارت بين على ومعاوية، فإن أمثال هذه الكتابات آية من آيات الدقة والإحكام، ونموذج عال من نماذج الإبداع، والافتنان!
ولا تنس قراءة كلام النابغين من كتاب عصرك، الذين امتازوا بتوخي الدقة وحسن الأداء، ومتانة الأسلوب؛ هذا إذا أردت التفوق في الكتابة العربية، فإذا وليت وجهك شطر الأدب الإنجليزي وأردت التفوق في الكتابة بالإنجليزية؛ فاقرأ من نوابغهم أمثال «ماكولي» و«فرود» و«كنج ليك».
وجماع القول أن الوسيلة الوحيدة للتفوق في الكتابة بأية لغة - أجنبية كانت أو قومية - هي الاطلاع الدائم على كتابة بلغاء تلك اللغة، وقادة الفكر والبيان فيها، ومحاكاة كتاباتهم بكل وسيلة ممكنة!»
الطالب : «وكيف أستطيع محاكاتهم في كتابتهم؟»
المدرس : «أما طريقة المحاكاة فسهلة هينة وهي:
إذا عثرت على قطعة مختارة لمثل هؤلاء الكتاب الأفذاذ الذين ذكرتهم لك - مما يثير إعجابك - فاقرأها متأنيا فاحصا، واكتب في ورقة بيضاء أهم نقاطها الجوهرية، ثم اترك القطعة التي قرأتها، والورقة التي كتبتها - يوما أو يومين - ثم عد إلى ورقتك التي كتبتها مسترشدا بها في كتابة الموضوع - من جديد - مفرغا قصارى جهدك في تقليد عبارة الكاتب وأسلوبه.
ومتى انتهيت من ذلك فارجع إلى أصل المقال، وقارن بينه وبين ما كتبت وأصلح كل ما وقعت فيه من خطأ أو إهمال مما يؤدي إلى اختلاف في الأداء لا يتفق مع الدقة، والإحكام اللذين رأيتهما في الأصل.
عود نفسك ذلك التمرين مرتين أو ثلاثا في كل أسبوع؛ فإنك قادر على الكتابة - بعد قليل من الزمن - بأسلوب رائع!»
الطالب : «ولكني - إن فعلت ذلك - كنت مقلدا، وقد أجمع المفكرون على أن التقليد شر لا خير فيه، ولا فائدة ترجى منه إلا الإملال، ولا شك أن المنقول أقل روعة وبهاء من النموذج!»
الأستاذ : «لا ريب أن الفن قائم على الابتكار، وأن التقليد فيه لا يكون إلا شرا لأن كل صورة - مهما كانت جميلة - هي أقل بهاء وروعة من النموذج الذي أخذت عنه، ولكن الناشئ الذي يتعلم ليس أمامه إلا طريق واحدة للوصول إلى غرضه، وهي أن يجعل همه الأول تقليد أساتيذ الفن الذي يتعلمه.
وهذه هي نفس الطريق التي سلكها «ستيفنسن» حين شرع يتعلم الكتابة، و«ستيفنسن» - كما يعرفه قراء الإنجليزية - منقطع النظير بين الكتاب الحديثين، وقلما داناه كاتب من كتاب الإنجليز، في جمال أسلوبه، ودقة عبارته، وروعة بيانه.
وقد كان في أيام الدرس والتحصيل - وهو في جامعة «أدنبرج» - يقلد كتابة «ماكولي» شهرا، ويسلك في تقليده تلك الطريقة التي شرحتها لك، ثم يدع «ماكولي» - بعد ذلك - ويأخذ في تقليد كتابة «فرود» شهرا آخر وهكذا، ولم يترك كاتبا من المشهورين إلا قلده، حتى «كارليل» وأضرابه.
ولقد أدرك - بهذه الطريقة - التي كان يسميها «طريقة المواظبة على التقليد» كل ما يبغيه في فن الكتابة، وقرر - في صراحة وجلاء - أن لهذه الطريقة عليه أكبر فضل، وقد عزا إليها كل ما في أسلوبه من قوة ورصانة ، وميزات باهرة لا تزال موضع إعجاب قارئيه إلى اليوم.
كذلك كان «فيكتور هيجو» يقلد في أول نشأته «شاتوبريان» الكاتب الفرنسي العظيم؛ حتى كتب على مقعده في الفصل - وهو طالب: «أريد أن أكون «شاتوبريان» آخر !»
وليس التقليد عيبا في المرحلة الأولى من التعليم، فإن لكل طالب أستاذا يراه الطالب محل إعجابه كما يراه نموذجا جديرا بالتقليد والمحاكاة، ولقد كان أبو نواس في صباه يعجب بوالبة بن الحباب، كما كان البحتري يعجب بأبي تمام ويقلده في صغره، وقلد أبو العلاء المتنبي في حداثته أيضا.
فإذا شئت أن تتعرف مني الوسيلة الوحيدة التي تبلغ بها مأربك في فن الإنشاء فليس لي ما أقوله لك إلا هذه الكلمة: «التقليد! التقليد! التقليد!» أفهمت الآن يا ولدي؟ عليك بالتقليد وأنا الزعيم لك بأنك واصل إلى ما تريد.»
الطالب (وقد بدت على وجهه دلائل الارتباك) : «إذن فما فائدة كل هذه الكتب المؤلفة في فن الإنشاء؟ وما فائدة الكتاب الذي ألفته أنت في فن الإنشاء؟ أأتبع هذا الكتاب أم أتبع البلغاء من الكتاب الممتازين الذين ذكرتهم لي الآن؟»
الأستاذ : «لقد أحسنت يا ولدي في هذا السؤال ويجدر بي أن أصارحك القول، وأن لا أكتمك شيئا، فإنني أرى وأنا على يقين مما أراه أنك - إذا استطعت أن تسلك الخطة التي شرحتها لك وأوصيتك باتباعها - ثم ثابرت عليها دائبا، كان ذلك - بلا ريب - أنفع لك من كل ما كتبه المؤلفون من الكتب في فن الإنشاء إلى اليوم.
بل أنا أقرر لك ما هو أغرب من ذلك، فإنني أعتقد أن المعلم - في المرحلة الأولى التي تبدأ فيها قدرة الطفل على الكتابة - إذا عني بتمرين طفله على كتابة جملتين اثنتين في كل يوم، إحداهما مما يذكره من الدرس الذي طالعه، والأخرى مما رآه أو عمله في يومه من الأعمال، أقول لك واثقا: إن المعلم - لو سلك مع الطفل هذه الطريق - لم يلبث الطفل أن يصبح قادرا على الكتابة بطبعه دون تكلف وتصبح الكتابة عنده طبيعية كالكلام - سواء بسواء! - ومن ثم لا يصبح الإنشاء فنا كما يريد الأساتيذ أن يمثلوه، بل يصبح طبيعة أخرى كطبيعة الأكل والتنفس والجري، فيكتب الطالب كما يتكلم، ويأكل، ويتنفس، ويجري سواء بسواء!» •••
الطالب : «كل ما تقوله حسن يا سيدي الأستاذ، فما فائدة هذا الكتاب الذي ألفته في فن الإنشاء؟»
الأستاذ : «أردت بذلك أن أسد الفراغ الذي يشعر به طالب ناشئ مر بهذا الدور من التعليم، ورأى عقم الطريقة التي يسلكونها معه للوصول إلى الدرجة العالية التي ينشدها في فن الإنشاء.
أردت - بهذا الكتاب - أن أضع للطلاب كتابا يعلمهم الإنشاء بأسلوب جديد في التربية، يخالف ذلك الأسلوب العقيم الذي ألفه مدرسو الإنشاء ومؤلفو الكتب في هذا الفن.
أردت أن أسلك بالناشئ منهجا مجديا نافعا، فلم أملأ رأسه بالقواعد النحوية والصرفية والبيانية وما إلى ذلك من الفنون التي لا تجديه في التفوق في الإنشاء ولا تغنيه أي غناء!
فإذا أردت أن تتعرف فائدة هذا الكتاب، فليس لي ما أقوله لك أكثر من أنه كتاب جمعت فيه عددا كبيرا من التمارين المختلفة لتدريب الطالب على الكتاب - أو بعبارة أدنى إلى فهمك - إنني هيأت في هذا الكتاب المواد الأولى التي لا غناء لمن يريد الكتابة عنها، كما تهيأ مواد البناء الأولية لمن يريد البناء. فلا بد من التمرين لمن يريد أن يتعلم هذا الفن، كما لا بد من الأحجار والملاط وما إلى ذلك لمن يريد بناء بيت.
لهذا عنيت بالتمرين كل العناية، وأكثرت منه كل الإكثار!
فليس لمدرس الإنشاء بد من أن يدرب تلاميذه على خلق الجمل مرة، وتحويرها مرة أخرى، وهذا ما فعلته، وقد عنيت بالإكثار من التمارين على استعمال الكلمات في مواضعها الحقة وبمعناها الصحيح، وفي هذا تدريب على تنظيم التفكير عند الناشئ أيضا.
وقد بذلت وسعي في تعويد الطالب الدقة في الأداء، وتدريبه على نثر الشعر، إلى آخر هذه التمارين النافعة!»
الطالب : «نثر الشعر! ماذا تعنيه بهذه الكلمة يا سيدي الأستاذ؟
إنني بحاجة إلى كثير من الإيضاح، فقد كنت - وما زلت - أسمع أن هذا النوع من التمارين قليل الخطر ، إن لم أقل: إنه عقيم لا فائدة منه بتاتا!»
الأستاذ : «هذا رأى خاطئ، فليست تلك التمارين بمثل هذا الحد الذي يصفونها به من العقم، وليست تخلو من فائدة للطالب!»
الطالب : «وأية فائدة يجنيها الطالب من مثل هذه المحاولات؟»
الأستاذ : «إنها تعينه على ادخار محصول لغوي وفير، من المفردات والجمل معا؛ ولولاها لتضاءل محصوله واضمحل، وربما تلاشى، وهذه التمارين تعين الناشئ على استعمال ما في رأسه من الكلمات واجترارها اجترارا.
واعلم أن المرانة والتطبيق والعمل، يتوقف عليها وحدها كل شروط الحياة، ولا سبيل إلى تنمية ثروة مهملة، إلا أن تستعملها، ولن يزيد ما نملكه إلا إذا استعملناه وإلا تلاشى تلاشيا!
ولقد قالوا في أمثالهم: «الحاجة تفتق الحيلة.»
وقالوا: «كلما اشتدت الحاجة كان ذلك داعيا للاضلاع بجلائل الأعمال!»
الطالب : «ولكن ألا ترى يا سيدي الأستاذ أن من الخطل - إن لم أقل من الحماقة - أن نستبدل شعرا جميلا بنثر رديء، وأن نحول نظما رائعا إلى كلام منثور ركيك؟ وماذا تقول فيمن يعمد إلى مقطوعة نظمية لمؤلف كبير خبير بدقائق المعاني، ومرامي الأسلوب، وقوة الصياغة، وتخير العبارة، فيمسخها مسخا ويشوهها تشويها، ويحيلها إلى كلام سخيف مفكك الأسلوب ضعيف المعنى؟»
الأستاذ : «الحق معك في هذه النقطة وحدها، ولكن فائدة هذا العمل - رغم ذلك - لا يستطيع منصف أن يغفلها!»
الطالب : «أية فائدة نجنيها من المسخ والتشويه؟»
الأستاذ : «إنك - حين تتصدى لحل الشعر - إنما تبرهن لأستاذك - ولنفسك أيضا - أنك قد فهمت معنى القصيدة أو المقطوعة فهما، واستوعبتها استيعابا.
هذا إلى أنك تنمي بذلك محصولك اللغوي، وتمرن نفسك على استعمال كلمات جديدة، فيزيد بذلك محصولك اللغوي أيضا.»
الطالب : «هذا حق، ولكني أسمع أن في هذه الطريقة عيوبا ومآخذ يجب أن يتجنبها الطالب!»
الأستاذ : «لا جرم أن هناك كثيرا من العيوب، فإن لكل طريقة عيوبا ومحاسن. على أن أكبر عيب في هذه الطريقة يقع فيه الطالب، ويجدر به أن يبذل كل ما في وسعه لتلافيه، هو ما يسمونه «الحرفية».
فالحرفية شر يجب تجنبه والفرار منه؛ لأنها تسيء إلى صاحبها أبلغ إساءة، ومتى سلكها في حل الشعر لم يجئ نثره عاديا معقولا، بل يصبح مشوها سخيفا مفكك الأسلوب ضعيف الأداء؛ ذلك أن الحرفية تبعد الطالب عن التشبع بروح الأصل، وتجعله يعنى بالقشور دون اللباب ؛ ومن ثم لا نرى إلا جملا ركيكة لا تؤدي معنى واضحا، ولا شك أن التزام الحرفية - الذي يلجأ إليه الطالب حاسبا أنه يوصله إلى أبعد غايات الدقة - لا ينتج عنه دائما إلا ضياع المعنى، وتشويه العبارة، وفقدان الدقة المنشودة.
الطالب : «وكيف نتقي خطر الحرفية؟»
الأستاذ : «يجب أن يكون النثر معبرا عن الأصل الشعري - كما تعبر الترجمة عن روح الأصل - فإذا أردت حل الشعر، وجب عليك أن تستوعب القطعة وتملأ بها شعاب نفسك، ثم تبدأ في نثرها بما يلائم روحها.
فشعر «ملتون» مثلا يجب ألا تنثره إلا في أسلوب يلائمه ويتناسب مع رصانته وجزالته.
وإذا نثرت شعر «تنيسون» وجب عليك أن تراعي في ذلك نبل اللغة مع جمال الموسيقية الذي في الأصل.»
الطالب : «وكيف أصل إلى هذه الغاية؟»
الأستاذ : «أول ما يجدر بك أن تفعله للوصول إلى هذه الغاية هو أن تقرأ الأصل قراءة متفهم مستوعب، لتتشبع بروحه، وأن تقرأه - مرة أو مرتين بصوت عال قراءة من يحس ويشعر، ويتأثر بمعانيه، ويتذوق جماله بكل ما في نفسه من إحساس وشعور وذوق!
فإذا تم لك ذلك وجب عليك أن تحصر - في ذاكرتك - الفكرة الجوهرية التي تنتظم القصيدة - أو المقطوعة - فإذا انتهيت من ذلك وضعته في الأسلوب الذي تجده ماثلا في ذهنك بما يواتيك من بيان!»
الطالب : «ولكن ألا ترى بدا من أن نكتب بأسلوب جميل؟»
الأستاذ : «لا بد من ذلك يا ولدي، ويجب عليك أن تبذل كل ما أوتيت من قوة وجهد في تحسين الأسلوب وتجميل العبارة؛ حتى تتناسب مع جمال الأصل، كما يجدر بأسلوب أن يجمع بين الوضوح والرشاقة والجمال، بحيث يعجب به كل من لم يطلع على الأصل!
وعليك أن تتجنب في نثرك العبارات الشعرية والكلمات والجمل والأساليب التي اختص بها الشعر وحده، فإن للشعر لغة وخصائص كثيرا ما تخالف لغة النثر وخصائصه.
ورب كلمة - هي في قافية قصيدة آية من آيات الجمال والموسيقية - إذا وضعت في جملة نثرية كانت آية من آيات فساد الذوق وضعف الأسلوب!»
الطالب : «فما هو الغرض الأول الذي نجعله نصب أعيننا حين نتعلم الإنشاء؟ وما هي الغاية الحقيقية التي نتطلع إليها من دراسة هذا الفن؟»
الأستاذ : «يجب أن ترمي إلى أمرين، إلى أمرين فقط؛ الوضوح، وحسن الصياغة! وهذان الغرضان من اليسير على أي طالب ذي كفاية متوسط أن يصل إليهما، إذا عني بهما عناية خاصة، ومرن نفسه على بلوغ هذه الغاية!
فإذا كنت ممن وهبه الله بلاغة، وقدرة على الافتنان في الأسلوب، والتصرف بفنون القول؛ نلت أعلى منزلة في الكتابة، على أنك - إذا لم يساعدك طبعك - وأردت أن تكون رشيق التعبير رائع البيان؛ فلن تصل إلى تلك المنزلة مهما بذلت من جهد في الدرس والتحصيل!»
الطالب : «ولكن من المؤكد أن في استطاعة كل إنسان أن يكتب بوضوح، وأن يكون أداؤه حسنا، فقد يظهر أن ذلك طبيعي جدا.»
الأستاذ : «ليس من السهولة بحيث تظن يا ولدي، فليس من الهين أن يكتب الإنسان كتابة واضحة حسنة الأداء.
لقد أصبح عصرنا حافلا بالكتب والصحف والمجلات، وأصبح إقبال المتعلمين على القراءة يفوق كل وصف، وكثيرا ما تزدحم أذهان الشباب بما قرأوه - مما لم يستوعبوه جيدا - فإذا حاول أحدهم أن يؤدي لك فكرة أداها مضطربة مشوشة لا سبيل إلى أن تفهمها؛ لأنه هو نفسه لم يفهمها حق الفهم! وليس لهذا من دواء إلا أن يعنى الناشئ بتفهم ما يقرأه واستيعابه؛ حتى لا تزدحم في ذهنه صور شتى من المعاني مضطربة متناقضة، ولخير للإنسان أن يقرأ كتابا واحدا وأن يفهمه حق الفهم من أن يقرأ ألف كتاب قراءة عجلى لا تمكنه من استيعاب شيء مما قرأ.
واعلم أن القراءة - كالغذاء - يجب أن يلائم صاحبه، وأن لا يزيد عن حاجة معدته، وإلا أصبح شرا عليه!
على أنني لا أريد أن أختم نصيحتي إليك، دون أن أشير إلى طريق سهلة تصل بها - إذا سلكتها - إلى الدقة، وتكون خير مرانة على الكتابة، وهي الترجمة إن كنت تعرف لغة أجنبية.»
الطالب : «كيف تشير علي بالترجمة، وقد سمعت الكثيرين يعيبون هذه الطريقة، ويقررون - تقرير المستيقن الجازم - أن الترجمة تضر أكثر مما تنفع، وأن خير الطرق لتعلم لغة هو تعلمها رأسا من غير وساطة الترجمة!»
الأستاذ : «لأنصار هذا المذهب كل الحق فيما يقولون، وأنا أدين بهذا الرأي أيضا، ويخيل إلي أنك لم تفهمه على وجهه الصحيح!
إن الترجمة لا تنفعك - بل تضرك - إذا حاولت أن تتعلم لغة أجنبية عن طريقها؛ لأنك تضطر إلى اصطناع أساليب لغتك التي ألفتها فيما تترجمه؛ فتفسد بذلك كتابتك!
وعلى العكس من ذلك، إذا أردت أن تترجم من لغة أجنبية إلى لغتك العربية فإنك تكتسب بذلك فوائد جمة متى ابتعدت عن خطر الترجمة الحرفية!
وإني أوجز لك فوائد الترجمة فيما يلي: (1)
أنها تطلعك على معان جديدة، وطرق في الأداء جديدة. (2)
أنها تدربك على البحث عما يؤدي هذه المعاني من العبارات التي تلائمها. (3)
أنها تعودك الدقة والإحكام في التعبير.
وحسبك بهذه الفوائد مغريا لك ومنشطا، ولا تنس أن الترجمة إلى لغتك القومية تشبه - من وجوه كثيرة - الطريقة التي اقترحتها عليك من قبل، وهي طريقة حل الشعر، كما أنها تشبه ما طلبته إليك، من صوغ ما تقرأه من كلام البلغاء الممتازين في لغتك في أسلوب يتناسب مع جماله ودقته وحسن أدائه!»
الطالب : «ألا يتفضل علي سيدي الأستاذ بإرشادي إلى قطعة بعينها من كلام البلغاء، أتخذها نموذجا أحتذيه، وأنسج على منواله؟»
الأستاذ : «حاول جهدك أن تقلد القطعة التالية مثلا - بعد أن تستوعبها قراءة وفهما - وهي لأشهر كتاب العربية «ابن المقفع»، ويجدر بك أن تتبع في محاكاتها الطريقة التي أسلفت لك شرحها، وإليك القطعة المنثورة: «زعموا أن ناسكا كان يجري عليه من بيت رجل تاجر في كل يوم رزق من السمن والعسل، وكان يأكل منه قوته وحاجته ويرفع الباقي، ويجعله في جرة فيعلقها في وتد في ناحية البيت حتى امتلأت، فبينما الناسك ذات يوم - مستلقيا على ظهره، والعكازة في يده، والجرة معلقة على رأسه - تفكر في غلاء السمن والعسل فقال: «سأبيع ما في هذه الجرة بدينار، وأشتري به عشرة أعنز؛ فيحبلن ويلدن في كل خمسة أشهر بطنا ؛ ولا تلبث إلا قليلا حتى تصير غنما كثيرة إذا ولدت أولادها.»
ثم حرر على هذا النحو بسنين؛ فوجد ذلك أكثر من أربعمائة عنز، فقال: «أنا أشتري بها مائة من البقر، بكل أربعة أعنز ثورا أو بقرة؛ وأشتري أرضا وبذورا، وأستأجر أكرة
2
وأزرع على الثيران، وأنتفع بألبان الإناث ونتاجها، فلا يأتي علي خمس سنين إلا وقد أصبت من الزرع مالا كثيرا؛ فأبني بيتا فاخرا، وأشتري إماء وعبيدا، وأتزوج امرأة جميلة ذات حسن؛ ثم تأتي بغلام سري نجيب، فأختار له أحسن الأسماء، فإذا ترعرع أدبته وأحسنت تأديبه، وأشدد عليه في ذلك، فإن يقبل مني، وإلا ضربته بهذه العكازة.»
وأشار بيده إلى الجرة فكسرها؛ فسال ما كان فيها على وجهه!
هوامش
في العام السادس1
كنت في العام الذي ولى صغيرا
غير أني أقرأ الآن الكتابا
وأجيد العد لا أخطئ فيه
وكذا أكتب ما يملي صوابا •••
كنت لا أجلس في الغالب إلا
ضاحك السن على ركبة أمي
كنت في خامس أعوامي فلما
صرت في السادس زاد الآن علمي •••
أذهب اليوم إلى مدرستي
حافظا درسي في كل نهار
في يساري جعبتي شاهدة
أنني صرت كبيرا ذا اعتبار •••
حينما ينطق أستاذي أصغي
واعيا ما قال، لا مفرطا
وهو مسرور بجدي، إذ أراه
دائما يبسم لي مغتبطا!
جحيم دانتي1 وقصة «الكوميديا الإلهية»
لا يزال «جحيم دانتي» معدودا أكبر قصة ذات حوادث رائعة في الدنيا، ولكن قليلا من الناس قد قرأه رغم ذلك، ولئن كان كثير من شعره صعب الفهم غير محبب إلى القارئ العصري أن يستمر في قراءته، ويشارك «دانتي» في رحلته الطويلة حيث جاس خلال الجحيم، فهو - مع ذلك - خيال رائع التورية والكناية، لا يتخلف إذا قيس خياله القوي إلى خيال شكسبير وملتن الذي اشتهرا به في أشعارهما.
وظاهر الكوميديا الإلهية وصف للجنة والنار والمطهر، وباطنها تصور حال الأرواح بعد الموت، مورية بذلك، ومكنية عن حاجة الإنسان إلى قبس روحاني ومرشد يكون له هاديا.
وقبل أن نبدأ السير مع دانتي في طريقه، ونجوس معه أنحاء الجحيم وأرجاءها، يجدر بنا أن نذكر أن «جحيم دانتي» ظل ماثلا - في أذهان من قرأوه - مشرقا بالحياة رائع الحقيقة واضح الصور بين التقاسيم، شأن أمثاله من الأسفار الخالدة: «كقصة روبنصن كروزو» و«رحلات جلفر»، كذلك تتمثل مناظر الجحيم الرائعة صورا مكتملة، وتظل خالدة في النفس، ماثلة في الذهن، باقية بقاء المناظر الأخاذة بالنفس التي يراها الإنسان فلا ينساها ما عاش، إذا نسي كل شيء سواها.
ولقد رسم لنا «دانتي» جحيمه على صورة هاوية عميقة هائلة تشبه مخروطا مقلوبا يلتقي بالأرض في منتصفها، ثم ينقسم في جانبيه عدة أقسام - طبقات بعضها فوق بعض - تضيق سعة بالطبع كلما هبط الإنسان من درك إلى درك، وكلما ازدادت شناعة الجرم سفل مكان الخاطئ فيها! (1) مدينة الويل
يبدأ الكتاب بذكر «دانتي» كيف ضل طريقه في غابة مظلمة موحشة، وكيف التقى بفرجيل الذي وعده بزيارة الجحيم والاطلاع على ما فيها من نكال، وكيف سار على أثر فرجيل حتى بلغا باب الجحيم، حيث قرءا عليه:
أيها الداخل الجحيم ستلقى
كل يأس هنا وتنسى الرجاء
ثم دخلا من الباب معا؛ فرأيا مكتوبا عليه:
سترى زائري! مدائن ويل
سترى زائري العذاب المخلد
سترى الأشقياء ماذا يعانو
ن من الويل والنكال السرمد
قد أعد الإله ناري لعاص
لم يطعه وكان بالأمس يجحد
أيها الزائرون عندي لكم يأ
س يخيب الرجاء منه ويفقد
ولا يكاد الداخل يعدو الباب حتى يلقاه سهل فسيح قاتم الأعماق يسمى ردهة الجحيم، حيث تطيف به أرواح الأنانيين والكسالى والمزهوين، تلسبها النحل والزنابير الكبيرة، وهي هائمة تجري أبدا خلف علم خفاق.
هنا تنهدات وانتحابات وتأوهات عالية، صاعدة في أجواز الفضاء الموحش الذي لا نجم فيه، حتى لبكيت حين دخلت، آلام وفزع من كل جهة وبكل لسان، وصرخات مزعجة منبعثة من الألم، وصيحات غضب وأصوات مختنقة مبحوحة صادرة من أعماق القلوب، وأيد ملوحة تعبر عما أصاب أصحابها من ويل وثبور، وظلام شامل مخيم على جميع الأرجاء، وكأنما امتلأ الفضاء برمال نارية محرقة سدت جميع الأنحاء.
ثم اجتازا ذلك السهل ووصلا إلى نهر «أشيرون» نهر الأحزان، حيث رأيا جموعا زاخرة مجتمعة حول المركب الذي يستقله الذاهبون إلى الضفة الأخرى، وعلى القارب شيخ شرس ذو عينين كأنهما عجلتان من لهب وهو يسير بهم القارب، ويذيقهم من ألوان العذاب والنكال ما لا قبل لإنسان بوصفه، ويصيح فيهم قائلا: «الويل لك أيتها الأرواح الخبيثة، لا أمل اليوم ولا رجاء، ولن تروا أيها المجرمون تلك السماء التي كنتم ترونها في الدار الأولى، لقد جئت لأنقلكم إلى الشاطئ الآخر حيث تسود الظلمة الأبدية؛ لتعيشوا هناك في الزمهرير والسعير المتلظي.» (2) درك الوثنيين
ثم غرق «دانتي» في غيبوبته من الذهول - لما تولاه من الذعر والرعب - فلم يوقظه إلا دوي رعد قاصف، وما كاد ينتبه منه حتى رأى أولئك المعذبين قد وصلوا إلى الشاطئ الآخر من النهر، وثم وجد أرواح كبار رجال الوثنية الذين عاشوا عيش الخيرين، وأعوزهم أن يصطبغوا بالصبغة المسيحية - إذ لم يعمدوا - فرحب «هومر» و«هوراس» و«أوفيد» بدانتي ترحيب أفراد الأسرة الواحدة بفرد منهم.
ولما ذهب دانتي إلى الطبقة الثانية من الجحيم - أو الدرك الثاني - وجد فيها «مينوس» قاضي النار؛ وهو مخلوق عظيم الجسم على صورة إنسان له وجه كلب، وثم وجد عذاب آثمي الحب تذروهم ريح عاتية؛ فتقذف بهم كما تقذف بالطير في أجواء الفضاء.
ورأيا - فيما رأياه - «سميراميس» و«كليوباطرة»، كما شاهدا - على الخصوص - «فرانشسكا راميني» ومحبها «باولو» اللذين كتب لحادثتهما الخلود: تلك الحادثة التي قصتها «فرانشسكا» على دانتي، فأبانت له فيها كيف باغتها زوجها مع عشيقها فقتلهما معا.
ورأى دانتي - في الدرك الأسفل من النار - جماعة من ذوي البطنة والنهم منغمسين في الوحلن، ينصب عليهم سيل هتون من الثلج والبرد والماء القذر، ورأى «تشوبروس» أحد الزبانية ذا الصورة الكلبية الهائلة يعوي ويزمجر عليهم وعيناه تقدحان شررا، وأنيابه الحادة تقطع أجسامهم وتمزقها إربا إربا بعنف وقسوة. (3) مدينة الشيطان
وفي أول الدرك الرابع رأى دانتي فيه «بلوتوس» إله الثروة يحرس الدرك الذي جمع فيه المسرفون والبخلاء. (وهنا وصف دانتي عذاب هؤلاء وصفا رائعا لا يحتمل المقام ذكره.)
ولما دخل الشاعران إلى المدينة وجدا أمامهما سهلا رحيبا فسيح الأرجاء، فيه أجداث مكشوفة، كل جدث منها ممتلئ لهبا، وفي وسطه أرواح الملاحدة المعذبة وفراشها نار حامية، ووجد من بين هؤلاء روح «فريناتا» المعجب المدل بنفسه. •••
ورأى «دانتي» في الدرك السابع من الجحيم نهرا من الدم قد أغرق فيه العتاة والجبابرة وأهل الظلم، ورأى الزبانية تقمعهم بمقامع من نار، وترميهم بسهام مهلكة.
وهكذا ظل دانتي يصف طبقات الجحيم ويذكر أنه قد رأى الطبقة الثانية منها وقد قسمت إلى عشرة أقسام، جمع فيها أهل الرياء، والمخادعون، ومدعو النبوة، وذوو خطيئات التدليس والنفاق. •••
وبعد وصف مسهب رائع لما يقاسونه من النكال، ينتقل «دانتي» إلى الدرك الأخير، حيث يرى الخاطئ الأكبر «إبليس» وهو يقاسي أشد أنواع العذاب، تهب عليه ريح من الزمهرير، لو هب منها قليل على بحر لأصبح جليدا.
وبعد أن يبدع «دانتي» في وصف ما يلقاه إبليس من النكال، ينتقل إلى المطهر، حيث تقوده حبيبته «بياتريس»، فيرى النجوم الألاقة التي حرم رؤيتها طول ذلك الوقت!
نظرات في تاريخ الإسلام1
وأشترط على نفسي أن لا أتعرض لذكر ما أعتمده فيما أجده مخالفا لما أعتقده، فإن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد!
فخر الدين الرازي (1) تمهيد
هذه فصول مختارة من كتاب العلامة المستشرق «دوزي»، آثرنا نقلها إلى العربية لتبيان وجهة تفكير عالم أوربي كبير، وهي - وإن خالفت آراءنا أحيانا في بعض مناحيها - جديرة أن تقرأ بعناية فائقة، فليس كل ما لا نرضاه من الآراء خليقا بالطرح والإهمال.
وإذا كان العلامة «فخر الدين الرازي» يقول في مقدمته لشرح «الإشارات» لابن سينا: «إن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد»، فما أجدرنا أن نقول بدورنا: «والترجمة أيضا غير النقد.»
لهذا اقتصرنا على نقل آراء ذلك المستشرق بلا مناقشة أو تعليق إلا ما يقتضيه المقام من توضيح لما اعتقدنا أن أكثر القراء في حاجة إليه. وإلى القارئ الكريم ترجمة كلامه: (2) ديانة العرب في الجاهلية
كان كل شيء سائرا في طريقه المعتادة في النصف الأول من القرن السابع الميلادي؛ سواء في الإمبراطورية البيزنطية أو الإمبراطورية الفارسية، ولا جرم كانت هاتان المملكتان في نزاع دائم؛ سببه الرغبة والطمع في تملك آسيا الغربية. وكانتا - في ظاهرهما - مزدهرتين، تجبى لهما الضرائب والخراج فتمتلئ الخزائن بالمال، وتتضخم ثروة الحكام، حتى أصبح الترف والأبهة - اللذان انغمس فيهما سكان العواصم - مضرب الأمثال.
على أن كل ذلك لم يكن إلا مظهرا كاذبا؛ فقد كان يسري في كيان هاتين المملكتين داء كمين، وظل السوس ينخر في عظامهما دائبا على تقويض أركانهما بسبب ما أظهرتاه من عسف وجور مهلكين، هذا إلى ما حدث من الفواجع التي نجمت من تلك الأسرات، وما لعبته من الأدوار المفجعة التي كانت - في الحقيقة - سلسلة متصلة الحلقات، من الاضطهادات والفتن الدينية الشعواء.
وثم رأينا شعبا يظهر فجأة من بين تلك الصحراء التي لا يكاد يعرفها أحد، شعبا جديدا بدأ يمثل دوره على مسرح الحياة بعد أن ظل نهبا مقسما؛ تناوئ كل قبيلة منه القبيلة الأخرى، فيحتدم النزاع وتقع الحرب الطاحنة. ها قد رأيناه يتحد ويتجمع شمله الشتيت للمرة الأولى.
