العصر الجاهلي
لمحة تاريخية
الشعر الجاهلي
شعراء الجاهلية
أصحاب المعلقات السبع
سائر الشعراء المشهورين
النثر في الجاهلية
صدر الإسلام
لمحة تاريخية
الشعراء المخضرمون
الشعراء الإسلاميون
ازدهار الشعر السياسي
النثر الإسلامي
العصر الجاهلي
لمحة تاريخية
الشعر الجاهلي
شعراء الجاهلية
أصحاب المعلقات السبع
سائر الشعراء المشهورين
النثر في الجاهلية
صدر الإسلام
لمحة تاريخية
الشعراء المخضرمون
الشعراء الإسلاميون
ازدهار الشعر السياسي
النثر الإسلامي
أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام
أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام
حياتهم، آثارهم، نقد آثارهم
تأليف
بطرس البستاني
العصر الجاهلي
500؟-622م
يبتدئ بنهضة الشعر وتنوع أبوابه وبحوره، وينتهي بظهور الإسلام وهجرة رسوله.
لمحة تاريخية
(1) ديار العرب
إذا قيل ديار العرب تبادرت إلى الذهن خيالات جزيرتهم الصحراوية العارية، مع أنه كان لقوم منهم مواطن في الربوع الشامية والعراقية، إلا أن هذه المواطن - على جمالها وتحضر بعضها - لم تكن إلا غديرا من غدران الجزيرة، وطللا من أطلال البادية. فالجزيرة مهد العروبة الخالصة، وكل عربي صحيح النجار يعتزي إليها، وإن شطت به الدار عنها.
وسميت جزيرة من قبيل التوسع؛ لأن البحر لا يكتنفها إلا من ثلاث نواحيها: من الغرب البحر الأحمر؛ ومن الشرق بحر فارس أو خليج العجم؛ ومن الجنوب المحيط الهندي؛ وأما الشمال فمتصل بأرض الشام والعراق.
والجزيرة خمسة أقسام: الأول: اليمن في الجنوب، ويقال لها الخضراء؛ لما فيها من المزارع والأشجار والمراعي والمياه، وهي خمسة أصقاع: حضرموت، ومهرة، والشحر، وعمان، ونجران، ومدنها الشهيرة: صنعاء، وكانت سرير ملوك اليمن، وفيها قصر غمدان؛ ومأرب، ويقال لها سبأ، وفيها العرم؛ وزبيد، وعدن، وظفار قاعدة بلاد الشحر.
والقسم الثاني: العروض، وتشمل البحرين واليمامة، سميت كذلك لاعتراضها بين اليمن ونجد.
والقسم الثالث: تهامة، على شاطئ البحر الأحمر، بين اليمن والحجاز، وفيها طريق القوافل إلى الشام، ومن مدنها مكة، وفيها البيت، والكعبة، وغار حراء.
والقسم الرابع: الحجاز، بين نجد وتهامة، أشهر مدنه يثرب (مدينة الرسول)، والطائف، وخيبر، وفيه سوق عكاظ، وماء بدر.
والقسم الخامس: نجد، بين العراق شرقا، وبادية الشام شمالا، والحجاز غربا، واليمامة جنوبا: صقع مرتفع ، طيب الهواء، يلهج بذكره الشعراء، وفيه أرض العالية التي كان يحميها كليب.
وفي الجزيرة جبال وأودية، وصحراوات، وحرات. فمن جبالها أجأ وسلمى، في جنوبي بادية السماوة، وهما منازل لبني طيئ؛ ورضوى بالقرب من ينبع، وأحد في شمالي يثرب، وأبو قبيس في شرقي مكة، وأبان الأبيض في شمالي وادي الرمة. ومن أوديتها وادي القرى بالقرب من يثرب، ووادي الرمة بعالية نجد، ومن صحراواتها بادية السماوة، رمال وعس شاقة السير، قليلة الماء والكلأ؛ والدهناء، سبعة أجبل من الرمل بين يبرين وفيد،
1
كثيرة الكلأ على قلة ماء. قال ياقوت: «إذا أخصبت الدهناء، ربعت العرب جمعاء.» ورمال الأحقاف بأرض اليمن بين عمان وحضرموت، ومن حراتها: حرة سليم في عالية نجد، وحرة واقم شرقي يثرب، وفيها كان يوم الحرة في خلافة يزيد بن معاوية.
وهواء الجزيرة يختلف باختلاف ارتفاعها وانبساطها؛ ففي الجبال وعلى شاطئ البحر الجنوبي ينسم معتدلا؛ وفي السهول يلفح حارا؛ وتهب ريح محرقة من الجنوب والغرب تعرف بالسموم.
ويهطل المطر شرقي اليمن في أوانه، وشماليها من حزيران إلى تشرين الثاني، وتكثر الأمطار في حضرموت أيام الربيع، وأما الأقاليم الشمالية فقليلة المطر، قليلة المياه، لا تنبت العشب ولا الشجر إلا في بعض الأماكن، وأكثر شجرها شائك لظمئه إلى الماء، ويشتد البرد إذا احتبس المطر، وثارت الريح من ناحية الشآم،
2
ريح الشمال، فإذا أقلعت خف القر، وسال الوادي، فتفيض الغدران، وتبشر الأرض الصالحة بربيع قريب. (1-1) مراجع
ياقوت: معجم البلدان.
الألوسي: بلوغ الأرب.
نوفل الطرابلسي: صناجة الطرب.
Henri Lammens. Le berceau de l’lslam . (2) الجيل العربي
يرى جمهرة المؤرخين أن الشعوب السامية، أي التي تحدرت من سام بن نوح، هم: الأشوريون والبابليون والعبرانيون والفينيقيون والآراميون والحبشان والعرب.
3
ويقال إن هذه الشعوب كانت في عهدها الأول تستوطن أرضا واحدة، اختلف المؤرخون فيها، فزعم بعضهم أنها شطوط الفرات، وآخرون أنها بادية العرب، وقال غيرهم إنها أرمينية، ومنهم من رأى أنها الحبش. فلما تكاثروا وضاقت بهم أرضهم، شتت الدهر شملهم فتفرقوا وتشعبوا، وتفرعت لغتهم إلى لهجات مختلفة باختلاف الديار والأمصار.
واتخذ العرب أرض الجزيرة موطنا لهم يعيشون فيها بدوا يألفون الخيام، وحضرا يعمرون المدائن والقرى؛ وكان معظم البدو في الشمال، ومعظم الحضر في الجنوب، ومنهم من نزل بأطراف الشام والعراق. ويقسم العرب إلى بائدة وعرباء
4
ومستعربة؛ فأما البائدة فأصلها مجهول، وأما العرباء فهي القحطانية، وأما المستعربة فهي العدنانية. (2-1) العرب البائدة
المراد بالعرب البائدة القبائل التي محتها الحروب كطسم وجديس، أو أهلكها الله بغضب منه كعاد وثمود. ولا نعلم عن هذه القبائل إلا أخبارا موجزة ذكرها القرآن، وأساطير مستملحة وشاها الرواة: منها أن طسما كانت تسكن البحرين، وأن جديسا كانت تسكن اليمامة، وكان على طسم ملك غاشم يقال له عملاق، فغلب على جديس، واستبد بها، وهتك حرمة نسائها. فثارت جديس على طسم، وبطشت بها وهي غافلة في وليمة أهدتها إليها، ونجا طسمي فلجأ إلى اليمن واستغاث تبع حسان، فأمده بجيش من قحطان فأفنى جديسا.
ومنها أن عادا كانت تسكن حضرموت، فبغت في الأرض وعبدت الأصنام؛ فبعث الله إليهم نبيا اسمه هود ليصلح فسادهم، فكذبوه، فدعا عليهم، فاحتبس المطر عنهم ثلاث سنوات، وأمحلت الأرض، فأوفدوا إلى مكة نفرا يستسقون لهم، فأرسل الله عليهم ريحا عاتية فلم تبق منهم أحدا.
ومنها أن ثمود كانت تسكن الحجر من وادي القرى، فسخرت بنبيها صالح، وأبت أن تطيعه أو يصنع لها معجزة. فأخرج من الصخر ناقة وفصيلها، وأوصاهم ألا يمسوها بسوء، فاجترأ أحدهم - قدار الأحمر - وعقرها؛ فغضب الله على ثمود كما غضب على عاد، فأبادهم بالزلزال، وضرب المثل بشؤم عاقر الناقة؛ أحمر ثمود.
ولم تخل أساطير العرب البائدة من الشعر، ولكنه منحول وضعه الرواة تزيينا لأقاصيصهم فما يصح التعويل عليه. (2-2) العرب القحطانية
نزلت العرب القحطانية في الجنوب، واتخذت اليمن موطنا لها. وقيل إن أول من نزلها يعرب بن قحطان وأولاده، وتزعم الرواية العربية أنه أول من نطق باللسان العربي، وأول من جعلت له التحايا الملوكية. قال حسان بن ثابت:
تعلمتم من منطق الشيخ يعرب
أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر
5
وكنتم قديما ما لكم غير عجمة
كلام. وكنتم كالبهائم في القفر
واشتهر بعد يعرب حفيده عبد شمس سبأ، مؤسس المملكة السبئية، وباني السد العظيم
6
على بضعة أميال من قاعدتها مأرب توفيرا للري، وصيانة للمدينة من الغرق؛ لأن النهر الذي يجري بقربها يجف ماؤه في الصيف، فيخشى على الزرع، ويطغى سيله في الشتاء فيخشى منه الفيضان.
وكانت أرض سبأ طيبة الترب، خصبة العشب، فنمت زراعتها، وأثمرت غلالها، وزادها الله خيرا بإحياء تجارتها، فكانت السفن تقل حمولة الهند إلى حضرموت، ومنها إلى مصر، منذ القرن العاشر قبل المسيح. وكانت الملاحة في البحر الأحمر عسيرة شاقة، فعدل عنها إلى البر، وتعهدت القوافل حمل بضائع الهند وحضرموت إلى مأرب فمكة، ففلسطين فمصر.
على أن هذا اليسر أخذ يتبدل عسرا منذ القرن الأول للميلاد؛ إذ تحولت التجارة الهندية عن طريق البر في اليمن إلى البحر الأحمر بتقدم الملاحة الرومانية واتساع نطاقها. فساءت أحوال السبئيين، واضطربت جماعتهم فنفروا إلى الشمال يلتمسون فيه موطنا جديدا لهم، فأوحشت مرابعهم، وضعفت شوكتهم. ثم كان انفجار السد
7
ففاضت المياه على مأرب، فأزعجت عنها السكان، وقضت على دولة السبئيين، فتمزقوا أشتاتا، وضرب بهم المثل فقيل: «تفرقوا أيدي سبا.» وغلبت عليهم دولة الحميريين.
والحميريون شعب من ذراري السبئيين
8
اتسع سلطانهم فجاوز اليمن، وانبسط على عرب الشمال، وكانت عاصمتهم صنعاء، وملوكهم يلقبون بالتبابعة، أولهم الحارث الرائش، وعرف بعضهم بالأذواء.
9
وفيهم ملوك صغار يسمون بالأقيال، يسيطرون في مخاليفهم أو إقطاعاتهم، ويعودون بشئونهم العامة إلى تبع الملك الأكبر.
وكان من أثر هجرة القحطانيين إلى الشمال أن ضعفت شوكة اليمن، كما ذكرنا، فطمعت فيها الحبشان، فوالت عليها الغارات البحرية، يشد ساعدها قيصر الروم، فافتتحت بعض بلادها سنة 356، وجعلت عليها الولاة المسيحيين، فتداولوا الملك فيها، حتى قام ذو نواس في أواخر القرن الخامس للميلاد،
10
وكان يهوديا من أعقاب التبابعة، فتعصب لدينه واضطهد النصارى. وحدث أن قتل طفلان يهوديان في نجران واتهم النصارى بقتلهما، فسخط ذو نواس عليهم، وخيرهم بين اليهودية والقتل، فأبوا أن يتهودوا، فأعمل السيف فيهم، وقيل: إنهم هم أهل الأخدود الذين أخبر عنهم القرآن، أضرمت عليهم النار فكانوا لها وقودا.
ولا شيء يدل على أن ذا نواس استطاع أن يستأصل شأفة النصارى، ولكن نعلم أن جماعة منهم فزعوا إلى يوستين الأول - قيصر الروم - يستغيثونه، فكتب إلى النجاشي هيلستيوس أو الأصبح - وكان من غلاة النصارى - بأن ينوب عنه في غزو اليمن، والإثئار لقتلى نجران، فأغزاها قائده أرياط بسبعين ألفا من الحبشان، فانهزم أمامهم ذو نواس، وخاض البحر بفرسه، فلم يظهر له أثر. وصارت اليمن إمارة حبشية في نحو سنة 525م، تولاها أرياط ثم أبرهة الأشرم من بعده.
وفي نحو سنة 570م سار أبرهة بجيشه إلى مكة يريد هدم البيت الحرام، فدهاهم وباء الجدري، وسرى فيهم يفتك فتكا ذريعا، ولم يسلم منه أبرهة، فارتد عن الكعبة بمن نجا من جيشه، ومات في صنعاء. وتعرف غزوة أبرهة بعام الفيل؛ لأن الرواية العربية تقول إنه جاء مكة راكبا على الفيل.
وظل الحبش مستولين على اليمن حتى قام سيف ذو يزن سنة 575م يعمل لتحرير بلاده، واسترجاع ملك آبائه، فاستنجد كسرى، فأمده بجيش من أهل السجون، يقودهم وهرز الديلمي، وكان على اليمن مسروق بن أبرهة، فانكشفت الحبشان وقتل مسروق، وملك ذو يزن، أو خلفه ابنه معدي كرب، وهو آخر ملوك اليمن من القحطانيين. ثم ثار على معدي كرب عبيده الأحابش فقتلوه، فاستولت الفرس على اليمن سنة 597م، وجعلتها بعض ولاياتها، فلم يتحقق لها استقلال حتى ظهر الإسلام.
وفي أساطير العرب القحطانية وأخبارهم شعر موضوع لا يصح الركون إليه؛ لأنه جاءنا باللغة العدنانية، ولم تكن يومئذ لغة أهل اليمن، بل كانت الحميرية لغتهم، وبينها وبين لسان عدنان اختلاف عظيم. (2-3) اليمانية المهاجرة
تفرقت القبائل القحطانية في وسط الجزيرة وشمالها بعدما نبت بها اليمن. فمنها من سكن البادية وعاش فيها عيشة الأعراب الجفاة؛ ومنها من نزل القرى وأطراف الشام والعراق. وكان الذين هاجروا من حمير قبائل قضاعة، فاستوطنت تنوخ العراق، وكلب بادية الشام، وعذرة وادي القرى في الحجاز. وكان الذين هاجروا من كهلان قبائل الأزد فنزلوا عمان. ومنهم الغساسنة في الشام، وخزاعة بمكة، والأوس والخزرج بيثرب. ومن كهلان بنو لخم ملوك العراق، ومنهم المناذرة، وبنو طيئ في جبلي أجأ وسلمى، وبنو عاملة وبنو جذام في بادية الشام، وبنو كندة، وكانوا أقيالا في حضرموت يخضعون للتبابعة، فاتسع سلطانهم إلى الأنحاء الشمالية، فسادوا قبائل غطفان وأسد في نجد، وقبائل بكر وتغلب في ديار ربيعة، حتى بلغ الأمر بأحد ملوكهم الحارث بن عمرو أن ينافس المناذرة والغساسنة، وأغار مرة على الحيرة فشرد ملكها المنذر الثالث ابن ماء السماء. فلما عاد المنذر إلى ملكه، أوقع بالكنديين، فأخذ منهم نحو خمسين أميرا وذبحهم بجفر الأملاك في ديار بني مرينا بين دير هند والكوفة، وفيهم يقول امرؤ القيس:
ألا يا عين بكي لي شنينا
وبكي لي الملوك الذاهبينا
11
ثم قتل الحارث في أرض بني كلب، وقتل بعده ابنه حجر والد امرئ القيس الشاعر. فتحلحل بناء كندة منذ اليوم، وكر بعضهم إلى مواطنه الأولى في حضرموت.
وكانت اللغة العدنانية صاحبة السلطان على القبائل القحطانية المهاجرة إلى الشمال؛ ذلك بأنها لغة البلاد التي استوطنوها، فاصطلحوا عليها في أدبهم، ونظموا بها شعرهم، ونبغ منهم شعراء مجيدون، هدهدوا البادية بأنغامهم، وتبوءوا سدة الرئاسة بشاعرهم امرئ القيس أمير بني كندة. (2-4) ملوك العراق
كان العراق في أوائل القرن الثالث للميلاد يضم إليه شعوبا من القبائل اليمانية المهاجرة عرفوا جميعا بالتنوخيين، على ما فيهم من قبائل لخمية وأزدية وأخرى عدنانية. فعاش منهم جماعة عيشة البدو، دأبهم الغزو وشن الغارات، وانصرف آخرون إلى حرث الأرض وعمارتها، فأنشئت المزارع والقرى، ومصرت الحيرة
12
قاعدة الإمارة اللخمية التي أقامها الفرس وقاية لحدودهم، وسدا يدفعون به غارات الروم وعمالهم الغساسنة، وأقطعوها اليمانية، كما أقطع الروم إمارة الشام، لما لقبائل اليمن من حضارة قديمة، ويد سابقة في إدارة الملك وسياسة الرعية.
وكان أول أمير من اللخميين عمرو بن عدي، ولي الملك من قبل سابور الأول في نحو منتصف القرن الثالث، ثم تداول الملك خلفاؤه، وتقدمت الحيرة في عهدهم تقدما بينا، فأنشئت فيها المدارس الفارسية، فنالت قسطا من الثقافة، وشاعت بها الكتابة العربية، ولا سيما عند القبائل النصرانية التي كانت تعرف بالعباد، لعبادتها الله. وفتح الأمراء أبواب قصورهم لشعراء البادية، منافسين أعداءهم الأمراء الغسانيين، متوسلين بالشعر إلى بسط نفوذهم على القبائل العربية ليستعينوا بها في حروبهم، ويستفيدوا منها في حياتهم الاقتصادية. فكان عبيد بن الأبرص يفد على المنذر الثالث صاحب الغريين،
13
وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وطرفة والمتلمس والمثقب العبدي يفدون على عمرو بن هند،
14
والنابغة والمنخل اليشكري ولبيد وحسان بن ثابت والربيع بن زياد ... وسواهم، يفدون على النعمان الثالث أبي قابوس. ونبغ في زمن النعمان هذا شاعر الحيرة الأوحد عدي بن زيد النصراني.
وكان ملوك الحيرة وثنيين، مع انتشار النصرانية في العراق، ومنهم من كان مزدكيا كالمنذر الثالث، ويزعم بعضهم أنه تنصر، وليس هذا بثابت، وربما تنصر غيره من أمراء الحيرة.
وتضعضع ملك المناذرة بعد النعمان أبي قابوس،
15
وصارت ولاية الحيرة إلى إياس بن قبيصة الطائي. ثم تولاها الفرس حتى جاء الإسلام وافتتحها خالد بن الوليد سنة 633م. (2-5) ملوك الشام
هاجرت القبائل اليمانية إلى أطراف الشام، كما هاجرت إلى أطراف العراق، واتخذ القياصرة منها عمالا لحماية الحدود؛ كما اتخذ منها الأكاسرة. فكان الضجاعم من بني سليح يلون البلقاء في عبر الأردن، ويرجعون بأمورهم إلى ملك الروم، حتى جاء الغساسنة بنو جفنة، فزاحموهم في عقر دارهم وأزعجوهم عنها في أواخر القرن الخامس، واستولوا على البلقاء وما يليها من الأردن وحوران وغوطة دمشق. ولم يجد العاهل البيزنطي بأسا في استعمال الغسانيين بدلا من الضجاعمة، فأقطعهم تلك البلاد، ومنح أمراءهم الألقاب السنية، وألبسهم الأكاليل والتيجان.
واختلف في أول من ملك منهم لغموض تاريخهم، فقيل إنه جفنة بن عمرو، وقيل بل هو ثعلبة بن عمرو بن جفنة، وجارى نيكلسون ابن قتيبة فجعله الحارث بن عمرو. أما نولدكه - وهو أوثق من يعتمد عليه في تاريخ الغساسنة - فيرجح أنه أبو شمر جبلة بن الحارث بن ثعلبة. بيد أن أول أمير اشتهر منهم واتسع سلطانه هو الحارث بن جبلة المعروف بالحارث الأكبر صاحب الغزوات المظفرة، والألقاب الرفيعة.
16
وخلفه ابنه المنذر فحارب اللخميين، وقهر ملكهم قابوس بن المنذر سنة 570، يوم عين أباغ
17
قرب الحيرة، وزار عاصمة الروم سنة 580م، وعليها طيباريوس، فتوج فيها. إلا أن القيصر لم يلبث أن سخط عليه، فأمر باعتقاله، وجاء به إلى القسطنطينية في أواخر سنة 581م،
18
ومنع عن أبنائه الجعالة السنوية، فثاروا في الشام، وشنوا الغارات على الأراضي البيزنطية، فطاردتهم جيوش الروم، وأسرت النعمان أخاهم الأكبر، فمال عرش الغساسنة إلى الضعف، وانفصلت عنه عدة إمارات، حتى إذا استولى الفرس على ديار الشام هوى العرش، وذابت الإمارات، وخضع أكثر أصحابها للفاتحين. على أنه عاد للغساسنة شيء من ملكهم بعدما طرد هرقل الفرس من سورية وفلسطين سنة 628، فإن مؤرخي العرب يجمعون على أن جبلة بن الأيهم آخر من ملك من بني جفنة، وأنه كان في مقدمة جيش الروم يوم اليرموك سنة 636 ثم انحاز إلى الأنصار وقال لهم: «أنتم إخوتنا وبنو أبينا.» وأظهر الإسلام ثم ارتد وخرج إلى بلاد الروم.
19
ويروون عن إسلامه وارتداده أخبارا مختلفة لا تخلو من الاصطناع.
وكان للغساسنة قسط من الحضارة لا ينبغي إنكاره لتأثرهم بحضارة البيزنطيين، ولم تكن دولتهم بدوية خالصة، لا عاصمة لها، كما زعم بعض المستشرقين، بل كان لهم مستقر في جابية الجولان حينا، وفي جلق
20
آخر، وربما كانت بصرى من قواعدهم. ويضيف إليهم مؤرخو العرب بناء القصور العالية، والبنايات العامة؛ فمهما يكن في أقوالهم من الغلو، فهي أقرب إلى الدلالة على الترف والعمران منها على البداوة والخشونة. وفي بائية النابغة التي يمدح بها أبناء جفنة وصف لملابسهم وحفلاتهم الدينية يدل على نعمتهم وتقدمهم في الحضارة، ويذهب المستشرق نيكلسون إلى أن مدينة الغساسنة كانت أوثق من مدينة اللخميين.
ووفد شعراء البادية على قصورهم، كما وفدوا على قصور ملوك العراق، ومدحوهم بأحاسن الأشعار، فرجعوا من عندهم بأحاسن الصلات، وأشهر مداحيهم: علقمة الفحل، والنابغة، وحسان بن ثابت.
وكان الغساسنة يدينون بالنصرانية، على مذهب اليعقوبية المبتدعة، فأسخطوا عليهم - غير مرة - قياصرة الروم الكاثوليكيين، ولكن حاجة هؤلاء إليهم كانت تحملهم على أخذهم بالحسنى والتساهل. وربما كانت عقيدتهم المخالفة من أسباب سقوط بعض ملوكهم، كما سقط المنذر بن الحارث بعدما أمر القيصر باعتقاله ونفيه. (2-6) العرب العدنانية المستعربة
يعود المؤرخون بنسب العرب العدنانية إلى إسماعيل بن إبراهيم من جاريته هاجر، ويروون على ذلك أنه لما ولد إسماعيل أمر الله إبراهيم أن يذهب به وبأمه إلى مكة، ففعل. وجاءت جرهم وقطوراء، وهما قبيلتان من اليمن، فنزلوا مكة، فتزوج إسماعيل من جرهم، وكان من ذريته عدنان أبو العرب المستعربة، ومن عدنان كانت القبائل النزارية بشعبيها الكبيرين ربيعة ومضر. ولا تخلو سلسلة الأنساب - كما يرتبها النسابون متحدرة من عدنان إلى معد، إلى نزار، إلى ربيعة ومضر، إلى البطون والأفخاذ المتفرعة - من وهم واختلاط.
وكان الشمال موطن العرب العدنانية، كما كان الجنوب موطن العرب القحطانية، وهذا لا يعني أن الشمال استأثر بالعدنانية وحدها، ولا أن العدنانية لم يتخذ بعض قبائلها موطنه في الجنوب، أو في أطراف الشام والعراق.
وغلبت البداوة الخشنة وسكنى الخيام على عرب الشمال، فكان العدنانيون في كثرتهم بدوا رحلا لا يأنسون بقرية، ولا يتفيئون ظلا معمورا إلا أقلهم كبني قريش في مكة، وبني ثقيف في الطائف.
على أن هؤلاء البدو الجفاة هم الذين أنبتوا فحول الشعراء، وجاءنا عنهم الشعر الكثير. (2-7) مراجع
المسعودي: مروج الذهب 1.
البلاذري: فتوح البلدان.
الألوسي: بلوغ الأرب 1-2-3.
نولدكه: أمراء غسان، الترجمة العربية، زريق وجوزي.
أحمد أمين: فجر الإسلام.
الأصفهاني: الأغاني.
ابن عبد ربه: العقد الفريد 3.
نيكلسون: تاريخ الأدب العربي.
الطبري: تاريخ الأمم والملوك.
ابن رشيق: العمدة.
الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية. (3) أحوال العرب الاجتماعية
عرف الشعر الجاهلي بأنه ديوان العرب؛ لاشتماله على أخبارهم، وسائر أحوالهم، فجدير بنا، ونحن نمهد لهذا الشعر بلمحة تاريخية، أن نلم بأخلاقهم وصفاتهم، وما لهم من عادات وعقائد ونظم وعلوم؛ وإن الإلمام بهذه الشئون لمما يساعد على دراسة شعرهم واستجلاء مراميه. (3-1) شخصية العربي
للعربي شخصية قوية تظهر بأنانيته، ونزوعه إلى الحرية والاستقلال، وحبه الخير لنفسه دون غيره، والاستئثار بالجاه والذكر الحسن وحميد الصفات. وتظهر في جلده وصبره على الفقر والجوع والظمأ ومغالبة الطبيعة في صحرائه العاتية، تلك الصحراء التي لفحته بحرها فتركته أسمر اللون يابس الجلد خفيف اللحم، أسود العينين والشعر؛ واستولت على إحساسه بوحشتها، فجعلته حديد السمع والبصر، سريع التأثر، متوتر الأعصاب، مذعنا للقضاء والقدر؛ وعلمته بقحطها الغزو والترحل في طلب الماء والكلأ؛ وصيرته كريما مقداما يقري الضيوف ويلتقي الأهوال، ويمنع الجار ويغيث الملهوف، لتعرضه في ترحاله إلى أن ينزل ضيفا على غيره؛ وفي مخاوفه إلى أن يستغيث قوما يجيرونه، ويدفعون الضر عنه، حتى أصبح حب القرى وحسن الجوار من طبائعه، يفاخر بهما، ويرى من العار عليه ألا يكرم الضيف ويحامي عن الجار. (3-2) القبيلة
كانت عرب البادية تعيش قبائل متقاطعة، لا يجتمع بعضها إلى بعض إلا في حلف موقوت. فلم يستطيعوا في صحرائهم، وما يقتضي لها من حياة قبلية، أن ينشئوا مجتمعا راقيا، وقومية شاملة، ودولة موحدة، ولم تبتعد عصبيتهم عن القبيلة، وإن فاخروا بجنسهم واعتدوا به على سائر الأمم.
وبين الفرد والقبيلة صلة مكينة تجعل الفرد بجميعه للقبيلة، والقبيلة بجميعها للفرد. فإذا نزل عار بالقبيلة أصاب كل شخص منها، وإذا نبه ذكر شخص عاد فخره إلى القبيلة بأسرها، وتتحمل القبيلة جناية أخيها، وتنصره ظالما أو مظلوما.
21 (3-3) السيد
والعرب في استقلالهم القبلي ينكرون سيطرة الغريب عليهم، ولا يقبلونها إلا على كره، حتى إذا أصابوا فرصة، انتقضوا عليه وأزالوه، كما انتقضت بنو أسد على الملك الكندي، وعمرو بن كلثوم على عمرو بن هند. ولكنهم يذعنون لسيد منهم، إذا رأوا في سيادته خيرا لهم، فكان لكل قبيلة سيدها يجمع شملها ويقودها في الملم العصيب.
ولا تستقر السيادة في بيت واحد لأنانية العربي، ونزوعه إلى المنافسة،
22
فكانت تنتقل في القبيلة من بيت إلى آخر،
23
وقلما تعددت في بيت واحد؛ فكان تعددها من مفاخرهم. وأشرف البيوت عندهم بيت تتابعت فيه رئاسة آباء ثلاثة، ثم اتصلت بالرابع، فيسمى الكامل، كبيت حذيفة بن بدر في بني ذبيان، وبيت ذي الجدين في بني شيبان.
والبدوي في عنجهيته وحبه للرئاسة لا يخضع لمساو له، وإنما يخضع لمن هو أقوى منه، وينبغي أن يتحلى الرئيس بصفات محمودة عندهم، لتحق له السيادة في قبيلته، وأجل هذه الصفات: الغنى والكرم والحلم والشجاعة والفصاحة. وإذا قالوا: سيد معمم، أرادوا أن كل جناية في العشيرة معصوبة برأسه. قال دريد بن الصمة:
عاري الأشاجع معصوب بلمته
أمر الزعامة في عرنينه شمم
24
على أن هذه الصفات يندر أن تجتمع كلها في سيد واحد، بل يندر أن يخلو الرؤساء من عيوب الرئاسة.
25 (3-4) المرأة
تغلب صفرة اللون على النساء العربيات، وتستحسن فيهن إذا كانت ضاربة إلى البياض،
26
ويوصفن بسواد الشعر والعينين، واعتدال القامة، ورقة الخصر، وثقل الأوراك. والبدوي ينظر إلى المرأة كأداة للذة والنسل يريد منها أن تلد له غلمانا ينافس بهم غيره من الناس. والمنافسة بكثرة البنين من عاداتهم؛ لأن الصبي يرجى للذود عن الحمى، وإحياء الذكر، وبه يتسلسل النسب. فكانوا يكرهون ولادة البنت، وربما تشاءموا بها فوأدوها، وعرف الوأد في قبائل العرب قاطبة، بيد أنه لم يكن شاملا، فإذا استعمله واحد تركه عشرة، حتى جاء الإسلام فأبطله.
27
وكان يهمهم تزويج الحرة البيضاء؛ لأنها عرضة للسبي، فإذا صارت في كنف زوج، وضمها حماه كانت غلا في عنقه. وقد تخير في أمر زواجها، إذا كانت فطنة رشيدة، كما خيرت الخنساء في دريد بن الصمة.
والبدو يتزوجون صغارا لطبيعة أرضهم، ولرغبتهم في البنين. فالفتى يتزوج في الخامسة عشرة، والفتاة في العاشرة. وكانوا يرغبون في زواج البعداء؛ ليتألفوا أعداءهم بالمصاهرة، ويكثروا الأحلاف، وهم إلى ذلك يعتقدون أنه أنجب للولد وأبهى للخلقة، ويجتنبون زواج الأهل والأقارب، ويرونه مضرا بخلق الولد ونجابته.
ويخطب الرجل إلى الآخر ابنته، فيصدقها ثم يعقد له عليها. وله أن يعدد الزوجات مقدار طاقته، إلا إذا اشترطت المرأة عدم التعدد، وتعاقدا عليه.
وكانوا لا يجمعون في الزواج بين الأختين، ولا بين المرأة وابنتها، ولكنهم استحلوا زواج امرأة الأب، فأبطله الإسلام، وسماه زواج المقت لأنه ممقوت.
وربما تزوج بعضهم نساء بعض في غاراتهم بلا عقد، أو ذهبت المرأة إلى عدة رجال، فيأتي الولد لا يدري من أبوه ، فتلحقه أمه بمن تريد من الرجال الذين عرفتهم ، ولا يرفضه الرجل إذا كان ذكرا؛ أو يلجئون إلى القيافة ويلحقونه بأقربهم إليه شبها.
ويفاخرون بالولد إذا كانت أمه حرة بيضاء زاكية الأصل،
28
ويسمونها أم البنين، ويفاخرون بالأخوال، ويشبهون الأولاد بهم دلالة على النسب الحر، أما الأمة فتكون على الغالب سوداء، ولا يعترف بأبنائها إلا بعد أن تظهر نجابتهم، كما اعترف شداد العبسي بعنترة، وكما قال عمرو بن شأس في ولده عرار:
وإن عرارا إن يكن غير واضح
فإني أحب الجون ذا المنكب العمم
29
وللزوج عندهم حق الطلاق دون المرأة، إلا إذا اشترطته في عقد الزواج، ولا يحق للزوج أن يسترجع امرأته بعد تطليقها ثلاثا، ولكنه يسترجعها بعد تطليقها مرة أو مرتين. وإذا كانت المرأة في بيت من شعر، وأرادت الطلاق، حولت بابه إلى الجهة المقابلة، فيعلم زوجها أنها طلقته، فلا يدخل الخباء، شأن حاتم الطائي عندما طلقته زوجه ماوية.
وإذا مات الزوج تربصت سنة معتدة
30
لا تخرج من بيتها، ولا تمس ماء، ولا تقلم ظفرا، حتى إذا استكملت عدتها خرجت بأقبح منظر وأقذره، والعدة للمرأة انتظار ليعلم فيها وجود الولد وعدمه.
ونساء العرب يصحبن رجالهن إلى الحرب، فيحضضنهم على الصبر في مواقف القتال، ويمنعنهم أن يلوذوا بالفرار، ويداوين الجرحى، ويحملن قرب الماء، ويقتن الخيول، قال عمرو بن كلثوم:
يقتن جيادنا ويقلن لستم
بعولتنا إذا لم تمنعونا
ولهن حق الجوار كما للرجال، وعلى الرجل أن يحمي جار امرأته وأخته وأمه وجارته كما يحمي جاره.
وعرف منهن غير واحدة بالشجاعة، والفصاحة والشعر، وحسن الرأي والحكمة والعرافة. على أنهن مضعوفات في الجملة، يحتقر الرجال مكانهن، ويتشاءمون بولادتهن، ويسيئون الظن بأخلاقهن، فينعتونهن بالكيد والمكر والخيانة والخداع. (3-5) غزواتهم
كان للعرب حروب كثيرة، أو هي غزوات غير منظمة، يجعلون من أيامها مادة لفخرهم وإخزاء أعدائهم. وكثيرا ما كانت تقع من أجل النهب والسلب، أو مزاحمة على الماء والكلأ؛ ومنها ما كان يحدث لأسباب تافهة تعظمها عنجهية البدوي كحرب البسوس التي نشبت لمقتل ناقة، وكان الدافع إليها الحفاظ على الجوار؛ وحرب داحس والغبراء التي أفضى إليها التنافس في الرهان بين سيدي القبيلتين، وقلما وقعت حرب لدفع عدو غريب كحرب ذي قار بين الفرس وبني بكر، وحروب اليمن والأحابش، وإنما كانت حروبهم في الغالب داخلية قبلية، وإذا خرجوا بها عن شبه جزيرتهم فإلى تخوم العراق والشام ليتقاتلوا في سبيل كسرى وقيصر.
وهذه الحروب - على كثرتها - لم تكن تفجع البدو بالعدد الجم من الضحايا؛ لأن معظمها قائم على النهب والفرار بالغنيمة، حتى إن حرب البسوس التي تعاود القتال فيها بنو بكر وبنو تغلب أربعين سنة لم يقتل بها سوى قليل من الرجال. فقد كان البدوي يتحامى القتل جهده؛ لأن تقاليدهم تقضي بأخذ الثأر أو دفع الديات الثقيلة، وربما لا تغسل الديات الأحقاد؛ لما في قبولها وترك الدم من غضاضة، ثم لاعتقادهم أنه إذا قتل الرجل، ولم يدرك بثأره، خرج من رأسه طائر يشبه البوم يسمونه الهامة والصدى، فلا يزال يصيح: اسقوني اسقوني! حتى يقتل القاتل أو أحد أقاربه. قال ذو الإصبع العدواني:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حتى تقول الهامة اسقوني!
فشريعة أخذ الثأر - كما يسميها الأب لامنس
31 - خففت حوادث القتل؛ إذ جعلت الدم يدعو الدم، وفرضت على الموتور أن يحرم على نفسه أحب الأشياء إليه كالنساء والخمر والعسل والطيب. لا تحل له أو يأخذ بثأره.
ولم تكن جيوشهم منظمة بل أشتاتا يقودها سيد القبيلة، ويقوم على رأس كل فصيلة قائد يقال له المنكب، يأمر على خمسة عرفاء، والعريف يأمر على نفير
32
من الرجال، ومن عادة القبيلة أن تشترك كلها في الحرب للدفاع عن المال والنساء والأولاد، والبدوي لا يصبر في القتال إلا إذا خشي أن يستولي العدو على أهله وماله وولده. أما إذا غزا فإنما هو يطلب الغنيمة، فإن فاتته طلب الهرب، ولذلك كان الفر في حروبهم ملازما للكر، وقلما عرفوا قتال الزحف والثبات، ولا يستحيي أشد فرسانهم بطشا أن يحدثنا عن فراره، قال عمرو بن معدي كرب:
ولقد أجمع رجلي بها
حذر الموت وإني لفرور
33
وكان سلاحهم السيف والرمح والقوس والمجن، ويلبس فرسانهم الدروع والمغافر. وكانوا يرفعون الرايات، وربما اتخذوها من عمائم ساداتهم، ويتغنون بالشعر ويرتجزون محمسين أنفسهم؛ فإذا تم لهم النصر، عادوا بالأسلاب والسبايا فاقتسموها أنصبة، وأما الأسرى فمصيرهم إلى القتل أو يقدموا الفداء، ولا يطلقونهم إلا بعد أن يجزوا نواصيهم، فتحفظ في كنائنهم لأيام المفاخرات. قال الحطيئة:
قد ناضلوك فسلوا من كنائنهم
مجدا تليدا ونبلا غير أنكاس (3-6) معايشهم
كان عرب البادية يعتمدون في عيشهم على رعاية الإبل، ثم على الغزو والصيد وحراسة القوافل. وأما أهل الحواضر فإن وسائل الرزق اتسعت عليهم، وعرفوا أركان العمران الثلاثة: التجارة والزراعة والصناعة. وكانت اليمن في مقدمة البلاد العربية تحضرا وخصبا، فانبسطت تجارتها، ونمت زراعتها، وتوافرت لها الصنائع، ولا سيما الوشي والحياكة. وعرب الشمال - على بداوتهم وخشونة عيشهم - لم يحرموا التجارة في حواضرهم؛ فقد كانت مكة - في توسطها الطبيعي ومقامها الديني - محطة لقوافل اليمن والشام، وسوقا رائجة تعرض فيها بضائع التجار، واشتهر أهلها القرشيون برحلاتهم التجارية، فكانت لهم في السنة رحلتان: رحلة الصيف، ورحلة الشتاء. وكذلك أهل يثرب عرفوا بالتجارة، ولا سيما اليهود.
وهناك أسواق كانت تقام في أوقات معلومة للبيع والشراء، وأعظمها سوق عكاظ، وكان عرب الحيرة يتجرون مع الفرس، ويتولون حماية قوافلهم في عرض القفار.
وكذلك كان للزراعة شأن في بعض الحواضر الشمالية كالطائف ويثرب وخيبر ووادي القرى وتيماء. أما الصناعة فإن الأعراب كانوا يحتقرونها ويعيرون صاحبها، فهم أبعد الناس عنها كما يقول ابن خلدون، ومع ذلك ألموا بأشياء كالحدادة والنجارة والخياطة والصباغة، وكانت في القرى المعمورة، كمكة ويثرب والطائف.
وعلى الجملة فعرب الشمال لم يبلغوا شأو عرب الجنوب في الحضارة والأخذ بأسباب العمران، فصرفوا همهم إلى الغزو ينهبون الأموال، ويسبون النساء والأولاد، فيسترقونهم أو يبيعونهم في أسواق النخاسة؛ وإلى رعاية الإبل وحسن القيام على تربيتها؛ لأنها تقضي جميع حاجاتهم: تحملهم وتحمل أثقالهم، وتغذيهم بلحمها ولبنها، وتكسوهم وتبني بيوتهم بأوبارها؛ وبها يفتدون أسراهم، وعليها يقايضون في المبايعات، ومنها يؤدون المهور والديات والغرامات. (3-7) أديانهم
وكانوا في جاهليتهم على أديان مختلفة، ومذاهب متعددة، يؤلهون الأصنام والكواكب، ويعبدون الله، ويخلطون المذاهب بعضها ببعض، مازجين التوحيد بالشرك، والعقائد السماوية بالعقائد الوثنية. وهم إلى ذلك ليسوا على دين ثابت، أو عقيدة مكينة، شأنهم في حياتهم المتنقلة المضطربة.
وكان اليونان والرومان قد حملوا آلهتهم إلى بادية الشام، فأخذت العرب عنهم عبادة الأصنام، وأخذت المجوسية عن الفرس، واليهودية عن الذين هاجروا من بني إسرائيل هاربين من وجه الأشوريين، ثم من وجه الرومان بعد خراب الهيكل في السنة السبعين، وأخذوا النصرانية عن الرسل الذين دخلوا مبشرين بالمسيح، ثم عن أهل الشام زمن البيزنطيين، ثم عن الحبش في غاراتهم على اليمن واستقرارهم فيها.
وكانت الوثنية في القبائل أعم وأكثر انتشارا، والأصنام منصوبة في كل ناحية من نواحي الجزيرة، ولا سيما الكعبة، وتزعم الرواية العربية أن أول من دعا العرب إلى عبادة الأصنام عمرو بن لحي،
34
وكانوا على بقية من دين إسماعيل، فأفسد عقائدهم.
والطواغيت الكبار ثلاثة: اللات والعزى ومناة. وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب، فاللات
35
لأهل الطائف، والعزى
36
لأهل مكة، ومناة
37
لأهل المدينة، وكانت العرب تعظم هذه الربات، وتقصدها من كل صوب، وتجعل لها السدنة كما تجعلهم للبيت الحرام.
وأما أصنام الكعبة فكثيرة منتشرة حولها وفي جوفها، وأعظمها هبل
38
وكانوا يستقسمون عنده بالقداح،
39
ويستخيرونه في أمورهم وأعمالهم، ولعله إله الحظ عندهم.
والكعبة مزار لأكثر القبائل، يحجونها، ويعتمرون إليها، ويحرمون عندها، ويطوفون حولها سبعا، ويلثمون حجرها الأسود، ويكسونها الحلل والديباج، ويهدون إليها الهدي، وينحرونه متقربين، ويريقون دمه على أوثانها، ويسعون بين الصفا والمروة، ويرمون الجمار في منى، وكانت السيادة لقريش دون غيرهم، فهم سدنة البيت ورفدته وسقاته.
وفي العرب طائفة من عبدة الكواكب كحمير قبل أن يتهودوا، وكانوا يعبدون الشمس. وعبدت طائفة من تميم الدبران،
40
وعبد بعض قبائل لخم وجذام وقريش الشعرى العبور.
41
ومنهم من عبد النار، أو قال بالثنوية، أو بالدهرية. ومنهم من أحل زواج الأب بابنته. وهذه العقائد سرت إليهم من الفرس والمجوس وما عندهم من معتقدات مزدكية ومانوية. قيل إن المجوسية كانت في تميم، وقد تزوج حاجب بن زرارة ابنته مخالفا سنة العرب، متبعا سنة مزدك. وقيل إن الزندقة في قريش، ولعلها المانوية التي تقول بإله النور وإله الظلام، أو لعلها الدهرية التي تنكر الخالق والآخرة.
على أن العرب - مع إشراكهم وتعدد معبوداتهم - كانوا يميلون في جملتهم إلى التوحيد، ويتقربون إلى الله بعبادة الأصنام والكواكب كأنهم يجعلونها ذرائع للوصول إليه، ولا ريب أن اليهودية والنصرانية كان لهما يد فعالة في توجيه الفكر العربي إلى الوحدانية.
وكانت اليهودية في يثرب وفدك ووادي القرى وخيبر وتيماء واليمن؛ فمنها قبائل عبرانية استعربت كالنضير وقريظة وقينقاع؛ ومنها قبائل عربية تهودت أو تهود بعضها كحمير وكندة وكنانة والحارث بن كعب.
وكانت النصرانية في حوران وبادية الشام وبين النهرين والعراق والبحرين وعمان واليمن ومكة والطائف، وانتشرت في قبائل ربيعة وكندة وقضاعة وجذام وغسان وتميم. وكانت كعبة نجران مزارا للمتنصرة وحرما كمكة لا يحل انتهاكه. ولكن النصرانية التي شاعت في قبائل العرب لم تكن صافية خالصة؛ لأنهم أخذوها - في الغالب - عن المبتدعة المارقين، فمنهم النساطرة القائلون بأقنومين في المسيح، وهم نصارى حوران وبادية الشام وبين النهرين واليمن، ومنهم المريميون، وهم الذين يؤلهون مريم العذراء، وقد ورد ذكرهم في القرآن؛ ومنهم الحنيفية، ومذهبهم خليط من النصرانية واليهودية، وكان منهم أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل. (3-8) عقائدهم
كانت العرب تؤمن بوجود الجن والعفاريت، وبمخالطتها للإنس في السكنى والاستهواء والمؤاكلة والزواج، ولهم فيها شعر وأخبار كثيرة. ويؤمنون بزجر الطائر. يتفاءلون به إذا سنح، ويتشاءمون إذا برح؛ وبالكهانة والعرافة والهامة؛ ويعوذون أطفالهم بسن ثعلب وسن هرة خوفا من الخطفة والنظرة، ويتعوذون من الجن بالأدعية وسواها، ويتطيرون من الغراب، كما قال النابغة:
زعم العواذل أن فرقتنا غدا
وبذاك خبرنا الغراب الأسود
ولهم غير ذلك عقائد كثيرة سيمر شيء منها في دراستنا لأشعارهم. (3-9) علومهم
لم يكن للعرب في بداوتهم من العلوم إلا بعض إلمام بما يحتاجون إليه في حياتهم الفطرية، فقد عرفوا شيئا من الطب والبيطرة، وكانوا يداوون مرضاهم بالعقاقير والكي والحجامة والأشربة، وخصوصا العسل، علاج وجع البطن عندهم. وربما استعملوا السحر والرقى والتعاويذ لإبراء الملسوع وإخراج الجن والشياطين. وأطباؤهم - في الأغلب - الكهان والعرافون، وقل من كانت له معرفة صحيحة بهذا الفن كالحارث بن كلدة الثقفي.
42
وعرفوا شيئا من علم النجوم ومهاب الرياح بكثرة تتبعها والنظر إليها؛ لأنهم كانوا يهتدون بها في أسفارهم، ويستدلون على سقوط الغيث.
وكانت لهم معرفة بالأنساب والأيام والأخبار والأساطير، وبالقيافة، وهي الاستدلال بهيئة الإنسان وأعضائه على نسبه، والاستدلال بآثار الأقدام على أصحابها؛ وبالكهانة، وهي معرفة الأمور المستقبلة وتعبير الرؤى والأحلام؛ وبالعرافة، وهي مختصة بالأمور الماضية، وأشهر الكهان عندهم شق وسطيح
43
وهما من أهل الأساطير، وأشهر العرافين: عراف نجد وعراف اليمامة.
وكان عرب اليمن والحواضر المتاخمة أوسع علما وحضارة من عرب البادية؛ لاتصالهم بالفرس والروم والسريان. (3-10) مراجع
المسعودي: مروج الذهب.
ابن الكلبي: كتاب الأصنام.
ابن خلدون: كتاب العبر.
نيكلسون: تاريخ الأدب العربي (الترجمة العربية لحسن حبشي في مجلة الرسالة المصرية).
نوفل الطرابلسي: صناجة الطرب.
ياقوت: معجم البلدان.
ابن خلدون: المقدمة.
الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.
الألوسي: بلوغ الأرب.
جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية.
أحمد أمين: فجر الإسلام. (Henri Lemmens, le Berceau de l’Islam) . (4) لغة العرب وأدبهم (4-1) العربية
العربية هي إحدى اللغات المشتقة من الأصل السامي، وبينها وبين شقيقاتها مشابهات كثيرة. وكانت في العصر الجاهلي منقسمة على لسانين: الحميري في الجنوب، والعدناني في الشمال، وكلاهما يغاير الآخر في أوضاعه وأحكامه، وإن تشابها في كثير من الألفاظ والتراكيب. وكان عمرو بن العلاء يقول: «ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا.» وقال ابن خلدون في مقدمته: «ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في كثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها.» ويرى المستشرق نيكلسون أن الحروف الهجائية في لغة الجنوب أقرب إلى الحبشية منها إلى لغة أهل الشمال.
واللسان العدناني هو الذي نستعمله اليوم في الكتابة، على ما لحقه من تحضر وتبدل، وبه جاء الأدب الجاهلي، ولم يأتنا أدب بلسان حمير؛ لأن لغة الجنوب فقدت سيادتها بعد كساد التجارة هناك، وسيل العرم في مأرب، وتشتت أهلها وهجرتهم إلى الشمال؛ ثم أفضى بها إلى الضعف غزوات الحبش والفرس ونزولهم في اليمن.
وكان اللسان العدناني متعدد اللهجات بتعدد القبائل التي تنطق به، ولكنه لم يختلف في أحكام التركيب والتصريف والاشتقاق؛ بل اقتصر في تغاير لهجاته على طائفة من الأوضاع تخالفت القبائل في استعمالها، وعلى انحرافات لفظية من قلب وإبدال وزيادات.
44
وكانت مكة بما لها من تأثير ديني وتجاري، مجتمعا للقبائل العربية، على اختلاف لغاتها، يحضرون المواسم، ويحجون البيت، ويتقارضون الشعر. وكانت تقام الأسواق في عكاظ وغيرها، فيؤمها الناس من كل صوب، يبيعون ويشترون حتى إذا انتهوا من متاجرهم، انصرفوا إلى اللهو والطرب، فينشد شعراؤهم على مسمع من الجماهير المحتشدة، ويتناظرون ويتفاخرون.
فهذه المجامع بما لها من صبغة أدبية على حالتيها الدينية والتجارية، مشت محمودة الخطى إلى توحيد لسان عدنان. فصار الشعراء والخطباء يختارون الألفاظ التي يألفها القبائل على اختلاف لهجاتهم، ويهملون مستقبح الكلمات والانحرافات، فنشأت عن ذلك لغة أدبية مهذبة عرفت بلغة قريش؛ لما لتلك القبيلة من نفوذ ديني واقتصادي في مكة وعكاظ، واقتصر انحراف اللهجات أو كاد يقتصر على لغة التخاطب، وامتد سلطان الأدب إلى الجنوب؛ لاختلاط القبائل بعضها ببعض في مهاجراتها وأسفارها وشهودها المواسم؛ ثم لسيادة لسان عدنان بعد ضعف لسان حمير؛ ولذلك استطاعت وفود اليمن أن تفهم القرآن، وتجادل النبي فيه، ونزول القرآن بلغة قريش وطد سلطانها، وجعل كل لهجة تغايرها تنهزم أمامها.
ولسان العرب في جاهليتهم يمثل حالتهم الفطرية أصدق تمثيل بما له من ثروة متسعة في الألفاظ الدالة على حياة البداوة، وحدود مرافقها المادية، وبما به من فقر إلى أوضاع تعبر عن الشئون الحضرية المتنوعة، وفوارق الحالات النفسية الدقيقة، ومختلف العلوم والآداب والفنون.
ومع أن العرب اختلطوا في أسفارهم بالأمم المتحضرة، وشاهدوا عن كثب أسباب عمرانها، لم يتأثروا بها تأثرا بليغا؛ لأنهم لم يطلبوا العلم عندها لما هم عليه من الأمية والبداوة، بل اجتزءوا بالبيع والشراء، فكان ما أخذوه من الألفاظ العجمية وعربوه ليسدوا به ثلمة لغتهم، قليلا جدا بالإضافة إلى كثرة حاجاتها.
والألفاظ الدخيلة على اللغة أخذت في الغالب من الفارسية والرومية والهندية، وأكثرها يختص بالأدوات والمنسوجات والشجر والعقاقير، جاءت بها قوافل التجار وأصحاب الرحلات؛ ومن العبرانية والسريانية والحبشية، ولا سيما الألفاظ التي لها علاقة بالدين، أدخلها اليهود والنصارى الذين خالطوا العرب في الحجاز واليمن وأمصار الشام والعراق.
وطبيعي أن تكون لغة العرب المتحضرة في اليمن وعمان والبحرين والحيرة والشام أكثر اتساعا لمعاني الاجتماع والعمران من لغة أهل الوبر في الشمال، غير أنها لم تصل إلينا في جملتها؛ لأن الذين جمعوا اللغة من المسلمين، أهل البصرة والكوفة، نبذوا كل لغة تخالف لغة القرآن، واقتصروا على اللسان المضري، ينقلون ألفاظه وتراكيبه عن قبائل مضرية خالصة البداوة، ما جاورت الأعاجم ولا خالطتهم، كتميم وقيس وأسد وكنانة وهذيل، ولم ينقلوا عن سكان الحواضر، ولا عن سكان البراري المجاورة للأمم الغربية، فحرموا اللغة أوضاعا كثيرة تفتقر إليها. ولم يخلص إلينا من الألفاظ الدخيلة إلا ما تكلمت به هذه القبائل، أو جرى على ألسنة الشعراء. أو أثبته القرآن.
45
واللغه الجاهلية قوية التعبير، لا تخلو من خشونة البداوة وغرابة اللفظ، كثيرة الإيجاز، حافلة بضروب الكناية والمجاز، تسلس للشعر والوصف والاندفاعات الخطابية، ولا تلين للعلوم والآداب والفنون. (4-2) الكتابة
غلبت الأمية على العرب في جاهليتهم، ولا سيما عرب البادية؛ لأن حياتهم الفطرية في حدودها السياسية والاجتماعية لم تتسع لصناعة الكتابة التي إنما تنشأ بنشوء الجماعة المنظمة، وتنمو بنمو القوى المفكرة، وتعظم بعظم الحاجة إليها. بيد أن سكان الحواضر من أهل اليمن اصطنعوا الكتابة لما هم عليه من تقدم العمران، ويعرف خطهم بالمسند الحميري؛ حروفه منفصلة، وفيه شبه بالكتابة الحبشية، ومنه تفرع الخط الكوفي. وترك اليمانون من آثارهم نقوشا حجرية يرجع أبعدها عهدا إلى المائة الثامنة قبل المسيح،
46
كشف عنها المنقبون الأوروبيون من إنكليز وألمان وفرنسيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وجعلت أساسا للبحث التاريخي في مدينتي سبأ وحمير.
ولم يحرم عرب الشمال فن الكتابة على شيوع الأمية فيهم؛ فإن النصارى في العراق والجزيرة علموا جيرانهم الخط المعروف بالجزم،
47
وله صلة بالآرامي النبطي، فكانت الكتابة العربية في الأنبار والحيرة وما جاورهما. وكذلك النصارى الأنباط في فلسطين الثالثة
48
علموا من جاورهم من عرب الشام الخط النسخي الجليل المتفرع من الجزم. وتعلم بعض القرشيين خط الجزم من نصارى الحيرة في رحلاتهم التجارية إلى العراق، فحملوه إلى مكة، فظهرت فيهم الكتابة قبل الإسلام، وظهرت أيضا في يثرب، والفضل في ظهورها لليهود.
ولبثت الكتابة قاصرة في الجاهلية لا يتعلمها من العرب إلا أفراد من أهل الحواضر، وإذا تعلموها لا يبلغون فيها حد الإحكام والإتقان، ولا يستعملونها إلا في شئونهم الاقتصادية، ولم يخلف الشماليون نقوشا حجرية بلغتهم العدنانية الخالصة، كما خلف الجنوبيون بلغتهم القحطانية، إلا ما كان من الآثار التي وجدت في حوران، مكتوبة بلغة نبطية تغاير أحكام اللسان العربي في كثير من ألفاظها وتراكيبها.
49
وبقي العرب لأول الإسلام لا يجيدون الكتابة، ولا يسلمون من الغلط في الإملاء، كما تدل المصاحف التي رسمها الصحابة بخطوطهم
50
حتى نزلوا الكوفة والبصرة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، فعنوا بإتقانها، وكتبوا بالخطين النسخي والكوفي. ثم ترقت الخطوط بعد الفتوح الكثيرة، وتشعبت فروعها في بغداد وإفريقية والأندلس إلى أن بلغت حالتها الحاضرة. (4-3) الأدب
كان الأدب الجاهلي شفهيا يحفظ في الذاكرة لا في الأوراق، والشعوب الفطرية أحد ذاكرة من الشعوب المتحضرة التي شاعت الكتابة عندها؛ لأن الشعب الذي لا يملك الكتابة ليعتمد عليها في حفظ آثاره، يضطر إلى استخدام ذاكرته للحفظ، فتقوى بالاستعمال، ويسهل عليها اختزان مختلف الآثار، وتكثر الرواة في العصور الشفهية، فتقوم مقام الكتب والدفاتر.
وكان لكل شاعر في الجاهلية راوية يحفظ شعره، ويرويه الناس، وربما روى الشعراء بعضهم لبعض، فقد كان زهير راوية لأوس بن حجر، والحطيئة راوية لزهير. وقد تشتهر قصيدة لشاعر فترويها قبيلته، كما اشتهرت معلقة عمرو بن كلثوم، فكانت بنو تغلب تعظمها، ويرويها كبارها وصغارها.
وبطريق الرواية دون الأدب الجاهلي في الإسلام بعد شيوع الكتابة، ولكنه لم يصل سالما، فقد ضاع منه شيء كثير لم ينقله الرواة، أو ضاعت روايته فلم تبلغ إلينا،
51
ودخل عليه نحل مما وضعته العشائر والرواة والعلماء في الإسلام لأسباب منها: المنافسات القبلية،
52
ومنافسات الرواة في الحفظ، وحرصهم على التكسب والحظوة به. حتى إنهم وضعوا أشعارا على آدم وإبليس والملائكة والجن؛ وعلى عاد وثمود والعمالقة. ومنها منافسات علماء البصرة والكوفة في إيراد الشواهد الشعرية لتفسير الألفاظ التي أشكل فهمها، وتخريج المسائل اللغوية والنحوية.
على أن هذا النحل لا يجعل سبيلا لتعميم الشك في الشعر الجاهلي، ولا سيما القصائد التي أجمع الأدباء العباسيون على روايتها، ولم يختلفوا في نسبتها إلى أصحابها. وكثير من الشعر المنحول أشار إليه النقاد الأقدمون كابن سلام والأصفهاني، وكذبوا رواته. وأما ما جاء به العلماء من الشواهد الشعرية، فإذا كان في بعضه من اصطناع فإنما هو مقتصر على أبيات متفرقة لا يتعداها إلى القصائد.
والأدب الجاهلي في معظمه قائم على الشعر؛ لأن أكثر ما جاءنا من النثر مشكوك فيه. حتي لو صحت الخطب التي خلصت إلينا، لما رأينا فيها مادة كافية للدرس، وهكذا يصح القول في الأمثال وسجع الكهان.
والإنسان الفطري، في صفاء نفسه وفيض شعوره وصدق مخيلته، شاعر بالطبع، ولذلك كانت لغة النثر في الشعوب القديمة محاكية لغة الشعر في مجازها وخيالها وموسيقى ألفاظها. والأدب العربي في طفولته لا يخرج عن هذه السنة الطبيعية، فلغة النثر كلغة الشعر تكاد لا تختلف إلا بالأوزان والقوافي. والشعر في أول أمره لم يكن إلا أشطرا لا ضابط لها، يرتبها البدوي على هواه ويتغنى بها ويحدو إبله، والإنسان من طبعه أن يميل إلى الغناء في حزنه وسروره، في خوفه وأمنه، في راحته وتعبه. ولعل السجع الذي كان ينطق به كاهن القبيلة وشاعرها، هو المظهر الفني الأول للأدب العربي، بل هو المادة المشتركة بين الشعر والنثر. ثم أخذ الشعر ينفرد بأوزانه وقوافيه، فظهر أولا بحر الرجز ألين البحور وأدناها إلى السجع في حال تطوره؛ ثم تفرعت البحور وتنوعت، فما تلألأت النهضة بالمهلهل وامرئ القيس إلا كان للشعر أوزان مستقلة، وأصبحت القصيدة تنظم على بحر واحد لا تحيد عنه مهما تطل أبياتها.
53
وأما بدء النهضة فما يمكن الرجوع به إلى تاريخ معروف لضياع الآثار التي وجدت قبل الشطر الأخير من القرن الخامس. ولكن الرواة يتفقون على أن عهد المهلهل وامرئ القيس هو عهد ازدهار الشعر، وظهور القصائد الطويلة، واستقرار الأسلوب التقليدي. ويعود المؤرخون من أهل عصرنا بالنهضة إلى الحروب التي حدثت، فيرى المستشرق نيكلسون أن فجر العصر الذهبي للشعر هو السنوات العشر الأولى من القرن السادس، بعد اشتداد حرب البسوس، واهتمام الشعراء بذكر أيامها!
54
ويعود جرجي زيدان إلى أبعد من ذلك، إلى استقلال عرب الحجاز عن اليمن في أواخر القرن الخامس وما تلاه من حروب وغزوات كحرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، وعام الفيل، وحرب الفجار.
55
ولا ريب أن الحروب لها أثر بليغ في إذكاء القرائح، وعلى الأخص بعد انطفاء جذوتها، وسكون النفوس المضطربة؛ إذ لا يأتي عمل فني محكم، والنفس جائشة لا قرار لها. فإذا اطمأنت الخواطر ظهر الشعر فخرا ومنافسة ووصفا للمعارك يتغنى به المنتصرون، وندبا ورثاء للسادة المقتولين، وحضا على الأخذ بالثأر، تنوح به النادبات ويترنم الموتورون.
وكانت حروب العرب كثيرة، وأشدها دفعا لقول الشعر أعظمها وقعا في القبائل، كالحروب التي ذكرها زيدان وجعلها من أسباب النهضة؛ وكذلك مقتل عمرو بن هند وما أعقب من وقائع بين تغلب والمناذرة؛ ومقتل النعمان بن المنذر وما كان بعده من حرب ذي قار بين الفرس والعرب، ثم حروب الأوس والخزرج. فهذه المعارك - على اختلاف القبائل التي صلت نارها - أورثتنا شعرا غزيرا كان خير مستند لدرس الحياة البدوية قبل الإسلام، وذكر ابن سلام تأثير الحروب في نظم الشعر فقال: «والذي قلل شعر قريش أنهم لم يكن بينهم نائرة ولم يحاربوا.»
56
على أن أسباب النهضة لم تقتصر على الحروب. فهناك هجرة اليمنيين واختلاطهم بالعدنانيين، فهذا الاختلاط في السكنى والزواج أحدث - ولا بد - تفاعلا في الأذهان، وولد منافسات حزبية لا نهاية لها، وكذلك الأسواق - وعلى رأسها عكاظ - فإنها استحثت قرائح الشعراء؛ لاحتشاد القبائل فيها للبيع والشراء، والمفاخرة والمنافرة. والشاعر عند العرب له تأثير عظيم ومقام سام، فهو محامي القبيلة وخطيبها ومؤرخها، وقد يكون كاهنها أيضا؛ لما له - في اعتقادهم - من صلة بالأرواح؛ إذ جعلوا له شيطانا أو تابعا من الجن يوحي إليه الشعر، ويلقنه الآراء والحكم والمواعظ. فهذه المنزلة الرفيعة في مجتمعه جعلته ينشط للقيام بمهمته كلما دعاه الأمر إليها. فكثر الشعر وقائلوه، وتبارت القبائل في تقريب الشعراء وإكرامهم، ولا سيما الغرباء منهم، ليمدحوهم ويشيدوا بذكرهم، وكانت قصور المناذرة والغساسنة تستقبل شعراء البادية، وتحسن لهم الصلات، فأثرت في نهضة الشعر تأثيرا بليغا.
ويتفق المؤرخون الأقدمون على أن الشعر نهض أولا في ربيعة، ويعود ذلك - ولا ريب - إلى حروبها الكثيرة، سواء بينها وبين اليمن، أو بين قبيلتيها بكر وتغلب، أو بين بكر والفرس، أو بين تغلب واللخميين. ثم تحول الشعر في قيس عيلان، وعرف شعراؤها في سوق عكاظ، وفي حرب داحس والغبراء. ثم صار زمن النبوة إلى قريش والأنصار بعامل الحروب التي حدثت بين المسلمين الأول والمشركين.
ولبث الشعر طوال العصر الجاهلي محصورا في البادية لا يتنفس في خارج الجزيرة إلا بشعراء منها يقصدون الشام أو العراق لمدح الغساسنة والمناذرة، ولم يعرف في الحيرة غير شاعر واحد هو عدي بن زيد، وأصله من عرب الجزيرة من تميم. والظاهر أن اختلاف لغة مضر عن لغة الشام والعراق - وهي غير خالصة العروبة؛ لما شابها من الآرامية - صرف الرواة المسلمين عن جمع أشعارها كما صرف اللغويين عن نقل ألفاظها وتراكيبها؛ لمخالفتها لغة القرآن، وهذا لا يمنع أن يكون بنو جفنة وبنو لخم قد عرفوا لغة مضر وفهموها، واستقدموا شعراءها إلى قصورهم وأجازوهم لكي يشيدوا بذكرهم في القبائل العربية، لحاجتهم إلى بسط سلطانهم عليها، والإفادة منها في حروبهم، فكانوا لذلك مضطرين إلى معرفة اللغة العدنانية؛ وربما استرضعوا أطفالهم في البادية ليأخذوا اللسان عن الأعراب. (4-4) مراجع
ابن سلام: طبقات الشعراء.
أبو زيد القرشي: جمهرة أشعار العرب.
نيكلسون: تاريخ الأدب العربي.
المسعودي: مروج الذهب.
طه حسين: الأدب الجاهلي.
ابن خلدون: المقدمة.
ابن هشام: السيرة النبوية.
ابن قتيبة: الشعر والشعراء.
الألوسي: بلوغ الأرب 2-3.
جرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية 1.
أحمد أمين: فجر الإسلام.
السيوطي: المزهر.
الأب شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية.
هوامش
الشعر الجاهلي
(1) ميزته
للشعر الجاهلي أبواب رئيسية مستقلة، وهي الفخر والحماسة، والمدح، والهجاء، والرثاء؛ وأغراض إضافية غير مستقلة أو ثانوية: كالغزل، والطبيعة، والخمريات، والحكم والمواعظ.
والوصف أعظم ركن يعتمد عليه شاعرهم في مختلف أبوابه وأغراضه؛ لما له من عين نافذة حديدة اللحظ دقيقة المراقبة، تتنبه لكل ما يحيط بها من الموصوفات، وهي محدودة في البادية، فإذا أراد أن يصف شيئا - ولا يصف إلا ما يؤثر في نفسه مما يعايشه ويسمعه ويراه، أو مما يتوهمه فيحسه وتنطبع له صورة بليغة في خياله - أحاط بالموصوف من أظهر نواحيه، أو أحاط بناحية منه يطلبها دون غيرها، مشبعا موصوفه على الحالين، مخرجا عنه صورا حسية رابية الملمس تنقله أحيانا نقلا آليا مهذبا، وتخلقه حينا خلقا شعريا زكيا.
ويخرج من الوصف إلى قصص قصيره يحدث بها عن مغامراته الغرامية، أو عن معاركه وغزواته، أو يروي شيئا من الأخبار والأساطير مما انتقل إليهم أو نشأ في باديتهم.
على أن خيال الجاهليين لم يتسع للملاحم والقصص الطويلة؛ لانحصاره في بادية متشابهة الصور، محدودة المناظر،
1
ثم لماديتهم وكثافة روحانيتهم، ثم لفرديتهم وضعف الروح القومية والاجتماعية فيهم، ثم لقلة خطر الدين في قلوبهم وقصر نظرهم عما بعد الطبيعة، فلم يلتفتوا إلي أبعد من ذاتهم، ولا إلى عالم غير العالم المنظور،
2
ولا تولدت عندهم الأساطير الخصيبة؛ ولم يكن لأصنامهم من الفن والجمال ما يبعث الوحي في النفوس شأن أصنام اليونان والرومان، فقل من ذكر منهم أوثانه واستوحاها في شعره.
