ويحرم قوتا واحد وهو أحوج
فتبادر إلى ذهنك أن كلمة «مدوج» ثقيلة على السمع، وأن التزامه الإغراب هو السر في التجائه إليها، وأنه كان جديرا أن يقول بدلها «متوج». وما أليق هذه الصفة بالأمير! وما أخفها على السمع وألطف مدخلها في القلب ...!
فتريث قليلا، وانظر إلى المعنى - بعد أن فتنك بهرج اللفظ - وخبرني بعد ذلك: «أيقابل عري الفقير تاج الأمير؟» وقل لي بربك: «كم تفقد تلك الصورة الشعرية من الجمال إذا وضع هذا اللفظ بدل ذاك؟» •••
إذن فقد أراد أبو العلاء اللفظة الأولى، وقصد إليها قصدا، ولو كان يتكلم نثرا لأتى بها ولم يرض عنها بديلا، وما أروع تلك الصورة الشعرية الجميلة التي تتمثلها في هذا البيت الدقيق؛ إذ «ترى الشتاء زاحفا بقره ومطره وزمهريره، وترى فقيرا بائسا يستقبل هذا الفصل القاسي عاريا لا يجد ما يدفئه أو يقيه غائلة البرد، ثم ترى - إلى جانبه - أميرا مثريا متدثرا بلحاف فوقه لحاف، لا يكاد يشعر بألم البرد القارس أو يحس زمهريره.
وترى في البيت الثاني مجدودا، تكدست أمامه أقوات أمة بأسرها؛ وإلى جانبه مسكين قد حرم قوت يومه!» •••
حسبنا هذا المثل من أمثلة عديدة يعيينا استقصاؤها ولا يتسع الوقت لذكرها، ولكن حذار أن يدخل في روعك، أو يدور بخلدك - لحظة واحدة - أننا ننزه أبا العلاء عن الزلل؛ وأننا نطلق القول إطلاقا، فنعصمه من كل خطأ أو نزعم له شيئا من ذلك، فإنما هو إنسان قبل كل اعتبار وبعد كل اعتبار.
ولكن كل ما نقوله: إننا ألفنا منه الدقة والإحكام؛ ولم يعودنا الثرثرة، والهذيان، وإننا وضعنا في البوتقة جل ما قدمه لنا من المعادن؛ فألفيناه ذهبا خالصا غير مختلط بنحاس، فإذا شذ من ذلك شيء فهو الفكر الإنساني الذي لا يسلم صاحبه من عثار أو كبوة إلى الأرض - أثناء تحليقه في سماواته العلي - وهو الشعر كالشجر:
ركب فيه اللحاء والخشب اليا
بس والشوك بينه الثمر
ونوجز فنقول: «إننا إذا عددنا نخبة المفكرين، والفلاسفة المعدودين الذين تركوا أوضح أثر في تاريخ الفكر الإنساني والذين هم أبعد الناس عن الإسفاف واللغو، فإن أبا العلاء بلا شك يكون في أعلى ذروة يجلس فيها أساطينهم وجبابرتهم.»
صفحة غير معروفة