ذلكم هو الشعب الناهض الذي تملك نفسه حب الحرية، وساعدته على النجاح صفاته النبيلة، فقد كان متقشفا في طعامه، مخشوشنا في لباسه، نبيلا في أخلاقه. كما كان طروبا، سريع البديهة، حاضر النكتة، ولقد كان شريف النفس أريحيا - فإذا استثرته مرة - فهو قاس غضوب شرس، لا يني عن أخذ ثأره، ولا يرده عن انتقامه شيء.
ذلكم هو الشعب الذي قلب - في لحظة واحدة - إمبراطورية الفرس التي ظل السوس ينخر في عظامها قرونا عدة، وانتزع من خلفاء قسطنطين أجمل ضواحيهم، ثم سحق مملكة جرمانية حديثة العهد تحت قدميه، وشرع يهدد - بعد ذلك - بقية أوربا، ذلك بينما كان في الوقت نفسه يوالي فتوحه وانتصاره في الجانب الآخر من المعمورة، حتى وصلت جيوشه الظافرة إلى الحملايا.
لم يكن ذلك الشعب فاتحا فحسب - كغيره من الشعوب الأخرى - بل كان داعيا إلى دين جديد ومبشرا به أيضا.
كان داعيا إلى دين جديد فقام يناوئ الثنوية
2
الفارسية والمسيحية التي أفسدتها الخرافات والبدع، حاملا إلى الناس توحيدا خالصا، لم يلبث أن دان به الملايين من الناس، حتى بلغ عددهم في أيامنا هذه نحو عشر الإنسانية كلها.
ذلك هو الدين الذي أخذنا على عاتقنا محاولة الكلام فيه وفي تاريخه العام. ولعل أول ما يعرض لنا هو هذا السؤال: «مم نشأ؟ وكيف تفرع من الديانة التي سبقته ثم نما حتى وصل إلى ما وصل إليه؟»
فكيف نجيب على هذا السؤال الذي يجدر بنا الإجابة عليه قبل كل شيء؟ الحق أنني لم أكد أعرض لهذا حتى وقعت في حيرة لا مثيل لها، فقد اعترضتني - حتى في هذه الخطوة الأولى - صعوبة لم أكن لأتوقعها قبل أن أتصدى لبحث هذا الموضوع. وإليك البيان:
إنني - على إجلالي وتقديري لما قام به بعض الباحثين الذين تصدوا للكلام عن ديانة العرب القديمة وأصل الإسلام، وعلى إعجابي بفطنتهم واجتهادهم - أقرر ولا أرى بدا من المصارحة أن هذه البحوث الطريفة لا تكفيني قط؛ لأنها لم تستطع أن توضح هذه الأمور أكثر من قبل.
لذلك رأيتني مضطرا إلى إعادة البحث - من جديد - سالكا طرقا أخرى مخالفة لما نهجه غيري من الباحثين إلى اليوم، وقد وصلت إلى نتيجة أنا أول المدهوشين لها، وليس في وسعي أن أسردها في بضع صفحات، إلا أنها - في جوهرها وأساسها - مرتبطة بعدة نتائج أخرى لها خطرها وأهميتها، ولما كانت نتائج بحوثي مناقضة - على طول الخط - كل الآراء السائدة إلى اليوم لغرابتها عنها، والعلم يقضي على الإنسان ألا يلقي للناس قضايا مسلمة لا يدعمها برهان، ولا تقوم على أساس متين من الحجج العلمية الناهضة والأدلة الصحيحة المستقاة من مصادرها الأصلية.
والدعاوى - ما لم يقيموا عليها
بينات - أصحابها أدعياء!
ولما كانت المصادر الأصلية التي أعنيها هي مصادر أجنبية بالنسبة لقارئي هذا السفر
3
رأيتني مضطرا إلى تفصيل ذلك الرأي في سفر مستقل آخر.
4
ولكن ماذا نصنع الآن في هذا الفصل؟ •••
أما أن نجتزئ ببعض الآراء التي وصلتنا، مبدلين فيها، رغبة في أن نوائم بينها وبين آرائنا الخاصة فهذا محال؛ لأن منهجين متباينين من مناهج البحث لا سبيل إلى التقائهما والتوفيق بينهما، هذا فضلا عن عقم هذه الطريقة التي لا غناء فيها، فليس ثم أية فائدة من تعرف جزء من الحقيقة.
لذلك أعملت الفكر فلم أجد إلا مخرجا واحدا من هذا المأزق، هو أن أتبع الفكرة المقررة، مقتصرا على سردها وذكر ما وصل إليه الباحثون من النتائج في هذا الصدد. لا سيما «سبرنجر» أقرب الباحثين وأوفاهم درسا، واستيعابا للتاريخ الإسلامي وترجمة النبي.
على أنني جدير أن أقرر - من الآن - بأسلوب صريح لا يحتمل لبسا ولا تأويلا أنني إن استطعت بهذه الطريقة أن أرفع عن عاتقي عبء المسئولية والمؤاخذة بما أقرره في هذا الفصل من وصف الحال الدينية التي كان عليها العرب في القرن السادس الميلادي، فلن يكون ذلك شأني فيما أقرره في بقية الفصول.
دفعتني هذه الاعتبارات السابقة كما دفعني غيرها من الأسباب التي لا يصعب على القارئ فهمها، إلى الاقتصار على ذكر ذلك الزمن السابق بأقصى ما في قدرتي من الإيجاز الذي التزمته في تبيان ديانة العرب الأولى ونشأتها في بلادهم، فلم أحد عن هذا الشرط قيد أنملة. (3) ديانة العرب الأولى
كان العرب يؤمنون بكائن أعلى - هو الله تعالى - ويعتقدون أن له ذاتا كذواتهم، وأنه محيط بالعالم وما يحويه من كائنات - هو بارئها - وإن اختلفت حظوظها من الطاعة والعصيان، وكانوا يدينون بأنه خالق السموات والأرض
5
وأنه الذات المنزهة التي لا حد لحكمتها، ولا يمارون في أنه مدبر العالم، وأنه هو الذي يرسل عليهم المطر من السماء.
6
كانوا يعتقدون هذا، ويعتقدون أيضا أن ليس له كهان ولا هياكل، كتلك التي خصوا بها أوثانهم. (4) العرب والجن
فإذا تركنا ذلك إلى سواه رأيناهم يعظمون الجن ويمجدونهم، وقد دفعتهم إلى ذلك صحاريهم وجبالهم التي كثيرا ما يضلون فيها أسابيع كاملة؛ فيتمثلون رؤية هذه العوالم الغريبة، ويقوي في نفوسهم هذه التصورات ما يكابدونه فيها من ألم الجوع والعطش، وما يحتملونه من شمس الصحراء المحرقة، وهوائها اللافح، وسوافها المهلكة، هذا إلى ما يعانونه من تقلبات الجو الفجائية، حتى ليصل بهم الروع إلى حد أن يتخيلوا أنهم يسمعون أصوات الجن ويبصرون ذواتهم في أشكال عدة وعلى صور شتى، منها السخيف ومنها المعجب،
7
وكانوا يعتقدون بأن أجسامهم تشغل جزءا من الفضاء - كما تشغله أجسامنا - وأنهم ينتشرون، ولكنهم يختلفون عنا في تكوينهم؛ لأن أجسامهم مخلوقة من النار أو الهواء،
8
ومن ثم لا تراها العين الإنسانية إلا شذوذا، وفي قدرتهم أن يأتوا كثيرا من ضروب الشر والخير، ومن كانوا كذلك فقد وجب عليهم أن يتحببوا إليهم ويمجدوهم ويقدسوهم. ومما سهل عليهم الوصول إلى تحقيق هذه الغاية اعتقادهم أن لكل جني موطنا خاصا به، فهذا في حجر، وذلك في نصب، وثالث في شجرة.
9
وكانت تجمع قبيلة - أو عدة قبائل أحيانا - على تمجيد جني بعينه، وتكل العناية به إلى أسرة بعينها منوط بها أمر رعايته وتلبية رغباته، وكانت هذه الفئة تقوم بحراسته وتعظيم شأنه؛ سواء في الحجر أو الشجرة، أو الصورة التي تمثله، كما تؤدي له حقه من المراسم الكهنوتية؛ والطقوس الدينية التي تقيمها في محرابه، وربما سمع لذلك النصب صوت - كما يحدث ذلك في كثير من الأحيان - ومن الواضح أن الكهنة القائمين بحراسة الوثن قد مرنوا بالحيلة على إحداث تلك الأصوات لإيهام الناس أنها تتكلم - وكان لكل منها صوت خاص به يميزه عن غيره - وكان العرب يعدون ذلك من الخوارق والمعجزات التي يعزونها إلى أوثانهم.
كذلك كانت تحرص كل قبيلة على صنمها، وتشيد بذكره وتفرده بأقصى ما تستطيع من حب؛ لأنها ترى فيه نوعا من الملكية. وكان الكهان ينضحون عنه، ولا ينون في طلب القرابين لذلك النصب، وإن كانوا - على الحقيقة - يطلبونها لأنفسهم ويجرون المغانم لهم باسم الله تعالى.
هذا ما نستطيع أن نستخلصه بسهولة من القرآن وأقوال المفسرين على وجه الإجمال، على أن أحد المؤرخين الذين تخصصوا في درس ترجمة حياة النبي يعزون ذلك إلى قبيلة «خولان» وحدها، وهي التي كانت تقطن اليمن في ناحية منه تعرف باسمها.
وكان من عادتهم، حين تقدم القرابين إلى الآلهة - وهي من البر أو الفصال
10 - أن يقسموها قسمين؛ أحدهما وقف على الله، وهذا من نصيب المعوزين وأبناء السبيل الذي يحلون ضيوفا على أهل القبيلة، والآخر وقف على النصب، وهو من نصيب الكهنة وحدهم.
فإذا وقع في القسم الأول بطريق المصادفة بعض النفائس، استأثروا به وجعلوه من نصيب الوثن، ووضعوا مكانه النصيب الأدنى لله.
11
ولكن ما علاقة هذه الأرباب الصغيرة بالله؟ لقد كانوا يعتقدون أن تلك الأرباب بنات الله،
12
وأن مثلها منه كمثل الفروع من الأصل تماما؛ فهي تحكم الناس كما يحكم حاكم الأقليم بعد أن يخوله مليكه سلطة الحكم، وثم كانوا يرون في تلك الأرباب وسائط بين الناس وبين الله.
13 (5) مكة والكعبة
وكانت مكة حاضرة الثقافة في أواسط بلاد العرب، وقد بنتها قريش في منتصف القرن الخامس الميلادي، في واد رملي شديد الضيق؛ حتى ليبلغ أقصى اتساع فيه نحو سبعمائة خطوة - أما أضيق مكان فيه فلا يزيد عن مائة خطوة - وتكتنفه جبال جد عارية يتراوح ارتفاعها بين مائتي قدم وخمسمائة.
في هذه المدينة المحراب الذي يفخر به كل من يملكه ويقع في حوزته، ذلك هو محراب الكعبة الجليلة الشأن،
14
وهو أقدم من المدينة نفسها بكثير، وإن جدد وأعيد بناؤه عدة مرات، وهو مؤلف من أربع حوائط مبنية بحجارة لم يهذبها الصقل، وقد رصف بعضها إلى بعض دون أن يتخللها الملاط، وقد غطيت بريطة
15
أو بقطعة من القماش، أما ارتفاعها فلا يزيد عن ارتفاع الرجل، وأما مساحتها فتبلغ مائتي قدم.
وكان «هبل»
16
اسم الصنم الرئيسي الكبير بين أصنامها، منذ النصف الأول من القرن الثالث، وهو تمثال عقيقي
17
جلبه من الخارج بعض الرؤساء،
18
وكان «هبل» في ذلك العهد ربا لقبيلة قريش.
أما الكعبة نفسها فلم تكن ملكا للقرشيين، بل كانت - على الحقيقة - ملكا مشاعا لأكثر القبائل التي تربطهم بها وشائج المصلحة السياسية العامة، وثم كان للكعبة صبغة عالمية عندهم.
وقد وضعت كل قبيلة من تلك القبائل صنمها الذي تعبده في ذلك المحراب «الكعبة» حتى بلغ عدد الأرباب التي بها ثلثمائة وستين ربا، وكان التسامح الديني سائدا ، وقد وصل بهم إلى أعظم حدوده، فقد كنت ترى في الكعبة - زيادة على ما أسلفنا ذكره من الأصنام - صورة إبراهيم الخليل، وصورة الملائكة، وصورة العذراء مع طفلها عيسى. (6) الحجر الأسود
على أنهم كانوا لا يقدسون شيئا كما يقدسون «الحجر الأسود»، وهو الحجر الذي يزعم المسلمون أنه كان في أول أمره أبيض، ثم اسود من توالي الحريق الذي حدث في الكعبة، وقد لعب هذا الحجر فيما بعد - في قابل الإسلام - دورا خطيرا في التاريخ الإسلامي، ولا زال يعده المسلمون - حتى أيامنا هذه - حجرا مقدسا، وسنذكر في بعض الفصول التالية بعض أقاصيص يرويها بعض علماء الكلام واللاهوت من المسلمين عن هذا الحجر.
وقد وصفه لنا بعض السائحين الأوربيين الذين شاهدوه، فذكر أنه قطعة من حجر البازلت البركاني تلمع في أنحائه نقط بللورية، وتبدو في بعض جهاته قطع صغيرة من النوع الذي يطلقون عليه اسم «فيلسبار» لونها تارة أحمر بأسفله ظلال قاتمة، وتارة أسمر يميل إلى السواد.
وقد تعاورته ظروف مختلفة، فكسر أكثر من مرة حتى غدا في هذه الأيام مؤلفا من اثنتي عشرة قطعة مضموم بعضها إلى بعض، والكثيرون يجمعون على أنه حجر من الرجوم الساقطة من السماء. •••
أما احترامهم الكعبة فقد بلغ بهم حد التقديس،
19
وزاد إجلالهم لها فقدسوا ما جاورها من البقاع - التي خلعت عليها الكعبة مسحة القداسة - وثم أصبح ما يكتنفها - إلى بعد عدة فراسخ - حراما لا يجوز لكائن من كان أن يفتك بسواه فيها، أو يصطاد من حيوانها احتراما لها.
ويؤم الكعبة في كل عام جمهور ضخم من الناس من شتى الأنحاء؛ لتأدية الشعائر الدينية المقدسة فيها! (7) عبادة الأصنام
20
أما العبادة فقد فقدت معناها الأول في القرن السادس من الميلاد، ودب فيها الفساد وتغير جوهرها؛ فأصبحت طائفة من الخرافات والأوهام - التي يمجها العقل - تدين بها طائفة من المبطلين.
قال أحد معاصري محمد
21
صلى الله عليه وسلم -: «كنا - إذا عثرنا على حجر جميل - عبدناه، فإذا عز علينا أن نجده أنشأناه من الرمل إنشاء، ثم سقيناه لبن ناقة درور مدة من الزمن، ومتى تم لنا ذلك عبدناه، ثم لا نزال نفعل ذلك ما دمنا في ذلك المكان!» •••
ولكن هناك طائفة كبيرة من الناس كانت - على العكس من ذلك - على جانب عظيم من الرقي والحضارة، فلم يكن عندهم عقيدة في أرباب هي من صنع أيديهم من الحجارة أو الخشب!
ولقد كان الناس - في ظاهر أمرهم - يمجدون تلك الأرباب ويحجون إلى محرابها، ويحتفون بمواسمها السنوية، ويذبحون القرابين في هياكلها، ويريقون دماءها على تلك الآلهة التي يعبدونها؛ سواء أكانت من الحجر أم من الخشب، بل لقد كانوا يلجأون إليها كلما حزبهم أمر؛ ليلتمسوا منها البركات، ويتكشفوا بوساطتها مستقبل أمرهم الغامض.
على أن عقيدتهم فيها لم تزد على هذا القدر من المظاهر، أما فيما عدا ذلك فقد كانوا لا يترددون في تحطيم آلهتهم إذا لم تتحقق نبوءتها، أو إذا جرؤت على إذاعة شيء يكرهونه، ويخشون إذاعته مما اقترفوه من الدنايا.
وقد تنزل بأحدهم كارثة فينذر لأحد الأصنام أن يذبح نعجة قربانا له إذا تكشفت غمته، فلا يكاد يزول عنه الخطر
22
حتى يستبدل النعجة - وهي قيمة عنده - بغزال لا يكلفه ثمنه أكثر من أن يصطاده بيده، يفعل ذلك وهو معتقد أن ذلك المعبود لا يكاد يفرق بين النعجة والغزال!
23
أضف إلى ذلك أن نبوءات الآلهة لم يكن لها خطر عندهم ما لم توافق رغباتهم وتعبر عما يقصدون إليه من التفاؤل بما هم قادمون عليه من الأمور.
يؤيد ذلك أن أعرابيا اعتزم أن يثأر لأبيه ممن قتله، فأتى «ذا الخلصة»
24
وهو نصب مربع الشكل من الحجر الأبيض - ليستشيره فيما هو قادم عليه، وبدأ يقترع - على عادة العرب في ذلك - فرأى في السهم الأول أمرا بالمضي في طريقه، وفي الثاني نهيا عن ذلك، وفي الثالث أمرا بالانتظار والتريث؛ فلم ترضه هذه النتيجة وأعاد الكرة مرة بعد أخرى؛ فكانت النتيجة واحدة في المرات الثلاث، وثم غضب وألقى بالسهام في وجه الصنم وقال له: «مصصت بظر أمك! لو كان أبوك قتل ما عوقتني!».
25
كذلك كانوا يغضبون لأتفه الأسباب، وكلما تعارضت أوامرها مع رغباتهم، ولم تعبر عما يودون سماعه من الكلام، انهالوا عليها بالسباب والتحقير.
وأقبل رجل من بني ملكان
26
على «سعد» صنم قبيلته المعبود - وهو صنم في الصحراء - وكان مع الرجل إبله جاء بها ليقفها عليه يريد التبرك به، وبينما كانوا يريقون عليه دماء العثائر
27 - حسب عادتهم - نفرت الإبل وولت هاربة، فغضب صاحبها وتناول حجرا فرمى به وقال: «لا بارك الله فيك إلها أنفرت علي إبلي.»، ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه وهو يقول:
أتينا إلى «سعد» ليجمع شملنا
فشتتنا «سعد» فلا نحن من «سعد»
وهل «سعد» إلا صخرة بتنوفة
من الأرض لا يدعى لغي ولا رشد!
وكان بنو حنيفة أنفسهم أقل الناس احتراما لآلهتهم؛ إذ كانوا يأكلونها! ونحن جديرون أن نقرر عذرهم في ذلك؛ فقد كانوا يصنعون آلهتهم من نوع - بعينه - من العجوة، ومن اللبن والزبد؛ فلما وقعوا في قحط ومجاعة أكلوها. •••
ومن هنا يتضح أن العرب لم تكن تعتقد في تلك الأرباب اعتقادا جديا؛ فقد كان أكبر شيء يحترمونه هو الله تعالى، علي أن الله لم يكن له عندهم أيضا عقيدة قوية راسخة في قرارة نفوسهم؛ لأنهم كانوا لا يعرفون عنه شيئا كثيرا، إذ لم يكن له كهان يدعون الناس إليه، ويرغبونهم في عبادته وطاعته، ويذيعون إرادته ويوضحون لهم ما قدره من خير وشر. (8) عقيدة البعث
ولم يكن الناس على عقيدة واحدة، بل كانوا شديدي الاختلاف؛ فمنهم من كان يؤمن بحياة ثانية بعد هذه الحياة ويدين باليوم الآخر، ولا يقف عند حد الاعتقاد في بعث الإنسان، بل يدين ببعث الحيوان أيضا، ومن ثم كان يدفن راحلته إلى جانبه أو يتركها تموت على قبره، ليركبها يوم القيامة، فلا يتكبد عناء السير على قدميه.
على أن سوادهم كان يستهزئ بفكرة البعث ويسخر منها، وكانوا يدينون في كل مكان برأي القائل:
حياة، ثم موت، ثم حشر
حديث خرافة يا أم عمرو
وليس في هذا موضوع عجب، فإن هذه الفكرة - فكرة البعث - المحببة إلى نفوس الآريين؛ شديدة الغرابة عند الساميين! وآية ذلك أن اليهود أنفسهم لم يقبلوها من الفرس إلا بعد تشريدهم
28
إن لم نقل في أوائل التاريخ الميلادي، على أن جماعة الصدوقيين نفسها - وهي كبيرة العدد - قد رفضت فكرة البعث ولم تقبلها قط.
29
كذلك لم يلق محمد
صلى الله عليه وسلم
مقاومة جدية من العرب إلا حين دعاهم إلى هذه الفكرة، ونادى فيهم بوجوب الإيمان بصحتها، وما زال البدوي - إلى أيامنا هذه - لا يعنيه أمر البعث ولا يكترث له.
30 (9) المسيحية واليهودية
قلنا إن ديانة العرب الأولى كانت واهية لا ترتكز على أساس متين، ومتى أقررنا ذلك سهل أن نفرض أنه كان من اليسير على العرب أن يقبلوا دينا آخر - غير دينهم هذا - فيدينوا بالمسيحية أو اليهودية مثلا، وهذا كلام صحيح ولكن إلى حد ما، فقد انتشرت المسيحية لهذا السبب نفسه في جهتين: انتشرت في بلاد الحبشة - جنوبا - وفي سوريا - شمالا - حيث لقيت شيئا من القبول، وقد انتصرت كذلك في مدينة نجران في وقت مبكر، ودانت شبه جزيرة سينا بالمسيحية؛ وأصبح علم النصرانية خفاقا على كثير من الأديرة والكنائس، كما تنصر عرب سوريا.
على أن هذا النجاح كله لم يكن - في أي مكان تقريبا - إلا مظهرا من المظاهر لا حقيقة من الحقائق.
أما في أواسط بلاد العرب، وفي قلب جزيرتهم، حيث نبتت جرثومة العربي القح وأرومته، فلم تنجح فيها الدعاية للدين المسيحي. ولم نكن لنرى ثم إلا أثرا ضعيفا له، إن لم نقل معدوما.
وكانت المسيحية في ذلك الزمن - على وجه عام - بما تحويه من معجزات، وبما فيها من عقيدة التثليث، وما يتصل بذلك من رب مصلوب؛ قليلة الجاذبية بعيدة عن التأثير في نفس العربي الساخر الذكي، وآية ذلك ما تراه واضحا فيما حدث للأساقفة الذين سعوا إلى تنصير المنذر الثالث ملك الحيرة - حوالي عام 513 من الميلاد - وإن المنذر ليصغي إلى ما يقولون بانتباه إذ دخل عليه أحد قواده فأسر إليه بضع كلمات؛ ولم يكد ينتهي منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق، فتقدم إليه أحد القساوسة يسأله متأدبا متلطفا عما أشجاه. فأجابه الملك: «يا له من خبر سيئ! لقد علمت أن رئيس الملائكة قد مات. فوا حسرتاه عليه!»
فقال القسيس: «هذا محال أيها الأمير، وقد غشك من أخبرك بذلك، فإن الملائكة خالدون يستحيل عليهم الفناء!»
فأجابه الملك: «أحق ما تقول؟ وتريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت؟» •••
أما حظ اليهودية في اجتذاب العرب إليها فهو أكثر من حظ المسيحية، فقد رحلت جمهرة كبيرة من اليهود بعد أن شردهم الإمبراطور أدريان الذي ثاروا عليه فألحق بهم الأذى، وشتت شملهم، فوجدوا في بلاد العرب ملجأ لهم، وبثوا دعايتهم فيها؛ فدان باليهودية قبائل عدة من سكان الجزيرة العربية، ولعل هؤلاء هم وحدهم المتهودون الذين أخلصوا لليهودية حقا، وقد صارت اليهودية نفسها - في زمن ما - دين اليمن الرسمي.
على أنها ضعفت - على مرور الزمن - وقل إقبال العرب عليها؛ لأن اليهودية لا تلائم إلا شعبا مختارا، أما أن تكون دينا عاما للناس قاطبة فلا!
ذلك أنها ملأى بالشكايات والآمال الغامضة التي تعلق بها اليهود بعد أن خرب بيت المقدس، وليس هذا مما تلائم طبيعته الشعب الطموح إلى المجد!
وليس من أصالة الرأي أن نقول: إن سواد العرب كانوا يشعرون بحاجة إلى دين آخر، فإن العربي - ذلك البدوي الحر كما سنراه في كثير من المناسبات التي ستتيحها لنا الفرص أثناء دراسته - ليس متدينا بطبعه، كما أن كل محاولة بذلت في سبيل جعله كذلك كان نصيبها الفشل التام.
فالعربي رجل عملي، مادي، لا يعنى بغير الحقائق حتى في شعره، فهو لا يسبح في الخيال والوهم، ولا يميل إلى الأخذ بتلك الألغاز والمعميات الدينية التي يعتمد الإنسان في استيعابها على التخيل أكثر من اعتماده على التعقل. •••
إن ديانة العرب التي ألفوها لم تكن مهيمنة على نفوسهم ومشاعرهم ، بل كانت ضعيفة الأثر قليلة الخطر، ولكنها كانت دين سوادهم على كل حال، فإذا كان من الحق علينا أن نعترف أن المستنيرين منهم لم يؤمنوا بتلك الأرباب، فمن الحق علينا أن نقرر أيضا أن عدم إيمانهم بها لم يكن كافيا للقضاء عليها.
والحق أن أحدا لم يكن مضطرا إلى العقيدة، فقد كان البدو لا يبالون أن يسخروا حتى من أربابهم التي يعبدونها، ولا يترددون في إلحاق الأذى والضرر بها بقلوب جد مغتبطة، بيد أن القضاء - بعد كل هذه الاعتبارات - على عبادة كان يدين بها أجدادهم وآباؤهم من قبل، كان يثير في نفوسهم كبرياءهم القومي، أنفة من أن يتركوا دين أسلافهم الذين كانوا يفردونهم بكل إجلال وإكبار.
وجماع القول أن الديانة كانت في نظر العربي القديم - كما هي في نظر البدو في أيامنا هذه - أمرا لا خطر له؛ وآية ذلك أن شعراء الجاهلية لا نكاد نراهم يذكرون دينا أو عقيدة في أشعارهم، ولو فتشنا أناشيدهم لم نر فيها - إذا استثنينا أسماء الآلهة، وبعض الشعائر المختلفة - إلا عبارات مقتضبة لا تكاد تعثر فيها على ذكر لعبادتهم القديمة.
لقد عاش العرب للحياة الحاضرة، ولم يشغلوا أذهانهم بشيء من مسائل ما وراء الطبيعة، وكان مؤمنوهم يتابعونهم في ذلك الشعور ويصدرون عنه.
ومع كل هذه الاعتبارات، فقد وجدت لهذه القاعدة شواذ - شأن كل قاعدة - فإن وجود جماعات شتى من متألهي العرب الذين يدينون بوحدانية الله، وإن اختلفت وجهاتهم، وتباينت نحلهم - لتدين بعضهم باليهودية أو المسيحية - كان أمرا له خطره عند العرب، وله أثره في نفوسهم، إذ كان أولئك المتألهون لا يفتئون يبثون عقائدهم فيمن حولهم من العرب. (10) الحنيفية
ومن ثم رأينا في أواخر القرن السادس الميلادي لبعض الشعراء دلائل وآثارا لإيمان عميق بوحدانية الله، ورأينا منهم شعورا يقظا بالنبعة المترتبة على ما تصنعه أيديهم من خير أو شر، وهذه الفئة - التي ترى هذا الرأي - هي طائفة الحنفاء،
31
وقد كانوا في شتى الأنحاء لا تربطهم أية آصرة ولا تضمهم مذهب بعينه. كما تفعل الصابئة المنتسبون إلى إبراهيم الذين كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء أيضا!
وكان لهاتين الطائفتين - من الحنفاء - رأى واحد في رفض اليهودية والمسيحية معا والاعتراف بدين إبراهيم، وإبراهيم هذا - الذي عرفوه من اليهود والنصارى - هو الأصل الذي ينسبون إليه، فهو والد جدهم إسماعيل، وهو الذي بنى الكعبة في مكة.
وكانت شريعة الحنفاء سمحة رشيدة، واضحة المحجة، سهلة الإقناع لهؤلاء العرب العمليين، وهي في جوهرها صالحة لأن تكون دين العرب قاطبة، ولم يكن ينقصها - لبلوغ هذه الغاية - إلا أن تكون عقيدة ثابتة مستقرة، وأن تكون لها هيئة روحية ذات سيادة دينية، وأن تكون منزلة من السماء، أو تفهم على أنها كذلك. •••
وهذا هو العمل العظيم الذي أخذ محمد
صلى الله عليه وسلم
على عاتقه القيام به؛ ليتمم نقص الحنيفية، ولكن هذا العمل - على ما فيه من صعوبة - قد ضوعفت مصاعبه؛ لأن العرب لم يكونوا في غير حاجة إلى الدين فحسب، بل كانوا - إلي ذلك - ينفرون بطبيعتهم من كل مظهر من مظاهر العبادة ومراسمها، كما كانوا يكرهون الفروض الغامضة والمعميات التي تتصل بما وراء الطبيعة.
ولا بد من إقناع جازم ويقين لا يتزعزع للتغلب على هذه العقبات.
الشرائع
32
كم من شرائع أبلى الدهر جدتها
وأصبحت - بعد حين - طي أرماس
لكل جيل جديد ما يلائمه
من الشرائع والأخلاق والناس (11) بعد وفاة النبي
33
مات النبي ولم يترك ولدا له، ولم يعين خليفة يخلفه، فكانت الساعة غاية في الحرج، وأصبح كيان الإسلام نفسه مهددا نهب الحوادث والظروف، وقد انتشر خبر وفاته بسرعة لا مثيل لها، وكان له وقع شديد على أصدقائه المخلصين، وكأنما أصابتهم صاعقة حين بلغهم هذا النبأ المروع، وكان الناس قسمين، قسما يحسبه خالدا لا يموت، وقسما لا يتوقع موته بهذه السرعة، بل يؤمل له حياة طويلة، وعمرا مديدا، وكان «عمر» - خاصة - ممن يؤمل هذا الأمل.
وبعد أن مات النبي وأسلم آخر أنفاسه بزمن يسير، دخل «عمر» مخدع «عائشة» فرفع الغطاء - الذي كانت جثة النبي مسجاة به - وتأمل محيا سيده مليا وهو في نومته الأبدية - فرأى كل شيء هادئا، ونظر إلى ما حوله فرأى سكونا طبيعيا، فلم يعد يصدق ذلك النبأ المروع، وصاح: «كلا لم يمت النبي بل هو في غيبوبة!»
وكان «المغيرة» حاضرا فحاول عبثا أن يرشده إلى خطئه، فقد صرخ فيه عمر: «كلا بل تكذب، إن رسول الله لم يمت ولكن خبث طويتك، وفساد نفسك الشريرة قد أدخلا في روعك هذا الوهم الخاطئ، ولن يموت النبي قبل أن يقضي على المنافقين ويبيد أهل الشرك.»
ثم ذهب «عمر» - من توه - إلى المسجد فصاح فيمن تجمهر من الناس: «لقد زعم الزاعمون، وأرجف المرجفون أن محمدا قد مات، وبئس ما يتقولون، ألا إن محمدا لم يمت، وإنما ذهب للقاء ربه كما فعل موسى إذ غاب عن قومه أربعين يوما ثم رجع إلى أصحابه - بعد أن يئسوا من عودته - ووالله ليعودن النبي كذلك، ثم ليعاقبن كل من اجترأ على هذا القول!»
ولم يكد يسمع الحاضرون قوله حتى آمنوا عليه، ولا غرو في ذلك؛ فقد كانوا - إلى زمن يسير جدا - يرون محمدا في نفس المكان الذي يخطبهم فيه «عمر»، فلم يكن أحب إليهم من تصديق ما يقوله «عمر».
وجاء «أبو بكر» في هذه اللحظة فاخترق المسجد، وأصغى هنيهة قصيرة إلى كلام «عمر» المتأجج عاطفة وحماسة؛ ثم أسرع إلى مخدع «عائشة» ووقف أمام جثة النبي أيضا، فرفع الغطاء عنها، وقبل وجه صاحبه - وهو مستغرق في نومته الأبدية - ثم صاح قائلا: «طبت حيا وميتا.» ورفع رأس النبي بتؤدة وأناة، وتأمل أسارير ذلك الوجه الذي طالما تملى به من قبل، ثم قال: «نعم لقد مت، فوا أسفا عليك أيها الصديق المحبوب! بأبي أنت وأمي؛ فقد قاسيت من غمرات الحمام ما قاسيت، وتجرعت من غصص الموت ما تجرعت. وإنك لأكرم على الله من أن تتجرع هذه الكأس مرة أخرى!» ثم وضع رأس النبي برفق - على وسادته - وقبل رفيقه مرة أخرى، ثم سجاه بغطائه ورجع - أدراجه - إلى المسجد فوجد «عمر» لا يزال يتأجج حماسة، وهو يخطب الناس ليقنعهم أن الرسول لم يمت، فصاح فيه: «حسبك يا عمر! هدئ من ثائرتك واجلس حيث أنت!»