ولم يساعدهم مجتمعهم على التأمل الطويل وربط الأفكار وفسح آفاق الخيال؛ لاضطراب حياتهم برحيل مستمر، فجاء نفسهم قصيرا كإقامتهم، وخيالهم متقطعا كحياتهم، صافيا واضحا كسمائهم، داني التصور محدود الألوان كطبيعتهم. وكانت ثقافتهم الأدبية فطرية خالصة يتغذى بعضهم من بعض، ولا يقبلون لقاح الآداب الأجنبية الراقية؛ لجهالتهم واعتزال باديتهم وتمردها. وكذلك كانت علومهم ساذجة لا تفتح نوافذ النور للنظر في النفس وما بعد عالم الهيولي.
وجاءت حروبهم في كثرتها أياما وغزوات لا تجاوز البادية والقبيلة، حروب كر وفر، لا حروب زحف وفتح؛ فلم يكن من شأنها أن تبدع ملحمة كملحمة هوميروس في حصار طروادة. فلهذه الأسباب كلها اقتصر شعرهم على أغراض وجدانية تغمرها الذكريات، مبتورة القصص، يتواطئون عليها بأسلوب متشابه الاتجاه متداول المعاني والتعابير، فيستهلون على الغالب، ولا سيما القصائد الطوال، بذكر الديار الخالية والوقوف عليها للبكاء أو للتحية والسؤال، معددين المواضع التي توصل إليها أو تحيط بها، متشوقين إلى أحبتهم يوم كانوا يعمرونها، مشببين بهم مستعيدين ذكرى فراقهم. ثم يرحلون على ناقاتهم مفرجين بها همهم - قاصدين الحبيبة أو الممدوح - فيصفونها عضوا عضوا، ويصورون سرعتها ونشاطها؛ ثم ينتقلون إلى المدح أو الفخر أو غير ذلك، فيجتمع لهم في قصيدة واحدة عدة أغراض، ويكون انتقالهم في الأكثر اقتضابا ووثبا، وربما انتقلوا بواسطة، كأن يقولوا: دع ذا، وعد عن ذا.
وتشيع في شعرهم روح الفطرة بماديتها وسذاجتها وحريتها وأنفتها، وبما فيها من صدق في ذكر الحقيقة، إذا لم تثر في النفس عوامل عاطفية تحملها على الكذب والمغالاة. فالجاهلي صادق في الكلام على حياته وأحواله ومجتمعه، صادق في مدحه وهجائه إلى حد لا يسلم عنده من الغلو؛ كاذب في كثير من مفاخره، وعلى الأخص إذا وصف الضيافات والقدور والحروب وكثرة العدد والعدد والقتلى؛ مغال مفرط في مراثيه؛ وإذا كان مرثيه قد مات مقتولا يبالغ في ندبه وتعداد مناقبه ليستثير شعور القبيلة، ويحضها على الأخذ بثأره.
ولغة الشعر الجاهلي قوية المدلول في ألفاظها الوضعية - حقيقيا كان التعبير أو مجازيا - خشنة كثيرة الغريب، ولا سيما لغة الشعراء الذين نشئوا في قلب البادية بعيدين عن الأمصار المتحضرة كشعراء مضر؛ وهي إلى ذلك متوافرة الصور في تشابيهها الحسية وما يختلف إليها من استعارات وكنايات، قليلة الاحتفال بأنواع البديع كالجناس والتورية والطباق؛ جارية مع الطبع بريئة من التكلف، سواء جاء اللفظ عاريا أو كاسيا. فقوة الشعور الفني وحدها تهدي الجاهلي إلى اختيار ألفاظه وإخراجها من معدن واحد، وإجادة تنزيلها وتأليفها، فتأتي محكمة التركيب متماسكة الأطراف، تعبر بتموجاتها وأجراسها أصدق تعبير عن الحالة التي يحسها في نفسه ويتصورها في خياله.
وفي تشابيهه وكناياته واستعاراته دلالات بينة على حياته وطبيعة أرضه، فأكثرها مستمد من الصحراء نباتها وحيوانها، ومن مرافقها المحدودة ومعيشة أهلها، ومن عاداتهم وعقائدهم وأساطيرهم.
وقد ينحط إلى تشابيه ننكرها في زماننا، ولا تستنكرها فطرته، كتشبيه امرئ القيس أصابع محبوبته بالأساريع
3
وتشبيه طرفة نفسه بالبعير المعبد.
4
ومن مذاهبهم - إذا شبهوا - أن يتركوا المشبه وينصرفوا إلى المشبه به؛ ليصفوه ويدققوا في وصفه، حتى إذا أظهروا قوته وجماله ارتضت نفوسهم واطمأنت إلى أنها وفت المشبه حقه من الوصف والتبليغ، وربما قصدوا إلى ذلك بصورة التفريغ البياني، وهو أن يصدر الشاعر المشبه به بما النافية، ثم يأخذ في الكلام عليه لتبيان محاسنه؛ فإذا بلغ مراده جاء بأفعل التفضيل ومن الجارة، ونفى أفضلية المشبه به على المشبه. وهذا مستحسن مألوف عندهم اصطلحوا عليه وتداولوه، كما تداولوا كثيرا من التعابير البيانية، فأصبحت رواسم مشتركة بينهم فاقدة الشخصية. ومن المأنوس في شعرهم نداء الصاحب والصاحبين، والاستفتاح بألا، وإدخال ولقد وواو رب، والحلف بلعمري.
ومعاني الشعر الجاهلي لا تخلو من الغموض، ويعود ذلك على غرابة الألفاظ وما فيها من إيجاز وحذف، أو على ما تتضمنه من تلميحات إلى حوادث تاريخية، أو إلى عقائدهم وعاداتهم مما لا تدرك مقاصده إلا بمعرفة حياتهم وأخبارهم. وأما الغموض الفني فقليل عندهم لمادية ألفاظهم، وبعدها من الرمز والتصوف؛ ثم لضعف روحانيتهم وضيق خيالهم ودنو تصورهم وعنايتهم بسرد الأخبار وإظهار الحقائق المحسوسة، واعتمادهم على الأساليب الخطابية الواضحة، والحكم والأمثال البدهية.
وجاءنا عنهم من الأوزان خمسة عشر بحرا ضبطها الخليل، وزاد عليها الأخفش بحر الخبب، ويسمى المتدارك لأنه تداركه. وأكثر ما نظموا على الأبحر الكثيرة التفاعيل؛ لفخامتها وصلاحها للوصف وذكر الحوادث كالطويل والبسيط والكامل، ثم على الأبحر اللينة التي تصلح للأغراض الوجدانية العاطفية كالوافر والرمل والخفيف،
5
ولم يخل شعرهم من زحاف مستكره نستقبحه اليوم ونأبى استعماله.
ومنظومهم قصيد ورجز، وأراجيزهم - في الغالب - قصيرة، وهي مثل قصائدهم تجري على قافية واحدة ووزن واحد . ويستحسن عندهم تصريع المطلع أو تقفيته، وربما صرعوا أو قفوا في غير المطلع. ولهم من سلامة الطبع ما يرشدهم إلى اختيار القافية الملائمة للبيت في معناه ولفظه، فما هي تجعله وسيلة لوجودها، ولا هو يجرها إليه على الرغم منها، بل تأتي متممة له في انسجامها وحسن وقعها وقرارها، ولكنها لم تخلص من عيوب مذمومة كالإقواء
6
والإكفاء،
7
وأنواع مكروهة من السناد.
8
وبيت الشعر عندهم صورة لتقطع أفكارهم وخيالاتهم؛ يستقل بمعناه ولا يتعلق بما يليه، وقليلا ما عدلوا إلى التضمين،
9
ويكرهون المعاظلة،
10
وهذا الاستقلال البيتي جعل القصيدة عرضة للتشويش في مواضع جمة، يحذف منها ولا يحس نقصانها، ويبدل ترتيب أبياتها ولا يظهر خلل فيها.
على أن الشعر الجاهلي المستقل ببيته، لا ببنايته، يرتفع أحيانا إلى غاية الجمال، وهو في الجملة أخلص الشعر القديم جوهرا، وأصدقه شعورا وتعبيرا وإيحاء، يأتي به الشاعر بقوة الإحساس الفني، على فطرته وصفاء نفسه، مع ما فيه من بداوة ووحشية وخشونة. (2) الفخر والحماسة
اتفق مؤرخو الأدب أن يجعلوا الفخر والحماسة بابا واحدا لما بينهما من الاتصال الوثيق؛ لأن الحماسة ليست سوى فخر الفارس ببطولته وذكر وقائعه، ووصف فرسه وسلاحه. وباب الفخر في الجاهلية - وإن اتسع إلى موضوعات غير الفروسية كالنسب والسيادة والكرم والأخلاق والأهل والولد والفصاحة - لا يخلو أصلا عن المباهاة بالشجاعة والإقدام. ومن العبث أن نبحث عن فخر شاعر بنفسه، أو مدح شاعر لغيره، أو رثاء شاعر لميت دون أن يكون للشجاعة القسط الراجح، بحيث لا يمكن أن نفصل الفخر عن الحماسة؛ لأنهما وجدا توأمين متلازمين، فلا فخر بدون حماسة، وكذلك الحماسة هي الفخر بعينه. ويحسن بالفروسية أن يرافقها شرف المحتد ومكارم الأخلاق، حتى إن المضعوفين في نسبهم يدافعون عنه أنبل دفاع، كما دافع عنترة عن نسبه لأمه. ولا يرضى أحد الصعاليك - كالشنفرى والسليك - أن يغمز في حميد صفاته.
وشعر الفرسان يشتمل على جميع الفضائل الجاهلية، وأخصها فضيلة الفروسية؛ حيث ينصرف الشاعر إلى ذكر حروبه مبالغا في وصف البطل الذي يبارزه ويسطو عليه، أو وصف المعركة التي يخوض غمارها، ويلقي بنفسه في مهالكها.
ويحدث عن القتلى والأسرى والسبايا والغنائم، فلا يخلو حديثه عن تكثر أو غلو، والتكثر والغلو من خصائص شعر الفروسية، فإن الواقعة الصغيرة تبدو ملحمة كبيرة، والعدد القليل يجر جيشا عرمرما، ونفيرا من القتلى يعد بالمئات والألوف. على أن غلوهم لم يأت مستقبحا، وهو وليد العاطفة المتحمسة تجعله قريبا إلى النفس، والفطرة الساذجة تمسحه بجمالها الجذاب. يخالف الحقيقة ويصدق في شعوره الفني، يجري مع الطبع في نشوة الخاطر المتدفق، لا يهيئه العقل في يقظة الفكر المتكلف.
والشعر الحماسي - كسائر الشعر الجاهلي - يعتمد في الأكثر على الوصف، وفي الأقل على القصص، وهو في كلا الحالين يؤثر الإيجاز على التطويل، ويلمح الجزئيات دون الكليات، ويتعلق بالمادة أكثر من الروح. فلو أراد أن يصف معركة اجتزأ ببضعة أبيات ترينا جواده وسيفه ومضات من البرق جميلة في سرعتها وتلويحاتها. غير أننا لا نخرج منها بفكرة عامة أو صورة تامة عن الواقعة، فما ندري كيف جرت حركات المتحاربين، وكيف انتظم الجيشان، وأين وقف الفرسان، وأين وقف الرجالة، وكيف تم الهجوم والالتحام. ولا نسمع من الأصوات إلا غماغم يختلط فيها وقع السلاح، وصياح الفرسان، وحمحمة الجياد، ودقدقة الحوافر، ولا نرى من صفات السلاح إلا سيفا قاطعا، ورمحا طويلا، ودرعا سابغة، وقليلا ما يسهب الشاعر ويدقق في أوصاف السلاح كما يسهب ويدقق في نعت جواده ونعت الفارس المقاتل. على أن صورة الفارس لا تظهر في الغالب جلية، بل يتركها غامضة مغشاة، ويعطينا المعركة على الإجمال تهاويل مقطعة الخطوط والأوصال لا يتألف من أجزائها وحدة موضوعية متلاحمة.
والوصف عنده لا يتعدى الطبيعة ومرئياتها، ولا يرتفع بها عن منزلتها إلا نادرا. فجواد عنترة، في شكواه وتألمه، صورة تكاد تكون فريدة في روحانيتها وارتفاع الحيوان بها إلى درجة الإنسانية، وليس له اليد الطولى في استجلاء أسرار النفس وتفهم أهوائها وحركاتها، فجاءت نفسيات الفرسان كتصاويرهم الخارجية يتغشاها سحاب من الإبهام. فبراعته في الوصف لا تجاوز النقل عن الطبيعة في الجملة، على شيء من الإحكام والتهذيب؛ لأن البدوي له عين متنبهة لالتقاط المرئيات، ومخيلة مصورة تحسن تقليد الأشياء، وليس له قوة الخيال المبدع الذي يختزن المحسوسات ويجمع بعضها إلى بعض، ثم يحللها ويركبها، فيخترعها صورا جديدة أو يخلقها خلقا مبتكرا إلا في القليل المحدود، ومع ذلك فهو يجيد الوصف ويتقنه أكثر مما يجيد القصص، فإن القصة في الشعر الجاهلي ضعيفة الفن؛ لاقتصارها على الخبر البسيط والسرد السريع كما يفعل عنترة في كلامه على مبارزاته، وتأبط شرا في حكاياته عن الغيلان، ولا جرم أن الإيجاز الذي درج عليه الجاهلي كان يحول بينه وبين الإسهاب في أخباره، وهذا الإيجاز يعود في معظمه على قصر النفس، ونزارة ينابيع الخيال المبدع، فلم يتوفر له عمل الملاحم والقصص الطويلة، وقد فصلنا ذلك في كلامنا على ميزة الشعر الجاهلي. (3) الشعر السياسي (3-1) المدح
المدح في الجاهلية من الأبواب الرئيسة لاتصاله بالحياة القبلية، فقد كان على الشاعر أن يدافع عن أعراض قومه، ويمدح ساداتهم وفرسانهم، ويطري فضائلهم ويمجد أعمالهم، ولذلك كانت القبيلة تغتبط وتتباشر إذا نبغ شاعر فيها، وإن لم يكن من الفرسان؛ لأن حماية الأعراض والأحساب لا تقل شأنا عن حماية الأرواح والأموال. ولا تلحق الشاعر غضاضة من هذا المدح؛ لأن مفاخر القبيلة - وهو منها - تعود إليه كما تعود إلى غيره من أبنائها، فخليق بهذا المدح أن يعد من الفخر، فما كان عمرو بن كلثوم في معلقته إلا مفاخرا بقومه، مدافعا عنهم، وكذلك الحارث بن حلزة في رده عليه والذود عن بني بكر، مع أنه لم يكن سيد القبيلة ولا فارسها.
على أن الشاعر الجاهلي مضطر كغيره من البدو إلى الترحل والنزول على قبيلة غريبة، ضيفا أو جارا، فتحسن وفادته، وتبالغ في قراه وإيناسه، أو تجيره وتؤمنه في خوفه، وتساعده على حاجته، فيرى من واجبه أن يشكر لها صنيعها، ويمدح السيد الذي أضافه أو أغاثه، وهذا لا يعد من باب التكسب، وإنما هو شكر على معروف، لا استجداء لصلة، كما مدح امرؤ القيس القبائل التي كانت تضيفه أو تجيره بعد مقتل أبيه، فقال في المعلى التيمي حين أجاره من المنذر بن ماء السماء:
أقر حشا امرئ القيس بن حجر
بنو تيم مصابيح الظلام
ولم يعرف التكسب بالمدح إلا عندما أخذ الشعراء ينزحون عن قبائلهم، ويترددون في الأحياء الغريبة، ويقرعون أبواب الملوك والسوقة، مادحين مستجدين، هاجين من لا يحسن لهم العطاء. فهبطت منزلتهم عن منزلة الشعراء القبليين الذين أبوا أن يقبلوا الصلة ويريقوا ماء الوجوه.
بيد أننا لا تستطيع أن نرد بدء التكسب على شاعر قبل غيره لبعد العهد، وضعف المستندات التاريخية، وكثرة الشعراء الذين تكسبوا، وعاصر بعضهم بعضا، إلا ما كان من زعم جماعة من الرواة أن النابغة أول من سأل بشعره واستعطى، وزعم آخرين أنه الأعشى. ويعترض ابن رشيق في العمدة على الذين يضيفون بدء التكسب إلى أبي بصير فيقول: «وقد علمنا أن النابغة أسن منه وأقدم شعرا.»
ونعلم من الرواة أن الشعراء قبل النابغة كانوا يقصدون قصور الملوك ويمدحونهم، فقد ذكروا أن المسيب بن علس دخل على عمرو بن هند ومدحه، ولقي هناك طرفة والمتلمس، وكان يتردد على القعقاع بن شور الدارمي ويمدحه وينال صلاته، ومع ذلك لم يعير هؤلاء الشعراء، ولا غض الشعر منهم، كما أن زهير بن أبي سلمى لم يؤخذ عليه مدحه لهرم بن سنان وقبوله العطاء منه، وما ذاك إلا لأنهم لم يتخذوا الشعر حرفة للتكسب كما اتخذه النابغة والأعشى والحطيئة، وليس المسيب بن علس من الذين يذكرون مع كبار الشعراء ليعنى الرواة بتسقط أخباره، فنعلم دوافع مدحه لعمرو بن هند والقعقاع الدارمي. ولم يتكسب زهير إلا يسيرا من هرم بن سنان، حتى قيل إنه كان يتجنب التسليم عليه لئلا يتعرض لعطائه، وهو على كل حال مدح سيدا من قبيلة أقام في أرضها وانقطع إليها، وتزوج منها وأصبح شاعرها وحكيمها يرشدها ويدافع عنها، وأمه تنتسب إليها. وأما النابغة فكان يتنقل من المناذرة إلى أعدائهم الغساسنة، يمدح هؤلاء وأولئك ويستجديهم. ثم يبذل ما في وسعه لاسترضاء النعمان أبي قابوس، خاشعا متذللا ؛ ليعود إلى قصره بعد انقطاع رجائه من ملوك الشام. فعيروه وقالوا: غض الشعر منه، لأنه من أشراف القبيلة.
وأما الأعشى فقد كان أكثر منه ترددا في البلاد، يأخذ الصلة من الملوك والسوقة، وينفر سيدا على آخر فيهجو من لم يسئ إليه ليمدح منافسه على السيادة، فعله بعلقمة بن علاثة تأييدا لعامر بن الطفيل، ومدحه للمحلق الصعلوك مشهور، ولذلك قالوا: جعل الشعر متجرا، ومن قوله في تطوافه:
وقد طفت للمال آفاقه
عمان فحمص فأورى شلم
أتيت النجاشي في أرضه
وأرض النبيط وأرض العجم
وبلغ التكسب إلى أدنى دركاته عند الحطيئة، فقد أكثر من السؤال بالشعر، وانحطاط الهمة فيه والإلحاف، حتى مقت الشعر وذل أهله كما يقول ابن رشيق. يمدح الشخص ويتكسب منه، ثم يهجوه تزلفا إلى عدوه، فعله بالزبرقان بن بدر عندما هجاه تقربا إلى بني شماس بعد أن نزل في جواره.
على أن المدح، وإن صار إلى التكسب الدنيء في أواخر العصر الجاهلي، فقد كان تأثيره عظيما في الأشخاص والقبائل، يرفع شأن الخامل وينشر ذكره بين الناس كما ارتفع المحلق الكلابي واشتهر بشعر الأعشى بعد خموله، وكما ارتفع بنو أنف الناقة بشعر الحطيئة، وكانوا يخجلون باسمهم، فصاروا يتطاولون بهذا النسب بعد قوله فيهم:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا؟
والتجاء طلاب السيادة إلى الشعراء في مفاخراتهم دليل على ما للشعر من الأثر البليغ.
ولا يختلف المدح في صفاته العامة عن الفخر والحماسة، فإن الفضائل التي يفاخر بها الشاعر الجاهلي، وينافس غيره من الشعراء والقبائل، هي التي يمدح بها السادات والملوك شاكرا أو متكسبا، معتذرا أو مستعطفا؛ لأنها خير ما يرى من حميد المزايا ومكارم الأخلاق، في بدوه وفي حضره، فأضافها إلى ممدوحيه مبالغا في الكلام عليها مبالغة الشاعر الفارس في المباهاة بها، وإن تكن الحمية عنده أخف منها عند الآخر؛ لأن النفس التي تدفع إلى المدح والثناء غير النفس التي تندفع حماسة وفخرا.
ويختلف الشعراء في مبالغاتهم بين مقل ومكثر، ولكنهم لا يجنحون إلى الإحالة؛ لأن طبع البدوي في صفائه ينفر من الغلو إلا إذا رانت عليه العاطفة في حزن أو حماسة، فتخرج به إلى غاية الإغراق والكذب، غير معتدل ولا متأثم. وقلما سمعنا شاعرا مداحا في الجاهلية يغلو غلو النابغة في وصفه سيوف الغساسنة، حيث يقول:
تقد السلوقي المضاعف نسجه
وتوقد في الصفاح نار الحباحب
أو في ذكره قدر ابن الجلاح الكلبي - قائد الغساسنة - زاعما أنها تسع الجزور بجملتها. فهذه المغاليات مأنوسة في المفاخر والمراثي أكثر منها في المدائح، ولكن تحول الشعر إلى التكسب جعل الشعراء يفرطون في تعظيم الأشراف والملوك، تملقا لهم واستدرارا لأكفهم، وإن تكن السذاجة الفطرية لا تعدو تصوراتهم، مثل وصف النابغة للقدر التي تسع الناقة العظيمة، وينضاف إلى هذه التصورات ما نسمع من مدح الأشخاص بنعالهم وجودتها. فإن الأشراف ينتعلون السبت - وهو الجلد المصبوغ - فلا تأكله الكلاب كما تأكل غيره من الذي لم يصبغ. قال النجاشي الحارثي يمدح هند بن عاصم:
ولا يأكل الكلب السروق نعالهم
ولا تنتقي المخ الذي في الجماجم
ومدح النابغة الغساسنة برقة نعالهم ليدل على ملوكيتهم وترفهم، وأنهم لا يخرجون من منازلهم إلا راكبين على خيولهم، فما يحتاجون إلى لبس النعال الغليظة.
ومثل هذا ما نرى من استنكار الأشراف لمآكل يجدون فيها غضاضة، فيبتعدون عنها، ويأنفون من أكلها، فيمدحون بهذه العفة، كما مدح النجاشي هند بن عاصم؛ لأن قومه لا يأكلون الأدمغة وهي ليست طعام السادات والملوك: «ولا تنتقي المخ الذي في الجماجم.»
وحمدوا جوار شخص وذموا جوار آخر بمقدار ما يحسن أو لا يحسن قرى جيرانه، ومن هنا مدح الكرام بنيرانهم وكلابهم ورمادهم. فالنار توقد ليلا لهداية الضيفان، ولا يوقدها إلا السخي الجواد الذي يكثر رماده لكثرة طبائخه، قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد
والكلاب تنبح لتهدي الطارق إلى المنزل، ولكنها لا تنبح في وجهه إذا أقبل. قال حسان بن ثابت في الغساسنة:
يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل
ولا يختلف مدح الملوك في اعتماد هذه الفضائل عن مدح السادات، فإن الشعراء الذين مدحوا الغساسنة والمناذرة أفاضوا في ذكر حروبهم وانتصاراتهم، وجودهم وضيافاتهم، وحلمهم وهيبتهم في النفوس؛ لأن ملوك الشام والعراق لم يبتعدوا بذهنيتهم عن سيد القبيلة، وإن أصابوا طرفا من الحضارة. فالمدح الذي يصلح لصاحب القبة الحمراء، يصلح أيضا لأمير جلق والبريص، ولرب الخورنق والسدير.
وكان ملوك غسان ولخم يقربون شعراء البادية، ويجزلون لهم الصلات ليتغنوا بعظماتهم في الأحياء القريبة والبعيدة، فيتمكن سلطانهم في نفوسها، وينبسط نفوذهم على عشائرها؛ لأنهم كانوا يحتاجون إلى مؤازرتها في حروبهم واقتصادياتهم، وحراسة قوافلهم، فقضت عليهم السياسة بتقريب شعرائها وإكرامهم للاستفادة من مدائحهم وسيرورة أشعارهم، كما قضت عليهم بذلك ذهنية العربي في ارتياحه إلى الحمد والثناء. فمدحهم الشعراء مثل مدحهم لسادات قبائلهم، وأضفوا عليهم سوابغ الأوصاف التي تعودناها منهم تحت الخيام. وإذا كان من خلاف بين المدح البدوي والمدح الحضري، فإنما هو يقتصر على صفات لا توحي بها خيمة الأعرابي وطلله، ولا حياته الاجتماعية، كوصف النابغة للفرات في مدح النعمان، وتشبيه عظمته بعظمة سليمان، أو ذكر القصور المنيفة في المدن والعواصم، كقول الأسود بن يعفر في آل محرق وبني إياد:
أهل الخورنق والسدير وبارق
والقصر ذي الشرفات من سنداد
11
وكذلك المدح الديني ووصف الحفلات في الأعياد الكبرى كما مدح النابغة بني غسان، وذكر موكبهم يوم الشعانين. ويتخلل المدح الحضري الأخبار والأساطير، فعل النابغة والأعشى. فنستدل بها على الثقافة التي اكتسبها شعراء البدو في رحلاتهم إلى المدن والأمصار، ومخالطتهم للشعوب المتحضرة.
ومما يحمد عليه الشاعر الجاهلي أنه حافظ على كرامته في مدح الملوك والسادات، فلم يتذلل لهم وهو في أشد الحاجة إلى رفدهم ومعروفهم، أو عطفهم ومساعدتهم. ولم نجد شاعرا حط من نفسه غير النابغة في اعتذارياته للنعمان بن المنذر، وغير الحطيئة في تصوير بؤسه وضعفه، وفي متاجراته الدنيئة بأعراض الناس، ومع أن الأعشى اتخذ الشعر تجارة فلم ينحدر به إلى الدنايا، ولا بذل ماء وجهه إلى ممدوحيه، وكذلك عدي بن زيد العبادي لم تغضض منه اعتذارياته إلى النعمان ، وكان سجينا عنده لا طليقا كالنابغة، وإن بدا عليه الألم المرير حين يرينا نفسه مكبلا بالحديد، مرتديا ثيابا بالية، فهو يحافظ على عزة نفسه وكرامة محتده، ولا يخشى أن ينافس أبا قابوس بالمجد والفضل، فيذكره بما له ولأبيه من النعمة عليه وعلى والده، ويذكره بالمصاهرة والمودة، وأنهم كانوا قبلهم ملوكا ذوي سلطان:
نحن كنا قد علمتم قبلكم
عمد البيت وأوتاد الإصار
12
ويستهل شعراء الجاهلية مدائحهم، في الغالب، بذكر الديار الخالية، والوقوف عليها للبكاء أو للتحية والسؤال، معددين المواضع التي توصل إليها، أو تحيط بها، متشوقين إلى أحبتهم يوم كانوا يعمرونها، مشببين بهم، مستعيدين ذكرى فراقهم، ثم يرحلون على ناقتهم مفرجين همهم، قاصدين إلى الممدوح، فيصفونها عضوا عضوا، ويصورون سرعتها ونشاطها، ثم ينتقلون إلى المدح بعد هذه المقدمة التقليدية التي تلزم الشريف أن يراعي حق الشاعر في قصده إليه دون غيره من مكان بعيد يعاني السهر والنصب، وسرى الليل، ولفح السموم. وربما جعل ناقته تتظلم شاكية ما يجشمها من مشقة الأسفار وشد الحبال، وفي ذلك ما فيه من استعطاف الممدوح، وإيجاب حقه عليه. قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل
تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا درأت لها وضيني
أهذا دينه أبدا وديني؟
13
أكل الدهر حل وارتحال
أما يبقي علي وما يقيني؟
وقد تلوم المرأة زوجها والبنت أباها على كثرة ترحاله، خائفة عليه، فيسكن من جأشها، ويهون الأمر عليها، ويعدها بالثروة. قال الأعشى:
تقول ابنتي حين جد الرحيل
أرانا سواء ومن قد يتم
فيا أبتا لا ترم عندنا
فإنا بخير إذا لم ترم
14
وقد تكون المرأة رفيقة له في السفر وطلب الرزق، فيدفعها أمامه، ويسير بها إلى ممدوحه؛ فعل الحطيئة:
سيري أمام فإن الأكثرين حصى
والأكرمين إذا ما ينسبون أبا
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا؟
وشعراء المدح في الجاهلية كثر، يتشابهون في نواح من معانيهم وتعابيرهم، على ما بينهم من اختلاف الطوابع الخاصة. (3-2) الهجاء
الهجاء كالمدح باب رئيس متصل بسياسة القبيلة وحياتها الاجتماعية؛ لأنها كانت تدفع شاعرها إلى الذود عن أعراضها، والرد على الشعراء الذين يهجونها، فينشر مثالب أعدائها، ويعدد انكساراتهم ساردا أخبارها بإيجاز أو بشيء من التفصيل، كما فعل الحارث بن حلزة في رده على عمرو بن كلثوم يوم التقاضي، فعير بني تغلب الأيام التي هزموا فيها بأسلوب ناعم موجع ليغض من شأنهم عند ملك العراق؛ وكما رد النابغة على عامر بن الطفيل فهجاه وذكره انكسار قومه يوم حسي أمام بني ذبيان، وفيه قتل أخوه حنظلة بن الطفيل؛ وكما فضح حسان بن ثابت بني هذيل، وكانت ترمى بأكل لحوم الناس:
إن سرك الغدر صرفا لا مزاج له
فأت الرجيع وسل عن دار لحيان
15
قوم تواصوا بأكل الجار كلهم
فخيرهم رجلا والتيس مثلان
وعلى الشاعر أن يذود عن حلفاء قبيلته؛ لما بينهم وبينها من تبادل المنفعة في الدفاع المشترك، فنرى النابغة يهجو زرعة بن عمرو؛ تأييدا لحلف بني أسد، مدافعا عنهم، مستفيضا في وصف نجدتهم ومنعتهم كأنه يدافع عن قومه.
وإذا استجار شاعر بقبيلة واعتدي عليه، عنفها وهجاها ليحرضها على أخذ حقه؛ لأنه يعلم أن الجوار مقدس عندهم لا يجوز انتهاكه. فقد عنفت البسوس بنت منقذ بني مرة حين عقر كليب ناقة جارها سعد، وهي جارة لهم، فجعلتهم أمواتا ونساء، حتى أثارت جساسا فقتل كليب وائل ونشبت بينهم الحرب الطويلة المشئومة.
وخرجوا بالهجاء إلى التكسب كما خرجوا إليه بالمدح، فكان الشاعر منهم يدعى إلى قبيلة غريبة عنه، فتضيفه وتكرمه ليهجو أعداءها، لا تشفع له في هجائه عصبية قبلية كما لو كان يدافع عن قومه، وإنما حب التكسب هو الذي حمله على شتم هذا ومدح ذاك. فالحطيئة ما هجا الزبرقان بعد مجاورته إياه إلا لأن أبناء شماس أنزلوه عندهم وأكثروا له من التمر واللبن، وأعطوه لقاحا وكسوة؛ فقال للزبرقان:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
بيد أن أمثاله في الشعراء الجاهليين قليل؛ فإن الذين تكسبوا بالمدح أكثر من الذين تكسبوا بالهجاء، وقلما فعل واحد منهم مثل الحطيئة يهجو ليعطى ويطعم.
وأشد الهجاء عندهم ما كان فيه التفضيل، خصوصا بين الأقرباء ، وكلهم طامع في السيادة، ويسمونه الهجاء المقذع. فإن الزبرقان بن بدر أمضه أن يفضل الحطيئة عليه بغيض بن عامر بن شماس، وهو مثله من بني تميم، فشكاه إلى عمر بن الخطاب فحبسه مدة، ولما أطلقه قال له: «إياك والهجاء المقذع!» قال: «وما المقذع يا أمير المؤمنين؟» قال: «المقذع أن تقول: هؤلاء أفضل من هؤلاء وأشرف، وتبني شعرا على مدح قوم وذم لمن تعاديهم.» فقال: «أنت - والله يا أمير المؤمنين - أعلم مني بمذاهب الشعر، ولكن حباني هؤلاء فمدحتهم، وحرمني هؤلاء فذكرت حرمانهم، ولم أنل من أعراضهم شيئا.»
ومهما يكن من أمر هذه الرواية وزعمهم أن الحطيئة يجهل معنى الهجاء المقذع، فإنه وإن لم ينل من أعراضهم، لقد أخزاهم بتفضيل منافسيهم عليهم، وذكر قعودهم عن المكارم، وليس القذف مما يحمد فيه الهجاء، وإنما هو سباب وبذاءة لا يليق بالشاعر أن ينحدر إليهما، ولم يخل الشعر الجاهلي منه، فقد أفحش زهير في هجاء بني الصيداء عندما أسروا عبده يسارا، والمتلمس في هجاء عمرو بن هند بعد هربه منه ومقتل ابن أخته طرفة. وفي شعر حسان بن ثابت كثير من الأبيات التي تنهش الأنساب وتمزق الأعراض، ومنها ما قيل في الجاهلية، ومنها ما قيل في الإسلام.
على أن الشاعر الجاهلي كان يتوخى - في الغالب - إسقاط المهجو من منزلته الاجتماعية، فيعنى - على الأخص - بأن ينزع عنه الفضائل التي يحب البدوي أن ينعت بها ليعد أهلا للسيادة، فيرميه بالجهل والحمق والجبن والبخل والغدر، وقد يغمز من نسبه ليخرجه من قومه، أو يفضل أقرباءه عليه ليجعل لهم السيادة دونه. ومثل هذا الهجو له تأثير عظيم في نفوسهم، يكبرون أمره ويخشون أصحابه، بخلاف الهجو الذي يهتك حرمات النساء ويصب الشتائم والقبائح؛ فإنهم كانوا يذمون الناطقين به ويمقتونهم. قال خلف الأحمر: «أشد الهجاء أعفه وأصدقه.» ويستحسن فيه ما أخرجه الشاعر مخرج التهكم والتصوير الهزلي؛ فإنه يبلغ مأربه من مهجوه بالطعن عليه، ويضحك منه السامع بسخره وعبثه، وهذا ما نسميه الهجاء اللاذع .
وقد يأتي الهجاء عن دافع شخصي لا بعامل قبلي أو تكسبي، فإن الشاعر ربما نالته أذية من شخص أفرط عليه، فيندفع إلى الانتقام بشعره، وهذا أمر إنساني تمليه العاطفة على صاحبها، فيجد في نفسه حاجة إلى التفريج عنها بذم من ضامه أو أساء إليه، كهجاء المتلمس لعمرو بن هند، وهجاء طرفة له ولأخيه قابوس ثم لصهره عبد عمرو.
وأهاجي الجاهليين كمدائحهم صادقة التعبير عن ذهنية البدو وعاداتهم وتقاليدهم، وما تواضعوا عليه من المذموم والمحمود، وما يقع لهم في ذلك من خلاف وتناقض. فقد كانت القبيلة تعير الأخرى بأن شعراءها يرحلون بمدحاتهم إلى الغرباء، وقلما خلت قبيلة من شاعر يرحل بشعره. فقد فاخر يزيد بن عبد المدان عامر بن الطفيل أن شعراء قومه لا يرحلون بمدائحهم إلى قوم عامر، أما شعراء قوم عامر فيرحلون بمدائحهم إلى قومه، ويعيرون الفارس إذا فر عن عشيرته في الحرب، مع أنهم لا يستنكفون من التمدح بالفرار، إذا كان فيه منجاة للفارس من الموت. قال عمرو بن معدي كرب وهو من الأبطال المعدودين:
ولقد أجمع رجلي بها
حذر الموت وإني لفرور
16
ويقبحون الغدر ويهجونه، قيل إنهم كانوا إذا غدر رجل وأخفر الذمة جعلوا له تمثالا من طين ونصب، وقالوا: ألا إن فلانا غدر فالعنوه! قال عبد الله بن جعدة يهدد قوم الحارث بن ظالم الذي قتل خالد بن جعفر غدرا:
فلنقتلن بخالد سرواتكم
ولنجعلن لظالم تمثالا
17
غير أنهم كانوا يستحلون الغدر عند طلب الثأر؛ لما يلحقهم من المذمة في تركه. فأوس بن الخطيم فارس الأوس لم يدرك ثأره من قاتلي أبيه وجده إلا بالغدر القبيح، فغسل عاره بمثله، ولكنه لم يجد فيه غضاضة؛ لأن النوم عن الثأر مذلة الأبد، وقد تسمع بعض الشعراء يرمي مهجوه بالضعف، إذا عجز عن الظلم والغدر، والظلم مكروه عندهم إذا أصاب الأقرباء، محمود إذا أصاب الغرباء. قال النجاشي، وهو شاعر مخضرم، يهجو تميم بن مقبل العجلاني:
قبيلته لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب. فلما سمع البيت قال: ليت آل الخطاب كذلك! ولم يحبسه إلا لأنه قال فيهم:
أولئك إخوان اللعين وأسوة
الهجين ورهط الواهن المتذلل
18
وكان العرب يحتقرون الصناعات ويذمون أصحابها، وينسبونهم إلى الخمول والضعف؛ لأنه ينبغي للفارس أن يكسب رزقه بسيفه وغزواته. فقد هجا عمرو بن كلثوم النعمان أبا قابوس، وعيره أمه سلمى، وكانت بنت صائغ وأخت صائغ:
لحا الله أدنانا إلى اللؤم زلفة
وألأمنا خالا وأعجزنا أبا
19
وأجدرنا أن ينفخ الكير خاله
يصوغ القروط والشنوف بيثربا
20
ولم تكن التجارة أحسن حظا عندهم، وهي لم تعرف في غير المدن كمكة ويثرب واليمن، فهجيت قريش بها. روى ابن سلام أن الناس أصبحوا يوما بمكة وعلى باب الندوة مكتوب:
ألهى قصيا عن المجد الأساطير
ورشوة مثلما ترشى السفاسير
21
وأكلها اللحم بحتا لا خليط له
وقولها رحلت عير أتت عير!
22
واتهم بهما عبد الله بن الزبعرى وهو من قريش، ولم يقصر هجوه على التجارة، بل عيرهم اشتغالهم بالأحاديث والأخبار في ندوتهم لفراغ بالهم وقلة همومهم، ونسب إليهم الرشوة كما ترشى السماسرة، وعيرهم أكل اللحم الخالص.
والعرب يتهاجون بكل شيء أفرطوا في استعماله، فقد هجيت بنو تغلب بكثرة روايتها معلقة عمرو بن كلثوم فقيل فيها:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
وإذا اشتهرت قبيلة بأكلة عيرت بها، ولو كانت من طيب الطعام، فقريش هجيت بالسخينة
23
كما هجيت عبد القيس بالتمر، وذلك عام بالحيين، وعيرت أسد بأكل لحوم الكلاب، قال مساور بن هند:
بني أسد إن يمحل العام فقعس
فهذا إذا دهر الكلاب وعامها
24
وربما عيرت القبيلة بعيب واحد منها. قال الجاحظ في البخلاء: «والعرب إذا وجدت رجلا من القبيلة قد أتى قبيحا، ألزمت ذلك القبيلة كلها، كما تمدح القبيلة بفعل جميل، وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها.»
وكان الكرم من أسباب السيادة، فأكثروا من هجو الأشراف بالبخل والكزازة لإسقاط منزلتهم في الأحياء، ويتبع ذلك ذكر النار وخمودها لقلة طبائخهم، أو لخشيتهم أن يعشو إلى ضوئها الضيفان؛ وذكر الكلب ونباحه في وجه الزائر لأنه لم يألف الغرباء عند صاحبه، وسكوته عن النباح ليلا لئلا يهدي الطارق والحائر، فاتهموا البخلاء بتخنيق الكلاب.
وللهجاء تأثير عظيم في النفوس، فقد كانت السادات والقبائل تتضور منه، ولا تصبر عليه، لسيرورة الشعر وكثرة رواته.
وأكثر الشعراء رويت لهم أقوال في الهجاء، وإن يكن بعضهم تميز فيه عن بعض كالحطيئة وحسان بن ثابت الأنصاري، وأفضله ما جاء في الدفاع عن سياسة القبيلة والرد على خصومها، أو ما جاء في ذم الأخلاق الرديئة وخلا من الفحش وتمزيق الأعراض. (4) الرثاء
يشغل الرثاء جانبا عظيما من الشعر القبلي؛ لأنه - في أكثره - مصروف إلى سادات العشيرة وفرسانها الذين لهم فيها المآثر المحمودة، فليس موتهم موت واحد، بل بنيان قوم تهدم، كما قال عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن عاصم. وكلما دنت القرابة بين الشاعر والميت ازداد الرثاء حسرة وتفجعا، وأروعه ما ندب به الأبطال المجدلون في حومات القتال، فإن الشعراء، في البكاء عليهم وفي تعداد مناقبهم، يثيرون الأحقاد ويشحذون العزائم، ويهيجون القبيلة للحرب والأخذ بالثأر، كرثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لأخويها صخر ومعاوية، وفيه تتدفق العاطفة لوعة وألما، ويشتد الغلو في ذكر أوصاف الميت وتعظيم المصاب به، فليس إلا الشعور يفيض دمعا وأسى عليه، وفخرا ومباهاة به، ومدحا وتأبينا له، فتتفاعل مشاعر مختلفة من خسارة وحزن، وإعجاب واعتزاز، وضغن ونقمة، وقد يبلغ بهم استعظام الخطب إلى أن يتمنوا حدوث انقلاب في الكون، كما قال المهلهل:
ليت السماء على من تحتها هبطت
وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها!
ومثل هذا التفجع والتهويل شائع عندهم في رثاء الملوك والرؤساء لا يقتصر على الأهل الأدنين؛ فقد رثى النابغة حصن بن حذيفة بن بدر بقوله:
يقولون حصن! ثم تأبى نفوسهم
وكيف بحصن والجبال جنوح؟!
25
ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل
نجوم السماء والأديم صحيح!
26
وسخط المهلهل على بني بكر ظاهر في تهديده ووعيده وضربه معجزات الشروط عليهم ليرضى بمصالحتهم، كما يظهر في رثاء الخنساء وحرقتها على أخويها، مع ما في أشعارها من المباهاة بالميت وتعظيم صفاته ومناقبه.
وقلما قرأت شعرا في رثاء عظيم - ملك أو سيد - إلا آنست المغالاة في ذكر فضائله، شأنك اليوم عندما تسمع النادبين والنادبات، ولكن لا ترى في أقوالهم ما يستهجن أو تنبو عنه المسامع؛ لأنه صادر عن العاطفة المكلومة، وكل ما تنطق به النفس على سجيتها لا يظهر عليه التكلف البغيض. فكعب بن سعد الغنوي لا يرى بعد أخيه أبي المغوار من يلبي طالب المعروف، فتصغي إليه غير مستنكر دعواه لما فيها من فطرة وشعور صادق:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى؟
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانيا
لعل أبا المغوار منك قريب!
وهم يصفون الميت بجميع الفضائل التي يفاخرون ويمدحون بها، غير أنهم يجعلون في كلامهم دلالات على أن المقصود به رثاء لا مدح، بما يتخلله من عبارات فيها ذكر المصاب والدفن والقبر، وفيها التلهف والتفجع ونداء الميت: لا تبعد. قال مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد، وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا؟
27
وقال النابغة في رثاء النعمان الغساني:
فلا تبعدن إن المنية منهل
وكل امرئ يوما به الحال زائل
وكثيرا ما ينعون تلك الفضائل مع الميت؛ فكأنها ذهبت بذهابه، فليس بعده من يجيب إلى الندى كما قال كعب بن سعد، ولا من يحمي النساء والأموال ويغيث الملهوف، فقد دفنت المكارم بدفنه، وغيبت الأخلاق الطيبة في ثراه. قالت الخنساء:
يا صخر ماذا يواري القبر من كرم
ومن خلائق عفات مطاهير؟!
وربما سلكوا سبيلا آخر، وهو أن يأتي الشاعر بكأن، فيقول: كأن فلانا لم يركب جوادا، ولم يوقد نارا، ولم يطعم جائعا ... إلى ما هنالك من المآثر الحميدة ليظهر أنها مضت معه وأصبحت خبرا من الأخبار. قال كعب بن سعد:
كأن أبا المغوار لم يوف مرقبا
إذا ربأ القوم الغزاة رقيب
28
ولم يدع فتيانا كراما لميسر
إذا اشتد من ريح الشتاء هبوب
29
وقد يستسلم للقضاء والقدر إذا لم يجد سبيلا إلى إدراك الثأر، أو إذا أدركه، أو إذا كان الميت قضى غير مقتول بمرض أو حادث طبيعي، فيعمد إلى تعزية نفسه بذكر مصائب الدهر، وفلسفة الحياة والموت، كما فعل لبيد في رثاء أخيه أربد وقد قتلته الصاعقة:
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا
فكل امرئ يوما له الدهر فاجع!
وما المال والأهلون إلا ودائع
ولا بد يوما أن ترد الودائع
قال ابن رشيق في العمدة: «ومن عادة القدماء أن يضربوا الأمثال، في المراثي، بالملوك الأعزة، والأمم السالفة، والوعول الممتنعة في قلل الجبال، والأسود الخادرة في الغياض، وبحمر الوحش المتصرفة بين القفار، والنسور والعقبان والحيات؛ لبأسها وطول أعمارها، وذلك في أشعارهم كثير موجود، لا يكاد يخلو منه شعر.» ا.ه.
وإنما اتخذوا هذا الأسلوب ليستخلصوا حكمة ساذجة، وهي أن هؤلاء الملوك والأبطال والجبابرة من الشعوب الخالية لم يعف الموت عنهم، ومثلهم الحيوانات الضارية، أو الممتنعة في الجو والآكام والأودية، أو الطويلة الأعمار، ولو نجا حي من الموت لكان أولئك الناس وتلك الحيوانات أولى من غيرهم بالنجاة. فيجدون عزاء لأنفسهم بضرب هذه الأمثال، ما دام الموت لا مهرب منه لكل ذي حياة.
فمن ذلك رثاء أبي ذؤيب الهذلي لأولاده الخمسة، وقد ماتوا بالطاعون في سنة واحدة، وقيل كانوا ثمانية فمات سبعة منهم. فذكر أن الدهر لا يبقى على حدثانه أحد من الأحياء، مهما يكن عليه من القوة والبأس والصلابة والتمنع. فقص أولا خبر الحمار الوحشي إذ كان آمنا، فأدركه الصياد فرماه فأقصده، فخر منجدلا. ثم أتبعه خبر الثور الوحشي وكيف التجأ إلى شجرة الأرطى ليلا محتميا من المطر حتى الصباح، ففاجأته الكلاب فقاتلها وصرعها بقرنيه، فرماه صاحبها بسهم فأرداه. ثم أخبر عن مصرع بطلين تبارزا، ووصف سلاحهما وفرسيهما وعراكهما، فأخرج قطعة ملحمية جميلة، وأما كلامه على الثور والحمار والصيادين والكلاب فشائع متشابه في شعر الأقدمين.
فهذه التأسيات تجعلهم أحيانا لا يندفعون مع العاطفة الجازعة المتفجعة؛ بل يستسلمون إلى القدر الذي يؤمنون بسلطانه، ويخضعون لأحكامه القاسية، راضين على كره بما قسم لهم، كما هي الحال عند أبي ذؤيب وعند لبيد. قال أبو ذؤيب:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
والنفس راغبة إذا رغبتها
وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقيل إن في البيت الثاني إشارة إلى قناعته بالطفل الذي بقي حيا من أولاده، وقال أعشى باهلة في رثاء المنتشر أخيه لأمه:
فبت مكتئبا حيران أندبه
ولست أدفع ما يأتي به القدر
وإذا ابتعدت المراثي عن الأهل والأقرباء، وخرجت إلى السادات والملوك الغرباء، كان شأنها شأن المدح التكسبي، على غير آصرة صحيحة تربط الشاعر بالميت إلا ذكر أياديه البيض عليه كرثاء النابغة للنعمان الغساني. (5) الغزل
يقوم أكثر الغزل الجاهلي على الوصف والتشبيب، وأقله ما جاء قصصيا يحمل ذكريات المغامرات الغرامية يتخللها الحوار كما نجده عند امرئ القيس، وعند المنخل اليشكري في قوله:
ولقد دخلت على الفتا
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
فل بالدمقس وبالحرير
فدنت وقالت: يا منخل
ما بجسمك من حرور؟
ما شف جسمي غير حبك
فاهدئي عني وسيري!
وفيه من العفة ما يحمد عليه صاحبه، وإن كان لا يخلو بعضه من فحش ورذيلة، ولا سيما شعر المترفين، وتسيطر عليه المادة من جميع نواحيه، فما فيه من عمل الروح إلا نفحات خفيفة تكاد لا تحس.
وليس الغزل عندهم فنا مستقلا برأسه، وإنما هو غرض من الأغراض المتعددة التي تشتمل عليها قصيدتهم، ولكن له حق الصدارة يستهل به ثم ينتهى منه إلى غيره.
ويبدءون غزلهم في الغالب بذكر الطلول الدارسة تلعب بها الرياح، وتعفو آثارها الأمطار، وتسرح بها الآرام مطمئنة لخلوها من سكانها. ثم يذكرون الفراق وانتقال الظعائن، فتشجى نفوسهم، وتفيض عيونهم بالبكاء، ويستعيدون صورة الحبيب النائي آخذين بوصفه وتمثيله، ذاكرين اسمه الحقيقي، أو كانين عنه بغيره حرمة واستحياء.
والجاهلي شديد الشغف بذكر محاسن المرأة: يصف أعضاءها وملامحها ومزاياها، ويحيطها بأحسن ما عنده من التشابيه، كما اقتضت الجمالية القديمة عندهم. فهي كالبيضة ودرة الغواص في صيانتها وصفائها، وشعرها الفاحم كعناقيد النخل تضيع فيه المدراة؛ طويل إذا أرسلته ينعفر، ووجهها أبيض ضارب إلى الصفرة، يضيء كالشمس أو كالبدر
30
أو كالنار، أو كمنارة الراهب. وليس للعيون الزرق حظ لديهم
31
وإنما هم يؤثرون العين السوداء والكحلاء والحوراء، عين الغزال والمهاة. ويستحسنون بياض الأسنان وأشرها، ويشبهونها بالأقحوان والبرد، ويمدحون الثغر ببرودة الريق، وحلاوة الطعم، وطيب النكهة لا تخلفه نومة الضحى، ويشبهونه بالخمر ولطيمة المسك والروضة الأنف. قال المرقش الأصغر:
وما قهوة صهباء كالمسك ريحها
تعل على الناجود طورا وتقدح
32
ثوت في سواء الدن عشرين حجة
يطان عليها قرمد، وتروح
33
سباها رجال من يهود تباعدوا
بجيلان يدنيها إلى السوق مربح
34
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا
من الليل بل فوها ألذ وأنضح
35
ويعجبهم الجيد الأتلع ويرون له شبها في جيد الرئم، والخصر الأهيف، والكشح الهضيم، والردف الثقيل، والقامة اللدنة. ويشبهون الخصر بالجديل، والردف بالكثيب، والقامة بالغصن أو بالرمح. ويصفون الأنامل باللطافة، حتى لتكاد تنعقد، ويشبهونها بالعنم والأساريع. ولا تحمد الساق إلا إذا كانت عبلة صامتة الحجل ريا المخلخل.
وخير النساء الحرة المنعمة، الكسول التي تنام الضحى، ولا تقوم للعمل في المنزل، القصيرة الخطى، البطيئة إذا مشت. قال قيس بن الخطيم:
تنام عن كبر شأنها فإذا
قامت رويدا تكاد تنغرف
36
ومن صفاتها أن تكون حلوة الحديث يتساقط كلامها تساقط الحلي، حصانا عفة، وفية لزوجها كاتمة سره، ولا تختتل لأسرار الجيران. قال قيس بن الخطيم:
خود يغث الحديث ما صمتت
وهو بفيها ذو لذة طرف
37
تخزنه وهو مشتهى حسن
وهو إذا ما تكلمت أنف
38
وقال الشنفرى:
أميمة لا يخزي نثاها حليلها
إذا ذكر النسوان عفت وجلت
39
ولكن غزلهم في كثرته يدل على سوء ظنهم بالمرأة، وشدة ما يعانون من غدرها وتبديلها الأصحاب ونفورها من الزوج إذا كبر وشاب. ولطالما حاول الشاعر أن يرد تهمة الكبر بذكر همته واستطالته على اللهو وتصبي النساء. قال علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له في ودهن نصيب
ووصف كعب بن زهير حبيبته سعاد بقوله:
فما تدوم على حال تكون بها
كما تلون في أثوابها الغول
ولا تمسك بالعهد الذي زعمت
إلا كما تمسك الماء الغرابيل
وقال امرؤ القيس يرد على بسباسة التي اتهمته بالكبر:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي
40
كذبت! لقد أصبي على المرء عرسه
وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
41
على أن الشاعر الجاهلي في ماديته لا يعنى كثيرا بوصف أخلاق المرأة، وعرض نفسيتها، وتحليل عواطفها، كما لا يعنى بتصوير لواعج نفسه، وتلمس خفاياها، واستخراج الأهواء المتدفقة فيها. فقد كان يحس كل الإحساس بالألم والخيبة، واللذة والأمل، فتعبر عن هذه المشاعر دموعه وابتساماته، وتلهفه وابتهاجه، أكثر مما تعبر عنها صوره وألوانه. فهو يحسن تصوير الأشياء المرئية التي تبعث فيه الشعور والاشتياق، ولا يحسن مع ذلك تصوير ما في النفس من خوالج وانفعالات. وربما ظهرت شخصية المرأة في شعرهم عامة مشتركة، لتواطئهم على أوصاف راتبة لا يجاوزونها، ولا يحيدون عنها، فقلما وجدت فرقا بين واحدة وأخرى من عرائس الإلهام.
والغزل الجاهلي بما فيه من فطرة لا يخلو من سذاجة التعبير عن حب الشاعر وشكواه وتضجره من العواذل، ولكن فيه من الأنفة والإباء ما يرفعه عن التذلل والعبودية وتعفير الوجه على أقدام الحبيبة، وكثيرا ما تمتزج ألفاظ الحب بألفاظ الحرب، ولا سيما عند الشعراء الفرسان. (6) الطبيعة
لا يستغرب من الشاعر الجاهلي أن ينظر إلى الطبيعة ويمعن في وصفها، وهو يعايشها غير مصارم لها بهجران، ويواصلها غير منفصل عنها بحائط أو بنيان. يتكل عليها في حياته ورزقه، مع ما هي عليه من الغلظة والقساوة وقلة العطاء. فقد وجد العرب في بادية عطشى قليلة الماء، لا تجري فيها الينابيع الغزيرة فضلا عن الأنهار؛ لتروي الأرض وتبعث الخير من بواطنها، فآمالهم بالخصب معقودة على ماء السماء، وربما حطمتهم السنة وعضتهم الفاقة لاحتباس المطر وإخلاف الربيع، فتظلم الدنيا في عيونهم من صحو دائم وصفاء راتب.
وفصل الأمطار قصير في الصحراء، ولكنه مستطيل على إحياء الأرض لما بها من قوة كامنة، فلا يمضي على سقوط الغيث عشر ليال حتى ينبت الربيع كما ذكر ابن دريد: «فما لبثنا إلا عشرا حتى رأيتها روضة تندى.» ولطالما نشبت الحروب واستحكمت العداوات بينهم لتزاحمهم على المياه والمراعي، كما يتزاحم أهل الحضر ويتقاتلون على المرافق الاقتصادية.
وفي الشعر الجاهلي أوصاف كثيرة للربيع تنظر إلى حياتهم المادية بدافع الرخاء والشدة، لا إلى حياتهم الروحانية بعامل المتعة والشعور الباطن. فكان الربيع عندهم نجعة للإبل وموردا للرزق، فإذا أخطأهم أجدبت المراعي وجف الضرع وعم الجوع والبلاء. فحياة البدوي من إبله، وحياة الإبل من الكلأ، وقديما قال قائلهم: «إذا أخصبت الدهناء ربعت العرب جمعاء.» وإذا ربعوا: «غيبت الشفار وأطفئت النار»؛ لأنهم يشربون اللبن ولا ينحرون النياق فعلهم أيام القحط وانقطاع الأمطار.
وحاجة البادية إلى الماء جعلت لفصل الأمطار شأنا خطيرا في الشعر الجاهلي؛ لأن البدوي يشعر بالجوع في أواخر الصيف، ويحزنه أن يرى العشب يابسا والغدران والآبار جافة، وتمله الطبيعة بصحوها المستمر وحرها الخانق، فتأخذه الكآبة خوفا من الجدب إذا احتبس المطر، وضجرا من حياة متشابهة، ويظل على هذه الحال خاضعا للقدر، مرجيا تبدل وجه السماء لتأتيه بالغيث والفرج. حتى إذا اغبر الأفق وسطع البرق، ابتهج ومضى يتأمل هذه الظواهر الجديدة مترقبا نزول المطر، كما قعد امرؤ القيس بين ضارج والعذيب ينظر فرحا إلى البرق والسيل الجارف يسحو الجبال ويفترش الصحراء، فتنقلع الأشجار، وتنهدم الآطام إلا ما بني بالحجارة، وتسكر الطير وتوحل السباع.
أصاح ترى برقا أريك وميضه
كلمع اليدين في حبي مكلل
42
وكما وقف أوس بن حجر يتلمس السحاب وقد أطبق عليه، وتهدلت أذياله وفجره الرعد بالقطار:
دان مسف فويق الأرض هيدبه
يكاد يدفعه من قام بالراح
43
كأن فيه إذا ما الرعد فجره
دهما مطافيل قد همت بإرشاح
44
وكما أرق ملحة الجرمي للبارق الوامض، فابتهج به وبشر الأرض بالحياة بعد البلى:
أرقت وطال الليل للبارق الومض
حبيا سرى يجتاب أرضا إلى أرض
كأن الشماريخ العلى من صبيره
شماريخ من لبنان بالطول والعرض
45
يباري الرياح الحضرميات مزنه
بمنهمر الأرواق ذي قزع رفض
46
يروي العروق الهامدات من البلى
من العرفج النجدي ذو باد والحمض
47
ويشتد ابتهاجهم عندما تهب الريح من جهة اليمن كما هبت ريح ملحة الجرمي من ناحية حضرموت، فإنها تأتي رخاء وتبشر بمطر غزير وخصب قريب، ولذلك اشتقوا معنى اليمن من الريح اليمانية، كما اشتقوا معنى التشاؤم من الريح الشآمية؛ لأنها تأتي بالبرد والصقيع، وتنذر بانقطاع المطر والقحط والجوع.
والبدوي يؤثر البرد في جسمه لتعوده الحرارة، ولا سيما الفقراء في أطمارهم البالية، والمسافرون الذين يخبطون الليل في جوف الصحراء، حتى إنهم سموا البرد نحسا لتطيرهم منه. وقد يضطر البدوي في شدة البرد إلى أن يحطم قوسه ويشعلها ليستدفئ بها، وهي عزيزة عليه. قال الشنفرى:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
وأقطعه اللاتي بها يتنبل
48
وقد وصف الشاعر صحراءه في بردها وحرها، في برقها وأمطارها، في عواصفها ورياحها، وأحاط بجبالها وسهولها ورمالها، وتكلم على نباتها وأشجارها الشائكة، وذكر طيرها وحيوانها، وأخرج عن الأماكن التي يمر بها في ترحله مصورا جغرافيا يكاد يكون وافيا. ووصف الليل الطويل وما ينتابه في ظلامه الدامس من الخوف والأرق، وسما إلى الكواكب يتبين مطالعها ومغاربها، ويتضجر من ثباتها إذا وجد الليل طويلا في حزنه وهمومه. قال امرؤ القيس:
فيا لك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل، شدت بيذبل
49
وقلما خرج إلى تصوير الطبيعة الحضرية الغنية بمياهها وأشجارها كما وصف النابغة الفرات وهو عند الملك النعمان. ولم يستفيضوا في الكلام على البحار؛ لأن سوادهم يقطن في قلب الصحراء. وما غرروا بأرواحهم فركبوا في السفن، وكافحوا جنون الأمواج؛ ليترك البحر أثرا في نفوسهم كما تركت الفيافي والقفار، فما له عندهم إلا ذكر عارض نرى له مثالا في معلقة طرفة وهو ربيب البحرين.
على أن الشاعر الجاهلي، في ماديته الكثيفة، لم تظهر عنده عاطفة الطبيعة واضحة جلية، فكان ينظر إليها ويتأملها مبتهجا أو مكتئبا لمرآها، لا يستطيع أن يعبر عن اختلاجات نفسه نحوها، وما يعتريها من التأثرات في نظره إليها، ولا أن يبث الحياة فيها، فيجعل روضتها امرأة حسناء يشتهيها ويبادلها الشعور، أو يبدع منها أشخاصا - على ما يوحي إليه خياله - يحلل نفسياتهم في ما يتبادلون من الأحاديث والنظرات والحركات، فيمثل فيهم الغيرة والحسد والمراقبة والنميمة والرحمة والإشفاق كما يفعل الشاعر العباسي والأندلسي؛ وبالأولى ألا ينظر إليها نظرا شاملا للجماعة الإنسانية وما يبدو في حياتها من خير وشر وقبح وجمال؛ ليجرد منها فكرة فلسفية كما يفعل الشعراء من أبناء زماننا. وإنما كانت الطبيعة عنده محط الرحال ينقلها جزئيات صورا وألوانا، لا نقطة السير يستلهمها كليات فكرة وخيالا، فيختزن المحسوسات وانطباعاتها، ثم يجمع بعضها إلى بعض، ثم يحللها ويركبها، ويخترعها صورا جديدة أو يخلقها خلقا مبتكرا سويا. بيد أنه أجاد تصويرها من النواحي التي سلكها، وكانت له تخيلات جميلة في تمثيلها وتشبيهها. (7) الخمريات
كان أهل الجاهلية أصحاب لهو وشراب، على حد تعبير الرواة والمؤرخين القدماء، في كلامهم على الذين هجروا الخمرة منهم بعد إسلامهم، أو الذين كانوا من المحدودين فيها؛ لأنهم شربوها وهم مسلمون. ويدلنا، على مبلغ كلفهم بها وإخبارهم عنها، ما في المعجم اللغوي من أوضاع لها لا تكاد تقل عما للبعير من أسماء وصفات. وهذا من تنبهات الأب لامنس في كلامه على الأخطل. مع أن الصحراء ليست موطنا للكروم والمعاصر ما خلا البلدان الصالحة لغرس الأعناب والنخيل كاليمن والطائف ويثرب ووادي القرى، وذكر أنه كان للأعشى معصر في أثافت، وهي قرية يمانية ذات كروم كثيرة، والخمرة تصنع من التمر كما تصنع من العنب، ولم نعثر على شعر جاهلي يفرق بين الشرابين، أو بين النبيذ والراح، وإنما نجد هذا الفرق في الإسلام.
على أن الشعر الخمري يتحدث عن التجار الغرباء: يهود أو نصارى، يأتون البادية بزقاق الخمر من نواحي الشام والعراق، ويخالطون قبائل الأعراب، فينصب التاجر خيمة ويرفع عليها راية يسمونها الغاية، فيقبل نحوها الشاربون حتى تفرغ الزقاق، فيقلع غايته، ويقفل إلى بلده، ويتحدث أيضا عن الشعراء الذين ينزلون الحواضر، ويشهدون فيها مجالس اللهو والشراب، ويسمعون غناء القيان يضربن على الصنج والعود. قال الأعشى:
ومستجيب تخال الصنج يسمعه
إذا ترجع فيه القينة الفضل
50
وقال لبيد:
بصبوح صافية وجذب كرينة
بموتر تأتاله إبهامها
51
ويبدو من كلامهم أن معاقرة الخمر من علامات الفتوة عندهم كما قال طرفة:
ولولا ثلاث هن من لذة الفتى
وحقك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
فيفاخرون بما بذلوا من المال لأجلها، فقد أنفق طرفة ثروته عليها ولم يجد غضاضة في ذلك، واستهلك عنترة ماله مباهيا بكرمه:
وإذا شربت فإنني مستهلك
مالي وعرضي وافر لم يكلم
ويؤدون أثمانها - في الغالب - نوقا أو جيادا أو ثيابا يبادلون بها لقلة الدراهم في أيديهم. قال الأعشى:
فقلت له هذه هاتها
بأدماء في حبل مقتادها
52
وقال طرفة:
وإذا ما شربوها وانتشوا
وهبوا كل أمون وطمر
53
وربما دفعوا ثمنها دنانير، كما قال عنترة:
ولقد شربت من المدامة بعدما
ركد الهواجز بالمشوف المعلم
54
ويعتد صاحبها بأنه يشرب ويسقي ندماءه ويبذل حتى تلومه عذاله. ويمدحون الشارب إذا أنزل غاية التاجر، أي إنه اشترى جميع ما عنده من الخمر، قال عنترة:
ربذ يداه بالقداح إذا شتا
هتاك غايات التجار ملوم
55
على أن التمدح بعقارها وإغلاء أسعارها لم يصرف الشاعر عن وصفها وذكر مجالسها، فنراه يؤثر اصطباحها عند صياح الديك أو قبله، أو حين تضرب نواقيس الكنائس لصلاة الصبح، فيسبق انتباه العواذل إلى حانوت الخمار في فتية من أصحابه بيض كرام يحبون اللهو والمنادمة، وربما اغتبقوها مساء بعد أن يلطف الجو وتخف الحرارة كما شربها عنترة. ولكنهم أكثروا من ذكر الصبوح، قال عدي بن زيد:
ثم ثاروا إلى الصبوح فقامت
قينة في يمينها إبريق
قدمته على عقار كعين الد
يك صفى زلالها الراووق
56
ووصفوا لون الخمرة من كميت أو حمراء كدم الذبيح أو دم الغزال، صافية كعين الديك. وربما ذكروا العنب الذي عصرت منه. قال متمم بن نويرة:
ولقد سبقت العاذلات بشربة
ريا وراووقي عظيم مترع
جفن من الغربيب خالص لونه
كدم الذبيح إذا يشن، مشعشع
57
ونوهوا بطعمها ورائحتها وقدم عهدها، فهي تلذع اللسان، وتنفح كالمسك، وتسل غمامة المزكوم، وأحاطوا بأوصاف الحانة وما فيها من زقاق ودنان وأباريق وكئوس، كما وصفوا النديم والساقية وطاقات الرياحين وما يصيبون من الشواء على الشراب. وعند الأعشى شيء كثير من ذلك. ولعبدة بن الطبيب قصيدة في «المفضليات» ذكر فيها مجلس لهوه بإسهاب جميل، فأخبر أنه غدا إلى التاجر عند الصباح، وقرن الشمس منفتق، والديك يصيح داعيا أسرته. يرافقه صديق كريم محب للذات، فاتكآ على فرش نقشت فيها صور دجاج وأسود. وكانا في كعبة
58
يضيئها مصباح، ولديهما دن مقطوع الرأس، وإبريق مبرد بمزاج الماء، معقود على قلته إكليل من الريحان، وجرة ضخمة مثقوبة، وقطعة من كبش مشكوكة في سفود، يسعى بها خادم نشيط منتطق، وفوق الخوان التوابل من الخل والأبازير. فاصطبحا كميتا من طيب الراح صرفا مزاجا، وغنت لهما آنسة جيداء، حسنة الصوت، في شعر جميل الوشي، فأطربتهما، فخلعا عليها ما يرتديان من البرود والسرابيل.
