على أن اليأس والحرمان لم يرافقا عنترة، طوال حياته، في القصة، فقد رق له قلب عمه مالك فزوجه عبلة، واشتفى قلبه الكليم، أما التاريخ فلا يقطع بخبر الزواج ولا ينفيه. فالسيوطي مثلا، يخبرنا بأن والد عبلة اعترف بابن أخيه ووعده أن يزوجه ابنته إذا أنقذه من الأسر. وقد أنقذ عنترة عمه وأنقذ عبلة معه. فهل بر مالك بوعده فأعطاه ابنته، أو أنه كان مخادعا له حتى إذا انطلق سراحه عاد إلى دفعه ومماطلته، فقضى الفارس الأسود حياته بين وعد ورد ويأس وأمل؟ ثم هل بقيت عبلة عزبة لم تتزوج، إذا كان الحظ لم يسمح لعنترة بقضاء لبانته منها؟ تلك أسئلة ربما لا نعدم أن نجد جوابا عنها في شعره الثابت، وإن كان الرواة يسكتون عنها أو لا يردون ردا صريحا.
وشعر عنترة الذي وصل إلينا وأثبته الرواة، لم يقتصر - في غزله - على عبلة وحدها، بل يتناول أحيانا سمية أو سهية امرأة أبيه، وكان يهواها في صباه وقد ضربه والده من أجلها. ويتناول أيضا امرأة اسمها رقاش، ولا نعلم عن هذه المحبوبة شيئا، فهي نكرة لا تعرف إلا باسمها، ولكن الرواة يخبروننا بأنه كان لعنترة زوجة من بجيلة، فقد تكون هي رقاش، أو رقاش غيرها.
ومهما يكن الأمر فغزل عنترة في عبلة خير شعره من هذا النوع، وإن كان لا يقاس بحماسياته، وإذا كان قد أصاب بغزله شهرة بين العامة، فيعود الفضل في ذلك إلى شعره المصنوع في القصة، فقد حمل عليه غزل كثير ليس له يد فيه البتة. ونحن يهمنا غزله الصحيح، وغزله في عبلة خصوصا، لعلنا نلقى جوابا عن الأسئلة التي مر ذكرها. وأشهر ما وصل إلينا من غزله في عبلة ما جاء في المعلقة، فقد خص عنترة طويلته الحسناء بابنة عمه، ثم بذكر معاركه ومبارزاته. ونستدل منها - كما قلنا - على حرمانه وتظلمه من قوم عبلة؛ لأنهم بعدوا بها ونزلوا في أرض الأعداء، فمنعوها منه: «حرمت علي وليتها لم تحرم!» فعنترة في المعلقة لم يتزوج عبلة، وإنما يشكو فراقها وجور أهلها عليه. فإذا كانت المعلقة نظمت دفعة واحدة في زمن واحد، فيكون الشاعر قد بقي طوال حياته محروما ابنة عمه؛ لأنه ذكر فيها حرب داحس والغبراء، وهذه الحرب انتهت قبل وفاة الشاعر ببضع سنوات. وله قصيدة أخرى يتبين منها أن عبلة تزوجت رجلا غيره، يصفه شاعرنا بأنه بادن كثير اللحم:
فلرب أبلج مثل بعلك بادن
ضخم على ظهر الجواد مهبل
125
غادرته متعفرا أوصاله
والقوم بين مجرح ومقتل
وهذه القصيدة معروفة له يثبتها الرواة ولا يدفعونها. وليس في سائر شعره الصحيح ما يدلنا على أنه حظي بابنة عمه كما تقول القصة، وإنما هو يشبب بها، ويؤثرها على جميع النساء، وإن لم يقصر غزله عليها:
ولئن سألت بذاك عبلة أخبرت
صفحة غير معروفة