فلم يصغ إليه عمر وطفق يخطب الناس، فولى أبو بكر وجهه شطر الناس، فأقبلوا عليه وتركوا عمر، فقال لهم أبو بكر: أما قال تعالى - في محكم آياته - لنبيه:
إنك ميت وإنهم ميتون
أما قال تعالى في آية أخرى - بعد موقعة أحد:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم .
ألا من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت! •••
وكأنما كان الناس في حلم فأفاقوا منه بعد ما سمعوه من قول أبي بكر، فقد ذهل الناس من فداحة الخطب عن هذه الآيات القرآنية حتى إذا ذكرهم بها «أبو بكر» الرزين أيقنوا جميعا أنهم لن يروا النبي بعد! (12) انتخاب الخليفة
بقيت عقدة خطيرة لا بد من حلها؛ وهي أن محمدا قد مات ولم يعين من يخلفه، فلا مندوحة إذن عن انتخاب أمير لهم، ولكن من الذي يعين هذا الأمير؟
أيعينه كل المسلمين؟ هذا حسن، فهل من سبيل إلى تحقيقه؟
لقد كان الوقت عصيبا، وكان من السهل أن يرى الإنسان أمامه أزمة رهيبة وشيكة، وجمهرة من القبائل لن تلبث أن ترتد عن الإسلام؟
إذن يتعين أن يقتصر انتخاب الخليفة على القبيلة التي لها الصدارة والسلطان - بين قبائل العرب قاطبة - وثم اجتمع الأنصار «أهل المدينة» الذين عز بهم الإسلام وانتصر، فمن يختارون؟
لا مجال للتردد والحيرة، فأمامهم الفارس النبيل «سعد بن عبادة» رئيس الخزرج، وقد كان من الطبيعي المألوف أن يختاروه - ولم يكن حينئذ تم شفاؤه من مرض خطير كان قد ألم به - فحملوه مدثرا مدوجا إلى جمهور المدنيين، وكان ضعيفا من أثر المرض فلم يستطع إبلاغهم صوته؛ فقام أحد أصحابه يردد ما يقول.
وقد ذكر «سعد بن عبادة» أصحابه بأنهم أول من دخل الإسلام من القبائل، وأن نصرته لم تتم إلا بهم بعد، وأنهم لذلك جديرون بالزعامة على العرب قاطبة.
فقابلوا كلامه بالاستحسان والتحبيذ، وأظهر جمهورهم له حماسة شديدة ، ونادوا به - في الحال - خليفة لرسول الله، ولكن فئة قليلة منهم أبدت خوفها من رفض المهاجرين هذا الرأي وعدم رضائهم عنه؛ فأجابهم أصحابهم: «لا علينا من ذلك، وسنقول لهم حينئذ: «لقد اخترنا لنا أميرا، فاختاروا لكم أميرا وافترقوا عنا، فلن نذعن - بحال ما - لغير أميرنا الذي اخترناه.»
ولم يكد يبلغ «أبا بكر» هذا النبأ حتى أقبل عليهم بأقصى ما في قدرته من سرعة، ومعه عمر، وأبو عبيدة - وما كادوا يصلون حتى انبرى عمر للكلام فمنعه أبو بكر - وله كل الحق فيما فعل - خشية من تحمسه واندفاعه، وقال له: «تريث حتى أتكلم ثم قل ما شئت بعدي.» •••
وبدأ أبو بكر يخطب في الناس - بكل تواضع - فاعترف للمدنيين بما قاموا به من خدمات جليلة للإسلام، ثم أظهر لهم - إلى هذا - جدارة المهاجرين بالخلافة؛ لقرابتهم من الرسول وكونهم من أسرته، ثم لأنهم أول من دان بالإسلام، وقد لقوا في سبيله ألوانا من العسف، وضروبا من النكال، واحتملوا ذلك كله صابرين!
ثم قال: «فأنتم تلوننا في هذه المرتبة، فليكن الأمير منا والوزراء منكم.» فأجابوه: «بل منا أمير ومنكم أمير!»
فصاح عمر: «كلا، ومحال أن نولي أميرين، ولن تعترف العرب بمن تختارون؛ فليس نبيهم من قبيلتكم، ولن يخضعوا لأحد إلا أن يكون قريبا للنبي، ومن رفض ذلك أرغمناه على قبوله إرغاما.»
وحمي وطيس الكلام، وكاد اللجاج ينقلب خصومة؛ لو لم يقل لهم «أبو عبيدة»: لقد كنتم أول ناشر للإسلام، وأول معين للنبي، فلا تكونوا الآن أول ساع في التفرقة وتشتيت الوحدة الإسلامية.
وهنا قام «بشير» - قريب «سعد» ومنافسه - فقرر ما للمهاجرين المكيين من الحقوق في أعناق المسلمين، فأثر كلامه في نفوس فئة من الخزرج، ولكن الأثر لم يبلغ أشده إلا في نفوس القبيلة المدنية الأخرى، وهي قبيلة «الأوس»، بسبب ما كان بينها وبين قبيلة «الخزرج» من نفور قديم جعلهم لا يرتاحون إلى سعد، ولا يرضون به أميرا عليهم، وكانوا - منذ لحظة - يقررون حق المهاجرين وجدارتهم بالخلافة، فلما سمعوا كلام أبي عبيدة ثبتوا على رأيهم، وظاهروا المهاجرين على الأنصار.
وبذلك سنحت فرصة ملائمة، فأسرع أبو بكر إلى انتهازها وأمسك بيده - عمر وأبا عبيدة - داعيا المدنيين إلى اختيار واحد منهما لمبايعته بالخلافة، فصاحا في نفس واحد: «بل أنت خير منا، فامدد يدك نبايعك ونقسم لك على الخضوع والطاعة.» وامتدت بين يديهما يد ثالثة إلى يد أبي بكر، وهي يد «بشير» الذي أسرع بمبايعته معهما؛ ثم نهج الأوس منهجه وأقبل المسلمون يبايعونه أفواجا، واشتد الزحام وعلت صيحات الفرح؛ فاختلطت بأصوات الدهشة، وأراد حباب الخزرجي أن يناوئ الدعوة فصرخ مهددا بالحرب، واستل سيفه فانتزعه «عمر» من يده.
ورأى «سعد» آماله في الخلافة تتبدد هباء، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد أصبح «سعد» نفسه في خطر حين تكأكأت عليه الجموع، فكادت تسحقه - وهو في محفته التي كان محمولا عليها - وعبثا حاول أصحابه أن يقنعوا جمهرة المسلمين بوجوب احترامه؛ فإن «عمرا» نفسه لم يتورع عن إهانته ووصفه بأقبح النعوت - على الرغم من أنه خصم أعزل جليل القدر - وقد تداركه أبو بكر فصد هذه الجموع عنه وأنقذه من أذاهم وشرهم. •••
وإذن فقد تم انتخاب الخليفة - خليفة النبي - وسط هذه الفوضى الشاملة، كما اعترف بهذه الحقيقة «عمر» نفسه على ملأ من الناس في المسجد المدني فيما بعد. وقد كسب المكيون بهذا الفوز أمرين: «زعامة العرب، وحسن اختيار الخليفة».
فقد ولوا أمورهم رجلا كان أخلص صديق لنبيهم، ولو ترك أمر اختيار الخليفة إلى الرسول فقد لا يختار سواه؛ ذلك أنه جمع - إلى حبه الرسول - متانة الإيمان وقوة اليقين وصدق العزيمة في إعزاز الإسلام ونصرته.
وبهذه الصفات نجح أبو بكر في التغلب على المصاعب والعقبات التي كانت تكتنفه.
وفي الحق أن الوقت كان عصيبا، وكانت الظروف غاية في الحرج، فقد كان موت النبي - الذي كانت تترقبه العرب منذ زمن طويل بفارغ الصبر - مؤذنا بالثورة في كل مكان، ولقد كنت ترى الثائرين - في حيثما ذهبت - رافعين علم الثورة والتمرد، وقد رجحت كفتهم أيما رجحان حتى لقد طردوا ولاتهم من بلادهم، فلم يجد هؤلاء أمامهم ملجأ إلا المدينة؛ فتقاطروا عليها من كل فج يحتمون فيها من أذاهم.
وكان لا يمر يوم حتى يفد على المدينة بعض الولاة، والعمال المطرودين، وأعدت القبائل المجاورة للمدينة عدتها لحصارها.
فكيف يقاومهم «أبو بكر» وليس لديه جيش يحاربهم به بعد أن أرسل جيشه إلى سوريا ليفتحها؛ تنفيذا لأمر النبي - برغم نصيحة المسلمين الذين رأوا خطورة الحال، ولقد ألحوا عليه أن يعدل عن تنفيذ فكرة الفتح حينئذ، فقال لهم: «لن أخالف ما أمر به النبي ولو أصبحت المدينة نفسها نهبا للثائرين والمتمردين، ولا بد لي من تحقيق مشيئته!»
ومن ثم ترى الخطر العظيم باديا، على أنه - على الحقيقة - خطر أقل مما تدل عليه ظواهره، فإن قوة الخصم الحقيقية لا تقاس بما لديه من عدة ورجال، بل بما عنده من قوة معنوية، وبما يصبو إلى تحقيقه من غاية سامية يتطلع إليها ويخوض غمار الحرب من أجلها، باذلا في سبيلها النفس والنفيس.
فما هي الغاية التي يسعى إليها الثائرون؟ وأي حافز يدفعهم إلى إضرام هذه الحرب؟
أهو إيمان وثيق متوشج في أعماق قلوبهم كإيمانهم القديم الذي كانوا عليه قبل البعثة؟ لو كان ذلك لما كان ثمة شك في انتصارهم الحاسم!
ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فإنهم لا يحاربون الآن لينصروا دينهم القديم ويؤيدوه؛ بل هم يثورون على دينهم الجديد؛ لأنهم لا يطيقون احتماله.
وليس هذا بالسبب القوي الذي يلهب حماستهم ويحفزهم إلى الإتيان بجلائل الأعمال، ولا هو بالسبب الذي يخلق البطولة والأبطال، فقد كان رؤساء القبائل المتمردة أنفسهم شاعرين كل الشعور بضعف قوتهم المعنوية؛ فلجأ بعضهم إلى فكرة سخيفة حسبوا أنها تعيد إليهم تلك القوة، فادعوا النبوة! وخيل إليهم أن محمدا لم ينجح إلا بهذه الفكرة؛ فأرادوا تقليده.
ولكنهم نسوا أمرا واحدا - هو سر نجاحه في بث دعوته - ذلك أنه كان مؤمنا بما يدعو إليه إيمان المستيقن الجازم، وهذا هو الذي يعوزهم وبغيره لا يتم نجاح.
وكانت تلك الثورة الهائلة وتلك الحرب الشعواء - على ما أريق فيهما من دماء غزيرة إذا قورنت بما أتاه المسلمون في غزواتهم التي عز بها الإسلام - ظاهرة سخيفة مضحكة، يتمثل فيها الإنسان - عن غير قصد - كيف قلبوا تمثيل هذه الرواية الجدية التي مثلها النبي وأصحابه مهزلة وعبثا!
ألا ترى إلى مسيلمة الذي مثل دور النبي في اليمامة؟
ألا ترى إلى ذلك الدجال السوقي التعس، ذلك المشعوذ السمج، الذي لا يصلح لغير التدجيل وإدخال بيضة في زجاجة ضيقة الفوهة، ألا ترى إليه ينشئ قرآنا سخيفا يقلد به محمدا، ثم يرخص لأتباعه في شرب الخمور أنى شاءوا، ولا يكاد ينشر دعوته حتى يصادفه سوء الحظ فتحاصره «سجاح» وتنازعه النبوة. •••
أما «سجاح» هذه فقد كانت مسيحية نشأت في «بلاد النهرين»، وجاءت تبث الدعوة لنفسها - على رأس جيش عظيم - فماذا يصنع مسيلمة؟
ليس أمامه إلا أن يلجأ إلى طريق المسالمة - وقد فعل - فأرسل إليها هدايا فاخرة، ودعاها إلى محادثته، وطال بينهما الحوار.
34
ولما عادت «سجاح» إلى قومها سألوها عن رأيها في «مسيلمة» فقالت لهم: «لقد رأيته نبيا حقا فتزوجت منه!»
فسألها التميميون: «وهل أهدى إلينا شيئا من مهر الزواج؟»
فقالت: «لا.» فقالوا لها: «عار علينا أن نزوج نبيتنا بلا مهر! ولن نقبل ذلك بحال ما!»
فأرسلت إليه بذلك - وكان مسيلمة خائفا متحصنا - فلما جاءه الرسول لم يأذن له حتى عرف الغرض الذي جاء من أجله، فاطمأن إليه وقال له: «عد إلى قومك فأخبرهم أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد رفع عن التميميين - من الصلوات الخمس - صلاتي الصبح والعشاء».
ولقد فرح التميميون بذلك، وساروا عليه حتى بعد أن عادوا إلى الإسلام من جديد. •••
ومن ثم أن هؤلاء التائبين ليس لهم عقيدة جدية يدافعون عنها، فلا غرو إذا قهرهم رجل كأبي بكر وثيق الإيمان قوي الإرادة صلب العزيمة، لا يعرف هوادة - في إرغام أنوفهم - ولا رحمة!
ولو شاء أبو بكر أن يهادنهم لتنازل لهم عن قليل من مطالبه، فكسب بذلك مساعدة كثير من القبائل - أو ضمن حيادهم على الأقل - فقد وعدوه بالمواظبة على إقامة الصلاة المفروضة عليهم؛ على شريطة أن يعفيهم من إيتاء الزكاة، ونصحه أعيان المسلمين أن يقبل ذلك منهم، فرفض رأيهم بإباء شديد، وقال لهم:
35 «إن الإسلام قانون واحد لا يتجزأ، وليس لأحد أن يأخذ ببعضه ويرفض البعض الآخر».
وقد كان هذا الإصرار الحازم، وذلك الحقد الشديد على أهل الردة سببا في منحه قوة أكبر مما نتصور. •••
ولم يكد ينتهي من إخضاع القبائل المجاورة له حتى بدأ يهاجمه «طليحة» الذي كان بطلا من قبل، وقد جاء يدعي النبوة كغيره ثم يجبن عن دخول المعركة؛ فيرقب الحرب - وهو بعيد عن الميدان - مدثرا في عباءته كأنما يؤمل أن ينزل وحي من السماء، أو تحدث معجزة خارقة، وقد ترقب ذلك زمنا طويلا ثم وقعت المعجزة؛ إذ بدأت تنهزم قبيلته أشنع انهزام، وحينئذ صاح في جنده: «احتذوا حذوي إن استطعتم.» ثم امتطى جواده، وأطلق له العنان، وأمعن في فراره. •••
وكانت تلك المعركة التي اصطلاها المسلمون، معركة مروعة هائلة، وفي الحق أن الدماء التي أريقت في هذه الحرب كانت أكثر مما أريق في تلك الحروب الطاحنة التي نشبت فيما بعد بين المسلمين والفرس، ثم بين المسلمين، والإمبراطورية الرومانية، وقد اقترف العرب من الفظائع في هذه الحرب «حرب الردة» شنعا لم يعرفها الإسلام قط، فكانوا إذا انهزم العدو تعقبوه ونكلوا به؛ لأن الردة جزاؤها القتل، لا هوادة في ذلك ولا رحمة، وقد بعث أبو بكر إلى خالد يأمره بقوله: «عليك بإبادة الكفرة بالحديد والنار، ولا تأخذنك فيهم رحمة قط!» •••
ولقد انهزم أصحاب مسيلمة - وكان عددهم زهاء عشرة آلاف مقاتل - ومزقهم المسلمون شر ممزق، وغرقت بلاد العرب كلها في الدماء!
ولكن الإسلام قد خرج من تلك المعارك - الناشبة في كل مكان - مؤيدا منصورا، ودان به العرب بعد ذلك - طوعا أو كرها - فقد أقنعهم خذلانهم بوجوب الاعتراف بالدين الإسلامي؛ إن لم يكن اعتراف المستيقن المؤمن، فاعتراف الخائف الذي يعرف قوة هذا الدين العظيمة التي لا تجدي معها أية مقاومة. (13) بعد النصر
ولم يكد يتم انتصار أبي بكر حتى وجه هؤلاء البدو الظامئين إلى الدماء، إلي مهاجمة فارس والإمبراطورية الرومانية ، وهذا العمل عند من ينظر إلى ظواهر الأمور وحدها جرأة وتهور، ولكنه - على الحقيقة - رزانة وتعقل.
وإنما سار أبو بكر في هذا على خطة النبي التي كان يتبعها، وهي أن يشغل العرب عن التفكير في خضوعهم، ولا يدع لهم وقتا كافيا لذلك، وقد رأى أن خير ما يربطهم بالإسلام لا يكون إلا عن طريق الفتح والانتصارات الحربية وما يجره ذلك من الغنائم. •••
وهكذا انتهت حروب الردة، ولم تقم للمرتدين بعدها قائمة، فقد كان عقاب الردة القتل؛ ومن هنا تظاهر الناس بالإسلام ووقفوا عند هذا الحد.
ونحن إذا استثنينا صفوة المسلمين ونواتهم المؤلفة من المهاجرين والأنصار وبعض من يمتون إليهم بسبب، لم نجد بعد ذلك من يعرف القرآن وتعاليمه إلا عددا غاية في القلة، أما العرب الذين استوطنوا أفريقيا فقد ظلوا - حتى بعد مضى قرن من الهجرة - لا يعرفون من الإسلام أكثر من أنه دين أتى بتحريم الخمر.
أما أولئك الذين استوطنوا مصر فإنهم ما تحدثوا عن الإسلام، أو شغلوا به أنفسهم قط، وكانوا لا يذكرون إلا أيام الوثنية وعهودها الطيبة بالثناء والحنين. •••
ولما انتصر العرب على الفرس في موقعة القادسية «635م» وأخذ كل واحد نصيبه من الغنائم، بقيت نفائس أخرى وافرة لم تقسم بعد، فكتب الخليفة «عمر» - أمير المؤمنين حينئذ - يأمر القائد بتوزيع باقي الغنائم على من يحفظ أوفر قسط من القرآن.
فجمع القائد إليه أبطال الجهاد الذين تم بفضلهم النصر والفوز، فسأل «عمرو ابن معد يكرب» النبيل عما يحفظه من القرآن فأجابه: «لا شيء لأنني دنت بالإسلام في بلاد اليمن، ثم صرفتني الحروب العديدة عن القرآن وعن الاشتغال به.»
36
فالتفت القائد إلى بشر بن طائف يسأله، فكان جوابه: «ليس حظي من ذلك بأوفر من حظ عمرو: «بسم الله الرحمن الرحيم».» وقد كان هذا هو كل ما يحفظه من القرآن! •••
زد على ذلك أن الإسلام، وإن لم يلق معارضة قوية أثناء فتوحاته المتوالية المظفرة فإن ثراة مكة وطبقة الأرستقراطية العربية لم يغفروا لأصحاب هذا الدين الجديد ومؤسسيه هذا الفوز الذي أحرزوه، ولم يرضوا عن ذلك السلطان الذي أراد الموحدون أن يبسطوا ظله عليهم.
ولقد كانت تقوم المنازعات والشغب على مسألة من المسائل ظاهر أمرها أنها شخصية لا علاقة لها بمبدأ أو عقيدة، وهي - في حقيقتها وجوهرها - غير ذلك ؛ فقد كان يتخذ النزاع غرضا يحوم حوله ومبدأ يناضل عنه؛ ليتخذ منه تكأة يبرر بها غايته من الشغب.
وقد بدأ ذلك بحادث عثمان - ثالث الخلفاء - حين تولى الخلافة بعد وفاة «عمر» «644م»، وكانت سن «عثمان» حينئذ سبعين عاما، وكان حليما لين العريكة، ضعيف الإرادة أمام أسرته، وأعيان مكة، وثراتها ورجال بني أمية؛ أي إنه كان ضعيف الإرادة أمام كل من ناصبوا «محمدا» العداء عشرين عاما، ثم أسلموا فكان في إسلامهم مجال واسع للظنون والحذر، ولقد نالوا بفضل «عثمان» أرفع المناصب، وانتهت المأساة الكبرى بقتل المسلمين خليفتهم الشيخ المسن «عثمان».
ثم ولي الخلافة بعده «علي» ابن عم «محمد»، ولكن لم يتم الاعتراف به في كل مكان، فقد هبت سوريا متحمسة إلى امتشاق الحسام وعلى رأسها واليها «معاوية بن أبي سفيان» - وكان انتصاره حينئذ هو انتصار جمهرة المعادين للإسلام، الذين كانوا يناوئونه من صميم قلوبهم، على أن المسلمين حقا لم يخضعوا لهم، فقد أشعلوا نيران الحرب - من جديد - في زمن «يزيد الأول» ابن معاوية الذي ولي الخلافة من بعده، ولقد قام «الحسين» وهو الابن الأصغر لعلي يطالب بالخلافة، ولكنه صرع هو وفئته القليلة التي كانت تناصره في موقعة كربلاء.
37
ومن ثم قام «عبد الله بن الزبير» - وهو ابن صحابي من صحابة الرسول - إلى مكة رافعا علم الثورة، وظل سنة كاملة لا يحفل به الخليفة، ولا يلتفت إليه استصغارا لشأنه، ذلك أنه لم يغادر مكة إلى غيرها من البلدان فلم ير له الخليفة خطرا يستحق أن يناوئه من أجله، ورأى أن من الحزامة أن يتركه وشأنه؛ حتى لا يثير عليه حفيظة المسلمين أكثر مما أثار من قبل - بلا حاجة - فلم تكن ثمة ضرورة قاهرة تضطره إلى إراقة الدماء في بقاع كانت - - حتى في زمن الوثنية - حرما مقدسا لا يمسه أحد بسوء.
ولكن لكل شيء حدا، فقد صبر يزيد حتى عيل صبره، فلما لم يبق في قوس الصبر منزع طلب إلى عبد الله بن الزبير - للمرة الأخيرة - أن يبايعه، فلما رفض امتزج الخليفة بالغضب، وأقسم أنه لن يقبل من هذا الثائر طاعة حتى يؤتى به بين يديه مكبلا بالأغلال، ولما هدأت ثائرة الخليفة ندم على قسمه - وكان طيب السريرة - ففكر في وسيلة يبر بها في قسمه - دون أن يمس كبرياء «عبد الله» - ثم استقر على أن يرسل إليه غلا من الفضة، ومعه حلة فاخرة ليخفيه تحتها - إذا شاء - وبعث إليه برسل يحملون معهم هدايا ثمينة، فساروا من مقر ملكه «دمشق» حتى بلغوا «مكة»، ولكن «عبد الله» رفض - بطبعه - أن يقبل تلك الهدايا، وعبثا حاول الرسل أن يتوصلوا إلى إقناعه وإنزاله عن رأيه، فقد أصر «عبد الله» على عناده؛ لأنه كان يعتقد أن كائنا من كان لن يفكر - بحال ما - أن يلجأ إلى العنف والشدة معه - وهو في تلك البقاع المقدسة - وكان هذا سر طمأنينته، وقد أكد له الرسل بصراحة أن الخليفة لن يعنف معه، ولن يقدم على مثل ذلك العمل.
على أن «عبد الله» لم يكن أول من تعرض لغضب الخليفة ونقمته، فقد سبقه إلى ذلك ثوار «المدينة»، وكانت روح الشر مهيمنة عليهم في ذلك الحين، فقد وقعت بينهم وبين الوالي - حينئذ - خصومة بسبب النزاع على تملك بعض الأراضي. وأراد الوالي إزالة أسباب الخلاف - وكان ابن أخت الخليفة يزيد - فنصح ثراة المدينة وأعيانها أن يذهبوا إلى بلاط الخليفة، فلما ذهبوا قابلهم الخليفة أحسن مقابلة وأكرم وفادتهم وتلطف معهم؛ رغبة في أن يستميلهم إليه، ولكن يزيد كان - رغم أدبه ونبله - غير مشبع بروح احترام الدين الذي كان يمثله وهو خليفة المسلمين الأعظم، فبدرت منه آراء - عن غير قصد - صدمت بعض أصول الدين التي يقدسها أهل المدينة، فلما عادوا إلى بلادهم عادوا ساخطين، وأخذوا يشهرون بالخليفة ويذمونه عند مواطنيهم متأثرين بعامل الغضب، وقالوا لهم: «إنه يشرب الخمر، ويعزف على الأوتار، ويصرف نهاره بين كلاب الصيد - وقد كان «محمد» يمقت ذلك أشد المقت - فإذا جن الليل جلس بين اللصوص وقطاع الطرق.» يعنون بذلك البدو والأعراب الذين نشأ بينهم يزيد وترعرع، فلما كبر أدناهم من مجلسه. •••
وزادوا على ذلك أنه لا يصلي قط، وأنه جاحد، وعزوا إليه - فوق هذه التهم التي بنوها على أساس واه أو متين - تهما أخرى لا أساس لها ولا وجود، وإن كان ذكرها مما يثير في نفس خصومه من أهل المدينة حفائظ وأحقادا بعيدة الأثر.
وقد كانوا يميلون إلى تصديق كل تهمة تلصق بكل أموي.
ومن ثم انقلب المسجد مسرحا عجيبا تصب فيه اللعنات على يزيد وأتباع يزيد، واجتمع أهل المدينة قاطبة - وهم صاخبون - فشرع كل واحد منهم يتجرد من شيء من ملابسه فيلقي به صائحا: «إني أخلع يزيد كما أخلع قبائي هذا.» أو «عمامتي» أو «نعلي».
ثم طردوا كل من في المدينة من الأمويين ووقفوا عن تعيين خليفة جديد لهم، فقد كان القرشيون الذين في المدينة لا يحبون أن يعترفوا بأهلها، كما كان أهلها كذلك لا يحبون أن يعترفوا بهم.
فقر رأيهم على أن يتريثوا في تعيين الخليفة حتى يتم خلع يزيد!
واستحوز عليهم عداء جنوني - لا يحدوه رشد - فلم يتبصروا عواقب هذا الاندفاع وكيف تقف مدينة واحدة أمام جيوش الإمبراطورية الإسلامية العظيمة كلها.
ولقد حاول عبثا أحد المدنيين - وكان قد عاش في بلاط الخليفة ثم أوفده سيده إلى المدينة - أن يبين حقيقة الخطر لمواطنيه، ولكن الغضب أعماهم؛ فأصبحوا لا يعيرون الناصحين التفاتا، ولا يصيحون إلى أية موعظة تقدم إليهم بحسن نية. •••
وحينئذ رأى الخليفة أنه مضطر إلى الالتجاء إلى القوة، فأرسل إليهم جيشا عهد بقيادته إلى «مسلم»، وكان «مسلم» أقرب إلى الوثنية منه إلى الإسلام، فأمره أن يترك لأهل المدينة ثلاثة أيام يفكرون فيها، فإذا أبوا أن يخضعوا - بعد ذلك - هاجمهم ودمر مدينتهم تدميرا في ثلاثة أيام أخرى، ثم أخذ على من فيها المواثيق بأنهم عبيد يزيد، وأمرهم أن يقسموا على ذلك، فإذا رفض أحدهم أن يفعل قطعت رقبته.
ولم يكد يبلغ أهل المدينة رسالته حتى هبوا ثائرين أنفة من الخضوع، وأعدوا عدتهم للقاء العدو، وجاهد الفريقان بشدة وصبر نادرين - وكانت موقعة الحرة سنة 683م - وظهرت الخسائر من الفريقين متكافئة، وكان أهل المدينة متحمسين يذكي فيهم الحرارة والقوة تعصبهم الشديد، واعتقادهم الثابت أنهم المختارون، وأن أعداءهم - من جيش سوريا - هم عند الله كالوثنيين سواء، وكانوا على يقين من أن خصومهم إذا ماتوا صبت عليهم اللعنات وباؤوا بغضب من الله؛ أما هم فإنهم سالكون - بلا شك - مسالك الشهداء والأبرار.
وبقي مصير الحرب معلقا في كف الأقدار زمنا طويلا؛ حتى كشفت الخيانة عنه، فقد ارتشت أسرة من المدنيين؛ ففتحت أحد أبواب المدينة لفرقة من جيش العدو، فدخل السوريون وسمع أهل المدينة من خلفهم - فجأة - صيحات النصر من أفواه السوريين، فضاع كل أمل لديهم في الفوز والغلبة، وأصبحت المدينة في قبضة العدو، وصار كل هجوم عبثا ومستحيلا، على أن جمهرتهم لم تفكر في الخطر المحدق بها، فهجم أهل المدينة على أعدائهم فرادا، وباعوا حياتهم بأغلى ثمن استطاعوا أن يبيعوها به!
وكان من بين القتلى سبعمائة من حفظة القرآن، وأربعة وعشرون من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة الذين حاربوا مع النبي قد حارب - بعد أن نصروه في حرب بدر على المكيين - حتى شهدوا هذا اليوم المشئوم.
ودخل «المدينة» فرسان سوريا، فلما لم يجدوا مكانا يربطون فيه خيلهم ربطوها في مسجد المدينة، بين جدث النبي وكرسيه؛ أي في نفس المكان الذي طالما سماه النبي نفسه جنة «من جنان الفردوس». •••
ثم نبهوا المدينة في ثلاثة أيام، وسبوا كل من فيها من نساء وأطفال؛ ولم ينج أحد ممن بقي من أهلها - وقد فر أكثرهم - إلا بعد أن أقسم أن يكون عبدا من عبيد يزيد. وهكذا أقسموا جميعا على أن يكون الخليفة «يزيد» سيدهم ومولاهم، وأن يكون في حل من التصرف فيهم بما شاء، من عتق أو بيع، كما أقسموا أن يكون له الحق في كل ما تملك أيمانهم من نساء وأولاد وأرواح.
ولما رأى أبناء مؤسسي الإسلام أنهم مضطهدون معذبون، وأن بني أمية قد أرهقوهم إرهاقا، لم يجدوا أمامهم وسيلة إلا المهاجرة؛ فهاجر الكثيرون منهم إلى حيث انضموا إلى جيش أفريقيا، ثم انضم أغلبهم - فيما بعد - إلى جيش العرب في إسبانيا.
وكان «مسلم» مكلف أيضا بإخضاع مكة؛ ولكن الموت عاقه عن تحقيق إربته، فأخذ «الحصين» - وهو أحد رجال جيشه - على عاتقه أن يحقق ذلك، فتولى قيادة الجيش، وبدأ يحاصر مكة، ويقذف الكعبة بالحجارة والصخور؛ حتى حطم عمدها وقواعدها، ثم نجح أخيرا في إحراقها جملة، ولقي الحجر الأسود في هذه المرة أول نكبة حاقت به؛ لأنه لم يطق مقاومة النار فتحطم أربعة أجزاء.
على أن مكة لم يتم إخضاعها؛ فقد حال دون ذلك موت يزيد، وما أعقبه من الفوضى التي اضطرت الجيش إلى رفع الحصار والرجوع بالجيش توا إلى سوريا. وبهذا استعاد «عبد الله بن الزبير» قوته، واستتب له أمر الخلافة في «مكة» وخارجها أيضا.
ولكن الأمويين ما لبثوا أن تم لهم الأمر من جديد بعد أن تولى الخلافة «عبد الملك» وخضعت البلاد كلها له، ولم تبق إلا مكة وحدها ثائرة وفيها «عبد الله بن الزبير»، فلما رأى «عبد الملك» ذلك وجه إليها جيشا بقيادة الحجاج، فذهب إلى تلك البقاع المقدسة وحاصر المدينة، وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكها دكا، وبينما كان يقذفها بالنار - ذات يوم - هبت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديا؛ فرأى الجيش في ذلك عقابا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس، فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك. •••
فاغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه وتقدم إلى المنجنيق، فأخذ بيده حجرا ووضعه فيه، ثم حرك حباله بعد ذلك وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما فهمتموه، ألا إنني لخبير بطبيعة هذه البلاد؛ ففيها ولدت وقد رأيت لهذه العاصفة أشباها لا تحصى!» •••
وظل يشدد الحصار عليها بقوة عدة أشهر، ثم أخذت المدينة بعد أن مات «عبد الله بن الزبير» سنة 962م.