ويشربونها مبردة بريح الشمال، صرفا أو ممزوجة بالماء، أو بالعسل والماء. قال حسان بن ثابت:
كأن سبيئة، من بيت رأس
يكون مزاجها عسل وماء
59
وقد يدخلون عليها المسك لتطيب رائحتها، أو حب الفلفل ليشتد لذعها. قال امرؤ القيس:
كأن مكاكي الجواء، غدية
صبحن سلافا من رحيق مفلفل
60
وشربوها ممزوجة بالماء السخين جريا على عادة الروم، وهم العرب الذين جاوروا البزنطيين أو خالطوهم مثل عمرو بن كلثوم، حيث يقول:
مشعشعة كأن الحص فيها
إذا ما الماء خالطها سخينا
61
ومثل عدي بن زيد العبادي عندما جاء دمشق من الحيرة وأقام بها مدة فقال:
قد سقيت الشمول في دار بشر
قهوة مزة بماء سخين
62
وذكروا سورة الخمر وتأثيرها، وحالة السكارى في معاقرتها. قال الحادرة الذبياني:
فسمي ما يدريك أن رب فتية
باكرت لذتهم بأدكن مترع
63
محمرة عقب الصبوح عيونهم
بمرى هناك من الحياة ومسمع
64
متبطحين على الكنيف كأنهم
يبكون حول جنازة لم ترفع
65
بكروا علي بسحرة فصبحتهم
من عاتق كدم الغزال مشعشع
66
ووجدوا فيها طيب العيش ولذة الحياة، تطرد عنهم الهموم وتفرج الكرب. قال متمم بن نويرة:
ألهو بها يومي وألهي فتية
عن بثهم إذ ألبسوا وتقنعوا
67
وتبعث فيهم نشوة وزهوا، فتخرجهم من دنياهم إلى دنيا جديدة، يحسبون أنفسهم فيها ملوكا، ويزدادون شجاعة. قال المنخل اليشكري:
فإذا سكرت فإنني
رب الخورنق والسدير
68
وإذا صحوت فإنني
راعي الشويهة والبعير
69
وقال حسان بن ثابت:
ونشربها فتتركنا ملوكا
وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
70
وعبروا في حبهم إياها عن شعور صادق، وأحاطوها بكل كرامة، لا يرون خيرا في مصارمتها، حتى بعد الممات. قال أبو محجن الثقفي، وهو من المخضرمين:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة
تروي عظامي بعد موتي عروقها
وإذا أرادوا أن يحثوا نفوسهم على أخذ الثأر جعلوا تحريمها حافزا لهممهم فلا يشربونها إلا بعد إدراك طلبتهم. وتواضعوا على أن يجدوا طعمها في رضاب الحبيبة، ونكهتها في فمها، فعل كعب بن زهير والمرقش الأصغر حيث يقول:
وما قهوة صهباء كالمسك ريحها
تعل على الناجود طورا وتقدح
71
ثوت في سباء الدن عشرين حجة
يطان عليها قرمد وتروح
72
سباها رجال من يهود تباعدوا
بجيلان يدنيها إلى السوق مربح
73
بأطيب من فيها إذا جئت طارقا
من الليل بل فوها ألذ وأنضح
74
وإذا وقع أحد الأشراف في الأسر ولم يجد منجاة من الموت، سأل أعداءه أن يقتلوه قتلة كريمة كما سأل عبد يغوث الحارثي بني تميم، فسقوه خمرا وقطعوا له عرقا يقال له الأكحل، وتركوه ينزف حتى مات. ويذكر ابن قتيبة ثلاثة من سادات العرب شربوا الخمر صرفا حتى ماتوا، وهم زهير بن جناب، وأبو براء ملاعب الأسنة، وعمرو بن كلثوم. وكان الغضب قد استولى عليهم لما نالهم من أذية لم تصبر عليها عنجهيتهم، فآثروا الموتة الكريمة على احتمالها. وقد يسقى ضريح الميت خمرا إذا كان من عشاقها في الحياة. فقد ذكر الرواة أن فتيان منفوحة كانوا يأتون قبر الأعشى ويسكرون عنده، ويريقون الأقداح على ثراه.
ولكن الخمرة لم تسلم من ذم بعضهم والابتعاد عنها وإنكارها، فإن قيس بن عاصم أقسم ألا يذوقها طوال حياته بعدما قادته إلى إثم كبير، وقال فيها:
رأيت الخمر صالحة وفيها
خصال تفسد الرجل الحليما
فلا، والله أشربها صحيحا
ولا أشفي بها أبدا سقيما!
ولا أعطي بها ثمنا حياتي
ولا أدعو لها أبدا نديما!
ولم يشأ زهير بن أبي سلمى أن يمدح صاحبه حصن بن حذيفة بن بدر بشرب الراح حتى يستهلك ماله، بل قال فيه:
أخي ثقة لا تتلف الخمر ماله
ولكنه قد يهلك المال نائله
75
على أن الذين شربوها ومدحوها أكثر من الذين هجروها وذموها. وزهير نفسه كرم الخمرة حين شبه بها ريق صاحبته فقال:
كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت
من طيب الراح لما يعد أن عتقا
وذكر أنه شربها مع أصحابه إذ يقول:
وقد أغدو على ثبة كرام
نشاوى واجدين لما نشاء
76
لهم راح وراووق ومسك
تعل به جلودهم وماء
وهو لم ينزه ممدوحه عن شربها، وإنما نزهه عن إتلاف ماله فيها؛ ليجعله مستهلكا في العطاء. ولم يهجرها قيس بن عاصم؛ لأنه مقت ارتشافها، أو رآها غير صالحة لإرواء غليله وشفاء نفسه، وإنما عقها بعدما ورطته في أقبح المعرات. فشعراء الجاهلية - على الإجمال - أحبوا الخمرة وشربوها وافتنوا في وصفها، على ما بينهم من تفاوت، فتركوا من معانيهم وتصاويرهم أشياء لمن جاء بعدهم من شعراء الدولتين. (8) الحكم والمواعظ
الحكم في الجاهلية وليدة حوادث الدهر وتجاربه، لا وليدة العلم الصحيح والتفكير العميق والتأمل الطويل. فجاءت - في كثرتها - من الحقائق البدهية والفكر المشترك، موافقة لحياة القبيلة في الصحراء، وما تواضعت عليه في ناموسها الفطري من الآداب الخلقية والاجتماعية، ترشد البدوي إلى منافعه، وتبعده عن مضاره، تزين له الفضائل التي تحمدها الحمية الجاهلية كتعظيم القوة وتحقير الضعف، وظلم البعداء والحلم على الأقرباء، والعفة عن الجارة، وإدراك الثأر، وصنع المعروف لنيل الثناء واكتساب الذكر الجميل، كما تزين له فضائل إنسانية لا يحدها زمان ولا مكان كالأمانة والوفاء بالوعد، واصطفاء الصديق، وتجنب الرياء والخيانة، وإباء الذل، والصبر على المصائب. ونظروا في حياتهم الاقتصادية، فتكلموا على الكسب وجمع المال وتثميره وحسن القيام عليه. قال المتلمس:
لحفظ المال خير من بغاه
وسير في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه
ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقابل عروة بن الورد بين الغني والفقير فرأى الناس يزدرون الفقير ولا يجعلون له وزنا في مجتمعهم ولو كان عاقلا فاضلا؛ ورآهم يعظمون الغني مبالغين في إطراء فضائله، متناسين عيوبه وما يقترف من ذنوب، فقال يخاطب امرأته:
دعيني للغنى أسعى فإني
رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم
وإن أمسى له حسب وخير
77
ويقصيه الندي وتزدريه
حليلته وينهره الصغير
78
ويلقى ذا الغنى وله جلال
يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جم
ولكن للغنى رب غفور
ولم تسمح لهم بيئتهم الطبيعية والاجتماعية بأن يخرجوا في آرائهم إلى نظم إصلاحية عامة، فجاءت حكمهم جزئية يفيد منها المجموع، لا كلية شاملة تتوخى خير الجماعة، وتعنى بعلاج مشاكلها، ووضع الشرائع والقوانين لتقويمها وصلاحها.
وتستوقفنا ظاهرة غريبة في آرائهم، وهي إسرافهم في الكلام على الموت والدهر الذي يبلي الحياة، ويفرق بين الأهل والأصحاب. فأكثر شعرهم يشتمل على شكوى الزمان وصروفه وتقلباته، ويتراءى فيه شبح الموت ماثلا نصب عين الشاعر، يبعث القلق في صدره، لاستغلاق غده، وغموض مصير النفس عليه، فيحمله على اليأس والسأم والاستسلام إلى القدر، أو على اقتحام المخاطر وإغاثة المعوزين وذوي الحاجات طلبا لحسن الأحدوثة، أو على تبديد المال ومبادرة الملذات قبل فواتها، ما دام المرء غير مخلد، وقل من كان مصير النفس لا يلتبس عليه كعدي بن زيد لنصرانيته، حيث يقول:
أعاذل من تكتب له النار يلقها
كفاحا ومن يكتب له الفوز يسعد
فلم يسع إلى طلب الملذات كغيره، بل نبه الغافل ليصلح أمره قبل أن يسابقه الموت فيسبقه:
أيها النائم المغفل أبصر
أن تكون المبادر المبدورا!
وعمل لتأديب نفسه وتزيينها بالتقوى، ووعظ وأدب، فشاعت في شعره روح دينية تحيي الأمل، وتخفف من ذلك اليأس الوثني الذي يقلق الشاعر الجاهلي. قال:
فدع الباطل والحق بالتقى
فتقى ربك رهن بالرشد
وتأتي حكمهم مقترنة بالمدائح كما نجدها عند زهير والنابغة والحطيئة؛ إذ يقول في مدح بني شماس:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
أو مقترنة بالمفاخر كما تظهر في شعر حاتم الطائي مثل قوله في العفو عن المسيء:
وأغفر عوراء الكريم ادخاره
وأعرض عن ذات اللئيم تكرما
79
وفي شعر عمرو بن معدي كرب إذ يقول في تعريف الجمال:
ليس الجمال بمئزر
فاعلم، وإن رديت بردا
إن الجمال معادن
ومناقب أورثن مجدا
أو مقترنة بالمراثي كما نتبينها في رثاء لبيد لأخيه أربد، وفي رثاء أبي ذؤيب الهذلي لأولاده حيث يقول في حكم الموت الذي لا مرد له:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
ألفيت كل تميمة لا تنفع
أو مقترنة بالأهاجي مثل قول زهير في بني حصن:
وإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
أو بالشكوى والعتاب والدفاع عن النفس كفلسفة طرفة في الحياة والموت واتباع الملذات.
وقد تأتي مواعظ مجردة يقصد منها النصح والإرشاد كآراء زهير في معلقته، وآراء عدي بن زيد في مجمهرته. ومنها قول أمية بن أبي الصلت في وصف السماء والملائكة، وسوق الهالكين إلى النار وهم ينادون بالويل والثبور، وكان أمية نصرانيا على مذهب الحنفية:
وسيق المجرمون وهم عراة
إلى ذات المقامع والنكال
80
فنادوا ويلنا ويلا طويلا!
وعجوا في سلاسلها الطوال
81
وقلما رأينا شاعرا جاهليا يخص قصيدة كاملة بالحكم والمواعظ، دون أن يتناول غرضا آخر أو عدة أغراض، ولا نستثني زهير بن أبي سلمى حكيم الشعراء، فإنه على شهرته في النصح والإرشاد، كان يبث الحكم أبياتا في مختلف أشعاره لا ينظمها مستقلة برأسها، وإن تكن معلقته حوت طائفة حسنة من آرائه الخلقية والاجتماعية. ونستثني عدي بن زيد فإنه قصر مجمهرته على تأديب النفس وإطراء الفضائل، فجاءت في مجموعها، تدعو إلى الخير والصلاح في اكتساب الصفات المحمودة ومعاملة الناس بالإحسان، ومنها قوله:
فنفسك فاحفظها من الغي والردى
متى تغوها يغو الذي بك يهتدي
ويضرب هذا المثل الجميل الذي يذكرنا بالمثل الفرنسي المأثور: «قل لي من تعاشر أقل لك من أنت»:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
وآراؤهم - في الجملة - فردية كأصحابها، فكل بيت مستقل بحكمته، لا يتصل بغيره إلا قليلا أو نادرا، ويغلب عليها الأسلوب الخطابي بما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب، وضرب المثل السائر في البيت العائر. وربما اصطنعوا الأمثال القصصية يعظون بها وينصحون ويحذرون، وأكثرها أساطير اشتبهت فيها حقيقة التاريخ، وتبلورت بخيال يجنح إلى الإغراب، ولكنه لا يبلغ حد الإبداع، فجاءت قصصهم جافة في معظمها، قصيرة النفس لا يزيد أطولها على بضعة وعشرين بيتا، وتكاد تقتصر على الشعراء الذين سكنوا الحضر أو ترددوا في الأمصار كعدي بن زيد والنابغة والأعشى وأمية بن أبي الصلت؛ مما يدل على أن مخالطتهم لسكان الحواضر أكسبتهم ثقافة واطلاعا على أخبار الأمم والملوك، وما حيك حولها من الخرافات والأساطير. فعدي بن زيد أكثر من الاعتماد على الأمثال القصصية في قصائده، ولا سيما شعره الذي قاله وهو سجين، فكان ينظمها مسليا نفسه، متأسيا بما أصاب الشعوب الخالية من غير الأيام والليالي، أو ينظمها ليعظ بها النعمان أبا قابوس عارضا عليه صور الملوك الذين أذلهم الدهر بعد عزهم، فذهبوا ضحية الغفلة والغرور، أو ضحية الخيانة والغدر، وغيرهم من الذين اتعظوا قبل فوات الأوان، فتركوا الدنيا ليربحوا الآخرة. فمنها أسطورة النعمان السائح رب الخورنق والسدير، وأسطورة جذيمة الأبرش والزباء، وأسطورة صاحب الحضر وابنته وسابور. قال في أسطورة النعمان السائح يخاطب أبا قابوس:
وتذكر رب الخورنق إذ أش
رف يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يم
لك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه فقال: وما
غبطة حي إلى الممات يصير؟
ثم بعد الفلاح والملك والإمة
وارتهم هناك القبور
82
ثم صاروا كأنهم ورق جف
فألوت به الصبا والدبور
83
والنابغة الذبياني اصطنع الأمثال في شعره؛ ليعظ بها قومه أو ممدوحه، فعندما أراد أن يدعو النعمان إلى نبذ أقوال الوشاة، وأن يكون صادق النظر في الحكم عليه، قص عليه أسطورة زرقاء اليمامة التي استطاعت أن تعد سرب القطا الطائر بين جبلين لصدق بصرها، وإن يكن نظر النعمان مرجعه العقل، ونظر الزرقاء مرجعه العين، فإن الصدق هو الجامع بين النظرين، وكذلك أسطورة الحية والأخوين، فإن هدفه فيها أن يقول لقومه إن الثقة المتبادلة انقطعت بينه وبينهم كما انقطعت بين الحية وأخي القتيل بعدما أخذ الدية منها وأقسم لها على الوفاء ، ثم خانها وغدر بها.
والأعشى يروي لشريح بن السموأل خبر وفاء أبيه ليأمن في جواره، وأمية بن أبي الصلت يعظ ويذكر بأنباء التوراة كقصة لوط وخراب سدوم، وخبر إبراهيم وتضحيته بإسحاق. ولا ينبغي أن تغفل قصة الثور الوحشي والحمار الوحشي عند أبي ذؤيب الهذلي في عظة نفسه وتعزيتها.
وشعراء الجاهلية - على الإجمال - نطقوا بالحكمة وضربوا الأمثال، على تفاوتهم في القلة والكثرة، وشارك بعضهم بعضا في الأفكار والعظات، فترددت آراؤهم مستعادة مكرورة، تواطئوا عليها كما تواطئوا على مختلف المعاني والتعابير، وقلما وقعت على فلسفة شخصية يتميز فيها الواحد منهم عن الآخر مع ما يبدو عليها من سذاجة وضعف في الأحكام وتعليل الأسباب.
هوامش
شعراء الجاهلية
(1) الشنفرى (1-1) حياته
هو أحد صعاليك العرب وعدائيها، جاهلي قديم، والمشهور أن اسمه ثابت بن أوس الأزدي، والشنفرى لقب له لعظم شفتيه. اختلف في مولده؛ فقيل: إنه نشأ في قومه الأزد ثم أغاظوه فهجرهم. وقيل: ولد في بني سلامان أو أنهم سبوه صغيرا فنشأ بينهم حتى عرف حقيقة أمره فهرب مضمرا لهم الشر، وأقسم أن يقتل منهم مائة، فأخذ يترصدهم ويفتك بهم حتى إذا بلغ عدد القتلى تسعة وتسعين قبضوا عليه وقتلوه وطرحوا جثته وجمجمته عرضة للضواري لتفترسه، فمر بجمجمته رجل منهم ورفسها برجله فدخلت فيها شظية فأماتته وتمت به المائة، فقرت عين الشنفرى بعد موته وبر بقسمه، ومثل هذه الرواية كثير في أخبار العرب فلا ينبغي التعويل عليها. (1-2) آثاره
له أشعار متفرقة في كتب الأدب، وكلها في وصف غاراته وشدة بأسه، وأشهرها قصيدته المعروفة بلامية العرب، وشك بعضهم في نسبتها إليه، وأضافها ابن دريد إلى خلف الأحمر، ونسبها غيره لشعراء صدر الإسلام. على أن هذا الشك لا يضيرها من حيث تعابيرها الجاهلية وموافقتها لحياة الشنفرى وما رافقها من شظف عيش وخشونة طباع.
وقد عني بشرحها كثير من العلماء كالمبرد وثعلب والزمخشري، ودرسها المستشرقون ونقلوها إلى لغاتهم. (1-3) ميزته
يمثل الشنفرى في شعره الخشن حياة البدوي الغليظ الطباع، الذي جافاه قومه فأبت نفسه الحرة أن تحمل الضيم فتركهم ساخطا عليهم؛ لأنهم خذلوه في جناية اقترفها، وأبوا أن ينصروه، ورأى أن الأرض لا تضيق على امرئ عاقل، وأن السباع التي يعاشرها أفضل منهم؛ لأنها أكتم للسر ولأن الجاني لا يخذل عندها.
وحياة هذا الشاعر حافلة بالجرائم، فقد كان يقطع الطرق على المسافرين يستبيح أموالهم ويسبي ظعائنهم، أو يغير على الأحياء الآمنة فيلقي الذعر فيها ويقتل ويغنم.
وفي لاميته الشهيرة يصور أخلاقه وعاداته أحسن تصوير، ويصف غارة له في الليلة المظلمة الباردة، وعودته قبل الصباح بعدما أيم النسوان وأيتم الأولاد، فيمثل بإيجاز بديع حياة صعاليك العرب وغزواتهم وما يصيبهم من جوع وبرد وخوف.
يفاخر بالتشرد والفتك والسلب كما يفاخر بفقره وجوعه وقناعته. يكره الجشع إذا مدت الأيدي إلى الطعام، ولا يرى غضاضة في ذكر قذارته، بل يباهي بأن حياة التصعلك منعته من الاغتسال حولا، حتى تعلقت الأوساخ بشعره تعلق الأبعار بأذناب الإبل. ومن مناقبه أن يغالب القطا في الجري فيسبقها إلى ورود الماء، ولا بدع في ذلك وهو أحد العدائين عند العرب، فمن حقه أن يغالي في عدوه، وإن يكن هذا الغلو لم يخرجه عن فطرته التي تتمثل في جميع شعره، فنجده متصلا بالطبيعة والمادة، بارز الأنانية في تحدثه عن نفسه، وإيثاره إياها بالشرف والفضائل، وميله إلى الانفراد عن قومه لئلا تنتقص حريتها، وتضام في كبريائها وعنجهيتها. يثور عليهم ويشكو ويتظلم لأنهم لم ينصروه في جناياته، ولا حملوا الديات عنه، فهم في نظره مذنبون إليه لا خير يرجى منهم، وأما هو فليس بمذنب، وإن حملهم أكبر الجرائم. تلك هي الفطرة بسذاجة تفكيرها وصدق تعبيرها، وما في صاحبها من قوة الشخصية، وخشونة الطباع.
وليست اللامية وحدها تشتمل على هذه الصفات، بل سائر شعره يجري على سجيته، صريحا عاريا من التكلف والتمويه، ولا سيما تائيته التي يستهلها بالغزل فيصف صاحبته خير وصف تظهر فيه المرأة المحمودة في الجاهلية خلقا وأخلاقا، على ما فيه من إيجاز، ثم يتطرق إلى ذكر صديقه تأبط شرا في غزوة غزاها معه مفاخرا بشجاعته وشدة بأسه وأخذه بثأر أبيه. وفي التائية من غريب اللغة ووحشيها ما لا يختلف عما نجده في لاميته. (2) المهلهل (2-1) حياته
هو أبو ليلى عدي بن ربيعة التغلبي أخو كليب وائل وجد عمرو بن كلثوم لأمه، وقيل: إنه خال امرئ القيس الشاعر. وزعموا أنه سمي مهلهلا لأنه هلهل الشعر أي أرقه، وفي ذلك يقول الفرزدق: ... ... ... ...
ومهلهل الشعراء ذاك الأول
وعرف بالشجاعة والإقدام. غير أن ابن سلام يقول: «وزعمت العرب أنه كان يتكثر ويدعي في قوله بأكثر من فعله.» وكان يقضي أوقاته في اللهو ومعاقرة الخمر ومصاحبة النساء، فلقبه أخوه كليب «زير النساء» أي كثير الزيارة لهن. ولم يكن ينظم من الشعر إلا بعض أبيات في الغزل والملاهي حتى قتل أخوه فأهابت به عاطفة الحزن فنظم القصائد الطوال في رثاء أخيه. ونشبت حرب البسوس بعد مقتل كليب بين تغلب وبكر فأبلى فيها المهلهل بلاء حسنا حتى مات. (2-2) موته
اختلفت الروايات في موته، فابن قتيبة يقول في كتابه «الشعر والشعراء» إنه مات في أسر عوف بن مالك بن ضبيعة في البحرين، ومنهم من يقول إنه مات عند أخواله من بني يشكر بعدما شاخ وضجر من الحرب. وابن الكلبي يقول: بل قتله عبدان كانا يخدمانه فملا منه وكان قد أسن وخرف. ونسب للمهلهل أنه لما أحس أن العبدين يريدان قتله أوصاهما أن ينشدا ابنته سليمى بيتا من الشعر، وهو:
من مبلغ الأقوام أن مهلهلا
لله دركما ودر أبيكما
فلما أنشداها البيت أوثقت العبدين وقالت: ما أراد أبي إلا أن يقول:
من مبلغ الأقوام أن مهلهلا
أضحى قتيلا في الفلاة مجدلا
لله دركما ودر أبيكما!
لا يبرح العبدان حتى يقتلا
ولا يخفى ما في هذه الرواية من التفكيه والإغراب. (2-3) حرب البسوس (494-534م ؟)
روي أن وائل بن ربيعة قاد قبائل معد كلها يوم خزازى
1
فهزم جموع اليمن، فاجتمعت عليه معد ونادوا به ملكا عليهم وقدموا له الطاعة، فداخله زهو شديد، وبغى على قومه حتى بلغ به بغيه أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه. ويقول: «وحش أرض كذا في جواري .» فلا يهاج، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره. وكان له كلب صغير يقذف به في المراعي فيعوي فلا يدخلها أحد إلا بإذنه. ويفعل ذلك في المناهل فلا يردها أحد إلا بأمره. حتى قيل: «أعز من كليب وائل.» ثم التصق تصغير الكلب باسمه من طول ترداده في الأفواه فصار يعرف بكليب وائل.
وكانت جليلة امرأة كليب من بني مرة بن ذهل بن شيبان، ولها عشرة إخوة منهم جساس وهو أصغرهم، فنزلت عليه يوما خالة له اسمها البسوس بنت منقذ، ونزل بالبسوس رجل من جرم من أخوال جساس اسمه سعد، ومعه ناقة اسمها سراب، فرعت مع إبل جساس وكانت إبله وإبل كليب مختلطة لما بينهما من المصاهرة. فأبصرها كليب فأنكرها، فرماها بسهم خرق ضرعها فولت الناقة تعج حتى بركت بفناء صاحبها، فلما رآها صرخ: يا لذل! ... فسمعت البسوس فخرجت وصاحت: «وا ذلاه! وا جوار جساس! وا جوار مرة! ...» ثم أنشدت تعنف بني مرة:
لعمري لو أصبحت في دار منقذ
لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار غربة
متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي
2
فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل
فإنك في قوم عن الجار أموات
ودونك أذوادي إليك فإنني
محاذرة أن يغدروا ببنياتي
3
وسر نحو جرم إن جرما أعزة
ولا تك فينا لاهيا بين نسوات
4
والعرب تسمي هذه الأبيات بالموثبات؛ لأنها أثارت جساسا، فطلب كليبا في الحمى فطعنه من ورائه طعنة أرداه بها. فلما وصل الخبر إلى المهلهل، وكان يشرب وهماما أخا جساس، قال: «يد جساس أقصر من ذلك.» وظل يشرب ويقول: «اليوم خمر وغدا أمر.» وشاع مقتل كليب في بني تغلب، فقامت عليه النوائح وشقت الجيوب، وعقرت الخيول. وأقام المهلهل زمنا على قبر أخيه يرثيه، ولا يفعل شيئا سوى الوعيد حتى يئس قومه منه. ثم هب للقتال فدارت رحى الحرب بين بكر وتغلب، وأيامها المشهورة خمسة: (1)
يوم النهي، وكان لتغلب على بكر. (2)
يوم الذنائب، انتصرت فيه تغلب وقتل شراحيل أخو جساس. (3)
يوم عنيزة، تكافئوا فيه. (4)
يوم واردات، وكان لتغلب على بكر، وقتل فيه همام أخو جساس. (5)
يوم تحلاق اللمم، انتصرت فيه بكر، وأسر الحارث بن عباد المهلهل، ثم أطلقه بعدما جز ناصيته.
وذكر أن حرب البسوس دامت أربعين سنة، وأن آخر من قتل فيها جساس قتله ابن أخته الهجرس بن كليب. وقيل: إن الملك المنذر والد عمرو بن هند ملك العراق هو الذي أصلح بين الفريقين بعد موت المهلهل. (2-4) آثاره
أشعار متفرقة في كتب الأدب كلها في رثاء أخيه كليب وتوعد قاتليه، وقد نحله القصاصون ديوان شعر ورواية تعرف «بقصة الزير» فيهما من ركيك العبارة، وسخيف النظم، وضعف التأليف ما يتبرأ منه المهلهل. (2-5) ميزته - الرثاء
نسب إلى المهلهل شعر في الغزل ولكنه قليل، وفي الأغاني أنه أول من استعمل الغزل في الشعر، غير أن ميزته الشعرية ليست في غزله؛ بل في رثائه وتفجعه على أخيه، في رقة عاطفته التي أكسبت شعره سهولة ولينا حتى ليدهشنا أن نجدها في شاعر جاهلي قديم عاش هو والشنفرى في عصر واحد بعدما رأينا ما في شعر هذا البدوي الخشن من متانة وشدة أسر. فكيف تمت الرقة لأحدهما ولزمت الخشونة الآخر؟
ولكي نجيب على ذلك يجدر بنا أن ندرس نشأة الاثنين، والبيئة التي عاشا فيها، وما رافق حياتهما من المؤثرات الخارجية. فالشنفرى عرفناه لصا صعلوكا يعيش مع الوحوش في الغابات والبراري بعدما طرده قومه، يشن الغارات في الليالي المظلمة الباردة، فيفتك وينهب، فلا بدع أن يكون شعره مرآة لحياته الخشنة. أما المهلهل فقد نشأ في بيت كريم النجار له السيادة على قبائل معد كلها، فانصرف إلى اللهو والطرب ومعاشرة النساء، ومعاقرة الخمر شأن الأمراء أمثاله. فليس من عجب أن تلين طباعه وترق عاطفته. ثم قتل أخوه كليب وما أخوه إلا عز بني تغلب ومجدهم، فاستولى عليه الحزن والجزع فسالت عاطفته على شعره فجاء رقيقا مهلهلا.
وهناك نظرة عامة لا نرى بدا من الإشارة إليها؛ وهي أن أكثر شعراء ربيعة لا يخلو شعرهم من لين وسهولة، ولعل قربهم من أمصار العراق والسواحل البحرية أكسبهم هذه الرقة، وليس من ينكر تأثير الإقليم في النفوس، فابن الساحل أرق طباعا من ابن الجبل، والساكن في المدن أو على مقربة منها ألين عاطفة ممن يعيش بعيدا عنها، ونحن نعلم أن أطراف جزيرة العرب المتاخمة للعراق والشام والحبش كانت في العصر الجاهلي أكثر حضارة من غيرها، ومن المعقول أن تؤثر هذه الحضارة في نفوس شعرائها فترق عواطفهم وترق معها ألفاظهم.
ومن فاسد الرأي أن نحصر رقة العاطفة في عصر دون آخر، فهي تعيش مع العصور كلها، وتكون في البدوي كما تكون في الحضري، وقد نجدها في شاعر يعيش في البادية ولا نجدها في آخر يعيش في الأمصار، ورب شاعرين يعيشان في عصر واحد وإقليم واحد، ترى في شعر أحدهما رقة وفي شعر الآخر خشونة، كجرير والفرزدق الشاعرين الأمويين، فالفرزدق في شعره لا يقل شدة وأسرا عن أخشن شاعر في الجاهلية، على حين أن جريرا ألين منه شعرا وأرق غزلا وعاطفة، وأي وجه للشبه بين شعر أبي نواس وشعر أبي تمام، وكلاهما عاش في العصر العباسي، وكلاهما اتصل بالخلفاء وحظي عندهم، فكان شعر أبي نواس رقيقا لينا، وشعر أبي تمام متينا خشنا مع أن الثاني جاء متأخرا عن الأول.
فأما وقد عرفنا ذلك فلا نعجب إذا قرأنا شعرا رقيقا في الجاهلية؛ بل ينبغي أن ندرس العوامل التي أثرت في نفس الشاعر فمنحته الرقة والسهولة. وقد عرفنا العوامل التي أثرت في نفس المهلهل فأرقت عاطفته وهلهلت شعره، فإذا هو يسمعنا في رثاء أخيه شبيه الماء سلاسة وعذوبة، مثال ذلك رائيته الحسناء التي قالها بعد أن دفن أخاه وأقام على قبره يرثيه:
أهاج قذاء عيني الاذكار؟
هدوءا فالدموع لها انحدار
5
وصار الليل مشتملا علينا
كأن الليل ليس له نهار
وللمهلهل أسلوب خاص في رثائه وتفجعه تظهر فيه تعابيره الشخصية، فهو إذا ألح عليه الحزن صعد الزفرات مكررة، وبدا لك منه غلو في تهديده بني بكر، وضربه عليهم معجزات الشروط ليرضى بمصالحتهم، ولعل الرواة استغلوا هذه الخاصة في الشاعر فأضافوا إليه ما ليس له؛ لأننا نقرأ في أشعاره أبياتا كثيرة فيها إسفاف وابتذال لا يصح نسبتهما إليه مهما بلغ شعره من اللين والهلهلة. وهذا ما جعل الرواة يزعمون أن الاضطراب والاختلاف من صفات شعر المهلهل، قال ابن سلام: «وإنما سمي مهلهلا لهلهلة شعره كهلهلة الثوب، وهو اضطرابه واختلافه. من ذلك قول النابغة: ... ... ... ...
أتاك بقول هلهل النسج كاذب»
ومن غلوه الفاحش قوله:
ولولا الريح أسمع من بحجر
صليل البيض تقرع بالذكور
6
وقد قيل إنه أكذب بيت قالته العرب، وبين حجر، وهي قصبة اليمامة، ومكان الواقعة عشرة أيام. (2-6) منزلته
وجملة القول أن المهلهل شاعر العاطفة في رثائه وتفجعاته المتصاعدة تكرارا، شاعر الغلو في تهديده وادعائه، وهو يمثل أحسن تمثيل رقة الشعر في قبائل ربيعة، وتأثير الإقليم والنشأة وعيشة الترف في البدوي، وما للعوامل النفسانية حزنا أو سرورا من أثر في العاطفة، وفي الشعر الذي يستقطر من تلك العاطفة، ويعد من الطبقة الثانية في شعراء الجاهلية. (3) المعلقات
هي أجود ما وصل إلينا من الشعر الجاهلي، وتسمى السموط أي العقود. قال أبو زيد القرشي في كتابه «جمهرة أشعار العرب»: إن أبا عبيدة قال: أصحاب السبع التي تسمى السموط: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وطرفة. وقال المفضل: من زعم أن السبع التي تسمى السموط لغير هؤلاء فقد أبطل. فأسقط من أصحاب المعلقات عنترة والحارث بن حلزة وأثبت الأعشى والنابغة. واعتمد أبو زيد القرشي على أبي عبيدة والمفضل في ترتيب أصحاب المعلقات؛ فجعلهم سبعة في مقدمة كتابه، ولكنه خالف ذلك عند ذكر القصائد، فأضاف إليهم عنترة فصاروا ثمانية. ولعل المخالفة من الناسخ لا منه.
وجعلهم التبريزي عشرة مضيفا إلى من ذكرنا أسماءهم قصيدة عبيد بن الأبرص، وجعلهم الزوزني في شرحه المشهور سبعة وهم: امرؤ القيس، وطرفة، وزهير، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وعنترة، والحارث بن حلزة، وهذا ما رأينا أن نتبعه نحن. (3-1) تعليقها على البيت الحرام
اختلف في تسميتها بالمعلقات؛ فزعم بعضهم - ومنهم ابن عبد ربه وابن رشيق وابن خلدون - أن العرب لشدة إعجابهم بها كتبوها في القباطي
7
بماء الذهب، وعلقوها على الكعبة فلذلك سميت المذهبات. أما النحاس المصري - وهو معاصر لابن عبد ربه - فقد أنكر تعليقها على البيت الحرام، وزعم أن حمادا الراوية هو الذي جمع السبع الطوال وقال للناس: هذه هي المشهورات، وقيل: بل كان الملك إذا استجيدت قصيدة الشاعر يقول: علقوا لنا هذه، لتكون في خزانته، ويرجح اليوم أنها إنما سميت المعلقات لتشبيهها بالسموط التي تعلق بالأعناق، وقد دعيت المذهبات؛ لأنها تستحق أن تكتب بماء الذهب لنفاستها.
هوامش
أصحاب المعلقات السبع
(1) امرؤ القيس
1 (توفي نحو منتصف القرن السادس) (1-1) حياته
هو امرؤ القيس بن حجر الكندي، ولد في نجد، وأبوه ملك على بني أسد وغطفان، وقيل: إن أمه فاطمة بنت ربيعة أخت كليب والمهلهل، وقد اختلف في اسمه، والمشهور أنه يدعى جندحا، وله كنيتان وهما أبو وهب وأبو الحارث، وثلاثة ألقاب وهي ذو القروح
2
والذائد
3
والملك الضليل.
4
نشأ امرؤ القيس ميالا إلى الترف واللهو شان أولاد الملوك، ونظم الشعر فتيا، وكان يتهتك في غزله ويفحش في سرد قصصه الغرامية، فغضب عليه والده ونهاه فلم ينته، فطرده فذهب يطوف في أحياء العرب وجماعة من أصحابه، يصطاد ويشرب الخمر وينظم الشعر وتغني له القيان، وبينما هو بدمون من أرض الشام أتاه نعي أبيه، وكان بنو أسد قد خرجوا عليه وقتلوه، فهب للأخذ بثأره
5
وأخذ يستنجد القبائل، فلم تنجده إلا قليلا. فسار إلى القيصر يوستنيانوس في القسطنطينية فعطف عليه ووعده بأن يساعده على الإثئار لوالده. ثم ولاه فلسطين كما يقول المؤرخ الرومي «نونوز». فرحل إليها حتى بلغ أنقره فأصيب بداء الجدري فمات، ولذلك لقب بذي القروح.
ويعزى عطف القيصر على امرئ القيس؛ لأنه كان نصرانيا مثله. على أن هذا وحده لم يكن كافيا لاهتمام يوستنيانوس بمساعدة الملك الطريد لولا طموحه إلى منافسة الأكاسرة، وبسط سيطرته على جزيرة العرب. ويظهر أن عقبات قامت دون بغيته فلم يستطع أن يعيد إلى الشاعر ملك أبيه فعوضه منه إمارة فلسطين.
وقد أحاطت بحياة امرئ القيس وموته طائفة من الأساطير فرأينا أن نضرب عنها صفحا لعدم فائدتها. (1-2) آثاره
ديوان شعر طبع مرارا، شرحه البطليوسي النحوي المتوفى سنة 1100م/494ه، وله المعلقة المشهورة، وهي أولى المعلقات تحتوي على ثمانين بيتا من البحر الطويل نظمها على أثر حادثة جرت له مع ابنة عمه عنيزة، وكان يهواها، فوصف الحادثة، ثم انتقل إلى وصف الفرس والصيد والبرق والمطر. (1-3) الشاعر والطلل
يخبرنا الرواة أن امرأ القيس هو أول من ذكر الديار في شعره، فوقف عليها واستوقف، وبكى واستبكى في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... ... ... ...
فاستحسن العرب منه هذه الطريقة، واتبعه عليها الشعراء، فأصبحت من بعده أسلوبا تقليديا، يطوي القرون ويتخطى الأجيال، وفي كل عصر له أتباع وأنصار حتى أوائل القرن العشرين.
على أن الأمير الكندي ينفي عن نفسه هذه الأولية التي أضافها الرواة إليه، فيقول من قصيدة:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن حذام
فقد جعل نفسه تابعا لغيره، لا مبتدعا طريقة ذكر الديار والبكاء عليها، وإن كنا لا نعرف شيئا عن هذا الباكي الأول. فلو لم يذكره امرؤ القيس في شعره، على فرض سلامة القصيدة من النحل، لما جاءنا عنه خبر من الرواة الأقدمين. قال ابن سلام في طبقات الشعراء: «هو رجل من طيئ لم يسمع شعره الذي بكى فيه، ولا شعر غير هذا البيت الذي ذكره امرؤ القيس.»
ويختلف الرواة في ضبط اسمه، فيقول بعضهم إنه ابن خذام بالخاء المعجمة، وبعضهم الآخر يرويه ابن حمام، ولكنهم يقتصرون جميعا على هذا الحد من التعريف به والتحدث عنه لجهلهم حقيقة أمره.
وسواء لدينا صح وجود ابن حذام أو لم يصح، وسواء بكى في شعره أو لم يبك، فإن الوقوف على الديار شيء طبيعي عند القبائل المترحلة ينشأ مع الشعب، ولا يعرف له بدء ولا مبتدئ. فإن البدوي المتنقل في صحرائه لا بد له من المرور بأرض كان ينزلها من قبل، فتعوده ذكريات حبيبة إلى قلبه تستثيرها بقايا الرسوم الدوارس من نؤي ودمنة وموقد، فيقف عليها وفي نفسه حنين إلى أيامه الخالية. فغير عجيب أن يبث خواطره شعرا باكيا، إذا كان من الشعراء، وإنما العجيب أن يعرف هذا الشاعر الذي وقف قبل غيره، وبكى في عصر لم يكن أبناؤه مؤهلين لتدوين أدبهم وحفظه في الصحف، فيرجع إليها الباحثون في خصائص الشعر الجاهلي وتطوراته، لا أن يكون المحفوظ لديهم ما تناقله الرواة شفهيا بعضهم عن بعض أو عن القبائل البادية، مع ما في رواياتهم من خبط ونحل وفقر إلى التحقيق والتمحيص.
ولئن فاتنا شعر ابن حذام لنتبين منه كيف ذكر الديار وبكى عليها، لقد جاءنا شعر عن أشخاص عاصروا امرأ القيس أو تقدموه يحمل إلينا صورا جلية عن مذهب الوقوف والبكاء، مما يدل على أن هذه الطريقة كانت شائعة مشتركة بين شعراء الجاهلية، لا ينفرد بها أحدهم عن الآخر. فنجدها عند الحارث بن عباد اليشكري، والمرقش الأكبر، وبشر بن أبي خازم الأسدي، قال الحارث بن عباد، وكان معاصرا لكليب والمهلهل وشهد حرب البسوس:
هل عرفت الغداة رسما محيلا
دارسا بعد أهله مجهولا؟
وقال المرقش الأكبر:
هل يعرف الدار عفا رسمها
إلا الأثافي ومبنى الخيم
أعرفها دارا لأسماء فالدمع
على الخدين سح سجم
وتظهر هذه الطريقة واضحة في شعر عبيد بن الأبرص الأسدي، وكان نديما لوالد امرئ القيس ملك بني أسد وربيعة، ثم انقلب عليه منحازا إلى قبيلته الغاضبة؛ لما لقيت من جور الملك الكندي، ولم تلبث أن انتقضت عليه وقتلته. فأخذ امرؤ القيس يهدد بشعره بني أسد، وعبيد يرد عليه مدافعا عن قومه.
وقد أكثر عبيد من ذكر الديار والبكاء عليها، ولم يفته استيقاف الصحب كما فعل امرؤ القيس في معلقته، فمن قوله:
أمن منزل عاف ومن رسم أطلال
بكيت وهل يبكي من الشوق أمثالي؟
وقوله:
دار وقفت بها صحبي أسائلها
والدمع قد بل مني جيب سربالي
فهذان البيتان يذكران أسلوب الشاعر الكندي، ويعطيان أمثلة صالحة عن الطريقة التقليدية التي يضيفها الرواة إليه. فهل تأثر الشاعر الشيخ بأسلوب الشاعر الفتى، فترسمه في الوقوف والاستيقاف والبكاء على الديار؟ أم هل تلمذ أمير بني كندة لنديم أبيه، فسار على خطاه، واشتق أسلوبه من أسلوبه؟
قد يحتمل الأمران، وإن كنا نؤثر امرأ القيس على عبيد، ونعلم أنه أقدر على الإبداع من شاعر بني أسد. ولكن الأسلوب التقليدي - كما يظهر - كان شائعا في عصر الملك الضليل أو قبل عصره. فأكثر الشعراء وقفوا واستوقفوا واستنطقوا الديار وبكوا عليها، ولعل شاعرنا الكندي ظهر على غيره، في هذه الطريقة؛ لمكانته الملوكية من جهة، ثم لاستطالته في الشعر على معاصريه من جهة أخرى، وليس علينا أن ننسى معلقته وسواها من قصائده التي لا يقف أمامها شعر عبيد وغيره من الجاهلين المتقدمين. وكذلك ابتداءاته التي ذكر فيها الديار، ولا سيما مطلع معلقته، فإنه أجمع كلمة لطريقة الوقوف والاستيقاف والبكاء والاستبكاء حتى ضرب به المثل، فقيل: أشهر من قفا نبك، ولم يبق شاعر في الجاهلية وصدر الإسلام إلا اعتمد هذه الطريقة وطبع على غرارها. حتى جاء العصر العباسي، فتبناها ولكن بعدما حلاها بالوشي الجديد والاستعارات الحضرية، ولم تحرم في القرن العشرين شعراء يحنون إليها. (1-4) أسلوبه وشاعريته
إذا كان الشاعر الذي يحدثنا عن ذاته راويا أخباره في صلاحها وفسادها، كاشفا عن خبايا نفسه في لذاتها وآلامها، يدعى شاعرا شخصيا، فأولى منه بهذا اللقب شاعر يترك من أسلوبه طابعا متميزا يعرف به وينسب إليه مهما يكثر مقلدوه.
وكان امرؤ القيس شاعرا شخصيا في ظهور ذاتيته لا يأتلي أن يطالع الناس بأحواله وأسرار حياته، يقص أحاديث لهوه ب «آنسة كأنها خط تمثال». ولا يغفل عن لهوه بالصيد عاديا على «كميت» وراء «الهاديات».
وهو في أثناء هذا وذاك يطل بجلالته الملوكية مستخفا «بأحراس ومعشر» لا يقدمون على قتله جهارا «علي حراصا لو يسرون مقتلي»، تاركا بعل سلمى «كاسف اللون والبال» ...
يغط غطيط البكر شد خناقه
ليقتلني والمرء ليس بقتال
مغتديا إلى الصيد تتبعه الحاشية شأن الملوك، وتنضج الطهاة له «صفيف شواء أو قدير معجل» ساعيا لمجده المؤثل «وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي » لاحقا بقيصر ليسترجع ملك أبيه «نحاول ملكا أو نموت فنعذرا.»
ولو اقتصرت شخصية امرئ القيس على ظهور ذاتيته لأمسى شعره شيئا مألوفا في الشعراء. ولكنه كان إلى ذلك شخصي الأسلوب، متميز الطابع، فتح كنوز الشعر لمن جاء بعده، وهداهم إلى أغراضه وفنونه، فترسموه وساروا على طريقه، عصورا وأجيالا، يتنحلون أسلوبه، ويطبعون على غراره، ولا يدركون له شأوا.
وقلما قرأنا لشاعر قديم، أو محدث غارق في القديم، إلا رأينا صورة امرئ القيس ماثلة خلال سطوره، حتى الذين حاولوا التجديد في العباسيين - كأبي نواس - كانوا ألصق الناس به في ابتعادهم عنه.
فهذا الأسلوب الذي كتب له العمر الطويل، ولا ينفك يستأثر بطابع صاحبه، هو الذي حمل الرواة الأقدمين على أن يجعلوا له خصائص وأوليات لا يسعنا إلا ذكرها مع ما قدمنا من الاعتراض عليها في كلامنا على الشاعر والطلل. فمن التقليد المتعارف عند الرواة أن الشاعر الملك سبق إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء. فكان أول من وقف على الطلول، واستوقف، وبكى واستبكى، وأول من قيد الأوابد، وشبه النساء بالظباء والبيض، والخيل بالعقبان والعصي، وأجاد في التشبيه، وأرق النسيب، وفصل بينه وبين المعنى.
وكتب الأدب قديمها وحديثها تتفق على ترديد هذه الرواسم كلما تكلمت على شاعرية امرئ القيس وتقدمه في الشعراء. وبهذه الأوليات يميزون أسلوبه، وإن تكن لا تعطينا إلا صورة مصغرة عنه. ونحن إنما نفهم الأسلوب في معناه الشامل، أي ما تناول الموضوع والروح واللغة والفن. ولا نستطيع أن نستجلي شخصية الشاعر في أسلوبه إلا إذا أخذنا شعره من هذه النواحي وألممنا بميزاتها.
وقد علمنا أنه شخصي الموضوعات، تدور أغراضه على حوادثه وأخباره. فإذا تتبعناها ألفيناها تختصر في غزله وذكر مغامراته الحبية، وصيده وجواده، وطوافه على القبائل يمدح أنصاره، ويهجو أعداءه وخاذليه، وسفره إلى القسطنطينية يستنجد القيصر ليساعده على استرجاع ملك أبيه. وهذه الأغراض قائمة على ركنين من الفن: الوصف والقصص، تطفو عليهما ذكريات عميقة، فيها شعور قوي باللذة، وفيها شعور قوي بالألم، ويتجاذبها من الصوبين تعهر واستسلام إلى الشهوات والملاهي، ونفحة من عزة الملوك وترف الأمراء.
ويصف امرؤ القيس ويقص، وقلما قاده الوصف والقصص إلى التفصيلات والتحليلات النثرية، فيهبط من جوه الشعري؛ لأنه يتناول هذين الفنين، في الغالب، لمحا ووثبا، فيلقي نظرا شاملا على المرأة والجواد والطبيعة، ويخرج لها صورا متعددة الأشكال تحيط بالموصوف على أنواعه، ولكنها لا تقتصر على نقله نقلا آليا ساذجا بصورته ومثاله، بل تستوحيه أحيانا لتخلقه خلقا عبقريا جديدا فيه شيء من الحقيقة، وفيه أشياء من الخيال المبدع، كقوله في صفة الجواد:
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
أو قوله في صفة الليل الطويل:
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
وأمثال هذه الصور البارعة كثيرة في شعره.
وإذا روى خبرا لا يسترسل في سرده وتفصيله؛ بل يوجزه في بضعة أبيات، يشتمل قليلها على الحوار اللذيذ، وعلى تصوير نفسيات الأشخاص وعواطفهم، ولا يخرج عن كونه شعرا قبل كل شيء، ولنا مثال على جمال قصصه قوله:
سموت إليها، بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
وما بعده من أبيات إخبارية تعطينا صورة جلية عن الشاعر المتهتك المغامر، الساخر بمن دونه، المعتز بسيفه وسهامه، وترينا زوجا ضعيفا، يرى الفضيحة على أهله فتخنقه الغيرة، فيهدد ويتوعد ولكنه لا يصنع شيئا. وتبرز لنا صورة مغشاة للمرأة في خوفها وحذرها، في ضعف إرادتها واستسلامها.
واللمحات القصصية يحفل بها شعر الملك الضليل ممتزجة بالوصف اللماح، وكلاهما يعتمد على صناعة التشبيه خصوصا، والاستعارات والكنايات عموما، والتشبيه ركن عظيم في شعر صاحبنا، لا يتخلى عنه في إظهار صوره وألوانه. يستمده على الغالب من الطبيعة، ولا يبالي أن يأخذ ما نستهجنه اليوم ونجده منحطا عن المشبه به. ولكن علينا أن لا ننسى أنه شاعر بدوي فطري وإن كان ملكا مترفا، والفطرة لا تتأبى هذه الأشياء التي نتأباها نحن. فمن العدل أن ننظر إليه بعين عصره حين نسمعه يقول:
أيقتلني وقد قطرت فؤادها
كما قطر المهنوءة الرجل الطالي
6
أو يقول:
وتعطو برخص غير شثن كأنه
أساريع ظبي أو مساويك إسحل
7
والأساريع دود صغار شبه بها الأصابع في طراوتها.
وقد يتناول التشبيه من الحجارة الكريمة والطيوب المتنوعة، والحرير والدمقس والمرآة، مما يدل على نعمته وترفه؛ لأن هذه الأشياء لم يعرفها في الجاهلية غير الموسرين والأمراء.
وجمال التشبيه عنده يقوم على غرابته وبعد متناوله، وما فيه من التصوير والتمثيل، والحركة، كقوله:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
كلمع اليدين في حبي مكلل
8
أو قوله:
فعن لنا سرب كأن نعاجه
عذارى دوار في ملاء مذيل
9
وهذا النوع كثير في تشابيهه، ويزيده حسنا ما يطوف به من غموض مستحب، لا نتبين فيه وجه الشبه إلا استشفافا، فنلمحه لمحا خفيفا، ولا نستوضحه جليا، فيترك في أنفسنا أثرا للذة، ونحن نتتبعه ونتقصاه على غير خيبة تامة.
وسر الجمال في تشابيهه التصويرية: أن المشبه به لا يشتمل على وجه تام للشبه، وإنما فيه ناحية خفية تجمعه بالمشبه. فهذه الناحية البعيدة يلمحها الشاعر بقوة تصوره، ويعتمد عليها في الجمع بين شيئين هما في حقيقتهما لا يجتمعان، كقوله:
سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
أو قوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
فلولا الصورة التمثيلية التي نجدها في البيتين لما كان من جامع بين الشاعر والماء، وبين الجواد والصخر، فقد جعل من خفة حركة الماء في تصاعد حببه شبها بخفة وصوله إلى حاجته دون أن يحدث جلبة. وجعل من الصخر الذي حطه السيل من جبل عال فمضى يتقلب ظهرا لوجه، يتنزى على الصخور يمنة ويسرة، هبوطا وارتفاعا، جامعا بينه وبين جواده في سرعة كره وفره، حتى لا يفرق بينهما لشدة اندفاعه.
وهذا الغموض الذي نقع عليه في شعر امرئ القيس، سواء كان بتشبيه أو بغير تشبيه، يمكننا أن نعده من محاسن أسلوبه؛ لأنه ليس من الشعر المغلق المعمى الذي يتيه القارئ في دياميسه دون أن يجد لها منفذا، وإنما هو ذلك اللمح الذي أشار إليه البحتري بقوله:
والشعر لمح تكفي إشارته
وليس بالهذر طولت خطبه
أو هو ذلك الغموض الذي عرفه أبو إسحاق الصابي فقال: «إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة. وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة.»
ولامرئ القيس لغة تتجاذبها صلابة البدوي وخشونته، ورقة المتحضر المترف وسلاسته، فيها إيجاز بليغ امتازت به لغة الجاهليين على السواء، وفيها تعابير اختص بها الشاعر واصطلح عليها، فرددها غير مرة في مختلف قصائده، فما نخطئ نسبتها إليه عندما نقع عليها كقوله: «وقد أغتدي والطير في وكناتها، بمنجرد قيد الأوابد، درير كخذروف الوليد، له أيطلا ظبي وساقا نعامة إلخ ...» فعرفت له هذه الأشياء وأمثالها، وهي بعض خصائص أسلوبه.
وامتازت لغته بالروعة الفنية، فكانت خير صلة بينه وبين قارئه، تؤدي ألفاظه مهمتها في التعبير عن حالته التي يحسها ويتصورها، وفي الإيحاء الذي يحمل القارئ إلى دنيا الشاعر فيجعل حاله كحاله مستمتعا بمتعته، وهذا حد الفن في الأدب، فالشاعر الذي تعجز ألفاظه عن تأدية فكرته وإحساسه وخياله، يسقط أدبه؛ لأن قيمة الأدب بنقله إلى القارئ، وطبيعي ليس إلى أي قارئ كان، وإنما نريد به من حصلت له ملكة التذوق الأدبي.
ففي شعر امرئ القيس من الانسجام والائتلاف اللفظي ما يبعث منه أجراسا موسيقية تتناولها الأذن بلذة، فتدفعها إلى النفس بما فيها من ألوان وتصور وشعور. وقد تكون لغته الشعرية مألوفة الاستعمال تعبر بحقيقة معاني ألفاظها تعبيرا قويا عن حالته النفسية كقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... ... ... ...
وقد تكون غير مألوفة الاستعمال يخلقها الشاعر خلقا، ويعطي ألفاظها معاني رمزية مجازية، فيها من قوة الإيحاء ما تعجز الألفاظ الحقيقية أن تقوم به فيما لو أريد التعبير بها عن هذه الفكرة في قوله:
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازا وناء بكلكل
والأجراس الموسيقية تقوم إما على ألفاظ مفردة «يغط غطيط البكر» أو على انسجام التركيب كمطلعه «قفا نبك» أو على تداعي الحروف والحركات «مكر مفر مقبل مدبر معا» تدفعها جميعا تموجات تطول وتقصر بحسب الحالة التي تستدعيها. فالتموجات القصيرة في «مكر مفر» ملائمة كل الملائمة لسرعة الجواد في عدوه، والتموجات الطويلة في قوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
يتطلبها طول الليل، وهذا النفس الممتد الذي يقصر عنه البحر الطويل.
والإيحاء الذي تتولى الألفاظ توليده يجعلنا نقبل - ونحن في نشوة الأدب - آراء وأفكارا نرفضها عندما نعود إلى حياتنا المألوفة. فالقطعة القصصية التي يحدثنا بها الشاعر عن زيارته الليلية لسلمى، تأباها الأخلاق القويمة، وترفضها الشرائع الدينية والمدنية. بيد أننا نقبلها في الأدب على غير إرادة منا، فتبتهج بها نفسنا، ونستمتع بجمالها الفني دون أن نشعر بقبحها؛ لأن النفس في مثل هذه الحال تأخذها أخذا ساميا مطهرا للعواطف
Catharsis
على حد تعبير أرسطو. ففضل الأدب الخالص أن فيه جمالا خاصا لا يشاركه فيه الجمال الذي اصطلحنا على اعتباره، ولا يشوهه القبح الذي نستنكره ونبتعد عنه، إلا إذا حكمنا العقل والمنطق فيه، وشعر امرئ القيس يتحلى بهذا الجمال الفني على ما فيه من قبح وفجور، فكيف به لو خلا منهما.
وبهذا يتميز أسلوبه كما يتميز بروحه ولغته وموضوعاته، وبأسلوبه استطاع أن يكون شاعرا شخصيا، كما كان شاعرا شخصيا في ظهور ذاتيته، وبه وحده تجلت عبقريته، فاعترف الناس له بإمارة الشعر، ولم يطمع فيها يوما، ولا خطرت له ببال. (1-5) درس تاريخي
قلنا في ترجمة امرئ القيس: «وقيل إن أمه فاطمة بنت ربيعة، أخت كليب والمهلهل.» وهذا هو المشهور عنه. غير أننا لا يسعنا ونحن ندرس شعره، إلا أن ننظر إلى هذا النسب بشيء من الاحتياط والشك. فليس في أشعار الملك الضليل ما يدلنا على هذه القربى حتى نؤمن بها، فلو كان كليب والمهلهل خاليه لما استنكف أن يذكرهما مفتخرا، أو أن يشير إلى الوقائع التي انتصر فيها التغلبيون على البكريين في حرب البسوس.
ورب معترض يقول: إن شعر امرئ القيس ضاع أكثره لتقادم العهد، ولم يصل إلينا منه غير القليل. ونحن لا نخالفه في ذلك، ولكن هذا القليل كان كافيا للدلالة لو صحت القربى . فلامرئ القيس قصيدة يفتخر بها ويذكر أخواله وأعمامه إذ يقول:
خالي ابن كبشة قد علمت مكانه
وأبو يزيد ورهطه أعمامي
فمن هذا ابن كبشة؟ ... إنه غير كليب والمهلهل، فما كان ابنا ربيعة ينتسبان يوما إلى «كبشة»، ولو أراد امرؤ القيس أحدهما لذكر اسمه واستقام له وزن البيت، ولكنه يشير إلى سواهما لأنهما ليسا بخاليه.
على أن هذا لا يمنع أن يكون والد امرئ القيس تزوج فاطمة بنت ربيعة، إلا أن الشاعر ليس منها بل من ضرة لها. ولعل فاطمة هذه هي التي تعشقها وتغزل بها في معلقته إذ يقول:
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
10
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟
وحبه لامرأة أبيه مشهور، وقيل: إن والده طرده من أجل ذلك.
وزعم الرواة أنه أحب ابنة القيصر، وأنها هي التي أشار إليها بقوله:
سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال
وقيل إن أباها علم بأمرهما فزوجه إياها. أما نحن فنرى أن القصيدة نظمت بعد موت والده، ولكن قبل سفره إلى القسطنطينية، ودليلنا على ذلك أن الشاعر يقول قبل أن يسمو إليها:
تنورتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عال
11
فأين يثرب من القسطنطينية؟ ...
ويقول أيضا في مكان آخر:
فأصبحت معشوقا وأصبح بعلها
عليه قتام كاسف اللون والبال
12
فأنت ترى أنه يتغزل بآنسة متزوجة، والرواة يحدثوننا أن ابنة القيصر كانت عزبة وقد تزوجها امرؤ القيس، وهبها كانت ذات بعل فليس من المعقول أن يسخر الشاعر من زوجها ويحتقره، وهو صهر القيصر، أو ينسب إليه الضعف والخنوع والمذلة، وهو أعز منه جانبا، في كنف ملك يفزع إليه امرؤ القيس طريدا مستنجدا ينشد عرشه الهاوي.
ودليلنا على أنه نظم القصيدة بعد موت والده هو قوله:
فلو أنني أسعى لأدنى معيشة
كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنني أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
13
فهو يشير هنا إلى سعيه لاسترجاع ملك أبيه.
وحدثنا الرواة أن امرأ القيس سافر إلى القسطنطينية مستغيثا بقيصر، ولم يذكروا له غير هذه السفرة إلى بلاد الروم. على أننا نعتقد أن الشاعر عرف تلك البلاد قبل التجائه إلى مليكها، واطلع على حضارتها فأثرت في خياله الشعري فوسعته، وظهر هذا التأثير في تشابيهه اللطيفة، وابتكاره للمعاني والألفاظ، ودليلنا على أن معرفته لبلاد الروم لا تقتصر على الزيارة الأخيرة، قوله في معلقته:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
14
فاستعماله لفظة السجنجل - وهي رومية الأصل - ينبئ اختلاطه بالأروام قبل نظم المعلقة وقبل مقتل أبيه. وله قصيدة يصف بها سفره إلى قيصر مستنجدا على بني أسد، يقول فيها:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها
ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
فإنكار بعلبك وأهلها، وإنكار ابن جريج له دليل على أنه يعرف تلك البلاد وله فيها معارف وخلان. (1-6) صحة شعره
ولا بد لنا - ونحن ندرس شعر امرئ القيس - أن ننظر فيه إلى صحيحه من منحوله، فقد نسب إلى الملك الضليل ما ليس له كما نسب إلى غيره من الشعراء الأقدمين. ولسنا نزعم أننا نبلغ الحقيقة كلها في درسنا هذا؛ إذ من الصعب الوصول إلى نتيجة تامة في مثل هذه الأمور. على أننا نرجو أن نأتي بشيء لا يخلو من فائدة.
ممن المعلوم أن شعر امرئ القيسضاع أكثره لبعد أيامه ولم يصل منه إلا النزر اليسير، ولكن هذا النزر اليسير لم يسلم من النحل والاصطناع. فالرواة أنفسهم يشكون في هذه الأبيات من المعلقة، ويضيفونها إلى تأبط شرا، وهي:
وقربة أقوام جعلت عصامها
على كاهل مني ذلول مرحل
15
وواد كجوف العير قفر قطعته
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
16
فقلت له لما عوى إن شأننا
قليل الغنى إن كنت لما تمول
17
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
18
ونحن نرى أن حمل القربة، وقطع الأودية الخالية، ومعاشرة الذئاب، والافتقار، وهزال العيش شيء أولى بصعلوك يعيش في البراري والغابات كالشنفرى وتأبط شرا منه بملك كامرئ القيس؛ أنيق العيش، وافر النعمة، تتبعه الطهاة والخدم في حله وترحاله.
ونسبت إليه قصيدة في التهديد مطلعها:
تطاول ليلك بالأثمد
ونام الخلي ولم ترقد
19
وهي في «معاهد التنصيص على شواهد التلخيص» لامرئ القيس بن عابس الكندي أحد الصحابة، ولعل وحدة الاسم بين الشاعرين جعلت بعض الرواة يضيفونها إلى الملك الضليل، ويزعمون أنه يهدد بها بني أسد، على حين أنه ليس فيها ما يشير إلى مقتل أبيه أو إلى بني أسد الذين قتلوه. ومثلها الأبيات التي لقب من أجلها بالذائد وهي:
أذود القوافي عني ذيادا
ذياد غلام جريء جرادا
20
فلما كثرن وعنينه
تخير منهن شتى جيادا
21
فأعزل مرجانها جانبا
وآخذ من درها المستجادا
22
فابن الكلبي يقول إنها لامرئ القيس بن بكر، وغيره يزعم أنها لامرئ القيس بن عباس. وهذا الاختلاف بين الرواة راجع - كما لا يخفى - إلى تشابه الأسماء والتباسها. على أننا لا نرى في الأبيات الثلاثة ما يحملنا على نسبتها إلى شاعر جاهلي، فهي في اعتقادنا مصنوعة في الإسلام لتبيان سبب لقبه، ثم للاستشهاد بها على أن شعراء الجاهلية كانوا يعنون بتنقية أشعارهم فيطرحون منها الرديء ويختارون الحسن.
وأضيفت إليه أشعار بعد رجوعه من القسطنطينية ومرضه حتى موته في أنقره. ولكننا لا نستطيع أن نطمئن إلى صحتها؛ لظهور الاصطناع على أكثرها. مثال ذلك، ما رواه الأغاني من أن الشاعر رأى قبر امرأة ماتت وهي غريبة فدفنت في سفح جبل يقال له عسيب، فسأل عنها وأخبر بقصتها فقال:
أجارتنا إن المزار قريب
وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان ههنا
وكل غريب للغريب نسيب
فتفنن الرواة ظاهر في اختراع القصة والبيتين، والأعجب أن عسيبا جبل بعالية نجد لا في أنقره من بلاد الروم.
ونسبت إليه مماتنات مع شعراء عصره. منها مماتنته للحارث بن التوأم اليشكري التي يقول في مطلعها:
أحار ترى بريقا هب وهنا
23
فيجيبه التوأم مجيزا:
كنار مجوس تستعر استعارا
ومنها مماتنته لعبيد بن الأبرص، وهي أشبه بأحاجي كتاب المقامات وألغازهم، ولا ريب أنها منحولة. قال عبيد في مطلعها:
ما حية ميتة قامت بميتتها
درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
24
فأجابه امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها
فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
على أن هذه الأشعار المصطنعة في الإسلام ليس من شأنها أن تلقي الشك على شعره أجمع، ولا سيما المعلقة وأمثالها من القصائد المشهورة، وإن لم تسلم من التحريف والتبديل. (1-7) منزلته
هو في مقدمة شعراء الطبقة الأولى، وأبعدهم شهرة، وأسبقهم إلى الاختراع والابتكار. فقد رأيت مما تقدم ما لشعره من الميزات الكثيرة من حيث الجزالة والروعة والإيجاز، ولطف التشبيه والاستعارة ودقة الوصف، ولا سيما وصف الفرس والصيد والمطر. وقد اتفق الرواة على تفضيله. ونسب إلى النبي محمد قوله فيه: «امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء وقائدهم إلى النار.» وذكروا عن الإمام علي أنه فضله بقوله: «كان أصحهم بادرة وأجودهم نادرة.» وصفوة القول أن امرأ القيس أمير الدولتين: دولة الشعر ودولة بني كندة. (2) طرفة بن العبد (الربع الثالث من القرن السادس) (2-1) حياته
هو عمرو بن العبد البكري، وطرفة لقب غلب عليه. ولد في البحرين ونشأ يتيم الأب في بيت غني، كريم المحتد، فانصرف إلى اللهو والخمر والنساء، ينفق عليها بغير حساب، فضيق عليه أعمامه وأبوا أن يقسموا ماله، وجاروا على أمه وردة أخت المتلمس الشاعر، فظلموها حقها، فهددهم طرفة بهذه الأبيات، وهي من أوائل نظمه:
ما تنظرون بحق وردة فيكم
صغر البنون ورهط وردة غيب
25
قد يبعث الأمر العظيم صغيره
حتى تظل له الدماء تصبب
26
والظلم فرق بين حيي وائل
بكر تساقيها المنايا تغلب
27
على أن جور أعمامه لم يمنعه من الإسراف واللهو؛ فظل ينفق من ماله على أصحابه وخلانه حتى لم يبق له شيء، فسخطت عليه عشيرته وابتعدت عنه؛ فأصبح معزولا كالبعير الجرب، وإلى ذلك يشير في معلقته:
ومازال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
28
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد
29
وساء طرفة أن يعرض عنه أهله فتركهم مدة قضاها بالغزو والتطواف، ثم عاد إليهم نادما، صفر اليدين، فحمله أخوه معبد على رعاية إبله فأهملها، وأنى لمثله أن يحسن رعايتها؟ فأنبه معبد وقال له: «ترى إن أخذت تردها بشعرك هذا؟» فقال طرفة: «لا أخرج حتى تعلم أن شعري يردها.» ولم يطل الأمر حتى أخذت الإبل فألح عليه أخوه بردها، فلجأ طرفه إلى ابن عمه مالك ليعينه على استرجاعها من آخذيها وكانوا قوما من مضر، فانتهره مالك بعنف فتألم الشاعر ونظم معلقته واصفا حالته وجور أهله عليه، وعرض فيها لذكر سيدين من أقربائه، فمدحهما بكثرة المال والولد إذ يقول:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وزارني
بنون كرام سادة لمسود
30
فدعاه أحدهما (عمرو)، وكان له سبعة أولاد فأمرهم، فدفع كل واحد إلى طرفة عشرة من الإبل، ثم أمر ثلاثة من أبناء بنيه فدفعوا إليه مثل ذلك، فرد إبل أخيه وقد ردها بشعره - كما قال - وأقام ينفق من الباقي حتى نفد. فاتصل بعمرو بن هند ملك العراق، وكان صهره عبد عمرو بن بشر وخاله المتلمس الشاعر من رجال الحاشية، فقرب الملك طرفة لإعجابه بشعره.
ولكن الشاعر الفتى كان تياها فخورا بنفسه، فشبب بأخت الملك غير مبال، فأبعده عمرو بن هند عن حاشيته وجعله في حاشية أخيه قابوس فلم يجد منه ما تعوده من الإكرام؛ فهجاه وهجا أخاه الملك هجاء مرا. من ذلك قوله:
فليت لنا مكان الملك عمرو
رغوثا حول قبتنا تخور
31
لعمرك إن قابوس بن هند
ليخلط ملكه نوك كثير
32
ولكن لم يجرؤ أحد أن ينقل هذا الهجاء إلى عمرو.
وشكت ذات يوم أخت طرفة شيئا من أمر زوجها عبد عمرو؛ فهجاه طرفة بأبيات منها:
ولا خير فيه غير أن له غنى
وأن له كشحا إذا قام أهضما
33
وهذا ما يسميه علماء البيان توكيد الذم بما يشبه المدح. فإنه بعد أن نفى الخير عنه جاء بالاستثناء كمن يريد أن يذكر له حسنة يمدحه بها، فإذا به لا يرى فيه من الحسن غير كثرة المال ولطف الخصر، ومن الهجاء المر أن تصف رجلا بما توصف به النساء.
واتفق أن عمرو بن هند خرج للصيد ذات يوم، فانقطع في نفر من أصحابه وفيهم عبد عمرو، حتى أصاب حمارا فعقره، فقال لعبد عمرو: انزل واذبحه. فعالجه فأعياه، فضحك الملك وقال: لقد أبصرك طرفة حيث يقول، وأنشد: «ولا خير فيه.» فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا، وأنشده: «فليت لنا مكان الملك عمرو ...» فحقد عمرو بن هند على طرفة، ولكنه كره أن يعجل عليه إشفاقا من هجاء المتلمس، فلبث يتحين الفرص ليتخلص من الاثنين معا، وهو يؤانسهما حتى اطمأنا إليه، فكتب إلى عامله في البحرين، وقال لهما: انطلقا إليه وخذا جوائزكما.
فحملا الكتابين وسارا حتى بلغا النجف، فقال المتلمس لطرفة: تعلمن والله أن ارتياح عمرو لي ولك لأمر عندي مريب. وإني لا أنطلق بصحيفة لا أدري ما فيها. فقال طرفه: «إنك لتسيء الظن، وما تخاف من صحيفة؟ إن كان فيها الذي وعدنا وإلا رجعنا فلم نترك منه شيئا.» فأبى المتلمس أن يجيبه وعدل إلى حيث رأى غلاما من الحيرة فدفع إليه الصحيفة ليقرأها له، فلما نظر الغلام فيها قال: «ثكلت المتلمس أمه!» فأخذ المتلمس الصحيفة وقذفها في البحيرة فضرب المثل بصحيفته. ثم قال لطرفة: «تعلمن والله أن الذي في كتابك مثل الذي في كتابي.» فقال طرفة: «لئن كان اجترأ عليك ما كان بالذي يجترئ علي.» وأبى أن يطيعه، فتركه المتلمس وهرب إلى الشام.
