يا بنت الإيه! اسمعي إذن و...
وكما يتحدث الطلبة في برنامج ألف سلام، وكخطابات المغتربين ومحاضرات ذوي الحماس ... رحت والأصفر في وجهي ينتقل إلى البرتقالية والطماطمية والبطيخية، وما شئت من ألوان الاحمرار، رحت وبقسوة بالغة، أو فلنفعل كاللغويين الكبار ونقول: بقسوة بليغة، أو ببلاغة قاسية، رحت أخلع تلك الصورة البدائية الكريهة، التي يبدو أنها علقتها في عقلها منذ الطفولة. كما غاظتني بحلمها عن البدوي وسمرته، تهورت في حماسي دفاعا عن برج الجزيرة وآثار الفراعنة ساعة العصرية على شرفة مينا هاوس.
وحين انتهيت ضحكت؛ ربما تقليدا لما فعلت بكلامها أنا، ووجدت أن عليها اتباعه، ورد التحية فعلت، ولكني أنا انزعجت؛ فقد خفت أن تكون قد وقفت على سر البلاغة القاسية، والقسوة البلاغية وحماسي المفاجئ للبرج؛ لا جمال البتة فيه، وربما أي برج حمام أبيض في أي نجع، يبدو لي أكثر منه وداعة وحضارة ورمزا.
أكثرت من تفاصيل البداية، أعرف؛ فأنتم لا بد أنكم - مثلما كنت أنا تماما - شغوفون أن تنتهي البدايات بسرعة. وفي القاهرة أصبح وحدي مع البافارية الغربية الحالمة، بليلة تنطبع فيها آثار الأحلام على الرمال.
ولقد حدث!
بل، ولقد حدث أكثر من هذا.
حين هبطنا القاهرة كان اللقاء قد تم. في بيروت بدأنا والبدوي حلمها، وهي أو مثلها حلمي، وكعادة الحياة والأحياء نبدأ معها ومعهم مستنكرين، مطلقا مختلفين غير راضين، ببساطة نرفض الواقع تماما، ونرفض الخضوع، وببساطة وكما رفضت أنا حلمها تماما، حتى مزقت القاهرة كلها من أجله، وكما لا بد كانت سترفض حلمي لو عرفته، وكعادة الأحياء أيضا حين يرفضون الواقع المفروض، ثم شيئا فشيئا يلتقون بادئين من الأماني المشتركة والأحلام. نحن أيضا تعادينا تماما في الحلم، ولكن الواقع المحض بدأ يقربنا، واقتراب الواقع من الواقع فن اسألوا عنه أهل الذكر. فالسيدة حين تخرج السيجارة وتضعها في فمها، دون أن تبحث أو تحاول حتى البحث عن ثقاب، منتظرة أن تفعل أنت ذلك الحريق الصغير، الذي تلتقط بعضه بطرف سيجارتها، وبحنكة تتذوق طعم الدخان الناتج عنها، السيدة حين تفعل هذا، تضعك في الواقع أمام امتحان، يرسب البعض فيه رسوبا لا نقض فيه.
ذلك أنها أيها السادة حين تضع السيجارة في فمها، الذي ضيقته خصوصا، حين يحدث هذا إنما يكون في الواقع بداية بداية لمحاورة محاذية، تسير جنبا إلى جنب مع الحوار العادي؛ المحاورة الحقيقية ذات اللغة الخاصة والمستويات المختلفة في الإدراك والفهم، المحاورة الأهم التي من خلالها تدرك المرأة من أنت؟ - في الحقيقة: من أنت؟ وأي الرجال أنت؟ وبأي الخصال تتمتع؟ وأين نقط الضعف؟ - إنك إذا اندفعت مثلا كالتلميذ الخائف أن ينسى قطعة المحفوظات ملهوفا، فتبحث في جيبك عن الولاعة، وما إن تعثر عليها حتى تحس بالاضطراب، ومن بعيد تدقها، تشعلها، وغالبا ما تفشل، وبعصبية من يريد إثبات البراعة ثانية - وربما ثالثة - تحاول، ثم تقرب النار بخوف من يخشى أن يحرقها، وليس بأناقة من يتيح لها أوسع الفرص لاستعراض أناقتها الخاصة في تحاشي اللهب، والاقتراب من الشعلة، وأخذ النفس، وإخراج النفس، والتحرك إقداما وتراجعا، والتفاتا وابتلاعا، وإهمالا في الإسراع والتراخي، الذي تنشد له الأعصاب، اسألوا أهل الذكر، ستجدون أن لكل حركة كتابا أو بابا، وللأبواب مفاتيح، والمفاتيح أحجام، والمشكلة ليست مشكلة اصطدام رجل بامرأة وخلاص؛ المشكلة أن تدبر بحيث يبدو الالتقاء طبيعيا أكثر من الالتقاء نفسه، المشكلة أنك عارف وأنها عارفة، وأنك عارف أنها عارفة، وهي عارفة أنك عارف أنها عارفة ... وهلم جرا. ولكن كيف؟ وأين الرجل الذي يصبح فخره هذه المرة أنه الجاهل (مدعيا طبعا) وقوته أنه الغبي المفاجأ، وكأن الأمر يحدث ولا يد له فيه؟! إن شرب الشاي هو شرب الشاي، ولكن أن تجعل من مجرد احتساء قدح من الشاي فنا وطقوسا تزاولها مستمتعا، وكأنها ليست وسيلة لشرب شاي، أي شاي! ولكنها - هي الوسيلة - غاية في حد ذاتها! كيف تجعل من كلمة «شكرا»، تبدو وكأنها أهم كلمة نطقتها في حياتك، وكأنك لأول مرة تقولها، ومن أجلها استخرجتها من صندوق كنوزك التي لم يرها أحد، وتقدمها بإعزاز الملك يقلد الملكة التاج؟ كيف بصدق تجعلها تحس بكلمة شكرا؛ بنطقك لها، بإخلاصك وإعزازك واختصاصك بها تاجا باهرا كالتاج الحقيقي على رأسها، ساعة ترى الرجال تضعه، وعلى كل الناس، وبالكلمة متوهجة فوق شعرها تفخر وتتيه.
اسألوا أهل الذكر.
فأنا لم أسألهم فقط؛ أنا بعض من أهل الذكر هؤلاء.
صفحة غير معروفة