هوامش
هل يشبهك ابنك ؟1
لماذا تختلف عن إخوتك وأخواتك في السمات والشبه؟ وما هو السر في أن يولد أحد الإخوة أسود العينين، والآخر أزرقهما؟ ولم تولد إحدى البنات شقراء الشعر، على حين تولد أختها فاحمته؟
كيف ينشأ أحدنا نحيف القوام بطبعه، على حين نرى الآخر بدين الجسم قويه؟ ولم يولد أحدنا طويلا والآخر قصيرا؟ ولم يكون أحدنا عرضة لأمراض بعينها، وتكون في الآخر مناعة طبيعية تحميه منها دون أخيه؟ لم يولد هذا فنيا ذا مواهب وكفايات في الفنون، ويولد ذلك مفطورا على حب الهندسة أو الميكانيكا، أو ينشأ ميالا إلى الرياضة مثلا؟
وكيف يسهل على أحد الأولاد جمع الثروة، ويكون النجاح دائما حليفه، حينما يخفق إخوته في ذلك إخفاقا تاما؟ لم هذا كله؟ وكيف يتأتى ظهور كثير من العباقرة والنوابغ في بيئات حقيرة خاملة؟ وجماع القول، كيف يختلف كل حي في هذا الوجود عن كل حي آخر؟ •••
هذه أسئلة عويصة، قد بدأ يجيب عليها علماء البيولوجيا والطبيعة - في هذا العصر - وقد وفقوا إلى حلها في السنين الأخيرة، بعد أن نقضوا الفكرة القائلة بأن الناس يولودون جميعا سواسية في المواهب والكفايات، فقد اهتدى العلماء إلى كثير من الحقائق الطريفة في توريث المواهب العقلية والمزايا الجثمانية، وطريقة انتقالها من الأعقاب إلى الذراري، وعلاقة ذلك بمستقبل الناس وحظوظهم، وبعد أن طبقوا قوانين الوراثة الحديثة، ووفقوا إلى حصرها وضبطها، وأصبحوا قادرين على توليد وتنشئة كثير من ضروب النباتات وأنواع الحيوان بأحسن مما كانت، وأكسبوها مزايا لم تكن في سابقتها، وهم يأملون الآن أن يفلحوا في تطبيق هذه القوانين، لتنشئة مواليد وأطفال خيرا من أسلافهم وآبائهم. •••
منذ بداية القرن الحالي بدأت هذا الاكتشاف الجديدة - التي وصل إليها الباحثون في قوانين الوراثة وأساليب انتقالها - تغير من طرق البحث وتكشف للناس حقائق عظيمة الخطر.
ومن غرائب الأمور أن أول اكتشافها لم يكن في معامل التجاريب والمباحث الكيميائية - كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة - بل كان ذلك في حديقة دير! •••
عد بخيالك أيها القارئ نيفا وستين عاما، وتمثل دير «كونجن كلوستر » القديم في مدينة «برون» من أعمال النمسا، ثم أطلق العنان لخيالك متمثلا صلوات الصبح تتلى في ذلك الدير، فيسرع راهب فاضل - كرس حياته للعلم، ووهب نفسه للبحث والتمحيص - إلى التعمق في الدرس والإكباب على الفحص، وقد انبعث من عينيه النفاذتين بريق أخاذ، ثم تمثله في حديقة ذلك الدير التي غرس فيها شتى صنوف النبات ومختلف أنواعه وفصائله، فإذا جلس خلالها لم يند عنه نبات واحد منها، ولم يفته معرفة أي نوع مما غرس فيها، وأصله وتاريخه، وهو يمر فيها - المرة بعد الأخرى - فلا يغفل في كل مرة عن التحديق في هذه النباتات وإدمان النظر إليها، إدمان فاحص مدقق ينعم بصره في أوراقها وجذوعها وزهراتها، ويتملى بها كما يتملى الإنسان بأصدقائه وأحبابه، مستعيدا - لدى رؤيتها - ذكرياته وملاحظاته عليها.
ذلك هو العلامة القس «مندل» - رجل الدين والعلم معا - وهذه الحديقة هي معمله ومكان تجاريبه العلمية، وقد دأب فيها - يوما بعد يوم، وعاما بعد عام - فاحصا مدققا البحث منعما النظر في نتاج الحبة من الحبة، وأثر تزاوج الأنواع بعضها ببعض، وما يكسبه ذلك من مميزات الوراثة وخصائصها، وما يكسبه كل محصول جديد من قوى جديدة بفضل هذا الازدواج، وكلما أخرج نباتا حديثا أكب على دراسته وتفهم ميزته بأناة وصبر عجيبين لا يعتورهما ملل، ولا يخامرهما فتور حتى وصل إلى قوانين ثابتة معززة بالعلم، مؤيدة بالعمل، وظفر بنظام جوهري ثابت تخضع له الوراثة ويسير عليه قانونها. •••
وفي عام «1865م» وقف الأستاذ «جريجور مندل» في جمعية «التاريخ الطبيعي» بمدينة «برون»، وأعلن للمرة الأولى نتائج اكتشافه الجديد؛ ولكن هذه الآراء الثائرة لم تقابل بما كانت جديرة به من الاهتمام، وسرعان ما انسدل عليها ستار الخمول والنسيان؛ فلم يفت ذلك في عضد هذا العالم، بل تلقى الصدمة بثبات الفيلسوف، وقال لأحد أصحابه مبتسما: «لم يحن زمني بعد!» •••
ولئن مات هذا النابغة - ولم يمتد به زمنه لرؤية اسمه ذائعا ومبادئه منتشرة - فقد تحققت نبوءته، وكتب لاسمه الخلود بعد موته!
ولقد مضى على دفنه خمسة وثلاثون عاما، كان يغمره الخمول والنسيان في أثنائها، حتى إذا بدأ فجر هذا الجيل انبعثت آراؤه من مرقدها، وذاعت حتى أصبحت اليوم من الآراء العلمية المقررة، وقد عززتها تجاريب العلماء واختبارات الباحثين، فلم تزدد - على التمحيص - إلا قوة، وكان لها أكبر الفضل في إنتاج أنواع جديدة صالحة من البذور والخضراوات والأزهار، كان لها أعظم الأثر في تحسين أنواع الماشية وكرائم الجياد. (1) نشأة مندل
إن نشأة مندل وحياته الحافلة ليستا إلا مثالا صالحا لبيان ظاهرة من ظواهر الطبيعة العجيبة، التي تخرج العبقريات الفذة والعقول الجبارة من البيئات المنحطة والأوساط الفقيرة، فقد ولد «مندل» فقيرا؛ فحال ذلك بينه وبين التعلم، ووقف فقر ذلك الفلاح النمسوي عقبة كأداء في طريقه، لكن أخته ضحت في سبيل تعليمه بمهر زواجها الضئيل؛ فبعثت به إلى المدرسة، ولما بلغت سنه الحادية والعشرين دخل الدير، حيث بدأ يدرس طبائع النبات - إرضاء لغريزته وهواه في بادئ الأمر - ثم عين مدرسا للتاريخ الطبيعي في مدرسة «برون» الصناعية؛ فنجح في مهمته نجاحا لفت إليه أنظار رؤسائه؛ فأعانوه وشجعوه على مواصلة دراساته وبحوثه في جامعة «فينا»، ولم يمر عامان حتى أتم دروسه بها، وعاد إلى الدير حيث أجرى في حديقته تجاريبه التي تعد - بحق - غزوا جديدا في عالم العلم.
وكان قد ذاع اسم العلامة «داروين» وعرف خطره، وأهمية مباحثه العلمية التي أدهشت رجال العلم واللاهوت في كتابه «أصل الأنواع»، وهو الذي وضع فيه أساس نظرية «النشوء». ولئن اعتمد داروين في استنباط نظريته على ما شاهده من التخالف والتباين بين الكائنات الحية، من نبات وحيوان، إلا أنه اعترف بعجزه - اعترافا صريحا - عن توضيح أسباب هذه الاختلافات وتبيان الأسباب التي تجعل الفرع يغاير أصله؛ ولعل هذا وحده كان السبب الأول الذي دفع عالمنا «مندل» إلى البحث عن هذا السر، وتوجيه جهوده إلى حله وفك معمياته!
ومهما يكن من أمر، فقد انقطع «مندل» لدراسة مسائل الوراثة، وتفهم الأسباب والعلل التي نشأ منها تخالف الأفراد وتغايرهم! ولكن وميضا من الوحي، أو قبسا من الإلهام؛ أنار له الطريق التي يسلكها للوصول إلى ذلك التباين العظيم في توريث أخلاق الناس وصفاتهم ومواهبهم. (2) كيف استنبط مندل طريقته؟
أما الطريقة التي سلكها «مندل» في استنباط قانونه، فهي سهلة واضحة يسهل منها تفهم الوسائل التي قادته إلى تلك النتائج الباهرة، فقد اختار بعض نباتات «البسلة» - بادئ ذي بدء - ورأى أن بعض عيدانها طويل والآخر قصير، وأن لبعضها أوراقا خشنة، على حين رأى أوراق البعض الآخر ناعمة، وشاهد أوراقا صفراء وأخرى خضراء، ثم أكب على درسها وفحصها إكبابا.
وبدأ يغرس بذور بعض عيدانها الطويلة وعيدانها القصيرة، وكان يبلغ ارتفاع الأولى عدة أقدام، ولا يزيد ارتفاع الثانية عن بضع بوصات، فلما نمت تلك العيدان وتم نماؤها؛ لقح بذور الأولى ببذور الثانية، مزاوجا بين كل بذرة من بذور العيدان الطويلة، وأخرى من بذور العيدان القصيرة، ثم أخذ تلك الحبوب الجديدة فبذرها في العام التالي، فكانت النتيجة على غير ما يتوقعها القارئ، ولم يخرج النبات مزيجا من العيدان الطويلة والقصيرة، بل كانت سوقه كلها طويلة، فلما غرس حبوبها - بعد ذلك - غرسا عاديا، وصل إلى نتيجة أخرى لا تقل غرابة عن سابقتها؛ فقد ظهر الغرس الجديد مزيجا من العيدان الطويلة والقصيرة، ولكن بنسبة مطردة؛ هي نسبة ثلاثة عيدان طويلة إلى واحد قصير. (3) نتيجة هذه التجاريب
ومن ذلك استخلص «مندل» أن خصائص القصر قد انعدمت بالازدواج في النتاج الأول، وأن الطول - لهذا السبب - يطغى على القصر، وأن للأول صفات مؤثرة، كما أن للثاني صفات متأثرة، فسمى الأولى صفات «قاهرة» والثانية صفات «مقهورة»، أو إن شئت فسمي أولاها «مخضعة» والثانية «خاضعة». •••
ثم استمر يزرعها كرة بعد أخرى، فماذا رأى؟ رأى أن بذور العيدان القصيرة لا تنتج إلا عيدانا قصيرة فقط، وأن ذرياتها لا تكون إلا قصيرة دائما، أو بعبارة أخرى: أن ذات الصفات الخاضعة تظل ذرياتها على ما هي عليه، وأن واحدا من كل ثلاثة عيدان طويلة يحتفظ في ذريته بميزة الطول.
شكل هندسي يتبين منه القارئ قوانين الوراثة التي تكشفها «مندل» في تجاريبه التي أجراها بعيدان «البسلة» بعد أن زاوج بين طويلها وقصيرها، ومن هذا الشكل يتبين القارئ نتيجة الازدواج واضحة جلية.
بينما يبقى الاثنان الآخران محتفظين بالنسبة السابقة في الذريات المتعاقبة بنسبة ثلاثة عيدان طويلة إلى عود قصير.
فلما طبق هذا القانون على نباتات أخرى وجده صحيحا، وظل يزيد في أشباه هذه التجاريب بطرق شتى، حتى توصل إلى نظريته في الوراثة. (4) أهمية قانون مندل
ولقانون «مندل» خطر عظيم؛ إذ هو أول من كشف للناس إمكان الانتفاع بميزات بعض الأنواع - من نبات وحيوان - ونقلها إلى غيرها، والتوصل بذلك إلى تحسين النوع، ولهذا خطره وأهميته الحيوية في تربية الماشية والجياد وغيرها، ومساعدة الفلاح على تحسين إنتاجه الزراعي أيضا.
على أن نفعه لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى تمكين الناس من استيعاب طبيعة الأشياء بوضوح وجلاء، وتفهم دقائق هذه المادة الضئيلة، ونظم تركيبها وتأليفها، وسر مميزاتها، وطريقة توريثها وانتقالها إلى ذراريها. •••
ولقد كان «مندل» متدينا، قائما بواجبات دينه بغيرة لا تقل عن غيرته العلمية التي دفعته إلى البحث، وقد رفعه رفقاؤه إلى رئاسة الدير؛ فأبلى بلاء الصابرين، ولم تفتر له عزيمة في مكافحة السلطات الحكومية ودفع ظلمها.
ولقد لقي في كل خطوة من خطواته مثبطات ومؤيسات؛ فما وهن عزمه ولا نكص أمامها، وغمره الخمول وجهل الناس به، فلم يتزعزع يقينه الثابت وإيمانه الراسخ؛ لا في علمه ولا في دينه.
والحق أن حياة هذا الرجل هي خير رد على أولئك القائلين إن العلم والدين لا يتفقان، فقد ظل - بملاحظته الدائبة، وبصره النافذ - يقرأ سفر الطبيعة الخالدة مستوحيا منه قوانينها، وثم وجد ما يزيد إيمانه بخالق الكون ومبدعه!
ولقد قال: «إن زمني سيجيء بعد قليل.»
وقد جاء زمنه وصحت نبوءته!
آخرة العالم كيف تكون1 ...؟
زحل أشرف الكواكب دارا
من لقاء الردى على ميعاد
ولنار المريخ من حدثان الده
ر مطف وإن علت في اتقاد
والثريا رهينة بافتراق الشم
ل حتى تعد في الأفراد «أبو العلاء»
ستنتهي آخرة هذا العالم الأرضي الذي نسكنه بانفجار عظيم هائل، وليس لهذه الخاتمة من سبب إلا قدم عمره وتطاول أمده.
2
وعالمنا الأرضي شبيه بساكنيه، فكما أن الإنسان يتغضن وجهه، وتتجعد بشرته، وتبدو على أساريره خطوط الزمن واضحة جلية للناظرين، كذلك نرى الأرض كلما تقادم عمرها تصدع ظاهرها وبدت على سطوحها شقوق تذكرنا بما يبدو على أسارير الوجوه من أثر الشيخوخة.
3
وكلما كرت الأدهار، وتقادم العالم الأرضي، اتسعت هذه الشقوق وعظمت حتى يصبح كل شق منها هاوية عظيمة، ومتى بلغت غاية اتساعها تفكك عالمنا وتناثرت أجزاؤه في الفضاء، وأصبح في خبر كان!
وستصحب هذه الخاتمة فرقعة هائلة وانفجار مروع لا قبل لأحد بوصف هوله وروعه، ثم يعقبه تبدد الكرة الأرضية وصيرورتها قطعا لا يحصيها العد، تسبح في أجواز الفضاء اللانهائي!
ثم ماذا؟
ثم يسير العالم الأكبر سيرته الأولى غير حافل بما حدث، وتظل المجموعة الشمسية غير متأثرة بهذا الحادث الهائل كأن شيئا غريبا لم يحدث.
ولكن العالم سيشهد قبل هذه الخاتمة مصرع القمر، وسيجتمع الناس مسرعين إلى قلل الجبال، وكل مرتفع من الأرض؛ ليشاهدوا هذا القمر الذي أدركه الفناء وأسلمته شيخوخته إلى الوهن والضعف، وثم يرونه هاويا بددا في أجواز الفضاء إلى حيث لا رجعة له ولا عود، وسيكون انفجاره شبيها بانفجار قنبلة عظيمة، ثم تبطل جاذبيته - بعد فنائه - ولا نعود نرى مدا ولا جزرا؛ وتصبح الليالي دائما وأبدا حالكة الظلام، ليس فيها من النور إلا بصيص ضئيل منبعث من النجوم لا يكاد يضيء سناه شيئا:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وإذ ذاك ينقطع عن الشعراء مصدر من مصادر الوحي والإلهام، ويغيض ينبوع فياض من ينابيع الشاعرية السامية، ولا يعود القمر إلا ذكرى تاريخية، وأثرا يتحدث به الناس وأعقابهم ويروون مصرعه كما تروى الأخبار والأحاديث!
ثم تمر عصور أخرى وتجيء أمم متعاقبة كثيرة لا تعد، يشهد الناس بعدها منظرا آخر لا يقل روعة عن سابقه؛ ذلك هو مصرع المريخ بنفس الطريقة التي أسلفناها في ذكر القمر، ثم يذهب المريخ شذر مذر في أجواز الفضاء اللانهائي.
ثم تمر عصور وأجيال عدة إلى أن يحين موعد فناء العالم الأرضي، وتمر ملايين أخرى من السنن ثم يحين مصرع الشمس بنفس الطريقة، وعلى هذا الأسلوب. وكذلك يصير كل شيء إلى فناء
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
هذه هي خلاصة النظرية الغريبة التي نقدم بها الدكتور «ونسمور ألتر» حديثا إلى الناس ، والدكتور من كبار رجال العلم وأساطين الفلك، وهو رئيس الجمعية الفلكية بجامعة «كانساس» وهذه النظرية وليدة دراسة عميقة واسعة استمرت خمسة عشر عاما قضاها الدكتور باحثا مدققا بين اختبارات فلكية وتجارب علمية، واستعانات بكل معدات البحث العلمي والفلكي الحديثة! فقد رأى من دراسة الكواكب الصغيرة والنجيمات والنيازك أن صغرها يدعو لقصر أعمارها، وتبديدها في الفضاء متى حانت ساعتها، ورأى أن السبب في إبادتها هو - بعينه - السبب في إبادة ما هو أكبر منها، بعد أن يمضي عليها عمر أكبر من تلك يتناسب مع عظم حجمها، وإنما أيقن بصحة نتائجه؛ لأنه رأى هذه وتلك جميعا من عنصر واحد، ورأى أثر الزمن، ومرور الأجيال، وتعاقب الدهور عليها ينتج نفس الأثر الذي أسلفنا ذكره. فيبدو واضحا في صغار الكواكب، والأجرام السماوية، ويقل ظهوره كلما عظم الكوكب! (1) الكوكب المفقود
وقد شاهد أجراما تهوي متساقطة قطعا عدة مختلفة الأحجام، بعضها لا يزيد على حجم الكرة، في حين يبلغ الآخر سعة مدينة بأسرها!
ويعلل الدكتور هذه النيازك والشهب الساقطة التي تراها هاوية من السماء بأنها بقايا عالم بائد، ربما كان فناؤه منذ ملايين من السنين؛ أي قبل أن يخلق الإنسان الأول بعصور وأجيال لا تحصى، والدكتور يقرر أن هذه الشهب دليل لا سبيل إلى الشك في صحته، وصحته على وجود أمثلة.
فقد لفت نظر هذا العالم الكبير واسترعى انتباهه ما رآه بين كوكبي المريخ وعطارد من الفراغ الهائل، الذي هو أشبه بهوة عميقة، أو قل - إن شئت - إنه فراغ غير طبيعي لا تبرره قوانين الفلك، ولا تجيزه نظم المجموعة الشمسية، وهذا الفراغ قد كان بلا شك مشغولا بكوكب، فلما زال منه بقي مكانه فارغا، وأصبح هذا الفراغ دليلا عليه! ويعزز هذا ما يراه الفلكيون من تلك النجمات العديدة التي تحيط بهالة الشمس وتدور حول نقطة بعينها في هذا الفراغ، مما يدل دلالة صريحة على أن كوكبا كان يحتل هذه البقعة التي كانت تلك النجمات تدور حوله، فلما اختفى ظلت تلك على حالها من الدوران دالة على ذلك الكوكب البائد الذي أدركه البوار في هذا المكان، على أن ثمت كثيرا من البقايا والأجسام يزيدنا وجودها اقتناعا ما أسلفناه من القول. وقد اكتشف الدكتور «ألتر» كثيرا من هذه القطع النجمية - كما اكتشف الباحثون نحو «1200» قطعة منها - فاستدل الدكتور بعد فحص دقيق أن ذلك الكوكب المفقود قد كان أكبر من عطارد، وأصغر من المريخ بكثير. (2) ما سبب انفجار الكوكب؟
ولكن ما الذي سبب له الدمار وأدى به إلى هذه النتيجة؟ يعلل الدكتور سبب حدوث ذلك بأن العوامل التي انتهت بهذا الكوكب هي نفسها العوامل الهدامة الدائبة على إبادة كل فرد من أفراد هذه المجموعة الشمسية!
لا جرم أن الإنسان يعلم أن كل جسم - مهما بلغت صلابته - تمدده الحرارة وتقبضه البرودة، وقد كانت الأرض - كما كانت الكواكب الأخرى - نارا متأججة، ثم بردت تلك الكتل النارية الحامية على مر العصور والأزمان، فانقبضت شيئا فشيئا بسبب ما اعتورها من البرودة، وبدهي أن السطح يبرد أسرع من الجزء الداخلي، ومن هنا تنقبض تلك القشرة الباردة المتقلصة انقباضا شديدا على الجزء الداخلي من الأرض، وينجم من هذا الانقباض الشديد ضغط شديد في الداخل، وكلما زاد عمر الأرض - أو الكوكب - زاد حجم السطح البارد، ومن ثم زاد ضغط سطحه على أوسطه حتى يبلغ الضغط أقصاه!
ولو أن مادة السطح الصلب مادة مرنة - كالمطاط مثلا - لتمددت وامتطت، فساعد ذلك على مطاوعة الجزء الداخلي وتلافي الضغط عليه، ولكن الأمر على عكس ذلك، وهذا هو السبب في تشقق السطح، ولا يزال الزمن يكر؛ فيقدم عمر الكوكب ويبرد سطحه، فيضغط على وسطه فيتشقق، ثم تزداد الشقوق على توالي الدهور حتى تصبح هوات عميقة، ثم تزداد هذه الهوات اتساعا وعمقا حتى تصل إلى الأعماق، وهنا يتصدع الكوكب ويتحطم كله إلى الأبد! (3) كيف انفجر الكوكب؟
وقد هدتنا التجاريب الفلكية والدراسات الدقيقة للأفلاك والكواكب إلى الطريقة التي انفجر بها ذلك الكوكب البائد؛ فقد بدأ تحطمه بانقسامه إلى أربعة أقسام كبيرة، ثم اعتور كل جزء من هذه لأجزاء الأربعة مع اعتور الكوكب الأصلي من قبل، ومر بكل تلك الأطوار التي أسلفناها، وحدث لها ما حدث لابنها الأول من الدمار، وربما كان تحطيمها على نفس الطريقة السابقة!
قال الدكتور «ألتر»:
ولو أن الناس عاشوا قبل مصرع هذا الكوكب، وشاهدوا انفجاره في ذلك الوقت لما سمعوا له فرقعة، ولا أحسوا له صوتا، ذلك أن الصوت يحمله الهواء! وليس في ذلك الفضاء هواء يحمل صوت انفجاره إلينا، وكل ما يشاهده الناس من هذا الانفجار الهائل ضوء لامع منه، ومن المكن جدا أن تصبح أجزاء هذا الكوكب «نجيمات» صغيرة في أجواز الفضاء.
ومما يجدر ذكره أن فرقعة ذلك الكوكب لم تحدث تغيرا في سير الكواكب الأخرى، ولا في العلاقة التي بين كل منها والآخر، فإن الجاذبية التي كانت في الكوكب البائد هي - على عظمتها - غاية في الحقارة والضؤولة بالقياس إلى المجموعة الشمسية.
وإذا كان هذا الكوكب بعيدا عن الشمس بمقدار ثلاثة أمثال بعد الأرض عنها، وكان يصل إليه من حرارتها مقدار يعدل ثمن ما يصل إلينا، فإن أكبر الشك أن مظاهر الحياة لم يكن لها وجود فيه، على أنها لو وجدت لما بقي لها أقل أثر بعد تحطمه وانفجاره. (4) آخرة القمر
ثم يقول الدكتور «ألتر»:
وسيكون القمر ثاني كوكب يدركه الفناء - بعد ذلك الكوكب الذي أسلفنا ذكره - في المجموعة الشمسية.
والقمر - بالرغم من أنه ليس أقدم من أمه «الأرض» - سيلقى حتفه قبلها، والسبب في ذلك أنه أصغر منها حجما؛ وهو لهذا أسرع منها إلى البرودة، سرعة تتناسب مع صغر حجمه عنها.
قال الدكتور: وإن الإنسان ليستطيع الآن أن يشاهد من خلال «التليسكوب» فجوات واسعة بادية على سطح القمر. (5) آخرة المريخ ...!
أما انفجار المريخ فسيسبق انفجار الأرض، وإنما كانت آخرة هذا الكوكب قبل آخرة عالمنا الأرضي ؛ لبعده عن الشمس، وما ينشأ عن هذا البعد من قلة النصيب الذي يناله من حرارتها، وليست هذه القنوات البادية على سطح المريخ - كما يظن الدكتور - إلا شقوقا وصدوعا عظيمة حدثت فوق سطحه وفق هذه النظرية المقررة. (6) آخرة العالم الأرضي ...!
أما الأرض فلا خوف عليها، ولن تبيد قبل أن يمر عليها ملايين من السنين. قال الدكتور: «وإن سطح الأرض - كما نراه الآن - على أحسن ما يرام، وحرارتها الداخلية بالغة من الاتقاد والشدة أوفى الغايات، وأكفلها بالصون من أن تباد مدة عصور طويلة وآباد عديدة، وليست الزلازل في رأيي علامة منذرة بقرب فناء الأرض؛ فهي صدوع محلية بسيطة لا خطر لها، وليس كذلك ما نرويه من انصداع الأرض، فإن تلك التي نتحدث عنها هي انشقاقات متغلغلة في أعماق الأرض، وكم من تصدعات يصل عمقها ألف ميل لا يكون وجودها محتما وملزما إبادة هذا الكوكب! وغاية ما تدل عليه أمثال هذه الشروخ أن تكون نذيرا من نذر الرعب لمن تحدث في زمنهم من الناس، على أنها - في حقيقة أمرها - ليست إلا رسلا تنبئ الناس بما يتهدد الأرض من بوار بعد ملايين قليلة من السنين!» (7) آخرة الشمس
قال الدكتور:
ولن تشذ الشمس أيضا عن هذه القاعدة، فسيلحقها العدم وتجري عليها أحكامه - كما جرت على سواها - يوما ما، وإن تأخر ذلك ترليونات من الأعوام، والعلم أن الشمس تفقد من حرارتها في كل ثانية من الثواني «4000000» أربعة ملايين طنا من كتلتها النارية؛ بسبب ما يشع من حرارتها في الفضاء، وهذا القدر الذي تفقده - بالغا ما بلغ من العظم الهائل في نظرنا - ليس شيئا مذكورا إذا قسناه إلى حجم الشمس الذي لا يتأثر تأثيرا يذكر بما يفقده من الحرارة - عن طريق الإشعاع - في مليون من السنين. (8) دراسة الأجرام الفلكية الصغيرة
وقد تكبد الباحثون ألوانا من العناء والتعب في دراسة هذه القطع المتناثرة، وفحص هذه الأجرام الصغيرة والنيازك التي يتعسر، بل يتعذر رؤيتها بالعين المجردة؛ نظرا لبعدها وصغر أحجامها، ومن هنا يعلم القارئ مقدار ما بذله الدكتور «ألتر » من الجهد العلمي في تتبع سيرها، ودرس نظمها، حتى وصل إلى هذه النتائج الحديثة التي أفاد بها علماء الفلك ووسع بها دائرة معارفهم، ولقد كان العلماء حتى أوائل القرن الماضي - التاسع عشر - لا يعرفون شيئا عن عالم هذه الأجرام الصغيرة - «النجيمات» - ولا يدرون بوجودها، وأول ما اكتشف منها هو «نجيم سيرس» في سنة 1801 بفضل العلامة الفلكي «كبلر»، وهو - على أنه أكبر هذه الفصيلة - لا تكاد تراه العين المجردة؛ إذ يبدو للناظرين في مثل دقة رأس الدبوس إذا نظرت من بعد ميل، أما قطر هذا «النجيم» فيبلغ 840 ميلا؛ أي أقل من المسافة التي بين «نيويورك» «وكليفلاند»، وتقدر زنته بنسبة واحد إلى ثمانية آلاف من ثقل الأرض.
وقد ذكروا «نجيمات» أخرى أصغر من هذه، اكتشفوها حديثا، لا نحسبها تعني القراء كثيرا، ومما ذكروه «نجيم إيروس» الذي يبلغ قطره خمسة عشر ميلا، وهو يقترب من الأرض أكثر من أي جرم آخر، وأحدث اقتراب له كان على بعد «13840000» ميلا؛ أي أكبر بقليل من نصف المسافة إلي كوكب «فينيس»، وهو مع ذلك القرب يبعد عن الأرض بمسافة يحتاج قطعها ثلاث سنوات بسرعة خمسمائة ميل في الساعة، وقد زار هذا الكوكب عالمنا الأرضي في عام «1804» عقب أن تكشفه العلماء، وزارها مرة أخرى في عام «1901»، وحينذاك توفر العلماء الفلكيون على درسه ومراقبته بدقة وانتباه، وسيزورنا مرة ثالثة فيما بين عامي «1930-1931»، فلا يزيد بعده عن الأرض أكثر من «16200000» ميلا؛ أي نحو سدس المسافة إلى الشمس.
ولم يقتنع العلماء الآن بهذه الدراسات؛ فتألفت منهم جماعة من أساطين الفلكيين، وشرعوا في إعداد معدات أدق وأجدى من تلك؛ لاستيعاب الأحجام الفلكية، وقياس المسافات بغاية من الدقة والضبط، ومن هذه الأجرام التي يدرسونها الآن ما وصل قطره إلى ثلاثة أميال، أما ما يقل جرمه عن هذا القدر، فمن المحال رؤيته حتى بأدق أنواع التلسكوب، وإن كان من المحقق أن في الفضاء عددا كبيرا من هذه الفصيلة الصغيرة، وإن لم نره، ولكن حب العلم لا يقف عن حد، وقد قيل: «منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال.» لذلك لم يقف العلماء عند هذا القدر - وهو عظيم - فشرعت جامعة «كانساس» تعد «تلسكوبا» حديثا يصنع تحت إرشاد «الدكتور ألتر» سيتم عمله آخر هذا العام خصيصا لدرس الأجرام الصغيرة. (9) كلمة ختامية
والآن يسائل القارئ نفسه: «وماذا تكون حال الناس ؟ وكيف يكون شعورهم إزاء هذه النكبة المتوقع حدوثها؟ وكيف يتلقون هذا الفناء المحقق؟» وهذا سؤال طبيعي يجيب عنه الدكتور «ألتر» بغاية البساطة فيقول:
ومن المحتمل أن تنقضي كل آثار الحياة من الأرض قبل انفجارها بزمن طويل، ولو جاز أن تكون ثم حياة - رغم ذلك البرد القاسي الذي لا يحتمل - فلن يكون لها بعد انفجار أمنا الأرض بقاء!
وإنه ليحلو لنا أن نسبح قليلا في العالم الخيالي، إزاء هذه الخاتمة المروعة، فنتمثل علماء ذلك العصر قد فكروا دائبين - بعد أن شاهدوا مصرع المريخ - في تلافي هذه الخاتمة إذا ألمت بالأرض، وأعدوا المعدات لها، وربما أوغلنا في عالم الخيال وسرنا فيه مرحلة أخرى، فتمثلنا المهندسين - إذ ذاك - وقد اهتدوا إلى آلات واختراعات غريبة ينقلون بها سكان هذا العالم - قبيل انفجاره - إلى عالم آخر من العوالم الفلكية تصلح للحياة، فأقاموا فيه واستغنوا بذلك عن العالم الأرضي.
هوامش
مناظرة الكسائي وسيبويه1
مسألة العقرب والزنبور
وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم
لولا التنافس في الدنيا لما أضما
والغبن في العلم أشجي محنة علمت
وأبرح الناس شجوا عالم هضما
حازم القرطاجني
كان من أثر المناظرة التي قامت بين «الهمذاني» و«الخوارزمي»
2
أن «الخوارزمي» مات بعد قليل من الزمن، ولم تحتمل شيخوخته تلك الصدمة العنيفة، وكان من أثر المناظرة التي قامت بين «الكسائي» و«سيبويه» أن «سيبويه» مات كمدا وهو في ريعان شبابه، وجن نشاطه - كما يقولون - ولم يحتمل شبابه تلك الهزيمة القاتلة، وليست الطرق التي لجأ إليها «الكسائي» أقل قسوة من تلك الطرق التي سلكها «الهمذاني» للتغلب على «الخوارزمي» والانتصار عليه. •••
ولقد قلنا في المناظرة السابقة إن «الهمذاني» قد أعد عدته، وهيأ لنفسه كل أسباب الانتصار والفوز على خصمه، وزج به في مجلس كله خصومة ولدد، ونقول في هذه المناظرة إن «الكسائي» لم يقصر في إعداد كل الوسائل لهدم «سيبويه» ولم يتعفف عن شيء في سبيل الانتصار عليه
3
وإذا كان «الهمذاني» قد لجأ إلى تملق شهود المناظرة لينصروه على «الخوارزمي»، واشترى ذممهم بهذه الحيلة؛ فإن الكسائي قد لجأ أيضا إلى نفوذه وجاهه وماله، واتخذ من صدامه للبرامكة وكونه مؤدب أولاد أمير المؤمنين وسيلة للتغلب على «سيبويه».