وسار طرفة حتى أتى البحرين وكان صاحبها أبو كرب ربيعة بن الحارث، وهو من أقرباء طرفة، فلما قرأ الكتاب قال: «أتعلم ما أمرت به فيك؟» قال طرفة: «نعم، أمرت أن تجيزني وتحسن إلي.» فقال: «إن بيني وبينك لخئولة أنا لها راع، فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك. فاخرج فبل أن تصبح ويعلم بك الناس.» فأبى طرفة وقال: «اشتدت عليك جائزتي، وأحببت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند علي سبيلا، كأنني أذنبت ذنبا. والله لا أفعل ذلك أبدا.» فأمر بحبسه. ثم كتب إلى عمرو بن هند يقول: «ابعث إلى عملك من تريد فإني غير قاتل الرجل.» فأرسل عمرو بن هند رجلا من بني تغلب يقال له عبد هند واستعمله على البحرين، وكان رجلا شجاعا، وأمره بقتل طرفة وقتل ربيعة بن الحارث. فقدمها عبد هند ولبث أياما فاجتمعت بكر بن وائل فهمت به، وكان طرفة يحضهم. فانتدب له رجلا من الحواثر يقال له أبو ريشة فقتله وقتل معه العامل السابق. وكان قبره معروفا بهجر في أرض بني قيس بن ثعلبة. (2-2) درس تاريخي
هذه هي الرواية المشهورة عن مقتل طرفة، وقد تناقلتها كتب الأدب في شيء من الاختلاف. أما نحن فلا يسعنا إلا أن ننظر إليها بشك واحتياط لظهور الاصطناع عليها. فإن سير حوادثها بين التكلف، من هجاء طرفة لعمرو بن هند، إلى هجائه عبد عمرو، إلى إشفاق ملك العراق من قتله في قاعدة ملكه خوفا من المتلمس، إلى إرساله ليقتل في البحرين وهي مسقط رأس الشاعر وبلاد قومه، إلى صحيفة المتلمس ورفض طرفة أن يفض صحيفته، إلى امتناع صاحب البحرين عن قتل الشاعر لأنه من أقربائه، وحبسه اياه، ثم انتظاره أن يرسل عمرو بن هند عاملا جديدا ليقتله ويقتل طرفة معه، إلى مجيء العامل وهو من بني تغلب أعداء البكريين، إلى قعود بني بكر عن إنقاذ شاعرهم في عقر دارهم ... إلى غير ذلك مما يصعب الاطمئنان إليه.
فلقد كان بوسع عمرو بن هند أن يفتك بالشاعرين معا في العراق، بدلا من أن يرسلهما إلى البحرين، ولقد كان ينبغي له أن يخشى هجاء المتلمس أخيرا كما خشيه أولا بعد أن نجا هذا من الشرك الذي نصب له، ولقد كان بوسع صاحب البحرين أن ينجو وطرفة دون أن ينتظر قدوم العامل الجديد ليقتلهما معا.
وزعم الرواة أن نسيبه صاحب البحرين بعث إليه في سجنه جارية اسمها خولة فردها، وقال في ذلك أبياتا مطلعها:
ألا اعتزليني اليوم يا خول أو غضي
فقد نزلت حدباء محكمة العض
34
ومنها البيت المشهور يخاطب به عمرو بن هند:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
ولا يخفى ما في إرسال الجارية إلى السجن من التكلف. وقد جعل الرواة اسمها خولة، وهو اسم المرأة التي يشبب بها طرفة في معلقته ، فكأنهم أرادو أن يؤنسوه بذكر من يهوى قبل موته، وفي ذلك ما فيه من التفكيه والإغراب. وليس في البيت الذي يخاطب به عمرو بن هند ما يدل على حقيقه الحال؛ لأن ملك العراق لم يفن قبيلة الشاعر حتى يصح قول طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... ... ... ...
على أننا وإن كنا نشك في رواية قتله فلا ريب عندنا بأن الشاعر مات صغير السن، ولما يبلغ الثلاثين من عمره، فعرف بالغلام القتيل، وبابن العشرين، يؤيد ذلك رثاء أخته الخرنق له إذ تقول:
عددنا له ستا وعشرين حجة
فلما توفاها استوى سيدا ضخما
35
فجعنا به لما رجونا إيابه
على خير حال لا وليدا ولا قحما
36
وقد يكون عمرو بن هند قتله من أجل الهجاء، فقد أشار إلى ذلك الفرزدق بقوله: وأخو بني قيس وهن قتلنه، أي القصائد. (2-3) آثاره
لطرفة ديوان جمعت فيه أشعار أشهرها المعلقة، ثم «رائية» مطلعها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر
ومن الحب جنون مستعر
37
ولم يذكر له ابن سلام غير هاتين القصيدتين، وروى مطلعهما، ولكنه عرف له قصائد أخرى لم يدل عليها.
وأضيفت إليه قصيدة «ميمية» ذكر الأصمعي أنها منحولة، ومطلعها:
سائلوا عنا الذي يعرفنا
بخزازى يوم تحلاق اللمم
38
ونحن يهمنا من شعر طرفة معلقته؛ ففيها تظهر ميزته، وعليها المعول في درس حياته، وأخلاقه، وآرائه في الحياة والموت، وإن كانت رائيته لا تخلو من الجمال، ولا تعدوها الفائدة في استطلاع شخصية الشاعر. (2-4) ميزته - المعلقة
معلقة طرفة هي الثانية في المعلقات، وهي كسائر الشعر الجاهلي متعددة الأغراض والمرامي، يستهلها بوصف أطلال خولة وحدوجها، ثم ينتقل إلى وصف الناقة، فوصف معيشته وكرمه فمعاتبة ابن عمه مالك، فالافتخار بنفسه، فذكر آرائه في الموت والحياة، إلى غير ذلك من الأغراض التي لا يتألف منها وحدة في الموضوع. وقد شرحت هذه المعلقة مرارا وترجمت إلى اللغات الأجنبية. (2-5) الغزل
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
39
وقوفا بها صحبي علي مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
40
وهنا ينتقل الشاعر إلى ذكر حدوج المالكية فيشبهها بالسفن، ثم يأخذ في وصف تلك السفن حتى إذا انتهى عاد إلى وصف من يهوى. وهذه خاصة في الشاعر الجاهلي تجعله لا يترك الموصوف حتى يصوره من جميع جهاته.
ولهذه الأبيات قيمة تاريخية تفيدنا ما كان في البحرين من ملاحة وصناعة سفن. وليس أولى من طرفة بوصف السفن والملاحين وهو ربيب السواحل البحرية، ثم يعود إلى من يهوى فلا يتعدى في وصفه عنقها وثغرها ووجهها. (2-6) وصف الناقة
وينتقل فجأة إلى ناقته التي ينفي بها الهم عند حضوره:
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
41
فيمعن في وصفها متناولا أعضاءها عضوا عضوا، مشبها عظامها بألواح التابوت، وعدوها بعدو النعامة، وشعر ذنبها في بياضه بجناحي نسر أبيض، وأخلافها بقربة بالية لانقطاع لبنها، وفخذيها ببابي قصر منيف أملس، وأضلاعها المتصلة بفقارها بالقسي، وإبطيها في السعة ببيتين من بيوت بقر الوحش. وشبهها وشبه مرفقيها وبعدهما عن جنبيها بسقاء يحمل في يديه دلوين، وعلوها بقنطرة رجل رومي، وشبه جنبيها بسقف أسند بعضه إلى بعض، وآثار النسع
42
في ظهرها بنقر في الصخرة الملساء. ثم شبه هذه الآثار في تلاقيها وتباعدها ببنائق بيض في قميص مقدود. وشبه عنقها في ارتفاعه وانتصابه بسكان
43
سفينة جارية في نهر دجلة، وجمجمتها بالسندان، وطرف الجمجمة بالمبرد في دقته وصلابته، وخدها بقرطاس الرجل الشآمي في انملاسه، ومشفرها بالجلد اليماني في لينه، وعينيها في صفائهما وبريقهما بالمرآة وبالماء في نقرة صخر، وحجاجيها
44
وغئور عينيها فيهما بكهفين أي مغارتين. ثم شبه عينيها في حسنهما بعيني بقرة وحشية مذعورة لها ولد، وأذنيها في تيقظهما بأذني ثور وحشي منفرد كثير الحذر، وقلبها في صلابته بمرداة - أي صخرة - تكسر بها الصخور، وشبه ما يحيط به من الأضلاع بحجارة عريضة محكمة.
ولا يخفى ما في هذا القسم من الفوائد التاريخية عن العصر الجاهلي. (2-7) حياته وشاعريته
وبعد أن يتم وصف ناقته وتصويرها يفرغ إلى نفسه فيصف معيشته في السلم والحرب، فإذا هو يحب اللهو والعبث كما يحب الحرب، وإغاثة الملهوف، وإذا هو مبذر يكره جمع المال ؛ لأن الموت لا يفرق بين الكريم والبخيل، والكريم خير من البخيل، وفي هذا القسم يطلعنا على آرائه في الحياة والموت، وعلى اضطهاد عشيرته له، وعلى غير ذلك مما يتعلق بحياته. وهو أهم أقسام المعلقة؛ لأن به تظهر خصائص الشاعر تمام الظهور. فلا خولة طرفة ولا ناقته تجذبه إلينا أو تجذبنا إليه، فليس في نسيبه ما يغري به ويستخف القلوب، وليس في وصف «عوجائه المرقال» ما يجمع روحنا بروحه ويربط دنيانا بدنياه، وإن كان أدق واصف لها بشهادة المتقدمين والمتأخرين. وإنما طرفة بنفسه دون غيره، بلهوه ومرحه، بفخره واعتداده، بتشكيه وتظلمه، يحملنا إليه أو يحمل ذاته إلينا، فنحس بإحساسه، نأسى لألمه، ونبتهج لحماسته، ونضحك لسروره. فحياته في شعره لها أثر قوي في توجيه هذا الشعر، وضم روحه إلى أرواح قرائه. وإذا لم يكن فيه ما في شعر امرئ القيس من انطلاق النفس، وعمق التصور، وتلوين الخيال المتحرك، فإن فيه من صدق الشعور، وفطرة النفس، وبساطة التعبير ما يفيض عليه الجمال ويضمن تقريبه إلى القلوب.
والشعور الصادق عامل رئيس للفن، يبعث النشاط في النفس، ويحبو الجمال عنصر الحياة. وكل عمل فني فاته الشعور لا يستحق أن يعد من أبناء الحياة، وليست النشوة التي تحدثها حياة الفن إلا ائتلافا موسيقيا بين الشعور والخيال والإدراك، تتولى الألفاظ إخراجه في الشعر كما تتولى إخراجه في الموسيقى والرسم، والأوتار والألوان.
وكان طرفة في حياته قطعة موسيقية ائتلفت بها عناصر الحس والخيال والفكر، فانتظمت وحدة كلية على غير تكافؤ، لما للشعور من سيادة وسلطان، وجاء شعره صورة عن حياته في اتحاد هذه القوى النفسية، وسيطرة الإحساس عليها جميعا. وما هذه الحماسة التي ترافق شعره، في الدفاع عن نفسه وعن آرائه، إلا وليدة إحساسه القوي لكل ما يتصوره ويفكر فيه. يندفع بإيمان ثابت، وعناد متصلب، وإن كان على خطإ في ما يرمي إليه.
وطرفة ربيب البحرين شهد من الحضارة والعمران ما لا يشهده ساكن الخيام في بوادي نجد والحجاز، ونشأ يتيما لا يد فوقه تقوم على تأديبه، إلا يد أمه ولم تكن قاسية عليه، ووجد في حوزته مالا وافرا، فراح يختلف إلى الحوانيت وهو في العشرين أو دون العشرين، يصحب الندمان، ويشرب الخمر، ويعاشر القيان، حتى أنفق ما لديه وأفلس، فخلعته عشيرته، وأوسعته لوما وإهانة، وكان أقرب الناس إليه - أخوه وابن عمه - أشدهم وقيعة به. فتألمت نفسه الفتية، وأبت أن تصبر على الضيم في أنفتها، وشدة إحساسها، فتفجرت منها ينابيع الشعر ثائرة على الظلم، ساخطة على الأقرباء، مستهينة بالموت والحياة. وليس للشاعر غير فنه يسكن به آلامه، ويبث شكايته، ويرد عن نفسه، فاندفع طرفة يسفه أقوال لائميه، ويبدي لهم صلاح أعماله، وفساد آرائهم، في شيء غير قليل من القحة والعناد والزراية والتحدي.، وبنى أحكامه على الخلود والفناء، فما دام الإنسان مائتا على كل حال، ولا خلود في هذه الدنيا لحي؛ فلماذا لا يبادر الفتى منيته بماله وملذاته؟ تلك الملذات التي يختصرها في ثلاثة أشياء: الحرب والخمر والنساء.
فهذا الدفاع الحار بحجج يسيطر فيها الشعور على الفكر، هو الذي يحبب شعر طرفة إلينا، وما شعره إلا صورة لحياته الهائجة المضطربة، تللك الحياة التي ينكرها عليه أهلوه ويضطهدونه من أجلها، ويراها، مع ما لقي بسببها من إفلاس وطرد وشقاء، مثلا أعلى لا يسمو إليه إلا كل فتى كريم، يجمع الشرف والنجدة واللهو والغزل.
وقوة الشعور عنده تكاد تجعلنا لا نشعر بسذاجة الآراء التي يبنيها على الموت والحياة؛ لأنه لم يقف فيها موقف الخطيب الواعظ، أو الرجل الحكيم المصلح؛ بل جاء بها مدافعا عن نفسه، يحسها كأنها بعض روحه، بما فيها من تدافع الحزن والألم وعزة النفس والأنفة، وحباها بكل ما في الشباب من نشاط وحياة، وزادتها جمالا بساطة التعبير عن خوالج النفس دون أي تكلف، وفطرة صريحة يحلو بها الشعر الجاهلي، ويستقل بنفسه عن الأدب العربي. فطرفة لا يجنح في تعابيره إلى الصيغ المجازية البعيدة، ولا إلى الصور الخيالية العميقة، وإنما يتدفق شعوره بالألفاظ التي تبعثها النفس على سجيتها ، سهلة حينا، خشنة أحيانا، فيها من الفن ما يكفي لنقل الحالة التي يحسها الشاعر ويتصورها، وإن يكن هذا الفن يحتاج إلى تهذيب بعض الأحيان، ولا سيما المواطن التي لا يتدفق منها الشعور.
والفطرة في شعره تتمثل أصدق تمثيل بصراحته وسذاجة عقائده، وتحمسه الشديد لها، تلك الصراحة التي جعلته يتحدث عن نفسه في خيرها وشرها. فيطلعنا على حياته اللاهية وشربه وتبذيره، وحياته البائسة، وقد أفلس وطردته العشيرة، وترك منفردا كالبعير الجرب. ثم هذا التشكي البريء لجور ابن عمه وإعراضه، فابن عمه يراه جانيا ويقسو عليه، وهو لا يرى على نفسه ذنبا يستحق هذه القسوة، وإن يكن أهمل رعاية الإبل حتى سرقت منه، فقد سعى جهده في طلبها وإرجاعها، فأي ذنب بعدها يحسب عليه؟ هذه العقلية الغريبة، بما فيها من اقتناع بالبراءة، وإيمان بالنفس والآراء، وتخطئة لكل من يخالف عقائدها، هي مثال صادق لفطرة طرفة، وغرور شبابه، وعناده، وكبريائه. فشخصية طرفة القوية، هي التي ترفع قيمة شعره وتدنيه إلى القراء. يغلي في عروقه دم الشباب، فيفيض حماسة وشعورا، وإيمانا. ولا جرم أن سنه ترفد هذا الشعر، فتكسب صاحبه عطفا على العطف الذي يستحقه، فهو شعر الغلام القتيل، وابن العشرين. (2-8) هجوه وسخريته
أجمع الرواة على أن طرفة كان حديد اللسان جريء الهجاء، ويزعمون أن استخفافه بالناس قرب أجله. غير أن هذه الخاصة لا نجدها في المعلقة على تعدد أغراضها، فينبغي لنا أن نلتمسها في غير المعلقة. وقد عرفت أن ما وصل إلينا من شعر طرفة، قليل جدا وأكثره لا يعول عليه. ولكننا نأخذ شواهد، على هذه الميزة في الشاعر. انتقاده لشعر خاله المتلمس، وكان طرفة غلاما يلعب مع أترابه فسمع خاله يقول:
وقد أتناسى الهم عند احتضاره
بناج عليه الصيعرية مكدم
45
والصيعرية سمة للنوق، فقال طرفة: «استنوق الجمل.» فأرسلها مثلا، وضحك القوم؛ فغضب المتلمس ونظر إلى لسان طرفة فقال: «ويل لهذا من هذا.» يعني رأسه من لسانه، ونأخذ أيضا هجوه لعمرو بن هند وأخيه قابوس:
فليت لنا مكان الملك عمرو
رغوثا حول قبتنا تخور
لعمرك إن قابوس بن هند
ليخلط ملكه نوك كثير
وهجوه لصهره عبد عمرو:
ولا خير فيه غير أن له غنى
وأن له كشحا إذا قام أهضما
فمن هذه الأمثلة الصغيرة يمكننا أن نتبين خاصة الهجاء في طرفة وما فيها من استخفاف وهزء، ولعل الاستخفاف والهزء من أبرز خصائص هذا الشاعر، فهما ظاهران في لهوه وعبثه، ظاهران في زهده في الحياة والمال، ظاهران في هجوه وانتقاده. (2-9) صحة شعره
قال ابن سلام: «ومما يدل على ذهاب العلم وسقوطه قلة ما بقي بأيدي الرواة المصححين لطرفة وعبيد، والذي صح لهما قصائد بقدر عشر، وإن لم يكن لهما غيرهن فليس موضعهما حيث وضعا من الشهرة والتقدمة، وإن كان ما يروى من الغثاء
46
لهما فليسا يستحقان مكانهما على أفواه الرواة. ونرى أن غيرهما قد سقط من كلامه كلام كثير، غير أن الذي نالهما من ذلك أكثر، وكانا أقدم الفحول فلعل ذلك لذلك. فلما قل كلامهما حمل عليهما حمل كثير.» ا.ه.
فهو يرى أن شعرهما ناله من الضياع أكثر من شعر غيرهما؛ لأنهما أقدم الفحول وأن الرواة نحلوهما شيئا كثيرا لما قل كلامهما، ولكنه يعترف بصحة معلقة طرفة وصحة رائيته «أصحوت اليوم ...» وبعض قصائد حسان له لم يشر إليها.
ونحن في درسنا شعر طرفة اعتمدنا على المعلقة أكثر من غيرها، وهي ثابتة له لم يشك أحد في صحتها، وإذا كان الشاعر قد شذ عن شعراء ربيعة في متانته وشدة أسره، فليس ذلك بعجيب ولكل قاعدة شذوذ. وإذا نظرنا إلى حياة طرفة وما رافقها من ضيم وشظف عيش، بعد أن طرده أهله فهام على وجهه يأوي إلى المغاور والجبال، ويشن الغارات على الأحياء، لم نعجب لشدة شعره وغرابة ألفاظه. بيد أن هذا الإغراب يكاد يقتصر على وصف الناقة دون سائر أقسام المعلقة. (2-10) منزلته
وضعه ابن سلام في الطبقة الرابعة لقلة شعره بأيدي الرواة، ولكنه قال فيه: إنه أشعر الناس واحدة وهي قوله: «لخولة أطلال ...» وقال ابن قتيبة: هو أجود الشعراء طويلة. وقال ابن رشيق: طرفة أفضل الناس واحدة عند العلماء وهي المعلقة. وقال أبو عبيدة: مر لبيد بمجلس في الكوفة وهو يتوكأ على عصا، فلحقه فتى من أهل المجلس وسأله: من أشعر العرب؟ فقال: الملك الضليل، يعني امرأ القيس. فسأله: ثم من؟ فقال: الغلام القتيل، يعني طرفة. فسأله: ثم من؟ فقال: الشيخ أبو عقيل، يعني نفسه. ومهما يكن من أمر هذه الرواية فإنه يستدل منها ومما تقدمها من الأقوال، أن طرفة فضل بمعلقته على سائر الشعراء. وهذا التفضيل يعود إلى ما فيها من تصوير صادق لحياته البدوية، وما يتخلله من الآراء والحكم، والفوائد التاريخية، إلى ما هنالك من دقة الوصف، وبراعة التشبيه، وقوة التعبير. وحسب صاحبها فضلا أن يكون غلاما في العشرين. (3) زهير (توفي في السنوات الأولى للهجرة) (3-1) حياته
لم يسلم زهير بن أبي سلمى من الخلاف في نسبه، شأنه شأن غيره من شعراء الجاهلية كالنابغة والحطيئة والشنفرى وسواهم. فقد جعله ابن قتيبة في غطفان، مع أن ابن الأعرابي وابن الكلبي وأبا الفرج الأصفهاني وغيرهم يردونه إلى مزينة ويقولون إنه نزل أرض غطفان وتزوج منهم، وأقام فيهم. وحجة ابن قتيبة في دفع نسبه عن مزينة أنه ليس له أو لأبنائه شعر ينتمون به إليها إلا بيت كعب بن زهير، وهو قوله:
هم الأصل مني حيث كنت وإنني
من المزنيين المصفين بالكرم
وكان مزرد بن ضرار الغطفاني قد دفع نسب كعب في غطفان، ورده إلى مزينة، فلم ينكر كعب عليه زعمه بل أثبت بهذا الشعر أنه منها. ويشرح ابن سلام ذلك بقوله: «وقد كانت العرب تفعل ذلك، لا يعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها إلا قال: أنا من الذين عنيت.» فيستدل من كلامه أنه يشك في مزنية كعب. ويقول أيضا: «وكان أبو سلمى وأهل بيته في بني عبد الله بن غطفان، فبهم يعرفون، وإليهم ينسبون.» ثم يقول: «ولقد أخبرني بعض أهل العلم من غطفان أنهم من بني عبد الله بن غطفان، وأن اعتزاءه إلى مزينة كقول هؤلاء، وأما العامة فهو عندهم مزني.»
فانتماء كعب إلى مزينة، بحسب هذه الرواية، كانتماء العرب الذين ينسبون إلى قبائل غريبة، فيقولون: «أنا من الذين عنيت.» ولكن ابن سلام، مع ما ألقى من الشك على مزنية زهير، لم يسعه إلا أن يجاري العامة عند ذكر نسبه، فجعله من المزنيين، ونرى أن رواية الغطفاني لا تسلم من الجرح، فليس من الغريب أن تدعي غطفان شاعرا مشهورا كزهير عاش مجاورا لها يمدح ساداتها ويدافع عنها أصدق دفاع. قال ابن عبد البر في الاستيعاب: «وكانت محلتهم في بلاد غطفان، فيظن الناس أنه من غطفان، أغني زهيرا، وهو غلط.»
ولم يصل إلينا شعر كثير عن كعب، ولا عن غيره من ولد زهير وحفدائه لنجد في أقوالهم ما يدل على نسبهم سوى هذا البيت لكعب، وبيت آخر لأخيه بجير يقول فيه: «وألف من بني عثمان واف.» والمراد عثمان بن مزينة. رواه ابن سلام وقال: «وقد يجوز أن يكون يعني غير قومه من المزنيين.» ولعل اختلاطهم بغطفان في السكنى والزواج هو الذي صرفهم عن التفاخر بمزينة كما صرف والدهم زهيرا من قبل، فإن أشعاره - على كثرتها بالإضافة إلى أشعارهم - لا تهدي راويتها إلى أصله ونسبه، بل نجدها تشتمل على مناقب مرة ومآثر غطفان، يمدح ساداتهم وفرسانهم، ويرد على أعدائهم منافحا عنهم. وكان والده أبو سلمى ربيعة هجر قبيلته واجدا عليها، وأقام في غطفان متزوجا إليها، فنشأ الابن فيهم تعطفه الخئولة من ذبيان، ولا تهزه العمومة من مزينة، فعاش بينهم وأصهر إليهم وخص شعره بهم، حتى شك ابن سلام في مزنيته، وجزم ابن قتيبة، فجعله من غطفان.
ولم يجتمع لشاعر في الجاهلية حظ من الشعر كما اجتمع لزهير. فقد كان أبوه ربيعة شاعرا، وخاله بشامة بن الغدير الغطفاني شاعرا، وأختاه سلمى والخنساء
47
شاعرتين، وابناه كعب وبجير شاعرين، وحفيده عقبة بن كعب الملقب بالمضرب شاعرا، وابن حفيده العوام بن عقبة شاعرا. وكان زوج أمه أوس بن حجر شاعرا مشهورا فروى له زهير ونظم الشعر ففاقه، وأخمل ذكره.
وأقام زهير في بني مرة مكرما مسموع الكلمة. وكثر ماله وتزوج امرأة تكنى أم أوفى، ثم جمع بينها وبين ضرة يقال لها كبشة بنت عمار من غطفان، فولدت له كعبا وبجيرا. فغارت أم أوفى منها لأن أولادها ماتوا، وأخذت تسيء إلى زهير حتى طلقها. ثم ندم وأخذ يذكرها في شعره كلما خطرت له في بال.
وعاش زهير عمرا طويلا ربما بلغ به التسعين أو نيف عليها، وتدلنا المعلقة على أنه كان في الثمانين يوم نظمها لقوله فيها:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وهذه القصيدة أنشئت بعد أن وضعت حرب داحس والغبراء أوزارها، أي في أوائل القرن السابع، فتكون ولادة الشاعر في العقد الثالث من القرن السادس للميلاد.
وروى صاحب الأغاني أن النبي نظر إلى زهير وله مائة سنة، فقال: «اللهم، أعذني من شيطانه!» فما لاك بيتا حتى مات. فإذا صحت هذه الرواية فيكون زهير قد أدرك سنة 630، أي التاسعة للهجرة، ولكن يرجح أنه توفي قبل إسلام ولديه؛ لأن الرواة لم يذكروه معهما، ولا يجوز أن ينسى مثله لو كان حيا. وقد أسلم ابنه بجير في أواخر السنة السابعة للهجرة، وأسلم كعب في السنة التاسعة. وذكر البغدادي في خزانة الأدب أنه مات قبل البعث بسنة، أي نحو سنة 611م. فإذا صحت روايته - ولا ندري مستندها - فيكون زهير قد جاوز الثمانين، وتكون رواية الأغاني باطلة، ومهما يكن من شيء، فإن الشاعر كان من المعمرين، ومات على جاهليته، سواء أدرك البعث أم لم يدركه. (3-2) شعره
انتهى إلينا طائفة صالحة من شعره، وفيها معلقته المشهورة التي قالها بعد حرب داحس والغبراء، وليس لدينا شعر قاله في أثناء هذه الحرب، محرضا بني ذبيان أو راثيا الفرسان الذين قتلوا فيها، شأن شعراء القبائل في مثل هذه الحال، وقد مر به أعظم حادث روعت له القبيلة، فكانت مجزورة أهلية فجعت بني ذبيان بخيرة رجالها. فلماذا سكت زهير عن رثائهم وتحريض القبيلة على الأخذ بثأرهم؟ ألعل هذا الشعر ضاع فلم يصل إلينا؟ أم لعله لم ينظم شيئا فيهم؛ لأنه كان كارها هذه الحرب التي اشتعلت نارها لسبب تافه، وهو الشاعر الحكيم الذي يسعى لخير القبيلة، ولا يرى لها أن تتورط في حرب مشئومة تفانت فيها بنو غطفان: «ودقوا بينهم منشم.» على حد تعبيره. فلم يشأ أن يؤرث جمرة الأحقاد بندبه وتحضيضه، بل كان يرجو أن يقوم من عقلائهم من يسعى إلى الصلح، حتى تجند له هرم بن سنان والحارث بن عوف المريان، فمدحهما وشكر صنعهما، وأشاد بذكرهما. وله في هرم عدة قصائد خلدت ذكره وذكر أبيه سنان.
ولا يذكر زهير في شعراء الجاهلية إلا ذكرت معه الروية والرزانة والحكمة، وبدا لنا منه شاعر متعاقل لا تنطوي حياته وطباعه على شذوذ غير مألوف في نظام الاجتماع. وجاءت أقوال المتقدمين فيه وصفا لما يبدو من أخلاقه في شعره، وتفضيلا لهذا الشعر بهذه الأخلاق. فقد نسبوا إليه الحوليات ليظهروا رويته وأناته في تنقيح شعره، فقالوا إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، ويهذبها في أربعة، ويعرضها على أخصائه في أربعة. وقالوا فيه: هو أشعرهم لأنه لا يعاظل في الكلام، ويريدون بذلك تنزيل ألفاظه على ما يقتضيه قانون الشعر عندهم، أي ليس فيه تداخل ولا تضمين يجعل القافية متعلقة بما بعدها، وسموه قاضي الشعراء، كما يقول ابن رشيق، من أجل هذا البيت:
وإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء
وقدموه على غيره لأنه صاحب من ومن ومن، وهي أبياته المشهورة في الحكم. فمنزلة شعره تستند عندهم إلى رجحان عقله وحبه للخير والسلام، لا إلى جوهر الشعر نفسه.
وقد كان زهير - كما عرفوه - قاضيا يصلح بين المتخاصمين، وحكيما ينصح الناس ويرشدهم، ويدعوهم إلى العمل الصالح. وفي شعره أمثلة كثيرة تدل على عنايته بخير مجتمعه القبلي وتقويم أخلاقه. وجميل بالشاعر أن يكون له هدف إصلاحي يتجه إليه، وإن كان الفن يستوحي الحياة على إطلاقها، ويجد كل ناحية صالحة لأن تكون له مادة وصورة. فالشاعر عضو في مرافق الجماعة الإنسانية له رسالة سامية يبلغها بجمال فنه وما فيه من بهجة للنفوس وإرهاف للعواطف، ولكن من الخير أن يجتمع إلى جمال الفن جمال الغاية فيستطيع الشاعر أن يضيف إلى رسالته الأدبية رسالة الإصلاح. وهذا قلما تأتى لشاعر يعتمد أحكام العقل والمنطق، فينصرف إلى سن القوانين الخلقية وضرب الأمثال، فتغلب عليه صفة المعلم الاجتماعي، كما غلبت على زهير؛ لأن طريق الشعر في تطهير الأخلاق غير طريق الوعظ والخطابة. على أن الشاعر يمكنه أن يؤدي رسالته الإصلاحية بأن يكون إنسانيا في شعره فيتصور الخير والجمال دمى في خياله، ويحسهما إحساسا بليغا في أعماق نفسه، حتى إذا أصبحا جزءا من حياته، أو ذاتا من ذاته، أخرج عنهما صورا وأنغاما متعددة الألوان، مؤتلفة الأجزاء، تتحرك فيها عناصر الحياة بما نفحها الشاعر من إحساسه ونفسه، فيتراءى الخير في جماله، والشر في قباحته، وترضى الأخلاق ولا يغضب الفن.
وهذا لا يعني أننا نحاول النيل من لغة زهير وبلاغته، فهو كسائر الجاهليين، مستطيل على الألفاظ والتراكيب، وتمتاز لغته بشدة أسرها، ودقة إحكامها، خاصة عرف بها شعراء مضر لإعراقهم في البداوة، وبعدهم عن الأمصار، ولكن لغته، بروحها واتجاهها وفنها، لغة خطابية منطقية تصلح للشعر الاجتماعي الذي يتصل بالعقل أكثر منه بالخيال والعاطفة، وفيها اعتماد ملحاح على المادة لإظهار الحقائق واضحة ملموسة، على منطق راجح وحب إقناع. وحسبنا أن ننظر إلى عنايته بتبيان مغبة الحرب في صور محسوسة بارزة الخطوط، وإلى مجادلاته ومواعظه وأمثاله بغية الإقناع، ثم إلى فحصه عن مادة اللون وصورته:
علون بأنماط عتاق وكلة
وراد حواشيها مشاكهة الدم
48
لنعلم مبلغ تعلقه بالحقائق على ما يرتضيه المنطق ويقبله العقل. حتى إن المتقدمين - في تفضيلهم إياه - كانوا من أنصار العقل في الشعر فمدحوه بقولهم: «إنه كان واضح الغرض لا يقول إلا ما يعرف.»
فمادية زهير، واعتماده على ما يعرف من الحقائق جعلا شعره واضح الغرض. ويكفي القارئ أن يفهم ألفاظه الغريبة ليستولي على أفكاره ومقاصده، لا أمثاله وآرائه وحدها، بل الأشياء التي يتناولها وصفا وتصويرا، فإنه لتدقيقه في جلائها، جعلها ناتئة الملمس، خالصة من الغموض، على ما فيها من جمال الصورة وبلاغة التعبير:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة
فهن ووادي الرس كاليد في الفم
فزهير في حكمه وأمثاله وجدله ومواعظه، شاعر حكيم، وخطيب اجتماعي، وقاض يرشد ويصلح، ومنظوماته - في كثرتها - ليست من الشعر الخالص، وإن كان لا يعدوها جمال العبارة وحسن التصوير. وربما وجدت فيها برودة وجفافا يتمثل بهما صاحبها الوقور الهادئ الرصين. حتى إن غزله، في هدوئه وصلابته. لا يثير عاطفة ولا يحرك قلبا. يصرف عنايته إلى ذكر الديار الخالية، ووصف فراق الأحبة، ومرافقة الظعائن في انتقالها من مكان إلى آخر. وقلما وصف الحبيبة وأظهر محاسنها. فغزله - في جملته - يدل على أن صاحبه قد تقدمت به السن. قاله في حرب داحس والغبراء أو بعدها، فهو ذكريات شيخ يحن إلى امرأته أم أوفى التي طلقها، أو يأسف لأن العذارى أصبحت تناديه: يا عمي! بدلا من أن تناديه: يا أخي!
وقال العذارى: إنما أنت عمنا!
وكان الشباب كالخليط تزايله
ويمكن القول إن أكثر أغراض الشاعر ومقاصده تنماز بالرصانة والهدوء والتعاقل، وتنزع إلى الجدل وتوخي الحقائق المادية المجسمة. (3-3) شعره السياسي - مدح السادات
إذا كان لزهير، في مختلف أغراضه، أشياء حسان، فخير شعره ما قاله في مدح سادات بني ذبيان، والدفاع عن القبيلة وإرشادها، وإسداء الحكم الاجتماعية في حسن السياسة ومكارم الأخلاق. فمدائحه خير مثال لأسلوب المدح الجاهلي، تظهر فيه مناقب الأشراف والفرسان وفضائلهم، على ما فيها من عنجهية ومكاثرة واعتداد. فإن زهيرا لم يتصل بملوك الشام والعراق ليشتمل شعره على صفات أصحاب القصور، ولا وفد على القبائل الغريبة يمدحها، ليخرج بشعره عن الصفة القومية التي ينتمي إليها، بل مكث في بني ذبيان يخصهم بمدائحه وآرائه ونصائحه، ويقارع أعداءهم شأن أمثاله من الشعراء القبليين الذين يوجهون أشعارهم شطر مجتمعهم لصلاحه ومنفعته، فيبذلون له ما في وسعهم، أسوة بغيرهم من أبنائه العاملين. ونعرف من الأشخاص الذين مدحهم من بني مرة: سنان بن أبي حارثة، وولده هرما، والحارث بن عوف؛ ومن بني بدر: حصن بن حذيفة، ونستثني مدحه للحارث بن ورقاء الصيداوي. فإنه ثناء أسداه إليه إثر هجاء بعدما رد عليه عبده يسارا، وكان قد سباه.
وأكثر مدائحه وأفضلها ما قاله في هرم بن سنان؛ لأنه كان شديد الحب له، وكان هرم يبره ويجزل له العطاء، وإن تكن مدائحه للآخرين لا يعدوها الجمال، ولا يقل أصحابها عن هرم شرفا وسؤددا. فالحارث بن عوف سيد من سادات العرب، وهو الذي سعى في الصلح بين المتحاربين حتى أدركه وحمل عن القوم ديات القتلى، وشاركه فيها هرم بن سنان، فخصهما زهير بمعلقته، ثم بقصيدته اللامية التي يقول فيها:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها
وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
49
ما عدا القصائد التي مدح بها هرما وحده، والتي مدح بها أباه سنانا ورثاه، حتى قيل إن هرما حلف أن لا يمدحه زهير إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه، ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبدا أو وليدة أو فرسا. فاستحيا زهير مما كان يقبل منه، فكان إذا رآه في ملأ قال: «انعموا صباحا غير هرم، وخيركم استثنيت.»
ومن حسنات زهير أنه كان لا يجنح في مدحه إلى الغلو الممقوت، ولا يأتي بسفساف القول، ولذلك قال الأقدمون فيه: «زهير لا يقول إلا ما يعرف، ولا يمدح أحدا إلا بما هو فيه.» وإذا وقع له شيء من الغلو جعل الشرط له مانعا مثل قوله في هرم:
لو نال حي من الدنيا بمنزلة
وسط السماء لنالت كفه الأفقا
فلو: حرف امتناع لامتناع، أي امتناع نيل الأفق من أجل امتناع الشرط لنيل وسط السماء. قال ابن سلام: «من قدم زهيرا احتج بأنه كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من اللفظ، وأشدهم مبالغة.» فلو الشرطية هنا أبعدت زهيرا عن السخف والكذب وأبقته في حدود صدقه ورصانته، وجنبته فضول الكلام الذي يلازم شعراء المدح عادة، وهذا ما أراده الأحنف بن قيس إذ قال إنه ألقى عن المادحين فضول الكلام، واستشهد بقوله:
فما يك من خير أتوه فإنما
توارثه آباء آبائهم قبل
وأما مبالغته التي ذكرها ابن سلام فإنها تجعله يتتبع وصف ممدوحه بجميع الخلال الحميدة من كرم وشجاعة وحلم وطيب محتد وبلاغة في المنطق، إلى ما هنالك من الفضائل والصفات التي يفاخرون بها، ويعدونها من شروط السيادة عندهم. ولا يغفل عن ذكر العاذلة التي تشغل مكانا في الشعر القديم، تلامس عاطفة الجاهلي بنصحها وتأنيبها له، تلومه على إسرافه بالكرم والحب والشجاعة، ولكنها لا تلقى منه سوى الرد والإعراض.
ويستوقفنا ما نسب إلى هرم من التقوى، حتى إن الله يعصمه من سيئ العثرات:
ومن ضريبته التقوى ويعصمه
من سيئ العثرات الله والرحم
50
وقلما وجدنا المدح الديني في الشعر الجاهلي؛ لأن التقوى لم تكن من الفضائل التي يفاخرون بها ويمدحون بها، فقد كان الدين ضعيفا في نفوسهم فما يذكرون الله إلا في الحلف لتوكيد كلامهم، ولا يلمحون شطر أصنامهم إلا عرضا لبداوتهم وترحلهم وبعدهم عن بيوتها. وإذا سمعنا النابغة يمدح الغساسنة بدينهم، ويصف موكبهم يوم الشعانين، فلأنهم كانوا مسيحيين يباهون بديانتهم ويتمسكون بعقائدهم. فهل كان هرم بن سنان مسيحيا ليصفه زهير بالتقوى، ويجعل له الكرامة عند الله؟ أم هل كان زهير من أولئك العرب الذين تأثروا بالنصرانية التي تسربت في الصحراء وانتحلتها جماعات من مختلف القبائل، فجعل الدين والتقوى من الصفات التي يحمدها في ممدوحه؟ وليست هذه الظاهرة وحيدة في شعره، فإن له أمثالها في معلقته وغير معلقته تدل على ما للدين من خطر في نفسه، حتى مال بعضهم إلى الشك فيها، وأبى نسبتها إليه، مع أن هذا لا يدعو إلى العجب بالإضافة إلى تعاقل زهير وحكمته وحسن بصره بالأمور، فغير بعيد أن يصل أشباهه إلى معرفة الله والإيمان بالآخرة والثواب والعقاب عن طريق المسيحية أو اليهودية، وهما غير مجهولتين في جزيرة العرب.
51
فإذا بلغ زهير في تقصي الصفات المحمودة فإنه يبرأ من الكذب والغلو المذموم. وكثيرا ما يمدح الرجل بذكر أعماله فيسردها على طريقته القصصية ويجعلها شواهد ناطقة بحسن خلال ممدوحه. فإنه في مدحه هرم بن سنان والحارث بن عوف، قص خبر سعيهما للصلح، وكيف نجما الديات دون أن يشتركا في الحرب، حتى بلغا مأربهما وأصلحا بين المتحاربين . فكان في إخباره عنهما مادحا لهما بمساعيهما دون جنوح إلى الخيال المفرط ، فالحقائق الناصعة هي التي تتكلم وترفع شأن ممدوحيه. وهذا الأسلوب الخبري يجعلك لا تستنكر ما يقول الشاعر في ممدوحه، ولا تعزوه إلى الغلو والإفراط. فمدائح زهير هي خير ما وصل إلينا عن الجاهلية من الإشادة بسادات القبيلة، والعناية بشئونها السياسية وأحوالها الداخلية والخارجية. (3-4) السياسة الخارجية
لم يقتصر شعر زهير على مدح السادات والفرسان، وذكر سياستهم الداخلية في إدارة شئون القبيلة، وفض مشاكلها في أنديتهم، وإطعام فقرائها في السنة الشهباء، وإيقاد نارهم للضيوف الذين ينزلون عليها، ونصرة بعضهم لبعض في المغارم والمغانم؛ بل توفر أيضا على شئونها الخارجية التي تتناول القبائل القريبة والبعيدة. وقد وقع في زمانه أعظم حادث مر ببني ذبيان، وهو حرب داحس والغبراء، وشهد ما حل بهم من الكوارث الفظيعة. فما كاد يعقد الصلح ويبتعد شبح الموت، حتى عاد خطر الحرب يهدد القبيلتين الغطفانيتين، بعد مقتل رجل عبسي. فنشط إلى تلافي الأمر قبل استفحاله، فوجه معلقته إلى تحسين السلام وتقبيح الحرب. وقد علم أن من الخير لبني ذبيان ألا تعود إلى القتال بعدما خسرت نخبة فرسانها وسادتها، وهاله أن تعاودها الويلات بعد انقشاع غمائمها المظلمة. فهب يدعو المتحاربين إلى الوفاء بعهد الصلح، مذكرا إياهم ما لقوا من المصائب في تقاتلهم، مخالفا رأي من يبغي الحرب أمثال حصين بن ضمضم، مع أنه من أنسبائه، وفارس مشهور في بني مرة. ولم يحجم عن إلقاء التبعة عليه وحده في مقتل العبسي، متخذا أسلوبا جميلا، منطقي الاتساق، مزيجا من الوعظ والقصص، فبلغ غايته الإنسانية في الدعوة إلى السلم والتحذير من الحرب، وبرأ بني ذبيان من تهمة الغدر والخيانة، وباح باسم القاتل دون أن يخذله. فقد شرع في أول الأمر يذكر ذبيان والأحلاف اليمين التي أقسموها على إبرام الصلح، وخوفهم غضب الله وعقابه إذا كانوا يضمرون الحنث فيها.
52
ولكنه لم يتبسط في تفصيل هذه الفكرة الغيبية. بل انتقل إلى عالم الطبيعة، وهو يعلم أن الصور المحسوسة أبلغ تأثيرا في نفس البدوي المستغرق في ماديته. فطفق يصف فظاعة الحرب ووخيم مغباتها، فوفق لبلوغ مأربه كل التوفيق، وأتى بصور بارزة تتوالى دراكا متفقة على تمثيل الحرب وأهوالها ونتائجها وغلاتها، فكان فيها عنيفا شديدا على رصانته وهدوئه. وما مثله إلا مثل المرشد الحكيم يترفق في نصحه عند صغار الأمور، ويعنف ويقسو عند كبارها.
وكان يعلم أن بني عبس ساخطون على بني مرة لمقتل صاحبهم بعد عقد الصلح، يتهمونهم بالخيانة ويرصدون الشر للسيدين المصلحين، فأظهر براءة القبيلة من هذه الخيانة، وأخبر أن القاتل ابن ضمضم أقدم عليها، ولم يخبر جمهرة قومه، فهو مسئول عنها دون غيره. بيد أنه لم يشأ خذله وإطماع الأعداء فيه، وإنما أراد تبرئة قبيلته من ظنة الحنث والغدر؛ لئلا يتسع الخرق فلا يصلح الأمر بعده أبدا. فما كاد يتهمه حتى اندفع يذكر شجاعته وجرأته وإقدامه، وأن وراءه ألف فارس يحاربون معه ويشدون أزره.
وتتبع تبرئة بني مرة - ولا سيما السيدين اللذين أصلحا بين المحتربين - فأورد أسماء فرسان من بني عبس قتلوا في معامع السباق، وقال للعبسيين: إن الذين تحملوا الديات من أجل الصلح لم يشاركوا في دماء هؤلاء القتلى، فكيف تتهمونهم الآن، وتأخذونهم بجريرة غيرهم؟ ولم يغفل أن يفهم بني عبس أن سادات غيظ بن مرة عزيزو الجانب لا يدرك الموتور ثأره منهم، وإذا جنى أحدهم جناية، لا يسلمونه ولا يخذلونه، وكأنه يشير هنا إلى جناية حصين بن ضمضم:
كرام فلا ذو الضغن يدرك وتره
ولا الجارم الجاني عليهم بمسلم
فبلغ، بحسن منطقة، ما أراد من التحذير والتنبيه وتبرئة قومه والدفاع عنهم، فأدى مهمته القبلية خير تأدية، وأنقذ السلم والشرف في وقت معا.
وكان كلما عرضت له خدمة القبيلة لا ينكص عنها. فإذا صمدت بنو تميم إلى بني غطفان تطلب غزوها، تصدى لها يتهددها ويثبط عزيمتها، بسكون طبعه ورباطة جأشه، دون أن يفور له فائر. فيظهر منعة قومه وكرم خيولهم. ثم ينصح لها أن تبقى في ديارها لئلا تمنى بالذل، أو تنتجع سنان بن أبي حارثة المري والد هرم فتلقى عنده الخير والسماحة:
فقري في بلادك إن قوما
متى يدعوا بلادهم يهونوا
أو انتجعي سنانا حيث أمسى
فإن الغيث منتجع معين
وكذلك كان شأنه مع بني هوازن وبني سليم عندما أزمعوا الغارة على الغطفانيين، فذكرهم القرابة ودعاهم إلى رعايتها وإلى حفظ المودة، ولم ينس أن ينوه بشدة بأس قومه، وأنهم إذا آثروا الصلح فعدوهم أفقر إليه منهم.
ولم يكن هجاؤه لآل حصن إلا من جملة سياسة القبيلة في الدفاع عن غطفان ومقاومة من يسيء إليهم أو إلى أحد منهم. فإن الذي دفعه إلى هجائهم هو أن رجلا من بني عبد الله بن غطفان، وهم الذين جاورهم زهير، أتى قوما من آل حصن، فأكرموه وأحسنوا جواره، وكان مولعا بالقمار، فنهوه عنه، فأبى إلا المقامرة. فقمروه مرة فردوا عليه ما ربحوا منه، ثم قمر أخرى فردوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه، فترحل عنهم إلى قومه، وزعم أنهم أغاروا عليه، فهجاهم زهير. ثم لما علم الحقيقة ندم، وكان يقول: ما خرجت في ليلة ظلماء إلا خفت أن يصيبني الله بعقوبة لهجائي قوما ظلمتهم. فقد هجاهم زهير لاعتقاده أن الغطفاني مظلوم أغير عليه، فانبرى يذود عنه ويهدد بني حصن ساخرا بهم، ولكنه لم يفحش في أعراضهم كما أفحش في بني الصيداء بعدما سبوا عبده يسارا، بل اقتصر على التهكم الأليم والوعد والوعيد دون أن يغلق باب الصلح. فكان ناصحا ومرشدا لهم يجادلهم ليثبت عليهم خطأهم، ويدعوهم إلى إصلاح ما أفسدوا لكي لا يتسع الخرق على الراقع، فيأتيهم منه هجاء لا قبل لهم به.
وفي هذه القصيدة تتجلى حكمه زهير ورويته واستطالته في الجدل واستنزال الخصم وإلقاء التبعة عليه لا يستطيع أن يتبرأ منها. فقد جاءهم بسبيل الجوار المقدس والذمة والوفاء، فكان أشبه بمحام يدافع عن موكله ليثبت الجرم على خصمه، ويحمله على تأدية الدين إلى المدعي، فيرد على الحجج التي بوسعه أن يتذرع بها، ويدحضها بجدله وبراهينه؛ ويبصره مقاطع الحق التي أعجب بها الأقدمون، فلقبوه من أجلها بقاضي الشعراء. (3-5) سياسة الاجتماع
رأينا زهيرا ، في مدائحه وأهاجيه، يمثل - أفضل تمثيل - سياسة القبيلة الجاهلية، يشيد بمناقب ساداتها ، ويوجع في تهديد أعدائها، يخطب ويعظ، ويحامي ويدافع، فعلينا أن ننظر الآن إليه حكيما مرشدا يريد الخير لقومه، فيبذل من الآراء والأمثال ما تستقيم به أحوالهم الخلقية والاجتماعية، وليس لدينا من شعره قصيدة تجمع الحكم أبياتا يتوالى بعضها إثر بعض غير معلقته، فقد خص القسم الأخير منها بطائفة من الآراء الاجتماعية التي شهرته عند الأقدمين، وفضلوه من أجلها، فقالوا: أشعر الناس صاحب من ومن ومن. وله أقوال متفرقة في مختلف أشعاره، منها أدلة عقلية مثل قوله:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه
وتغرس إلا في منابتها النخل؟
53
ومنها أمثال في الحض على العمل الصالح:
تزود إلى يوم الممات فإنه
وإن كرهته النفس آخر موعد
أو في تحديد مقاطع الحق:
وأن الحق مقطعه ثلاث:
يمين، أو نفار، أو جلاء
وأما آراؤه في المعلقة فإنه يتكلم أولا على الحياة، فإذا هو قد سئمها لطولها بعدما عاش ثمانين حولا يلقى تكاليفها وأثقالها، وسئمها لأنه يجهل ما يستر عنه الغد، وهي أمنية الإنسان لو استطاعها، وسئمها لأن الموت يخبط على العمياء، فيصيب هذا ويخطئ ذاك. ثم يتناول سياسة الاجتماع، فنرى كل بيت يشتمل على فكرة مستقلة برأسها تتوخى إرشاد الفرد إلى الطريق الذي يحسن به سلوكه لينتفع في دنياه، وهي من الآراء التي يدركها الإنسان بتجارب الحياة، واختبار الناس، والاطلاع على وجوه الخير والشر، وهي - إلى ذلك - من الحقائق البدهية والفكر المشترك يستطاع الإعراب عنها بمختلف التعابير شعرا ونثرا دون أن تخسر شيئا من قيمتها المعنوية، ولكنها إذا انطلقت على ألسنة الشعراء. كان تأثيرها أبلغ في النفوس، وتجعل لصاحبها منزلة بين الحكماء، حتى لنسمع جرجي زيدان - على فضله - يقول فيها: «هذا لا يقل شيئا عن أحكام أكابر الفلاسفة!»
وإذا قلنا تتوخى إرشاد الفرد فلأنها لا تبحث في خير المجموع جملة، وما يئول إلى إصلاح نظمه ومداواة آفاته العامة، وإنما هي فردية مثل البدوي، ملائمة لحياته الصحراوية، ترشد الأفراد لينتفعوا بها في قبيلتهم - على علاتها - فتشمل المنفعة المجموع الذي يتألف منهم. وهذا ما أراده زهير عندما أخذ يرشد بقوله: من ومن ومن، داعيا الإنسان إلى المصانعة ليستفيد في الحياة بحسن سياسته:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ويدعوه إلى البذل والسخاء ليقي عرضه ويلقى الحمد. وهذا من الآراء الشائعة في الأدب القديم؛ لتعودهم أن يقروا الضيوف، ويجيروا الخائفين، ويكرموا العفاة، فنطقوا بذلك معبرين عن أحوالهم، وإن اختلفوا في صنع المعروف، فزهير يرفضه في غير أهله، ويجعل عاقبته ذما وندامة، وغيره يقبله ويرى أنه لا يضيع كما قال الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
ولم يكن زهير رسول الضعف والهزيمة وتثبيط العزائم في دعوته إلى السلم وتحذيره من الحرب، وإنما أدبه أدب القوة كغيره من الشعراء الجاهليين، لا يبشر بالاستكانة والخنوع، بل يدفع الحرب ما دام بوسعه أن يدفعها لخير القبيلة أفرادا وجماعات دون أن يقودهم إلى الذل والصغار. فأما إذا كان لا بد من الحرب، فليس للمرء أن ينكص عنها:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
ولا نعجب أن تصدر عنه حكمة في تزيين الظلم، فإنما هي حياتهم القبلية تفرض عليهم ظلم البعداء والحلم على الأقرباء، فكلهم يفاخر بالجور على الغريب والرفق بابن العم. فزهير لم يزين الظلم إلا لأنه مصروف إلى الغرباء لا إلى القبيلة، فأوصى به في جملة آرائه، وجعله من سياسته الاجتماعية متأثرا بروح عصره. فليست آراؤه كلها إنسانية تجاري العصور وتتخطى حواجز المكان والزمان، بل فيها ما لا يعيش إلا في الصحراء، في المجتمع القبلي، والعصر الجاهلي.
ويستوقفنا قوله:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فالعرب يعتقدون أن القلب مقر العقل، أو هو العقل بعينه كما في كتب اللغة، وكان أرسطو يجعل القلب موضع القوى النفسية، بخلاف جالينوس الطبيب الذي يجعلها في الرأس، وكان ابن سينا يأخذ برأي أستاذه أرسطو.
وقد قال العرب من عهد بعيد: المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ولم يذكروا العقل في كلامهم، وإنما ذكروا مكانة القلب والفؤاد . فزهير لم يبتعد عن حكمة الشعب في هذا البيت، كما أنه لم يبتعد عنها حين يقول:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
فآراؤه المتفرقة لا تجاوز نطاق التفكير العام، ولكنها تجعل من صاحبها شاعرا حكيما، وخطيبا مرشدا. فهو من أولئك الشعراء الجاهليين الذين لهم رسالة اجتماعية يؤدونها لخير قبائلهم وإصلاح أمرها. فقد قام بها أفضل قيام في مدح سادات القبيلة وفرسانها، وإطراء مناقبهم، وفي الدفاع عنها وإرشادها إلى ما فيه نجاحها، فكان الشاعر القبلي، والشاعر الحكيم، وقاضي الشعراء. (3-6) منزلته
هو أحد الثلاثة المقدمين في الجاهلية وهم: امرؤ القيس، والنابغة، وزهير. وقد اختلف في تقديم أحدهم على صاحبيه، وروى عمر بن عبد الله الليثي: أن عمر بن الخطاب قال: «زهير أشعر الشعراء لأنه كان لا يعاظل
54
في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، وكان لا يمدح أحدا إلا بما هو فيه.» وروي أيضا عن عمر أنه كان يقول: «أشعر الشعراء صاحب من ومن ومن ...» وقال أبو عبيدة: «أشعر الناس أهل الوبر خاصة وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة.» وسأل عكرمة بن جرير أباه: «من أشعر الناس؟» ففضل زهيرا في الجاهلية. وقال ابن سلام: «من قدم زهيرا احتج بأنه كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم أمثالا في شعره.»
فيتبين لنا من كل ذلك، أن زهيرا في مقدمة شعراء الطبقة الأولى، ومنهم من يفضله عليهم جميعا. وهو كما رأيناه في شعره، متين السبك غير خشن، واضح المعاني، موجز التعبير، متناسق الأفكار، رصين الأسلوب. يؤثر القصص في سرد أفكاره، والتصاوير الحسنة في إبراز موصوفاته. ترافقه الحكمة والرزانة في جميع فنون الشعر وأبوابه. فهو رزين في غزله ووصفه ومدحه، حكيم في هجائه ونصحه وتحذيره. ولا بدع أن يقل سخفه فذاك راجع إلى ترويه في النظم وأناته.
وقصارى القول إن زهيرا شاعر حكيم، ومصور بارع حريص على إتقان صوره وتبليغ ألوانها. (4) لبيد (661م/41ه ؟) (4-1) حياته
هو أبو عقيل لبيد بن ربيعة العامري ، وكان أبوه يعرف «بربيعة المقترين»
55
لجوده وسخائه. فنشأ لبيد كريما مثله. وقيل: إنه نذر في الجاهلية أن لا تهب الصبا إلا أطعم، وظل على نذره في الإسلام.
وبدت دلائل النجابة على الشاعر منذ حداثة سنه، ومما يروى عنه وهو غلام أنه وفد في رهط من بني عامر على النعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي، وكان الربيع ينادم النعمان، فطعن في العامريين وذكر معايبهم لعداء بينهم وبين بني عبس. فجافى النعمان وفد بني عامر وأهمل أمرهم. فخرجوا من عنده غضابا. فعرض عليهم لبيد أن يهجو الربيع في حضرة النعمان. فاستخفوا به لصغر سنه. فألح عليهم حتى رضوا. فلما أصبحوا دخلوا به على النعمان، والربيع يؤاكله، فقام لبيد يرتجز ويقول:
أكل يوم هامتي مقزعه
يا رب هيجا هي خير من دعه
56
يا واهب الخير الكثير من سعه
إليك جاوزنا بلادا مسبعه
57
نحن بنو أم البنين الأربعه
سيوف حق وجفان مترعه
58
نحن خيار عامر بن صعصعه
الضاربون الهام تحت الخيضعه
59
والمطعمون الجفنة المدعدعه
مهلا أبيت اللعن! لا تأكل معه!
60
ثم قال بعدها بيتين لا يجمل ذكرهما، فكره النعمان منادمة الربيع وطرده، ثم قضى حوائج بني عامر.
وعمر لبيد حتى أدرك الإسلام فانتحله دينا، ثم انتقل من البادية إلى الكوفة وأقام فيها حتى مات. وكان موته في أول خلافة معاوية بعد أن جاوز المائة؛ وسئم الحياة كما سئم منها زهير، وفي ذلك يقول:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
وزعم الرواة أن لبيدا لم يقل شعرا في الإسلام إلا بيتا واحدا وهو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى كساني من الإسلام سربالا
وقيل بل هو:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح
ورووا أن عمر بن الخطاب كتب إلى عامله المغيرة بن شعبة في الكوفة: «أن استنشد من عندك من شعراء عصرك ما قالوه في الإسلام.» فأرسل إلى لبيد واستنشده ، فكتب لبيد «سورة البقرة» في صحيفة ثم أتى بها إلى المغيرة، وقال: «أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.»
من الغريب أن يطمئن الرواة - ومن أخذ عنهم - إلى سكوت لبيد عن نظم الشعر في الإسلام، على حين أنهم لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه أشعارا قالها بعد إسلامه، فزعموا أنه لما بلغ مائة حجة وعشرا قال:
أليس في مائة قد عاشها رجل
وفي تكامل عشر بعدها عمر!
وأنه قال لما بلغ مائة وعشرين:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد؟
غلب الرجال فكان غير مغلب
دهر جديد دائم معدود
يوم أرى يأتي علي وليلة
وكلاهما بعد المضاء يعود
وهم يقولون إن لبيدا عاش تسعين سنة في الجاهلية، وسائر عمره في الإسلام، فهذه الأبيات إذا قيلت بعد إسلامه. ويروون للبيد قوله مخاطبا ابنتيه لما حضرته الوفاة:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر؟
إذا حان يوما أن يموت أبوكما
فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي ليس جاره
مضاعا ولا خان الصديق، ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
61
فكيف يمكن التوفيق بين ما يروون له من الشعر في الإسلام، وزعمهم أنه لم يقل فيه غير بيت واحد؟ ... أما نحن فنرى أن لبيدا نظم الشعر في الإسلام كما نظمه في الجاهلية، ومن تدبر أشعاره بروية، استروح في بعضها نفحة قرآنية لا تخفى، مثال ذلك قوله:
إن تقوى ربنا خير نفل
وبإذن الله ريثي والعجل
62
أحمد الله ولا ند له
بيديه الخير ما شاء فعل
63
من هداه سبل الخير اهتدى
ناعم البال ومن شاء أضل
فمثل هذا الشعر - إذ صح - لا يقوله إلا شاعر عرف الإسلام، وتأثر بالقرآن.
وزعم ابن قتيبة وغيره: أن الحارث الأعرج الغساني وجه إلى المنذر بن ماء السماء مائة فارس وأمر عليهم لبيدا، فساروا إلى عسكر المنذر، وأظهروا أنهم أتوه داخلين في طاعته. فلما تمكنوا منه قتلوه، وركبوا خيلهم ، فلحقهم القوم فقتلوا أكثرهم ونجا لبيد، فأتى ملك غسان فأخبره، فحمل الغسانيون على عسكر المنذر فهزموهم، فكان ذلك يوم حليمة.
ولكن الرواة يجمعون على أن لبيدا كان حدثا لما قدم النعمان في وفد من بني عامر. وبين النعمان أبي قابوس وابن ماء السماء نحو نصف قرن، فكيف كان لبيد فارسا مغوارا على عهد المنذر بن ماء السماء، ثم كيف أصبح غلاما مقزع اللمة على عهد النعمان بن المنذر؟ ... أليس هذا من خلط الرواة وأضاليلهم؟ فلبيد بن ربيعة لم يعرف المنذر ولا الحارث الغساني، وإنما عرف النعمان وكان صبيا، والذي ذكره ابن قتيبة هو غير شاعرنا. (4-2) آثاره
أشعار وصل إلينا منها قدر يسير فجمعت في ديوان وطبعت «بفينا»، ثم ترجمت إلى الألمانية. وفي جملة هذه الأشعار مطولته، وهي المعلقة الرابعة. (4-3) ميزته
لا ينبغي أن نلتمس ميزة لبيد في المعلقة وحدها، فهي لا تغنينا عن سائر شعره لنتبين خصائصه، وندرك منزلته. فالمعلقة تبدي لنا حياة رجل بدوي كريم، كلف بالمجد والمعالي، ولكنها لا ترينا ذلك الشيخ الحكيم الذي يحسن وعظ نفسه وتعزيتها عند نزول المصائب. فلا بد لنا إذا من أن ندرس مع المعلقة شيئا آخر من شعره لنعرف من هو لبيد، وما هي ميزته الشعرية.
أما المعلقة: فلها شأن أدبي لا يستهان به، وإن تكن دون المعلقات الثلاث التي مرت بنا، وهي في متانة لفظها وصلابة أبياتها، تمثل الحياة البدوية الساذجة، وتمثل الشعر المضري أحسن تمثيل. وقد بدأها لبيد بوصف الديار الخالية وتعرضها للأمطار فأجاد الوصف وفاق وغيره.
ثم يتخلص إلى الغزل بسؤال الديار عن أهلها، فيوجز في وصف الفراق وذكر صاحبته نوار. ثم ينتقل - على عجل - إلى وصف ناقته التي تساعده بالأسفار على قطيعة من صرمت حباله، وهو في غزله - كما في سواه - صلب حزيم لا يلين أسره ولا ترق ألفاظه، ولا يبالي أن يقطع مودة من هجره.
ويأخذ بعد ذلك في وصف ناقته، وهو أروع أقسام المعلقة، ولكنه لا يصف أعضاءها كما فعل طرفة، بل يجعل همه في تصوير سرعتها فيتسع خياله لثلاثة تشبيهات رائعة روية، يورد اثنين منها في أسلوب قصصي فكه . فشبهها أولا بالسحابة الحمراء خفت بها ريح الجنوب فدفعتها أمامها فأسرعت في جريها وهي خالية من الماء. ثم شبهها بأتان وحشية نشيطة غار عليها قرينها من الفحول، فدفعتها أمامه يسوقها سوقا عنيفا حتى اعتزل بها في أعالي الآكام فسلخا ستة أشهر في الشتاء والربيع يرعيان الرطب صائمين عن الماء، فلما هبت رياح الصيف واشتد الحر ونبت الشوك فأصاب حوافرهما انطلقا مسرعين يطلبان الماء، وخيم عليهما غبار كأنه دخان نار موقدة، وكان العير يعدو وراء الأتان فما يدعها تتأخر عنه لئلا تفلت منه، وظلا في عدوهما حتى بلغا الماء فورداه. وهنا ينتقل إلى التشبيه الثالث سائلا نفسه: أفتلك الأتان تشبه ناقتي في سرعتها؟ أم تشبهها بقرة وحشية افترس السبع ولدها فأسرعت في السير تبحث عنه، وظلت في طلبه حتى أدركها الليل فأمطرتها السماء ديمة مدرارا «في ليلة كفر النجوم ظلامها»
64
فلجأت إلى شجرة في الرمل تتقي بأغصانها البرد والمطر فما تقيها، وكثبان الرمل تنهال عليها، ولكنها يئست من ولدها بعد أن طال بحثها عنه، وجف ضرعها بعد امتلائه، ثم راعها الرماة بكلابهم فجدت في العدو، فطاردها الكلاب فلم تر بدا من أن تدافع عن نفسها، فقابلتهن بقرنها؟
وبعد أن ينتهي من تشابيهه الثلاثة يعود إلى نفسه فيصفها بإباء الضيم والشمم، ثم ينصرف إلى وصف حياته في هدوئها واضطرابها، فهو في السلم صاحب لهو وطرب يشرب الخمر ويغلي ثمنها، ويدفع بها شدة البرد والريح:
بصبوح صافية وجذب كرينة
بموتر تأتاله إبهامها
65
وهو كريم جواد ينحر الجزور، ويطعم الفقراء والمساكين. وهو في الحرب شجاع باسل يحمي الحي، ويرقب الأعداء على جبل قريب من جبالهم وراياتهم، تحمله فرس سريعة الجري، يتوشح بلجامها ليظل متأهبا لركوبها.
وبعد أن وصف فرسه بإيجاز، أخذ يفتخر بقومه، فأرانا فيهم كرما ونجدة وأمانة:
وإذا الأمانة قسمت في معشر
أوفى بأوفر حظنا قسامها
66
فمعلقة لبيد تمثل شطرا من حياة البدوي الأبي النفس، العالي الهمة، الصادق في تصوير أخلاقه، ولكنها لم تمثل لنا ميزة الحكم في الشاعر، فهذه نجدها في رثائه لأخيه أربد،
67
ووعظه نفسه لتتأسى وتعتصم بالصبر الجميل. وقد أثر الحزن في الشاعر فأرق رثاءه، فلست ترى فيه تلك الصلابة التي تجدها في أبيات المعلقة.
ولكن عقل الشاعر الحكيم سيطر على عاطفته، فحبسها عن الإرنان والتفجع، وسما بصاحبه إلى المثل الأعلى، إلى الحكمة التي تجعل الإنسان يقوى على ضعفه، فإذا بنا نرى من لبيد واعظا مرشدا يعزي نفسه بأنواع الأمثال الحكيمة، ويقابل مصيبته بمصائب الناس فتهون عليه ويخف جزعه، ولماذا يجزع وكل امرئ في هذه الحياة الدنيا سيموت؟ ...
فلا جزع أن فرق الدهر بيننا
فكل امرئ يوما له الدهر فاجع
68
ففي هذا الرثاء وفي غيره من شعره حكم تسمو إلى ما بعد الطبيعة حتى تتصل بالعزة الإلهية، لذلك لا نعتقد أن لبيدا قالها في جاهليته ووثنيته، وهذا ما يجعلنا ننفي زعم الرواة أنه لم يقل غير بيت واحد في الإسلام. (4-4) منزلته
قال أبو زيد القرشي: «لبيد أفضلهم في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغوا في شعره.» وجعله ابن سلام في الطبقة الثالثة وقال فيه: «وكان عذب المنطق رقيق حواشي الكلام.» وروي أن النابغة نظر إليه وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر فقال له: «يا غلام، إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض الشعر؟» قال: «نعم.» قال: «فأنشدني.» فأنشده:
ألم تلمم على الدمن الخوالي
لسلمى بالمذائب فالقفال؟
69
فقال له النابغة: «أنت أشعر بني عامر. زدني.» فأنشده:
طلل لخولة بالرسيس قديم
بمعاقل فالأنعمين وشوم
70
فقال له: «أنت أشعر بني هوازن.
71
زدني.» فأنشده معلقته. فقال له: «اذهب فأنت أشعر العرب.»
