وقد كان بعض المتقدمين يعلل الخسوف والكسوف - فيما يقول مؤرخو اليونان والمشارقة - بأنه ناجم من طوفان أتي من الجحيم؛ فغمر الشمس أو القمر وسبب الكسوف، وكان هذا الاعتقاد يدفعهم إلى دق النواقيس - في كل مكان - استنزالا للرحمة، وطردا لتلك الأرواح الشريرة التي سببت لهم هذا البلاء.
وكان من عادة الإيطاليين أن يلجئوا إلى ذلك حتى في أوقات اشتداد العواصف. ولم يكن الفرنسيون أقل هلعا من غيرهم عند حدوث الكسوف، فلم تكد تنكسف الشمس في يوم 16 يونية سنة 1406 حتى انخلعت قلوبهم من الذعر، وهرع جمهورهم إلى الكنائس معتقدين أن آخرة العالم قد حانت، مؤثرين أن يموتوا في الكنائس شهداء أبرارا، ولم يكن رعبهم من الكسوف الذي وقع في شهر أغسطس من عام 1654 بأقل من سابقه، ولقد مرض لويس الرابع عشر ملك فرنسا العظيم مرضا خطيرا بسبب ما لحقه من الرعب من كسوف 3 مايو سنة 1715
وكان ذلك خاتمة الحوادث التي أثارها الكسوف والخسوف، ثم استنار الناس وعلموا حقيقة هذه الظاهرة، فلم يعد يخشاها أحد! (2) ابتهاج المتأخرين بهما
ولم يكد يتقدم علم الفلك حتى عرف الناس ما لم يكونوا يعرفون، وأدركوا ما في تلك الأساطير من خطل؛ فتبدل خوفهم أمنا وطمأنينة، ماذا؟ بل انقلب الأمر من النقيض إلى النقيض؛ فأصبحوا يترقبون - بفارغ الصبر - رؤية الكسوف والخسوف، وآية ذلك ما أظهروه من الغبطة والفرح بالكسوف الذي وقع في باريس يوم 22 مايو من سنة 1724؛ فقد حدث ذلك قبيل الغروب، وكان بدؤه في الساعة 5:35:18 مساء، وقبل أن تنقضي ساعة أصبح الكسوف تاما، وغطيت صفحة الشمس كلها بظلام دامس؛ فبدل النهار ليلا حالك الإهاب، وظهرت النجوم في السماء، ولكن فرح الجمهور المتلهف لم يطل، فقد أرخى الليل سدوله - بعد دقيقتين - قبل أن يتملى الناس برؤية هذا المنظر الرائع - منظر خروج الشمس من ذلك الظلام الحالك الذي غطى صفحتها - فقد توارت عن العيان، ومالت إلى الأفق الغربي بين أسف الجمهور ولهفته، وكان رجال البلاط قد أعدوا عدتهم لرؤية ذلك الكسوف، وجلسوا في أعلى مكان في القصر الملكي - ومعهم نظاراتهم الفلكية - وفي وسطهم الملك الشاب «لويس الخامس عشر»، وكانت سنه حينذاك أربعة عشر عاما، وجلس إلى جانبيه الفلكيان الشهيران اللذان يعدان أكبر رجال الفلك في ذلك العصر؛ وهما «جاك كاسيني» و«جاك مور الدي»، فكان لويس يشهد ذلك الكسوف من خلال مرقب كبير أمامه، وكان يسمع منهما غرائب ما يشرحان له من طرائف علم الفلك بأذن سميعة وقلب واع، ولم يكد ينتهي ذلك الكسوف حتى أعقبته فكاهة طريفة ظلت حديث عصره ردحا من الزمن: فقد رأى الملك سيدتين من سيدات البلاط تقبلان في اللحظة التي غربت فيها الشمس، فقال لهما مازحا: «لقد فاتكما هذا الكسوف، فانتظرا الكسوف التالي بعد قرنين.» ولكن إحداهما ابتدرته قائلة بسذاجة نادرة: «كيف؟ ألا يستطيع «كاسيني» الفلكي إذا أمرته جلالتكم أن يعيد لنا تلك الظاهرة من جديد؟»
فأغرب الملك في الضحك وتبعه رجال حاشيته في ذلك مجاراة له، ولم يفت أحد ظرفاء ذاك العصر أن ينظم أغنية جميلة ضمنها تلك النادرة!
وقد شغل الناس بالحديث عن ذلك الكسوف زمنا ما؛ فنسوا كل كلام سواه، وعلقوا على صدورهم شارات رمزوا بها إلى الكسوف، وصنعوا ألوانا من الحلوى أطلقوا عليها اسم الكسوف؛ منها رقاقة ابتكرها تاجر من تجار الحلوى أسماها «رقاقة الكسوف»، وهي رقاقة بيضاء مغطاة بطبقة سوداء من الشكولاته، رمزا إلى نور الشمس المكسوف، كما مثلوا على المسارح كوميديا ذات ثلاثة فصول اسمها كوميديا الكسوف!
وفي هذا أكبر دليل على مقدار ما وصل إليه ابتهاج المتأخرين بالكسوف واحتفائهم بوقوعه. •••
على أن الفلكيين كانوا في حاجة إلى الاستزادة من الدرس؛ فأخذوا يترقبون بفارغ الصبر وقوع كسوف آخر.
ومضى على ذلك ثلاثة أرباع قرن سهلت في أثنائها المواصلات، وأصبح من اليسير على العلماء أن يسافروا إلى أي مكان يقع فيه الكسوف، فلم يفتهم أن يذهبوا إلى أواسط فرنسا لمشاهدة كسوف 8 يوليو 1842، ولمشاهدة الكسوف الذي وقع في «الماليزيا» و«الهند» في 18 أغسطس سنة 1868. ورحل العلماء من كل صوب لرؤية الكسوف الذي وقع في إسبانيا وشمال أفريقيا في 30 أغسطس سنة 1905، وكان كسوفا كليا توفروا على درسه بروية واطمئنان.
وفي السابع عشر من شهر إبريل سنة 1912؛ وقع في فرنسا كسوف لا يقل خطره عن كسوف سنة 1724 الذي أسلفنا ذكره؛ فخف سكان باريس وغيرهم إلى مشاهدته في الضواحي؛ لا سيما في منطقة «سان جرمان».
صفحة غير معروفة