ولئن شكونا في المناظرة السابقة قلة المصادر التي نرجع إليها في تحقيقها، ولم نجد غير رواية «الهمذاني» نفسه - وهي رواية خصم عن خصمه - فإن ما نشكوه في هذه المناظرة هو تعدد المصادر وكثرتها، وتباين رواياتها، وأثر التعصب فيها وتعمد التشويه.
على أن هذه الروايات - رغم اضطراب بعضها واختلافه في التفاصيل - متفقة في الأساس والجوهر، فهي - من أية ناحية رأيت، وبأية رواية أخذت - تدل على أن سيبويه قد ظلم، وأن الحق كان في جانبه.
فقد أجمع علماء النحو واللغة - في زمن سيبويه وبعد زمنه - على أن الصواب ما قال، وأن الكسائي كان في الجانب الخاطئ، ولم يشذ عن هذا الإجماع إلا شيعة الكسائي، والطامعون في ماله أو جاهه، والمحسوبون عليه وذوو الحاجات وطلاب المآرب الذاتية.
وليست هذه المناظرة على الحقيقة - إن صح أن نسميها مناظرة - إلا نضالا بين مذهبين، وحربا بين مدرستين؛ مدرسة الكوفيين، ومدرسة البصريين أساتيذهم، ممثلتين في شخصي الكسائي زعيم علماء النحو في الكوفة، وشيخ مدينة السلام، وسيبويه زعيم علماء النحو في البصرة، وتلميذ الخليل بن أحمد بن سيد أهل الأدب - كما كانوا يلقبونه - وقد لعبت الأهواء من سياسة وغيرها في تغليب رأي الكسائي على رأي سيبويه.
4 •••
على أن فضل سيبويه ذائع - رغم انتصار الكسائي عليه - وكتابه الذي ألفه في النحو لم تبل جدته إلى اليوم، ولا يزال كتاب نحو وأدب معا، وأسلوبه في أعلى طبقات البلاغة، وقد كان المبرد يقول لمن يريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه: «هل ركبت البحر!» تعظيما لشأنه. وكان الزجاج
5
يقول: «إذا تأملت الأمثلة من كتاب سيبويه تبينت أنه أعلم الناس باللغة.»
وقال الجرمي:
6 «أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه.».
7
وقال المازني: «من أراد أن يعمل كتابا كبيرا في النحو بعد كتاب سيبويه فليستح.» •••
وقد كتب سيبويه هذا الكتاب الخالد في الوقت الذي كان فيه الكسائي منصرفا إلى المناصب والاتصال بالخليفة، والدعاية لنفسه بأنه العالم الفذ الذي استنفذ خمس عشرة قنينة حبر في الكتابة عن العرب، وأن هذا زيادة على ما حفظه، إلى آخر هذه الدعاوى الفارغة التي لا يعنى بها المنصرفون إلى العلم حقا، والتي هي أشبه بالإعلانات التجارية، وهذا أسلوب فذ في الدعاية لجأ إليه الكسائي - في جملة ما لجأ - للوصول إلى الشهرة.
وإذا رأينا علماء اللغة وأئمة النحو يحترمون «سيبويه» ويقرون مذهبه، رأيناهم - على العكس من ذلك - ينفرون من مذهب الكسائي ويرون فيه إفسادا للغة وإضاعة للنحو.
قال ابن درستويه: «كان الكسائي يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة، فيجعله أصلا يقيس عليه حتى أفسد بذلك النحو.»
وقال الأصمعي: «أخذ الكسائي اللغة عن أعراب من الحطمة ينزلون بقطربل، فلما ناظر سيبويه استشهد بلغتهم عليه.»
وقال محمد اليزيدي:
كنا نقيس النحو فيما مضى
على لسان العرب الأول
فجاء أقوام يقيسونه
على لغى أشياخ قطربل
فكلهم يعمل في نقض ما
به يصاب الحق لا يأتلي
إن الكسائي وأصحابه
يرقون في النحو إلى أسفل
وقال الزجاج: «أي إنصاف في الرجوع إلى أعراب وفدوا لحاجتهم، وسيبويه رجل غريب وخصومه أهل البلد والدولة؟ وإنما الحكم العارف بالصحيح وغيره؛ وقد لا يعرف الأعرابي إلا لغته الشاذة.» إلى آخر هذه الآراء.
وقد أشار «المعري» إلى تحامل الكسائي على سيبويه في رسالة الغفران، وألمع إلى بعض المناظرات التي قامت في ذلك العصر - الحافل بالمناقشات والمناظرات بين علمائه - فقال في معرض الكلام على تناسي الحسائك والأحقاد في الجنة بين ألد الخصوم: «فصدر أحمد بن يحيى
8
هناك قد عسل من الحقد على محمد بن يزيد
9
فصارا يتصافيان ويتوافيان.»
وأبو بشر عمرو بن عثمان «سيبويه» قد رخصت سويداء قلبه من الضغن على «علي بن حمزة الكسائي» وأصحابه لما فعلوا به في مجلس البرامكة، وأبو عبيدة صافي الطوية لعبد الملك بن قريب،
10
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب:
سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار .
11 (1) كيف كانت المناظرة
لم يكد يرد سيبويه إلى العراق حتى شعر الكسائي أن مركزه العلمي في خطر، وأن منافسا جديدا يحاول أن يغتصب منه مقام الزعامة.
قالوا: «وشق أمره على الكسائي فأتى يحيى وجعفر بن برمك وقال: «أنا وليكما وصاحبكما، وهذا الرجل إنما قدم إلى العراق ليذهب محلي.»
قالا: «فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما.»
وهكذا دبرت المؤامرة في بيت البرامكة لهدم سيبويه، فلما حان الموعد حضر سيبويه وحده، وجاء الكسائي ومعه الفراء والأحمر وغيرهما من أصحابه، فسأله الفراء عن مسألة فلم يكد يجيبه عنها حتى قال له: «أخطأت.» وسأله عن ثانية فأجابه فقال له: «أخطأت.»
ثم سأله عن ثالثة وقال له: «أخطأت.»
فقال له سيبويه: «هذا سوء أدب منك!»
فقال الفراء لصاحبه: «يظهر أن في هذا الرجل عجلة وحدة!»
وسأله الأحمر عن عدة مسائل فكان يخطئه في كل جواب يفوه به، قالوا: «فلم ير سيبويه إلا أن يكف عن مناقشتهما.»
وهنا يقول له الكسائي - ولعلك تلمح في جملته معنى التحقير والاستصغار: «يا بصري، كيف تقول: كنت أظن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟»
قال: «أقول فإذا هو هي.»
فأقبل عليه الجمع فقالوا: «أخطأت ولحنت.»
وفي هذا مثال من التهويش والتحامل على سيبويه.
وهنا يقول يحيى بن خالد بن برمك: «هذا موضع مشكل حتى يحكم بينكم!» فيقول الكسائي: «هؤلاء الأعراب على الباب.»
قالوا: «فأدخل ابو الجراح، ومن وجد معه ممن كان يأخذ منه.»
فقال لهم الكسائي: كيف تقولون: «قد كنت أحسب أن العقرب أشد لسعة من الزنبور فإذا الزنبور إياها بعينها.»
فقالت طائفة: «فإذا الزنبور هي.»
وقالت أخرى: «فإذا الزنبور إياها بعينها.»
فقال الكسائي: «هذا خلاف ما تقول يا بصري!» •••
وهنا يقبل يحيى رب الدار على سيبويه - وهو الغريب المستوحش - فيقول له ما يشعره بأن صاحب الدار من رأي الكسائي وشيعته: «قد تسمع أيها الرجل!»
فلا يكاد يسمع سيبويه هذه الجملة حتى يستكين، ويسرع الكسائي إلى يحيى فيقول له حتى يطمئن على أن المناظرة قد انتهت، وأن الغلبة قد تمت له: «أصلح الله الوزير، لقد وفد عليك من بلده مؤملا، فإن رأيت ألا ترده خائبا؟»
فيأمر له يحيى بعشرة آلاف درهم. •••
وكأنما ألف الكسائي أن يصطنع الناس بالمال ليضمن لنفسه إقرارهم بزعامته العلمية التي يسعى إلى الانفراد بها عند الخليفة، ولعله حسب أن هذه المنحة تنسي سيبويه تلك الصدمة العنيفة التي سببها له.
على أن الكسائي طالما اشترى بالمال ألسنا وذمما!
ألا ترى إلى الأخفش يذهب إلى الكسائي غاضبا - بعد أن أخبره سيبويه بما حدث له معه - فيسأل الكسائي وهو بين تلاميذه ويخطئه في كل جواب يقوله، فيهم تلاميذ الكسائي بضربه فيمنعهم من ذلك - خوفا من ذيوع أمره - ويقبل عليه فيعانقه متحببا إليه، ويعهد إليه بتعليم أولاده، ويرشوه بالمال فينسيه بذلك ثأر صديقه سيبويه؟
ولقد كان من بين تلاميذ الكسائي من هو أعلم منه وأجدر بالزعامة - كالفراء مثلا - وما كان مثل الفراء ليقبل أن يكون تلميذا للكسائي لولا طمعه في جاهه وماله، وأمله في أن يتصل بالخليفة - بفضل صحبته له - وقد تم له ما أراد بعد ذلك. •••
وربما استشهد لنا أحد الأدباء الناقدين بقول الفراء نفسه للتدليل على فضل الكسائي: قال لي رجل: «ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟»
فأعجبتني نفسي، فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأنني كنت طائرا يغرف بمنقاره من البحر.
فإن أمثال هذه المدائح يجب أن تفهم على وجهها الصحيح؛ فهي نوع من تملق ذوي النفوذ طمعا في جاههم وتقربا إليهم!
ألا ترى إلى ابن الرومي نفسه - وهو الشاعر الفحل - يلجئه العوز والفاقة ونكد الدنيا إلى امتداح بيت سخيف لابن المعتز، حين سألوه: «لم لم تشبه مثل تشبيه ابن المعتز في قوله:
وبدا الهلال كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر
فتظاهر لهم بإكبار معنى هذا البيت التافه، وإعجابه بما فيه من تشبيه متكلف وعجزه عن محاكاته - تملقا لقائله - لرفعته وسمو منزلته؟
لقد سئل الفراء نفسه عن الكسائي بعد موته فقال: «مات الكسائي وهو لا يحسن حد نعم وبئس وأن المفتوحة».
12
ولا نظننا متحاملين على الكسائي حين نثبت هنا ما يرويه بعض المؤرخين عنه من أنه كان متهتكا فاجرا، ونحن نروي ذلك بشيء من التحفظ فلا نصححه ولا ننفيه، فلعله من دسائس البصريين، على أننا لا نستبعده، فليس اتصاله بالخليفة وتعهده أبنائه بالتربية مما يعصمه من اقتراف الدنايا والآثام ولو سرا.
وقد تعلم الكسائي - وهو كبير - وانصرف سيبويه إلى العلم منذ حداثة نشأته، وأعجب الخليل بن أحمد بذكائه وكان يرحب به،
13
وقد شهد له أكبر علماء النحو بالتفوق والفضل، وقد استعان بكتابه خصومه أنفسهم، فقرأ الكسائي على الأخفش كتاب سيبويه، وأعطاه سبعين دينارا - أجرا على ذلك - وقد وجد بعضه تحت وسادة الفراء التي كان يجلس عليها، كما قال النحاس. (2) رأي النحاة في هذه المسألة
قالوا: «وأما سؤال الكسائي فجوابه ما قال سيبويه، وهو «فإذا هو هي.» هذا هو وجه الكلام مثل: «فإذا هي بيضاء»، «فإذا هي حية». وأما «فإذا هو إياها» - إن ثبت - فخارج عن القياس واستعمال الفصحاء، ولا يعتد به، كالجزم بلن، والنصب بلم، والجر بلعل. وسيبويه وأصحابه لا يلتفتون لمثل ذلك، وإن تكلم به بعض العرب.» •••
وقد لخص «حازم القرطاجني»
14
هذه المناظرة في منظومته الجميلة في النحو التي يقول فيها:
والعرب قد تحذف الأخبار بعد «إذا»
إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما
وربما نصبوا بالحال بعد «إذا»
وربما رفعوا من بعدها ربما
فإن توالى ضميران اكتسى بهما
وجه الحقيقة من إشكاله غمما
لذاك أعييت - على الأفهام - مسألة
أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما
قد كانت العقرب العوجاء أحسبها
قدما أشد من الزنبور وقع حما
وفي الجواب عليها هل «إذا هو هي»
أو هل «إذا هو إياها» قد اختصما
وخطأ ابن زياد
15
وابن صخرة
16
في
ما قال فيها أبا بشر
17
وقد ظلما
إلى أن يقول:
وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم
لولا التنافس في الدنيا لما أضما
والغبن - في العلم - أشجى محنة علمت
وأبرح الناس شجوا عالم هضما •••
وقد حدث لأبي عثمان المازني ما حدث لسيبويه، قال: «دخلت بغداد فألقيت علي مسائل، فكنت أجيب فيها على مذهبي، ويخطئونني على مذاهبهم.»
قالوا: «وهكذا اتفق لسيبويه.»
وجماع القول أن سيبويه هزم رغم فضله وعلمه وكونه في جانب الحق، ولم يكن له بد من السكوت والرضى بالهزيمة في هذا المجلس الحاشد. •••
ومثل لنفسك أيها القارئ مجلسا حافلا بأعيان الدولة، وقادة الرأي فيها، يجمع مثلا على أن «لم» تنصب ولا تجزم، وأنت وحدك تقول «إنها تجزم ولا تنصب، وإن العرب لا تعرف غير ذلك.» وهم لا يسمعون لك قولا، فأية حجة تستطيع أن تدلي بها في مثل هذا المجلس المتحامل الذي ينكر عليك ما لا سبيل إلى إنكاره؟
كذلك كان موقف سيبويه يقرر قاعدة أجمع علماء النحو على أن خلافها شاذ لا يؤخذ به، فلا يقبل منه قول.
ولقد كان في لسان سيبويه حبسة - كما يقولون - ولكنها لم تكن السر في هزيمته
18
فهو لم يقصر في الكلام، ولم يكن ذلك المجلس المتحامل عليه في حاجة إلى خطيب لسن، بل كان في حاجة إلى آذان واعية وقلوب لم يفسدها الهوى والغرض.
وهكذا تمت الهزيمة، فذهب «سيبويه» إلى فارس، ولم تطل مدته بعد ذلك.
قالوا: ولما اعتل سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه، فبكى أخوه لما رآه - لما به - فقطرت من دمعه قطرة على وجهه، فرفع سيبويه رأسه إليه فرآه يبكي فقال:
أخيين كنا، فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا؟
ولقد قضى سيبويه جل حياته في الدرس على خير أساتيذ عصره لا سيما الخليل ويونس، ومات بعد أن ألف كتابه الخالد، وإن كان لم يدرسه، وختمت حياة هذا العالم الجليل دون أن يجني ثمر جهاده، رحمة الله عليه وعلى شيخيه الجليلين الخليل ويونس.
تولى سيبويه، وجاش سيب
من الأيام فاختل الخليل
19
ويونس أوحشت منه المغاني
وغير مصابه النبأ الجليل
أتت علل المنون ، فما بكاهم
من اللفظ الصحيح ولا العليل
ولو أن الكلام يحس شيئا
لكان له وراءهم أليل
هوامش
في بلاد العمالقة1
(1) قصر العملاق
ولاح لنا قصر كبير - على مسافة بعيدة من الجزيرة - فقصدنا إليه حتى بلغناه، فوجدناه قلعة شاهقة محكمة البناء، فتعاونا جميعا على فتح بابه الكبير، ثم دخلنا فناءه فوجدنا فيه كومة من العظام البشرية؛ فهالنا ذلك المنظر، وامتلأت قلوبنا منه رعبا، ولم ينطق أحد منا بكلمة واحدة؛ لشدة ما لحقنا من الذعر، وبقينا خائفين طول النهار، حتى - إذا غربت الشمس - سمعنا صرير الباب الخارجي وهو يقفل، ورأينا عملاقا هائلا يدخل علينا وهو - في مثل طول النخلة - أسود الوجه، له عين واحدة يكاد يتطاير منها الشرر، وأنياب طويلة حادة مروعة!
في حضرة العملاق
ولم نكد نراه حتى تملكنا الرعب واستولى علينا الهلع والفزع، وصرنا كالموتى وهو ينظر إلينا نظرات مخيفة، ثم اقترب مني وأمسك بي - وأنا كالعصفور في يده - فرآني نحيلا هزيل الجسم، فتركني وأخذ غيري فرآه نحيفا فلم يعجبه أيضا. (2) كيف شوى الربان
ونظر إلى الربان فرآه سمينا فأعجبه، فأمسك به ولوى رقبته بيده، ثم جاء بسفود طويل فأنفذه فيه، وأوقد نارا حامية وضعه عليها، وما زال يقلبه حتى شواه فأكل لحمه ورمى عظامه على الأرض، ثم نام فسمعنا له شخيرا عاليا.
ولما أصبح الصباح خرج العملاق من القصر وتركنا، فخرجنا إلى الجزيرة يائسين، وتمنينا لو كنا غرقنا في البحر، ولم نقع في قبضة هذا الغول المخيف؛ حتى لا يكون نصيبنا هذه الميتة الشنعاء التي لم تكن لتخطر لنا على بال.
وبحثنا طول النهار عن مكان نختبئ فيه فلم نظفر بطائل؛ فعدنا إلى القصر خائفين، وجاء العملاق - بعد قليل - فشوى أحدنا كما شوى بالأمس ربان السفينة وأكله، ونام إلى الصباح، ثم خرج إلى حيث لا ندري، وخرجنا هائمين في الجزيرة، وقد أشار علينا بعض رفاقنا أن نلقي بأنفسنا في البحر؛ حتى ننجو من هذه الميتة المروعة، وأشار آخرون أن نحتال لقتله. (3) فلك النجاة
فأشرت عليهم أن يهيئوا فلكا من خشب الأشجار؛ فإذا لم ننجح في قتل العملاق هربنا من الجزيرة في تلك الفلك؛ ففرحوا جميعا بهذا الرأي، وشرعنا في العمل بجد ونشاط حتى إذا تمت الفلك وضعنا فيها ما نحتاجه من الزاد وربطناها إلى شاطئ البحر.
تنفيذ المؤامرة
وعدنا إلى القصر، فجاء العملاق ففعل بثالث منا ما فعله بسابقيه ثم نام - كعادته - وعلا شخيره، فوضعنا سفودين في النار حتى احمرا، ثم أدخلناهما - معا - بقوة في عينه وهو نائم؛ فصرخ صرخة هائلة - من شدة الألم - وقام هائجا يبحث عنا - بعد أن عميت عينه - فلم يهتد إلى أحد، فسار إلى الباب ففتحه، وخرج كالمجنون، ففرحنا بذلك وحسبنا أننا أصبحنا بمأمن من شره!
انتقام العمالقة
ولكن فرحنا لم يطل؛ فقد جاء إلينا - بعد قليل - جماعة من العمالقة يغايرونه في الشكل ولا يقلون عنه وحشية وفظاظة، فهربنا منهم مسرعين إلى الفلك التي صنعناها.
فلما رأونا في البحر أخذوا يرجموننا بحجارة كبيرة، فقتلوا رفاقي، ولم ينج معي منهم إلا اثنان. (4) الفرار من جزيرة العمالقة
وبعد أن نجونا من شر أولئك العمالقة أصبحنا تحت رحمة الأمواج الهائجة طول نهارنا وليلتنا، حتى إذا - أصبح الصباح - قذفتنا الأمواج إلى شاطئ جزيرة كبيرة؛ ففرحنا بذلك، وأكلنا من فاكهتها الطيبة، وشربنا من مائها العذب، ثم جلسنا على شاطئ البحر فرحين بالنجاة من أرض العمالقة.
في فم أفعى
ولما جاء الليل نمنا فوق شجرة عالية، واستيقظنا فزعين؛ فرأينا حية هائلة قد التقمت واحدا من رفيقي، فسمعنا عظامه تتكسر في جوفها وهي تبتلعه، فاشتد خوفنا وهالنا الأمر، وقلنا: «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! كلما نجونا من مصيبة وقعنا فيما هو شر منها.»
ولما أصبح الصباح أكلنا وشربنا، حتى إذا جاء الليل صعدنا إلى شجرة أخرى فنمت بأعلاها، ونام رفيقي قريبا مني، وبعد قليل جاءت الحية فالتقمت رفيقي كما التقمت صاحبه بالأمس؟
كيف نجوت من الأفعى؟
فمكثت طول الليل خائفا حتى إذا أصبح الصباح هممت أن ألقي بنفسي في البحر، فمنعني من ذلك حب الحياة فتجلدت، ولما اقترب الليل أحضرت ألواحا من الخشب وشددت جسمي إليها شدا وثيقا، وجاءت الحية كعادتها تحاول أن تبتلعني - كما ابتلعت رفيقي - فحالت الألواح المشدودة حولي دون ذلك، وظلت طول الليل تحاول أن تجد منفذا إلي - من خلال الألواح - دون أن تظفر بطائل، فلما بدا الصباح عادت من حيث أتت، فحللت رباطي وخرجت من بين الخشب وأنا أحمد الله على السلامة.
الأمل بعد اليأس
وجلست على شاطئ البحر يائسا مهموما أفكر فيما حل بي من المصائب، فلمحت مركبا كبيرا - على مسافة بعيدة - فلم أزل أصرخ وأصيح مشيرا بيدي مرة، وملوحا بعمامتي مرة أخرى، حتى فطن إلي بعض من بالمركب؛ فاقتربوا من الجزيرة ورسوا على شاطئها، فسلمت عليهم فردوا علي السلام، وفرحت بلقائهم فرحا عظيما، وحملوني معهم وسألوني عن أمري، فقصصت عليهم كل ما حدث لي، فعجبوا من ذلك أشد العجب، وأطعموني وسقوني وأكرموني أحسن إكرام.
ربان السفينة
ولم يزل المركب سائرا بنا حتى بلغنا بلدا كبيرا، فقال لي الربان: «إن عندي بضاعة لرجل اسمه «السندباد البحري»، كان معنا ثم نسيناه في جزيرة مررنا بها.»
فتأملت الربان فعرفعته، وأخبرته أنني أنا «السندباد البحري» فلم يصدقني - أول الأمر - واجتمع التجار حولي، وكان من بينهم التاجر الذي تعلقت بذبيحته في رحلتي السابقة التي قصصتها عليكم، فلم يكد ينعم النظر في حتى عرفني، وقص عليهم ما حدث لي معه، فحدق الربان النظر في فعرفني وتحقق صدق قولي، فعانقني فرحا مسرورا.
في بغداد
وما زلنا ننتقل من بلد إلى بلد ومن جزيرة - وتجارتنا رابحة - حتى وصلنا إلى البصرة، ثم سافرت منها إلى بغداد ومعي أموال لا تحصى، وأقبل علي أهلي وأصحابي يهنئونني برجوعي سالما وقد فرحوا بي فرحا لا يوصف.
مفتاح القراءة1
كم من حديث معجب شائق
تتلوه أمي أو أبي من كتاب
هذا عجيب فمتى أغتدي
مثلهما أقرأ بين الصحاب •••
كم ذا أجيل العين في صفحة
منقبا لا يعتريني فتور
وأنثني من غير جدوى وما
فهمت شيئا بين تلك السطور! •••
لكن أمي إذ رأت حيرتي
قالت: إذا ما رمت هذا المرام
فهاك مفتاحا لأسراره
هاك كتابا فيه سر الكلام
فيه حروف الهجاء •••
تبدأ بالأحرف فيه ولا
تلبث حتى تقرأ المفردات
وتقرأ الأسطر من بعدها
فيصبح الصعب من الهينات •••
وبعد جد واجتهاد ترى
أنك تتلو - مثلنا - في الكتاب
تقرأ ما يشجيك من قصة
ومن حديث معجب مستطاب
في أي وقت تشاء!
رسالة الغفران
(1) لماذا كتبها أبو العلاء
كان أبو الفرج الزهرجي - كاتب «نصر الدولة» - قد كتب إلى أبي العلاء رسالة استودعها ابن القارح:
1
وسأله أن يوصلها إلى أبي العلاء.
قال ابن القارح
2
فسرق عديلي رحلا - الرسالة فيه - فكتبت هذه الرسالة
3
أشكو أموري وما لقيت في سفري من أقيوام يدعون العلم والأدب
وقد ملأ ابن القارح رسالته بشكوى الناس والطعن على الزنادقة والملحدين، وجره ذلك إلى الاستطراد إلى مناسبات شتى، فلما قرأ «أبو العلاء» رسالة ابن القارح، بعث إليه برسالة الغفران ردا على رسالته. وقد سلك فيها منهجا عجيبا لم يسلكه - فيما نعلم - كاتب قبله؛ فبدأها بالثناء على ابن القارح، والإعجاب بغيرته الدينية، ثم قال: «وفي قدرة ربنا - جلت عظمته - أن يجعل كل حرف منها شبح نور لا يمتزج بمقال الزور، ولعله - سبحانه - قد نصب لسطورها المنجية من اللهب معاريج
4
من الفضة أو الذهب، تعرج بها الملائكة من الأرض الراكدة من السماء. بدليل الآية:
إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه .
وهذه الكلمة الطيبة كأنها المعنية بقوله:
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها .
وفي تلك السطور كلم كثير، كله عند البارئ - تقدس- أثير، وقد غرس لمولاي الشيخ الجليل إن شاء الله - بذلك الثناء - شجر في الجنة لذيذ اجتناء، كل شجرة منه تأخذ ما بين المشرق إلى المغرب بظل غاط،
5
والولدان المخلدون في ظلال تلك الشجر قيام وقعود، يقولون - والله القادر على كل شيء عزيز: «نحن وهذه الشجر صلة من الله لعلي بن منصور،
6
نخبأ له إلى نفخ الصور.» وتجري في أصول ذلك الشجر أنهار تختلج
7
من ماء الحيوان،
8
والكوثر يمدها في كل أوان، من شرب منها النغبة
9
فلا موت، قد أمن هنالك الفوت
10
وسعد من اللبن متخرقات لا تغير بأن تطول الأوقات، وجعافر
11
من الرحيق
12
المختوم.
وبعد أن أبدع «المعري» في وصف الفردوس ما شاء أن يبدع، وافتن في وصفها ووصف من فيه من السعداء تمثل صديقه «ابن القارح» - وقد اصطفى له ندامى من أدباء الفردوس، ثم يخطر له أن يتنزه، ولا يكاد يفعل حتى يقابله الأعشى، ثم يقابله غيره من الشعراء، وبذلك يخلق أبا العلاء جوا صالحا لتلك الكوميديا الرائعة - رسالة الغفران - ويجعل مسرح هذه الكوميديا الجنة والنار، فإذا انتهى من هذه الكوميديا؛ عاد إلى الرد على رسالة ابن القارح.
ولعل هذه الرسالة هي أمتع ما كتبه
13
أبو العلاء، وهي تعد بحق أنفس أثر له بعد كتاب اللزوميات. (2) لماذا أطلق عليها اسم الغفران؟
14
وإنما أطلق عليها اسم «الغفران» لأن الفكرة الرئيسية التي دفعته إلى إنشائها - وقت إجابته على رسالة ابن القارح - هي مناقشة من فازوا بالمغفرة ومن حرموها في الدار الآخرة، ومما يسترعي انتباهك فيها سؤاله - وكثيرا ما كان يوجهه إلى الفريق الناجي: «بم غفر لك؟» فيجيبه كل واحد منهم بما نجاه من العذاب، ويشرح له السبب في دخوله الفردوس، ويصف له كيف يتمتع به، وكيف ينعم ببدائعه.
وسؤاله الذي كان يوجهه إلى الفريق الثاني - وهو من حقت عليه اللعنة وكتب عليه الشقاء: «لم لم يغفر لك قولك كذا؟» فيجيبه أكثرهم عن السبب، ويشرحون له ما يقاسون من ألم وعذاب، ويصمت بعضهم لاشتغاله بما هو فيه من نكال وغصص.
وهكذا ألم بطائفة من الحوادث والأسباب، ومزج الرواية بالدعابة، والجد بالفكاهة والأدب، والفلسفة بالنقد الصائب، والسخرية الدقيقة. •••
وليس هذا الخيال، أو تلك الفكرة الفنية التي انتظمت الكتاب فأفردته من بين الآثار الأدبية التي كتب لها الخلود، مما يستغرب من مثل أبي العلاء ذي العقل الراجح، والبصيرة النفاذة، والخيال الواسع.
نعم وليس تمثل البعث والنشور، ونعيم الفردوس، وتعذيب الأشقياء في الجحيم، من الأفكار الطارئة التي سببتها رسالة ابن القارح أو نبهتها فيه، ولكنها فكرة متأصلة في قرارة نفسه، نبتت ونمت وتوشجت أصولها ونضجت ثمارها في قلبه - نحو نصف قرن - فاختلطت بلحمه، وسيطت بدمه، وهيمنت على مشاعره منذ حداثة نشأته - حتى أصبحت - من أهم مصادر الفلسفة العلائية.
ولعل أول محاولة رأيناها له - في اكتناه البعث والتردد في قبول الروايات والأخبار المتناقلة - قوله في مستهل حياته الأدبية - وهو في الرابعة عشرة من عمره في نونيته التي رثى بها أباه - إذ يقول فيها:
فيا ليت شعري! هل يخف وقاره
إذا صار أحد في القيامة كالعهن؟
وهل يرد الحوض الروي مبادرا
مع الناس أم يأتي الزحام فيستأني؟
15
وإنك لتلمح الشك يساور نفسه التي تتطلع إلى اليقين؛ فلا تظفر به وتتلمس الحقيقة فلا تصل إليها، فترجع يائسة حائرة بعد أن وجدت كل معين ناضبا، وكل ماء سرابا، وإنك لتجد حيرة من قتل الفكرة بحثا، وقلبها على كل وجه من وجوهها وناحية من نواحيها فلم يظفر بطائل، وزاد تفاقم الشك في نفسه الفتية، فأصبح يتلمس ما يسد به ذلك الفراغ - الذي كان يملؤه اليقين - فلا يجده. كل ذلك تتمثله واضحا في قوله من تلك القصيدة:
جهلنا فلم نعلم - على الحرص - ما الذي
يراد بنا، والعلم لله ذي المن
إذا غيب المرء استسر حديثه
ولم تخبر الأفكار عنه بما يغني
تضل العقول الهبرزيات رشدها
ولم يسلم الرأي القوي من الأفن
طلبت يقينا من جهينة عنهم
ولم تخبريني، يا جهين سوى الظن
فإن تعهديني لا أزال مسائلا
فإني لم أعط الصحيح، فأستغني
وهكذا ظل أمر البعث، والنشور، والجنة، والنار من أكبر شواغل هذا العقل الممحص الكبير، فاكتظت كتاباته وأشعاره بالإشارة إلى ذلك، ولم تكد تمر به فرصة دون أن يشير إليه إشارة قريبة أو بعيدة، واضحة أو خفية، هازئة أو جادة، ساخرة أو مقررة.
16
ولم يكن يرى حلا لهذه المشكلة المستعصية الحل، إلا وسيلة واحدة مستحيلة التحقيق، بعيدة الحدوث، ولكنها أمنية - على كل حال - من الأماني التي لا بأس من تحدث النفس بها - وإن كانت جد واثقة من قلة غنائها - تلك الوسيلة هي استفسار من ماتوا عما لقوه من عذاب أو نعيم - في عالمهم الثاني - ليضع بذلك آخر حد لتضارب الآراء وتناقض الأخبار في هذه المشكلة المستحيلة الحل، ثم لجأ إلى الأماني - وإن لم تسعفه الأماني - فود لو يتاح له الظفر بسؤال أحد الهالكين واستفساره عما لقيه - بعد الموت - لتنتهي بإجابته شكوكه وحيرته انتهاء حاسما، فقال:
لو جاء من أهل البلى مخبر
سألت عن قوم وأرخت
هل فاز بالجنة عمالها؟
وهل ثوى في النار نوبخت؟
وقال:
أسكن الثرى! لا تبعثون رسالة
إلينا! ولستم سامعي كلام الرسل!
ولم تسل نفسي عنكم باختيارها
ولكن طول الدهر يذهل أو يسلي!
وقال:
داران أما هذه فمسيئة
جدا، ولا خبر لتلك الدار
ما جاء منها وافد متسرع
فنقول للنبأ الجديد: «بدار!»
وقال:
فهل قام - من قبره - ميت
يعيب على النفس إخفارها
يقول: «جنبنا ذنوبا لنا
وجدنا المهيمن غفارها»
إلى آخر تلك الأبيات التي لا حاجة بنا إلى استقصائها.
ولكنه بعد أن سئم هذه التمنيات التي رددها كثيرا - بلا طائل - لجأ إلى نوع آخر من الأماني المجدية - وهو الخيال - وما أوسع عالمه إذا ضاق بالإنسان عالم الحقائق!
وانتهز لذلك مناسبتين:
أولاهما:
رسالة سائل - لم يحفظ لنا التاريخ اسمه - بعث بها إليه مستفسرا عن بعض المسائل الصرفية.