وسواء صحت هذه الرواية أو لم تصح، فمنزلة لبيد في الشعر جليلة، فهو وإن يكن قصر في معلقته عن امرئ القيس في التشابيه والاستعارات ووصف الجواد والمطر، وعن طرفة في وصف أعضاء الناقة، وذكر حياته، وعن زهير في وصف الفراق والحرب، وفي سياسة القبيلة، فإنه فاقهم جميعا بوصف الديار الخالية، وبتشبيهاته القصصية في وصف سرعة الناقة. وهو يمتاز في رثائه المحلى بالمواعظ، وفي تلك الحكم البليغة التي تدل على إيمان بالله مكين ... (5) عمرو بن كلثوم (القرن السادس) (5-1) حياته
هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب التغلبي من أهل الجزيرة، وأمه ليلى بنت المهلهل أخي كليب وائل، وأبوه كلثوم من سادات تغلب. نشأ عمرو شديد العجب بنفسه، فخورا بمناقب أبيه وأخواله، فساد قومه صبيا في الخامسة عشرة من عمره. (5-2) الخلاف بين بكر وتغلب
عرفنا في كلامنا على المهلهل وحرب البسوس، أن الملك المنذر - والد عمرو بن هند - أصلح بين العشيرتين بعد عداء دام أربعين سنة، ولكنه خشي أن تعودا إلى القتال؛ فأخذ من كل حي منهما مائة غلام رهينة، حتى إذا اعتدت إحداهما على الأخرى أقاد
72
من الرهائن.
ولما تولى الملك عمرو بن هند حذا حذو أبيه في الارتهان من العشيرتين. وكان أن سير ذات يوم ركبا من تغلب وبكر إلى جبال طيئ في أمر من أموره، فنزلوا في أرض لبني شيبان أحلاف البكريين فقيل إنهم أجلوا التغلبيين عن الماء، ودفعوهم إلى مفازة فتاهوا وماتوا عطشا. وقيل بل هبت عليهم سموم في بعض مسيرهم فهلك التغلبيون وسلم البكريون. فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وطلبوا ديات أبنائهم من بني بكر، فأبت أداءها، فاحتكموا إلى عمرو بن هند فقال لهم: «ما كنت لأحكم بينكم حتى تأتوني بسبعين رجلا من أشراف بكر بن وائل فأجعلهم في وثاق عندي، فإن كان الحق لبني تغلب دفعتهم إليهم، وإن لم يكن لهم حق خليت سبيلهم.» ففعلوا وتواعدوا ليوم يعينه، يجتمعون فيه.
ولما كان يوم التقاضي انتدبت تغلب للدفاع عنها شاعرها وسيدها عمرو بن كلثوم، وانتدبت بكر للدفاع عنها أحد أشرافها النعمان بن هرم.
وكان عمرو بن هند يؤثر التغلبيين على البكريين، ويميل إلى إنصافهم، فجرى بينه وبين النعمان جدال غضب له الملك فطرد النعمان من حضرته، وأنشد عمرو بن كلثوم مطولته فافتخر على خصومه، مندفعا مع العاطفة في التبجح على ملك العراق منددا به مهددا إياه حتى أحفظه. ثم وقف الحارث بن حلزة البكري فرد عليه بمطولته واستمال الملك بدهائه، فحكم للبكريين. (5-3) قتله عمرو بن هند
كان بنو تغلب من أشد العرب في الجاهلية حتى قيل: «لو أبطأ الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس.» وروي أن عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه: «أتعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي؟» قالوا: «لا نعلمها إلا ليلى أم عمرو بن كلثوم.» قال: «ولم ذلك؟» قالوا: «لأن أباها مهلهل ربيعة، وعمها كليب وائل، أعز العرب، وبعلها كلثوم بن عتاب فارس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم سيد قومه.» فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره، وسأله أن يزير أمه أمه، فأقبل عمرو من الجزيرة في جماعة من بني تغلب، وأقبلت ليلى في ظعن من نساء تغلب، وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب ما بين الحيرة والفرات، وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا، ودخل عمرو بن كلثوم رواقه، ودخلت أمه ليلى قبة هند أم الملك عمرو، وعمة امرئ القيس الشاعر.
وكان عمرو بن هند قد أوعز إلى أمه أن تنحي الخدم وتستخدم ليلى إذا دعا بالطرف.
73
فلما دعا بها قالت هند: «يا ليلى ناوليني ذلك الطبق.» فقالت: «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها.» فأعادت عليها، فلما ألحت صاحت ليلى: وا ذلاه! يا لتغلب! فسمعها عمرو بن كلثوم، فثار الدم في وجهه، فقام إلى سيف لعمرو بن هند معلق بالرواق وليس سيف هناك غيره، فضرب به رأس الملك حتى قتله، ونادى في بني تغلب فانتهبوا جميع ما في الرواق وساروا نحو الجزيرة.
وفي ذلك يقول أفنون بن صريم التغلبي مفتخرا بفعل عمرو بن كلثوم:
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا
لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مصلتا
فأمسك من ندمانه بالمخنق
74
وجلله عمرو على الرأس ضربة
بذي شطب صافي الحديدة رونق
75
وضرب المثل بعمرو بن كلثوم في الفتك، فقيل: «أفتك من عمرو بن كلثوم.» (5-4) محاربته النعمان
ظل المناذرة يناوئون بني تغلب ويحاربونهم برجالهم وأحلافهم حتى اضطرهم المنذر الرابع أخو عمرو بن هند إلى الجلاء عن الجزيرة، فأتوا أرض الشام وعليها الغساسنة، فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني، وقال ابن الأثير: بل خرج ملك غسان - وهو الحارث بن أبي شمر - فلم يستقبلوه، فاغتاظ وطلب سيدهم عمرو بن كلثوم وتوعده، فاقتتلوا فانهزم بنو غسان وقتل أخو الحارث في عدد كبير. فقال عمرو بن كلثوم:
هلا عطفت على أخيك إذا دعا
بالثكل ويل أبيك يا ابن أبي شمر!
ثم رجع بنو تغلب إلى الجزيرة، وعلى الحيرة أبو قابوس النعمان بن المنذر الرابع، فأرسل لمحاربتهم جيشا على رأسه ابنه المنذر، فكسرهم بنو تغلب، وقتل المنذر بن النعمان، وقاتله مرة أخو عمرو بن كلثوم، وإلى هذه الحادثة، وإلى مقتل عمرو بن هند يشير الأخطل التغلبي بقوله مفتخرا على جرير:
أبني كليب إن عمي اللذا
قتلا الملوك وفككا الأغلالا
76
وقال الفرزدق يرد على جرير في هجائه الأخطل:
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
عمرا وهم قسطوا على النعمان
77
ثم أرسل النعمان يتوعد عمرا، فأخذ عمرو يهجوه ويعيره أمه سلمى، وكانت ابنة صائغ وأخت صائغ. فمن قوله:
لحا الله أدنانا إلى اللؤم زلفة
وألأمنا خالا وأعجزنا أبا
78
وأجدرنا أن ينفخ الكير خاله
يصوغ القروط والشنوف بيثربا
79 (5-5) أسره
أغار عمرو بن كلثوم على بني تميم في البحرين، ثم مال على حي من بني قيس بن ثعلبة فأصاب مالا وأسارى وسبايا، حتى إذا انتهى إلى بني حنيفة في اليمامة، خرج إليه منهم بنو سحيم وعليهم يزيد بن عمرو بن شمر، وكان شديدا جسيما؛ فحمل على عمرو فطعنه، فصرعه عن فرسه، وأسره وشده القد
80
ثم قال: «أنت الذي تقول:
متى نعقد قرينتنا بحبل
تجذ الحبل أو تقص القرينا
أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعا.» فعز على عمرو بن كلثوم أن يحقر ويهان، فصاح: «يا لربيعة! أمثلة!»
81
فاجتمع قوم يزيد فنهوه ولم يكن يريد ذلك إنما أراد تبكيته. فسار به حتى أتى قصرا بحجر
82
من قصورهم، وضرب عليه قبة، ونحر له وكساه، وسقاه الخمر، فلما أخذت برأسه أنشأ يمدحه بأبيات قال فيها:
جزى الله الأغر يزيد خيرا
ولقاه المسرة والجمالا! (5-6) موته
عاش عمرو بن كلثوم حتى بلغ من الكبر عتيا،
83
وشبعت نفسه من الغزوات والانتصارات، وذاق من الدهر حلوه ومره، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وأوصاهم:
يا بني، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت. وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقا فحقا وإن كان باطلا فباطلا، ومن سب سب، فكفوا عن الشتم، فإنه أسلم لكم، وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم. وامنعوا من ضيم الغريب، فرب رجل خير من ألف، ورد خير من خلف.
84
وإذا حدثتم فعوا؛
85
وإذا حدثتم فأوجزوا، فإنه مع الإكثار يكون الإهذار،
86
وأشجع القوم العطوف
87
بعد الكر، كما أن أكرم المنايا القتل. ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب، ولا فيمن إذا عوتب لم يعتب.
88
ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره، فبكوءه خير من دره،
89
وعقوقه خير من بره، ولا تتزوجوا في حيكم، فإنه يؤدي إلى قبيح البغض. ا.ه.
غير أننا لا نقطع بصحة هذه الوصية، وإن تكن قليلة التكلف اللفظي، خالية من الإغراب الذي نجده في أكثر النثر المنسوب إلى عرب الجاهلية، وهو ليس من صنعهم بل من صنع شيوخ العلم في الإسلام، وفي الوصية سهولة ولين يوافقان أسلوب عمرو بن كلثوم في شعره.
وهناك رواية ذكرها ابن قتيبة في الشعر والشعراء وهي أن عمرا، عندما أسر في بني حنيفة، ظل يشرب الخمر صرفا لشدة غيظه حتى مات. فهو أحد الأشراف الذين قتلتهم الخمر.
وعمرو مذكور في طبقات المعمرين، وأكثر الرواة يزعمون أنه مات وله من العمر خمسون سنة ومائة. (5-7) آثاره
لم يصل إلينا من شعر عمرو بن كلثوم شيء يستحق الذكر غير المعلقة، وأما ما بقي فأبيات ومقطعات قليلة، منها في الافتخار بنفسه وقومه، ومنها في مدح يزيد بن عمرو، ومنها في هجاء عمرو بن هند والنعمان أبي قابوس. وقد أوردنا بعضها في هذا البحث.
أما معلقته فهي الخامسة بين المطولات، قيل: إنه وقف بها خطيبا في سوق عكاظ وفي موسم مكة، ويستدل من بعض أبياتها أنها على قسمين نظما في زمانين متباعدين يوم التقاضي، والآخر بعد مقتل عمرو بن هند، في حين أن الأصمعي يزعم أنها قيلت يوم التحكيم دفعة واحدة. فإذا عرضنا بالنقد للقسم الذي قد يظن أنه نظم بعد مقتل الملك، لا نجد فيه إلا بيتا واحدا يمكن أن يستأنس به كدليل أو شبه دليل، وهو:
تهددنا وتوعدنا رويدا!
متى كنا لأمك مقتوينا!
فقوله: «متى كنا لأمك مقتوينا؟» أي خادمين، لا يصعب علينا أن نجد له تفسيرا في قصة ليلى وهند، فنطمئن إلى القول بأن المعلقة نظمت في مرحلتين. غير أن البيت الذي يتقدمه يدل على أن الشاعر يؤنب عمرو بن هند؛ لأنه ولى على بني تغلب أميرا من قبله يحكم فيهم، والبدوي لا يرضى بسيادة الغريب إلا مكرها، فإذا سنحت له الفرصة وثب عليه فقتله وتخلص منه. فالشاعر يقول:
بأي مشيئة عمرو بن هند
نكون لقيلكم فيها قطينا؟
90
فبنو تغلب - كما يتبين - ساخطون على عمرو بن هند لأمر لا علاقة له بحادثة الطرف. فقوله إذا في البيت التالي: «متى كنا لأمك مقتوينا؟» يقتضي أن لا يعني بحد ذاته حادثة خاصة، وإنما مفاده أن بني تغلب ليسوا بخدم للملوك أو لأمهاتهم ليستبد هؤلاء بهم، ويولوا عليهم من يشاءون. ولا نجد في بقية الأبيات التي تتناول عمرو بن هند إلا تبجح ابن كلثوم واعتداده بصلابة عوده وتمرده على كل من يريد أن يتحكم به أو بقومه:
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
على الأعداء قبلك أن تلينا
وليس في ذلك ما ينافي قوله السابق: «نكون لقيلكم فيها قطينا.» بل هو - بالأحرى - تأكيد له وتبليغ، ويصح أن تكون هذه الأبيات قد قيلت يوم التقاضي، وأغضبت عمرو بن هند فحكم للبكريين، كما قيلت الأبيات التي قبلها وفيها ما يشبهها مثل قوله:
وأيام لنا غر طوال
عصينا الملك فيها أن ندينا
وإذا تتبعنا المعلقة إلى آخرها بعد الأبيات التي يأتي فيها ذكر عمرو بن هند نرى أنها متصلة كل الاتصال بيوم التقاضي ، فيها مفاخرة بالقبيلة ومنافسة للبكريين، كما تقتضي شروط المنافرة والتحكيم في العصر الجاهلي، مما يؤيد أن المعلقة قيلت دفعة واحدة كما ذكر الأصمعي. (5-8) ميزته
عمرو بن كلثوم صورة طبق الأصل عن جده المهلهل، فهو فخور مثله، متكثر مثله، كذوب مثله، وفي شعره سهولة وتكرار وهلهلة كما في شعر جده. ولا عجب أن يتشبه الولد بأبيه وجده أو عمه وخاله، وإنما العجب أن يشذ عنهم فلا يتأثر بهم في شيء كما هو شأن امرئ القيس، وقد زعموا أنه ابن أخت المهلهل.
يبتدئ عمرو معلقته بوصف الخمرة وتأثيرها في شاربها، ثم ينتقل إلى الغزل، فيستوقف صاحبته ليحدثها عن الحرب شأن الشعراء الفرسان، ولكنه يجتزئ ببيت واحد وينتقل إلى وصف ذراعيها، وصدرها، وقامتها، ويرى بعضهم أن مطلع القصيدة يبتدئ بهذا القسم، والمشهور خلاف ذلك. فإذا بلغ إلى مخاطبة عمرو بن هند، أخذ في الافتخار والتهديد، وهنا تظهر الصلة واضحة بين شعره وشعر جده المهلهل، فأخرجه على طريقته فخرا وحماسة، مندفع العاطفة حتى الغلو المتطرف، قليلا فيه عمل الخيال التصويري، وأقل منه عمل التفكير. ليس إلا شعورا يتدفق، وحمية تشتعل، ونفسا تثور فتتخطى الحواجز والحدود، مرتدية من الألفاظ ثوبا نسجته على هواها، لم تمتد إليه يد صناع فتشد سداه ولحمته، وتحكم وشيه وتخطيطه. فخرج على سجيته من حسن ورديء، عصبي المزاج في تركيبه، تدافعت حروفه تدافع الأمواج الجائشة، فيها صخب ولين، وعود وتكرار، وتفكك واتصال. أكثره في الفخر، وأقله في المدح والهجاء. افتخر ممتلئ النفس حماسة، وهجا ثاثرا منتقما، ومدح شاكرا لا متكسبا. وليس من غرضنا أن نبحث في مدحه وهجائه، وهما لا خطر لهما في شعره. وإنما غرضنا أن نظهر تلك الشخصية البدوية في كبرها واعتدادها، في تهورها وغليان مشاعرها. فالفخر عند ابن كلثوم يخرج صورة جلية تبرز نفسية سيد عريق يستأثر بالفضائل الجاهلية، ويتكلم بأنا ونحن، أنانيا بصيغة المفرد، أميرا بصيغة الجمع، مناقبه غنية في ذاته، ومناقب قومه مردودة إليه. يبذل المال ولا يبالي. فإذا لامته العاذلة وحذرته من العوز، أراها مهره يكر على الأحياء يغزو ويغنم:
يخلف المال فلا تستيئسي
كري المهر على الحي الحلال
91
والعاذلة في الشعر العربي شخص رمزي يقرع أبواب الفخر والمدح والغزل، يلوم المفتخر والممدوح والعاشق على الإتلاف والتبذير وإلقاء النفس في المخاطر، وعلى التمادي في الصبا والغواية، فيرده الأول والثاني، ويرده الثالث لا يقبلون منه نصحا، وفي ذلك منتهى الكرم والشجاعة والهيام. وقد رد عمرو بن كلثوم عاذلته:
لا تلوميني فإني متلف
كل ما تحوي يميني وشمالي
وحقيق بمثله أن يردها، فعنوان الكرم عندهم عذل ورد. ونفسه الجبارة يطيب لها أن تتحدث بأنا عن كرمها وبأسها، كما تتحدث بنحن عن مفاخر قومها، وفي هذا وذاك لا تتحرج أن تغالي وتفرط في المغالاة حتى الكذب:
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وظهر البحر نملؤه سفينا
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
فقد ملأ شاعرنا البر والبحر بجيوشه وسفنه، وجعل الدنيا ومن عليها ملكا له ولبني تغلب، وترك الجبابرة تسجد لفطيمهم. فأما وقد رأيت ذلك فلا تحمل نفسك على معرفة ما كان له من قوى برية وبحرية. بل حسبك أن تعلم أنه سبط المهلهل، وأن جده، لولا عصف الرياح، لأسمع صليل سيوف قومه على مسافة عشرة أيام. وغير عجيب أن يخسر التغلبيون قضيتهم عند عمرو بن هند، بعدما أوسعه ابن كلثوم تهديدا ووعيدا ومكاثرة وفخرا. (5-9) منزلته
تبين مما تقدم أن عمرو بن كلثوم ورث عن جده المهلهل أكثر ميزاته، فله رقته ولينه، وله تكراره وتكثره، وله غلوه وكذبه، وله تبجحه ووعيده. وفي شعره فوائد تاريخية نراها في المعلقة وغير المعلقة، فهو يخبرنا - في هجوه النعمان - أن أم النعمان كانت ابنة صائغ، وأن أخاها صائغ ينفخ الكير في يثرب. ويذكر لنا في مطولته كيف كانت النساء تتبع الرجال في الحروب، وتقوت جيادهم، وتحثهم على الصبر في القتال، ويطلعنا على شيء من صناعات العرب وملاهي أولادهم.
ولمعلقته ميزات بوأته منزلة سامية في الشعر. فهي في سهولتها وانسجامها، وفي رنتها الموسيقية المطربة أصدق مثال للشعر الغنائي، مع ما فيها من عناصر ملحمية في ذكر الحروب وتمجيد قومه وتصوير الحياة البدوية. وهي على غلوها ومكاثرتها، معجبة محبوبة لبعدها من التكلف. فإذا غالت وكاثرت، فإنما هي تتكلم بعاطفتها لا بعقلها. فالفخر عند ابن كلثوم عاطفي محض لا سلطة للعقل عليه.
وقد بلغت معلقته - على منزلتها الأدبية - منزلة قومية، لم تبلغها قصيدة سواها. فإن بني تغلب كانوا يعظمونها جدا، ويرويها صغارهم وكبارهم، حتى هجاهم بذلك بعض بني بكر أعدائهم فقال:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يروونها أبدا مذ كان أولهم
يا للرجال لشعر غير مسئوم!
92
وقال المفضل الضبي: «لله در عمرو بن كلثوم لو أنه رغب في ما رغب فيه أصحابه من كثرة الشعر، ولكن واحدته أجود من مئتهم.» وروى أبو زيد القرشي في جمهرته عن عيسى بن عمر قوله: «لو وضعت أشعار العرب في كفة، وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة، لمالت بأكثرها.» (6) عنترة (مات في العقد الأول من القرن السابع) (6-1) حياته
هو عنترة
93
بن شداد بن عمرو، وقيل ابن عمرو بن شداد بن معاوية بن قراد العبسي، من أهل نجد، ينتهي نسبه إلى مضر، ويكنى بأبي المغلس
94
لغاراته في الغلس، ويلقب بعنترة الفوارس لشجاعته، وعنترة الفلحاء
95
لانشقاق شفته السفلى، وهو أحد أغربة
96
العرب المشهورين في الجاهلية، سموا بذلك لسوادهم، وهم ثلاثة: عنترة، وخفاف بن ندبة السلمي، وندبة أمه، والسليك بن السلكة،
97
والسلكة أمه.
وأم عنترة حبشية سوداء، يقال لها زبيبة، سباها أبوه في إحدى غزواته فأولدها عنترة، وكان لها أولاد عبيد من غير شداد، فلم يعترف به أبوه في أول الأمر، بل أنكره جريا على عادة العرب؛ لأنهم كانوا يستعبدون أولاد الإماء، ولا يعترفون بهم إلا إذا ظهرت عليهم النجابة. (6-2) أخلاقه وشجاعته
وكان أشد أهل زمانه، وأجرأهم فؤادا، وأسخاهم يدا. وهو على شجاعته وشدة بطشه، حليم، لين الطباع، سمح المخالقة
98
إذا لم يظلم. وفي ذلك يقول:
أثني علي بما علمت فإنني
سمح مخالقتي إذا لم أظلم
ولما أنشد النبي قوله:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل
99
قال: «ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه، إلا عنترة.»
وروي عن عمرو بن معد يكرب، وكان معاصرا له، أنه قال: «لو سرت بظعينة
100
وحدي على مياه معد كلها، ما خفت أن أغلب عليها، ما لم يلقني حراها أو عبداها. فأما الحران فعامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأما العبدان فأسود بني عبس (يعني عنترة) والسليك بن السلكة؛ وكلهم لاقيت. فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت، وأما عتيبة فأول الخيل إذا أغارت، وآخرها إذا آبت،
101
وأما عنترة فقليل الكبوة، شديد الجلب،
102
وأما السليك فبعيد الغارة كالليث الضاري.»
وحدث عمر بن شبة قال: قال عمر بن الخطاب للحطيئة: «كيف كنتم في حربكم؟» قال: «كنا ألف فارس حازم.» قال: «وكيف ذلك؟» قال: «كان قيس بن زهير فينا وكان حازما، فكنا لا نعصيه، وكان فارسنا عنترة، فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم، وكان فينا الربيع بن زياد، وكان ذا رأي، فكنا نستشيره ولا نخالفه. وكان فينا عروة بن الورد، فكنا نأتم بشعره، فكنا كما وصفت لك.» فقال عمر: «صدقت.»
وقال الهيثم بن عدي: قيل لعنترة: «أنت أشجع العرب وأشدها؟» قال: «لا.» قيل: «فبماذا شاع لك هذا في الناس؟» قال: «كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما، ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا. وكنت أعتمد الضعيف الجبان، فأضربه الضربة الهائلة، يطير لها قلب الشجاع، فأثني عليه فأقتله.» (6-3) وقائعه
لعنترة كثير من الوقائع المشهورة، ولكن أضيف إليه ما ليس له حتى اشتبه الصحيح بالموضوع. وقد حضر حرب داحس والغبراء فأحسن فيها البلاء وحمدت مشاهده، وفيها قتل ضمضما المري أبا حصين وهرم، ولذلك قال:
ولقد خشيت بأن أموت ولم تدر
للحرب دائرة على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
والناذرين إذا لم القهما دمي
103
إن يفعلا فلقد تركت أباهما
جزر السباع وكل نسر قشعم
104 (6-4) حبه لعبلة
وأحب عبلة ابنة عمه مالك بن قراد، فهاجت شاعريته واتسع خياله، فنظم القصائد الطوال. وازداد طموحا إلى المعالي، فجد في طلبها، ليمحو ببيض فعاله سواد لونه. وأنى له أن يطمع فيها وهو عبد لم يعترف به أبوه، وأنكره أبناء عمه، فغامر لأجلها ولاقى أشد الأهوال حتى ألحقه أبوه بنسبه، ولكنه لم يظفر بها كما يستدل من شعره. (6-5) موته
اختلف بموته، فقال ابن حبيب وابن الكلبي: «أغار عنترة على بني نبهان من طيئ، فأطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير، فجعل يرتجز، وهو يطردها، ويقول:
حظ بني نبهان منها الأخبث
كأنما آثارها بالحثحث
آثار ظلمان بقاع محدث
105
وكان وزر بن جابر النبهاني في فتوة، فرماه وقال: «خذها وأنا ابن سلمى!» فقطع مطاه
106
فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فقال وهو مجروح:
وإن ابن سلمى عنده فاعلموا دمي
وهيهات! لا يرجى ابن سلمى ولا دمي •••
إذا ما تمشى بين أجبال طيئ
مكان الثريا ليس بالمتهضم
107
رماني ولم يدهش بأزرق لهذم
عشية حلوا بين نعف ومخرم
108
وقال ابن الكلبي: «وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص.»
109
وذكر أبو عمرو الشيباني: «أنه غزا طيئا مع قومه، فانهزمت عبس، فخر عنترة عن فرسه، ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب، فدخل دغلا
110
وأبصره ربيئة
111
طيئ فنزل إليه، وهاب أن يأخذه أسيرا، فرماه وقتله.»
وقال أبو عبيدة: «إنه كان قد أسن واحتاج، وعجز بكبر سنه عن الغارات. وكان له على رجل من غطفان بعير، فخرج يتقاضاه إياه، فهاجت عليه ريح من صيف وهو بين شرج وناظرة
112
فأصابته وقتلته.» على أن الرواية الأولى أشهر الثلاث، ومات عنترة بعد أن بلغ التسعين. (6-6) آثاره
ديوان شعر مشهور، أصابه كثير من النحل لطول ما تداوله الرواة والقصاصون. وأكثره في الفخر والحماسة، وذكر الوقائع، والغزل العفيف بابنة عمه عبلة، وقليل منه في المدح والرثاء. وأشهر شعره المعلقة، وهي السادسة بين السبع الطوال. وكان السبب في نظمها ما روي من أنه جلس يوما في مجلس، بعدما كان قد أبلى، وحسنت وقائعه، واعترف به أبوه وأعتقه، فسابه رجل من بني عبس، وذكر سواده وسواد أمه وإخوته، وأنه لا يقول الشعر، فسبه عنترة وفخر عليه وقال:
والله إن الناس ليترافدون
113
للطعمة
114
فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك مرافد
115
الناس قط، وإن الناس ليدعون في الغارات، فيعرفون بتسويمهم،
116
فما رأيتك في خيل مغيرة، في أوائل الناس قط، وإن اللبس
117
ليكون بيننا، فما حضرت أنت ولا أبوك ولا جدك خطة الفصل.
118
وإنما أنت فقع بقرقر،
119
وإني لأحتضر البأس،
120
وأوفي المغنم، وأعف عند المسألة، وأجود بما ملكت يدي، وأفصل الخطة الصماء،
121
وأما الشعر فستعلم.
ثم أنشأ معلقته، وكان لا يقول قبل ذلك إلا البيتين أو الثلاثة، فتغزل في أولها، ثم وصف ناقته، ثم تخلص إلى الفخر بشدة بأسه وذكر وقائعه. وكانت العرب تسميها الذهبية.
على أننا لا نطمئن إلى زعم الرواة أن المعلقة أول قصيدة أنشأها عنترة، وأنه لم يكن ينظم قبلها إلا البيتين أو الثلاثة. فلعنترة قصائد كثيرة تقدمت المعلقة، والرواة أنفسهم يعترفون بها ويروونها له. وليس من المعقول أن تبقى قريحته خامدة عن نظم الشعر أعواما طوالا لا يؤثر فيها حب عبلة، ولا الوقائع التي شهدها، خصوصا حرب داحس والغبراء، وقد حضرها وأبلى فيها البلاء الحسن، وذكرها في معلقته. ومن المعلوم أن هذه الحرب انتهت في أوائل القرن السابع، أي قبل وفاة الشاعر ببضع سنوات. فسواء نظمت المعلقة بعد الحرب، أو في أثنائها، فإن عنترة كان متقدما في السن لما أنشأها. فكيف ينبغي لنا أن نسلم بما زعم الرواة، وهم يذكرون للشاعر قصائد قيلت قبل هذه الحرب، وقبل أن يعترف به أبوه، ويوم كان يضربه بالعصا ضربا مبرحا حتى شفعت به سمية
122
بعد أن شكته إليه، فقال فيها شعرا جميلا لا يصح أن يكون من أوائل نظمه. فكيف يصح أن تكون المعلقة أولى قصائده، وهي نادرة، كما وصفها ابن سلام في طبقات الشعراء، ولم ينظمها الشاعر إلا بعد أن كبر وعشق ولقي الأهوال، فأخلق بقريحته أن تتفتق للشعر في عنفوان الشباب، بعوامل الحب والحماسة، والجد في طلب المعالي، لا أن يكون بدء ولادتها في خريف العمر أو في شتائه.
هذا، ولعنترة قصة شهيرة سنأتي على ذكرها في العصر الذي جمعت فيه، وهو العصر العباسي الثالث. (6-7) ميزته
عرفنا عنترة عبدا أسود، أحب ابنة عمه فلم يستطع الوصول إليها، وهو غير حر ينكره أبوه. وعرفناه فارسا مغوارا، جريء الفؤاد، طماحا إلى المعالي، وعرفناه كريما جوادا، وحليما سهل المخالقة، وعفيفا شريف النفس أبيها لا يغمض على قذى،
123
فلا غرو أن تظهر جميع هذه الصفات في شعره، ويكون لها أثر كبير فيه، ولا سيما أثر ذلك النضال العنيف الذي اشترك فيه، من ناحية: حبه وجده في طلب المعالي، ومن ناحية أخرى: عبوديته وسواد لونه، فترك في شعره مرارة وألما هما صورة لما في نفسه من ألم العبودية والحب ومرارة التعبير. وترك فيه أيضا تلك الحماسة التي تتمثل بها شجاعته ونفسه الطموح. (6-8) بين العبودية والفروسية
نشأ عنترة أسود اللون، أبوه شداد من سادات بني عبس، وأمه زبيبة أمة حبشية، فلم يعترف شداد به جريا على عادة العرب. فجعل عنترة في طبقة الرعيان يحلب ويصر. ولكن نفس هذا الفارس الشجاع لا تحتمل العبودية وفيها من الشمم والإباء والجرأة شيء كثير. فكانت تتألم أشد الألم لما تلقى من الاحتقار والازدراء. فتحاول جهدها أن تخرج من طبقة الرعيان في إظهار شجاعتها ولديها سلاحان ماضيان: الشجاعة والشعر، وكلاهما كفيل بأن يجعل لصاحبه مكانة عالية في القبيلة. فالفارس يدافع عنها بسيفه، والشاعر يدافع عنها بلسانه. فلماذا لا يتحرر عنترة وتدعيه بنو عبس وهي تحتاج إليه حاجة مزدوجة؟ وقد قال صاحبنا الشعر في صباه، وشهد المعارك وهو لا يزال يحلب ويصر، ولكن أباه كان حريصا على التقاليد البدوية فأبى استلحاقه وتحريره، ولم يكن يحجم عن ضربه مع ما رأى من فصاحته وإقدامه، كما ضربه عندما حرشته عليه زوجه سمية ولم يكن قد تحرر بعد.
وما كان عنترة يجهل قدر نفسه فينام على الضيم والخمول. فقد كان يعلم حق العلم أن قومه سيحتاجون إليه إذا أغاروا أو أغير عليهم. فأخذ يلح على أبيه طالبا إليه أن يعترف به، وأبوه يعرض عنه مخافة التعيير، وهو صابر ينتظر يوما عصيبا تنكب فيه بنو عبس فيلتجئون إليه، فيغتنم الفرصة لتحقيق أمانيه، وليس هذا اليوم بعيد الوقوع، وغزوات العرب متواصلة طمعا في الغنائم. أو طلبا للماء والكلأ. فما طال به الأمر حتى سنحت له الفرصة التي يتوقعها.
وقد اختلف الرواة في ذكر خبرها، فقال ابن الكلبي: «وكان سبب ادعاء أبيه إياه، أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس، فأصابوا منهم واستاقوا إبلا، فتبعهم العبسيون. فلحقوهم. فقاتلوا عما معهم، وعنترة يومئذ فيهم. فقال له أبوه: كر يا عنترة! فقال عنترة: العبد لا يحسن الكر، إنما يحسن الحلاب والصر. فقال: كر وأنت حر. فكر وقاتل يومئذ قتالا حسنا، فادعاه أبوه بعد ذلك وألحقه بنسبه.»
وحكى غير ابن الكلبي أن السبب في هذا أن عبسا أغاروا على طيئ فأصابوا نعما، فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة: لا نقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا لأنك عبد. فلما طال بينهم الخطب، كرت عليهم طيئ، فاعتزلهم عنترة وقال: دونكم القوم فإنكم عددهم، واستنقذت طيئ الإبل. فقال له أبوه: كر يا عنترة! فقال: أويحسن العبد الكر؟ فقال له أبوه: العبد غيرك. فاعترف به، فكر واستنقذ النعم.
ويذكر السيوطي رواية هي أقرب إلى روح القصة منها إلى التاريخ، وإن وافقت في جوهرها الروايتين المتقدمين، وهو أن عنترة خلع نير العبودية بحد سيفه واحتياج بني عبس إليه.
ولم يقف عنترة عند هذا الحد بل أراد أن يحرر إخوته لأمه وهم عبيد مثله، وقيل إنه حررهم أو حرر منهم أخاه حنبلا، ولكن لونه الأسود بقي شاهدا على عبوديته واعتلال نسبه، وبقيت أمه زبيبة أمة لا حرة، أم ولد لا أم بنين، سوداء لا بيضاء، حبشية لا عربية، حجة للناس على أنه هجين أخواله الزنوج. فمن أين له أن يمحو سواد لونه، أو أن يجعل أمه من ربات الحجال، ولونه لا ينصل وأمه لا تتحرر، والعرب لا يتسامحون في النسب وكرم الأمومة والخئولة. فقد جعلوا له ألقابا تذكره أبدا بسواده وأمه، فهو الغراب وأسود بني عبس، وابن السوداء وابن زبيبة، فما عليه إلا أن يقبل هذه الألقاب، ويدافع عن لونه وأمه ليخرس ألسنة المعيرين. فكان له كفاح بسيفه، وكفاح بلسانه، فجاء شعره صورة ناطقة بهما، مثال ذلك قوله:
وأنا المجرب في المواقف كلها
من آل عبس منصبي وفعالي
منهم أبي حقا فهم لي والد
والأم من حام فهم أخوالي
فهو مفاخر بأصله من جهة أبيه، معترف بأصله من جهة أمه، وإن يكن لا يجد فيه فخرا، ولكنه يحميه بحد سيفه من المعيرين:
إني امرؤ من خير عبس منصبا
شطري وأحمي سائري بالمنصل
وقد اضطر عنترة مرارا أن يدافع عن شطره الحبشي بسلاحه دفاعه عنه بشعره ليرد تحامل المعيرين، ولا سيما أبناء قومه الذين يأبون الاعتراف بتقدمه عليهم لأنه ابن السوداء. وروي أنه وقف مرة ينشد قوله:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم
عنها ولكني تضايق مقدمي
فمد له عمارة بن زياد العبسي سنان رمحه وقال: نحن نتقي بك الأسنة يابن السوداء؟! وكان عنترة أعزل لا سلاح عليه، فقال له: اغفرها! ثم ذهب ولبس درعه وتقلد سيفه وركب فرسه، وأقبل حتى وقف أمام عمارة وأنشد البيت: «إذ يتقون بي الأسنة ...» فتغافل عنه عمارة حين رآه في سلاحه، فهجاه عنترة وعيره وافتخر عليه.
وقد ينقذ بني عبس ببسالته من بأس العدو المغير، فيأبى سادتها إلا أن يذكروا عمله المجيد مقرونا بسواده وأصله تحقيرا له وتعصبا منهم للنسب العربي الصحيح. قال أبو عمرو الشيباني: غزت بنو عبس بني تميم يقودهم قيس بن زهير، فانهزمت بنو عبس وانهزم قيس معهم، وطلبتهم بنو تميم، فوقف عنترة وحده يحمي المنهزمين من أبناء قومه، فلم يصب واحد منهم، وكان قيس سيدهم، فساءه ما صنع عنترة يومئذ، ورأى فيه ما يمس زعامته في القبيلة، فقال حين رجع: والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء! فنظم عنترة قصيدة يفتخر فيها بأصله العبسي مدافعا عن أصله الحبشي بسيفه، قائلا: إنه يفضل الجوع على أن يأكل طعامه بذل، ويعرض هنا بقيس؛ لأنه كان أكولا وانهزم من المعركة ذليلا:
ولقد أبيت على الطوى وأظله
حتى أنال به كريم المأكل
ثم يتابع التعريض فيقول: إذا تأخرت الكتيبة ونظر بعضها إلى بعض خوفا من الهلاك كنت أفضل من سيد كريم الأعمام والأخوال؛ لأنني لا أسبق فوارسي إلى الهرب في المأزق الضيق:
وإذا الكتيبة أحجمت وتلاحظت
ألفيت خيرا من معم مخول
إذ لا أبادر في المضيق فوارسي
أو لا أوكل بالرعيل الأول
ولكن قيس بن زهير قد اعترف بفضل عنترة على الرغم منه، وإن سماه ابن السوداء تحقيرا له. فعنترة وحده حمى بني عبس ورد عنها كوكبة اللاحقين، فحق له أن يفتخر ويعرض بالذي عيره أمه وسواده، وإن كان معيره قيس بن زهير سيد بني عبس. فلطالما رأى قومه يحتمون به في الحرب ويقدمونه عليهم في مواقف الأخطار، فتشتفي نفسه المتألمة من تعييرهم:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم!
ولكنه لا يلبث أن يسمع التعيير بعد زوال الخطر، فتعود إلى نفسه آلامها، فيثور ساخطا عليهم منددا بهم؛ لأنهم يعرفونه في الحرب، وينكرونه في السلم، فهو مضطرب أبدا بين العبودية والفروسية، هو ابن شداد في المعارك، وابن زبيبة - ابن السوداء - في الأمن والدعة. (6-9) بين الحب والحرب
لم يكن عنترة ناعما في حبه فتظهر آثار هذه النعمة على شعره، بل كان شقيا تاعسا يطمع في عبلة، فيصده والدها ويحاول استرضاءه فلا يجد إلى ذلك سبيلا، فكان إذا تغزل تألم وشكا، وليس في غزله غير شكوى وآلام.
وقد أفاضت قصته في أخبار حبه لعلبة، وتذمم والدها أن يزفها إليه، ولكن الرواة لم يعيروها جانبا كبيرا من عنايتهم، وإنما جعلوا همهم في التحدث عن وقائعه وعبوديته وتحرره، وإذا ذكروا عبلة أتوا بها عرضا خلال هذه الروايات دون أن يشرحوا مأساته الغرامية التي تفصلها القصة أبلغ تفصيل مع أن شعره الصحيح لا يخلو من الإشارة إليها. فهذه المعلقة - وهي أثبت شعر له - تدلنا على أن والد عبلة كان يتنكر له، ويهرب بابنته إلى ديار الأعداء ليبعدها عنه. فيشكو الشاعر الفارس عداوة قومها له، ومشقة الوصول إليها، أو يبعث جاريته تتجسس له أخبارها، فتعود إليه تقول إنها رأت غفلة من الأعداء تسهل طريق اصطياد الفتاة:
فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي
وتجسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة
والشاة ممكنة لمن هو مرتم
يا شاة ما قنص لمن حلت له
حرمت علي وليتها لم تحرم!
أو يقول:
حلت بأرض الزائرين فأصبحت
عسرا علي طلابك ابنة مخرم
علقتها عرضا وأقتل قومها
زعما لعمر أبيك ليس بمزعم
124
فعبلة في أرض الزائرين - أي الأعداء - وقومها هم الذين ذهبوا بها إليهم، فاضطر عنترة إلى مقاتلة الأعداء ومقاتلة أهلها معهم، فأصبح طلبها عسيرا عليه. كيف يطلبها وهو يقتل قومها؟ إن في ذلك لطمعا منه في غير مطمع: «زعما، لعمر أبيك، ليس بمزعم.» ولماذا أرسل جاريته إلى أرض الأعداء، تتجسس أخبار حبيبته، أليس لكي يأخذهم على غرة، كما تخبرنا القصة أنه أخذ بني كندة وهم في غفلة العرس، فقتل فارسهم مسحلا، واستنقذ عبلة منه قبل أن يتزوجها. ثم تلك الشكوى يرسلها قلبه الجريح: «حرمت علي وليتها لم تحرم.» أفما تنطق كفاية بما لقي عنترة العاشق من اليأس والحرمان؟
على أن اليأس والحرمان لم يرافقا عنترة، طوال حياته، في القصة، فقد رق له قلب عمه مالك فزوجه عبلة، واشتفى قلبه الكليم، أما التاريخ فلا يقطع بخبر الزواج ولا ينفيه. فالسيوطي مثلا، يخبرنا بأن والد عبلة اعترف بابن أخيه ووعده أن يزوجه ابنته إذا أنقذه من الأسر. وقد أنقذ عنترة عمه وأنقذ عبلة معه. فهل بر مالك بوعده فأعطاه ابنته، أو أنه كان مخادعا له حتى إذا انطلق سراحه عاد إلى دفعه ومماطلته، فقضى الفارس الأسود حياته بين وعد ورد ويأس وأمل؟ ثم هل بقيت عبلة عزبة لم تتزوج، إذا كان الحظ لم يسمح لعنترة بقضاء لبانته منها؟ تلك أسئلة ربما لا نعدم أن نجد جوابا عنها في شعره الثابت، وإن كان الرواة يسكتون عنها أو لا يردون ردا صريحا.
وشعر عنترة الذي وصل إلينا وأثبته الرواة، لم يقتصر - في غزله - على عبلة وحدها، بل يتناول أحيانا سمية أو سهية امرأة أبيه، وكان يهواها في صباه وقد ضربه والده من أجلها. ويتناول أيضا امرأة اسمها رقاش، ولا نعلم عن هذه المحبوبة شيئا، فهي نكرة لا تعرف إلا باسمها، ولكن الرواة يخبروننا بأنه كان لعنترة زوجة من بجيلة، فقد تكون هي رقاش، أو رقاش غيرها.
ومهما يكن الأمر فغزل عنترة في عبلة خير شعره من هذا النوع، وإن كان لا يقاس بحماسياته، وإذا كان قد أصاب بغزله شهرة بين العامة، فيعود الفضل في ذلك إلى شعره المصنوع في القصة، فقد حمل عليه غزل كثير ليس له يد فيه البتة. ونحن يهمنا غزله الصحيح، وغزله في عبلة خصوصا، لعلنا نلقى جوابا عن الأسئلة التي مر ذكرها. وأشهر ما وصل إلينا من غزله في عبلة ما جاء في المعلقة، فقد خص عنترة طويلته الحسناء بابنة عمه، ثم بذكر معاركه ومبارزاته. ونستدل منها - كما قلنا - على حرمانه وتظلمه من قوم عبلة؛ لأنهم بعدوا بها ونزلوا في أرض الأعداء، فمنعوها منه: «حرمت علي وليتها لم تحرم!» فعنترة في المعلقة لم يتزوج عبلة، وإنما يشكو فراقها وجور أهلها عليه. فإذا كانت المعلقة نظمت دفعة واحدة في زمن واحد، فيكون الشاعر قد بقي طوال حياته محروما ابنة عمه؛ لأنه ذكر فيها حرب داحس والغبراء، وهذه الحرب انتهت قبل وفاة الشاعر ببضع سنوات. وله قصيدة أخرى يتبين منها أن عبلة تزوجت رجلا غيره، يصفه شاعرنا بأنه بادن كثير اللحم:
فلرب أبلج مثل بعلك بادن
ضخم على ظهر الجواد مهبل
125
غادرته متعفرا أوصاله
والقوم بين مجرح ومقتل
وهذه القصيدة معروفة له يثبتها الرواة ولا يدفعونها. وليس في سائر شعره الصحيح ما يدلنا على أنه حظي بابنة عمه كما تقول القصة، وإنما هو يشبب بها، ويؤثرها على جميع النساء، وإن لم يقصر غزله عليها:
ولئن سألت بذاك عبلة أخبرت
أن لا أريد من النساء سواها
وغزل الشاعر في عبلة - لا مشاحة - أفضل غزل قاله؛ لأنه يمثل حرمانه ولوعته وتظلمه، ويبدو أثر العراك العنيف بين حبه وسواد لونه وضعة نسبه. فعبلة لم ترافق عنترة في شعره الغزلي وحده؛ بل رافقته في فخره وحماسته وذكر حروبه، فإنما هو يفتخر ويغامر من أجلها. وإذا لم يكن لديه من جمال الصورة وكرم المحتد ما يشفع به إليها، أفلا يسعى لإرضائها بوصف شجاعته وجوده وعفته، وذكر وقائعه ومشاهده، حتى إذا ذكر لها في مجلس تستطيع أن ترفع رأسها به؟
فبمثل هذا الشعر يبدع عنترة؛ لأنه يصور نفسيته أبلغ تصوير، ويعطينا طرازا فاخرا من غزل الفرسان، وكيف تجتمع ألفاظ الحب بألفاظ الحرب. فنراه يعرض معاركه على عبلة لتشهد مواقفه في مبارزة الأبطال أو مزاحفة الجيوش. ويصف لها الفارس الذي يبارزه، فإذا هو بطل تتحاماه الأبطال خشية لقائه، وكريم طيب المحتد من أولئك البيض الأحرار الذين يفاخرونه بأصلهم ونسبهم، فيظهر بذلك فضله في التغلب عليه، وهو العبد المغموز النسب.
ويصف معاركه، فإذا هي ملاحم تتشابك فيها الأبطال شاكية هولها بغماغم لا تفهم. وبنو عبس يتقون به رماح الأعداء فما يرتد عنها، وإن ضاقت عليه فسحة الأقدام. والأعداء تلهج باسمه مشرعة رماحها إلى صدر جواده. فإذا هو ركن المعركة وقوامها وحجر رحاها وثفالها. وفي المعلقة وصف ملحمي جميل لهذه المعارك التي يعرضها عنترة أمام عبلة صورا سريعة تبدو فيها بطولته بارزة الخطوط والألوان، ويبدو فيها كفاحه - على قوته - بين الحب والحرب صورة لمأساته الغرامية التي مثلتها القصة على مسرحها، وأغفلها الرواة والمؤرخون. (6-10) منزلته
اتضحت لنا ميزة الشاعر الفارس، بما فيها من ألم ومرارة، وعرفنا طرقه في استرضاء عبلة، وفي فخره وحماسته ووصف وقائعه، والدفاع عن نسبه، والرد على معيريه، ولا ينبغي لنا أن نغفل عن تلك العذوبة التي نتذوقها في شعره فإنه رقيق على غير ضعف، سهل العبارة على غير إسفاف، ولا نعجب لوجود هذه الرقة في شعر عبد أسود خشن العيش، هائل المنظر، بل يجب أن ننظر إلى أخلاقه الحسنة، وتأثير الحب فيها، فإنما شعره صورة لنفسه.
ولعنترة منزلة عالية في الشعر، كما له منزلة عالية في الفروسية، وهو من الشعراء الذين يتنازع الرواة فيهم التقديم والتأخير. فقد روى الأصمعي عن ابن أبي طرفة قوله: «كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا رغب،
126
والنابغة إذا رهب،
127
والأعشى إذا طرب،
128
وعنترة إذا كلب.»
129
ولمعلقته قيمة أدبية، لم يبخسها حقها الأدباء الأقدمون، فإن ابن سلام وصفها بقوله: «قصيدة نادرة.» وقال ابن رشيق: وقول عنترة: «هل غادر الشعراء من متردم؟» يدل أنه يعد نفسه محدثا، قد أدرك الشعر بعد أن فرغ الناس منه، ولم يغادروا له شيئا. وقد أتى في هذه القصيدة بما لم يسبقه إليه متقدم، ولا نازعه إياه متأخر.
ونحن يمكننا أن نختم هذا البحث بقولنا: عنترة في المعامع سيد الفرسان، وعنترة في الحماسة سيد الشعراء ... (7) الحارث بن حلزة (القرن السادس) (7-1) حياته
هو أبو ظليم الحارث بن حلزة
130
بن مكروه بن يشكر البكري من وجوه قومه في العراق ينتهي نسبه إلى ربيعة. وكان حكيما رزينا، حسن المصانعة، يجابه الخطوب بهدوء وروية، وهو الذي دافع عن بني بكر يوم التقاضي في حضرة الملك عمرو بن هند، بعد هلاك التغلبيين في أرض بني شيبان، كما ذكرنا في كلامنا على عمرو بن كلثوم. وقد علمنا أن النعمان بن هرم كان يومئذ خطيب البكريين، وهو رجل أصم أصلع من شيوخ بكر، من بني ثعلبة بن غنم بن يشكر. فلما دخل على عمرو بن هند، تحرش به عمرو بن كلثوم قائلا: «يا أصم، جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل عنهم وهم يفخرون عليك.» قال: «وعلى من أظلت السماء يفخرون، ثم لا ينكر ذلك.» قال عمرو: «والله لو لطمتك لطمة لما أخذوا لك بها.» فقال النعمان: «والله لو فعلت ما أفلت بها أنت ومن فضلك.» فغضب عمرو بن هند من هذا التعريض وكان يفضل بني تغلب على بني بكر. فرمى النعمان بكلمة قارصة فرد عليه بأشد منها، فتلظى الملك غيظا وطرده من حضرته.
فوقف عند ذاك عمرو بن كلثوم وأنشد معلقته، ولكنه لم يحسن اصطياد الفرص، فقد بالغ في فخره حتى جاوز الحد، ولم يرع حرمة الملك فطاوله حاسبا أنه نال المرام من خصومه البكريين بعدما طرد خطيبهم، وإذا بالحارث بن حلزة يصدمه بمعلقته، فيصلح بها ما أفسد النعمان.
وكان ابن حلزة شاعر بكر قد أعد قصيدة لهذا اليوم ورواها جماعة من قومه، فلما قاموا بين يديه لم يرضه إنشادهم، فقال: «إني لا أرى أحدا يقوم بها مقامي، لكن أكره أن أكلم الملك من وراء سبعة ستور وينضح
131
أثري بالماء إذا انصرفت عنه.» وكان الحارث به وضح،
132
فأشفق من أن يفعل به الملك ما يفعل بسائر البرص، وقد جرت له عادة بذلك لكبريائه وعظم سلطانه. وقيل: بل هي عادة العرب في ذاك العصر.
فلما طرد النعمان بن هرم، وأنشد ابن كلثوم قصيدته، خاف الحارث على قومه وقال: «أنا محتمل ذلك.» وقيل للملك إن به وضحا، فأمر بأن تمد بينه وبين الحارث سبعة ستور، فجعلت. وأنشد الشاعر معلقته وهو يرتجف غضبا، وكان متوكئا على عنزة
133
فأثرت في جسده دون أن يشعر لشدة غيظه. وبالغ الرواة في هذه العنزة، حبا للإغراب، فزعم ابن السيد في «أدب الكاتب» أنها ارتزت
134
في جسده، وزعم بعضهم أن العنزة كانت قوسا، فاقتطمت
135
كفه وهو لا يشعر من الغضب.
ونحن نرى أن الرواة لا يقتصرون على الإغراب في قصتهم، بل يغربون أيضا في ألفاظها، إعظاما لها، فهم يستعملون ارتز بدلا من غرز، واقتطم بدلا من اقتطع؛ وفي ذلك ما فيه من التفنن والفكاهة.
وكان لقصيدة الحارث وقع حسن في نفس الملك فأعجب بها، وكانت أمه هند تسمع، فقالت لابنها: «تالله ما رأيت كاليوم قط رجلا يقول مثل هذا القول، يكلم من وراء سبعة ستور.» فقال الملك: «ارفعوا سترا وأدنوا الحارث.» وما زالت هند يزيد إعجابها به والملك يقول: «ارفعوا سترا وأدنوا الحارث.» حتى أزيلت الستور السبعة، وأقعده الملك قريبا منه على مجلسه، ثم أطعمه في جفنته، وأمر أن لا ينضح أثره بالماء. ثم جز نواصي السبعين الذين كانوا رهنا في يده من بكر، ودفعها إليه ، فلم تزل تلك النواصي في بني يشكر يفتخرون بها. وضرب بالحارث المثل في الفخر فقيل: «أفخر من الحارث بن حلزة.» وكان من إعجاب الملك بقصيدته، أن أمره أن لا ينشدها إلا متوضئا.
136
وقد زعم الرواة أن الحارث ارتجلها ارتجالا، كما زعموا أن عمرو بن كلثوم ارتجل طويلته، ومثل هذه المزاعم لا يعول عليها. وحسبك أن تقرأ معلقة ابن حلزة، وترى ما فيها من التنسيق الفكري، وإعمال الروية، والدهاء في التعريض، وسرد الحوادث التاريخية، لتحكم بأنها ليست بنت ساعتها. ومن المعقول أن لا يشهد شاعرا بكر وتغلب يوم التقاضي إلا وهما على أهبة للدفاع والنضال. ولكن ما الحيلة في هؤلاء الرواة، وهم في أكثر أخبارهم يصطنعون المغالاة والإغراب، ولا سيما إذا تناولوا في حديثهم قبيلتين مشهورتين بالعداء كتغلب وبكر، ولا بد لكل قبيلة من رواة ينتسبون إليها، أو يحازبونها، فكيف تريد أن يجعل الراوية التغلبي عمرو بن كلثوم يرتجل معلقته، ولا يجعل الراوية البكري الحارث بن حلزة يجاريه في الارتجال؟! ومما يجدر بنا ذكره أن التنافس الجاهلي بين بكر وتغلب بقي له أثر قوي في الإسلام.
ويزعم الرواة أن الحارث بن حلزة عمر خمسين سنة ومائة كما بلغها عمرو بن كلثوم. ولعل في ذلك شيئا من التنافس أيضا. ولكنهم يجمعون على أن شاعر بكر كان شيخا هرما يوم أنشد معلقته ولم يكن شاعر تغلب يومئذ كذلك. (7-2) آثاره
آثار الحارث كأخباره لم يصل إلينا منها غير القليل، ولولا المعلقة لما كان فيها غناء. وقد عرفنا الأسباب التي حملته على نظم معلقته فنحن ندرسها مستندين إلى هذه الأسباب، وهي السابعة والأخيرة بين القصائد الطوال. (7-3) ميزته - المعلقة
عرفنا أن عمرو بن هند طرد النعمان بن هرم خطيب البكريين، وعرفنا أنه كان يؤثر تغلب على بكر، فكيف استطاع الحارث بن حلزة أن يستميل ملك العراق فيحمله على الحكم لقومه بعد أن كان الفوز مضمونا للتغلبيين؟ وكيف أتيح له أن يرتق ما فتق سفاه
137
النعمان بن هرم؟
لا ريب أن اندفاع عمرو بن كلثوم في الفخر والحماسة والإساءة إلى الملك مهد بعض السبيل لأن يصلح البكريون ما أفسد خطيبهم. ولكن لا بد لمن يضطلع بهذا الخطب أن يكون كالحارث بن حلزة ليس في الشاعرية وحدها بل في الدهاء السياسي وقوة العارضة ورباطة الجأش. فقد وقف الشاعر يدافع عن قومه مثقلا بغضب الملك وباشمئزازه من رؤيته فلم تطر نفسه ولا فت في عضده. وكان له من الدهاء وقوة العارضة ما رد به أقوال شاعر تغلب، واسترضى عمرو بن هند.
ونحن إذا أنكرنا عليه ارتجاله المعلقة برمتها فلا ينبغي أن ننكر ارتجال بعضها، فمثل الحارث في الدفاع عن قومه مثل المحامي البليغ الذي يعد خطابه ليدافع عن موكله، ولكنه لا يستغني ساعة التقاضي عن شيء يبتدهه ليقرع به حجج خصومه. وسنرى في درسنا المعلقة أبياتا تدل على أنها قيلت ارتجالا. (7-4) الغزل ووصف الناقة
يبتدئ الشاعر قصيدته بالتغزل وذكر الفراق. ولكنه صاحب جد وحزم فما يطيل غزله بل ينتقل إلى وصف ناقته التي يستعين بها على الهم، وهو مقتصد في وصف ناقته التي شبهها بالنعامة كاقتصاده في غزله لا يلبث أن يتناول الغاية التي يرمي إليها دون أن يضيع وقته في ما لا يفيد. (7-5) رده وفخره
يستهل الشاعر هذا القسم بذكر دعوى تغلب على بكر واستعدادها للحرب، وهي توطئة فنية لمحام يريد أن يلمس الموضوع ليشرع في الدفاع:
وأتانا من الحوادث والأن
باء خطب نعنى به ونساء
أن إخواننا الأراقم يغلو
ن علينا في قيلهم إحفاء
138
يخلطون البريء منا بذي الذن
ب ولا ينفع الخلي الخلاء!
139
زعموا أن كل من ضرب العي
ر موال لنا وأنا الولاء
140
فانظر إلى هذه النعومة في قوله: «إن إخواننا الأراقم.» وقوله: «زعموا أن كل من ضرب العير.» وقابل بها نزق عمرو بن كلثوم في خطابه البكريين: «إليكم يا بني بكر إليكم!» وقوله: «ألا لا يجهلن أحد علينا!» فترى الفرق بين الشاعرين من حيث الرزانة والدهاء، ومن حيث الخبث إن صح التعبير.
ثم يأخذ في الرد على عمرو بن كلثوم، وتسفيه شكوى التغلبيين، ونرجح أن ردوده على شاعر تغلب ارتجلت ارتجالا.
وبعد أن يذكر شيئا من مفاخر البكريين ينتقل إلى مدح والد عمرو بن هند، وكأن الشاعر بعد أن بسط دعوى التغلبيين وأظهر بطلانها، أراد أن يلقي على عاتقهم تبعة الحرب، إذا كان لا بد من نشوبها، فعاد إلى خطابهم، وشرع يذكرهم ما بينهم وبين بكر من حلف وعهود، ويحذرهم من نقضها. ثم أخذ يعيرهم أياما غلبوا فيها مبينا انكساراتهم ليغض من شأنهم لدى الملك، متخذا أسلوبا ناعما موجعا، فلم يقل لهم ابتداء: أنتم انهزمتم يوم كذا أو يوم كذا، بل زعم أنهم يطالبون بكرا بذنوب غيرها من القبائل، فجعل يسمي تلك القبائل التي انتصرت على بني تغلب ويقول لهم: «أعلينا يقع الذنب إذا قهركم بنو كندة، وبنو قضاعة، وبنو العباد إلخ ...»
ثم ذكرهم، وذكر عمرو بن هند، بمقتل والده المنذر، وفتكه بهم، لإحجامهم عن نصرته في طلب الثأر. وكأنه أراد بهذه الذكرى، إيغار صدر الملك عليهم. وكان ذلك آخر سهم مسنون، رشقه من كنانة تهكمه وتعييره.
وبعد أن بلغ أمنيته من أعدائه، ورماهم بقاصمة الظهر، مال إلى عمرو بن هند، يمدحه ويسترضيه، ويذكره متطفا ما لقومه البكريين من الأيادي البيض على المناذرة، وما يجمعهم وإياه من صلة وقربى. فتوصل إلى غرضه بحكمته ودهائه، وحسن تنسيق دفاعه، فخذل خصمه واستمال الملك إليه، ففضل قصيدته على قصيدة عمرو بن كلثوم، وقضى لبني بكر على بني تغلب، ولسنا نعجب لفوز الحارث، فإن قصيدته، وإن تكن دون قصيدة ابن كلثوم روعة وإيقاعا وانسجاما، فهي تفوقها من حيث الفن الخطابي، سواء في ترتيب أفكارها، أو في الأسلوب الحكيم الذي اتخذه الشاعر لتعيير التغلبيين، واسترضاء عمرو بن هند. فعمرو بن كلثوم افتخر وغالى، ولكن بنى أكثر مفاخره على الأوهام والادعاء الفارغ، وأما الحارث فإنه افتخر وأكثر الافتخار، ولكن بنى مفاخره على الحقائق التاريخية، فلم يترك يوما لبني بكر إلا ذكره، ولا يوما على بني تغلب إلا عيرهم إياه. وعدا ذلك، فعمرو بن كلثوم أساء التصرف في إغضاب الملك، والحارث أحسن التصرف في استرضائه.
ولا نرى حاجة إلى تعداد ما في هذه القصيدة من الفوائد التاريخية؛ فإنما هي قصة جامعة لطائفة من أيام العرب وأخبارها، وهذا ما جعلنا ننفي عنها زعم الارتجال. ويجمل بنا أن ننظر إلى ما فيها من إيجاز دقيق، فأكثر أبياتها يحتاج إلى شرح مستفيض، لضيق لفظه عن معناه. والإيجاز خاصة ظاهرة في شعر الحارث، فهو مولع به حتى السرف. وأئمة البيان يستشهدون ببيت له على الايجاز المخل وهو قوله:
والعيش خير في ظلا
ل النوك ممن عاش كدا
141
فلفظه لا يفي بالمعنى؛ لأنه يريد أن يقول: «إن العيش الناعم في ظلال الحمق خير من العيش الشاق في ظلال العقل.» (7-6) منزلته
قال أبو عبيدة: أجود الشعراء قصيدة واحدة طويلة، ثلاثة نفر: عمرو بن كلثوم، والحارث بن حلزة، وطرفة بن العبد. وقال أبو عمرو الشيباني: لو قالها في حول لم يلم.
ولا بدع أن يعجب بها الأدباء الأقدمون، فإنما هي رائعة من روائع الشعر الخطابي، وخير مثال للشعر السياسي في الجاهلية.
هوامش
سائر الشعراء المشهورين
الشعراء المتخصصون
عرفنا من شعراء الجاهلية شاعرين قديمين: أحدهما يمثل الحياة البدوية الخشنة، وهو الشنفرى؛ والآخر يمثل تأثير الترف والحزن في النفس، وهو المهلهل. ثم عرفنا أصحاب المعلقات السبع، ودرسنا ألوان تفكيرهم وتعبيرهم، وبدا لنا شيء غير قليل من أخلاق العرب وعاداتها، وأحوالها الاجتماعية والسياسية، وتأثير العوامل الخارجية في نفوس شعرائها؛ فرأينا فيهم شاعرا أميرا يحسن وصف النساء والجياد والصيد، وشاعرا فتى يلهو ويسخر ويأتي بروائع الحكم، وشاعرا جليلا لا ينطق إلا والحكمة على رأس لسانه، وشاعرا حازما يتأسى ويعظ نفسه في المصائب، وشاعرا فخورا متهورا يرى الدنيا وما عليها ملكا له، وشاعرا فارسا تدفقت الحماسة من صدره، وشاعرا داهية يعرف من أين تؤكل الكتف.
على أن معرفتنا لهؤلاء الشعراء لا تغنينا عن درس طائفة أخرى من شعراء الجاهلية؛ لنتمكن من الإلمام بخصائص الشعر الجاهلي من جميع أطرافه، والوقوف على تطوره السريع في أواخر عصره.
وإذا كانت السبع الطوال خير ما وصل إلينا من الجاهلية، فإن أصحابها لم ينفردوا بجودة الشعر؛ بل هناك فحول من غير أصحاب المعلقات يعد بعضهم في مقدمة الطبقة الأولى: كالنابغة والأعشى، والبعض الآخر يجاريهم جميعا ولا يقصر عنهم، كالحطيئة. وقد أدرك كلهم الإسلام إلا النابغة، واشتهر كلهم بنوع من الشعر اختص به، لذلك أطلقنا عليهم لقب الشعراء المتخصصين. (1) النابغة الذبياني (مات في أوائل القرن السابع) (1-1) حياته ونسبه
كان النابغة من الطبقة الشريفة في قومه كما يخبرنا صاحب الأغاني، واسمه زياد بن معاوية بن ضباب.
1
يرتفع بنسبه إلى غيظ بن مرة، ثم إلى ذبيان، ثم إلى غطفان. وليس من يدفع هذا النسب من الرواة والمؤرخين القدماء سوى ما ورد في الخبر عن أبي ضمرة يزيد بن سنان الحارثي أخي هرم بن سنان ممدوح زهير من رده النابغة إلى بني قضاعة اليمانية عندما لاحاه، وإنكاره نسبه في بني ذبيان القيسية. وكان يزيد متزوجا بنت النابغة فطلقها، وسئل: لم طلقتها؟ فقال: أنا رجل من عذرة، فانتسب إلى اليمن، وانتفى من غطفان. ثم أخذ يجمع أقرباءه من بني خصيلة بن مرة وبني نشبة بن غيظ بن مرة، فتحالفوا على بني يربوع بن غيظ بن مرة رهط النابغة، فسموا المحاش لتحالفهم على النار، وكانوا يحسدون النابغة لعفته وشرفه مع رجوعهم إليه في حوائجهم عند الملوك، وغير مستغرب حسد الأقرباء بعضهم لبعض. فاتفقوا على طرده عن غطفان ونسبوه إلى بني ضنة، وهي عشيرة من عذرة ثم من قضاعة. وقال يزيد في ذلك يعرض به ويعيره:
إني امرؤ من صلب قيس ماجد
لا مدع حسبا ولا مستنكر
فرد عليه النابغة بقوله:
جمع محاشك يا يزيد فإنني
أعددت يربوعا لكم وتميما
2
ولحقت بالنسب الذي عيرتني
وتركت أصلك يا يزيد ذميما
عيرتني نسب الكرام وإنما
فخر المفاخر أن يعد كريما
حدبت علي بطون ضنة كلها
إن ظالما فيهم وإن مظلوما
فاعترف بأنه من ضنة وأنكر على يزيد أن يترك أصله، مشيرا إلى قوله - عندما طلق ابنته - إنه من عذرة. ولكن ابن سلام يرى أن انتسابه إلى بني ضنة كانتساب كعب بن زهير إلى المزنيين عندما دفعه مزرد بن ضرار عن غطفان ورده على مزينة؛ لأن العرب كانت تفعل ذلك، لا يعزى الرجل إلى قبيلة غير التي هو منها إلا قال: أنا من الذين عنيت. وأخبار النابغة وأشعاره تدل على عنايته بشئون بني ذبيان ودفاعه عنهم وانتمائه إليهم. وله قصيدة يعاتبهم بها على استئثارهم وتحالفهم عليه وعلى قومه حتى نفوهم من القبيلة، ويضرب لهم مثل الحية وحليفها فيقول فيها:
ألا أبلغا ذبيان عني رسالة
فقد أصبحت عن منهج الحق جائره
أجدكم لن تزجروا عن ظلامة
سفيها ولن ترعوا لذي الود آصره
فهذا العتاب ينم على تألم الشاعر من أقربائه لجورهم عليه وعلى عشيرته، وليس هذا شأن شاعر ينتسب إلى بني عذرة، ولو كان منها لما ضامه أن يعزى إليها، وهي قبيلة معروفة في قضاعة، وقضاعة من كرام القبائل العربية الجامعة. فنحن نرى رأي ابن سلام في رده على يزيد بن سنان وادعائه ضنة، مع ما نؤنس فيه من عطف عليها وعلى عذرة جمعاء. فقد كانت صلته بها حسنة كما يستدل من شعره وأخباره، ولعلها نشأت بعامل اعتزائه إليها ومدحه لها، فنجده عند النعمان بن الحارث الغساني ينهاه عن غزو بني حن بن حزام، وهم من بني عذرة، ويخبره أنهم في حرة وبلاد شديدة يصعب البلوغ إليها. وكانوا يقطنون في وادي القرى شمالي يثرب، وهو واد كثير النخل والزروع. فأبى النعمان أن يقبل نصيحته، فبعث النابغة إلى قومه يخبرهم بغزو النعمان ويحضهم على نصرة بني حن، ففعلوا ما أشار به عليهم، وهزمت بنو عذرة جيش الغسانيين، فقال النابغة في ذلك:
لقد قلت للنعمان يوم لقيته
يريد بني حن ببرقة صادر
تجنب بني حن فإن لقاءهم
كريه وإن لم تلق إلا بصابر
فإذا كان قد أخلص النصح للنعمان في تحذيره من الغارة عليهم، فإنه كان أشد إخلاصا لهم في حمله قومه على إمدادهم ومساعدتهم حتى كسروا الغساسنة. فحدبه على بني عذرة ظاهر، فلا غرو أن تحدب عليه بطون ضنة كلها كما يقول.
ويخبرنا صاحب الأغاني - في كلامه على ابن ميادة - أن شيخا عالما من غطفان قال: «كان الرماح - أي ابن ميادة - أشعر غطفان في الجاهلية والإسلام، وكان خيرا لقومه من النابغة. لم يمدح غير قريش وقيس، وكان النابغة إنما يهذي باليمن مضللا حتى مات.» ولا يعني هذا - كما فهمه المستشرق ديرنبورغ - أن الشاعر خرف في أواخر حياته وهام في أرض اليمن، وإنما يعني أنه كان يلهج بذكر القحطانية في انتسابه إلى عذرة. ففضل الشيخ الغطفاني ابن ميادة عليه؛ لأن هذا لم يمدح غير قريش وقيس عيلان وكلتاهما من مضر، فكان خيرا لقومه من النابغة كما يزعم. فقد عطف النابغة على بني حن ودعا قومه إلى نصرتهم، وانتمى إلى ضنة وفاخر بها، غير أنه لم يكن يوما لها بمقدار ما كان لبني ذبيان، وإن هذى بها نكاية في يزيد ومحاشه. وما خطر على بال أحد من الرواة أن يدفعه عن غطفان، ولا هو تقاعس مرة عن تأييدها بشعره وجاهه. فلسنا نرى مسوغا للغطفاني في إيثار ابن ميادة عليه سوى عصيبته العدنانية، مع أن الشاعر الإسلامي دون الشاعر الجاهلي منزلة وفضلا وذيادا عن قومه. فالنابغة نشأ في غطفان ولزمهم يدافع عنهم بشعره، ثم اتصل بملوك الشام والعراق ونادمهم في قصورهم، دون أن يغفل عن مهمته القبلية عندهم. ثم عاد إلى قومه ومات بينهم ولم يخرف ولا هام في أرض اليمن كما وهم ديرنبورغ.