وثانيتهما:
رسالة علي بن منصور الملقب بدوخلة، والمشهور بابن القارح، فكان جوابه على الأولى رسالة الملائكة، وعلى الثانية رسالة الغفران. فأما رسالة الملائكة فقد انتهز فيها مناسبة كل لفظة سأله المستفهم عنها، للخروج منها إلى ما يناسبها من لقاء عزرائيل إلى محاسبة الملكين إلى نفخ الصور إلى دخول الجنة.
وأما رسالة الغفران فقد انتهز فرصة الثناء على رسالة ابن القارح وإطراء كلماتها - كما أسلفنا - لنتوصل إلى غايته التي رمى إليها، فتمثل الملائكة ترفع كلمها الطيب إلى السماء، وتخذ من قوله تعالى: «ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» وسيلة إلى تمثل الأشجار قد غرست في الفردوس بعدد كلمات تلك الرسالة؛ لأنها جميعا مما ينطبق عليه معنى الآية التي كأنما كانت تعنيها بهذا الوصف.
وساقه ذكر أشجار الجنة إلى ذكر أنهارها وما فيها من الخمر، ثم إلى تنزه ابن القارح فيها وتمتعه بنعيمها الخالد، وتعرفه بأهلها، ثم جره ذلك إلى وصف دخوله ودخول غيره من المغفور لهم جنان الخلد، ثم جره ذلك إلى زيارة أهل النار وسؤالهم عن السبب الذي جرهم إلى هذه العقبى السيئة، وهكذا إلى آخر أغراض الرسالة.
وبعد أن فرغ من ذلك القسم الممتع عاد إلى الرد على رسالة ابن القارح. •••
أما رسالة الملائكة فقد يخيل إلينا أنها كتبت قبل رسالة الغفران؛ لأنها - على جمال أسلوبها وتفرد خيالها - مقتضبة إذا قسناها إلى رسالة الغفران، أو هي - إن شئت - إنما كانت تمهيدا للفكرة الفنية التي قامت عليها القصة.
أما رسالة الغفران فهي - في اعتقادنا - أوضح وأدق وأبرع صورة شعرية قرأناها عن العالم الثاني، وأحوال الناس فيه، وهي كما قلنا من قبل: «فن من الأدب العالي، لا يقل عن أجل أثر أخرجه أكبر رأس غربي مفكر ...!»
هوامش
حقائق يجهلها الأطباء عن الغذاء1
يقولون إن أحد المشتغلين بالتنجيم حل ضيفا عند أحد أمراء العرب فلقي من الحفاوة والإكرام ما لا مزيد عليه، فلما حان وقت الرحيل بصرت عيناه بطفل علم أنه وليد صاحب الدار؛ فأراد أن يسدي إلى مضيفه يدا يكافئه بها على كرمه الحاتمي، وظل يضرب أخماسا لأسداس، ويخط في رمله - على عادة الدجاجلة والمنجمين - ثم التفت إلى صاحب الدار متهلل الوجه متطلق الأسارير، وقال له: «أبشر أيها السيد العظيم، فقد أنبأني طالع ابنك السعيد أن سيكون له شأن عظيم، وأنه سيخوض المهامه والقفار، ويقهر الأعداء، ويغزو الممالك، ويفتح الأقطار وتدين له الجبابرة، ويخضع لسطوته الملوك و ...» فأسرع رب الدار بمقاطعته قائلا: «ولكن هذه بنت ...!»
ومن عجائب الزمن أن يدور الزمن دورته، فنسمع أشباه هذه الحكاية يقصها رواة صادقون، ويرويها - بصيغة أخرى - عدول لا يرتاب إنسان في نزاهتهم وصدق روايتهم ، وعن أية طائفة يروونها، عن طائفة من أكبر رجال العلم طالما تلقف الناس أقوالهم بلهفة وثقة حاسبيها الحق الصراح واليقين الذي لا يتطرق إليه الباطل، وهي طائفة الأطباء!
يا للعجب! لقد أظهر البحث أن كثيرا - من أطباء اليوم، والأمس، والغد المشتغلين بمسألة الطعام - دجاجلة ومنجمون، تتناقض أقوالهم وتتضارب آراؤهم في المسألة الواحدة؛ فتصل مسافة الخلاف بينها إلى ما بين الضد والضد، ولعل أبدع ما نسوقه دليلا على ذلك ما ترويه لنا مجلة من أشهر المجلات العلمية الأمريكية، إذ يقول راويتها الثقة - والتبعة عليه:
كان لي صديق - في مقتبل أيامه - وكان كثير الشكوى من اختلال صحته، فذهب ذات مرة إلى طبيب مشهود له بالكفاية، واسع الشهرة في فن الطب، وبعد أن أتم الطبيب فحصه - على أحدث الطرق العلمية - التفت إليه قائلا: «اسمع يا صديقي، إن متاعبك وآلامك كلها ناشئة من كثرة تهافتك على أكل اللحم بمقادير كبيرة جدا!»
ولم يكد صديقي يسمع من طبيبه ذلك حتى بلغت دهشته أقصاها، وأجابه قائلا: «ربما كنت مصيبا في حكمك يا دكتور، ولكني لم أذق لحما منذ عامين!»
وهنا وجم الطبيب، ولم يكن خجله بأقل من خجل ذلك المنجم الذي روينا قصته في أول هذا المقال!
وغير الطبيب تذكرته الطبية، وأشار عليه بوصفة أخرى، تتلخص في الابتعاد دائما عن الانفعالات النفسية التي تسبب له هذه المتاعب والآلام! •••
هذه حكاية واقعة صحيحة أيها القارئ، وهي - على غرابتها - كثيرة الأشباه والنظائر، وربما حدث لكل إنسان ما يقاربها أو يماثلها، وإني لأكاد أجزم موقنا أن ملايين من الناس يعانون من غموض نصائح الأطباء، وتناقض أقوالهم، واضطراب وصفاتهم، ما يعجز القلم عن وصفه!
والحق الذي لا مراء فيه، أن اتباع وصفة بعينها، أو السير على نمط خاص في التغذية، وتناول نوع واحد من الطعام، من الأشياء التي مني بها هذا العصر، بل هو - على الأصح - بدعة ممقوتة فيها من الأضرار ما لا قبل لإنسان باحتماله، وما أعجب غرام الأطباء، ومصالح الصحة بإصدار قوائم مطولة، يحصون فيها ما يجب أكله من الطعام وما لا يجب، ويقيدون بها ما يزعمونه صالحا للتغذية وما يزعمونه ضارا من الأطعمة!
وفي الواقع أن النصائح الطبية للتغذية؛ لا يرضخ لها رضوخا تاما إلا في أحوال مرضية حادة أو خاصة، وفي الحميات، وفي الحالات الجراحية، والبول السكري. وما أشد ما يغررون بنا؛ إذ يقررون لنا أن اتباع نصائحهم سيقودنا إلى السلامة ويكسبنا الصحة والعافية، ويرد لنا ما فقد من قوانا، وما بهت من ألواننا، ويطيل من أعمارنا، إلى آخر هذه المزاعم الطويلة العريضة التي لا آخر لها، وليس هذا شأن دجاجلة الطب وحدهم؛ بل إن كثيرا من أفاضل الأطباء يندفعون في هذه الطريق بحسن نية، ويصفون ذلك بإخلاص وأمانة منساقين في تيار هذه البدعة الجارف!
لقد طالما نصحنا الأطباء بأكل كل الخضر نيئة، ثم نصحونا أيضا بطبخها، وطالما أشاروا علينا بأكل الفاكهة، ثم أشاروا علينا بالكف عن أكلها، وهكذا وهكذا مما لا نهاية من الأوامر التي لا تلبث أن تصير نواهي، حتى أصبح الرجل الذي يستطيع أن يمنع نفسه من الحيرة والارتباك - أمام هذه الأوصاف المربكة المتناقضة ويستخلص من هذه الشعاب المتلوية طريقا واضحة - جديرا أن ندعوه بطلا، وأن نطلق عليه اسم الإنسان الأعلى «السبرمان».
ولا تزال إلى اليوم فئة من الأغرار تنخدع بهذه النصائح، فتعكف على تناول طعام بعينه، حاسبة في ذلك نجاتهم وتوفر صحتهم، فتكون النتائج غير مرضية، أو - على الأصح - عكسية! ذلك أن الاقتصار على نوع واحد من الغذاء - بالغة ما بلغت فائدته وصلاحيته - يضر بنا إضرارا بليغا، فإن جسمنا الذي اعتاد أن يتغذى بالأطعمة المختلفة إذا اقتصر على غذاء بعينه حرم مواد مغذية ليست في هذا الغذاء، وأدخل فيه عناصر متراكمة من هذا الغذاء ليس هو في حاجة إليها. ومن هنا ينشأ الإسراف في إدخال عنصر - مهما بلغ نفعه - فهو ضار إذا تجاوز المقدار الكافي منه، وربما دفعهم اليأس - بعد ذلك - إلى نقيض ما فعلوا، فأسرفوا في الخلط بين المآكل العديدة، واندفعوا في أكل الأطعمة المختلفة، ولكن:
بين إسراف وبخل رتبة
وكلا الأمرين - إن زاد - قتل!
ومن غرائب الأمور أن الكيميائي البارع - الذي كرس حياته لدراسة طبائع الأغذية - يكاد يحجم عن وصف طعام لك، بينما يندفع الجهلاء وأنصاف الجهلاء إلى تقرير ما يصلح لك من الطعام بلا تردد!
وإننا لنسجل بالإعجاب قول أحد العلماء الكيميائين - وهو تصريح له خطره وأهميته - قال: «قبل ستة أعوام، لم أكن قد تعمقت في درس الغذاء، فكنت إذا استشارني إنسان في نوع الغذاء الذي يصلح له؛ أجبته عنه بلا تردد، أما الآن - بعد أن أطلت البحث، والعمل بجد ونشاط، ووقفت على خصائص الأغذية، ومزايا كل نوع وأضراره؛ فقد وصلت إلى نتيجة أخرى، هي اقتناعي بعجزي وقصوري التامين عن وصف أي طعام لأي إنسان.
وكل ما وصلت إليه من الحقائق؛ هو أنني - وغيري - جاهلون جهلا لا شك فيه بتخير الطعام الذي ننصح لك بتناوله بأكله. •••
أذكر لك حكاية صديق آخر، لا عمل له إلا الاشتغال بتحليل الأطعمة ووصف ما يصلح للمرضى منها وما لا يصح، فقد أصابه ذات يوم مرض، فذهب إلى الطبيب العلامة «هوبكنز»، فماذا قال له الطبيب؟ قال له: «إن كل أعضائك سليمة، وليس عليك - إذا شئت الشفاء - إلا أن تقلل من أكلك، أو تكثر من النزهة، فإنك إن فعلت واحدا من هذين نجوت وسلمت!»
وقد اتبع نصيحة الطبيب، واستفاد منها كثيرا، وأصبحت صحته على أتم ما يرام.
فإذا كان المشتغلون بكيمياء الطعام وتحليله، ووصف ما ينفع الناس منه وما لا ينفع، عاجزون عن اختيار ما يلائمهم منه، فإن غيرهم من الناس أعجز! •••
وموجز القول: أن في كل نوع من الأغذية مزايا وأضرارا، وأن الأطعمة المختلفة يتمم بعضها بعضا؛ فإن في كل طعام من المزايا ما ليس في الآخر، وأن تعود الجسم على تناول أطعمة بعينها يكسبه مرانة على هضمها، فإذا تركها فجأة وعدل عنها إلى نوع آخر من الطعام - لم يألفه - أضر به ذلك العدول، وإن أكثر الأطباء لا يعنون بتحري الدقة في أقوالهم إذا تكلموا عن الغذاء، وأنهم لو أرادوا الدقة لما وصفوا أي نوع من الأغذية، فإن اللبن وهو أصلح الأطعمة - في زعمهم - ناقص يحتاج إلى ما يكمله، وقس على ذلك غيره مما لا يتسع المقام للإفاضة في شرحه، ولقد كان الموز يعتبر - منذ زمن قريب - أخطر نوع من الغذاء للأطفال.
وكانت الأم إذا رأت طفلها يأكله مرة حسبته هالكا لا محالة، وها هو قد تغير الزمن ودار دورته فأصبح المختصون يوصون الناس بتغذية أطفالهم به، ويقررون لهم أنه أصلح غذاء صحي لصغارهم.
ولعلنا نسمع في الغد نظريات جديدة تنقض كل ما يقررونه اليوم!
الشعراء المعاصرون: أبو شادي1
«وإن صديقي - إن رأى الحق شرعتي - فليس يحابيني، ولا ينثني عني»
أبو شادي
لعل خير ما أفتتح به هذا الفصل هو قول صديقي الأستاذ الأديب الفنان سيد أفندي إبراهيم من مقال له:
وإذا كان للعدو أن يكتب عن عدوه وأن ينصفه - ما دام من طبعه الإنصاف - فلا ضير أن يكتب الصديق عن صديقه وأن ينصفه ما دام من طبعه الإنصاف.
هذه كلمة حق يجب أن أسجلها لصديقي سيد، وأن أستشهد بها حين أكتب عن صديقي أبي شادي، فسيقول بعض المتسكعين الفارغي القلب كعهدنا بهم: «صديق يقرظ صديقه ويجامله!»
ولا، وحرمة الحق والإنصاف، إن هو إلا صديق يسجل حسنات صديقه مغتبطا بتسجيلها له، وما أدري أية غضاضة في ذلك؟!
وإذا كان الصديق لا ينصف صديقه - بعد أن رآه أهلا للإنصاف - فمن ينصفه؟!
أينصفه عدوه الذي يرى كل حسنة من حسناته، ومفخرة من مفاخره سيئة يلومه عليها، وجريمة يندد بها؟! أينصفه حاسده وهو يرى في نجاحه أكبر نكبة تحيق به وتضيع آماله، ولا يرضى عنه إلا إذا تساوى معه في العجز والفشل؟!
إن العيب الذي يؤخذ على الصديق هو أن يغفل عن تنبيه صديقه إلى مواطن الضعف والزلل، وهو جدير - إذ يفعل ذلك - بأن يسجل له مغتبطا المزايا الباهرة التي يراها فيه، وإنما يعاب على الصديق أن تغطي الصداقة على عيوب صديقه فلا يراها، وهو جدير أن يكون لصديقه مرآة صافية تريه محاسنه وعيوبه - على السواء - «فإن المرء لا يرى عيب نفسه» كما يقولون. بقيت ثمة ملاحظة لا أرى بدا من الإفضاء بها إلى القارئ؛ وهي أن الصداقة التي تجر إلى الإعجاب غير الإعجاب الذي يجر إلى الصداقة، وأنا ممن يعجبون بالرجل أولا ثم يصاحبونه؛ فإعجابي بمزاياه الباهرة هو أساس صداقتي معه وليست صداقتي معه هي أساس إعجابي به، فإذا سجلت لصديقي شيئا من ميزاته فإنما أسجل رأيي فيه الذي ارتأيته قبل أن أتخذه لي صديقا وصاحبا وأخا، ثم لم أتحول عن هذا الرأي بعد مصاحبته. وهذه كلمة لا بد من الإفضاء بها إلى من يخلطون بين واجبات الصداقة وواجبات النقد الأدبي النزيه الذي يحترم الأصول الفنية.
وإنا لنسجل على أنفسنا التقصير والعقوق إذا لم نشد بعبقرية شاعر فذ وأديب متفنن ألمعي، لا لذنب إلا لأنه من معاصرينا، تاركين لأعقابنا الاعتراف له بحسناته في الوقت الذي لا ينفع أدبنا العصري هذا الاعتراف بعد أن عققنا أدبه وتغاضينا عن حسناته.
وإذا كان أدباؤنا الممتازون الذين حرموا نفوسهم كل لذات الحياة ومبهجاتها - في سبيل إنهاض الأدب، وخدمة اللغة والعلم والفن جميعا - لا يجدون منا كلمة إنصاف، ولا يرون إلا جحودا ونكرانا للجميل، فما أجدرنا حينئذ بلقب غير هذا اللقب السامي - لقب الأديب - الذي يرى أول واجباته انتصار الأديب للأديب «وفرحة الأديب بالأديب!»، ويدين بقول أبي تمام:
أو نختلف يوما يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
وإني لأكون ساخرا بنفسي وبالقراء معا إذا حسبت أن إلمامة موجزة كهذه تكفي لتحليل أبي شادي، والتنويه بفضله على العربية وعلى الأدب وعلى العلم وعلى الفن، وقد أبلى في كل هذه جميعا بلاء حسنا، وكان الرائد الجريء، وهذا ما يعترف له به النقاد قبل مريديه، وما ظنك برجل أيسر إنتاجه أكبر وأجدى مما أنتجه أي فرد من خصومه الزارين عليه المتظاهرين بتحقير جهده الفذ؟! ما بالك برجل يكون أيسر تآليفه عدة أوبرات يختط بها - في الشعر العربي - طريقا واضحة ميسرة معبدة غير ملتوية ولا معوجة مما أكبره أعلام المستشرقين؟!
ولو استطاع أحد خصومه أن ينظم واحدة من هذه الأوبرات العديدة - «كإحسان» و«الآلهة» و«أردشير» و«الزباء» و«بنت الصحراء» و«إخناتون» - لكانت بيضة الديك، ولملأ الدنيا بها فخرا ومباهاة!
ثم يكون من آثاره تآليفه القيمة في علم النحالة (apiculture)
التي خدم بها اللغة والعلم والاقتصاد الزراعي معا، واشتهرت عالميا، وكتاب «الطبيب والمعمل » - في زهاء ألف صفحة - يطوع فيه الألفاظ العربية تطويعا لم يسبقه إليه غيره من أساطين فن الطب إلى الآن:
ردت لطافته وحدة ذهنه
وحش اللغات أوانسا بخطابه
والنحل يجني المر من نور الربى
فيصير شهدا في طريق رضابه
ثم يكون من آثاره ترجمته القوية الرائعة لشكسبير، وديوانه «الشفق الباكي» في أكثر من ألف صفحة جياشة بشتى العواطف والإحساسات، حافلة بالدراسات الأدبية القيمة، ونراه يثبت في كتبه آراء خصومه كما يثبت آراء المعجبين به على السواء، ويدعو إلى النقد الحر المستقل ويحترمه شاكرا، وهي خلة لم نكد نراها في سواه من أدباء هذا العصر الذين يحقدون على كل من خالف لهم رأيا، أو أظهر فيهم عيبا واحدا!!!
2
تلك بعض حسنات أبي شادي الذي يمثل لنا أدب الثقافة العالية والحياة القوية، كما يمثل لنا روح العلم وحب البحث والاستقصاء، نسجلها بإيجاز حقائق ناطقة لا مجال للإسراف والغلو فيها، وهي حسنات يذكرها له الأدب وتاريخ اللغة وتاريخ النهضة العلمية معا، ولقد كنا نحسب من المغالاة ما روي لنا عن أن الشعر كان أيسر أدوات ابن الرومي حتى رأينا إنتاج أبي شادي المتنوع علما وأدبا، واختبرنا تفننه في ذلك؛ فآمنا بصدق تلك الرواية، واتخذنا من عبقرية أبي شادي المتعددة النواحي قرينة أو برهانا على صحة نظيرتها عند ابن الرومي.
صورة فنية كاريكاتورية بديعة من رسم الاستاذ «فريدون» تمثل مناحى عبقرية «أبي شادي» الأدبية العلمية. (1) شعره ورأيه في الشعر والشاعر
يرى «أبو شادي» أنه لا بد للشاعر المتعالي من رسالة سامية يؤديها، وأنه لا كمال للشعر في أن يكون ذاتيا “subjective”
فقط، ولا في أن يكون موضوعيا “objective”
فحسب، بل إن أكمل ما جمع بين الصورتين، وما توج برسالة فنية عالية للحياة والأحياء، والرسالة التي تزجيه نفسه وشاعريته إلى بثها هي رسالة التفاؤل الإنساني والاندماج الفلسفي في النوع اندماجا يجعله يحس حقيقة بأنه خالد في نوعه، وأن الفرد - أو الحياة المحدودة - يضحي في سبيل تجميل النوع - أو الحياة المستمرة - فهو يرضى قريرا بهذه التضحية في سبيل ما تنزع إليه الحياة من جمال وكمال،
3
وهو بهذا الشعور متصوف، وتتجلى روحه الصوفية - على أقوى ما تكون- في مناجاته الطبيعة بأناشيده التي تراها، وإن اختلفت أنغامها ومعانيها متجهة إلى قبلة واحدة.
وهو، وإن لم يغمط الشاعر الذاتي البحت، ولا الشاعر الموضوعي الصرف حقه بالنسبة إلى مدى قوته في الشاعرية، إلا أنه ينظر إلى المثل الأعلى من الشعر نظر المؤمن إلى رسالة قدسية، فهو لا يعتبره شعورا عميقا، وخيالا ساميا، وعاطفة حارة، وتعبيرا فنيا فقط، بل يراه - مع كل هذا - نشيدا لوحي سماوي يصعد بالإنسانية من حضيض البهيمية ويبوئها مكانتها الروحية الجديرة بها.
فإذا شئت أن تعرف روح هذا الشاعر ولبه فحسبك عبرته «إخناتون» - وهو أول من ألف رواية عنه وحاول إنصافه في أدبنا العربي، وتابعه شوقي بك في محاولته إنصاف كليوباترة، وإن كان الفرق بين الشخصيتين شاسعا.
وفي ديوانه «الشفق الباكي» - فضلا عن دواوينه السابقة - نماذج شتى لما يوصف بشعره الإنساني العالمي، وكذلك ترى في ديوانه الأخير «وحي العام»
4
بجزءيه لسنتي 1928 و1929م، وفي ملحمته الشعرية الفلسفية المشهورة «شوبنهاور والحياة» تعابير شتى من عقيدته هذه ومن تصوفه القوي، وإذا رجعت إلى شعره القديم وجدت نفس هذه الروح الإنسانية متمشية معه في نموه الفكري الوجداني منذ نيف وعشرين عاما. •••
وأنت - إذ تقرأ شعره القومي السياسي - لا تقرأ شعرا ديمقراطيا مثلما تقرأ شعرا إنسانيا في روحه، ولا غرابة في ذلك ما دامت هذه هي النزعة الغالبة على الشاعر في جميع أدوار حياته وفي كل نواحي عيشته، مما يدل عليها تعلقه بمظاهر التعاون الأمي الفكري، واشتراكه فيما يستطيع الاشتراك فيه منها.
ولشعره القومي - إلى جانب إنسانيته - صبغة ديمقراطية سليمة تجدها في حدبه على الفلاحين، ألا ترى ذلك في قصيدته «كوخ الريف»؟
5
ثم ألا تراه أبلغ محبب حياة الريف للمصري في مثل قصيدته «في حضن الريف»
6
التي هي مثال لشعره القومي الكثير؟
فأنت ترى - في هذه القصيدة - صورا من العواطف الحارة الجامعة بين حب الوطن وحب الطبيعة والتفنن في وصفها - وقلما تجد له قصيدة وجدانية لا تجمع بين فنون شتى من الشعر تمتزج امتزاجا بنفسه المستوعبة لشتى الأطياف والألوان والأنغام.
وما دمنا قد أشرنا إلى شعره القومي - وطائفة صالحة منه موزعة بين دواوينه «مصريات» و«أنين ورنين» و«الشفق الباكي» و«وحي العام»؛ دع عنك مؤلفاته الشعرية الأخرى مثل «نكبة نافارين» و«مفخرة رشيد» ... إلخ - فحري بنا أن نشير إلى قصيدته الوطنية الممتازة: «الفلاحة»
7
دون أن ننسى أنه صاحب البيت المشهور:
والشعب إن يغفل حقوق صغيره
صار الكبير به الصغير الضائعا!
ولما كانت للشاعر جولات شتى في فنون الشعر المتعددة فإني أكتفي بالإشارة إلى أهمها، أو على الأصح إلى ما يحضرني منها؛ فهو قد أعاد لنا الروح الفلسفي في الشعر، وبرهن - أيما برهان - على أن الشعر العالي يعتز بذلك، وأن الفلسفة لا تضر الشعر بل تخدمه وتغذيه، وليس الذنب عائدا إليها إذا أدخلها بعض الأغرار في الشعر فأفسده بها، فإنما الذنب ذنب من يتناولها بغير بصيرة، ومن يخرجها به تقليدا، لا عن شعور وإيمان صادق، وقد رأينا أبا العلاء والمتنبي مثلا يمزجان الشعر بالفلسفة؛ فيبلغان ذروة الإجادة، ويضيء شعرهما بأسمى معاني الفلسفة. وشواهد «أبي شادي» في هذا الباب تكاد لا تحصى، وهو يرى أن النظرة الشعرية تستطيع أن تستوعب الفلسفة والعلم، بل وجديرة بأن تستوعب كل شيء، والعبرة باندماج الشاعر في موضوعه بدل أن يكون صانعا وصافا غريبا عنه، ولعل هذا هو السر في إكباب أبي شادي على عمله العلمي بشغف كأنما هو ينظم شعرا جميلا، وله في «المكرسكوب» - المجهر - قصيدة فلسفية وجدانية فريدة في بابها.
الينبوع
وبينما يروج غير واحد من أعلام أدبائنا للدعاية ضد المرأة، على اعتبار أنها نوع من الشر الضروري؛ يعدها أبو شادي ينبوع السعادة، ويضعها في أرفع منزلة لم تنلها من شاعر عربي من قبل، بل ولا من أحد من معاصريه، وتدور حولها - على الحقيقة - عبرته «الآلهة» في رمزي الجمال والحب، وبدافع سحرها نظم قصيدته البديعة «الينبوع» مستوحيا - كما شاءت عواطفه الحارة وخياله الشعري - الصورة الفنية
8
التي رسمها النقاش الشهير إنجرز “ingrss” .
وقد تنوقلت هذه القصيدة وكثر الاقتباس منها؛ لجمال موسيقيتها ومعانيها، ولم يفت شوقي بك روحها وأخص معانيها حين نظم قصيدته اللامية «بمصرع كليوباترا». ولا جدال في أن نظرة أبي شادي إلى المرأة هي نظرة أفلاطونية روحية بريئة، ويتبع ذلك شعره الغزلي - وكله عفيف - ونظمه الغنائي الكثير، ولن تجد في شعره الغزلي - كيفما كان الموقف أو الموضوع أو المناسبة - شيئا ينبو عنه الذوق المهذب، أو تستحي منه الفتاة، وكما أنه بطبيعته مبتكر في المعنى والخيال والموضوع، فهو كذلك شديد النزوع إلى الابتكار في المبنى؛ مثال ذلك: قصيدته الطريفة «المثال»
9
وهي تحفة من حسنات الشعر العصري الذي ما نزال نغفل دراسته في معاهدنا بكل أسف - ولا أستثني من ذلك الجامعة المصرية - منقطعين لعبادة القدماء والتغني بآثارهم، وفي هذه القصيدة ما يروعك، ويفتنك من الوصف الدقيق المشوق والنغم الشجي، في حين أن كل عقباه قبلة أفلاطونية و«شعر يطيب كوقع المثاني»!!
ولا عجب في ذلك حينما تدرك نزعة «الإيديالزم» المتسلطة عليه دائما، الموحية إليه بأن يقول:
مذهبي في جلالة الحسن أن لا
يغتدي نعمة تحب لتفسد
أكثر الحسن ما يصان ليشقى
إنما الحسن ما يصان ليعبد!
ويطول بنا الحديث إذا تكلمت عن شعره الوصفي واستنطاقه للحياة والجماد، بل لعالم رؤياه كله، فنكتفي بالإشارة إلى قصيدته «الرقيبان الصامتان»
10
وإلى قصيدة المتأملة،
11
وكلتاهما من شعر التصوير الذي أخصب به الأدب العصري، كما ابتدع له فنونا من الشعر المرسل، ومن الشعر الحر، وتصرف تصرفا حكيما في أساليبه البيانية الجديدة وفي مناهجه اللغوية لفظا وأسلوبا، ولا تحسبنا في حاجة إلى الإشارة إلى شعره التاريخي، وإلى نظمه القصصي الموفق، فنماذجه كثيرة مشهورة، وقد جاءت برهانا كافيا على طواعية اللغة العربية ومواتاتها لمن يعرف أسرارها، ويتضلع منها، وتكون له شاعرية مطبوعة، وثقافة تزجيه إلى التعبير والابتكار، وشاعرنا - بطبيعة تكوينه العصبي وفرط حسيته وعواطفه - شاعر أصيل يرث الشاعرية أو الاستعداد الفني عن والده الخطيب المفوه، والكاتب الشاعر الكبير محمد أبي شادي بك من ناحية، وعن والدته الأديبة الشاعرة الرقيقة السيدة أمينة نجيب، وعن خاله المؤرخ القدير، والشاعر الناثر المتفنن مصطفى نجيب بك من ناحية أخرى. وهو برغم هذا التراث الأدبي تراه غير راض عن نفسه، ولا يعني بالشعر الذاتي البحت إلا في مواقف الدفاع أمام تهجم الجامدين أو حسد المنافسين، إذا ما استحالت نزواتهم إلى تحامل مرذول، ولعل من الخير للأدب هذا الشعور المتأصل فيه؛ لأنه يدفعه إلى الإنتاج المتواصل طلبا للكمال الفني، على العكس من القانعين الكسالى الفخورين بآثارهم الضئيلة؛ لأنهم لا يخدمون الأدب ولا يصلحون من ملكتهم بتكرارهم إنشاد شعرهم القديم في زهو وغرور، ومن أحسن ما نختاره من شعره الذاتي “Subjective poetry”
قصيدته في الدفاع عن نفسه أمام خصومه المتحاملين وحاسديه، وعنوانها «جوابي».
12
وهذه القصيدة - التي ينظمها شاعر رومانطيقي - هي في جملتها كلاسيكية الصورة
13
وهذا الذي يجيب خصومه بهذا الجواب المفحم لا يتردد عند الموازنة في الاعتراف بحسناتهم كأنما هي جزء من نفسه ما دامت قد نالت استحسانه، ويرفض فكرة الحفاوة به في «جمعية المصباح الخافت» قائلا: إنه لا يستحق مثل هذه الحفاوة ولا التعريف به للأدباء الغربيين وهو لم يسد بعد للأدب العربي ما أسداه مثل توماس هاردي بتأليفه «العواهل» (Ihe Dynasts)
إلى الأدب الإنجليزي بل إلى عالم الأدب والإنسانية، وهكذا يثبت «أبو شادي» إخلاصه الفني، وجدارة شعره بالعناية والدرس والإجلال.
وصفوة القول أنه ليس بالغنم القليل للأدب العصري أن يظهر فيه شاعر منجب خلاق يتدفق شاعرية ذو عقيدة قوية، وقد شمل شعره السخي المليء بأفانين الجمال وطرف الأدب كل ما وقع تحت بصره، واهتزت له نفسه، وكل ما تاق له وجدانه وتخيلته روحه المتسامية؛ فتغنى بالطبيعة، والفضيلة، وبالخير، والإنسانية العالية كما تغنى بحب بلاده، وبزرعها، وضرعها، وبأزهارها، وشمسها ونيلها السعيد ، كل ذلك في بيان عذب، وموسيقية ساحرة، وجدة رائعة لا أثر للتقليد فيها، مع غيرة صادقة على تراث أجداده، وفي مقدمته لغته العزيزة التي يرى في خدمتها المتواصلة وفي التقدم بها إكرامها، حينما يقنع الأدعياء الصاخبون بالوقوف بها، وباقتسام فضلات الموتى!!
فدراسة «أبي شادي» الشاعر تجمع في الواقع بين دراسة شاعرية قوية متأججة وشخصية إنسانية ممتازة، وكلتاهما ثائرة الطبع برغم تفاؤلها، واسعة الأفق، عالمية الروح، وإن انتسبت أصلا إلى هذا الوطن وأخلصت له الحب. (2) الجمال الساحر
14
حسن هذا الخد إن قيس به
كل حسن كان عنه قاصرا
كم شموس قد خبت أضواؤها
حين لاح الخد نورا باهرا
فجمال الوجه الأخلاق وقد
سطعا للناس صبحا سافرا
منطق حلو، وحسن رائع
جمعا هذا الجمال الساحرا
هوامش
مذكرات عجائبي1
1
هب نشالا عرف أني أراقبه باهتمام، أليس من المحتمل وقوعه إنه ربما انتهز هذه الفرصة لنشل ما في جيبي من النقود في الحين الذي أنا مشتغل فيه بالاهتمام بمراقبته وعيناي شاخصتان إليه؟ إذا أقررنا ذلك سهل علينا تفهم ما يأتي به العجائبي من المدهشات؛ فإنه يبني على هذه النظرية حيله المدهشة.
تعتقد أنني أحاول خداعك والعبث بك، فتحدق بي عندما تراني أقف على مسرحي كما هي الحال مع النشال حين تراقبه.
والعجائبي جدير أن يتعرف كثيرا من مميزات وخواص الناس الضرورية البسيطة، فإن حيلنا يتحتم فيها الفشل؛ إذا لم نعن بدرسك أيها القارئ عنايتنا بدرس صناعتنا واصطلاحاتنا الفنية.
ولقد يكون مثلا من أكبر عوامل نجاحنا؛ قدرتنا على توجيه نظرك متى وأنى شئنا، فإذا صحت فيك قائلا: «انظر إلي، ها هو ذا الصندوق فارغا لا شيء فيه.» أو قلت: «تأمل ها أنا ذا ليس في أكمامي شيء البتة!»
فإنما أفعل ذلك لتحصر انتباهك فيهما، بينما آتي بحركات خفيفة لا تراها لانشغالك بهما.
ولو أنك اهتممت بمراقبتي ولم تهتم بمراقبتهما مثلا، لتمكنت من إدراك حيلتي وفطنت إليها بسهولة.
ولكن تحويل انتباهك هذه الثواني القليلة عن مراقبتي وقت أن آمرك بذلك فتلبي أمري هو أكبر عون لي على خداعك.
وقد اشتغلت بهذا الفن أكثر من ثلاثين عاما، ولا أذكر أنني استطعت - رغم ذلك - أن أغالب عيني عن التحول عن الجهة التي يأمرني العجائبي بالتحول إليها عندما يصيح قائلا: «انتبه إلى كذا ...»
وذلك تقهقر طبيعي لا يمكن مغالبته، ولنفرض أني أريد الإتيان بحركة خفية فليس يكلفني ذلك عناء كبيرا في الإتيان بها دون أن تفطن إليها.
وذلك أنني إذا أردت نقل ساعة جيب، أو إخراج بيضة من قبعة، فإني أدق برجلي دقة شديدة تسترعي الأنظار؛ فتتحول إلى قدمي، وإذا بدا لي أن مراقبة الحاضرين جدية أشرت إلى مساعدي بالإتيان بحركة فجائية غير عادية لتحويل الأنظار عني قليلا.
وإذا أردت إحضار كرسي، أو طاولة، أو سلة، إلى المسرح دون أن تراها فإني أنتقل إلى الجهة المضادة لها أولا، وقد علمت من التجاريب أن أعين الناس تتبع العجائبي دائما إلا إذا أراد هو أن يحولها عنه إلى جهة أخرى.
كل هذه نظريات سهلة وبسيطة في تحويل الأنظار، وهي - مع ذلك - نافعة ومجدية.
ولكي ندرأ عنا كل شبهة، ونتحامى كل ريبة تحوم حول مساعدينا نجعلهم يتظاهرون بأقصى ما يمكن أن يتظاهروا به من العته والبلاهة، فيسقطون الأشياء من أيديهم، ويتعثرون بالكراسي، ويخطئون - عن عمد - حتى في أبسط الأشياء العادية المعروفة بالبداهة، متظاهرين بأن ذلك إنما يحدث عفوا؛ لأننا نود أن تكون لديك عقيدة ثابتة، وفكرة لا تتزعزع عن جهل أولئك المساعدين، والاعتقاد بأنهم عاجزون عن تقديم أية مساعدة لنا على إنجاز حيلنا، بينما هم في - الحقيقة - أكبر عون لنا على إتمام عملنا.
ولقد جلست مرة إلى جانب سيدة من السيدات فرأيتها تظهر أشد الغرابة والدهشة من بلاهة أحد المساعدين وجهله، وأنا معتقد أنه أنشط وأمهر من عرفت في أداء عمله بدقة وإحكام، وقد رأيته ينجز تسعة أعشار العمل حينما عمل الساحر لم يذكر بجانبه؛ لأن الأنظار متجهة إلى الثاني غافلة عن الأول.
ولقد أتقن المساعد تمثيل دوره حتى لم تتمالك السيدة نفسها من أن تقول: «عجيب! - كيف! - ألم يجد هذا العجائبي أحدا يستخدمه غير هذا الغبي الأبله؟! لشد ما يدهشني أن يبقي العجائبي معه مثل هذا المعتوه!» ولقد هممت بأن أجيبها أن العجائبي بدون هذا المساعد الأبله لا قيمة له.
وكل إخواننا السحرة يعرفون أن الناس لا يهتمون بتحويل أعينهم كثيرا عن المستوى الذي ينظرون إليه، ولذلك السبب يستعملون موائد مصنوعة بطريقة بعينها لتلائم أغراضهم ومقاصدهم، بحيث تكون مرتفعة قليلا عن مستوى الأنظار، فبينما تحسب نفسك ترى كل ما فوقها إذا بك واهم مخدوع.
وإذا شئت رؤية ما فوقها فارفع بصرك قليلا، والأمر الذي يجعلك تغفل هذا أنه يتطلب بعض الجهد.
وليس العجائبي وحده هو الذي انفرد بمعرفة ما للعين الإنسانية من مميزات وخواص، بل يشاركه في ذلك أصحاب الحوانيت والتجار؛ فإنهم يعلمون بأن اللوحات التي عليها الأثمان إذا ارتفعت قليلا عن مستوى النظر؛ فإنها لا ترى، ولهذا تجدهم يضعونها مائلة منحدرة قليلة بحيث تستطيع رؤيتها.
ومن مميزات العين التي قلما يفطن إليها الناس أنها تتطلع إلى الجهة اليمنى أكثر مما تتطلع إلى الجهة اليسرى. وينتفع زملائنا بهذه المميزات كثيرا؛ إذ يجعلون أهم ألعابهم وأصعبها في الجهة اليسرى من المسرح بدلا من الجهة اليمنى، وبهذه الطريقة يكون من الصعب عليك أن تكشف حيلتنا.
ولو أني كنت تاجرا، أو صاحب حانوت، لوضعت كل ما يستدعي النظر وتسر العين رؤيته على الجهة اليمنى للداخل؛ بحيث تغريه برؤيتها عندما يقع نظره عليها.
ويسألني الكثيرون لماذا يهتم السحرة بالاستكثار من ضوء المسرح، وبذل همتهم في الحصول على أكبر كمية يمكنهم الحصول عليها من الضوء بحيث يصبح المسرح شديد الضوء، ويحسب أولئك المستفسرون أن ضوء المسرح كلما قل ضوءه أصبح أكثر ملاءمة لنا، وقد أوضحت لهم أن كثرة الضوء لا تقتصر فائدتها على إبطال زعم الناس أنهم عاجزون عن رؤية ما في المسرح بوضوح بسبب قلة الضوء، بل تتخطى ذلك إلى مساعدتنا على بهر أنظارهم وإغشائها.
ولعل الكثيرون من الناس يدركون فيما أظن أن تمتمتنا هي خير عون لنا على خداعهم، فإننا نكلمك أثناء القيام بالحيلة لا لأن لدينا أمرا مهما نريد أن نلقي به إليك، بل لأننا نريد أن نشغل أذنيك بينما نتمم حيلتنا.
ولولا ذلك لحصرت كل انتباهك وقواك في حاسة البصر، ففطنت إلى حيلتنا، ولكن أقوالنا تقسم انتباهك، وتضطرك إلى الإصغاء والنظر في آن واحد، فتتقاسم قواك حاستان لا حاسة واحدة.
وقد دلتني تجاربي على أنه أسهل على الإنسان أن يخدع النظر من أن يخدع الأذن؛ فإن أكثر الناس يستطيعون أن يضبطوا حاسة النظر كما يريدون.
ومن الغريب المدهش في الأفراد أننا نجد من السهل علينا جدا أن نخدع المتعلمين ونرى خداعهم أيسر من خداع العامة، ويرجع ذلك إلى تعمق العالم في نظرياته العلمية التي درسها لاستنباط فكرة غريبة يعلل بها غرابة ما رآه، أما الفرد العادي فإنه لجهله النظريات العلمية تجده يفكر دائما تفكيرا عاديا بسيطا، وقد يهتدي بذلك إلى الحقيقة.
ولهذا السبب عينه نتحاشى ونجبن عن اللعب أمام الأطفال؛ لأن عقل الطفل يتشكك بمجرد رؤيته شيئا لا يفهمه فيصعب علينا خداعه.
وبهذه المناسبة أذكر ما حدث لي مع المستر «روزفلت»، فقد كنا عائدين معا من لندن على باخرة واحدة، ولم يكن قد أعلن من قبل عزمه على السفر، ولا عن اسم السفينة التي أزمع أن تقله، ولكني حين ذهبت لابتياع تذكرة أخبرني الكاتب أن المستر «روزفلت» مرافقي في هذه السياحة؛ فسرني ذلك بالطبع، وعلمت أنهم بلا شك سيدعونني لإظهار بعض مدهشاتي أمامه، فعزمت في هذه المرة على إبداء شيء طريف لهذا السيد.
وكان المستر «روزفلت» قد رسم خريطة وبين فيها اكتشافاته، وأرسلها إلى إحدى الصحف الإنجليزية، وأمر أن تنشر بعد أن تقلع السفينة بثلاثة أيام، ولم يعلم أحد بأمر هذه الخريطة إلا المستر «روزفلت» وشخص واحد، أو شخصان فقط، فاعتزمت أخذ صورة منها لأفاجئه بها.
أما كيفية حصولي على نسخة منها فأرجو أن يعفيني القارئ من ذكره، وحسبي أن أؤكد له أنني حصلت على نسخة منها بسهولة.
وفي اليوم التالي طلب إلي أن أعرض عليهم بعض الألعاب، وأن أجيب عن بعض الأسئلة، وقد كنت متحققا من أن بعض الحاضرين سيطلب إلي أن أرسم الخريطة التي فيها اكتشاف المستر روزفلت، ولم يخطئ ظني؛ فقد سألني المستر «تيدي» - والضحك ملء فيه - نفس هذا السؤال، وهو واثق من أنه قد عثر على أمر لن أهتدي إلى حله، ولما شرعت في رسمها جحظت عيناه وظهر عليه من الدهشة والاستغراب والعجب ما لم أره على أحد في حياتي قط ثم اندفع إلي قائلا: «ويلك يا خبيث! ذلك أقصى ما يصل إليه عجائبي من الإغراب والحذق!»
2
وأنت حين تأتي بما يعده الناس مستحيلا
2
تتحول إليك أنظارهم، وتشرئب أعناقهم، ويجلسون وكأن على رءوسهم الطير، وهذا هو الأمر الذي يحدوني إلى إظهار حيل متنوعة مثيرة للعواطف كل عام، ولي في هذا العام شأن عظيم في بعض ألعاب مدهشة منها: إخفاء الفيل، وإخفاء الإبرة التي تبتلع مائتي إبرة، ومائة قدم من الخيط، ثم إظهار هذا العدد مرة ثانية وفي كل إبرة خيطها.
ويسألني الكثيرون عن إبداع الحيل التي يميل إلى مشاهدتها الجمهور؛ وجوابي أن هذا يتوقف على نوع الحاضرين، فالسيدات مثلا يرغبن في مفاجأتهن برؤية الأزهار والطيور الجميلة، والأشياء التي يرينها ويتناولنها يوميا، والرجال - على العكس من ذلك - يحبون لعبة الورق وحجرة العذاب الصينية، وأرى أن جميع الحيل التي يشتد فيها الخطر تروق الرجال أكثر مما تروق النساء.
ومن الملاحظات العجيبة أيضا أن الناس يهتمون لرؤية الأشياء تختفي أكثر مما يدهشون لرؤيتها تظهر ثانية؛ فإنك حين تعيد لهم الأشياء التي أخفيتها عنهم يتهمونك بأنك كنت قد خبأتها في مكان لم يفطنوا إليه، أما حين تخفيها عنهم فإنك تزيد في حيرتهم وإعجابهم، ولهذا تراني أهتم بإخفاء الفيل الضخم الذي يزن عشرة آلاف وخمسمائة رطل عن أعينهم في بضع ثوان في مضمار نيويورك، أكثر مما اهتم بإعادته ثانية من الهواء.
وإن فكرة إخفاء فيل زنته عشرة آلاف وخمسمائة رطل هي فكرة مروعة ومحيرة معا.
وقد قمت بأعمال باهرة في السنوات الأخيرة في مناسبات عدة فأظهرت قدرتي على إنقاذ نفسي بعد أن يشد وثاقي.
على أن مثل هذه الحيل تكبدني عناء لا يوصف؛ فقد كنت أوثق في جذع الشجرة وثاقا محكما، وتغل يداي ثم أغمر في الماء بحيث تكون رأسي إلى أسفل؛ فأنجو من تلك القيود الثقيلة المحكمة، وأتخلص من تلك الحبال التي أوثقوني بها بحيل عجيبة مدهشة، وفي هذا النوع من الألعاب من الخطر المحقق ما لا يستهان به، وهو أكثرها ملاءمة وتسلية للناس، والناس يأنسون برؤية الخطر وليس من مأربهم طبعا أن يروني قتيلا؛ ولكن من مأربهم أن يروني في خطر محقق أحاول النجاة منه، والخطر إذا كان الإنسان بمأمن منه حين يراه يصبح معجبا. •••
ولو أن قوما رأوا مصورا فوق سطح منزل ذي عشر طبقات لوقف بعضهم ينظر إليه، ولو أن ذلك الرجل نفسه قد زلت قدمه مثلا وأمسكت إحدى يديه بحافة السطح فأصبح معلقا في الفضاء لرأيت الجمع يحتشد، والزحام يشتد في أسرع وقت لرؤية هذا المنظر، ومشاهدة ما فيه من الخطر، وليس يغتبط الناس في أمثال هذه المواقف برؤية سواهم من الناس يهلكون؛ ولكنهم يودون ألا يفوتهم ذلك إذا حدث، ويحبون أن يكونوا في اللحظة التي يحدث فيها، وهذا هو السر في اغتباط الناس وشدة فرحهم حين يرونني أبدأ في اللعبة المعروفة بحجرة العذاب الصينية التي يعدونها من أمتع حيلي؛ لما فيها من الخطر الداهم.
ويرى الحاضرون - قبل شروعي في هذه اللعبة الشاقة - تلك اللعبة الزجاجية الضيقة وهي ملأى بالماء، وفي رجلي ثقل زنته ثلاثمائة وخمسون رطلا، وأنا أنغمس فيها بحيث تكون رجلاي في أعلاها ويداي في أسفلها - كما مر - على مرأى من الناس جميعا، ثم تغلق تلك العلبة الزجاجية التي تحتويني، والخطر الداهم المحقق في هذه اللعبة هو أن هلاكي يتحتم إذا لم أستطع التخلص من تلك القيود والأصفاد وأنجو من هذه العلبة الزجاجية توا؛ وذلك هو السر في إيجاد مساعدي بحيث يقف بجانب الزجاجة دائما حاملا في يده ملطسا حتى إذا غبت دقيقتين دون أن أخرج اضطر إلى تحطيم الزجاجة وإخراجي في الحال.
وإذ يرى الحاضرون هذا المساعد واقفا أمام الزجاجة يتحققون من أن هناك خطرا علي؛ فينصتون إنصاتا، ويرهفون آذانهم إرهافا، ولا يتحركون وكأنما على رءوسهم الطير، ويظلون كذلك حتى يروني أنجو من هذه الزجاجة، ويستغرق ذلك عادة نحو ثلاثين ثانية.
وإنه الخطر المحدق بي هو الذي جعل الجمع يحتشد ويكثر عندما يراني موثقا مغلولا أقفز من القنطرة إلى النهر، وخطر هذه اللعبة أيضا في أن هلاكي محتمل جدا إذا لم تتح لي فرصة النجاة منها، والعودة إلى سطح الماء ثانية وأنا حي.
وأذكر في ذات يوم من أيام الشتاء في بطرسبرج أنني آثرت في نفوس المتفرجين انزعاجا حقيقيا، وسببت لهم جلبا وصياحا ورعبا.
وذلك أنني أغللت وقيدت كما هي العادة، ثم ربطت إلى جذع بالحبال والسلاسل، وألقيت في فرجة كبيرة قطعوها من مياه النهر المتجمد في ذلك الحين لهذا الغرض، ولما أراد البوليس التدخل لم نمهله ريثما يمنعنا، بل أسرعت بإلقاء نفسي في الماء قبل أن يقوم بعمل أي شيء ليحول بيني وبين ذلك، وهنا بدأ الجزء المروع من هذا الفصل؛ فإني بعد أن حللت وثاقي - دون عناء - حاولت الصعود إلى سطح الماء؛ فوجدتني قد أخطأت تلك الفرجة التي ألقوني فيها، ورأيت أن سمك الثلج فوقي يبلغ سبع بوصات، وأيقنت حينئذ أني لا محالة هالك، ولكن إيماني بالنجاة من هذا المأزق طمأنني قليلا، ولم أشأ أن أستسلم للهلاك دون أن أبذل كل ما لدي من القوة في مقاومته، فقربت أنفي من الجليد - بقدر استطاعتي - لأتنسم الهواء، وذكرت أني قرأت عن رجل نجا من مثل هذا المأزق بأن واصل السباحة على شكل دائرة ضيقة تزيد اتساعها شيئا فشيئا في كل مرة عن الأخرى، ففعلت ذلك وانتهيت أخيرا إلى الفرجة التي ألقوني فيها، وظهرت على وجه الماء ثانية بعد أن مكثت تحته ثلاث دقائق.
وكان جسمي كالكتلة من الثلج، لشدة ما احتملته من البرد القارس، ولم أتمكن طبعا من إخفاء ضعفي على المسرح، ولكني لم أعبأ بذلك؛ فقد كنت في شغل عن ذلك بما رأيته من ابتهاج بسلامتي من ذلك الهلاك، وشكرت - كل الشكر - الله على ذلك.
ولا أنسى ما حدث في «ملبورن» بأستراليا؛ فقد كان أغرب وأعجب ما لاقيته في جميع أطوار حياتي، ولقد جاء ستون ألف شخص وراقبوني وأنا أغطس في الماء - في ذلك اليوم - موثقا إلى جذع شجرة، وشخصت إلي كل عين حين ألقيت نفسي في الماء، ولم يلبث الناس أن رأوا على سطح الماء جسما طافيا لا حراك به ولا حياة؛ فتبادر إلى أذهانهم أن ذلك هو جسمي، وقد أخبرني مساعدي بعد ذلك أن انزعاجهم كان شديدا، وأن الرعب والخوف قد وصلا بنفوس الحاضرين إلى حد لا يمكن وصفه. وقد أسرع إلى انتشال هذا الجسم سبعة قوارب، وعلا الصياح والجلبة والصخب، وإذا بي قد ظهرت بغتة على وجه الماء، وليس بيني وبين ذلك الجسم إلا بضع خطوات، ويا لهول ما رأيت! أؤكد للقارئ أن انزعاج الحاضرين حين رأوا ذلك الجسم الهامد الذي حسبوه جسمي هو انزعاج - على ما وصل إليه من الشدة - لا يمكن أن يقاس إلى انزعاجي واضطرابي اللذين وصلا إلى حد أن أفقداني صوابي فيه، ولم تمر علي لحظة، أو لحظتان حتى فقدت الحركة، وكان الحاضرون أيضا يصخبون ويصرخون كما يفعل المجانين، وأسرع إلي رجالي فجذبوني إلى السفينة، وأنا مهما عشت ومرت بي عجائب ومروعات فلن أنسى فداحة ذلك الخطب الذي حدث لي يومئذ.
ويسألني الكثيرون من أصدقائي عن أحب الألعاب والحيل التي آتيها، وأنا أجيبهم على ذلك السؤال بأن جميعها حبيب إلي بلا ريب وإلا لما أتيتها، ولكن لعل ما أفرده بأعظم الحب والشغف الشديد هو هروبي من السجون التي يعتقد الناس اعتقادا جازما أن الهرب منها محال.
وقد دعيت منذ بضع سنوات إلى الهروب من الحجرة نمرة 2 الخاصة بالمحكوم عليهم بالإعدام في سجن «فدرال» بواشنطون، وهي الغرفة التي سجن فيها قاتل الرئيس «جارفيلد»، وقد راهنني الضباط على الفرار منها، ولم أجد صعوبة في ذلك، فخرجت منها توا، ولكن عن لي أن أتفكه بإتيان بعض الطرف، فذهبت إلى بقية الغرف الأخرى، وتمكنت من فتحها، ووضعت كل سجين في غرفة الآخر.
وكنت مجردا من ملابسي حتى لا يتبادر إلى ذهن بعض المرتابين أنني أخفي معي بعض العدد والآلات لتساعدني على النجاة، فلما رآني السجناء على هذه الحال حسبوا أن الشيطان أو أحد أقربائه قد حضر إليهم، فارتعدت فرائصهم من الرعب ، ولبوا أمري على الفور، وكم سخرت بهم حين أتى السجانون لرؤية مسجونيهم، وتبادر إلى أذهانهم أنهم هربوا من السجن، ولم تهدأ ثائرتهم إلا بعد أن ذكرت لهم الحقيقة.
وتقابلت مع اسكتلندي في إنجلترا ذات يوم، وقد أفلح في الفوز علي بحيلة لم أفطن لها بعد، وهي تدل على ذكائه ومكره؛ فقد راهنني على أن أخرج من حجرة مغلقة، وحين وضعني فيها قال لي ساخرا: «لا أحسب أنك قادر على الخروج من هذه الغرفة في هذه المرة!» فأجبته أنا أيضا بابتسامة الهازئ الواثق من نفسه، وشرعت في فتح القفل دائبا نحو ساعتين دون أن أصل إلى أية نتيجة مجدية، ولا أحسب أنني في نهايتهما قاربت فتحه أكثر مما كنت عند وقت دخولي الغرفة مباشرة!
ولكني لم أيأس، بل واصلت العمل حتى غلبني الإعياء على أمري أخيرا، فاستندت إلى الباب لأستريح قليلا، وإذا بذلك الاسكتلندي الماكر قد وقف أمامي فجأة وقال إنه لم يغلق الباب بالمفتاح - كما هي العادة - لعلمه أن أول ما أسعى إليه هو محاولة فتح الباب، وقد أصاب الحقيقة، فإنني لو كنت عالجت الباب نفسه - دون أن أهتم بمعالجة القفل - لخرجت في طرفة عين. •••
ولا تتوهمن أيها القارئ العزيز لحظة واحدة أن هذه التجارب والنظريات قد وصلت إلى علمي بسهولة؛ فإنني لم أدركها إلا بعد عناء لا يوصف، ولقد طالما وقفت أمام المرآة لأرى نتيجة ما أتيته من الحركات الخفيفة وأثق من النجاح.
وقد تعاون علي عناء تلك الألعاب وأخطارها، فشيبا رأسي وأصبحت وأنا في السادسة والأربعين أبدو للناظر شيخا قارب الستين!
هوامش
الطيرة والتشاؤم بين المعري وابن الرومي1
أبو العلاء متشائم شديد التشاؤم، بل هو من أشد من عرفناهم تشاؤما، ولكنه - مع تشاؤمه الذي لا يقف عند حد - ليس من جماعة المتطيرين، بل هو أبعد من عرفناهم عن التطير.
وإنما نعني بالتشاؤم ذلك المذهب الذي يسميه الإفرنج “Pessimisme”
ونريد أن نسميه بالعربية سخطا، ونسمي أصحابه ساخطين، وهو مذهب جماعة المتبرمين بالعالم، الذين لا يرون فيه إلا شرا مستطيرا لا يستطيعون دفعه، ولا أمل لهم في إزالته أو تحسينه، ولا ينظرون إليه إلا بمنظار شديد السواد، وعلى العكس من ذلك مذهب الرضى ويسميه الإفرنج “Optimisme”
وهو مذهب من يحسنون الظن بالأيام وينظرون إلى العالم بمنظار رائق ناصع البياض؛ فيرون كل ما فيه يدعو إلى الغبطة، ويرونه سائرا في طريق التقدم والكمال، وفي هذا مجلبة رضاهم وارتياحهم. وقد أشبع «ماكس نورداو» جماعة الساخطين سخرية وتعنيفا، ورماهم بنقص في عقولهم في مقاله الذي كتبه عن السخط والرضى “Pessimisme & Optimisme”
في كتابه الفلسفي الذي سماه الغرائب “Paradoxes” .
أما الطيرة “Maauvis Augure”
ونقيضها الفأل، أو التيمن “Bon Augure”
فمذهب آخر يختلف في نظرنا عن مذهب السخط والرضى كل الاختلاف، فقد يكون الإنسان ساخطا أو راضيا ولكنه لا يتطير ولا يتفاءل، وعلى العكس من ذلك، قد يكون من المتطيرين والمتفائلين، ولكنه - في الوقت نفسه - ساخط على الحياة أو راض عنها.
وإنما الطيرة مذهب أساسه ربط الحوادث بغير أسبابها الحقيقية، وتعليل النفس بما لا يفيد، وترقب المناسبات والمصادفات لاستنتاج شيء وهمي لا أساس له من الصحة ولا قيمة له - عند العقلاء - وإنما يدعو إليها - في نظرنا - خفة العقل وعدم اطمئنان القلب. ولعل الإنسان لو رجع إلى نفسه يسائلها في أي ساعها تميل إلى التعلل بأشباه هذه الخرافات؟ لرأى أن ذلك كثيرا ما يحدث في أوقات الهلع والذعر من جراء مصاب فادح مذهل تملك على الإنسان قلبه وأطار لبه وحرمه طمأنينته؛ فجعله كالغريق يتلمس أتفه الأسباب وأقلها غناء لينقذ نفسه من الهلاك. فأما في ساعات اطمئنانه فقلما يأبه لذلك، اللهم إلا إن كان من ذلك النوع الذي أصبح له التطير ديدنا وطبعا، وهذا غير السخط الذي أساسه سوء الظن، وشدة الحذر، والنقمة على الحياة، والنظر إليها من جانبها الأسود!
انظر إلى تطير الأمين - مثلا - حين حاصره «طاهر» ولم نكن سمعنا بتطيره من قبل: قال «إبراهيم بن المهدي» وكان حينئذ مع الأمين: «خرج الأمين - ذات ليلة - يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه، فصار إلى قصر له بناحية «الخلد»، ثم أرسل إلي فحضرت عنده، فقال: «ترى طيب هذه الليلة وحسن القمر في السماء وضوءه في الماء على شاطئ دجلة! فهل لك في الشرب؟» فقلت: «شأنك.» فشرب رطلا وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: «ما تقول فيمن يضرب عليك؟» فقلت: «ما أحوجني إليه.» فدعا بجارية متقدمة عنده - اسمها «ضعف» - فتطيرت من اسمها ونحن في تلك الحال، فقال لها: غني بشعر الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصرا
وأيسر جرما منك ضرج بالدم
فاشتد ذلك عليه وتطير منه، وقال: «غني غير ذلك!» فغنت: “أبكى فراقكم عيني فأرقها
إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم
حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فقال لها: «لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟»
فقالت: «ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه!» ثم غنت آخر:
أما ورب السكون والحرك
إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار وما
دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان عن ملك
قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا
ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها: «قومي غضب الله عليك ولعنك!»
وكان له قدح من بلور حسن الصنعة، وكان موضوعا بين يديه؛ فعثرت الجارية به فكسرته، فقال: «ويحك يا إبراهيم! أما ترى ما جاءت هذه الجارية، ثم ما كان من كسر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا قد قرب!»
فقلت: «يديم الله ملكك ويعز سلطانك ويكبت عدوك.»
فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتا: «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان.»
فقال: «يا إبراهيم، أما سمعت ما سمعت؟» قلت «ما سمعت شيئا!» - وكنت قد سمعت - قال: «تسمع حسا!» فدنوت من الشط فلم أر شيئا - ثم عاودنا الحديث فعاد الصوت بمثله ، فقام من مجلسه مغتما إلى مجلسه بالمدينة.
قال: «فما مضى إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل.»
2
فانظر إلى هذه الحكاية المحزنة وتأمل قليلا، ألست ترى أن ضعف نفسيهما وحده هو السبب الأكبر في كل هذه الاستنتاجات؟ وتمثل كل ما حدث في تلك الليلة المروعة قد حدث في ليلة أنس وطرب؛ بل في ليلة عادية - إن شئت - أكانا يهتمان به كل هذا الاهتمام؟
وهذا الروع الذي أحسه إبراهيم المهدي - حين سمع اسم الجارية «ضعف» - هل كان يحس مثله إذا تبدل الموقف وكان انتصارا وفوزا؟ أولم تكن الجارية متقدمة عند الأمين؟ فكيف لم يتطير باسمها من قبل هذه المرة؟ وهل تحسبها غنت إلا ما حسبت أن مولاها يحبه؟ وكم غنته - هي أو غيرها - مثل هذه الأبيات فطرب وانتشى؟ ومن يدري فربما كان الأمين يميل إلى هذا النوع من الشعر المشجي، وكان هذا الميل مغريا الجارية على غناء تلك الأبيات؟ وتمثل الأمين عاقب مسيئا بالقتل على جرم فرط منه فخامره شيء من الندم - وإنه لكذلك - إذ غنته هذه الجارية نفسها هذا البيت بعينه؟
كليب لعمري كان أكثر ناصرا
وأيسر جرما منك ضرج بالدم
ألم يكن فيه حينئذ راحة يثلج لها فؤداه؟
وتمثل الجارية تغنيه هذا البيت قبل أن يقتل ذلك المسيء وهو يفكر في ذلك، أكان يتطير منه إذ ذاك؟ وأي أثر يكون له في نفسه حينئذ من سماعه؟ ألا يكون فيه إغراء بقتل ذاك المسيء؟
وتمثل البيتين الآخرين قد غنتهما الجارية - في موقف غير هذا - في موقف غرام مثلا، في ساعة يفكر فيها الأمين في معشوق له - مات ولم ينعم به طويلا - فكيف يكون أثرها في نفسه؟ وكيف يتمثل قولها: «إن التفرق للأحباب بكاء»؟ ولكن تغير الموقف فتغير المعنى.
واعكس الآية؛ فتمثل الأمين - في مكان المأمون - وأنه قد أوشك أن ينتصر على أخيه، وأنه قد سمع الأبيات الأخيرة وهو يحاصر مدينته؟ فأي أثر يتركه في نفسه قولها:
ما اختلف الليل والنهار وما
دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان عن ملك
قد زال سلطانه إلى ملك
وهكذا غير الظروف، وتمثل آثار تلك الأبيات في نفسيهما؛ تجدها مختلفة يصل اختلافها إلى مسافة ما بين الضد والضد أحيانا!
ثم ماذا في هذه الجملة التي غمت الأمين: «قضى الأمر الذي فيه تستفتيان»؟! ألم يكن فيها متأول حسن - لو شاء؟! ألم يسمعها عقب دعاء له بداوم ملكه، وإعزاز سلطانه، وكبت عدوه؟ فإذا قضى هذا الأمر فقد تم له ما أراد!
ولكن إخوان هذا الخليقة - كما يقول أبو العلاء - لا يحملون الأشياء الواردة على الحقيقة!
ومن أجمل ما رووه عن التطير والتفاؤل قول الرسول - عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد؛ الطيرة والظن والحسد.» قيل له: «فما المخرج منهن يا رسول الله؟» قال: «إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ.»
إذا أقررنا ذلك سهل علينا أن ندرك كيف كان أبو العلاء ساخطا ولم يكن متطيرا، أما «ابن الرومي» فربما لم يكن شديد السخط على الحياة، ولكنه كان على - الرغم من ذلك - إماما من أئمة المتطيرين، وفي رسالة الغفران ورسالة ابن القارح ما يزيدك اقتناعا بطيرته، وحسبك أن تعلم أنه كان لا يلبس ثيابه إلا بعد أن يتعوذ، فإذا وصل إلى الباب نظر من خلال ثقب المفتاح، فإذا رأى ذلك الأحدب الذي تعود مضايقته جالسا، جبن فلم يخرج، وخلع ثيابه ثانية، وقد عرف «ابن الرومي» كيف ينتقم منه، ويثأر لنفسه منه، ببيتيه اللذين وسمه بهما آخر الأبد، وهما قوله:
قصرت أخادعه وغاب قذاله
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما قد ذاق أول صفعة
وأحس ثانية لها فتجمعا
ولابن الرومي - في تطيره - أخبار شتى، منها أن أبا الحسن الأخفش - غلام المبرد - كان كثيرا ما يقرع بابه، فإذا رد عليه ابن الرومي مستفسرا أجابه: «مرة بن حنظلة» فيتطير من ذلك ولا يجسر على الخروج بقية يومه، وقد هجاه في ديوانه مررا هجاء مؤلما مقذعا.
ولما كان هذا المقام لا يحتمل شيئا من الإسهاب في تفصيل هذه النزعات وتحليلها، والمقارنة بينها، فإنا نكتفي بهذا القدر - على إيجازه - ونشير إلى رأي أبي العلاء في مذهب المتطيرين والمتفائلين، وتهكمه اللاذع بأصحابه، وسخريته الشديدة منهم، علاوة على ما ترى في هذا الفصل من حججه
3
الباهرة، وبراهينه القوية التي دلل بها على فساد ذلك المذهب، ثم نتبعها بنخبة مختارة تبين لك نزعة ابن الرومي إلى التطير، وإليك نخبة من كلام أبي العلاء في ذلك، قال:
تروم قياسا للحوادث ضلة
وتلك أصول ليس يجمعها الحصر
تعرض للطير السوانح زاجرا
أما لك من عقل - يكفك - زاجر؟
أغربانك السحم استقلت مع الضحى
سوانح، أم مرت حمائمك الورق؟
لا تفرحن بفال - إن سمعت به -
ولا تطير إذا ما ناعب نعبا
فالخطب أفظع من سراء تأملها
والأمر أيسر من أن تضمر الرعبا
آليت لا يدري بما هو كائن
متفائل بالأمر أو متطير
كالدار صبحها سوى سكانها
فثوا بها وتحمل المتدير
زجر الغراب تطيرا ونقيضه
ديك لأهل الدار أبيض أفرق
شاهدت قبرة فخفت تطيرا
ما كل ميت - لا أبا لك - يقبر!