وكان يكنى أبا أمامة - كما ذكر ابن سلام وصاحب الأغاني - ويجعل ابن قتيبة كنيته أبا أمامة وأبا تمامة، ولعلها ثمامة كما ضبطها التبريزي في شرح القصائد العشر فقال: «ويكنى أبا ثمامة وأبا أمامة بابنتيه.» وله ابنة ثالثة تسمى عقرب وربما كني بها أيضا. قال البغدادي في خزانة الأدب: «وكنيته أبو أمامة وأبو عقرب بابنتين كانتا له.» وإذا عدنا إلى أخباره وأشعاره نرى أن عقرب ورد ذكرها في غارة النعمان بن الجلاح - قائد الغساسنة - على بني ذبيان، فقد سباها في جملة من سبى من نسائهم، ولما عرف أنها بنت النابغة جهزها وأطلق سراحها، ثم أطلق السبي والأسرى جميعا إكراما لأبيها. وليس لدينا خبر عن أمامة ولا عن ثمامة، وإنما نستدل من قصيدته التي مدح بها عمرو بن الحارث الغساني أنه إنما أراد ابنته أمامة بقوله في مطلعها:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيء الكواكب
3
وتروى له قصيدة أولها:
ودع أمامة والتوديع تعذير
وما وداعك من فضت به العير
4
وهي غير ثابتة له لأنها تروى أيضا لأوس بن حجر. ثم لا ندري هل أراد بأمامة ابنته أو أراد امرأة سواها؛ لأن البيت الذي بعده يحمل على محمل الغزل بخلاف مطلع الغسانية فإنه يشكو فيه إلى ابنته همومه وليله وما يقاسي من السهر، ومهما يكن من أمر فليس لدينا شيء يذكر عن بناته سوى ما أوردناه، وهو وشل قليل لا يروي غليلا، ولكنه يساند كنيته أبا أمامة وأبا عقرب، ونترك الثالثة أبا ثمامة على ذمة ابن قتيبة والتبريزي، بيد أن الأولى أشهر الكنى الثلاث لإجماع الرواة والمؤرخين عليها.
واختلف في السبب الذي من أجله لقب النابغة، فقال صاحب الأغاني:
ذكر أهل الرواية أنه إنما لقب النابغة بقوله: فقد نبغت لنا منهم شئون. ا.ه.
وصدر البيت:
وحلت في بني القين بن جسر
وهو من قصيدة له يمدح بها النعمان أبا قابوس، ويسميه ابن محرق كما يسمى غير واحد من الملوك اللخميين. ومنها البيتان المشهوران اللذان روي أن عمر بن الخطاب فضله بهما على الشعراء حيث يقول:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي
على خوف تظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخنها
كذلك كان نوح لا يخون
ويبدو لنا أنه قالها بعد رجوعه واعتذاره إليه. وأما أن يكون لقب النابغة ببيت من الشعر، فإن الأنباز التي تطلق على أصحابها مأخوذة من أقوالهم ليست غريبة عن مألوف العادات العربية إلى يومنا هذا، وهي كثيرة عند الأقدمين حتى ليصعب الشك فيها، ونقتصر على ذكر ثلاثة شعراء عرفت ألقابهم في أشعارهم، أحدهم جرير بن عبد المسيح، قيل إنه لقب المتلمس لقوله:
فهذا أوان العرض طن ذبابه
زنابيره والأزرق المتلمس
والآخر محصن بن ثعلبة العبدي لقب المثقب بقوله:
ظهرن بكلة وسدلن أخرى
وثقبن الوصاوص للعيون
5
والثالث شأس بن نهار العبدي، سمي الممزق بقوله:
فإن كنت مأكولا
فكن أنت آكلي
وإلا فأدركني
ولما أمزق
على أن الرواة لم يتفقوا على هذا السبب وحده في نبز النابغة، بل أوردوا غيره، وهو أكثر ملاءمة للشاعر النابغ، ومنه قول ابن قتيبة: «ونبغ بالشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يهتر.» وحكى ابن ولاد أنه يقال: «نبغ الماء ونبغ بالشعر، فكأنه أراد أن له مادة من الشعر لا تنقطع كمادة الماء النابغ.» وهذا التفسير لغوي خالص بخلاف ما تقدمه، فقد جاء في الأساس للزمخشري أنه يقال: «نبغ فلان في الشعر إذا لم يكن في إرث الشعر، ثم قال فأجاد؛ ونبغ من فلان شعر شاعر، وهو نابغة من النوابغ؛ ونبغ في العلم وفي كل صناعة.» فغير كثير على شاعر الملوك أن يلقب النابغة ولدينا من جياد قصائده ما يؤيد نبوغه في الشعر، وهو إلى ذلك حكم سوق عكاظ، وكانت تضرب له في الموسم قبة حمراء من أدم، فتأتيه الشعراء، فتعرض عليه أشعارها، فيحكم بينها، ويفضل الواحد على الآخر. وهذا الشرف لم يصبه شاعر قبله ولا بعده، والقبة الحمراء لا تضرب إلا للسادات والأمراء. ولكنه لم ينفرد بهذا اللقب، فقد ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف ثمانية أشخاص يقال لهم النابغة، منهم النابغة الجعدي، وهو أقدم من صاحبنا الذبياني، كما يقول ابن سلام وابن قتيبة، ولا ندري سببا لتلقيبه غير نبوغه في الشعر، وهو غير كاف؛ لأنه يجوز أن يلقب به كل شاعر مجيد كامرئ القيس وزهير والأعشى وسواهم، فلا بد أن يكون هناك أسباب خفيت على الرواة الأقدمين، حتى أطلق هذا اللقب على ثمانية من الأشخاص، ولم يشرحوا غير اللقب الذي عرف به نابغة بني ذبيان، فذكروا أنه لقب ببيت من الشعر قاله، وهذا محتمل الوقوع كما بينا، وكذلك قول بعضهم إنه سمي النابغة لأنه لم يقل الشعر حتى صار رجلا، ويؤيده قول ابن قتيبة إنه نبغ بالشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يهتر. ومهما يكن من أمر هذا اللقب فإن المعنى اللغوي هو الذي يتبادر إلى الذهن قبل غيره، وإن كنا لا نستطيع أن نفسر سبب اختصاصه به دون غيره من الشعراء النوابغ الذين تقدموه أو عاصروه وفيهم أمثال الأعشى والملك الضليل، ولا سبب إطلاقه على من هم دونه ودون أنداده شاعرية كالنابغة الجعدي ونابغة بني شيبان.
ويستوقفنا قول ابن قتيبة إنه نبغ بالشعر بعدما احتنك، وهلك قبل أن يهتر، ومعنى ذلك أنه لم يعرف بالشعر إلا بعدما صار رجلا مجربا، ومات قبل أن يخرف ويذهب عقله من الكبر. وإذا عدنا إلى آثاره التي بلغت إلينا لم نجد له شعرا في مدح ملوك غسان أبعد عهدا من زمن الحارث الأصغر أبي عمرو بن الحارث الذي مدحه بقوله:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب
والحارث ملك بعد أخيه المنذر الذي اعتقله القيصر طيباريوس في أواخر سنة 581 وجيء به إلى القسطنطينية، ثم أبعد إلى صقلية. وكذلك لا نجد له مدحا في المناذرة إلا ما مدح به النعمان أبا قابوس الذي تبوأ عرش الحيرة سنة 580. وأما القصيدة التي رواها الأعلم له في مدح عمرو بن هند، من غير مرويات الأصمعي، فإنها كما يظهر قيلت في بعض ملوك الغساسنة، لا في ملك العراق، لقوله فيها:
فدوخت العراق فكل قصر
يجلل خندق منه وحام
فملك العراق لا يدوخ العراق، وإنما يدوخه غاز غريب. وقد أصاب أبو عبيدة في قوله: «إنه قال هذه القصيدة لعمرو بن الحارث الغساني في غزوه العراق.» ولا يدفع ذلك قوله فيها:
ولكن ما أتاك عن ابن هند
من الحزم المبين والتمام
فإن في ملوك الشام من ينتسب إلى هند، كما ذكر النابغة في نسب الغلام الغساني، ولعل المراد به عمرو بن الحارث:
للحارث الأكبر والحارث ال
أصغر والأعرج خير الأنام
ثم لهند ولهند وقد
ينجح في الروضات ماء الغمام
6
فقد نسبه إلى أبوين: الحارث الأكبر والأصغر، ثم إلى أمين: هند وهند. وروي له شعر يحذر فيه قومه من غزوة ابن هند، أي الملك الغساني، بدليل أنه يذكرهم قوة الغساسنة وانتصارهم على المناذرة يوم حليمة ويوم عين أباغ:
يوما حليمة كانا من قديمهم
وعين باغ فكان الأمر ما ائتمرا
يا قوم إن ابن هند غير تارككم
فلا تكونوا لأدنى وقعة جزرا
7
ونحن نعلم أن عمرو بن الحارث الغساني وأخاه النعمان أوقعا ببني ذبيان غير مرة لميلهم إلى المناذرة واعتدائهم على مراعي الغساسنة. والأميران ينتسبان إلى أمهما هند، فيصح أن يكون هذا الشعر في أحدهما. ولعل الذي حمل الرواة على أن يجعلوا القصيدة الميمية في ملك العراق هو أنها قيلت في عمرو بن الحارث الغساني، ونسبه الشاعر إلى أمه هند، وهذه النسبة مشهور بها سميه ملك العراق، فاختلط عليهم الأمر، ولكن أبا عبيدة تنبه لها، وأدرك عليهم وهمهم، وجاراه المستشرق نولدكه. ويؤيد ذلك قول ابن سلام: «النابغة ليس له قدم، كان في عهد النعمان.» ونفى ابن قتيبة خرفه بقوله إنه مات قبل أن يهتر، ولعل سكوته عن مدح ملوك العراق والشام قبل النعمان أبي قابوس والحارث الأصغر يفسر قول ابن قتيبة إنه نبغ بالشعر بعدما احتنك.
وعاش النابغة إلى ما بعد مقتل النعمان بن المنذر عند كسرى (602م)، وله شعر فيه عندما بلغه موته. وشهد أواخر حرب داحس والغبراء، بل شهد الصلح أيضا. وله شعر في رحيل بني عبس عن ديارهم بعد يوم جفر الهباءة ومقتل حذيفة بن بدر وأخيه حمل، فقد ندم العبسيون على ما فعلوا بأنسبائهم وكرهوا المقام في أرضهم، فرحلوا متنقلين في البلاد، حتى أتاهم وفود بني عامر فدعوهم إلى أن يرجعوا ويحالفوهم، فأقاموا فيهم، فذكر النابغة ذلك في شعره. وكانت الحرب - بعد هذه الواقعة - قد صارت إلى أشد أيامها، وهي - كما نعلم - وضعت أوزارها في أوائل القرن السابع. فيكون النابغة قد هلك بعد مقتل النعمان بزمن قريب. (1-2) آثاره
ديوان شعر شرحه أبو بكر البطليوسي، وأشهر ما فيه: أقواله في سياسة القبيلة، ومدح الغساسنة، واعتذاره إلى النعمان، ودالية يصف بها المتجردة، وعده المفضل الضبي، وأبو عبيدة، وأبو زيد القرشي، من أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته:
عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار
ماذا تحيون من نؤي وأحجار
8
ونسب إليه نثر مسجع، يمدح به عمرو بن الحارث، ولكننا نشك في صحته كل الشك؛ لأن آيات النحل والتعمل بادية عليه. وإليك شيئا منه:
ألا انعم صباحا أيها الملك المبارك. السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالدي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك، والحكماء جلساؤك، والمداراة سيماؤك، والمقاول
9
إخوانك، والعقل شعارك، والسلم منارك، والحلم دثارك.
10
إلخ ... (1-3) سياسة القبيلة
عرفنا أن النابغة كان محسدا في قومه، وأن جماعة من أقربائه بني مرة تحالفوا عليه وعلى عشيرته ونفوهم من غطفان، فوقعت بينه وبين يزيد بن سنان المري ملاحيات يتمثل فيها ما يحدث من العداوة بين الأقرباء، فتنشق القبيلة وتسوء علاقة بعضها ببعض، فلا يلم شعثها إلا نكبة شاملة تنزل بها كحرب داحس والغبراء، ونتبين من هذه الملاحيات: ألم الشاعر وسخطه على قومه الذين لم يرعوا وده ولا ردوا سفاءهم عنه، مع احتياجهم إليه عند الملوك، حتى اضطروه أن ينتسب إلى الغرباء.
وما كان لبني ذبيان أن تنسى فضل النابغة فتسكت عن سفه يزيد ومحاشه، وشاعرها لم يهمل يوما أمورها، ولا قصر في نصحها والذود عن حياضها، وإن ضمته قصور الحيرة والشام. وإنه وإن لم يبلغ إلينا من شعره مدح لساداتها ورثاء للذين قتلوا في حرب السباق، لقد وصلت إلينا عدة قصائد تطلعنا على عنايته بشئونها السياسية العامة. وأغلب الظن أنه لم يمدح، ولم يرث أحدا منها لسببين: أحدهما: أنه كان من أشرافها فما أباح لنفسه أن يطري أنداده وهو منافس لهم، لا يمدح غير الملوك كما يخبرنا في شعره، والآخر: أنه تلكأ عن رثاء المقتولين، وفيهم أمثال ضمضم المري وحذيفة بن بدر الفزاري وأخيه حمل؛ لخلافه مع بني مرة من أجل يزيد وحلفائه، ثم مع بني فزارة بعد ما جرى بينه وبين بدر بن حذار الفزاري، وبينه وبين حصن بن حذيفة وعيينة بن حصن من هجاء ومجافاة. ولكن نفوره من مدح الأفراد أو رثائهم لم يصرفه عن القيام بمهمته القبلية العامة كلما دعته الحاجة إليها. فنراه يهجو عامر بن الطفيل العامري فارس قومه وشاعرهم لما بين بني ذبيان وبني عامر من عداء وغزوات. وكان النابغة غائبا في بني غسان عندما حدث يوم الرقم، وانتصرت فيه غطفان على العامريين. فلما رجع إلى قومه بلغه أنهم يهجون عامرا وعامر يهجوهم، فلامهم على إفحاشهم في شريف مثله. ثم هجاه هجاء مرا لم يفحش فيه، إلا أن عامرا تضور منه لما فيه من تهكم لاذع، وإقذاع في تفضيل أبيه وعمه عليه، فأصابه في منزلته الاجتماعية، ونفى عنه صفة السيادة، وكان يطمع فيها بعد عمه أبي براء. وهذه الحادثة وقعت بعد حرب داحس والغبراء، وكان قد عقد الصلح؛ لأن يوم الرقم عقبه يوم النتاءة، وكانت عبس وذبيان يقاتلون فيه جنبا إلى جنب، فكسر العامريون مرة أخرى.
ودافع النابغة بشعره عن غطفان جمعاء، فلم يغفل عن بني عبس، وهم أنسباء بني ذبيان، وإن فرقت الحرب بينهم، فقد هجا يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي، بأسلوبه الساخر الموجع، مناصرا الربيع بن زياد العبسي. وكان يزيد قد أصاب من النوق العصافير عند الربيع، وهي عطايا ملك العراق، فهدده الشاعر بالنعمان، واتهمه بخيانته بعدما كان أمينه. ولما تركت بنو عبس ديارها بعد يوم جفر الهباءة، وذهبت متنقلة في البلاد، فدعتها بنو عامر إلى أرضها مكايدة للذبيانيين، تألم الشاعر من رحيلها إلى موطن الأعداء، فمدح شجاعتها وأسف لانقطاع إخائها عن بني ذبيان، فكأنه بشعره يمهد للصلح بين القبيلتين المتحاربتين، مخافة أن يستفيد العامريون من الحلف الجديد فلا تصلح بعده غطفان. فقد كانت بنو عامر تبعث القلق في نفسه لشدة عداوتها، ولما بينها وبين الغطفانيين من حروب متوالية، فعطف على بني عبس وضن بها على الغرباء. ومن يتتبع شعره يلمس عنايته بمقاومة بني عامر، وإفساد سياستها التي ترمي إلى إضعاف بني ذبيان، وإبعاد حلفائها عنها، وتمزيق الغطفانيين جملة؛ فتقوى عليهم وتدرك ثاراتها منهم. فسعت إلى ضم بني عبس وهي قبيلة غطفانية معروفة بالشجاعة والأقدام ، وفيها مشاهير الأبطال أمثال عنترة والربيع بن زياد وعروة بن الورد وسواهم، كما سعت قبلا لدى حصن بن حذيفة وعيينة ابنه بترك حلف بني أسد، فرضي عيينة وهم بقطعه، فتعرض له النابغة مدافعا عن بني أسد، داعيا قومه إلى التمسك بمؤاخاتهم، فطلبت بنو ذبيان من بني عامر أن يخرجوا من فيهم من الحلفاء، فتصدى زرعة بن عمرو العامري للنابغة يهجوه، فرد عليه وهدده بجيش بني أسد، واصفا قوتهم ومنعتهم؛ ليظهر له أن بني ذبيان لا يتخلون عن حلفهم:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها
يهدي إلي غرائب الأشعار
أنسيت يوم عكاظ حين لقيتني
تحت العجاج فما شققت غباري؟
وقصائده في هجاء زرعة تدلنا على مبلغ اهتمامه بسياسة قبيلته، وتوجيه أغراضها، فاستطاع أن يحمل قومه على الاحتفاظ بأحلافهم، فكانوا لهم أعوانا وأنصارا في حرب السباق، إذا ذكرتهم بنو ذبيان حامدة مشاهدهم، فجدير بها أن تذكر شاعرها الذي نافح عنهم؛ حتى لا ينقض العهد بينها وبينهم. وجدير بها أيضا أن تذكر إحسانه ونصائحه في قصور الغساسنة، فقد كان الحارث الأصغر ووالداه عمرو والنعمان يغيرون عليها، يبطشون بها، ويأسرون منها، ويسبون نساءها؛ لجرأتها على مراعيهم وهي قريبة من ديارها، ثم لموالاتها ملوك العراق أعداءهم، فكان النابغة - بما له من الحظوة عندهم - يكلم الملك في أسراها وأسرى حلفائها بني أسد ليطلق سبيلهم، ويحذرهم من دخول المراعي وتربعها، مبينا لها عظمة الغساسنة وشدة بطشهم، وما ينالها من الضيم والأذى إذا أغاروا عليها، ولكنها - لكبريائها وغطرستها واعتدادها بصداقة المناذرة - استهانت بأقواله وعيرته خوفه النعمان الغساني، عندما نهاها عن تربع ذي أقر، وهو واد في بني مرة حماه الأمير لمواشيه وإبله:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته
وهل علي بأن أخشاك من عار؟
وقلنا - في كلامنا على حياته ونسبه - إن ابن الجلاح - قائد الغساسنة - أطلق سبايا بني ذبيان إكراما له، بعدما أناخ بديارهم، وشتت شملهم، فمدحه الشاعر ذاكرا فضله، مع أنه لم يمدح غير الملوك كما يقول له، وكأنه يمن عليه: «وكنت امرأ لا أمدح الدهر سوقة.» فانتفعت بنو ذبيان مرارا من دالة شاعرها على الغسانيين ورفيع مقامه عندهم، وانتفع حلفاؤها معها، بيد أنها لم تتورع من حسده وإنكاره وتعييره، حتى تركت مجالا للقول فيه: «هو أحد الأشراف الذين غض الشعر منهم.» مع أنه أخلص لسياستها كل الإخلاص، وناضل عنها خير نضال، وقام بهمته القبلية أفضل قيام. (1-4) شاعر القصور: بين الشام والعراق
إذا كان النابغة في شعره القبلي يشارك غيره من شعراء الجاهلية الذين نشطوا للدفاع عن قبائلهم وتأييد سياساتها، فإنه في مدح الملوك والتكسب منهم، يستحق دون غيره أن يلقب شاعر القصور؛ لملازمته لها، وحظوته فيها، واختصاصه بها، حتى إنه لم يمدح غير أصحابها. ويدلنا شعره أنه اتصل بالغساسنة قبل المناذرة، وأنه عرف الحارث بن أبي شمر الأصغر قبل أن يعرف النعمان أبا قابوس. ولا نعلم السبب الذي حمله على ترك الشام والذهاب إلى العراق، مع ما بين البلدين من الحروب والضغائن القديمة، وكان المنذر - والد الحارث - قد غزا الحيرة وأحرقها سنة 580م، وهي السنة التي تبوأ فيها أبو قابوس عرشها. وانتقل ملك غسان إلى الحارث في السنة التالية، فاتصل النابغة به، وذكر في شعره ما أولاه من النعم، ثم لا نلبث أن نجده عند النعمان أبي قابوس يمدحه، وينادمه، ويكثر ماله عنده، حتى أصبح يأكل بصحاف من الفضة والذهب، فهل كان يتردد وقتئذ بين الحيرة والجولان، فيمدح هذا الأمير حينا، وذاك الأمير آخر، فيستقبله الأميران ويسمعان شعره فيهما، دون أن تثور عليه ثائرة أو يلحقه سخط منهما؟
هذا ما يصعب الاطمئنان إليه؛ لما نعلم ما بين العرشين من التنافس، إلا إذا كان الشاعر قد هجر الشام إلى العراق لسخطة نجهلها لحقته من الحارث، فأنزله النعمان في قصره، كما أنزله - بعد ذلك - عمرو بن الحارث عندما سخط عليه أبو قابوس. وقد عرفنا أن سياسة المناذرة والغساسنة كانت تقضي بتقريب الشعراء؛ ليمدحوهم، ويشيدوا بعظمائهم في قبائل العرب البادية. وقد تكون صداقة بني ذبيان لملوك الحيرة واعتداءاتهم على مراعي الغسانيين القريبة من ديارهم سببا لسخط الحارث ورضى أبي قابوس.
ومهما يكن من أمر فإن النابغة لزم قصر النعمان بالحيرة، وأسبغ عليه مدائحه، حتى تغير له وتجهم؛ فابتعد عنه خائفا منه وهرب إلى الشام. ويجعل الرواة سبب مغادرته العراق قصيدة قالها في المتجردة زوج النعمان، ويروون على ذلك أنه كان - ذات يوم - عند الملك، فدخلت المتجردة، وعلى وجهها نصيف، وهو الخمار أو نصف الخمار، وكانت نساء الأشراف تتقنع توقرا، فسقط النصيف عن وجهها، فسترته بيدها، فغطت يدها وجهها لعبالتها؛ فأعجب النعمان بهذه الحركة اللطيفة وأمر الشاعر بأن يصفها، فأنشأ قصيدة يقول فيها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
ووصف منها مواضع لا يليق ذكرها، وكان المنخل اليشكري الشاعر من ندماء النعمان، وكان يهوى المتجردة، ويحسد النابغة على علو قدره عند الملك، فغار من وصفه ووشى به إلى النعمان، حتى هاج غيرته فأظهر له الجفاء، وقيل إن الشاعر هجا النعمان بعد هربه بقوله:
حدثوني بني الشقيقة! ما يم
نع فقعا بقرقر أن يزولا
11
قبح الله ثم ثنى بلعن
وارث الصائغ الجبان الجهولا
12
من يضر الأدنى ويعجز عن ض
ر الأقاصي ومن يخون الخليلا
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو
ثم لا يرزأ العدو فتيلا
13
ولعل هذه الأبيات هي التي نقلها بعض بني قريع بن عوف إلى النعمان ليوغروا صدره على الشاعر، فرأيناه في قصائده الاعتذارية يجتهد في دفع التهمة عنه متنصلا من مقال نسب إليه زورا: «لقد نطقت بطلا علي الأقارع.» ويقول فيها:
أتاك امرؤ مستبطن لي بغضة
له من عدو مثل ذلك شافع
فهل أراد بهذا العدو الذي أعان بني قريع عليه المنخل اليشكري حين اتهمه بالمتجردة عند النعمان؟
ليس الأمر بعيد الاحتمال، وإن يكن خبر المنخل مختلفا فيه، فصاحب الأغاني يزعم أنه كان يهوى بنت عمرو بن هند، وأن ملك العراق قتله بسببها. ويروي بعضهم أن الشاعر لم ينشد قصيدته في المتجردة أمام النعمان وإنما أنشدها مرة بن سعيد القريعي، وكان مرة يبطن له البغض حسدا ، فأنشدها النعمان، فامتلأ غيظا وأوعد النابغة وتهدده. على أن الرواية الأولى أشهر، وشعر النابغة يلمع إليها ، وإن كان إلماعه من بعيد. وليس في اعتذارياته ما يشير إلى قصيدته في المتجردة، وإنما هو يتبرأ من قول نسب إليه ولم يقله، وهذا ينطبق على ما أضيف إليه من هجاء للملك، خصوصا إذا صح أنه أنشد قصيدته في حضرة النعمان، فلا سبيل له - بعد ذلك - إلى إنكارها والانتفاء منها. (1-5) عند الغساسنة
لم يسلم خبر اتصال الشاعر بالغسانيين من اختلاط في الروايات، فقد زعموا أن الشاعر نزل على عمرو بن الحارث الأصغر، وظل مقيما عنده يمدحه حتى مات وملك أخوه النعمان، فانقطع إليه. وخالفهم في ذلك الوزير أبو بكر البطليوسي المتوفى سنة 809م/194ه. فقال في شرح ديوان الشاعر: «وكان النعمان بن الحارث حمى ذا أقر، فاحتماه الناس، وبنو ذبيان تربعوه، فنهاهم النابغة وخوفهم إغارة الملك، فعيروه خوفه النعمان، وكان منقطعا إليه، فلما مات النعمان رثاه، وانقطع إلى عمرو بن الحارث أخيه.»
ومعلوم أن النابغة لما هرب إلى الشام نزل على عمرو بن الحارث، ومدحه ببائيته المشهورة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه، بطيء الكواكب
فلو كان الملك للنعمان يومئذ لكان الأولى به أن يمدحه، وهو لاجئ إليه، قبل أن يمدح أخاه، كما جرت عادة الشعراء، وإن يكن غير ممتنع أن يفد على عمرو أولا فيمدحه متوسلا به إلى أخيه الملك النعمان. فكلا الأمرين محتمل، حتى إن المستشرق نولدكه - في كتابه أمراء غسان - لم يقطع بهذه المسألة، فأجاز أن يكون النعمان ملك قبل أخيه، ثم ملك عمرو بعده، ولكنه يثبت رواية تقول إن المنذر لا عمرا تولى الإمارة بعد النعمان، وهي تؤيد زعم الذين يجعلون الملك لعمرو أولا، ثم للنعمان ثانيا، ثم للمنذر ثالثا، وقد اتصل الشاعر بالأخوين ومدحهما، ولم يحظ عند الثالث فعاد إلى النعمان أبي قابوس.
وقصائده التي مدح بها عمرو بن الحارث، منها واحدة يذكر فيها تدويخه للعراق، وأخرى يحذر بها قبيلته من بطشه، وأشهرها بائيته التي قالها عند قدومه إليه، وهي من الطراز الأعلى في الشعر الجاهلي، فقد اجتمع له فيها جمال التعبير، وحسن التصوير، وانطلاق النفس الشعري، مع ما تشتمل عليه من مدح ديني قلما نجده عند الجاهليين، على ميل ظاهر إلى النصرانية حيث يقول:
مجلتهم ذات الإله ودينهم
قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يبعد أن يكون النابغة قد تأثر بالعقيدة المسيحية في تطوافه بين العراق والشام، ومخالطته النصارى وهم سكان هذين القطرين، كما أنه في انتسابه إلى بني عذرة ودفاعه عنها عند الغساسنة قد انتسب إلى قبيلة معروفة بنصرانيتها في العصر الجاهلي.
وفي بائيته الحسناء من الفوائد التاريخية عن ملوك غسان شيء يذكر، فهي تعلمنا أنهم كانوا يلبسون النعال الرقيقة، والنعال الرقيقة لا تصلح للسير، مما يدل على أنهم كانوا لا يخرجون من دورهم إلا ممتطين صهوات جيادهم. وتعلمنا أيضا أنهم كانوا يباشرون الحفلات الدينية بأنفسهم، فإذا جاء عيد الشعانين ساروا إلى الكنيسة والولائد البيض تحييهم بالرياحين. وتطلعنا على شكل ألبستهم وألوانها، وأنهم كانوا يعلقونها على أعواد تسمى المشاجب كما تعلق اليوم ثيابنا.
ويسترعي انتباهنا أنه لم يرث عمرو بن الحارث كما رثى النعمان، فلو أن عمرا ملك ومات قبل النعمان، كما تقول بعض الروايات، لما تنكب عن رثائه، اعترافا بجميله، وزلفى إلى أخيه من بعده، إلا إذا كان قد ضاع هذا الرثاء، ولم تقع عليه الرواة.
وأما مدائحه للنعمان فأفضلها ما قاله في الدفاع عن قبيلته وحلفائها بني أسد وتخويفهم من غضب الأمير ووثبته عليهم، ووصف خيله وفرسانه، ووصف النساء في حالتي الخوف والسبي، فقد كان الشاعر في مدح الغساسنة كثير التدخل في سياستهم لخير قومه؛ لما كانت عليه بنو ذبيان من التعرض لملوك الشام في الحروب والمراعي، فوجه مدائحه - في كثرتها - إلى الذود عنها وعن أحلافها، وإلى لومها وتحذيرها، فلم يسلم من تعييرها، مع أنه لم يجبن عن لوم النعمان عندما كسر جيشه في غزوة بني حن - وهم من عذرة - فأظهر له خطأه، وأنه كان ينبغي له أن يقبل النصيحة عندما ذكر له قوة عدوه ومنعته، فشعر النابغة في بني غسان تحركه روح السياسة القبلية، ويدلنا على مكانته الرفيعة عندهم.
وله في النعمان مدح يشبه الرثاء حين بلغه أنه مريض وهو غائب عن بلاده. ولا يصح أن نجعله في عمه النعمان الأكبر؛ لأن النابغة يرجو فيه رجوع الملك إلى عرشه، والنعمان بن المنذر لم يبلغ أريكة الملك؛ لأن موريقيوس البيزنطي أسره سنة 584م، وألحقه بأبيه الذي أسر سنة 581، ونفي بعدها إلى صقلية. فهذا المدح الرثائي قيل في النعمان بن الحارث، وللشاعر ما يشبهه في النعمان أبي قابوس عندما بلغه أنه مريض، مع أنه من المستنكر أن يرثى إنسان قبل موته، ولو مدنفا، ونكاد نتهم ذوق صاحبه، وإن تكن هذه الطريقة غير مستهجنة في عصره، مع قلة شيوعها في الشعر القديم.
ولما توفي النعمان الغساني رثاه النابغة بقصيدة من جيد شعره ذاكرا فيها فضله عليه معربا عن حزن لا ينسى، وكره للحياة بعده. وليس له مدح في المنذر إذا صح أن الملك انتقل إليه من بعده لا إلى أخيه عمرو، ولكن لدينا منه شعر يمدح به الغساسنة، عند رحيله عنهم إلى النعمان أبي قابوس، يدلنا على أنه فارقهم راضيا لا ساخطا، ويؤيد ذلك قوله فيهم معتذرا إلى ملك الحيرة من ذهابه إليهم:
ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم
أحكم في أموالهم وأقرب (1-6) اعتذارياته
أشهر شعر النابغة في النعمان أبي قابوس قصائده الاعتذارية التي استرضاه بها؛ ليستعيد مكانته لديه، فهي من أروع كلامه فنا وإبداعا، وأرهفه حسا وشعورا، وأكثره تصرفا في الألفاظ والمعاني، ولولاها لما كان لدينا من أقواله فيه ما يستحق الذكر، وبها استطاع أن يرحض صدره من الغل والحقد عليه.
واختلفت الروايات في سبب الصلح بينهما، فقيل: إن النعمان اطلع على ما بين زوجه المتجردة والمنخل اليشكري من علاقة فقتلهما. ثم كتب إلى النابغة يقول: «إنك لم تعتذر من سخطة، إن كانت بلغتك، وكنا تغيرنا لك عن شيء مما كنا لك عليه. ولقد كان في قومك ممتنع وحصن فتركته، ثم انطلقت إلى قوم قتلوا جدي ، وبيني وبينهم ما قد علمت.» فقدم إليه فوجده محمولا على سرير ينقل ما بين الغمر والحيرة،
14
فخاطب حاجبه عصام بن شهبر أو شهبرة بأبيات مطلعها:
ألم أقسم عليك لتخبرني
أمحمول على النعش الهمام؟
وفي اعتذارياته قصيدة يذكر فيها همه؛ لأن النعمان مريض، ويرثيه كأنه يتوقع موته، والظاهر أنه قالها قبل أن يأتي الحيرة؛ لأنه يحلف فيها ألا يرجع إليه مجرما، ولكنه لا يقطع الأمل من جوده، ويصف بسطة سلطانه كعادته فيقول إنه سيمسك لسانه عنه، وإن كان بعيدا ممنعا، خوفا من أن يقاد إليه مع نسوته، ثم يرسل إليه التحية مشفوعة بالدعاء.
وحدث حسان بن ثابت أن النابغة قدم في جوار رجلين من فزارة لهما منزلة عند النعمان، فرأى إحدى قيان الملك، فلقنها قصيدته التي اعتذر إليه فيها، وهي:
يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
فشرب النعمان، فلما سكر غنته فيها، فطرب وقال: «هذا شعر علوي،
15
هذا شعر أبي أمامة.» ورضي عنه.
ولا يستغرب أن يطلب الشفاعة برجلين من فزارة، وهو يعلم ما لبني ذبيان من الحظوة عند ملك العراق. ونسمعه في إحدى اعتذارياته يتبرأ مما نسب إليه، ويلتمس من النعمان أن يسأل عن أمره بني ذبيان إذا كان قد ساء ظنه فيه.
وكان يهمه أن يتنصل من تهمتين، إحداهما: يشتد في إنكارها، ويقسم الأقسام الكثيرة على البراءة منها، وهي الكلام الذي نقله الوشاة إلى الملك وأضافوه إليه، فألبسوه خيانة لم يقترفها:
أتاك بقول لم أكن لأقوله
ولو كبلت في ساعدي الجوامع
16
والأخرى لا يستطيع أن يطمسها: وهي ذهابه إلى الغساسنة أعداء المناذرة يمدحهم ويذكر انتصارهم يوم حليمة حين قتلوا المنذر جد النعمان سنة 554م:
توورثن من أزمان يوم حليمة
إلى اليوم قد جربن كل التجارب
17
وسمعنا الملك يعاتبه بقوله: «ثم انطلقت إلى قوم قتلوا جدي، وبيني وبينهم ما قد علمت.» فما عليه إلا أن يقر بذنبه، ويعمل لتخفيفه وإزالة ما وقر في نفس النعمان من الحقد عليه. فصارحه بأن الغساسنة إخوان له يقربونه ويحكمونه في أموالهم، فلا يعد مذنبا إذا مدحهم، كما أن الذين قربهم أبو قابوس وأكثر لهم العطاء لم يذنبوا إذا مدحوه، وهذه الصراحة لا مهرب للشاعر منها، ولكنه تمكن - بفنه ودهائه - أن يلطف وقعها في نفس النعمان، فجعل الملوك دونه منزلة وفضيلة، فهم الكواكب تغيب أنوارها حين تطلع الشمس:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
ترى كل ملك دونها يتذبذب
18
بأنك شمس والملوك كواكب
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وإذا حاول الاعتذار شرع في تهويل الخطب وعظم ما يقاسيه - في الليل خصوصا - من الخوف والرعب لغضب الملك عليه، فيصور نفسه قلق المضجع لا يقر قراره، يبيت على الشوك مرة، وتواثبه الأفاعي أخرى، حتى ضرب المثل بلياليه، فقيل للخائف المذعور: «بات بليلة نابغية.» ويأخذ في تكذيب الوشاة مؤكدا براءته بالأقسام والدعاء على نفسه وعلى أولاده، إن صح ما اتهموه به من الغدر والخيانة. ويتخلل ذلك مبالغة في مدح النعمان وتعظيم سلطانه وامتداد سطوته، مظهرا خشوعة وعبوديته ونزوله على حكمه، راجيا منه العفو والرضى ورجوع النعمة إليه:
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته
وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
19
ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من براعة الاسترضاء، وفهم لعقلية الملوك العتاة، وكيف تكون المخاطبات في القصور، مع أن النابغة لم ينشأ عليها في قبيلته، ولا سمعها من أبناء قومه، ولكنه تثقف بها في مخالطته بطائن الأمراء، فتعلم منهم كيف يخاطبون ويستعطفون ولاة الأمور، ففقد شيئا غير قليل من فطرة البدوي وكبريائه، فلذلك قيل: «غض الشعر منه.» وهذه الغضاضة شعرت بها قبيلته في ذهابه إلى الغرباء يمدحهم ويشيد بمناقبهم، ويجاهر بخوفه منهم، فعيرته مذلتها، وعيره الرواة أيضا. سئل عمرو بن العلاء عن الشاعر ورجوعه إلى النعمان: «أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه، أم لغير ذلك؟» فقال: «لا لعمر الله، لا لمخافته فعل، إن كان لآمنا من أن يوجه إليه جيشا، وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة. ولكنه رغب في عطاياه وعصافيره.»
20
على أن النابغة لم يشعر بهذه الغضاضة التي ارتضاها مختارا لا مكرها ، واستاغتها ذهنيته الحضرية التي اختلفت عن ذهنيته البدوية، فما ضره أن يمدح الملوك ويتعبد لهم ما دام معززا مكرما لديهم ينهل عليه سيبهم، ويأكل بصحاف من الفضة والذهب معهم، يحجب كبار الشعراء كحسان بن ثابت إذا وجد عندهم، ويتدخل في سياستهم حيث يرى المنفعة له أو لقبيلته وأحلافها، وإليه يرجع قومه في خطوبهم وحوائجهم. وهو - إلى ذلك - حكم سوق عكاظ تضرب له القبة الحمراء، قبة السادات والأمراء، وإذا أقوى
21
في شعره لا يجرؤ أحد أن يقول له: أقويت! لمكانته الأدبية. ويروون على ذلك حادثة لا بأس بذكرها، وهي أن النابغة قدم يثرب، فأنشد الناس قصيدته التي وصف بها المتجردة، وكان أقوى فيها، فما تجاسر أحد أن يقول له، فأتوه بقينة، فغنت منها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص كأن بنانه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
22
فمدت القينة صوتها باليد فصارت الكسرة ياء، ومدت يعقد فصارت الضمة واوا، فانتبه ولم يعد إلى الإقواء. ويروى عنه قوله: «دخلت يثرب وفي شعري بعض العاهة، فخرجت منها وأنا أشعر الناس.»
ومهما يكن من أمر هذه الرواية، ولعلها موضوعة؛ لتعظيم منزلة النابغة، أو لإظهار فضل يثرب عليه، فإنها لا تنافي الحقيقة في شاعر كان يحتكم إليه كبار الشعراء. (1-7) هل صدق النابغة في مدحه؟
أكثر ما جاءنا من شعر النابغة كان في مدح الملوك ورثائهم، فأحيانا نجده في الحيرة يشيد بذكر المناذرة، وأحيانا في الجولان يتغنى بمناقب الغساسنة، على ما بين ملوك الشام وملوك العراق من عداء وضغينة وحروب. فما تنكر له النعمان بن المنذر حتى جفاه، ويمم قصر الأمير الغساني يمدحه ويطري آباءه وعشيرته؛ ثم ما كاد يأنس برضى الملك العراقي حتى انقطع عن الغساسنة وجاء الحيرة يتودد النعمان مادحا معتذرا متخشعا، وعاد يتمتع بعطاياه وعصافيره.
وما كان - لولا حبه المال - ليخشى أن يناله النعمان بسوء، وقبيلته لا تسلمه دون أن ترد عنه، ولقد كان له في قصور الغساسنة حمى مصون لا تمتد إليه يمين ملك العراق. ولكن هذا الشاعر المتكسب لم يجد غضاضة عليه ولا على الشعر في أن يذل نفسه متكففا، متنقلا من أمير إلى أمير.
وشاعر مثله يصطنع المدح من أجل المال، ويزفه إلى كل أمير يتصل به، لا يرجى منه أن يكون صادق المودة مخلص الوفاء؛ لأنه لا يهمه أمر من يمدحهم بقدر ما يهمه العطاء الذي يتوقعه منهم، ولا يشجوه أن يتخلى عن الواحد منهم إذا رأى الخير أسخى عند الآخر. وهذا طبيعي في الإنسان حين تكون المنفعة المادية أساس الصداقة ولا رابط غيرها بين الأصحاب، فالإخلاص - في مثل هذه الحال - عرض طارئ يبقى ببقاء المنفعة ويذهب بذهابها.
وإذا قلنا إن النابغة كان على شيء من الإخلاص لممدوحيه في حال اتصاله بهم، فيصعب علينا القول بصدقه في تصوير مخاوفه ولياليه المشئومة في اعتذارياته إلى الملك النعمان، فإنه لم يكن يخشى شره في قلب عشيرته، أو في قصور أمراء الشام.
على أننا - وإن كنا نشك في صدق النابغة - لا يسعنا إلا الاعتراف بأنه أجاد مدح النعمان والاعتذار إليه، كما أجاد مدح الغساسنة ووصف شمائلهم وعاداتهم. فكيف تتم الإجادة للشاعر في غرض يقصده دون أن تحركه إليه عاطفة الصدق والإخلاص؟ وهل لهذه العاطفة التي نحكمها في الشعر من تأثير صحيح في جودة الفن ومنحه عنصر الجمال؟
قد تكون العاطفة محبوبة لدلالتها على ذاتية الشاعر ونزعات نفسه إلى شخص أو شيء يتعشقه ويميل إليه، ولكننا لا نراها عنصرا ضروريا للشعر؛ فإن بوسعه أن يستغني عنها ولا يخسر شيئا من جماله وتأثيره. فإن الصدق في الفن لا يقوم على عاطفة الحب والإخلاص للشخص ليحسن الشاعر مدحه ووصفه، ولا يشترط على الشاعر أن يكون عاشقا ملتاع النفس، متدفق العاطفة ليجيد الغزل وذكر آلام المحب وشجونه. ولا يطلب منه أن يكون فارسا مغوارا يخوض الحروب ويشهد المعارك ليبدع في وصف المعامع والتحام الأبطال. ولو كان شرطا على الشاعر أن يضع شخصيته الصادقة في كل غرض من أغراضه، فنبحث عن عاطفة الإخلاص الذاتي في كل مدح أو غزل أو حماسة، أو غير ذلك ؛ لتعذر علينا أن ندرك سبب الجمال في الشعر الذي لا ينطوي على حقيقة قائله، ولوقفنا حائرين أمام الروائع الأدبية الخالدة : ملاحم ومسرحيات، بما فيها من تضارب العواطف والأهواء، واختلاف المشاهد والمواقف، بحيث لو نظرنا إلى إلياذة هوميروس لرأيناه يجيد وصف الأبطال، سواء كانوا من اليونان كأخيل، أو من الطرواد كهكتور، ويبدع في الغزل والنسيب، وفي وداع هكتور لأندروماك، كما يبدع في تصوير المعارك وزحف الجيوش، ووصف الخيول والعدد دون أن يكون له صلة شخصية بشيء من هذه الأشياء، وإنما شاعريته الخصبة تولت خلق هؤلاء الأشخاص وتعهدتهم بمختلف الأهواء والمشاعر. وهكذا يصح القول في سائر الملاحم، وفي بدائع المآسي والفواجع التمثيلية.
فالشاعر - إذا - هو الذي يخلق عالمه ويعيش معه دون أن يكون لهذا العالم حقيقة واقعة. فالأدب الصادق لا يوجب التعبير عن حقيقة تاريخية، ولا ذكر واقعة لها علاقة بذاتية الشاعر، وإنما الصدق في الأدب هو الشعور الفني الذي يحسه الشاعر أو الأديب فيتحرك قلبه، ويتصوره فيثور خياله، ويفكر فيه فيفيض عقله، فتأتلف عنده هذه الإدراكات الثلاثة ائتلافا موسيقيا يبدع له دنيا غير الدنيا التي يعيش فيها، وأشخاصا غير الأشخاص الذين يألفهم في حياته الاجتماعية. فإذا تحدث عن دنياه وأشخاصه، فإنما هو يتحدث صادقا مخلصا عن أشياء أحسها كل الإحساس حتى أصبحت قطعة من نفسه الفنية، سواء كانت هذه الأشياء قريبة إليه في حياته المألوفة أو غريبة عنه.
وهكذا شأن النابغة في مدحه الغساسنة والمناذرة، وفي اعتذارياته وتصوير لياليه الخائفة، فإنه وإن لم يكن صادقا كل الصدق في حبه لملوك الشام والعراق، وكان كاذبا كل الكذب في ذكر مخاوفه ولياليه، فهذا يعود إلى النقد التاريخي، ولا شأن للنقد الأدبي فيه، ما دام الشاعر استطاع أن يعطينا أدبا صادق الشعور والفن، وهذا كل ما يطلب منه. (1-8) القصة عند النابغة
لم تكن القصة في الشعر الجاهلي غاية يتطلبها الشاعر، أو فنا مستقلا يبني عليه قصيدته، وإنما كانت واسطة يعتمدها في مختلف أغراضه عندما تدفعه الحاجة إليها فيسرد خبرا، أو يورد أسطورة ولا يتعدى في ذلك كله بضعة أبيات قلما اتسعت لتفصيل الخبر، وتصوير الأشخاص.
والنابغة لا يفترق عن غيره من شعراء الجاهلية في النظر إلى القصة، وطريق الاستفادة منها، والاقتصار على موجزها. إلا أنه عرفت له فيها خصائص وأهداف لم تعرف لغيره من قبل، فانفرد بها أسلوبه القصصي، وكان له منها طابع خاص.
ومن الأساليب المألوفة في الشعر الجاهلي: أن شاعرهم إذا وصف شيئا وشبهه بآخر، ترك الموصوف وانصرف إلى المشبه به يوسعه نعتا وتصويرا من الناحية التي تجمع بينه وبين الموصوف، حتى إذا أخرج له صورة جلية تتمثل بها تلك الناحية التي ينظر إليها، رضيت نفسه، واقتنعت بأنها أدركت الغاية من ذكر الموصوف في عنايتها بإظهار مشابهه وتبليغ وجه الشبه المشترك بينهما.
والشعر القديم يشتمل على أمثله كثيرة من هذه الاستطرادات الوصفية والقصصية لا يند عنها شاعر من شعرائهم، ولا سيما وصف ناقته التي تفرج كربه وتوصله إلى من يحب، فإنه يجعل همه في إظهار سرعتها ونشاطها، فيشبهها بالثور أو الحمار الوحشي، مبالغا في ذكر قوته ومضائه، فيقص خبر العير يدفع الأتان أمامه ويسوقها سوقا عنيفا؛ ليعتزل بها عن كل طالب ومزاحم، كما فعل عير امرئ القيس ولبيد. أو يذكر خبر ثور أضاع حلائله فجد في طلبهن حتى أدركه الليل فلجأ إلى أرطاة وبات عندها كما لجأ ثور امرئ القيس، فلما طلع الصباح أطل عليه الصيادون بكلابهم، فأجفل وانقض مذعورا يطلب النجاة، فتناله الكلاب بعد لأي، وربما فاتها ونجا منها كما نجا ثور المثقب العبدي.
فهذه السرعة وهذا النشاط اللذان يبدوان من الحمار والثور هما كل ما يريد أن يخبر عنه الشاعر الجاهلي ليبين أن ناقته نشيطة سريعة مثلهما.
والنابغة في هذه التشابيه القصصية لم يبتعد عن امرئ القيس والمثقب العبدي وسواهما من الشعراء الذين تقدموه، بل سار على خطتهم، فشبه ناقته بالثور، غير أنه زاد على من تقدمه وصف العراك الذي حدث بين الثور والكلاب المتلاحقة به، وكيف ارتد إليها يطعنها بقرنه فيرديها واحدا بعد آخر، فكان ذلك أبلغ في إظهار قوته ونشاطه.
ويصور قرن الثور في قصيدة أخرى نافذا من جنب الكلب تصويرا ماديا، كثيفا، إذ شبهه - في حال خروجه محمرا - بسفود انتظم عليه اللحم وترك عند الموقد:
كأنه خارجا من جنب صفحته
سفود شرب نسوه عند مفتأد
23
ولما رأى الكلب الآخر ما حل برفيقه نصحته نفسه بالهرب، فولى ناجيا:
قالت له النفس إني لا أرى طمعا
وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
24
وذكر المعركة كما يصفها النابغة نجده بعده في معلقة لبيد، ولامية عبدة بن الطبيب، وعينية أبي ذؤيب الهذلي، وملحمة الأخطل التغلبي، فهم - بلا ريب - متأثرون خطاه، ولا سيما الأخطل الذي أخذ تعابيره واتجاهاته، وواطأه في البحر والقافية.
ويشتمل الشعر الجاهلي على كثير من الأساطير والأخبار مما كانوا يتناقلونه عن غيرهم من الشعوب، أو مما نشأ في أرضهم ووجد غذاءه في مجتمعهم. وكان للنابغة قسط منها يرويها في شعره، ولكنه لم ينظمها لمجرد روايتها والإخبار عنها؛ بل كان له هدف يرمي إليه، فيتخذ القصة وسيلة لبلوغ مراده. فإنه عندما أراد أن يدعو النعمان في اعتذاره إليه أن لا يصدق أقوال الوشاة، وأن يكون صادق النظر في الحكم عليه، اعتمد أسطورة زرقاء اليمامة التي اشتهرت بحدة نظرها، حتى زعموا أنها كانت تبصر الأشياء على مسافة ثلاثة أيام. والأسطورة - كما تروى - هي أنه كان للزرقاء قطاة، فمر بها يوما سرب من القطا بين جبلين، فقالت: ليت هذا الحمام لي، ونصفه إلى حمامتي، فتم لي مائة، وأرادت بالحمام القطا. واتفق أن وقع الحمام في شبكة صائد فعرف عدده فإذا هو كما قالت، ست وستون قطاة.
فهذا الصدق في النظر هو الهدف الذي أراده النابغة، ودعا النعمان إلى مثله، وإن يكن نظر النعمان مرجعه العقل، ونظر الزرقاء مرجعه البصر، فإنما الصدق هو الجامع بين النظرين.
وكذلك أسطورة الحية والأخوين؛ فإن هدفه فيها أن يبين لقومه أن الثقة المتبادلة انقطعت بينه وبينهم كما انقطعت بين الحية وأحد الأخوين. وكان بعض قومه قد اجتمعوا عليه وراموا خذله - كما عرفنا - وأسطورة الحية تروي أن أخوين خربت بلادهما، وكانا قريبين من واد فيه حية، فهبط أحدهما ورعى فيه إبله زمنا، ثم إن الحية نهشته فقتلته. فكره أخوه الحياة من بعده، وطلب الحية ليقتلها، فلما لقيها أظهرت له الندامة، وعرضت عليه الصلح معاهدة إياه أن تدعه آمنا في هذا الوادي، وأن تدفع له دية القتيل كل يوم دينارا، فعاهدها وحلف لها وحلفت له، وأخذت تعطيه كل يوم الدينار المتفق عليه حتى كثر ماله، وقيل: كانت تأتيه يوما وتغيب يومين، ولهذا يقول النابغة:
فواثقها بالله حين تراضيا
فكانت تديه المال غبا وظاهره
25
ثم قال: كيف ينفعني هذا العيش وأنا أرى قاتل أخي؟ فعمد إلى فأس فأحدها وكمن للحية، فلما مرت به ضربها بالفأس فجرحها ولم يقتلها، فدخلت جحرها وقطعت عنه الدينار. ثم أرادها على الصلح فقالت: كيف أعاودك وأثر فأسك وقبر أخيك يأبيان علي أن أثق بك، وأنت فاجر لا تبالي العهد:
أبى لي قبر لا يزال مقابلي
وضربة فأس فوق رأسي فاقره
فكانت القصة من الطوابع التي يتميز بها أسلوب النابغة بما فيها من الخصائص والأهداف، سواء جاءت بطريق التشبيه كقصة الثور الوحشي، أو بطريق المثل كأسطورة زرقاء اليمامة وأسطورة الحية. ويمكننا أن نعد الأخيرة سابقة حسنة في الأدب العربي للأساطير الخلقية على ألسن الحيوان التي لم يعرفها العرب بكثرة إلا بعد ظهور كليلة ودمنة لابن المقفع. (1-9) منزلته
هو في طليعة شعراء الطبقة الأولى. عده ابن سلام بعد امرئ القيس، وقبل زهير والأعشى، وقد كثر الخلاف في أيهم أشعر. قال ابن سلام: «قال من احتج للنابغة: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتا، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف.» وشهد له عمر بن الخطاب، وعبد الملك بن مروان، وأبو الأسود الدؤلي، وحماد الراوية، والأخطل، وجرير، فقالوا: إنه أشعر العرب.
26
وشهد حسان بن ثابت يوم رجوعه إلى النعمان فكان يقول: «فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشد حسدا: على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه، أم على جودة شعره، أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها؟» وكان الأصمعي يقول: أوس (ابن حجر) أشعر من زهير، ولكن النابغة طأطأ منه.
وجماع القول: إن منزلة النابغة في الشعر سامية المقام عزيزة المنال، فهو شاعر الملوك، وحكم سوق عكاظ، ونابغة الشعراء ... (2) الأعشى الأكبر
27 (629م/7ه؟) (2-1) حياته
هو ميمون بن قيس بن جندل، ينتهي نسبه إلى بكر بن وائل من ربيعة، لقب بالأعشى لسوء بصره، وكني بأبي بصير تفاؤلا بالشفاء، أو لنفاذ بصيرته، وسمي صناجة
28
العرب لأنه كان يتغنى بشعره، وكان يقال لأبيه: «قتيل الجوع.» وذلك أنه كان في جبل، فدخل غارا ليستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة من الجبل فسدت الغار، فمات فيه جوعا، فيه يقول جهنام واسمه عمرو، وكان يتهاجى هو والأعشى:
أبوك قتيل الجوع قيس بن جندل
وخالك عبد من خماعة راضع
29
والأعشى من أهل اليمامة، من قرية تسمى «منفوحة»، ولكنها لم تكن قرارا له، بل كان ينتجع بشعره أقاصي البلاد سائلا متكسبا. قيل: إنه وفد على ملوك فارس، وسمعه كسرى مرة ينشد:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق؟
وما بي من هم وما بي معشق
فقال: «ما يقول هذا العربي؟» قالوا: «يتغنى بالعربية.» قال: «فسروا قوله.» قالوا: «زعم أنه سهر من غير مرض ولا عشق.» قال: «فهذا إذا لص.»
وهذا البيت مطلع قصيدة مدح بها رجلا من بني كلاب يقال له المحلق،
30
وللمحلق قصة فكهة استغلها الرواة، فتفننوا فيها ما شاءوا، وإليكها: (2-2) عند المحلق الكلابي
كان الأعشى يوافي سوق عكاظ في كل سنة، وكان المحلق الكلابي مئناثا
31
مملقا،
32
فقالت له امرأته: «ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر، فما رأيت أحدا اقتطعه إلى نفسه إلا أكسبه خيرا.» قال: «ويحك ما عندي إلا ناقتي.» قالت: «الله يخلفها عليك.» فتلقاه قبل أن يسبقه إليه أحد، وابنه يقوده، فأخذ الخطام
33
فقال الأعشى: «من هذا الذي غلبنا على خطامنا؟» قال: «المحلق.» قال: «شريف كريم.» ثم سلمه إليه، فأناخه، فنحر له ناقته وكشط
34
له عن سنامها
35
وكبدها ثم سقاه خمرا، وأحاطت به بناته يخدمنه ويمسحنه .
36
فقال: «ما هذه الجواري حولي؟» فقال: «بنات أخيك وهن ثمان.» فلما رحل من عنده، ووافى سوق عكاظ، جعل ينشد قصيدته في مدحه . فسلم عليه المحلق؛ فقال له الأعشى: «مرحبا يا سيدي! بسيد قومه.» ونادى: «يا معاشر العرب! هل فيكم مذكار
37
يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟» فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة
38
إلا وقد زوجها.
ورواها النوفلي على شكل أغرب. فزعم أن أبا المحلق رجل شريف أتلف ماله، ولم يترك لابنه المحلق وبناته الثلاث غير ناقة وحلتي برود.
39
فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد اليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه
40
أهل الماء. فألحت عمة المحلق على ابن أخيها أن يرسل إليه الناقة والبردين، وزق خمر يستقرضه من بعض التجار، ثم نطقت بتلك الجملة المأثورة التي سنسمعها بعد قليل من الأعشى: «والله لئن اعتلج
41
الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه،
42
ليقولن فيك شعرا يرفعك به.» فرضي المحلق بعد امتناع وجدال، ووجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى
43
لأبيه، وكان الأعشى قد ارتحل، فخرج المولى يتبعه من بلد إلى بلد حتى صار إلى منزله في منفوحة، فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم، وصب لهم فضيخا.
44
فلما أخبر بقدومه، وبما معه قال: «ويحكم، أعرابي! والذي أرسل إلي لا قدر له. والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعرا لم أقل قط مثله.» ثم نحروا الناقة، وشقوا خاصرتها عن كبدها، وجلدها عن سنامها، وأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوا، وأكل الأعشى وشرب معهم، ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما، وأنشأ يمدح المحلق. فسار الشعر وذاع في العرب، فما أتت سنة حتى زوج المحلق أخواته الثلاث، كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف.
ولم يكتف الرواة بخبر المحلق وما فيه من إغراب، بل أضافوا إلى الأعشى مبرة ثانية في تزويج العوانس،
45
فزعموا: «أن امرأة جاءت إليه فقالت: «إن لي بنات قد كسدن، فشبب
46
بواحدة منهن لعلها تنفق.» فشبب بواحدة منهن، فما شعر إلا بجزور
47
قد بعث به إليه. فقال : «ما هذا؟» قالوا: «زوجت فلانة.» فشبب بالأخرى، فأتاه مثل ذلك، فسأل عنها فقيل: «زوجت.» فما زال يشبب بواحدة فواحدة حتى زوجن جميعا .»
على أن هذا الإغراب في سرد الروايات، وهذه الكثرة في التزويج، لا يمنعان أن يكون لقصة المحلق وبناته أو أخواته بعض الصحة، فالقصيدة التي مدحه بها الأعشى من جيد الشعر، ولم يشك أحد في نسبتها إليه. (2-3) عند شريح بن السموأل
وكان الأعشى خبيث اللسان يحسن الهجاء كما يحسن المدح، فهجا مرة رجلا من بني كلب فقال:
بنو الشهر الحرام فلست منهم
ولست من الكرام بني عبيد
ولا من رهط جبار بن قرط
ولا من رهط حارثة بن زيد
وهؤلاء كلهم من بني كلب. فقال الكلبي: «لا أبا لك! أنا أشرف من هؤلاء.» وقد سبه الناس بهجاء الأعشى إياه.
واتفق أن الكلبي أغار على قوم قد بات فيهم الأعشى، فأسر منهم نفرا، وأسر الأعشى وهو لا يعرفه. ثم جاء حتى نزل بشريح بن السموأل بن عادياء اليهودي صاحب تيماء بحصنه الأبلق، فمر شريح بالأسرى فعرف الأعشى، فقال للكلبي: «ما ترجو بهذا الشيخ ولا فداء له، فهبه لي.» فوهبه له. فأخذه شريح فأطعمه وسقاه، فلما أخذ منه الشراب سمعه يترنم بهجاء الكلبي، فأراد استرجاعه، فقال الأعشى قصيدة يذكره فيها بوفاء أبيه السموأل، واختياره قتل ابنه على الغدر بجاره امرئ القيس وتسليم دروعه. فأعطاه شريح ناقة فركبها ومضى من ساعته، ثم عرف الكلبي حقيقة أمره فأرسل في أثره فلم يلحقه. (2-4) الأعشى في الإسلام
يجمع الرواة على أن الأعشى أدرك الإسلام ولكنه لم يسلم. ويضيف إليه بعضهم قصيدة مدح بها النبي محمدا لما وفد عليه. غير أن قريشا حالوا دون وصوله إلى الرسول، فرصدوه على طريقه، وكان فيهم أبو سفيان بن حرب، وقالوا: «هذا صناجة العرب، وما مدح أحدا قط إلا رفع قدره.» فلما ورد عليهم قالوا: «أين أردت يا أبا بصير؟» قال: «أردت صاحبكم هذا لأسلم.» قالوا: «ينهاك عن خلال ويحرمها عليك وكلها موافق لك.» قال: «وما هي؟» قالوا: «القمار والربا والخمر.» قال: «أما القمار فلعلي إن لقيته أن أصيب منه عوضا من القمار؛ وأما الربا فما دنت ولا ادنت؛ وأما الخمر، أوه ! فأرجع إلى صبابة قد بقيت في المهراس
48
فأشربها.» فقال أبو سفيان: «هل لك في خير مما هممت به؟» فقال: «وما هو؟» قال: «نحن الآن وهو في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته.» فقال: «ما أكره ذلك.» فجمعت له قريش مائة من الإبل، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان قريبا من قريته منفوحة باليمامة رمى به بعيره فقتله.
ولكن لا ندري مبلغ هذه الرواية من الصحة، فالتفنن القصصي ظاهر عليها، زد على ذلك أن القصيدة التي يزعمون أن الأعشى مدح بها الرسول، لا يمكن الاطمئنان إليها، وحسبك أن تقرأ منها هذه الأبيات، حتى تتيقن ما فيها من تكلف واصطناع:
أجدك لم تسمع وصاة محمد
نبي الإله حين أوصى وأشهدا؟
49
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
فترصد للأمر الذي كان أرصدا
50
فإياك والميتات لا تقربنها
ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا
51
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه
ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
52
ولا تقربن حرة كان سرها
عليك حراما فانكحن أو تأبدا
53
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه
لعاقبة ولا الأسير المقيدا
54
وسبح على حين العشيات والضحى
ولا تحمد المثرين والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذي ضرارة
ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
55
فما قولك ببدوي يأتي من أطراف اليمامة إلى الحجاز، ليرى الرسول وينتحل الدين الجديد، فيلقاه المشركون من قريش، فيردونه بمائة من الإبل، ويقولون له: «ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها لك موافق.» فيقول: «وما هي؟» يسألهم عنها لأنه يجهلها، ثم نسمعه يمدح الرسول بهذا الشعر، فإذا هو عارف بحقائق الدين الإسلامي يحفظ القرآن وما سمع تلاوته، ويستشهد بآياته وما فيها من تحريم وتحليل، وشرع وفروض، أفلا ترى في ذلك كله أثرا واضحا للتكلف والاصطناع؟
وقد أرخ الرواة موت الأعشى في السنة السابعة للهجرة، أي في سنة 629م، استنادا إلى قول أبي سفيان: «نحن الآن وهو في هدنة.» فاستنتجوا من ذلك أنها هدنة الحديبية
56
بين صاحب الشريعة الإسلامية ومشركي قريش.
على أننا، وإن كنا نشك في صحة القصيدة التي أضيفت إلى الأعشى في مدح الرسول، لا نبيح لأنفسنا إنكار رواية إدراكه الإسلام؛ إذ ليس لدينا أدلة كافية تدحضها، فنحن نقبلها باحتياط كما قبلنا غيرها، ونؤرخ - على ارتياب - وفاة الشاعر في السنة السابعة للهجرة استنادا إلى أقوال الرواة. (2-5) آثاره
للأعشى شعر كثير مجموع في ديوان، أشهره لاميتان طويلتان، كلتاهما تعد من المعلقات. وقد طرق الأعشى جميع فنون الشعر فأجاد المدح والهجاء، كما أجاد وصف الخمرة والتشبيب بالنساء. (2-6) ميزته - الشعر الخمري
لم تكن ميزة الأعشى محصورة في وصف الخمرة دون غيرها، فقد كان متصرفا في أبواب الشعر كلها، ولعله في المدح أشعر منه في وصف الخمر، ولكن المدح صفة عامة للشعراء الجاهليين، ونحن نريد أن ندرس في الشاعر المتخصص صفة انفرد بها عن غيره من معاصريه، وهي وصف الخمرة للخمرة، لا للتفاخر بشربها، كما فعل أكثر شعراء الجاهلية. فقد وصفها طرفة، ولبيد، وعمرو بن كلثوم، وعنترة وغيرهم، وقلما تجاوزوا حد الافتخار بشربها؛ لأن شربها دليل الكرم عندهم، وإذا تجاوز أحدهم هذا الحد، فإلى شيء يسير من وصف لونها وزجاجتها، وإلى شيء يسير من وصف تأثيرها في شاربها.
أما الأعشى فقد فاقهم جميعا؛ وعرف كيف يشربها ويلهو، ويصفها ويطرب، فهو إذا وصف الخمرة وصف معها النديم والساقي، ووصف القينة وعودها، وصور السكارى تصويرا جميلا، في أسلوب لطيف لا يخلو من طرف وفكاهة، وله أقوال كثيرة في الخمر، توكأ عليها الأخطل، وأبو نواس من بعده، كقوله:
تريك القذى من فوقها، وهي فوقه
إذا ذاقها من ذاقها، يتمطق
57
أخذه الأخطل فقال:
ولقد تباكرني، على لذاتها
صهباء عالية القذى، خرطوم
58
وقوله:
من خمر عانة، قد أتى لختامها
حول، تسل غمامة المزكوم
59
فقال الأخطل:
وإذا تعاورت الأكف ختامها
نفحت فنال رياحها المزكوم
60
وقوله:
وكأس كعين الديك باكرت خدرها
بفتيان صدق، والنواقيس تضرب
61
فأخذ أبو نواس تشبيهه الخمرة بعين الديك وأكثر استعماله. من ذلك قوله:
واشرب سلافا كعين الديك صافية
من كف ساقية كالريم حوراء
62
وقوله:
وكأس، شربت على لذة
وأخرى، تداويت منها بها
فأخذه أبو نواس وولد منه معنى آخر قال:
دع عنك لومي، فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
فيتبين من ذلك، أن الأعشى صاحب لهو وعبث، كما كان الأخطل وأبو نواس من بعده، وأن وصف الراح شغفا بها، فأحسن وصفها، وكانت له مجالس قصف وطرب، فيها النديم والساقي والقيان، فوصفها جميعا وأحسن وصفها، وإنا لنلمس روحا نواسيا في قوله:
لا يستفيقون منها وهي راهنة
إلا بهات، وإن علوا، وإن نهلوا
فهذه السكرات الطويلة التي لا يستفيق منها صاحبها، إلا ليرجع إليها، هي التي يمثلها لنا الأعشى بقوله:
وكأس، شربت على لذة
وأخرى، تداويت منها بها
فيردد أبو نواس بعده: «وداوني بالتي كانت هي الداء ...»
وإذا كان الأعشى سأل بشعره وتكسب، فلكي يلهو ويعبث، لا ليجمع المال ويحرص عليه. فالرواة يذكرون لنا أن داره في منفوحة كانت مجتمع الفتيان، يأكلون عنده ويشربون، ويذكرون أيضا، أن فتيان منفوحة لم ينسوا شاعرهم بعد موته فكانوا يأتون إلى قبره ويسكرون عنده ويريقون الأقداح على ثراه؛ ليأخذ الميت نصيبه من الراح. (2-7) اللاميتان
أشرنا إلى لاميتي الأعشى، فيجدر بنا أن نجعل لهما قسطا من التحليل ولو قليلا، فنظهر بعض خصائص في الشاعر لا ينبغي إغفالها، وإن كنا قصرنا الدرس والنقد على شعره الخمري. قال مستهلا إحداهما:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعا، أيها الرجل؟
ثم يمعن في الغزل حتى ينتهي إلى وصف الخمرة ومجلس اللهو، فينتقل إلى وصف السفر والناقة فلا يلمسهما إلا قليلا، ولكنه يفيض في وصف البرق والمطر:
بل، هل ترى عارضا قد بت أرمقه
كأنما البرق في حافاته شعل
63
ولكنه لا يبلغ فيه شأو امرئ القيس: ثم ينبري لرجل يقال له يزيد الشيباني، وكانت بينهما ملاحاة، فيهدده ويفتخر عليه، ويذكر له انتصارات قومه على القبائل، وفي هذا القسم يختتم طويلته.