لا يتطير بناعب أحد
فكل ما شاهد الفتى طيره
وما طير اليمين بمبهجاتي
فأخشى الهم من طير الشمال!»
وقد سمى المرء «الهزبر» تفاؤلا
وليس بباق في الليالي هزبرها!
وما أسر لتعشير الغراب أسى
ولا أبكي خليطا حل تعشارا
ولا توهمت أنثى الأنجم امرأة
ولا ظننت سهيلا كان عشارا
4
وهل لحق التثريب سكان يثرب
من الناس؟ لا بل في الرجال غباء
وذو نجب - إن كان ما قيل صادقا -
فما فيه إلا معشر نجباء!
وانظر إلى سخريته الدقيقة في قوله:
رآني في الكرى رجل كأني - من الذهب - اتخذت غشاء رأسي
قلنسوة - خصصت بها - نضارا
كهرمز أو كملك أولى خراس
فقلت - معبرا: «ذهب ذهابي
وتلك نباهة لي في اندراسي»
أقمت - وكان بعض الحزم يوما -
لركب السفن أن تلقى المراسي
وإلى القارئ نخبة مختارة من شعر ابن الرومي تبين منزعه واعتقاده في الطيرة والفأل:
لا تهاون بطيرة أيها النظا
ر وأعلم بأنها عنوان
قف - إذا طيرة تلقتك - وانظر
واستمع - ثم - ما يقول الزمان!
قلما غاب من أمورك عنوا
ن مبين وللزمان لسان
5
لا تصدق عن النبيين، إلا
بحديث يلوح فيه البيان
قد أتى عن نبينا حبه الفأ
ل مضيئا بذلك البرهان
فدع الهزل والتضاحك بالطي
رة، فالنصح مثمن مجان
أترى من يرى البشير بشيرا
يمتري في النذير يا وسنان
6
خبر الله أن مشأمة كا
نت لقوم وخبر القرآن
أفزور الحديث تقبل أم ما
قاله ذو الجلال والفرقان؟»
وقد تفاءلت له - زاجرا
كنيته لا زاجرا ثعلبا
إني تأملت له كنية - إذا بدا مقلوبها - أعجبا
يصوغها العكس «أبا سابع»
وذاك فأل لم يعد معطبا
بل ذاك فأل ضامن سبعة
مثل الصقور استشرفت أرنبا
يأتون من صلب فتى ماجد
لا كذب الله ولا خيبا
وقد أتاه منهم واحد
فليتنظر ستة غيبا
في مدة تغمرها نعمة
يجعلها الله له ترتبا
حتى نراه جالسا بينهم
أجل من رضوى ومن كبكبا
كالبدر وافى الأرض في نوره
بين نجوم سبعة فاحتبى
يعدي على الدهر إذا ما اعتدى
ويؤمن الناس إذا استرهبا •••
تفاءلت والفأل لي معجب
فقلت - وما أنا بالعابث:
7 - «أبو حسن وأبو مثله
كنيا أبي حسن ثالث!» •••
أحذر أهل الأرض شؤم ابن طالب
فما زال مشحوذا على من يصاحب
وقد جربت منه على «آل مخلد»
تجارب ليست مثلهن تجارب
أزيرق مشئوم أحيمر قاشر
لأصحابه، نحس - على القوم - ثاقب
وهل أشبه المريخ إلا وفعله
لفعل شبيه السوء شبه مقارب
أعوذ - بعز الله - من أن يضمني
وإياه في الأرض البسيطة جانب
شبيه «قدار» بل قدار شبيهه
وإن قيل: «كليم» وإن قيل «كاتب»
وهل يتمارى الناس في شؤم كاتب
لعينيه لون السيف، والسيف قاضب
ويدعى أبوه «طالبا» وكفاكم
به طيرة أن المنية طالب
ألا فاهربوا من «طالب» و«ابن طالب»
فمن طالب مثلهما طار هارب!
قل لغراب البين تبا له
إذا تعاطى القول في مذهب
8
أو رفع الصوت بشدو له
مثل سقيط الدمق الأشهب: «اسكت لحاك الله من قائل
أجنف عن قصد الهوى أنكب»
لا تنطقن الدهر في محفل
واغضض على الكثكث والأثلب
أنت غراب خير أحواله
ما لزم الصمت ولم ينعب
فاترك نعيبا شؤمه راجع
عليك يحدوك إلى معطب
يا بين أنت البين في عزة
بين غراب البين والأخطب
9
ينتقل الناس وأحوالهم
وأنت في الدنيا من الرتب
10
إذا جلا عن منزل أهله
فأنت في أوتاده الرسب
أنت أثافيه وآناؤه
بشعب أهلوه ولم تشعب
11
هوامش
الدين في إسبانيا
(1) الإسلام في الأندلس
1
لم يكن العرب ليكونوا الأقلية الصغيرة من مسلمي إسبانيا فحسب،
2
بل كانوا - إلى ذلك - يظهرون عدم مبالاتهم بالدين، واحتقارهم لقوانين الإسلام، مما هو منتظر من رجال تشبعوا بتقاليد البدو، وكانوا في كل أيامهم على اتصال بأمويي دمشق الدنيويين، وعلى النقيض من ذلك كانت الحال مع البرابرة، ومع مؤمني إسبانيا المسمين بالصابئين، أو المولدين، الذين يعيشون كموال في كنف أشراف العرب، فقد استمسكت تلك الطوائف بالدين الذي اتبعته استمساكا يتناسب مع مزاجها السوداوي الحار، الذي كانت تتميز به دائما، وثم ساد بين مسلمي إسبانيا إيمان صارم، يتمثل في يحيى بن يحيى المتوفى سنة 849 م، وهو أحد البرابرة ونموذج صادق لهذا الصنف.
يحيى بن يحيى
سافر إلى الشرق وسنه وقتئذ ثمان وعشرون سنة، وتلقى العلم على يد أستاذه مالك بن أنس الذي أملى عليه كتابه المعروف بالموطأ، وحدث أن كان يحيى ذات يوم في إحدى دروس مالك، ومعه عدد من الطلاب رفقائه، فقال قائل: «حضر الفيل!» فأسرعوا جميعا إلى رؤيته، ولم يتحرك يحيى من مكانه، فسأل مالك: «لم لم تذهب لتراه وليس في إسبانيا مثل هذا الحيوان؟» فأجابه يحيى: «لقد تركت بلادي لأراك وأتلقى عنك الدروس، ولم آت هنا لرؤية الفيل.» فسر مالكا هذا الجواب، وقال عنه إنه عاقل إسبانيا. ولما عاد يحيى إلى إسباينا، بذل كل ما في وسعه لنشر تعاليم مذهب سيده. ولئن كان يحيى هذا قد أصر بسبب تورعه ونسكه على رفض أي منصب من المناصب العامة؛ فقد عظم تأثيره رغم ذلك، وذاع صيته إلى حد أن وصل - كما يقول ابن حزم - إلى أنه كان لا يولى قاض في الأندلس إلا بعد أن يؤخذ رأي يحيى فيه، وإلا بعد أن يبين من يفضله على سواه من الناس.
3
وعلى ذلك فقد أصبح مذهب مالك يلي الحديث مباشرة في اتخاذه شرعا للبلاد. قال عالم من كتاب القرن العاشر: «لقد كان الإسبانيون لا يعرفون إلا القرآن والموطأ، فكانوا إذا وجدوا تابعا من أتباع مذهب أبي حنيفة أو الشافعي طردوه من إسبانيا، والويل لمن يصادفونه من المعتزلة أو الشيعة، أو من أية طائفة تنتمي إلى مذهب ما، فإنهم كثيرا ما كانوا يخمدون أنفاسه.
4
وقد كان علماء الدين الإسلامي متغطرسين مفرطين في التعصب الأعمى، والطمع في إحراز القوة، فلم يشاءوا أن يرأسهم أحد في المملكة، فأما في زمن هشام (788-796) - خلف عبد الرحمن - فقد رأوه أميرا وفق ما يتمنون، إذ كانت تقواه وورعه مما لا يدع لهم مجالا للكلام، وكان على شاكلتهم فاهتم بشئونهم. وأما الحكم (896-822) فقد كان أقل منه مراعاة لهم. نعم إنه أكرم رجال الدين وبجلهم، ولكنه أراهم في الوقت نفسه أنه لن يسمح لهم بالتدخل في الشئون السياسية مطلقا؛ فنقموا عليه - وعلى رأسهم يحيى بن يحيى الشرس - وأجابوه بالتهديد والإهانات، واستثاروا جمهور قرطبة، ولا سيما الصابئين - وكانوا في الجزء الجنوبي من المدينة وهو المسمى بالربض - ليقوموا في وجه ذلك الظالم وجنوده السفهاء، وفي ذات يوم من أيام رمضان (198ه) (مايو سنة 814) وجد الحكم نفسه وقد أقصيت عنه حاشيته وحاصره الغوغاء الصاخبون في قصره، ولكن شجاعته لم تفارقه، وقد أنجاه من مأزقه الخطر الذي كان فيه، برودته وإسراع جيشه المدرب لإنقاذه. وكان نصيب تلك الضاحية الثائرة أن دكها دكا، ونفى من سلم من القتل من أهلها إلى بلاد بعيدة، وبلغ عددهم نحو ستين ألف نسمة، والحق أن المجرمين الأصليين لم يقعوا تحت طائلة العقاب.
ثم كف الحكم عن اضطهاد رجال الدين الحانقين الذين شعروا بأنهم يستطيعون أن يصلوا منه باللين إلى ما أخفقوا في الحصول عليه بالقوة، وإذ كان أغلبهم من العرب أو البرابرة، فقد بثوا الدعوة الشديدة في الناس لاحترام الحكم، فأعاد إليهم قوتهم في الحال.
وفي زمن عبد الرحمن الثاني (822-852) أدار دفة السياسة الملية يحيى بن يحيى زعيم الثورة بنفسه، وتولى توزيع مناصب القضاء كما أراد.» ا.ه •••
هذا هو الجزء الذي تناول فيه الأستاذ نيكلسون الكلام عن الإسلام في إسبانيا، ولما كنا لا نستطيع مناقشته في كل ما قاله، لكثرة الأغراض الأخرى التي نريد الكلام عنها، فإنا نكتفي بمناقشة أهم تلك النقط الآن، وحسبنا أن نلقي بنظرة سريعة على ما قاله:
فأما أسلوبه فهو دائما لا يتغير؛ أسلوب موجز حافل بالمعاني كما رأيتم، وكما ترون في كل ما ننقله لكم عنه، وأما النتائج التي نخرج بها من هذه القطعة فإننا نسوقها ممزوجة بآراء غيره من المؤرخين، مع إبداء ملاحظاتنا على أهمها إيجازا للكلام، فنقول: يتبين لنا مما مر ما يلي:
أولا:
قوة نفوذ الفقهاء وهيمنتهم التامة على عقول العامة.
ثانيا:
رغبتهم الشديدة في الاستئثار بكل شيء، والتداخل في كل أمور المملكة تقريبا.
ثالثا:
شدة تشبع الناس بالعقيدة الدينية، وشدة انتصارهم لها، إلى حد أنهم كانوا يحاربون كل من يغضب رجال الدين أو يعتدي عليهم.
رابعا:
معرفة الفقهاء كيف يستثمرون ذلك النفوذ الديني العظيم، وكيف ينتهزون فرصة تشبع الجمهور بالعقيدة الدينية، وتفانيه في حمايتها، في إنقاذ ما تسوله لهم نفوسهم من الرغبات، وفي تحويله إلى حيث شاءت لهم أهواؤهم، وقد شاهدتم كيف أنهم استطاعوا أن يهددوا السلطان نفسه.
خامسا:
أن مسألة الدين في الأندلس كانت غيرها في الشرق، بل إنهما كانتا على النقيض، فبينما كنت ترى المذاهب العديدة والنحل المختلفة سائدة في المشرق، إذ تشاهد عكس ذلك تماما في الأندلس، فلم تكن لترى هنا إلا مذهبا واحدا قد هيمن على كل أهلها تقريبا، ذلك هو المذهب السني الذي لم يشذ عنه إلا بعض أفراد غاية في الندرة، ممن مالوا إلى مذهبي المعتزلة والظاهرية.
سادسا:
أن تعصب الناس لمذهب مالك ومغالاتهم في الانتصار له قد وصل إلى حد الجنون، فقد رأيتم أن افتتانهم بهذا المذهب وتهوسهم في الولوع بكتاب الموطأ، وصلا بهم - كما يقول ذلك العالم الذي استشهد به نيكلسون - إلى حد أنهم كانوا لا يعرفون إلا القرآن والموطأ، بل لقد بلغ جنونهم بالموطأ أكثر من ذلك، فقد حكى لنا بعض المؤرخين أن تعصبهم للموطأ أنساهم النظر في القرآن والأحاديث.
فأما عن النقط الأربعة الأولى فلا أدل عليها مما سرده نيكلسون عن «الحكم» هذا، وعن موقفه إزاء الفقهاء؛ فقد رأيتم من حكايته جرأة الفقهاء في استعمال نفوذهم على العامة بإغرائهم إياهم حتى على مهاجمة قصر الملك، ومحاولة قتله، وقد كادوا يفعلون لولا حسن حظه، ولولا أن أغاثه جنوده الذين داهموهم، وشتتوا شملهم. ولعل أول ما يسترعي النظر في هذه الحكاية - التي سردها عن الحكم - هو قوله عنه: «وقد أنجاه من مأزقه الحرج الذي كان فيه برودته وجيشه المدرب.» والحق أن الحكم قد بلغ من رزانته، وثبات جأشه في هذا المأزق، أن داعب خادمه بتلك الجملة التي سقناها لكم في محاضرتنا السابقة، فقد أمره أن يأتيه بزجاجة الغالية ليتطيب بها وقت أن كان الجمهور يحاصر قصره ويحاول اغتياله، فلما أبطأ الخادم أعاد عليه السؤال ثانية، فقال له خادمه: «يا سيدي أهذا وقت الغالية؟» فأجابه: «ويلك يا ابن الفاعلة! بم يعرف رأسي من رءوس العامة إذا قطع، إن لم يكن مضمخا بالغالية؟» ولقد سمعنا حكايات عديدة عن رزانة بعض الناس، وعن ثبات جأشهم وبرودتهم في ساعة الخطر المميت، فلم نر - فيما رأيناه - مداعبة أغرب من هذه المداعبة، ولا رباطة جأش وصلت إلى أكثر من هذا الحد. شاهدتم شدة ازدياد نفوذ الفقهاء في ذلك العصر، ولكن لا يفوتنا أن نقول إن هذا النفوذ العظيم الذي شاهدتموه لم يكن ليقاس بما وصل إليه نفوذهم وسلطانهم في الأندلس - وقت انحطاط الدولة وتقهقرها - فلقد كان نفوذهم يتعاظم كلما ازدادت الدولة في الانحطاط، وقد كان ذلك أكبر مساعد على توالي انحطاط الدولة وتقهقرها. ولقد كانت وطأة التعصب للدين والانتصار للعقيدة تخف حين يقبض على ناصية الدولة ملك قوي؛ كالحكم الثاني مثلا الذي استطاع حماية الفلاسفة ورجال العلم وأحرار المفكرين من عنت العامة والمتنطعين في الدين - كما سترون ذلك في حينه - فسترون أنه أطلق حرية التفكير للناس، وأن العلوم قد وصلت في عصره إلى أقصى مدى، وأن الآداب أزهرت، وأن حرية الفكر وصلت إلى حد عظيم جدا، وأنه أخذ يناصر المفكرين، وأن الحرية الدينية لم تصل في عصر ما إلى مثل ما وصلت إليه في زمنه، سترون كل ذلك في حينه، ولكنكم سترون أيضا أن الحرية الدينية - رغم ما وصلت إليه في ذلك الزمن - لم تصل حتى في عهد هذا الملك العظيم إلى ما وصلت إليه في عهد المأمون الخليفة العباسي. بقي علينا أن نتكلم عن النقطتين الخامسة والسادسة فنقول: «إن وصول المذهب المالكي إلى حد أن أنساهم القرآن نفسه، وإلى حد أنهم كانوا لا يطيقون رؤية أي مذهب آخر، وإلى حد أنهم كانوا يطردون أي متمذهب بسواه، وإلى حد أنهم أحرقوا كتب الغزالي حين وصلت الأندلس - كما سترون فيما بعد - وإلى حد أنهم كانوا لا يطيقون النظر في كتاب فلسفة!» نقول: «إن وصول المذهب المالكي إلى هذا الحد، كان بلا شك نذير سوء بما سنسمعه من المدهشات والغرائب التي حصلت وقت انحطاط الدولة، وسنورد أهمها في حينه.»
قلنا إن العقيدة الدينية تمكنت من نفوس المسلمين في إسبانيا، وإن الفقهاء تعهدوا غراسها وإنمائها وفق ما يشتهون، وإنهم أولوا النصوص الدينية والآي القرآنية على حسب رغباتهم، فماذا نشأ عن ذلك؟ نشأ عن ذلك أن الجمهور - فيما بعد - وقف عقبة كأداء في سبيل كل من حاول البحث بحرية فكر، فكان لا يتردد في رجم كل من سمع عنه الاشتغال بعلوم الفلسفة متى رأى ما ينكره عليه، بل لقد وصل نفوذ الفقهاء وسيطرة العامة إلى حد أن كان الملك إذا حاول استرضاء الرعية تقدم إلى واحد من مشهوري الفقهاء وفوض إليه الأمر في حرق كل ما يراه في مكتبته منها، يفعل ذلك بعد أن يكون قد احتاط ووضع أهمها في مكان لا يهتدي إليه الفقيه، وكان الجمهور يحارب الآراء الحرة من غير أن يفهم شيئا عن حقيقتها، وآية ذلك أنه كان يخلط الفلسفة بالتنجيم، فكان يطلق على كل من حاول البحث بحرية فكر، اسم المشتغل بالفلسفة والتنجيم، وكان الفقهاء يحاربون الآراء الحرة والمذاهب الفلسفية لأسباب عديدة، قد يكون أهمها أن أغلبهم كان يخشى على نفوذه إذا انطلقت الأفكار من عقالها وتحررت العقول من ربقة التقليد، وإذ كانوا قد استمدوا ذلك النفوذ العظيم من سيطرتهم الدينية؛ فقد أيقنوا أن سلطانهم الديني باق على الجمهور ما دام جاهلا، وعرفوا أنه إذا استنار أدرك ما في أقوالهم من التناقض والإغراق، وفي ذلك القضاء على نفوذهم، وكأنهم كانوا يرون رأي أبي العلاء في قوله:
الدين متجر ميت فلذاك لا
تلقاه في الأحياء إلا كاسدا
وقد يكون الدافع شيئا آخر؛ هو جمود بعضهم على فكرة واحدة، وعدم قدرته على التمشي مع الآراء الحرة لقصر مداركه، كما أنه قد يكون ناشئا عن سوء نية الكثيرين منهم وأنانيتهم وجنونهم بالسيطرة، لكننا مع ذلك جديرون أن لا ننسى أن بعضهم يفعل ذلك عن إخلاص محض؛ لاعتقاده أن انتشار الفلسفة وحرية الفكر بين الجماهير أكبر باعث على السير بهم في طريق الإلحاد والزندقة وزلزلة العقيدة، فكان لذلك يعتقد أن التضييق على الآراء الحرة خير معوان على بقاء الدين ثابت الدعائم، آمنا من تطرق الشك إلى نفوس عامة الناس. ومهما يكن من أمر فقد أدى ذلك التضييق إلى عكس الغرض الأساسي منه، فقد حبب الفلسفة إلى نفوس الكثيرين، وزادهم هياما بها، كما كانت الحال في البلاد الشرقية. وإذا رأينا أكثر ملوك الأندلس يخشون نفوذ الفقهاء، ويتهيبون سطوتهم، ويبذلون جهدهم في نشر العلم، ويشجعون حرية الفكر سرا، لأنهم لم يجرؤوا على مخالفة إرادة الفقهاء، وإذا شكا العلماء والفلاسفة والملوك شدة بأس الفقهاء في أوائل الدولة، فقد انقلبت الحال في أواخرها تقريبا، وأصبحنا نرى في الملوك أنفسهم من هو على رأي الفقهاء المتنطعين في التضييق على الفلاسفة، وستتبينون ذلك من القطعة التالية.
5
وهي: «وقام بأمره (بأمر الملك) من بعده، ابنه علي بن يوسف بن تاشفين، وتلقب بلقب أمير المسلمين، وسمى أصحابه المرابطين ، وجرى على سنن أبيه في الجهاد، وكان - إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين - أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين، واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمرا في مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء؛ فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم وأحكامهم - صغيرها وكبيرها - موقوفة عليهم طول مدته؛ فعظم أمر الفقهاء - كما ذكرنا - وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم، وفي ذلك يقول أبو جعفر المعروف بالبني الأندلسي:
أهل الرياء لبستم ناموسكم
كالذئب أدلج في الظلام العاتم
فملكتمو الدنيا بمذهب مالك
وقسمتمو الأموال بابن القاسم
ولم يكن يقرب من أمير المؤمنين، ويحظى عنده إلا من علم الفروع - أعني فروع مذهب مالك - فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسوله
صلى الله عليه وسلم
فلم يكن من مشاهير أهل هذا الزمان من يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له وهجرهم من ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدى أكثره إلى اختلال في العقيدة، وأشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعد من وجد عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي - رحمه الله - المغرب، أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدم بالوعيد - من سفك الدم واستئصال المال - إلى من وجد عنده شيء منها.
6
أ.ه. •••
نكتفي الآن بسرد تلك القطعة في هذه الإلمامة الموجزة، من غير أن نعلق عليها بشيء من عندنا، ففيها وحدها تتبينون صورة واضحة للحال الدينية في عصر من عصور الدولة.
شيء من الآثار الفعلية للعقيدة الدينية
ولا يفوتنا بعد كل ما ذكرناه أن نبين لحضراتكم أثرا فعليا واضحا من آثار تمكن العقيدة في نفوس أصحابها، متى وجدت محركا قادرا على تصريفها، واستفزاز العاطفة الدينية فيها، فإن إلقاء نظرة سريعة على قصيدة أبي إسحق الفقيه، ورؤية أثرها العظيم الذي أحدثته في نفوس الجمهور، ليكفي وحده في إثبات ذلك، وأنكم لترون فيها مبلغ التحمس الديني العظيم، وكيف أنها كانت السبب في القضاء على ما يربو على أربعة آلاف يهودي، ونهب أموالهم، وتدمير منازلهم، وكانت السبب في حدوث تلك المذبحة الهائلة في القرن الخامس الهجري سنة 459م.
وقد دعا صاحبها إلى قولها أن يوسف بن نغزلة اليهودي الوزير
7
وشى بأبي إسحق قائل هذه القصيدة؛ فأقصاه السلطان عن بلاده - قالوا - وكان ذلك الوزير قد تعرض لتسفيه بعض الآراء الدينية الإسلامية، وكان عظيم الخطر واسع النفوذ، فوجد أبو إسحق من ذلك حافزا إلى إنشاء تلك القصيدة البليغة التي سنتلو على حضراتكم أحسن ما فيها، والتي دفعه إلى قولها غيظه من عدوه - ذلك الوزير الخطير - فملأها تحريضا وأفعمها حججا وبراهين، أفلح في التأثير بها على العامة، وحملهم على إنفاذ رغباته، وما زال يتفنن في ضروب الاحتثاث والتهييج حتى اشتعل الجمهور الساذج حماسة، وهجم على ذلك الوزير فقتله في قصر السلطان نفسه. وليس من شك في أن أبا إسحق بذل كل مواهبه في الضرب على النغمة الدينية، وإظهار التفجع الشديد على ما انتاب الدين من التهاون به، وعرف كيف يوالي فيها اطراد الأدلة واتساقها، وتدفق المعاني وغزارتها مع دقة عجيبة في التعبير عن أغراضه وخوالجه بكلام فخم يتطاير حماسة ويتأجج نارا، وشعر صارخ:
خارج من قلب قائله
مثلما يزفر بركان
وبهذا استطاع أن يوهم سامعيها أن قتل أولئك اليهود - خصومه - فرض لا مناص من أدائه، وواجب حتم لا يصح السكوت عنه، وأنهم، إن كانوا غفلوا عن القيام به فيما مضى، فهم خليقون أن يتداركوه في الحال؛ حتى لا تصب عليهم لعنة الله، أو يحيق بهم غضبه فيخسف بهم الأرض، أو ينزل عليهم السماء، وكذلك لم يترك ناظمها وسيلة من الوسائل التي تستفز أخفى العواطف الدينية الكامنة إلا استخدمها، ولا نغمة من نغمات التعصب للعقيدة الدينية إلا ضرب على وتيرتها. كل ذلك بأسلوب سهل رشيق كاد يصل - لسهولته - إلى حد الركاكة في بعض الأبيات، مع أنه من أجمل الشعر وأبدعه، وإن شئت فقل وأروعه، وإليكم هذه القصيدة الفريدة في بابها:
ألا قل لصنهاجة أجمعين
بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق
يعد النصيحة زلفى ودين
لقد ذل سيدكم ذلة
تقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافرا
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا
وتاهوا، وكانوا من الأرذلين
ومنها:
فكم مسلم راغب راهب
لأرذل قرد من المشركين
وما كان ذلك من سعيهم
ولكن منا يقوم المعين
فهلا اقتدى فيهم بالألى
من القادة الخيرة المتقين
8
وأنزلهم حيث يستأهلون
وردهم أسفل السافلين
فلم يستخفوا بأعلامنا
ولم يستطيلوا على الصالحين
ومنها يخاطب السلطان:
أباديس!
9
أنت امرؤ حاذق
تصيب بظنك نفس اليقين
فكيف خفى عنك ما يعبثون
وفي الأرض تضرب منها القرون
وكيف تحب فراخ الزنا
وقد بغضوك إلى العالمين
وكيف يتم لك المرتقى
إذا كنت تبني وهم يهدمون
وكيف استنمت إلى فاسق
وقارنته وهو بئس القرين؟
ومنها:
وإني حللت بغرناطة
فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها
فمنهم بكل مكان لعين
ومنها:
وهم أمناكم على سركم
وكيف يكون أمينا خؤون؟
ويأكل غيرهم درهما
فيقصي ويدنون إذ يأكلون
وقد ناهضوكم إلى ربكم
فما يمنعون وما ينكرون
ومنها:
ورخم قردهم داره
وأجرى إليها نمير العيون
وصارت حوائجنا عنده
ونحن - على بابه - قائمون
ويضحك منا ومن ديننا
فإنا إلى ربنا راجعون
10 (2) المسيحية في الأندلس
11 «بعد الفتح الإسلامي دان كثير من المسيحيين بدين الفاتحين، حفزتهم إلى هذا المنافع من جهة، واقتناعهم بأن الدين الإسلامي هو الدين الحق من جهة أخرى. فقد جددوا فلسفتهم في نظرية الصراع: يعتقدون أنه حيث تكون القوة يكون الحق، ويقولون للكهنة: «لو كانت المسيحية حقا فلماذا أسلم الله بلادنا - وهي مسيحية - لشيعة نبي كاذب، وقد زعمتم أنه أخذ الكاثوليكية تحت رعايته، وقصصتم علينا مجموعة من تلك المعجزات التي وقعت غيرة على هذا الدين أيام المظالم الآرية؟ لم لا تبعث هذه المعجزات مرة أخرى ؟» وقد كانت هذه الاعتراضات في العصور السابقة تسبب الحيرة والارتباك للكهنة أنفسهم الذين كانوا يجهلون كذلك لم خضع المؤمنون وذلوا أمام الملحدين!! فلما تقادم زمن الفتح حلت هذه الاعتراضات بأن المتأخرين من ملوك القوط وكهنتهم وأشرافهم كانوا أئمة مجرمين، وأن القوارع التي قرعتهم لم تكن إلا عقابا عادلا من الله، وقد كان اعتبار النكبات قصاصا عادلا، من فلسفة الأقدمين - على العموم واليهودية على الخصوص - ولقد تتجلى في أمثال سليمان سعادة الأبرار وشقاوة الفجار - في صورة مختلفة - ولما توالت النكبات على يعقوب لم يكن أصحابه ليقلعوا عن اعتباره مجرما، لولا أن برهن على طهارته وفضيلته، وكانت القرون الوسطى تطبق على التعاسة نفس هذه النظرية؛ فكان انتصار المسلمين - على الخصوص - آية الغضب الإلهي، كما كانت انتصارات المسيحيين في رأي المسلمين، وكانت تردد هذه الجملة في إيطاليا كذلك؛ وهي: «إذا انتصر المسلمون فذلك لأن الله يريد عقابنا على خطايانا!» وكذلك كان يقال في إسبانيا. وفي سنة 812 أذاع ألفونس الثاني منشورا بإملاء الكهنة قال فيه: «أيها الإله! إن القوط قد أهانوك بكبريائهم فكانوا أهلا لأن تمزقهم السيوف العربية.» وفي سنة 924 قال سنكودي نقار في منشوره بمناسبة إنشاء معبد البلد:
لقد كانت إسبانيا تحت سلطان المسيحيين، فكانت حصونها وقراها مكتظة بالكنائس، وبذلك كان الدين المسيحي سائدا في كل مكان، ولكن أسلافنا تتابعت خطاياهم، وخرجوا على وصايا الإله، فلأجل أن يعاقبهم - على ما قدمت أيديهم - ويرجعهم إلى الصراط السوي رماهم بهذا الشعب البربري.
وقال «سبستيان» بدوره: «وإنما هلك الجيش القوطى لأن الملوك والكهنة تركوا شريعة الله.» وقال كاهن باشيلوس: «عاقب الله أسلافنا في هذه الحياة الدنيا حتى لا تكون هنالك حاجة إلى عقابهم في الحياة الأخرى.» كذلك نرى المؤرخين المتحضرين من أهل الشمال قد اتهموا «وزيتا» ومعاصريه بأنهم كانوا غلاظا ملحدين؛ فأهان الكهنوت برمود الثاني ومعاصريه - بسبب ذلك - وفي رواية كاهن بشيليوس أقدم المؤرخين الذين ينقلون عنه، أن «برمود» كان عاقلا، رحيما، عادلا، وأنه كان يعمل على فعل الخير واجتناب الشر، ولكنه كان سيء الحظ، فقد حدث في عهده - وقت أن كان على عرش ليون - أن وجه المنصور إلى المسيحية أشد الضربات التي أصابتها منذ الهجوم العربي؛ فلم ينج شيء من سيوف المسلمين، ولم تكن لترى حينذاك إلا مدائن مخربة، وأديرة خاوية، وكنائس مهدمة، بل لقد وصلت الحال إلى أن سقط سبستبول، وهيكل سان جان - رأسا على عقب - وهنا رجع السؤال: «لماذا تغلب المسلمون على المسيحية؟» وأجاب الكهنة على سابق عادتهم: «ذاك عقاب على خطايانا، والمنصور هو مطرقة الغضب الإلهي.»
12
على أنهم كانوا جديرين أن يبينوا لنا: أين كانت تلك الجرائم التي استوجبت هذه العقوبة الهائلة؟ وكيف تم ذلك رغم أن الإيمان بالخلود كان - في ذلك الزمن - أكثر منه في أي زمن آخر؟ ولكن لا غرابة في ذلك؛ فقد آلى كتاب القرن الثاني عشر على أنفسهم أن يقوموا بهذا الواجب؛
13
فمؤلف التاريخ القشتالي على الرغم من أنه من رجال الكنيسة ضحى - بلا روية - بالكهنة الذين ترأسوا كنيسة رمبوستيل في القرن العاشر، وأظهرهم بمظهر الفسقة المجرمين قساة القلوب.
14
وعني فيلاخ أفيديو بشخص «برمود»، ألا ترى كيف أنه يبدأ كلامه بنشر صحيفة طويلة من سيئاته ومخازيه، فإذا انتهى منها وصل إلى هذه النتيجة فقال: «وإنما بسبب جرائم برمود وجرائم شعبه أن المنصور ... إلخ. وهكذا برروا عمل الألوهية التي سمحت للإسلام أن يكتسح المسيحية.
ولما كانت الأقاصيص الشفوية قد لحقها كثير من التحريف في زمن سبستيان، ولم يكن قد اغترف إلا من ذلك المعين؛ فقد وجب أن تقابل كل معلوماته بالحذر المشروع.» ا.ه
هوامش
صفحة غير معروفة