ويبتدئ اللامية الأخرى بقوله:
ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي، وما ترد سؤالي؟
64
وبعد أن يتغزل ويذكر الفراق، يصف ناقته ويشبهها بحمار الوحش في سرعتها، ويشبه عظام صدرها بإران
65
الميت كما شبهها طرفة. ثم يتخلص إلى مدح الأسود بن المنذر أخي النعمان، فيطيل في مدحه ويبالغ، ثم ينصرف إلى نفسه، ذاكرا مشيبه متذكرا شبابه، ثم يشرع بوصف لهوه وعبثه وجواده وصيده فيذكرنا بامرئ القيس.
هذا هو الأعشى في خمرياته وغير خمرياته، على ما في شعره من سهولة وانسجام وجلاء شأن غيره من شعراء ربيعة. ولكن هناك ملحوظة ذات قيمة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الشعر في أواخر هذا العصر، ظهر عليه التطور ظهورا عاما، فوضحت معانيه وسهلت ألفاظه، وقل غريبه. فأصبح الشارح لا يحتاج إلى سوى تفسير بعض الألفاظ، حتى يتضح معنى البيت، ونستطيع أن نتبين هذا التطور في أكثر الشعراء الذين أدركوا الإسلام أو كادوا، والأعشى خير مثال لهم في جلاء أفكاره، وظهور معانيه، ونعومة ألفاظه، وسلاسة قوافيه. (2-8) منزلته
وضعه ابن سلام في الطبقة الأولى بعد امرئ القيس والنابغة وزهير، وكان أهل الكوفة يقدمونه عليهم جميعا، وسئل يونس بن حبيب النحوي: «من أشعر الناس؟» فقال: «لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكن أقول: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب.» وكان عمرو بن العلاء يعظم محله ويقول: «مثله مثل البازي يضرب كبير الطير وصغيره.» وإذا سئل عنه وعن لبيد قال: «لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر.» وروي أن عبد الملك بن مروان قال لمؤدب أولاده: «أدبهم برواية شعر الأعشى فإنه - قاتله الله - ما كان أعذب بحره، وأصلب صخره!» وقال المفضل الضبي: «من زعم أن أحدا أشعر من الأعشى فليس يعرف الشعر.» وقال أبو عبيدة: «من قدم الأعشى، يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرفه في المديح والهجاء، وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره.» وقال يحيى بن الجون العبدي راوية بشار: «نحن حاكة الشعر في الجاهلية والإسلام، ونحن أعلم الناس به. أعشى قيس أستاذ الشعراء في الجاهلية، وجرير الخطفي أستاذهم في الإسلام.» وقال أبو عبيدة أيضا: «الأعشى هو رابع الشعراء المعدودين، وهو يقدم على طرفة؛ لأنه أكثر عدد طوال جياد، وأوصف للخمر، وأمدح وأهجى.» وسئل حماد الراوية: «من أشعر الناس؟ فقال: «ذاك الأعشى صناجها». وشهد له الأخطل فقال: «هو والمسيح أشعر مني.»
وفي الأعشى أقوال كثيرة غير هذه لا نرى حاجة إلى ذكرها، فإن ما أوردناه كاف لإظهار منزلة الشاعر عند الأئمة والأدباء الأقدمين. على أن هناك قولا لبعضهم ينطبق على الخاصة التي درسناها في شعره الخمري، وهو قولهم: «الأعشى في الجاهلية كالحسن في الإسلام.» ويعنون بالحسن أبا نواس الحسن بن هاني، وهذا التشبيه صحيح، إذا وضعنا حدا بين العصر الذي عاش به الأعشى، وما فيه من بداوة وخشونة، والعصر الذي عاش به أبو نواس، وما فيه من ترف ورخاء، فالأعشى كان يتعهر ويتطلب اللذة المادية في حبه وسكره ولهوه، وهكذا كان أبو نواس في العصر العباسي الأول. فكلا الشاعرين لها، وعبث، وتعهر على قدر ما أباحت له البيئة التي عاش فيها، وقد ظهر لهوه، وعبثه، وتعهره في شعره، فليس إذا بمستنكر أن نقول: «الأعشى في الجاهلية كالحسن في الإسلام.» (3) الخنساء (646م/24ه) (3-1) حياتها
هي تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد من بني سليم، ينتهي نسبها إلى مضر، وتكنى أم عمرو، وتلقب بالخنساء،
66
ولقبها غلب على كنيتها.
وكانت في أول عمرها من أجمل نساء عصرها، ورآها دريد بن الصمة تهنأ
67
بعيرا لها، فأعجبته، فجاء يخطبها إلى أبيها، فقال له أبوها: «مرحبا بك يا أبا قرة،
68
إنك للكريم لا يطعن في حسبه، والسيد لا يرد عن حاجته، والفحل لا يقرع أنفه،
69
ولكن لهذه المرأة في نفسها ما ليس لغيرها، وأنا ذاكرك لها وهي فاعلة.» ثم دخل إليها وقال لها: «يا خنساء، أتاك فارس هوازن، سيد بني جشم دريد بن الصمة يخطبك.» وكان دريد يسمع حديثهما، فقالت: «يا أبت ، أتراني تاركة بني عمي مثل عوالي الرماح، وناكحة شيخ بني جشم، هامة
70
اليوم أو غد؟» ثم أنشأت تقول:
أتكرهني، هبلت! على دريد
وقد طردت سيد آل بدر؟
71
معاذ الله يرضعني حبركى
قصير الشبر، من جشم بن بكر
72
يرى مجدا، ومكرمة أتاها
إذا عشى الصديق جريم تمر
73
ولو أصبحت في جشم هديا
إذا أصبحت في دنس وفقر
74
فخرج إليه أبوها فقال: «يا أبا قرة قد امتنعت، ولعلها أن تجيب فيما بعد.» فقال دريد: «قد سمعت قولكما.» وانصرف غضبان، وله من قصيدة في هجو الخنساء:
وقاك الله با ابنة آل عمرو
من الأزواج أشباهي، ونفسي
75
فلا تلدي ولا ينكحك مثلي
إذا ما ليلة طرقت بنحس
76
وتزعم أنني شيخ كبير
وهل خبرتها أني ابن خمس؟
77
تريد شرنبث القدمين شثنا
يقلع بالجديرة كل كرس
78
وما قصرت يدي عن عظم أمر
أهم به، ولا سهمي بنكس
79
فقيل للخنساء: «ألا تجيبينه؟» فقالت: «لا أجمع عليه أن أرده؛ وأن أهجوه.»
ثم تزوجت رواحة بن عبد العزيز السلمي، فولدت له عبد الله، ثم خلف عليها مرداس بن أبي عامر السلمي، فولدت له يزيد ومعاوية وعمرا وبنتا اسمها عمرة.
روى علقمة بن جرير قال: «لما كانت ليلة زفاف عمرة، كانت أمها جالسة ملتفة بكساء أحمر، وقد هرمت، وكانت تلحظ ابنتها لحظا شديدا. فقال القوم: «يا عمرة، ألا تحرشت بها، فإنها الآن تعرف بعض ما أنت فيه.» فقامت عمرة تريد حاجة، فوطئت على قدمها وطأة أوجعتها، فقالت لها، وقد اغتاظت: «أف لك يا حمقاء! إنني كنت أحسن منك عرسا وأطيب ورسا،
80
وأرق منك نعلا،
81
وأكرم بعلا،
82
وذلك إذ كنت فتاة أعجب الفتيان، لا أذيب الشحم،
83
ولا أرعى البهم،
84
كالمهرة الصنيع،
85
لا مضاعة، ولا عند مضيع.» فضحك القوم من غيظها. (3-2) مقتل أخويها
وكان للخنساء أخوان: أحدهما معاوية، وهو أخوها لأمها، والثاني صخر، وهو أخوها لأبيها، وكان أحبهما إليها، واستحق صخر ذلك لأمور منها: أنه كان موصوفا بالحلم، مشهورا بالجود، معروفا بالتقدم والشجاعة، محظوظا في العشيرة، وأجمل رجل في العرب.
قيل: إن عمرو بن الشريد أبا معاوية وصخر، كان يأخذ بيدي ابنيه ويقول: «أنا أبو خيري مضر» فتعترف له العرب بذلك.
وكان مقتل معاوية في يوم حورة الأول نحو سنة 612 للمسيح وهو يوم لسليم على غطفان، وقاتله هاشم بن حرملة ... ابن مرة الغطفاني، وغزا صخر بني مرة في العام التالي فأصاب منهم، وقتل دريدا أخا هاشم، وكان ذلك يوم حورة الثاني، ثم قتل هاشم بن حرملة، وقاتله عمر بن قيس الجشمي، وفيه تقول الخنساء:
فدى للفارس الجشمي نفسي
وأفديه بما لي من حميم
86
وأما صخر فكان هلكه
87
بجرح رغيب
88
أصابه في حرب الكلاب أو ذات الأثل،
89
وهو يوم بين سليم وأسد، فمرض من ذلك، وطال مرضه حتى ملته زوجه سلمى. فإذا عاده عائد وسألها على باب الخباء: «كيف أصبح صخر الغداة، وكيف بات البارحة؟» قالت: «لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى.» فيسمعها صخر فيشق ذلك عليه، وإذا سأل أمه أجابت: «أرجى له منا من يومنا، ولا نزال بخير ما رأينا سواده
90
فينا.» وأفاق صخر بعض الإفاقة، فأراد قتل زوجته فقال: «ناولوني سيفي لأنظر كيف قوتي.» فناولوه، فلم يطق حمله، وفي ذلك يقول:
أرى أم صخر لا تمل عيادتي
وملت سليمى مضجعي ومكاني
وما كنت أخشى أن أكون جنازة
عليك، ومن يغتر بالحدثان؟
91
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه
وقد حيل بين العير والنزوان
92
وللموت خير من حياة كأنها
معرس يعسوب برأس سنان
93
وأي امرئ ساوى بأم حليلة
فلا عاش إلا في شقا وهوان
94
ثم نكس بعد ذلك في مرضه، فمات في سنة 615م فوجدت
95
به الخنساء وجدا عظيما، وجلست على قبره زمانا طويلا تبكيه وترثيه، وفيه جل مراثيها. (3-3) الخنساء في الإسلام
ولما ظهر الإسلام قدمت الخنساء في قومها بني سليم فأسلموا جميعا، وقيل: رآها عمر بن الخطاب فسألها: «ما أقرح مآقي عينيك؟» قالت: «بكائي على السادات من مضر.» قال: «يا خنساء، إنهم في النار.» قالت: «ذاك أطول بعويلي عليهم، إني كنت أبكي لهم من الثار، وأنا اليوم أبكي لهم من النار.»
وحكي : أنها أقبلت في خلافته حاجة، فنزلت بالمدينة في زي الجاهلية، فقام إليها عمر في أناس من أصحابه، فإذا هي على ما وصف له، فعذلها ووعظها، وقال لها: «إن الذي تصنعين ليس صنع الإسلام، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية؛ وهم أعضاء اللهب وحشو جهنم.» فقالت: «اسمع مني ما أقول في عذلك إياي، ولومك لي.» فقال: «هاتي» فأنشدته:
سقى جدثا، أكناف غمرة دونه
من الغيث، ديمات الربيع، ووابله
96
أعيرهم سمعي، إذا ذكر الأسى
وفي القلب منه زفرة ما تزايله
97
وكنت أعير الدمع، قبلك، من بكى
فأنت، على من مات بعدك، شاغله
98
فتعجب عمر من بلاغتها، وقال: «دعوها فإنها لا تزال حزينة أبدا.»
ورأت عائشة زوج النبي على الخنساء صدارا
99
من شعر، فقالت: «يا خنساء، أتلبسين الصدار وقد نهى الرسول عنه؟» قالت «لم أعلم بنهيه.» قالت: «ما الذي بلغ بك ما أرى؟» قالت: «موت أخي صخر، ولصداري سبب.» قالت: «وما هو؟» قالت: «زوجني أبي رجلا متلافا لماله، فأسرع فيه حتى نفد، فقال لي: «أين تذهبين يا خنساء؟» فقلت: «إلى أخي صخر.» فلقيناه، فقسم ماله بيننا وبينه شطرين، ثم خيرنا، فقالت له زوجه: «أما كفاك أن تقسم مالك حتى تخيرهم؟» فقال:
والله لا أمنحها شرارها
وهي حصان قد كفتني عارها
100
ولو هلكت مزقت خمارها
واتخذت من شعر صدارها
101
فلما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا أخلف ظنه، ولا أكذب قوله ما حييت.»
وشهدت الخنساء حرب القادسية
102
ومعها بنوها الأربعة، وكانوا رجالا، فقالت لهم من أول الليل: «يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد،
103
كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت
104
حسبكم، ولا غيرت نسبكم، واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا
105
واتقوا الله لعلكم تفلحون. فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها
106
فتيمموا وطيسها،
107
وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والقيامة.»
فلما أصبحوا باكروا مراكزهم، فتقدموا واحدا بعد واحد، وهم يرتجزون ذاكرين وصية العجوز، حتى قتلوا عن آخرهم، فبلغها الخبر فقالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.»
وكان عمر يعطيها أرزاق بنيها الأربعة مئتي درهم عن كل واحد حتى قبض.
وتوفيت الخنساء في أول خلافة عثمان وكان موتها في البادية. (3-4) آثارها
ديوان شعر طبع في بيروت، كله في رثاء أخويها ولا سيما صخر، وأكثره قيل في الجاهلية، ولذلك خالفنا رأي من يعدها من الشعراء المخضرمين.
108 (3-5) ميزتها - الرثاء
الخنساء، ما الخنساء؟ ... إن هي إلا قمرية
109
على الغصون تبكي لفقد أليفها، فإذا شجاك نوح القماري، فشعر الخنساء لا بد أن يشجوك. فهو ذوب العاطفة المتألمة، والنفس الدامية، والوفاء الأخوي الثاكل.
وإذا همت الخنساء برثاء صخر، وصخر شقيق روحها، سابقتها الدموع إلى رثائه، فتفجرت من مآقيها، فإذا هي لا ترى غير عينيها عونا لها على الأسى، فتخاطبهما بشعرها، وما أكثر ما تستهل الخنساء قصائدها بخطاب عينيها، وإذا هي آنست في عينها جمودا أنبتها على بخلها، فكأنها لا تريدها إلا مغرورقة ندية، وإذا انتهت من حديث عينيها، فرغت للتلهف على أخيها، وتعداد شمائله وخلاله، فما تدع مكرمة إلا جعلتها فيه، ولا حسنة إلا وصفته بها. فهو أشجع الناس، وأكرمهم، وأعفهم، وأجملهم، وأنجدهم. ومما يزيد رثاءها حسنا أن مدحها لصخر لا يشوبه التكلف والجفاف، وإنما هو مشبع بصدق اللهجة وصدق العاطفة معا؛ يرافقه التفجع في جميع أقسامه، ولعل الغلو أظهر خاصة في الخنساء، فهي مغالية في حزنها ولوعتها، مغالية فيما تنعت به صخرا من النعوت الحسنة، ولكنه غلو صادق من حيث تفجعها وبريء من حيث وصفها لأخيها. فنحن نشعر بشدة آلامها عندما تذرف الدموع السخينة، وتخاطب عينيها، ونتبين إعجابها الكثير بأخيها، عندما تصف شجاعته فتصوره أسدا تاما بأنياب وأظفار، شثن البراثن، لاحق الأقراب. أو تصف جوده، فتجعله مأوى اليتيم، وغاية المنتاب، بارزا بالصحن مهمارا. أو تصف جماله، فهو البدر في صورته ومحياه.
ولا يقتصر غلوها على المعاني وما فيها من صور مادية بارزة، بل يتناول ألفاظها أيضا، فأكثر ما يكون لفظها في صيغ المبالغة التي تترك أثرا محسوسا في النفس. فمن تعابيرها الخاصة قولها: شهاد أندية، حمال ألوية، هباط أودية، نحار، مغوار، مسعار، أغر أبلج، أو أغر أزهر ... إلى غير ذلك من أمثلة المبالغة. ولها تعابير فخمة تتضمن الغلو في نفسها، مثال قولها: ضخم الدسيعة، إذا ركبت خيل لخيل ... وقد تختم رثاءها بالوقوف على القبر الذي ضم رفات أخيها، فما تدري كيف تظهر له تلك النعمة التي حلت عليه بحلول صخر فيه ... ماذا يواري القبر من كرم ...؟ أو من خير ...؟ أو من خلائق عفات مطاهير ...؟
فيتبين من كل ذلك أن رثاء الخنساء عاطفي بحت، لا يشوبه تكلف، ولا يرتفع بها الفكر إلى المعاني الحكمية التي نجدها في رثاء لبيد لأخيه. فهي حزينة لا تتعزى، وضعيفة لا تملك أن تعظ نفسها، ونادبة تهيج البواكي، وتستحث قومها على إدراك الثأر، وتثير نخوتهم بذكر مناقب أخيها، وإذا خطر لها أن تتأسى شيئا، فلكي تمنع نفسها عن الانتحار، لا عن التفجع والبكاء.
ومما يجدر ذكره أن شعر الخنساء خال من القصائد الطوال التي عرفناها في الشعراء الجاهليين. فأطول قصيدة لها الرائية: «قذى بعينيك أم بالعين عوار ...» وهي لا تتجاوز الخمسة والثلاثين بيتا، وأكثر شعرها أبيات ومقطعات، أو قصائد قصيرة. ولعل ذلك ناتج بعضه عن ضعف المخيلة في المرأة، وبعضه الآخر عن وحدة موضوع الشاعرة، وعدم تعدد أغراضها. فهي لم تطرق غير الرثاء، بما فيه من تفجع ومدح، وما يتبع المدح من ذكر غزوة، دون أن تعمد إلى وصف الحرب وتصويرها، وإنما تجعل همها في النواح على صخر، وإطراء شمائله وتمثيلها ماديا، مما جعل أفكارها محصورة في صور محدودة المعاني والتعابير.
على أن قصر قصائدها لا يضير شاعريتها، ولا يحط من منزلتها الأدبية فإنما هو زفرات متقطعة، وأفلاذ من حشاشتها الدامية. (3-6) منزلتها
هي أشعر النساء، وتفضل على كثير من فحول الشعراء. وقد عدها ابن سلام الثانية بين أصحاب المراثي، فقدم عليها متمم بن نويرة، وقدمها على أعشى باهلة، وكعب بن سعد الغنوي، وروي أن جريرا سئل: «من أشعر الناس؟» فقال: «أنا، لولا هذه الخبيثة» - يعني الخنساء - ففضلها على جميع الشعراء، وقدمها بشار على الرجال.
وكان النبي محمد يعجب بشعرها ، ويستنشدها فتنشده، وهو يقول: «هيه يا خناس!» ويومئ بيده.
وقصارى القول: إن شعر الخنساء مثال للرقة على غير ضعف، وعنوان الرثاء العاطفي غير مدافع. (3-7) درس أدبي تاريخي
زعم الرواة أن الخنساء وقفت في سوق عكاظ، فأنشدت النابغة
110
قصيدتها «الرائية» التي رثت بها صخرا، فأعجبه شعرها، وقال لها: «اذهبي فأنت أشعر من كل ذات ثديين، ولولا أن أبا بصير
111
أنشدني قبلك لفضلتك على شعراء هذا الموسم.» وكان ممن عرض شعره حسان بن ثابت فغضب وقال: «أنا أشعر منك ومنها.» فقال النابغة: «ليس الأمر كما ظننت.»
وهنا يزعم بعض الرواة أن النابغة قبض على يد حسان وقال: «يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فخنس
112
حسان لقوله، ويزعم غيرهم أن النابغة التفت إلى الخنساء وقال: «خاطبيه يا خناس.» فقالت له: «ما أجود بيت في قصيدتك هذه التي عرضتها آنفا؟» قال: قولي فيها:
لنا الجفنات الغر، يلمعن في الضحى
وأسيافنا يقطرن، من نجدة، دما
113
فقالت: «ضعفت افتخارك وأنزرته
114
في ثمانية مواضع في بيتك هذا.» قال: «وكيف ذلك؟» قالت: «قلت: الجفنات، والجفنات ما دون العشر، ولو قلت: الجفان لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة بياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر اتساعا، وقلت يلمعن، واللمع يأتي شيء بعد شيء، ولو قلت: يشرقن لكان أكثر؛ لأن الإشراق أدوم من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدجى، لكان أكثر طراقا،
115
وقلت: أسياف، والأسياف ما دون العشرة، ولو قلت: سيوف لكان أكثر، وقلت: يقطرن، ولو قلت: يسلن لكان أكثر، وقلت: دما، والدما أكثر من الدم.» فسكت حسان ولم يحر جوابا.
على أن هذا النقد فيه كثير من التكلف والتعنت لا تصح نسبته إلى شاعرة في الجاهلية خالية الذهن من قواعد اللغة، بعيدة من التصنع الذي ينافي فطرتها الطبعية. أضف إلى ذلك أن ناقد البيت لم يصب في نقده؛ لأن باب المجاز واسع في اللغة، ولولا المجاز لضاقت العربية على أبنائها، وسدت في وجوههم مذاهبها. هذا وإن جموع القلة تستعمل للكثرة كما تستعمل جموع الكثرة للقلة، وقد يستغنى ببعض أبنية القلة عن بعض أبنية الكثرة كرجل وأرجل، وببعض أبنية الكثرة عن بعض أبنية القلة كرجل ورجال، والخنساء نفسها لم يسلم شعرها من استعمال جمع القلة للكثرة، ولا يسلم منه شاعر في الجاهلية والإسلام. قال السموأل:
وأسيافنا في كل شرق ومغرب
بها من قراع الدارعين فلول
116
وقالت الخنساء:
سقى الإله ضريحا جن أعظمه
وروحه، بغزير المزن هطال
117
فالأعظم جمع قلة، مع أن جسم الإنسان يحتوي أكثر من عشر عظام.
وهكذا يمكن القول في الأفعال والأسماء التي تفيد الكثرة والقلة؛ فالأغر يغني عن الأبيض، وإن دل في أصله على بياض الجبهة، فيقال وجه أغر، ولا يراد به الجبين وحده، ولمع يقوم مقام أشرق توسعا، وعلى سبيل المجاز، ونرى أن قوله: «يلمعن في الضحى» أوقع من أن يقول: يشرقن؛ لأن الجفنات تلمع في نور الشمس لمعانا ولا تشرق إشراقا.
ولا ندري أين ذهب الناقد بالموضوع الثامن الذي ضعف فيه حسان بيته، فهو لم يذكر لنا إلا سبعة مواضع، ومن الغريب أن ينقل الرواة هذا النقد على اختلاطه مطمئنين، دون أن يبحثوا عن الموضع الثامن الضائع، أو أن يشكوا فيه وفي نسبته إلى الخنساء.
على أننا إذا تركنا النقد الأدبي جانبا، ونظرنا إلى هذه الرواية من حيث التاريخ تبين لنا جليا اصطناعها، وخطأ إسنادها إلى الخنساء. ذلك بأن صخرا أخاها قتل في يوم الكلاب أو يوم ذات الأثل نحو سنة 615م، ونحن نعلم أن النابغة مات سنة 602م، أي في السنة التي قتل فيها النعمان بن المنذر، أو في سنة 604م على رأي بعضهم، فكيف تسنى للخنساء أن ترثي صخرا، وتقف «برائيتها» في سوق عكاظ، وتنشدها أمام النابغة مع أن النابغة هلك قبل أخيها بنحو إحدى عشرة سنة على أقل تقدير ...؟ فالرواية - كما ترى - باطلة من أساسها، وربما كانت أثرا باقيا من عداء القرشيين والأنصار، أريد باختلاقها الطعن في شاعرية حسان بن ثابت الأنصاري. (4) الحطيئة (أدرك معاوية)
118 (4-1) حياته
هو جرول بن أوس بن مالك العبسي، ينتهي نسبه إلى مضر، ويلقب بالحطيئة لقصره وقربه من الأرض، ويكنى أبا مليكة، ومليكة ابنته، ولكن لقبه غلب على كنيته.
وكان مغموزا في نسبه؛ لأن أمه أمة يقال لها الضراء، وأباه أوسا مات ولم يعترف به، وكان لأوس زوج حرة من بني ذهل له منها ولدان، وكان للذهلية أخ يسمى الأفقم لفقمه.
119
فلما ولد الحطيئة جاء دميما شبيها به؛ فنسبته الضراء إلى الأفقم، ولم تنسبه إلى أوس خوفا من مولاتها، فنشأ الحطيئة متدافع النسب بين القبائل. فكان إذا دفعته عبس غضب عليها وقال أنا من ذهل، وإذا دفعته ذهل غضب عليها وانتسب إلى عبس.
روي أنه أتى أهل القرية
120
وهم بنو ذهل، وطلب ميراثه من الأفقم ومدحهم بقوله:
إن اليمامة خير ساكنها
أهل القرية، من بني ذهل
الضامنون لمال جارهم
حتى يتم نواهض البقل
121
قوم إذا انتسبوا، ففرعهم
فرعي، وأثبت أصلهم أصلي
فدفعوه ولم يعطوه شيئا، فحول المديح هجاء:
إن اليمامة شر ساكنها
أهل القرية، من بني ذهل
ثم عاد إلى بني عبس وانتسب إلى أوس بن مالك. (4-2) الحطيئة والإسلام
وأدرك الحطيئة الإسلام فانتحله دينا، ولكنه كان مغموز العقيدة كما كان مغموز النسب. فلما توفي النبي ارتد الحطيئة في جملة المرتدين، وقال في ذلك:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
فيا لعباد الله، ما لأبي بكر؟
أيورثها بكرا، إذا مات، بعده
وتلك، لعمر الله، قاصمة الظهر
122
ولكنه لم يجاهر بكفره، بل ظل يتكلف الدين رهبة لا رغبة، وفي نفسه ما فيها من النزوع إلى عيشة البدوي الحر الذي لم يكن قبل الإسلام يتقي سلطانا، ولا يرعى نظاما. (4-3) هجاؤه الزبرقان
123
كان النبي قد ولى الزبرقان بن بدر التميمي عملا. فلما ولي الخلافة عمر بن الخطاب قدم عليه الزبرقان في سنة مجدبة؛ ليؤدي صدقات قومه. فلقيه الحطيئة بقرقرى
124
ومعه ابناه أوس وسوادة وبناته وامرأته، فقال له الزبرقان وقد عرفه، ولم يعرفه الحطيئة: «أين تريد؟» قال: «العراق فقد حطمتنا هذه السنة.» قال: «وتصنع ماذا؟» قال: «وددت أن أصادف رجلا يكفيني مؤونة عيالي وأصفيه مدحي أبدا.» فقال له الزبرقان: «قد أصبته، فهل لك فيه يوسعك لبنا وتمرا، ويجاورك أحسن جوار وأكرمه؟» فقال له الحطيئة: «هذا وأبيك، العيش، وما كنت أرجو هذا كله.» قال: «فقد أصبته.» قال: «عند من؟» قال: «عندي.» قال: «ومن أنت؟» قال: «الزبرقان بن بدر.» قال: «وأين محلك؟» قال: «اركب هذه الإبل، واستقبل مطلع الشمس، وسل عن القمر حتى تأتي منزلي.» وكتب إلى زوجه أن تحسن إليه.
فسار الحطيئة وعياله إلى منزل الزبرقان، فلقي من زوجه إكراما وإحسانا. فبلغ ذلك بغيض بن عامر بن شماس ... ابن قريع التميمي، وكان جده جعفر يلقب بأنف الناقة،
125
فأرسل إلى الحطيئة أن يأتيه فأبى؛ فدس بغيض وإخوته إلى هنيدة امرأة الزبرقان أن زوجها إنما يريد أن يتزوج مليكة بنت الحطيئة، وكانت جميلة كاملة، فظهرت من المرأة للشاعر جفوة، وهي في ذاك تداريه. ثم أرادوا النجعة
126
فتقدموه، وتركوه يومين أو ثلاثة ولم يرجعوه إليهم. فألح عليه بنو أنف الناقة وقالوا له: «قد تركت بمضيعة.» فأجابهم الحطيئة وسار معهم فضربوا له قبة، وربطوا له بكل طنب
127
من أطنابها جلة هجرية
128
وأراحوا
129
عليه إبلهم، وأكثروا له من التمر واللبن، وأعطوه لقاحا
130
وكسوة. فلما قدم الزبرقان سأل عنه فأخبر بقصته، فركب فرسه وأخذ رمحه، وسار حتى وقف على نادي بني شماس القريعيين، فقال: «ردوا علي جاري.» فأبوا، وأوشك أن يكون بين الحيين حرب. ثم خير الحطيئة فاختار القريعيين. فجاء الزبرقان ووقف عليه وقال: «أبا مليكة، أفارقت جواري عن سخط وذم؟» قال: «لا»، فانصرف وتركه.
فجعل الحطيئة يمدح بني أنف الناقة من غير أن يهجو الزبرقان، وهم يحضونه على ذلك، فيأبى، ويقول: «لا ذنب للرجل عندي.» حتى أرسل الزبرقان إلى رجل من النمر بن قاسط، يقال له دثار بن شيبان، فهجا بغيضا بأبيات منها:
وما أضحى لشماس بن لأي
قديم في الفعال، ولا رباء
131
سوى أن الحطيئة قال قولا
فهذا من مقالته جزاء
132
فحينئذ هجا الحطيئة الزبرقان وناضل عن بغيض في قصيدته التي يقول فيها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي
فاستعدي عليه الزبرقان عمر بن الخطاب، فرفعه عمر إليه، واستنشده القصيدة، فأنشده إياها، فقال عمر: «ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة.» فقال الزبرقان: «أما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟» فقال عمر: «علي بحسان.» فجيء به، فسأله، فقال: «لم يهجه ولكن سلح عليه.» فألقاه عمر في بئر وحبسه، حتى كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره، فأخرجه من السجن، ودخل الحطيئة عليه فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
زغب الحواصل، لا ماء ولا شجر؟
فبكى عمر. فقال عمرو بن العاص: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة.»
وروى أن عمر اشترى من الحطيئة أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وقال له: «إياك وهجاء الناس!» قال: «إذن يموت عيالي جوعا، هذا مكسبي ومنه معاشي.» (4-4) موته ووصيته
اختلف في تاريخ موته، فزعم بعضهم أنه مات في أواخر خلافة عمر، وقال غيرهم إنه أدرك معاوية بن أبي سفيان، ونحن نميل إلى ترجيح القول الثاني استنادا إلى أخباره وشعره. فقد جاء في الأغاني بالإسناد إلى زيد بن أسلم عن أبيه: «أن عمر بن الخطاب لما أطلق الحطيئة قال له: «يا حطيئة، كأني بك عند فتى من قريش، وقد بسط لك نمرقة
133
وكسر لك أخرى وقال: «غننا يا حطيئة» فطفقت تغنيه بأعراض الناس.» فما انقضت الدنيا حتى رأيت الحطيئة عند عبيد الله بن عمر، وقد بسط نمرقه وكسر له أخرى، وقال: «غننا يا حطيئة» فجعل يغنيه. فقلت له: «يا حطيئة أتذكر قول عمر؟» ففزع وقال: «يرحم الله ذلك المرء، أما إنه لو كان حيا ما فعلت.» وقلت لعبيد الله: «سمعت أباك يقول كذا وكذا، فكنت أنت ذلك الرجل.»
فمن هذه الرواية نستدل أن عمر بن الخطاب مات قبل الحطيئة، وأن الشاعر لم يهلك في أواخر خلافته كما زعموا، وأما أنه أدرك معاوية فهذا ما نرجع به إلى رواية ثانية وإلى شعر الحطيئة نفسه.
قال ابن قتيبة والأصفهاني: أتى الحطيئة مجلس سعيد بن العاص ، وهو على المدينة يعشي الناس، فلما فرغ الناس من طعامهم وخف من عنده، نظر فإذا رجل على البساط قبيح الوجه كبير السن رث الهيئة، وجاء الشرط ليقيموه وهم لا يعرفونه. فقال سعيد: «دعوه.» وخاضوا في أحاديث العرب وأشعارهم، فقال الرجل: «ما أصبتم من الشعر أحسنه.» قالوا: «أوعندك علم من ذلك؟» قال: «نعم.» قالوا: «فمن أشعر الناس؟» قال: الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدما، ولكن
فقد من قد رزئته الإعدام
134
وأراد به أبا دؤاد الإيادي. قالوا: «ثم من؟» قال: «حسبكم بي، والله، إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى، ثم عويت في أثر القوافي عواء الفصيل الصادي.»
135
قالوا: «ومن أنت؟» قال: «أنا الحطيئة.» فرحب به سعيد، وقال: «لقد أسأت في كتمانك إيانا نفسك، وقد علمت شوقنا إليك ومحبتنا لك.» وأكرمه وأحسن إليه. فقال يمدحه:
لعمري، لقد أضحى على الأمر سائس
بصير بما ضر العدو، أريب
136
سعيد، فلا يغررك خفة لحمه
تخدد عنه اللحم، وهو صليب
137
إذا غبت عنا، غاب عنا ربيعنا
ونسقى الغمام الغر حين تؤوب
138
فنعم الفتى! نعشو إلى ضوء ناره
إذا الريح هبت، والمكان جديب
139
وذكر ابن سلام شيئا من هذا الشعر في طبقات الشعراء.
ومعلوم أن سعيد بن العاص لم يتول أمر المدينة إلا في أيام معاوية، مما يدل على أن الحطيئة أدرك هذا العهد.
ويروى للحطيئة وصية قبل موته، قد يكون فيها شيء من المبالغة والاصطناع، ولكنها لا تخلو من الفكاهة، ولا تعدو نفسية الشاعر ورقة دينه. قال ابن قتيبة وصاحب الأغاني: «لما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: «يا أبا مليكة أوص.» فقال: «ويل للشعر من راوية السوء.» قالوا: «أوص رحمك الله يا حطيء.» قال: «من الذي يقول:
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت
ترنم ثكلى أوجعتها الجنائز؟»
140
قالوا: «الشماخ.» قال: «أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب.» قالوا: «ويحك أهذه وصية! أوص بما ينفعك!» قال: «أبلغوا أهل ضابئ
141
أنه شاعر حيث يقول:
لكل جديد لذة غير أنني
رأيت جديد الموت غير لذيذ»
قالوا: «أوص ويحك بما ينفعك!» قال : «أبلغوا أهل امرئ القيس أنه أشعر العرب حيث يقول:
فيا لك من ليل كأن نجومه
بكل مغار الفتل، شدت بيذبل»
142
قالوا: «اتق الله ودع عنك هذا.» قال: «أبلغوا الأنصار أن صاحبهم
143
أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل»
144
قالوا: «هذا لا يغني عنك شيئا، فقل غير ما أنت فيه.» فقال:
الشعر صعب، وطويل سلمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
145
قالوا: «هذا مثل الذي كنت فيه.» فقال:
قد كنت أحيانا شديد المعتمد
وكنت ذا غرب على الخصم ألد
فوردت نفسي، وما كادت ترد
146
قالوا: «يا أبا مليكة ألك حاجة؟» قال: «لا والله، ولكن أجزع على المديح الجيد يمدح به من ليس له أهلا.» قالوا: «فمن أشعر الناس؟» فأومأ بيده إلى فيه وقال: «هذا الجحير،
147
إذا طمع في خير» يعني فمه، واستعبر باكيا. فقالوا له: قل: «لا إله إلا الله.» فقال:
قالت، وفيها حيدة وذعر:
عوذ بربي منكم، وحجر
148
فقالوا له: «وما تقول في عبيدك وإمائك؟» فقال: «هم عبيد قن
149
ما عاقب الليل النهار.» قالوا: «فأوص للفقراء بشيء.» قال: «أوصيهم بالإلحاح في المسألة فإنها تجارة لا تبور.» قالوا: «فما تقول في مالك؟» قال: «للأنثى من ولدي مثل حظ الذكر.» قالوا: «ليس هكذا قضى الله لهن.» قال: «لكني هكذا قضيت.» قالوا: «فما توصي لليتامى؟» قال: «كلوا أموالهم.» قالوا: «فهل شيء تعهد فيه غير هذا؟» قال: «نعم، تحملونني على أتان
150
وتتركونني راكبها حتى أموت. فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط.» فحملوه على أتان، وجعلوا يذهبون به ويجيئون عليها حتى مات وهو يقول:
لا أحد ألأم من حطيه
هجا بنيه، وهجا المريه
من لؤمه مات على فريه
151 (4-5) أخلاقه
ليست أخلاق الحطيئة مما يورث الحمد والثناء، فما تشاء أن تقول فيه من عيب إلا وجدته، فهو كما وصفه الأصمعي: «جشع، سؤول، ملحف،
152
دنيء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيل.» ولعل الجشع
153
هو الصفة الجامعة لسائر صفاته القبيحة؛ لأن طمعه الشديد في المال جعله سؤولا ملحفا، وكثرة التسآل تميت عزة النفس وتحيي الدناءة، ولا بد لدنيء النفس من أن ينافق في مصاحبة الناس، ويتلون بألوان متباينة، وخصوصا إذا كان كالحطيئة معتل النسب، أنكره أقرباؤه، وما اعترف به أبوه، ولم يشرف بأمه، فساءت حاله، وضاق رزقه، فلم يربأ بنفسه عن المداهنة للتكسب والانتفاع، فنافق في مدحه، ونافق في دينه؛ وجارى أهواء الناس في أعدائهم، وجارى هوى نفسه للانتقام والتشفي، فهجا وآلم في هجائه، فكثر شره وقل خيره، ولم يكن بخله الشديد إلا صفة متممة لجشعه ودناءته. فما قولك برجل يمدح الكرام، ويهجو البخلاء، وهو أبخل خلق الله وأجفه يدا؛
154
يطرد أضيافه ويشيعهم بالهجاء.
وللحطيئة في ضيوفه أخبار عجيبة، رواها صاحب الأغاني، منها: أن ابن الحمامة مر به وهو جالس بفناء بيته، فقال: «السلام عليكم.» قال: «قلت ما لا ينكر.» قال: «إني خرجت من عند أهلي بغير زاد.» فقال: «ما ضمنت لأهلك قراك.» قال: «أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك فأتفيأ به؟» قال: «دونك الجبل يفيء عليك.» قال: «أنا ابن الحمامة.» قال: «انصرف، وكن ابن أي طائر شئت.»
وضافه رجل من بني رؤاس فهجاه بهذين البيتين:
وسلم مرتين، فقلت: «مهلا!
كفتك المرة الأولى السلاما»
ونقنق بطنه، ودعا: رؤاسا
لما قد نال من شبع، وناما
155
على أن في هذا الرجل صفة حسنة، لعلها تشفع له في شيء من جشعه وبخله، وهي حبه لأولاده وحنوه عليهم. فقد رأيناه كيف استعطف عمر بن الخطاب وأبكاه بقوله: «ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ؟» وروى أبو عبيدة: أن الحطيئة أراد سفرا فأتته امرأته، وقد قدمت راحلته ليركب، فقالت:
اذكر تحنننا إليك وشوقنا
واذكر بناتك، إنهن صغار
فقال: «حطوا، لا رحلت لسفر أبدا.»
ويحدثنا محمد بن سلام: أن الحطيئة خرج في سفر له ، ومعه امرأته أمامة وابنته مليكة، فنزل منزلا وسرح ذودا له ثلاثا، فلما قام للرواح فقد إحداها فقال:
أذئب القفر، أم ذئب أنيس
أصاب البكر، أم حدث الليالي؟
156
ونحن ثلاثة ، وثلاث ذود
لقد جار الزمان على عيالي
157
ففي هذين البيتين، وفي عدوله عن السفر، وفي استعطافه عمر عاطفة صادقة وحنو ظاهر ملموس. (4-6) آثاره
ديوان في المديح والفخر والنسيب، وخصوصا الهجاء، وهو من أصحاب المشوبات
158
ومشوبته مدونة في «جمهرة أشعار العرب» ومطلعها:
نأتك أمامة إلا سؤالا
وأبصرت منها بعين خيالا
159 (4-7) ميزته
عرفنا أخلاق الحطيئة وصفاته، وعرفنا شيئا من أخباره وطرق معيشته، فيمكننا الآن أن نستند إليها جميعا؛ لنتبين ميزة الشاعر وخصائصه ومنزلته. فشعر الحطيئة صورة ناطقة عن حياته وأخلاقه، وهجاؤه أصدق ترجمان لسرائر نفسه.
على أننا لا نستطيع أن نجلو أساليبه الخاصة في النظم إلا إذا عرفنا أنه كان يروي شعر زهير بن أبي سلمى، ويحذو حذوه في تهذيب قصائده وتنقيحها، ويضرب على غراره في الاعتماد على الصور المادية المحسوسة.
ولكعب بن زهير أبيات في الحطيئة تدلنا على مبلغ تأثر هذا الشاعر بأستاذه وعنايته بتنخل
160
أشعاره. روى ابن سلام: أن الحطيئة كان راوية لزهير وآل زهير، فقال لكعب: «قد علمت روايتي شعركم أهل البيت، وانقطاعي إليكم، وقد ذهبت الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك، وتضعني موضعا بعدك، فإن الناس لأشعاركم أروى، وإليها أسرع.» فقال كعب:
فمن للقوافي شانها من يحوكها
إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
161
كفيتك، لا تلقى من الناس واحدا
تنخل منها مثل ما نتنخل
162
نثقفها حتى تلين متونها
فيقصر عنها كل ما يتمثل
163
فمن هذه الأبيات نعلم مذهب الحطيئة في تنقيح قصائده وتخير ألفاظها، وهو مذهب زهير وأبناء زهير. وأثر هذا التنخل ظاهر في حلاوة ألفاظ الشاعر ووضوح معانيه. (4-8) هجوه
قد يخيل إلى بعض من يسمعون بشهرة الحطيئة في الهجاء، والنيل من أعراض الناس، أننا سندرس فيه شاعرا بذيئا فحاشا، يخجل الأديب من رواية أشعاره. على حين أن الحقيقة غير ذلك، فلئن كان الحطيئة أكثر شعراء الجاهلية هجوا، لهو أقلهم فحشا، وربما غلبت العفة على لسانه فما ينطق بما تستحي العذراء أن تتلوه لأبيها، ولو نظرنا إلى قصيدته التي قالها في الزبرقان، وهي أشد قصائده الهجائية لذعا وأبعدها صيتا، لوجدنا أنها من أشرف الشعر، وأعفه وأنقاه. فهو مؤلم في هجائه، ولكنه لا يفحش، بل يقصر همه على رمي مهجوه بالبخل، وضعف الهمة، والقعود عن طلب المعالي، أو يفاضل بينه وبين خصمه فيفضل خصمه عليه. فكأنه يتوخى من هجائه أن يصيب الشخص في منزلته الاجتماعية ليس غير.
فلا ينبغي لك أن تعجب من قول عمر بن الخطاب الزبرقان: «ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة.» فعفة القول هي التي جعلت الخليفة الثاني ينكر الهجو ويحمله على محمل العتاب. زد على ذلك براعة الفن، فإن هجاء الزبرقان على شدة لذعه، منظوم في قالب شكوى يتخللها وعظ ومعاتبة. فنظر الإمام عمر صائب من حيث الظاهر، ونظر حسان بن ثابت صائب من حيث الفن. أفليس من العتاب والشكوى قوله: «وقد مدحتكم عمدا لأرشدكم ... أزمعت يأسا ...، جار لقوم ...، ملوا قراه ... إلخ.» أوليست الحكمة السامية في تلك الموعظة: «من يفعل الخير ...؟» ثم ألا ترى الهجو القاتل في قوله: «دع المكارم ... وجرحوه بأنياب ...، لقد مريتكم لو أن درتكم ...، ما كان ذنبي ...، قد ناضلوك ... إلخ.»
وفي شعره صور حسية ناتئة تذكرك زهيرا وصور زهير، فهو يترسم أستاذه في إبراز معانيه بشكل مادي ملموس، تجده في تشبيه الزبرقان بالناقة التي لا تدر، وفي مسحه ضرعها وإبساسه لها، وتجده في استعارته المتح والإمراس لطلب العرف والتملق، وتجده في قوله: «ولم يكن لجراحي فيكم آس» وهو يريد فقره وسوء حاله، وتجده في تجريحه بالأنياب والأضراس، وفي تمثيله مغالبة بغيض والزبرقان بصفاة راسية تقرعها المعاول فتتثلم دونها، وتجده أخيرا في تصويره مفاخرة آل شماس للزبرقان بنضال يخرجون فيه من كنائنهم مجدا تليدا ونبلا غير إنكاس، وأوصيك ألا تغفل عن الصورة الجميلة حيث يقول: «في بائس جاء يحدو آخر الناس.»
هذا، ولو لم يكن لنا رأي آخر في هجاء الحطيئة، لاكتفينا بهذا القدر مثالا لهجوه ومتاجرته بشعره. غير أننا نرى أن هجاء هذا الشاعر على نوعين: نوع تجاري يندفع إليه حبا للمال، كهجوه للزبرقان، ونوع عاطفي يندفع إليه من تلقاء نفسه حبا للتشفي والانتقام، كهجوه أمه، ونفسه، وأقرباءه، وأضيافه، وهو في هجوه العاطفي أشد مرارة ولذعا منه في هجوه التجاري؛ لأن هذا يأتيه عفوا لا تكلفا. فالحطيئة نشأ مغموز النسب لا يعرف أباه، ونشأ فقيرا محبا للمال حريصا على جمعه، فكان لا ينفك يسأل أمه عن أبيه؛ لينتسب إليه ويرث ماله، وهي تخلط عليه ولا تجيبه جوابا صريحا، فيشتد قهره، ويسخط على أمه الضراء وعلى نفسه، ثم يمضي وهو يقول:
تقول لي الضراء: لست لواحد
ولا اثنين، فانظر كيف شرك أولئكا
وأنت امرؤ تبغي أبا قد ضللته
هبلت! ألما تستفق من ضلالكا؟
164
ويشجوه ألا يجد مالا يرثه فيتلظى سخطا، ويزفر زفرات ملتهبة يقذفها براكين على الضراء.
وتتزوج أمه رجلا مغموز النسب كابنها يقال له الكلب بن كنيس، فما يجد الحطيئة فيه خيرا، ولا يرفع به رأسا، فيهجوه ويهجو أمه معه، وليست نقمته على أمه بأشد منها على نفسه، فإذا ثارت به عاطفة الانتقام لبؤسه وفقره، ولم يجد أحدا يهجوه، رأى من وجهه وقبح صورته موضوعا للهجاء فيقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
بشر، فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجها شوه الله خلقه
فقبح من وجه، وقبح حامله!
وحبه للمال بل بخله به يحمله على هجو ضيوفه هجوا صادقا، وقد أوردنا شاهدا على ذلك. (4-9) مدحه
قد نظلم الحطيئة إذا اقتصرنا على ذكر هجائه ولم نشر إلى مدحه، وهو متفنن في هذا تفننه في ذاك، ولا غرو، فالمدح عنده كالهجاء آلة للتكسب؛ فإذا لم يدر له المري والإبساس، استعان بالأنياب والأضراس، وإذا أخلف غيث الهجاء، استمطر عارض الثناء. ألا وإن من أروع الشعر استعطافه عمر بن الخطاب ومدحه إياه ففيه كثير من الحلاوة والرقة، وكثير من الحنو الأبوي، ومع أن الحطيئة لم يكن على شيء من الإسلام، فتأثير القرآن ظاهر على شعره، سواء في قوله: «فاغفر، عليك سلام الله يا عمر.» أو في قوله: «من يفعل الخير لا يعدم جوازيه.» وكذلك صلة الصور المادية بينه وبين أستاذه زهير لم تنقطع في قصيدته هذه، ولا في غيرها، وحسبك منه تشبيهه أولاده بالأفراخ، لما أراد الكلام عليهم، ثم لم يعتمد على الاستعارة المجردة بل رشحها بقوله: «زغب الحواصل» ليزيد صورته الحسية وضوحا وبروزا.
وللحطيئة مديح كثير غير هذا أجاده كل الإجادة، ولكننا نقتصر على ما ذكرنا؛ لأننا أخذنا على أنفسنا أن ندرس فيه خاصة الهجاء وحدها، وهي الخاصة التي شهرته وخلدت ذكره؛ وعسانا أن نكون وفيناها بعض حقها. (4-10) منزلته
للحطيئة منزلة عالية في الشعر يزاحم بها أفحل الشعراء، ويمتاز بحلاوة ألفاظه، ووضوح معانيه، وصحة تعبيره، وإحكام قوافيه، وبعده من الضعف والإسفاف، ولعل الفضل في ذلك لعنايته بتهذيب شعره وتنخله، وقد عده ابن سلام في الطبقة الثانية، وقال فيه: «هو متين الشعر شرود القافية.»
165
وروى حماد عن أبيه إسحق قوله: «أما إني ما أزعم أن أحدا بعد زهير أشعر من الحطيئة.» وقال أبو عبيدة: «ما تشاء أن تطعن في شعر شاعر إلا وجدت فيه مطعنا، وما أقل ما تجد ذلك في شعر الحطيئة.» وروي عن أبي صفوان الأحوزي قوله: «ما من أحد إلا لو أشاء أن أجد في شعره مطعنا لوجدته إلا الحطيئة.» وقيل لابن ميادة الشاعر: سبقك الحطيئة إلى قولك: «تمشى به ظلمانه وجآذره»
166
فقال: «والله ما علمت أن الحطيئة قال هذا قط، والآن علمت أني شاعر حين واطأت
167
الحطيئة.» وقال الأصمعي وقد أنشد شيئا من شعر الحطيئة: «أفسد مثل هذا الشعر الحسن بهجاء الناس وكثرة الطمع.»
ووقف الحطيئة على حسان بن ثابت وهو ينشد، فقال له حسان: «كيف تسمع يا أعرابي؟» قال: «ما أسمع بأسا.» قال حسان: «أما تسمعون إلى الأعرابي! ما كنيتك أيها الرجل؟» قال: «أبو مليكة.» قال: «ما كنت قط أهون علي منك حين اكتنيت بامرأة، فما اسمك؟» قال: «الحطيئة.» فأطرق حسان ثم قال له: «امض بسلام.»
وسئل الحطيئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانه ثم قال: «هذا إذا طمع.» وقد صدق بقوله، وهو أشهر الشعراء الهجائين الذين كثر عددهم في الإسلام.
هوامش
النثر في الجاهلية
(1) النثر
النثر لغة رمي الشيء متفرقا، وعكسه النظم فهو الضم والتأليف. ومن ذلك قال الأدباء: كلام منثور إذا كان لا يقيده وزن وقافية، وكلام منظوم إذا كان موزونا مقفى.
1
والنثر خلاف الشعر يغلب فيه التفكير الصحيح على الخيال المطلق، فلا غرو إذا أن يتقدم الشعر النثر؛ لأن الشعب في فطرته خيالي عاطفي أكثر منه عاقلا مفكرا، ونحن في كلامنا على النثر نعني به الإنشاء الفني لا الكلم الذي تتخاطب به الناس.
وإنه لمن العبث أن نلتمس هذا الفن في الجاهلية، ونضعه في درسنا إلى جانب الشعر؛ لأن ما وصل إلينا منه زهيد لا يعتد به، والسبب في ذلك: أن الإنسان الفطري - على أميته - فيه من قوة المخيلة والحس ما يفسح له في مجال التعبير الشفهي عن عواطفه وتصوراته دون أن يحتاج إلى الكتابة، ومعلوم أن الحياة الجاهلية، في حدودها السياسية والاجتماعية، لا تتسع للفن الكتابي الذي إنما هو ينشأ بنشوء الجماعات المنظمة، وينمو بنمو القوى المفكرة، ويعظم بعظم الحاجة إليه.
ورب معترض يقول: إن الكتابة كانت معروفة عند العرب في جاهليتهم. فنحن لا ننكر ذلك، ولكنهم كانوا يعتمدون عليها في حاجاتهم الاقتصادية، لا لتدوين شعرهم أو نثرهم، وإذا كان الشعر الجاهلي وصل إلينا منه شيء غير قليل؛ فلأن العرب في جاهليتهم نظموا أكثر مما نثروا، ولأن الشعر أسهل للحفظ والرواية من النثر. (2) ميزة النثر الجاهلي
النثر في الجاهلية موسيقي كالشعر، تتخلله أحيانا جمل موزونة مسجعة يأتي بها البدوي دون تكلف، وأكثر الجمل قصيرة موجزة، فيها قوة وبلاغة تعبير، ويمكننا أن نجد أمثلة للنثر الجاهلي في بعض ما وصل إلينا من الخطب والأمثال، ولكن هذه الأمثلة - على قلتها - لا تكفي وحدها لإبداء رأي صحيح في هذا الفن الأدبي. (3) الخطب
لم يكن حظ الخطابة في العصر الجاهلي كحظها في صدر الإسلام، ولكنها وجدت فيه على قدر ما ، واشتهر خطباء مصاقع كقس بن ساعدة الإيادي، وأكثم بن صيفي التميمي وغيرهما.
وأكثر ما كانت الخطب عندهم قصيرة، لقلة تعدد أغراضها، ولأنها أسهل للحفظ، وكانوا يتخيرون لها الألفاظ المأنوسة ، والمعاني الواضحة بغية التأثير والإقناع، وربما تخللها الشعر دون تعمد من الخطيب؛ لأن نثرهم، بما فيه من رنة موسيقية وتقيد أحيانا بالوزن والقافية، يندمج في الشعر من تلقاء نفسه، فيتحول نظما ثم يعود إلى حاله، وربما لا يشعر الخطيب بهذا الاندماج لتشابه النثر والشعر عندهم.
على أن هذا التشابه لا يعني أن العرب في جاهليتهم لم يفرقوا بين النظم والنثر. فقد كان للشعراء مكانة، وللخطباء مكانة دونها. فالشعر أحفظ لمفاخر القبيلة وأنسابها، لأنه أسهل للرواية، ولو كان النثر عندهم كالشعر لوصلت إلينا خطبهم في كثرتها، كما وصلت إلينا أشعارهم.
وقد يكون الشاعر خطيبا، والخطيب شاعرا، ولكن تغلب عليه إحدى الصفتين فيسمى بها، وغالبا يكون خطيب القبيلة شيخها أو أميرها، وقد يكون قاضيها وقائدها معا.
وبعد، فلا يسوغ لنا أن نعد الخطابة في الجاهلية مرتكزة على القواعد العامة، فإنها إنما كانت كالشعر تأتي بعامل السليقة والفطرة، لا بالاعتماد على الفن التعليمي وما فيه من مقدمات ونتائج. وكانت موضوعات الخطب محصورة في أغراض محدودة: (1)
المواعظ الدينية. (2)
المفاخرة والمنافرة.
2 (3)
التحريض على الأخذ بالثأر. (4)
الحض على الصلح بعد الحرب. (5)
الوصايا والنصائح.
3
وجميع هذه الموضوعات تناسب الحياة البدوية، وما في القبائل من اختلاف وانفصال واستقلال. (4) الأمثال
للعرب في جاهليتهم أقوال كثيرة ذهبت أمثالا. فمنها ما كان شعرا، ومنها ما كان نثرا، وقد جمع الميداني طائفة كبيرة منها في كتابه الموسوم: «بمجمع الأمثال»، ولهذه الأقوال فائدة لا تنكر؛ لصدورها عن مختلف طبقات الشعب، فيمكننا أن نعرف فيها شيئا كثيرا من أخلاق العرب وأحوالهم، وهي في جملها القصيرة تمثل بلاغة الجاهلي وإيجازه، ومقدار ما وصل إليه من قوة التعبير، ولكن الأمثال الجاهلية مخلوطة بالأمثال الإسلامية، فلا يتسنى التمييز بينهما إلا إذا كان في المثل ما يدل على جاهلية صاحبه، وهاك شيئا منها:
إن الهزيل إذا شبع مات.
4
أول الشجرة النواة.
5
أم الجبان لا تفرح ولا تحزن.
6
أتى عليهم ذو أتى.
7
إن أخاك من آساك.
8
إن كنت كذوبا فكن ذكورا.
9
بكل واد أثر من ثعلبة.
10
برق لو كان له مطر.
11
المرء بأصغريه.
12
على أنه لو أتيح لنا معرفة الأمثال جاهليها وإسلاميها، لما أعطتنا صورة تامة عن النثر قبل الإسلام؛ لأنها جمل مقتضبة لا تنشئ في ذاتها أدبا صحيحا نستطيع التعويل عليه، وإذا كان لا بد لنا من درس النثر الجاهلي على حقيقته فلا ينبغي أن نلتمسه في الجاهلية استنادا إلى خطبهم وأمثالهم، بل في صدر الإسلام استنادا إلى خطب النبي والخلفاء الراشدين والأمراء وغيرهم من الصحابة، فإن فيها مثالا صادقا للنثر العربي في جاهلية أصحابه.
هوامش
صدر الإسلام
622-750م/1-132ه
يبتدئ بالهجرة النبوية، وينتهي بسقوط الدولة الأموية وقيام العباسيين.
لمحة تاريخية
(1) محمد
ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي في مكة في سنة 570م، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف من قريش، وكانت حاملا به لما توفي زوجها - أبوه - ولم يترك لهما من المال إلا خمسا من الإبل، وقطيعا من الغنم، وجارية. فكفل الصبي جده عبد المطلب. ثم ماتت أمه، ومات جده، فكفله عمه أبو طالب والد علي، وكان قليل المال كثير العيال، فنشأ محمد يتيما في كنف عمه، حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره تزوج خديجة بنت خويلد، وهي في الأربعين من عمرها، وكانت من أغنياء قريش وأشرافهم، فأمدته بمالها فأيسر واتسعت حاله.
وكان يميل إلى العزلة، ويذهب إلى غار قرب مكة يسمى غار حراء، فينفرد فيه متعبدا، وبينا هو نائم ذات ليلة في الغار، نزل عليه الوحي، وكان قد بلغ الأربعين، فأخبر زوجه خديجة بما رأى، فسارعت إلى قبول دعوته، ثم تبعه بعدها ابن عمه علي بن أبي طالب، وأبو بكر.
ولكن قومه أنكروا دعوته، وسخروا منه وقالوا: «ساحر أو مجنون.» ثم أخذوا يضطهدونه وأتباعه، فيئس منهم، فحول وجهه شطر الطائف،
1
ودعا أهلها، فإذا هم أقسى من قريش، وأغروا به سفهاءهم فرجموه بالحجارة.
ثم علم أن قومه يريدون الإيقاع به، فهاجر من مكة إلى يثرب مستخفيا، فلقي في يثرب من أهلها قبيلتي الأوس والخزرج أتباعا يناصرونه فسموا الأنصار، وسمي الذين هاجروا مع النبي المهاجرين ، وسميت يثرب المدينة، أي مدينة الرسول، ومن ذاك التاريخ يبتدئ التاريخ الهجري، أي سنة 622م.
وساء القرشيين أن ينجو النبي ويحتمي في يثرب، ويلاقي هناك أنصارا، فناصبوا أهلها العداء، وقابلهم هؤلاء بالمثل، فقطعوا الطرق على قوافلهم، فابتدأت الغزوات يتبع بعضها بعضا، وكان النصر في أكثرها حليف المسلمين، حتى فت في عضد المشركين، فغزا النبي مكة بعشرة آلاف مقاتل فافتتحها سلما في سنة 630م /9ه، ووقعت قريش في يده، فأمنهم وأسلموا. ثم دخل الكعبة وأزال ما بها من أصنام وصور وتماثيل، وأخذ العرب يدخلون في الإسلام أفواجا بعد أن أسلمت قريش وهي صاحبة الزعامة هناك، فتم النصر للنبي، وبني حجر الزاوية في الوحدة العربية الإسلامية، وظل يسوسها حتى قبض يوم الإثنين في 12 ربيع الأول سنة 11ه/8 حزيران سنة 632م، وكانت وفاته بالمدينة، وفيها قبره. (2) الخلفاء الراشدون - أبو بكر
اختلفت الصحابة بعد موت الرسول فيمن يبايعونه بالخلافة، فأبى المهاجرون من قريش إلا أن يكون الخليفة منهم، وأبى الأنصار عليهم ذلك، وقالوا: «منا أمير ومنكم أمير.» واشتد النزاع حتى كادت تقع الفتنة، فقال لهم أبو بكر: «منا الأمراء ومنكم الوزراء، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح.» فقام عمر وبايع أبا بكر، وبايعه أبو عبيدة؛ وبايعه الناس. فقال الأنصار: «لا نبايع إلا علي بن أبي طالب.» وكان علي قد تخلف عن المبايعة، وتخلف معه بنو هاشم، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله. فما زال بهم عمر بن الخطاب حتى حملهم جميعا على مبايعة أبي بكر، فاستتب له الأمر. ثم ارتدت أغلب قبائل العرب عن الإسلام، فحاربهم حتى خضد شوكتهم، وأرجعهم إلى الدين، وفي أيامه افتتح خالد بن الوليد العراق، وضرب الجزية على أهله، ومات أبو بكر وجيوش المسلمين تحارب الأروام في اليرموك من أرض فلسطين. قيل: إنه مات مسموما في طبخة أرز، وقيل: بل استحم في يوم شديد البرد فحم ومات، وكانت خلافته من 632-634م/11-13ه. (3) عمر بن الخطاب
وكان قد أوصى بعده بالخلافة لعمر بن الخطاب فبويع بها، وعلى عهده تم فتح اليرموك والقدس ودمشق وفارس ومصر، ومات عمر مقتولا، قتله فيروز أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة من أجل خراج درهمين لم يعفه منهما عمر؛ لورعه وحرصه على بيت المال، وكانت خلافته من 634-644م/13-23ه. (4) عثمان بن عفان
وكان عمر قد جعل قبل وفاته مجلس شورى للخلافة من ستة أشخاص، بينهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، فتشاوروا فيما بينهم وبايعوا عثمان بعد جدال.
وعلى عهد عثمان فتحت إفريقية وقبرص، لكنه لم يكن محبوبا لحصره ولايات الحكم في أقربائه، فطلب منه الناس أن يعتزل فأبى، فحاصروه في داره أربعين يوما، ثم تسلق محمد بن أبي بكر مع رجلين حائط قصره، فقتلوه بالحراب والعمد، وكانت خلافته من 644-655م/23-35ه. (5) علي بن أبي طالب
ثم بويع علي بن أبي طالب، فتخلف عن مبايعته بنو أمية أقرباء عثمان، وبعض الصحابة، وكان علي من الأبطال المغاوير والفرسان المعدودين، ومن أفصح العرب وأخطبهم، وأتقى الناس وأورعهم، ولكنه لم يكن موفقا في الخلافة، لأنه لم يعرف أن يداهن في سياسته، وكانت عائشة زوج النبي تؤلب على عثمان وتطعن فيه رغبة منها في طلحة، فلما بويع علي ولم يبايع الناس طلحة، صرخت: «وا عثماناه! ما قتله إلا علي.» وعلم بالأمر طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وكانا بايعا عليا، فرجعا عن مبايعتهما وانضما إلى عائشة، يناصبان معها ابن أبي طالب العداء.
ولم يكن معاوية يومئذ يطمع في الخلافة، ولكنه توقع العزل عن ولاية دمشق فآلمه الخطب، فجاهر بعداء علي، وألف حزب «العثمانية» من أقرباء عثمان للمطالبة بدم الخليفة «الشهيد» أو «المظلوم».
وذهب بنو أمية وعائشة ومحازبوهم إلى البصرة، فنتفوا لحية ابن حنيف أميرها، فجاء المدينة وقال لعلي: «بعثتي ذا لحية وقد جئتك أمرد.» قال: «أصبت أجرا وخيرا .» (6) واقعة الجمل
ورأى علي أن الفتنة قائمة ولا بد من إخمادها، فسار إلى البصرة بسبعة آلاف مقاتل، فالتقاه حزب عائشة وطلحة والزبير في جيش كبير، فاقتتلوا قتالا شديدا، وكانت عائشة على جمل تحرض الرجال على الإقدام، فرمي هودجها وهو كالقنفذ لما علق به من النبال، بعد أن قطع على خطام
2
الجمل سبعون يدا، ولكنها لم تصب بأذى، وأرجعها علي إلى المدينة مكرمة، وانتهت الواقعة بانتصار علي، وقتل الزبير، وجرح طلحة جرحا لم يلبث أن مات به، وسميت هذه الحرب: واقعة الجمل، إشارة إلى جمل عائشة. (7) واقعة صفين
ثم سار علي لمحاربة معاوية فقطع الفرات إلى الرقة فالتقى جيوش معاوية في سهول صفين، وهو موضع غربي الرقة على ضفة الفرات اليمني، فاقتتلوا ثم تهادنوا، ثم اقتتلوا، وكانت «ليلة الهرير» أحماها وطيسا، إذ حمل الأشتر النخعي قائد جيوش علي حملة زحزحت جيوش الشام عن مراكزها، وبينا جيوش العراق يتقدمون والنصر حليفهم؛ إذ رأوا المصاحف
3
مرفوعة على رءوس الحراب في جيش معاوية، فهابوا، وتوقفوا عن القتال، فأخفق علي بحيلة عدوه ثم اقترح عليه معاوية التحكيم، فرضي به مكرها. (8) التحكيم
وأقام معاوية عنه حكما عمرو بن العاص، وهو داهية مثله، واقترح علي على أصحابه أن يقيم حكما أبا موسى الأشعري، وكان قصير الرأي، فأقامه علي على غير رغبة منه. فأخلي للحكمين مكان يجتمعان فيه مدة ثلاثة أيام، فأقبل عمرو بن العاص على أبي موسى بأنواع من الطعام يشهيه بها، حتى إذا استبطن أخذ يقنعه بأن يخلع عليا وهو يخلع معاوية، فتنجو الأمة من الفتنة، وتحقن الدماء. فرضي أبو موسى بذلك، على أن يبايع بالخلافة عبد الله بن عمر بن الخطاب.
ولما كان يوم التحكيم، اجتمع القوم على مقربة من مكان يعرف بدومة الجندل، فقام أبو موسى فخلع عليا، ولكن ابن العاص لم يسقط معاوية كما وعد وأقسم، بل أثبته في الولاية على دمشق، وأجاز له حق المطالبة بدم الخليفة الشهيد. فاضطرب جيش علي لهذا الحكم وأبى علي أن يذعن له، وأراد استئناف القتال، ولكن شغله أمر الخوارج من جيشه. (9) الخوارج
كان قسم كبير من جيش العراق رفض التحكيم، فلما رأوا ما آلت إليه نتيجته غضبوا وخرجوا على علي، ولم يرجعوا معه إلى الكوفة، بل ساروا إلى حروراء
4
ثم احتلوا المدائن
5
وعاثوا فيها فسادا، نابذين كل سلطة متخذين شعارهم (الحكم لله لا للناس)، وحجتهم في ذلك أن عليا ومعاوية كافران، فعلي كفر؛ لأنه رضي بالتحكيم، وشك فيما كان يعتقد من أنه صاحب الحق الشرعي في الخلافة، وما كان له أن يشك في هذا الحق. فأما وقد فعل فليس من الخلافة في شيء، وقد تجاوز الدين فلا بد له من الاعتراف بالكفر ثم يتوب إلى الله، وإلا فالخوارج حرب عليه. ومعاوية كفر؛ لأنه وال بغى على الخليفة، فلما خشي الانكسار لجأ إلى التحكيم خديعة وكيدا، فالخوارج عدو له.
فلما استفحل أمرهم قصدهم علي بجيشه فالتقوا بالنهروان
6
فأكثر فيهم التقتيل، وأرجع بعضهم سلما. (10) مقتل علي
ثم عاد علي إلى الكوفة يتأهب لقتال معاوية، وفي أثناء ذلك اتفق ثلاثة من الخوارج على قتل «أئمة الضلال» في ليلة واحدة، وأرادوا بهم: عليا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ولكن لم يقتل من هؤلاء الثلاثة غير علي، ونجا الآخران، وقاتله عبد الرحمن بن ملجم ضربه بسيف مسموم وهو في مسجد الكوفة يريد الصلاة
7
فمات بعد ثلاثة أيام، وعمره 63 سنة، وخلافته من 655-661م/35-40ه.
وبويع الحسن بن علي في الكوفة بعد مقتل أبيه، ولكنه تنازل لمعاوية نفورا من الحرب، وكانت مدة خلافته خمسة أشهر: من 661-661م/40-41ه. (11) الخلفاء الأمويون
استولى معاوية على الخلافة بدهائه، وانتزعها انتزاعا من ابن بنت الرسول
8
فجعل قاعدته دمشق بدلا من المدينة؛ لأن أنصاره في الشام ولولاهم لما تم له الظفر، وتمكن بسياسته وحزمه من توطيد دعائم مملكته؛ على ما كان يهددها من شر الخوارج الحرورية في الجزيرة، ومن ثورات أنصار علي وأبنائه في الكوفة وما يليها من العراق، وبلغ به الأمر أن جعل الخلافة وراثة بعد أن كانت شورى، ونادى بابنه يزيد وليا لعهده، وحذا حذوه من جاء بعده من الخلفاء.
وظلت الخلافة في بني أمية من سنة 661-750م/41-132ه. فتعاقب عليها منهم أربعة عشر ملكا، أولهم معاوية، وآخرهم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الملقب بالحمار لصبره على الأعمال. ثم انتقلت إلى بني العباس.
فيتضح مما تقدم أن صدر الإسلام صدران: الأول عصر المخضرمين
9
أي الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام وهو عصر النبي والخلفاء الراشدين، والثاني عصر بني أمية. فينبغي أن ندرس شعر كل عصر على حدة؛ لأن ميزة الصدر الأول تختلف اختلافا بينا عن ميزة الصدر الثاني، وأما النثر فلا يصح درسه إلا إذا جمعنا العصرين معا.
هوامش
الشعراء المخضرمون
(1) ميزة الشعر المخضرم
لا نجد فرقا بين الشعر الجاهلي والشعر المخضرم من حيث الإيجاز وقوة التعبير، وطريقة النظم، وتعدد الموضوعات، وبراعة الوصف ... إلى غير ذلك مما مر بنا وعرفناه. فالشعر المخضرم جاهلي في أصله، ولكن فيه خصائص جديدة: منها ما رأيناه في الشعراء الذين عاشوا في السنوات الملاصقة للإسلام أو أدركوه، فبدا لنا تطور في لغتهم، ورقة في ألفاظهم، ووضوح في معانيهم، ومنها ما انفرد به الشعر المخضرم عن الشعر الجاهلي فكان له ميزة خاصة.
ويمتاز الشعر المخضرم بتلك النفحة الدينية التي نفحه بها الإسلام بعد ظهوره، فلا ترى فيه يأسا من الحياة وتبرما بمصيرها شأن الشعر الجاهلي، بل تلمس به ارتياحا شديدا إلى نعيم الآخرة، إلى الجنة التي وعد بها القرآن المتقين، واكتسب الشعر المخضرم خصوصا، واللغة عموما، تعابير جديدة من القرآن، وألفاظا لم تكن مألوفة من قبل، كالجنة والنار، والكفر والإيمان، والصلاة، والزكاة، والركوع، والوضوء إلخ ... وهذه الألفاظ كانت معروفة في الجاهلية ولكنها - في أكثرها - لم تكن تدل على معانيها المستحدثة في الإسلام، واكتسب الشعر أيضا نوعا جديدا وهو الهجاء السياسي، هجاء مر مقذع أليم، كان بين شعراء النبي، وشعراء قريش والأحزاب.
على أن الشعر أصابه فتور بعد وفاة النبي، فلم يجد من الخلفاء الراشدين مشجعا، وربما نهوا عنه، وزجروا الشعراء. بيد أن هذا الفتور لا يعني أن الشعر خمدت ناره، فقد بقي في الشعراء طائفة لم تنصرف عنه كالحطيئة مثلا، وكعب بن زهير، وحسان بن ثابت، والشماخ بن ضرار، والنابغة الجعدي وغيرهم. إلا أنه لم يكن له ذلك الازدهار الذي عرفه في حياة الرسول. (2) شعراء النبي وشعراء قريش
عرفنا أن قريشا أنكروا على محمد دعوته، وحاربوه نحو ثماني سنوات بعد هجرته ، ولم تقتصر الحرب على السيف وحده، بل كان للشعر فيها شأن كبير. فإن شعراء قريش وأحزابها أخذوا يهجون النبي هجاء مرا، ويسفهون رسالته، ويسخرون منها، ويعيرون تابعيه الأنصار والمهاجرين. فاضطر النبي أن يقابلهم بسلاحهم؛ لما للشعر من التأثير في نفوس القبائل العربية، فأرسل عليهم ثلاثة من شعراء الأنصار، وهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل أقوالهم ويفاخرانهم بالوقائع والأيام والمآثر، ويذكران لهم مثالبهم. أما عبد الله فكان مقتصرا على تعييرهم الكفر.
وقد استفاد الشعر من هذه الملاحيات فنهض نهضة عظيمة، وغزرت مادته، وكثر القول بكثرة الشعراء، ولا سيما شعراء قريش، وكانت قبلا لا تذكر مع القبائل في الشعر، واشتهر من شعرائها أربعة هاجوا النبي وقاوموا شعراءه، وهم عبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطاب، ولكن لم يصل إلينا من شعرهم إلا شيء يسير ليس فيه غناء، ولا عجب أن تطمس أشعارهم وأشعار غيرهم من الذين ناصبوا الرسول العداء، خصوصا بعد أن أسلمت قريش، وأصبحت جزيرة العرب لا يسودها دين غير الإسلام، لا عجب أن تطمس هذه الأشعار، فإن فيها ما يثير الحزازات وينبه كوامن الأحقاد؛ وإن فيها من هجاء النبي وأصحابه ما يمنع المسلمين عن روايتها، بل ما يهيب بهم إلى التعفية عليها ومحو آثارها.
ونحن، في بحثنا الشعر المخضرم، سنقتصر على درس حسان بن ثابت أنبه الشعراء الذين دافعوا عن الرسول وأخصبهم آثارا، وعلى كعب بن زهير للاميته الشهيرة التي اعتذر بها إلى النبي يوم إسلامه. (3) الشعراء المخضرمون
وقد نظرنا إلى الشعراء المخضرمين من حيث شعرهم لا من حيث حياتهم. فعددنا لبيدا والخنساء من الجاهليين؛ لأن أكثر شعرهما في الجاهلية، وعددنا حسان وكعبا من المخضرمين؛ لأن ريحهما هبت في الإسلام.
1
أما الحطيئة فقد اشتهر في العصرين، ولكنه لم يتأثر بالإسلام كثيرا، فتركنا له جاهليته. (3-1) كعب بن زهير (662م/42ه ؟)
حياته
هو كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، نشأ في بيت يكتنفه الشعر من كل جانب؛ كما عرفنا في كلامنا على والده زهير، فنشأت معه ملكة الشعر، فما ترعرع حتى نظمه، ولكن والده زجره عنه وضربه مخافة أن تكون شاعريته لم تستوسق
2
بعد، فيروى له ما لا خير فيه. على أن الزجر والضرب لم يصرفا الولد عن الشعر، وهو جد كلف به، فلبث يقوله غير مرتدع حتى ضاق والده ذرعا، فأردفه على ناقته، وانطلق به إلى الصحراء، وأخذ يقول البيت ويستجيز ابنه فيجيز، فوثق عندئذ باستحكام ملكته، وأذن له بقول الشعر.
كعب في الإسلام
لم يحدثنا الرواة كثيرا عن حياة كعب، فنحن لا نكاد نعلم عنها ما يستحق الذكر إلا خبر إسلامه، واعتذاره إلى النبي بقصيدته الشهيرة، وذلك أن بجيرا أخا كعب وفد إلى محمد في أواخر السنة السابعة للهجرة فأسلم، فاستاء كعب من أخيه، وقال فيه أبياتا يؤنبه ويحثه على الارتداد.
وبلغت أبياته النبي فأهدر دمه. ثم شهد بجير فتح مكة وانتصار محمد، فأرسل إلى أخيه كعب يحذره ويخبره بانخذال قريش، وفرار عبد الله بن الزبعري، وقال له: «قد أوعد الرسول رجالا بمكة فقتلهم، وهو والله قاتلك أو تأتيه فتسلم.» فاستطير كعب، ولفظته الأرض،
3
ثم قدم المدينة متنكرا، واستجار بأبي بكر، فأتى به المسجد وهو متلثم بعمامته، وقال: «يا رسول الله، رجل يبايعك على الإسلام.» فبسط النبي يده فحسر كعب عن وجهه، وقال: «هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير.» فتجهمته الأنصار وغلظت عليه، ولانت له قريش وأحبوا إسلامه وإيمانه. فأمنه محمد، فأنشده كعب قصيدته «بانت سعاد» فسر بها الرسول، ولما وصل إلى قوله:
إن الرسول لسيف يستضاء به
مهند من سيوف الله، مسلول
خلع عليه محمد بردته،
4
وقد بذل معاوية لكعب فيها عشرة آلاف درهم فلم يبعها، فلما مات اشتراها معاوية من ورثته بعشرين ألف درهم، وقيل بثلاثين، وتوارثها الخلفاء الأمويون والعباسيون، ويقال إنها وصلت إلى سلاطين آل عثمان، وهي البردة التي يلبسها الخلفاء في العيدين.
ومدح كعب في قصيدته المهاجرين من قريش، وعرض بالأنصار لغلظتهم عليه. فأنكر المهاجرون قوله في الأنصار، وقالوا: «لم تمدحنا إذ هجوتهم.» ولم يقبلوا ذلك حتى قال فيهم:
من سره كرم الحياة، فلا يزل
في مقنب من صالحي الأنصار
5
وكانت وفاة كعب في خلافة معاوية، وجعل بعضهم
6
موته في السنة الرابعة والعشرين للهجرة، مع أنهم ذكروا رواية البردة. فكان عليهم أن ينتبهوا إلى أن الشاعر أدرك الخليفة الأموي الأول؛ لأن معاوية لم يفكر في اشتراء البردة من كعب إلا بعد أن تبوأ سدة الخلافة.
آثاره
أبيات متفرقة في كتب الأدب. أشهرها لاميته «بانت سعاد» وهي معدودة من المشوبات، وقد شرحها كثيرون، وشطرها غير واحد.
ميزته - بانت سعاد
علمنا في كلامنا على الحطيئة أن كعبا كأبيه زهير يهذب شعره، وينتقي ألفاظه، ويتخير معانيه، وأوردنا له أبياتا يصف فيها نفسه والحطيئة بتنخل القوافي
7
وتثقيفها، ولا عجب أن يشبه الولد أباه وهو سره، وسنرى في درسنا «مشوبته» أن له خاصة زهير في براعة التشبيه والتصوير الحسي، وله خاصته أيضا في إرسال الأمثال الحكمية، وقد نكون منصفين إذا قلنا: إن زهيرا وكعبا والحطيئة ينتحلون مذهبا أدبيا ذا صبغة واحدة. على أننا نجد في شعر كعب كثيرا من اللفظ الغريب، وقد عزاه الدكتور طه حسين إلى أن كعبا قلد فيه أستاذ أبيه أوس بن حجر، ولعله مصيب برأيه، فإن زهيرا كان راوية أوس - كما علمنا - وعنه أخذ أسلوبه الوصفي، وما فيه من التشابيه والصور المادية، وكان أوس جاهليا قديما يؤثر اللفظ الغريب في شعره. فجاء شعر كعب وعليه طابع المذهب الزهيري، أو المذهب الأوسي على رأي الدكتور، مع إيثار الغريب من الألفاظ تشبها بأستاذ أبيه. فنحن الآن أمام مذهب ندعوه زهيريا أو أوسيا إذا ذهبنا إلى أبعد من زهير.
8
ولنشرع الآن في درس مشوبة كعب التي اعتذر بها إلى الرسول، وقد استهلها متغزلا واصفا ثغر حبيبته، شاكيا هجرها، وإخلافها، ومواعيدها العرقوبية. فترى الصور الحسية تتراكم في أوصافه ويتبع بعضها بعضا، ولا سيما تشبيه حلاوة الثغر وبرودته بخمرة شجت بماء بارد، ثم إلحافه بوصف هذا الماء ليبالغ في تصوير برودته وصفائه، وانظر إلى قوله: «لكنها خلة قد سيط من دمها ...» أراد أن يصفها بالكذب والإخلاف والفجع والتبديل، فصور لك هذه الصفات ممزوجة بدمها. ثم انظر إلى قوله: «إلا كما تمسك الماء الغرابيل ...» فهو لم يجد لديه غير التصوير الحسي لتمثيل نكثها العهود. ثم الحكمة أيضا وضرب المثل في قوله: «ولا تمسك بالعهد ...، إن الأماني والأحلام تضليل ...، كانت مواعيد عرقوب ...»
وينتقل إلى وصف الناقة فيبدع إبداعا قد يجاري فيه طرفة، ويتلاعب بالمعاني تلاعبا لم يسبقه إليه أحد، وفي هذا القسم تكثر الصور المادية، وتكثر الألفاظ الغريبة فيصف ضخامة عنقها وطوله، وعظم وجنتيها، ونعومة جلدها. ثم يشبه وجهها في صلابته بمعول من حديد أو حجر مستطيل، وذنبها بجريد النخل، وقوائمها بالرماح الصلبة، وهي في سرعتها لا تمس الأرض إلا تحليلا
9
ولا تحتاج إلى تنعيل يقيها الحجارة لصلابة أخفافها، ويصف حركة ذراعيها وسرعة تقلبهما، فيرينا صورة مادية رائعة لم يسبق إليها، ويستطرد معها إلى وصف شدة الحر.
وبعد أن ينتهي من هذه الصورة القصصية البارزة الجمال، ينتقل إلى مدح النبي والاعتذار إليه، ومدح المهاجرين من قريش، وفي هذا القسم ترق ألفاظه، ويقل غريبه إلا في وصف الأسد، ولا بدع فإنه مقام استعطاف ولين، والشاعر الجاهلي يجعل لكل مقام مقالا، فإذا تغزل أو استعطف أو رثى رقت عاطفته ورقت ألفاظه، وإذا افتخر أو مدح اشتدت عاطفته، فتجزل ألفاظه، ويشتد أسرها، وإذا وصف ناقته والقفار الموحشة والسباع الضارية، خشنت عاطفته، وخشنت ألفاظه معها، وفي هذا القسم تنتهي «مشوبة» كعب.
ونرى أن كعبا مدح الرسول بأسلوب جاهلي صرف، دون أن يشير إلى فرض من فروض الدين الإسلامي، أو إلى آية من القرآن ؛ ذلك بأنه كان يجهل حقيقة الإسلام يوم نظم قصيدته، وهو لم يسلم إلا رهبة وفرقا. فإذا قابلنا مدحه بالقصيدة التي نسبت إلى الأعشى في مدح الرسول، تبين لنا الفرق بينهما، وعرفنا الصحيح من المنحول، ولو لم تكن هذه القصيدة قيلت في النبي، واشتهر كعب بها، لما جاز لنا أن نعده من الشعراء المخضرمين؛ لأن النفس الجاهلي فيه أقوى من النفس الإسلامي.
وبعد، فإن في أبيات المدح ما في غيرها من تأثير المذهب الزهيري، فالصور المادية قوية، ولا سيما تشبيه النبي بالأسد، ثم وصف هذا الأسد وصفا قصصيا عرفناه بزهير، وتظهر لنا حكمة زهير في قوله: «كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ...» ويظهر لنا إيمان زهير على جاهليته في قوله: «فكل ما قدر الرحمن مفعول ...»
وما أجمل التصوير على بداوة المعنى في وصفه هيبة الرسول، وما يستولي من الفزع على الماثل في حضرته، وكأن الشاعر أراد الاعتذار من خوفه فلم يجد غير الفيل الضخم مثالا للجرأة فقال: لو وقف الفيل موقفي ورأى ما رأيت، وسمع ما سمعت، لظل يرعد، فلا لوم علي إذا هبت الرسول فهو أهيب عندي من أسد في بطن عثر، كثير الصيد، شديد الضراوة.
أوليس في ذلك الاعتذار، وفي ذلك التمثيل سذاجة جاهلية خشنة، ولكنها لطيفة مستحبة؟
منزلته
عده ابن سلام في الطبقة الثانية قبل الحطيئة، ولو جاز لنا أن نبني حكما صحيحا على شعره، وليس لدينا منه ما يعتد به غير مشوبته، لقلنا: إن له من البراعة والتصرف في المعاني ما يضعه في مصاف أفحل الشعراء الجاهليين، وحسبنا أن ننظر إلى تفننه في وصف الماء بعد أن مزج به الخمرة التي عل بها ثغر سعاد، ثم إلى تفننه في وصف حركات المرأة الثكلى بعد أن شبه ذراعي ناقته بذراعيها في السرعة والتقلب، ثم إلى إلحاحه في وصف ضراوة الأسد بعد أن فضل الرسول عليه في الهيبة. حسبنا أن ننظر إلى كل ذلك لنتبين منزلة الشاعر السامية، وبراعته في سوق المعاني، والتلاعب بها، والغوص على دررها البعيدة القرار .
وقصارى القول إن كعبا شاعر بارع الفن، ورسام بديع التصوير، ومخترع واسع المخيلة، وأحد أساتذة المذهب الزهيري. (3-2) حسان بن ثابت الأنصاري (670م/50ه ؟)
حياته
هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام من بني النجار من قبيلة الخزرج، ينتهي نسبه إلى قحطان، فهو يمني الأصل يثربي النشأة، وكان يكنى أبا الوليد، وأبا عبد الرحمن، وأبا الحسام، وقد لقي حظوة في الجاهلية عند ملوك غسان فمدحهم واسترفدهم، فأفاضوا عليه النعم، فحفظ لهم الجميل، وبقي يذكرهم بالخير إلى آخر عمره.
ولما ظهر الإسلام، وهاجر النبي إلى يثرب، أسلمت الأوس والخزرج وأسلم حسان معهم فكان في جملة الأنصار.
حسان الجبان
ولكنه كان جبانا شديد الجبن، فلم يجرد سيفا لنصرة الرسول، ولا شهد واقعة من وقائع المسلمين وأهل الشرك، بل كان يتخلف في المنازل مع النساء والأولاد. حدثت صفية بنت عبد المطلب قالت: «كنت يوم الخندق
10
في فارع
11
حصن حسان بن ثابت؛ وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة، وقطعت ما بينها وبين رسول الله، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا، ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم، لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت. فقلت: «يا حسان، إن هذا اليهودي - كما ترى - يطوف بالحصن، وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه، فانزل إليه فاقتله.» فقال حسان: «يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب، لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.» فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا، اعتجرت
12
ثم أخذت عمودا ونزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: «يا حسان انزل إليه فاسلبه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل.» فقال: «ما لي إلى سلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب.»
وأنشد حسان النبي يوما قوله:
لقد غدوت أمام القوم منتطقا
بصارم مثل لون الملح قطاع
13
تحفز عني نجاد السيف سابغة
فضفاضة ، مثل لون النهي بالقاع
14
فضحك النبي لوصف حسان نفسه بما تصف به الفرسان نفسها وهو يعلم جبنه.
حسان الشاعر
ولئن فات حسان أن يدافع عن نبيه بحسامه، لقد أتيح له أن يناصره بلسانه، وهو سلاحه الوحيد الذي كان يستطيع أن يشهره على الأعداء. فأصبح شاعر الرسول يمدحه ويرد على من يهجوه من شعراء قريش، وكان النبي يقول له: «اهجهم وروح القدس معك، واستعن بأبي بكر فإنه علامة قريش بأنساب العرب.» فكان أبو بكر يدله على معايب القوم ومثالبهم، ويقول له: «كف عن فلانة واذكر فلانة، وكف عن فلان واذكر فلانا.» فكان يفعل ومحمد يعطيه ويحسن له الجائزة، وقد وهبه سيرين القبطية أخت مارية أم ولده إبراهيم، فولدت له عبد الرحمن الشاعر، وما زال حسان يعيش من مال المسلمين حتى مات بعد أن كف بصره في أواخر أيامه، وكانت وفاته بالمدينة في خلافة معاوية، وهو من المعمرين.
آثاره
ديوان فيه قصائد كثيرة في المدح والهجاء والرثاء والغزل والفخر، وهو من أصحاب المذهبات
15
ومطلع مذهبته:
لعمر أبيك الخير، يا شعث، ما نبا
علي لساني في الخطوب، ولا يدي
16
ونسبت إليه أشعار ليست له. قال ابن سلام: «وقد حمل على حسان ما لم يحمل على أحد، لما تعاضهت
17
قريش وضعوا عليه أشعارا كثيرة لا تليق به.»
ميزته - شاعر الرسول
لحسان شعر جميل في الجاهلية لا يبخس حقه، وقد يكون أجود من شعره في الإسلام كما يزعم الأصمعي، ولكن شهرة حسان قامت على أنه شاعر الرسول، فينبغي لنا أن ننصرف إلى درس هذه الميزة التي خص بها دون غيره لنتبين سرها ونروز حصاتها. فإن لشعر حسان منزلة ليست لسواه من شعراء الصدر الأول، فهو في نضاله عن النبي يصور حالة ذلك العصر أصدق تصوير، ويمثل حقيقة تهاجي الأنصار والقرشيين، وما في هذا الهجو من فحش وإقذاع، فنحن مدينون لشعر حسان في درس هذا النوع الجديد الذي دخل على آدابنا العربية، ولو لم يصل إلينا شعره لما تسنى لنا أن نقف على حقيقة هذا النوع ، ونتبين خصائصه بشكل واضح مبين.
ولسنا نعجب لوصول شعر حسان على ما فيه من هجاء مقذع، فإن الرواة لم يتحرجوا من حفظه وروايته، وكله ذود عن بيضة الدين، ولكنهم تحرجوا وأنفوا من ذكر شعر هجي به الرسول، ولعلنا نستطيع أن ندرك مبلغ إهمال أشعار القرشيين والتأثم من روايتها في حديث لعبد الله بن الزبعري بعد إسلامه، وذلك لما قدم المدينة في صحبة ضرار بن الخطاب لملاحاة حسان، فقال ابن الزبعري: «يا أبا الوليد، إن شعرك يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا، وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا.» فإذا كان ابن الزبعري يستنكر رواية شعره بعد أن أسلم، فالرواة أولى بأن يطمسوه ولا يحفظوه.
فنحن إذا في درسنا شعر حسان نطالع صفحة تاريخية جليلة، ونطلع على فن جديد ألا وهو فن الشعر السياسي الصحيح، ونقول الصحيح؛ لأن العرب في جاهليتهم عرفوا شيئا منه في منافراتهم ومفاخراتهم، ولكنه كان ضئيلا ضعيف الأثر، لا يستند في كثرته إلى عقيدة صحيحة، وربما قصد منه التكسب كما كان يفعل الأعشى والحطيئة.
ومن المعلوم أن المنافرات في الجاهلية كانت تجري بين شخصين أو بين قبيلتين، كما وقع لتغلب وبكر في حضرة عمرو بن هند، ولكن تأثيرها الموضعي لم يكن له من القوة ما يجعل لها هيكلا قائما بنفسه، أو يخلق منها فنا مستقلا عن غيره، وأما الشعر الذي نحن بصدده فهو حرب عوان بل جهاد عنيف بين أنصار الدين القديم وأنصار الدين الجديد شحذت له القرائح، وانطلقت الألسنة حدادا، لا للتكسب والاستجداء، بل للدفاع عن سلطتين دينيتين زمنيتين تتنازعان البقاء. فلا غرو أن يترك هذا الجهاد أثرا قويا في الأدب، ويكون فاتحة الشعر السياسي الصحيح الذي نراه مزدهرا في الصدر الثاني للإسلام. ثم لا غرو أن نجد في هذا الشعر إفحاشا شديدا لم نعهده من قبل، فهو وليد عصبية قوية أحدثت في النفوس ميلا غريبا إلى النكاية والتشفي، فلم يقصر الشعراء هجوهم على التعيير بالانكسارات، أو على نيل المهجو من منزلته الاجتماعية، بل صاروا إلى أبعد من ذلك مدى، وأبلغ إيلاما: إلى نهش الأنساب، وتمزيق الأعراض. ففي شعر حسان كثير من الأبيات التي يمنعنا الأدب من روايتها، ولا بد أن يكون مثلها في شعر ابن الزبعري وغيره من شعراء قريش.
هجوه
على أن موقف حسان كان حرجا في هجو القرشيين وهم أنسباء محمد. فالرواة يحدثوننا أنه لما أراد هجاءهم قال له الرسول: «وكيف تصنع بي؟» فقال: «أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين.» فبعثه إلى أبي بكر ليدله على الأشخاص الذين يستطيع هجوهم، والأشخاص الذين لا ينبغي أن يعرض لهم، فدله أبو بكر - كما ذكرنا - فهجاهم حسان ونال منهم نيلا شديدا، وقد اتخذ لذلك أسلوبا سياسيا حكيما، كان يجعل فيه المهجو من خشارة قريش لا يرتفع له رأس إلى الذؤابات من هاشم، كهجائه لأبي سفيان بن الحارث،
18
فإنه في هجوه إياه يهجو ابن عم الرسول، فما استقام له أن يمعن في ذم والده الحارث، فاقتصر على أن يجعله عبدا بين إخوته والد النبي وأعمامه، ثم عطف على أبي سفيان من جهة أمه وأم أبيه فهشمهما، وجعل أبا سفيان من بني هاشم كقدح الراكب من الرحل، فأخرجه من الدوحة الهاشمية التي ينتمي إليها الرسول: «هو الغصن ذو الأفنان، لا الواحد الوغد.»
ومثل هذا الهجاء مؤلم ممض يوغر الصدور، ويثير الضغائن، ويهتك الحرمات والأنساب. قيل: لما بلغ أبا سفيان أصاب منه مقتلا، فقال: «هذا شعر لم يغب عنه ابن أبي قحافة.»
19
فهو يعلم أن تلك الأمور لا يعرفها إلا علامة بالأنساب كأبي بكر.
وكان هجو حسان على مرارته صادقا لا تكلف فيه، لم يندفع الشاعر إليه حبا للتكسب والاستجداء، بل ذودا عن دين يؤمن به وبرسوله، وأملا بالثواب في الدنيا الباقية. فترى فيه ارتياحا إلى حسن المصير لم يكن في عباد الأوثان من شعراء الجاهلية، بل حمله إليهم الإسلام، فأصبحوا وفي نفوسهم أمل كبير، يجاهدون في سبيل نبيهم ودينه، لا بغية لهم غير الجنة التي وعدوا، ونعيمها «وعند الله في ذاك الجزاء.»
وفي هذا الشعر ألفاظ جديدة لم نألفها قبل كقوله: «جبريل أمين الله، وروح القدس، وأرسلت عبدا، وشهدت به، ورسول الله.» فهذه الألفاظ وغيرها أحدث القرآن معانيها الجديدة في الإسلام.
مدحه
ولحسان في مدح النبي أسلوب غير الأسلوب الذي عهدناه في الجاهلية، فهو لا يشبه محمدا بالأسد فعل كعب بن زهير، ولا يمعن في وصف جوده وسخائه كمن يريد الاستجداء والتكسب من ممدوحه، بل يعني بوصف شمائله الغر، ويلح في ذكر الرسالة والتصديق بها، وذكر ما حمل الإسلام للعرب من نور وهداية، وأمل بعد يأس؛ ويعرض أحيانا بمن أنكر النبوة وكذب بها، فهو مدح جديد في نوعه وطريقته، جديد في تعابيره وألفاظه، جديد في النفحة الدينية العابقة منه. بيد أنه ساذج لا تعدوه الفطرة الجاهلية، ولكنها فطرة صقلها الدين وجلاها الإيمان.
شعره التاريخي
وليست ميزة حسان في شعره مقصورة على خصائصه في المدح والهجاء، بل له خاصة ذات منزلة عالية، وهي خاصة المؤرخ الأمين لحوادث عصره، فإنه يحدثنا عن غزوات النبي وأيامها، ويذكر لنا أسماء من قتل من الصحابة ومن قتل من المشركين، ويرثي من قتل بعد النبي من الخلفاء الراشدين. فكأنك - وأنت تقرأ شعره - تطالع نبذة من تاريخ الصدر الأول للإسلام.
حسان بين الجاهلية والإسلام
وحسان في شعره الجاهلي مثله في شعره الإسلامي، لا يتسع له الخيال فيطول نفسه، فأكثر قصائده قصيرة، وأطولها لا يزيد على الأربعين بيتا. على أنه في قصائده الجاهلية أوسع خيالا منه في قصائده الإسلامية، ولعل عنايته بذكر الحوادث التاريخية أثرت في مخيلته، أو لعل هذا الضعف ناتج عن كبر السن، ولست تجد في شعره تلك التشابيه التمثيلية الخصبة التي عرفتها في أشعار غيره من الجاهليين، فهو إذا وصف شيئا لا يمعن في وصفه فيتمه، بل ينتقل بسرعة إلى غيره كمن ضاق صدره فطلب التنفس، ولذلك كثر في مطالعه الاقتضاب والقطع بما يشبه التخلص، فما يكاد يستهل قصيدته بالغزل وذكر الديار حتى ينتقل بعد بيتين أو ثلاثة إلى غرضه مدحا كان أو هجاء، وأكثر ما يكون انتقاله بقوله: «دع هذا، ودع ذكر ذا »، وأغلب هذا الانتقال المقتضب في شعره الإسلامي.
وقد يكون هذا الضعف الخيالي هو الذي حمل الأصمعي على الزعم أن شعر حسان في الجاهلية أجود منه في الإسلام، وعلل ذلك بقوله: «الشعر نكد يقوى في الشر ويسهل، فإذا دخل في الخير ضعف ولان. هذا حسان فحل من فحول الجاهلية فلما جاء الإسلام سقط شعره .» وقيل لحسان: «لان شعرك أو هرم في الإسلام يا أبا الحسام.» فقال: «يا ابن أخي، إن الإسلام يمنع من الكذب وإن الشعر يزينه الكذب.» يريد بذلك أن التجويد في الشعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحق؛ وذلك كله كذب.
وربما أراد الأصمعي أن يقول أيضا: إن شعر حسان الإسلامي لين يكثر فيه الإسفاف. فاللين من خصائص الشاعر الأنصاري، ولا يخلو منه شعره الجاهلي، وأما الإسفاف فيمكننا أن نعود ببعضه على النحل مستندين إلى قول ابن سلام من أن حسان حمل عليه ما لم يحمل على أحد، وببعضه الآخر على الشاعر نفسه لأن كثرة اللين تؤدي إلى الإسفاف.
واللين في حسان ناتج عن نشأته، فهو من شعراء القرى
20
والشعراء القرويون معروفون برقة شعرهم لتنعمهم وأخذهم بأسباب الحضارة، خلافا لشعراء البادية، وإذا كان شعره زاد لينا في الإسلام وأسف أحيانا، فلخلوه من براعة الوصف، ومن الصور الخيالية الرائعة، ثم لاعتماد الشاعر على الارتجال
21
أكثر منه على التحكيك والتنخل، فكثر في شعره الكلام الساقط، والإقواء، والتوجيه.
22
ثم لتأثير أسلوب القرآن في نفسه، وما في هذا الأسلوب من رقة في اللفظ والتعبير، فقد عدل بالشاعر عن الألفاظ الغريبة الصلبة إلى الرقيقة السهلة، ولكن أنى لحسان أن يجاريه في نصاعة بيانه وبلاغة تعبيره، فازداد لينا على لين، وأسف مرة بعد مرة فسقط أكثر شعره في الإسلام. على أن له بعض قصائد في الهجو والفخر وذكر الوقائع تعد من أطيب الشعر وأجوده.
منزلته
قال أبو عبيدة: «فضل حسان الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي في النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.» وقال أيضا: «اجتمعت العرب على أن حسان أشعر أهل المدر.»
23
وقال الأصمعي: «حسان فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره.» وقال الحطيئة: «أبلغوا الأنصار أن شاعرهم أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم
لا يسألون عن السواد المقبل»
وقال أبو عمرو بن العلاء: «حسان أشعر أهل الحضر.» وقال أبو الفرج الأصفهاني: «حسان فحل من فحول الشعراء.» وقال الحارث بن عوف المري لمحمد: «أجرني من شعر حسان، فوالله لو مزج به ماء البحر لمزجه.» وكان حسان قد هجاه بقوله:
وأمانة المري، حيث لقيته
مثل الزجاجة، صدعها لم يجبر
وكان محمد يقول لحسان: «اهجهم، فوالله لشعرك أشد عليهم من نضح النبل في غلس الظلام.»
24
وقال أيضا: «امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء في النار، وحسان بن ثابت يقود جموعهم إلى الجنة.» وكان حسان كثير الادعاء، يدلع لسانه ويقول: «والله لو وضعته على شعر لحلقه، وعلى صخر لفلقه.»
أما نحن فنرى أن حسان في شعره الجاهلي مجيد، ولكنه لم يبلغ شأو فحولة الشعراء، وفي شعره الإسلامي، مجيد في بعضه ولا سيما الهجو والفخر، ضعيف في أكثره لا سيما مدحه ورثاؤه للرسول، ولكن فيه من الفوائد التاريخية، ومن جديد الأسلوب ما ليس في شعره الجاهلي. فحسان في الإسلام شاعر مؤرخ، وشاعر مجدد في وقت واحد، وهو في دفاعه عن النبي طليعة الشعراء السياسيين.
هوامش
الشعراء الإسلاميون
(1) ميزة الشعر الإسلامي
تكاثر عدد الشعراء في هذا العصر لأسباب سياسية واجتماعية سنأتي على ذكرها، فتطور الشعر تطورا محسوسا بتأثير هذه الأسباب، وظهرت فيه فنون جديدة كانت ضعيفة في الجاهلية فقويت في الإسلام: كالغزل والشعر السياسي.
وقد ورث الشعراء الإسلاميون
1
من شعراء الجاهلية الإيجاز، وقوة التعبير، وبداهة الفكر، ومتانة السبك، ثم تثقفوا بالقرآن فظهرت آثاره في تعابيرهم وأفكارهم.
على أن تقدمهم في الحضارة أضعف فطرتهم، فخرجوا عن سذاجة البدوي في جاهليته، وظهر على شعرهم ترف العصر ورخاؤه، وأثر انتقالهم من الخيام إلى القصور، واختلاطهم بعد الفتوحات بأبناء المدنيات القديمة كالفرس في العراق وفارس، والروم في الشام ومصر.
ولكن العصر الإسلامي لم يطل عمره فيبلغ أهلوه غايتهم من التأنق والعمران، بل أديل منه وهو في إبان شوطه، فتلقاه العباسيون طريفا يانعا، فاستغلوه وأحسنوا إنماءه فأورق وازدهر على أيديهم، ولذلك لم يدرك الشعراء الإسلاميون شأو المولدين
2
في الرقة والتصرف في المعاني.
وقد كثر المدح والتفاخر، والهجاء المقذع في شعر الإسلاميين، لعلاقة هذه الأغراض بالأحزاب السياسية، وكثر الشعراء الغزلون الذين قصروا همهم على الغزل والتشبيب لتأثير المدنية الجديدة في نفوسهم. (2) نهضة الغزل
الغزل من الفنون التي كانت ضعيفة في الجاهلية فقويت في الإسلام، ذلك بأن الشاعر الجاهلي قلما قصر كلمته
3
على فن واحد، فهو في شعره كثير التنقل، متعدد الأغراض، وكان له من الغزوات والمفاخرات ما يمنعه من الانصراف إلى التشبيب بالنساء، بيد أنه تغزل وبكى على الطلول، وشبب بالمرأة، وكان صادقا في غزله وبكائه، مجيدا في تشبيبه ووصفه؛ ولكنه لم يحسن تصوير عواطفه وما يشعر به من صبابة وألم، أو من أمل وارتياح، فاكتفى بذكر الديار الدارسة تلعب بها الرياح والأمطار، وتسرح بها الآرام والوحوش؛ واكتفى بوصف الفراق من تحمل الأحبة، إلى الوداع، إلى سير الأظعان في الأودية والجبال؛ واكتفى بوصف أعضاء المرأة والتشبيب بمحاسنها. فالشاعر الجاهلي مادي في تصوره أكثر منه روحانيا، ولذلك لم يحسن التعبير عن تأثراته النفسية؛ ولا أحسن وصف سواها من الأشياء غير المنظورة.
أما في الإسلام فتطورت الحياة بتأثير القرآن، واختلاط العرب بالشعوب الأعجمية من روم وفرس، فرقت الأمزجة والأذواق، وقوي الإحساس في النفوس، وكان للأمويين من السلطان في إبان دولتهم ما كبح جماح البدو ومنعهم من الغزو والغارات؛ ففرغ الشاعر إلى نفسه يتفحصها ويتبين خفاياها، وأصبح يلذ له أن يعبر عما يحس فيها من عاطفة أو هوى، وحزن أو سرور. فلم يبق الغزل غرضا تابعا لغيره من الأغراض الشعرية، أو واسطة يستهل بها الشاعر قصيدته للوصول إلى غايته، بل صار فنا مستقلا بنفسه، له أتباع تخصصوا به ووقفوا عليه شعرهم، ولم يبق مقصورا على الوصف المادي بل أضيف إليه شيء جديد ينبعث من الروح، وهو وصف العواطف والأهواء، وما يتصل بها من التأثرات النفسية.
على أن هذا الفن بقي محصورا في الجزيرة العربية لبعدها من سياسة الأحزاب في الشام والعراق. أما الشعراء الذين اتصلوا بالبلاط الأموي، وغيرهم من شعراء الأحزاب، فلم ينصرفوا إلى إتقان هذا الفن بل لبثوا يقلدون فيه من تقدمهم، ويوطئون به أغراضهم من مدح أو هجاء، وقل من نظم منهم شعرا غزليا صرفا.
وينقسم الغزل في جزيرة العرب إلى نوعين: بدوي وحضري. فالبدوي غلبت عليه العفة والرصانة لسذاجته وقربه من الفطرة، وبعده من ملاهي الحضارة ومفاسدها، وأصحابه عرفوا بالشعراء العذريين،
4
وكانت مواطنهم في بوادي نجد والحجاز، وهم في غزلهم لا يشببون إلا بامرأة واحدة، يحبونها حبا صادقا عفيفا، وأكثر ما يطيب لهم وصف ما يلاقون من ألم البعد، ومرارة الهجران والصدود، وأشهر أولئك الشعراء: جميل بن معمر، وقيس بن ذريح، وقيس بن الملوح أو مجنون ليلى إن صح وجوده.
ولكن هؤلاء المتيمين ليس لهم خصائص متميزة في أشعارهم، فقد تغزلوا كلهم بأسلوب واحد، وتواطأوا على المعاني والألفاظ في بث لواعجهم ووصف خليلاتهم؛ واختلطت أقوالهم بعضها ببعض، فأصبح يضاف إلى جميل ما يضاف إلى قيس بن ذريح، ويضاف إلى المجنون ما يضاف إليهما، ويضاف إليهما ما يضاف إلى المجنون، واخترعت أخبار عنهم تناسب هذه الأشعار، فيها كثير من الغلو والتناقض، ولكنها تلتقي جميعا في موقف واحد، وهو أن الشاعر أحب فتاة فشبب بها، ثم خطبها إلى أهلها فردوه مخافة التعيير؛ لاشتهار حبه لها وقوله فيها، ولم يستطع الوصول إليها لعفة نفسه وعفة نفسها، ولكنه كان يجتمع بها سرا، فعرف أهلها بحبهما، فاستعدوا عليه السلطان، فأهدر دمه، ففر هائما على وجهه يقطع القفار وينشد الأشعار، حتى يأتيه الموت فينقذه من عذابه.
وأما الغزل الحضري فقد غلب عليه الرخاء والترف، والعبث والتهتك؛ فصور شعراؤه حياتهم الناعمة أدق تصوير، وتفننوا في أساليبهم فأبدعوا، ولا سيما أسلوب الغزل القصصي، وكانت مواطنهم مكة والمدينة؛ وفيهما القرشيون والأنصار.
وخشي الخلفاء الأمويون أن يشتغل هؤلاء الأشراف بالسياسة فتطمح أنظارهم إلى الخلافة - وكلهم له الحق بها - فأجبروهم أن لا يبرحوا الحجاز إلا بإذن منهم، ولكنهم أسبغوا عليهم النعم الكثيرة، وفرضوا لهم الأرزاق الواسعة من بيت المال؛ فالتهوا عن طلب الملك، وانصرفوا إلى العبث والمجون؛ فأصبحت مكة والمدينة موطنين للذة واللهو والقصف، وشاع فيهما فن الغناء، فكان الشعراء الغزلون ينظمون، ويتغنى بأشعارهم القيان والمغنون، وكان لهؤلاء الشعراء منزلة ليست لغيرهم ، يرفعهم إليها كرم محتدهم، فلم يتورعوا من التشبيب بنساء الخلفاء والأمراء، وسر أولئك النسوة بأقوالهم، فكن يتعرضن لهم ليشببوا بهن، ولطالما شفعن لهم إذا غضب الخليفة على أحدهم وأراد عقابه.
فيتضح من ذلك أن الشاعر الحضري لم يقتصر في تشبيبه على امرأة واحدة كالشاعر البدوي، بل كان موكلا بالجمال يتبعه أين رآه. وأشهر هؤلاء الشعراء الغزلين: عمر بن أبي ربيعة والعرجي القرشيان، والأحوص بن محمد الأنصاري. فأما وقد عرفنا كيف نهض الغزل في الصدر الثاني للإسلام فينبغي لنا أن نتخذ مثالا لدرسه شاعرين مشهورين، وهما جميل بن معمر حامل لوائه البدوي، وعمر بن أبي ربيعة رافع عرش حضارته، ولنبدأ بجميل. (3) جميل بن معمر (توفي 701م/82ه) (3-1) حياته
هو جميل بن عبد الله بن معمر العذري، اشتهر بحبه لابنة عمه بثينة، فعرف بجميل بثينة، وكانا يقيمان في وادي القرى،
5
وأحبها وهو غلام صغير. قيل إنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له بغيض، فاضجع وأرسل إبله مصعدة وأهل بثينة بذيل الوادي. فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين، فمرتا على فصال
6
لجميل بروك
7
فعزقتهن
8
بثينة، وكانت حينئذ جويرية لم تدرك، فسبها جميل فسبته، فملح إليه سبابها وأحبها وفي ذلك يقول:
وأول ما قاد المودة بيننا
بوادي بغيض، يا بثين، سباب
فقلنا لها قولا، فجاءت بمثله
لكل كلام، يا بثين، جواب
ثم صارت بثينة شابة، وصار جميل شابا، فازداد بها هياما وطفق ينسب بها حتى اشتهر أمره. فخطبها إلى أهلها فردوه مخافة أن يعيرهم الناس لقوله فيها وشيوع حبه لها، وزوجوها رجلا اسمه نبيه.
وكان عند بثينة مثل ما عند جميل؛ فأخذا يجتمعان على موعد عند غفلات الرجال، فعرف قومها فجمعوا له جمعا، وترصدوه ذات ليلة ليقتلوه فحذرته بثينة، فاستخفى. ثم هجا قومها فاستعدوا عليه مروان بن الحكم، وهو على المدينة من قبل معاوية، فأهدر دمه أو نذر ليقطعن لسانه، فهرب إلى اليمن وفي ذلك يقول:
أتاني عن مروان بالغيب أنه
مقيد دمي، أو قاطع من لسانيا
9
ففي العيس منجاة، وفي الأرض مذهب
إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
10
فأقام هناك إلى أن عزل مروان، فرجع إلى بلده.
وانتجع أهل بثينة الشام فرحل جميل إليهم، فشكوه إلى عشيرته فعنفه أهله وهددوه، فانقطع عنها. ثم لجأ إلى مصر وعليها عبد العزيز بن مروان فأحسن وفادته، ولكنه لم يلبث أن مرض مرضة فمات بها.
قيل لما حضرت جميلا الوفاة دعا برجل، وقال له: «هل لك أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئا أعهد به إليك؟» قال: «نعم.» قال: «إذا مت فخذ حلتي هذه واعزلها جانبا، وكل شيء سواها لك؛ وارحل إلى رهط بثينة على ناقتي هذه، والبس حلتي هذه إذا وصلت، واشققها، ثم اعل على شرف، وصح بهذه الأبيات:
صدع النعي، وما كنى، بجميل
وثوى بمصر ثواء عير قفول
11
ولقد أجر الذيل، في وادي القرى
نشوان بين مزارع ونخيل
12
قومي بثينة، فاندبي بعويل
وابكي خليلك دون كل خليل
فلما أتى الرجل وأنشد الأبيات، برزت بثينة وقالت: «يا هذا، إن كنت صادقا فقد قتلتني، وإن كنت كاذبا فقد فضحتني.» فقال: «ما أنا إلا صادق.» وأراها الحلة. فصاحت وصكت وجهها، فاجتمع نساء الحي يبكين معها حتى صعقت،
13
فمكثت مغشيا عليها ساعة، ثم قامت وقالت:
وإن سلوي عن جميل لساعة
من الدهر ما حانت، ولا حان حينها
سواء علينا يا جميل بن معمر
إذا مت، بأساء الحياة ولينها
وقال عباس بن سهل الساعدي: «لقيني رجل من أصحابي فقال: «هل لك في جميل، فإنه يعتل، نعوده؟» فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلي وقال: «يا ابن سهل، ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط، ولم يزن، ولم يقتل النفس، ولم يسرق، يشهد أن لا إله إلا الله؟» قلت: «أظنه قد نجا، وأرجو له الجنة؛ فمن هذا الرجل؟» قال: «أنا.» قلت: «ما أحسبك سلمت وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة.» قال: «لا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة.»
وكان جميل طويل القامة، عريض ما بين المنكبين، جميل الخلقة، حسن البزة.
14 (3-2) أخبار جميل
لصاحب بثينة أخبار كثيرة يتألف منها قصة فكهة لمن أراد التسلية دون أن يشغل فكره بالدرس والانتقاد، ولكن إذا رماها بنظر الناقد بدا له ما فيها من سخف وغلو وتناقض، مما يدل على أن واضعها قليل الحظ من فن التأليف. فهو يروي لنا مرة خبرا يصور فيه جميلا مثالا للعفة، كما نعهده في شعره، ثم يشفعه بخبر آخر يشوه هذه العفة ويفسدها، ويحدثنا مرة أخرى عن وفاء جميل حديثا لذيذا، ولكنه لا يلبث أن ينقضه بغيره فيرينا هذا العاشق غادرا لئيما، وهكذا يصح القول في شجاعة جميل وجبنه.
وبين أن هذه المناقضات تعود بأجمعها على تعدد رواة القصة ووضاعها. فإنهم لم يقصدوا منها خدمة الحقيقة والتاريخ، بل مفاكهة الناس في ذلك العصر الأموي الذي كثر الترف واللهو، فكان أحب شيء إلى قومه استماع أخبار العشاق المتيمين.
ونحن في درسنا جميلا نعتمد على شعره، لا على تلك الأقاصيص المتفرقة التي ليس لأكثرها قيمة تاريخية، وليس لها نفع لولا حسن إنشائها، وأما شعره فيمكننا أن نتمثل فيه حالة جميل وغير جميل من أولئك الشعراء الغزلين الذين عطروا البادية بأنفاسهم في الصدر الثاني للإسلام. (3-3) آثاره
لجميل أشعار وأخبار متفرقة في كتب الأدب، وأكثر شعره في الغزل، وله أقوال في الفخر والهجاء، وكان له ديوان كبير معروف في أيام ابن خلكان
15
فضاع، ولكن بقي له أشعار مجموعة في كتاب منه نسخة خطية في برلين. (3-4) ميزته - الغزل البدوي
جلال البداوة وسذاجتها، ورقة العاطفة ولوعتها، ورصانة العبارة وقوتها: شيء يتألف منه شعر جميل.
عفاف النفس وقناعتها، وصدق المودة ووفاؤها: هذا هو حب جميل.
وما جميل إلا زعيم الشعراء المتيمين، وأستاذ الغزل البدوي في نهضته الإسلامية، فإذا أنت قرأته تعلم مبلغ تطور الشعر الغزلي على عهد بني أمية، وتميز الفرق بينه وبين الغزل في الجاهلية، ثم ترى تلك اللوعة الصادقة، وذلك الحب العفيف.
فهذا الغزل يختلف عن غزل امرئ القيس وطرفة وزهير وغيرهم من الجاهليين؛ إذ لا يقتصر على التشبيب بمحاسن المرأة، بل يضيف إليه شيئا روحيا يعنى بنفس الشاعر وعواطفه، وربما كانت عناية الشاعر الإسلامي بنفسه أكثر من عنايته بوصف محبوبته. فجميل لا يكاد يذكر بثينة، ويلم بشيء من أوصافها حتى ينصرف إلى نفسه، فيبث شكايته وما يلاقيه من ألم البعد، ثم يشرح هواه الذي يرافقه إلى ما بعد الموت «يتبع صداي صداك بين الأقبر.» ثم يتقاضى ديونه ويلح في طلبها، ولكنه يقنط أخيرا من وفائها فيقول:
ما أنت، والوعد الذي تعدينني
إلا كبرق سحابة لم تمطر
وهو، في شكايته وشرح هواه وتقاضيه ديونه، ملتاع صادق اللوعة لا يتكلف الحب تكلفا؛ وعف اللسان والضمير، لا تخرج من فمه كلمة تخدش جبين الأدب.
وما أجمل الالتفات في شعره من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، وما أشد وقعه في النفس، فإنه في كل التفاتة ينبه السامع، ويبعث فيه نشاطا جديدا للإصغاء إليه.
وقد تجد في غزله شيئا من الغلو ولكنه بريء ساذج، تدافع به اللوعة من جميع جهاته، فلا تنكره عليه، ولا تحس فيه تكلفا أو إغرابا، بل يلذ لك أن تسمعه يقول:
فلو أرسلت يوما بثينة تبتغي
يميني، ولو عزت علي يميني
لأعطيتها ما جاء يبغي رسولها
وقلت لها بعد اليمين: سليني
سليني مالي يا بثين، فإنما
يبين عند المال كل ضنين
أفليس من الغلو الساذج أن ترى الشاعر يجود بيمينه غير آسف عليها، ثم لا يجد ذلك كافيا لإظهار حبه إذا لم يشفعه ببذل ماله فيقول: «سليني مالي يا بثين ...»
وهو على تهالكه في حبها شجاع باسل يهدد قومها: «فليت الرجال الموعدين لقوني.» وفخور معجب بنفسه: «يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني.» وأنف يأبى الضيم ولو كان الحبيب الفاعل:
ولست، وإن عزت علي، بقائل
لها بعد صرم: يا بثين صليني
ولكنه، وإن صرمت حباله، لا يرضى بها بديلا، ولا يسمع قول العواذل فيها، فيرد تلك التي عرضت عليه نفسها ردا لطيفا؛ لأن حب بثينة لم يترك في صدره فراغا لغيرها، ويشكو إلى بثينة ما يعاني من حبها، وما تصنع العواذل للتفريق بينهما، ولله أبوه ما أبلغ الألم وحب التشفي من عواذله في قوله: «وودت لو يعضضن صم جنادل.» بل ما أشد وفاءه في قوله: «وإذا هويت فما هواي بزائل.» وما أعظم قناعته وصدق ولائه حيث يقول:
ويقلن: «إنك يا بثين بخيلة»
نفسي فداؤك من ضنين باخل
ألا وإن قناعة جميل، ورضاه من بثينة بالشيء الزهيد، يتمثلان في ثلاثة أبيات له إذ يقول:
وإني لأرضى من بثينة بالذي
لو أبصره الواشي لقرت بلابله
16
بلا، وبألا أستطيع، وبالمنى
وبالأمل المرجو قد خاب آمله
17
وبالنظرة العجلى، وبالحول ينقضي
أواخره، لا نلتقي، وأوائله
18
ولعل هذه الأبيات لا تمثل القناعة مجردة، بل تمثل معها ذلك الحب العفيف الذي اشتهر به عشاق بني عذرة وفي طليعتهم جميل. (3-5) منزلته
قال عبد الرحمن بن أزهر: «جميل أشعر أهل الإسلام.» وقال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري: «جميل أشعر أهل الجاهلية والإسلام، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه.» وقال محمد بن سلام: «كان لكثير حظ وافر، وجميل مقدم عليه، وعلى أصحاب النسيب في النسيب، وكان جميل صادق الصبابة والعشق، ولم يكن كثير بعاشق ولكنه كان يتقول.»
ورأي ابن سلام هو المعول عليه، فإن جميلا، في صدق مودته وخلوص وفائه، يتقدم الشعراء الغزلين على الإطلاق، وهو في عفة نفسه وشرف عاطفته يقود شراذم الشعراء العذريين إلى جهاد الحب العفيف. (4) عمر بن أبي ربيعة (644-711م/23-93ه) (4-1) حياته
هو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة حذيفة بن المغيرة المخزومي القرشي، ويكنى أبا الخطاب، وأمه يقال لها مجد، سبيت من حضرموت أو من حمير، فتزوجها عبد الله بن أبي ربيعة، وكان تاجرا موسرا وعاملا للنبي والخلفاء الثلاثة من بعده، فولدت له شاعرنا يوم قتل عمر بن الخطاب، فنشأ في أسرة عظيمة الجاه، ضخمة الثروة، توافرت فيها أسباب الترف والنعيم، وقضت مصلحة بني أمية بإقصاء القرشيين عن الحياة السياسية، فانصرف عمر إلى اللهو والعبث، وكان له من شبابه وجماله وشاعريته ومحتده وثروته ما سهل له سبل الملذات، فلها كثيرا وعبث كثيرا، فلم تعرض له حسناء قرشية أو غير قرشية إلا شبب بها وشهرها، وكان يقضي أيامه لاهيا مستمتعا حتى إذا آن موسم الحج اعتمر
19
ولبس الحلل الفاخرة، وركب النجائب
20
المخضوبة بالحناء، عليها القطوع
21
والديباج، وأسبل لمته
22
وخرج من مكة يتلقى الحواج المدنيات والعراقيات والشآميات فيتعرض لهن ويتبعهن إلى مناسك الحج، ولا يزال يترقب خروجهن للطواف في الكعبة، حتى ينظر إليهن محرمات فيرى منهن ما لا يراه في خارج الحرم فيصفهن ويشهرهن بشعره. (4-2) أخباره مع الحسان
كان الحسان لا يسوؤهن أن يشبب بهن ابن أبي ربيعة، ولطالما التمسن الاجتماع به، وطلبن إليه أن يقول فيهن متغزلا، على أن لا يقول هجرا
23
مخافة أن يفضحهن، فكان يتعفف في غزله مرة. ثم يتعهر مرارا، فيذكر حوادثه معهن بقالب قصصي رائع الفن، ولولا تعهره لما خشي شره بعض كرائم النساء، فصرن يخفن الخروج إلى الحج حذرا من أن يراهن فلا يسلمن من شيطان شعره.
على أن تعهره كان يقف به غالبا عند طائفة من صواحبه فلا يجاوزهن إلى اللواتي يعرضن له في الطواف، أو إلى المحصنات الموسومات بالعفاف، وقد يتورع من تشهير مليحة حرمة أو خوفا، شأنه مع فاطمة بنت عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي؛ فقد روى صاحب الأغاني: أنها حجت، فكتب الحجاج
24
إلى عمر بن أبي ربيعة يتوعده، إن ذكرها في شعره، بكل مكروه، وكانت تحب أن يقول فيها شيئا، وتتعرض لذلك، فلم يفعل خوفا من الحجاج. فلما قضت حجها خرجت، فمر بها رجل فقالت له: «من أنت؟» قال: «من أهل مكة.» قالت: «عليك وعلى أهل بلدك لعنة الله!» قال: «ولم ذاك؟» قالت: «حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن؛ فلم يستطع الفاسق
25
ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتا نلهو بها في الطريق في سفرنا.» قال: «فإني لا أراه إلا قد فعل.» قالت: «فأتنا بشيء إن كان قاله، ولك بكل بيت عشرة دنانير.» فمضى إليه فأخبره. فقال: «لقد فعلت، ولكن أحب أن تكتم علي.» قال: «أفعل.» فأنشده قوله:
راع الفؤاد تفرق الأحباب
يوم الرحيل، فهاج لي أطرابي
26
ولكنه لم يذكرها باسمها فرقا من عبد الملك بن مروان ومن الحجاج. وجرى له مثل ذلك مع عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وهي قرشية من بني تيم بن مرة؛ فقد رآها وهو يطوف بالبيت، وكانت من أجمل أهل دهرها، فبهت لمرآها، ورأته وعلمت أنها وقعت في نفسه، فبعثت إليه جارية لها وقالت: «قولي له: اتق الله ولا تقل هجرا، فإن هذا المقام لا بد فيه مما رأيت.» فقال للجارية: «أقرئيها السلام، وقولي لها ابن عمك لا يقول إلا خيرا.» وقال فيها:
لعائشة ابنة التيمي عندي
حمى في القلب لا يرعى حماها
27
ثم شبب بها كثيرا؛ فبلغ ذلك فتيان بني تيم، أبلغهم إياه فتى منهم وقال لهم: «يا بني تيم بن مرة! ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم!» فمشى ولد أبي بكر، وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك، وأخبروه بما بلغهم؛ فقال لهم: «والله لا أذكرها في شعر أبدا.» ثم أخذ يكني عن اسمها في قصائده ويتلطف في تبليغها ما يريد على أعواد المغنين.
فيمكننا أن نستدل من هذين الخبرين على أخلاق المرأة المترفة في العصر الأموي، وميلها إلى الشعر، واستلطافها أن يقال فيها الغزل البريء من الفحش. ذلك بأنها كانت على جانب عظيم من الأدب، ولها في الشعر نظر صائب وذوق سليم، يرقيها
28
جيده وينفرها رديئه، ويسرها أن تجالس الشعراء وتحادثهم وتستنشدهم، ومنهم من جعلت دارها ندوة أدبية، تجمع فيها الشعراء والمغنين، وتجادلهم وتنتقد أقوالهم وغناءهم انتقادا مرا، كسكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وكانت تنافس عائشة في الجمال، وربما فضلتها. ولسكينة أخبار كثيرة مع عمر بن أبي ربيعة، وله فيها غزل رقيق تغنى به المغنون.
ونستطيع أن نتبين مبلغ ترف المرأة الحجازية في هذا العصر، وحبها للشعر واللهو في خبر لابن أبي ربيعة مع إحدى سيدات قريش، وهي هند بنت الحارث المرية، وهذا الخبر حدثه عمر عن نفسه ورواه صاحب الأغاني قال: «بينا أنا منذ أعوام جالس إذ أتاني خالد الخريت فقال لي: «يا أبا الخطاب، مرت بي أربع نسوة قبيل العشاء يردن موضع كذا وكذا، لم أر مثلهن في بدو ولا حضر، فيهن هند بنت الحارث المرية. فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من حديثهن وتتمتع بالنظر إليهن ولا يعلمن من أنت؟» فقلت: «ويحك! وكيف لي أن أخفي نفسي؟» قال: «تلبس لبسة أعرابي ثم تجلس على قعود،
29
فلا يشعرن إلا بك وقد هجمت عليهن.» ففعلت ما قال وجلست على قعود، ثم أتيتهن فسلمت عليهن، ثم وقفت بقربهن. فسألنني أن أنشدهن وأحدثهن، فأنشدتهن لكثير وجميل والأحوص ونصيب وغيرهم. فقلن لي: «ويحك يا أعرابي! ما أملحك وأظرفك! لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا، فإذا أمسيت انصرفت في حفظ الله.» فأنخت بعيري، ثم تحدثت معهن وأنشدتهن، فسررن بي وجذلن
30
بقربي وأعجبهن حديثي. ثم إنهن تغامزن وجعل بعضهن يقول لبعض: «كأنا نعرف هذا الأعرابي! ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة.» فقالت إحداهن: «هو والله عمر!» فمدت هند يدها فانتزعت عمامتي فألقتها عن رأسي، ثم قالت لي: «هيه
31
يا عمر! أتراك خدعتنا منذ اليوم! بل نحن والله خدعناك واحتلنا عليك بخالد، فأرسلناه إليك لتأتينا في أسوأ هيئة ونحن كما ترى.»
فحسبك من هذا الخبر دليل على حرية المرأة الحجازية وتحضرها في العصر الأموي، وبوسعك أن تقابلها بشقيقتها في العصر الجاهلي، فترى الفرق بينهما، وتعلم مبلغ التطور السريع الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب، فاستبدلوا من الخشونة رقة، ومن الوأد
32
حبا، ومن الناقة امرأة؛ وأفادوا مالا كثيرا من فتوحاتهم، فاتسعت أحوالهم بعد ضيق، فاستمتعوا بحياتهم وأغرقوا في الاستمتاع، وكان للشباب الحجازي المترف دافع من السياسة إلى اللهو والعبث، فتهافت عليهما ؛ وللمرأة حظها من كل ذلك، فشاركته في تهافته، وكان عصرهما عصر دعابة ومجون. (4-3) حبه
لم يقف ابن أبي ربيعة حبه على امرأة واحدة كما وقف جميل حبه على بثينة، بل كان تبع نساء يتنقل كالطائر من فنن إلى فنن، أو كالنحلة من زهرة إلى زهرة، ولكنه على تنقله كان صادقا في حبه؛ لأنه إنما كان يهوى الجمال ، فما رأى مليحة إلا أحبها واستطير إليها فؤاده، فهو صادق في حبه للجمال، كاذب في إخلاصه للمرأة التي يحبها، ولعل أبلغ تعريف لحب ابن أبي ربيعة حديثه لمصعب بن عروة بن الزبير وأخيه عثمان، وكان قد أسن وجف عوده، فبصر بهما يطوفان بالبيت وهما فتيان، فأقبل عليهما وقال: «يا ابني أخي، لقد كنت موكلا بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه.»
وكان عمر ناعما في حبه تهواه النساء لجماله وشاعريته وجاهه، فلم يزره الصدود إلا غرارا، وتجد أثر هذه النعمة مطبوعا على شعره، وإذا رأيت فيه شيئا من التألم والشكوى فإنما هو ناتج عن فراق حسناء لمحها في الطواف فاتبعها فأفلتت من يده، أو عن هجران موقوت سببته غيرة المرأة عليه لتنقله في الحب وعدم إخلاصه. (4-4) زواجه
كان عمر يهوى كلثم بنت سعد المخزومية، وهي تصد وتمتنع عنه لعلمها بغدره، وما زال يبعث إليها الرسل حتى أذنت له بزيارتها، فمكث عندها شهرا لا يدري أهله أين هو. ثم استأذنها في الخروج، فقالت: «والله لا تخرج إلا بعد أن تتزوجني.» ففعل وتزوجها فولدت منه ابنين أحدهما جوان، وماتت عنده، وكان جوان هذا امرأ صالحا فلم يسلك مسلك أبيه، وقد استعمله بعض ولاة مكة على تبالة
33
فحمل على خثعم
34
في صدقات أموالهم حملا شديدا، فجعلت خثعم سنة جوان تاريخا. قال ضبارة بن الطفيل:
ولو شهدتني في ليال مضين لي
لعامين مرا قبل عام جوان
رأتنا كريمي معشر، حم بيننا
هوى، فحفظناه بحسن صيان
35
وفي جوان يقول العرجي:
شهيدي جوان على حبها
أليس بعدل عليها جوان؟
فجاء جوان إلى العرجي فقال له: «يا هذا، ما لي وما لك، تشهرني في شعرك؟ متى أشهدتني على صاحبتك هذه؟ ومتى كنت أنا أشهد في مثل هذا!»
ويروي لنا صاحب الأغاني خبر زواج آخر لابن أبي ربيعة هو أطروفة
36
في بابه، ومنه نعلم مبلغ تأثير شعر عمر في الحرائر، وتخوف الناس على بناتهم هذا الشعر الساحر الفاضح. قيل: ولدت لرجل من بني جمح جارية لم يولد مثلها بالحجاز حسنا، وكان من أهل مكة، فقال: «كأني بها وقد كبرت فشبب بها عمر بن أبي ربيعة وفضحها ونوه باسمها كما فعل بنساء قريش، والله لا أقمت بمكة.» فباع ضيعة له بالطائف ومكة، ورحل بابنته إلى البصرة، فأقام بها وابتاع هناك ضيعة، ونشأت ابنته من أجمل أهل زمانها، ومات أبوها فلم تر أحدا من بني جمح حضر جنازته، ولا وجدت لها مسعدا
37
ولا عليها داخلا،
38
فقالت لداية
39
لها سوداء: «من نحن؟ ومن أي البلاد نحن؟» فخبرتها، فقالت: «لا جرم والله، لا أقمت في هذا البلد الذي أنا فيه غريبة.» فباعت الضيعة والدار، وخرجت في أيام الحج.
وكان ابن أبي ربيعة قد خرج للقاء الحواج العراقيات، فإذا قبة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر، تعادلها
40
جارية سوداء كالسبجة.
41
فقال للسوداء: «من أنت؟ ومن أين أنت يا خالة؟» فقالت: «لقد أطال الله تعبك، إن كنت تسأل هذا العالم من هم ومن أين هم.» قال: «فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن.» قالت: «نحن من أهل العراق، فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ورحلنا إلى بلدنا.» فضحك. فلما نظرت إلى سواد ثنيتيه
42
قالت: «قد عرفناك.» قال: «ومن أنا؟» قالت: «عمر بن أبي ربيعة!» قال: «وبم عرفتني؟» قالت: «بسواد ثنيتيك وبهيئتك التي ليست إلا لقريش.» ولم يزل بها حتى تزوجها. (4-5) توبته
على أن صاحبنا لم يشأ أن تنقضي حياته بالفتك والمجون، فالرواة يحدثوننا بأنه ما بلغ الأربعين حتى نسك وتاب إلى ربه، وحلف ألا يقول بيت شعر إلا أعتق رقبة، ولكنه ظل على الرغم منه يحن إلى شبابه وجماله، فتمر به ساعات يتلهف فيها على ما مضى من صبابته وصباه. فقد رأيت وصيته للغلامين الجميلين اللذين شاهدهما يطوفان بالحرم، وأبصر مرة فتى جميلا عليه جمة،
43
فجعل يمد الخصلة من شعره ثم يرسلها فترجع إلى ما كانت عليه، ويقول: «وا شباباه!» ونظر مرة إلى رجل يكلم امرأة في الطواف، فعاب ذلك عليه وأنكره، فقال له: «إنها ابنة عمي.» قال : «ذلك أشنع لأمرك.» فقال: «إني خطبتها إلى عمي، فأبى علي إلا بصداق أربع مئة دينار، وأنا غير مطيق ذلك.» وشكا إليه من حبها وكلفه بها أمرا عظيما، وتحمل
44
به على عمه فسار معه إليه فكلمه، فقال له: «هو مملق
45
وليس عندي ما أصلح به أمره.» فقال له عمر: «وكم الذي تريده منه؟» قال: «أربع مئة دينار.» قال: «هي علي فزوجه.» ففعل ذلك.
وانصرف عمر إلى منزله يحدث نفسه، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابا؛ فقالت له: «إن لك لأمرا وأراك تريد أن تقول شعرا.» فقال تسعة أبيات:
تقول وليدتي، لما رأتني
طربت، وكنت قد أقصرت حينا
ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم لكل بيت واحدا برا بحلفه.
وأخبار ابن أبي ربيعة بعد توبته قليلة لم يعن بها الرواة عنايتهم بأخبار فتكه. (4-6) موته
يختلف الرواة في موته، فمنهم من يزعم أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة نفاه إلى دهلك،
46
ثم رأى ابن أبي ربيعة أن يكفر عن سيئاته بالتوبة والجهاد، فغزا في البحر فاحترقت السفينة التي كان فيها واحترق هو أيضا، ويزعم غيرهم أنه نظر في الطواف إلى امرأة شريفة فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها، وكلمها فلم تجبه؛ فشبب بها، فبلغها شعره فجزعت منه، فقيل لها: «اذكريه لزوجك فإنه سينكر عليه قوله.» فقالت: «كلا والله لا أشكوه إلا إلى الله.» ثم قالت: «اللهم إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح.» فضرب الدهر من ضربه،
47
ثم إنه غدا يوما على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة،
48
فعصفت الريح فخدشه غصن منها فدمي وورم به، ومات من ذلك .
ولا يخفى ما في الرواية الثانية من التكلف والاصطناع، وأما الرواية الأولى فينفيها تاريخ وفاة ابن أبي ربيعة، فإن أكثر الرواة متفقون على أنه مات في السنة الثالثة والتسعين للهجرة، ونحن نعلم أن عمر بن عبد العزيز لم يبايع بالخلافة إلا في السنة التاسعة والتسعين،
49
أي بعد وفاة الشاعر بست سنوات، حتى إن ابن أبي ربيعة لم يدرك خلافة سليمان بن عبد الملك،
50
بل هلك في خلافة أخيه الوليد،
51
والدليل على ذلك ما رواه أبو الفرج في الأغاني. قال: «خرجت الثريا
52
إلى الوليد بن عبد الملك، وهو خليفة بدمشق في دين عليها، فبينا هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان،
53
إذ دخل عليها الوليد فقال: «من هذه؟» فقالت: «الثريا جاءتني تطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها.» فأقبل عليها الوليد فقال: «أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا؟» قالت: «نعم، أما إنه يرحمه الله كان عفيفا عفيف الشعر.» ثم أنشدته قوله:
إذ فؤادي يهوى الرباب، وأنى الد
هر حتى الممات أنسى الربابا
54
وحسانا جواريا خفرات
حافظات عند الهوى الأحسابا
55
لا يكثرن في الحديث، ولا يتبع
ن ينعقن بالبهام، الظرابا
56
فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت منه، فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها: «لله در الثريا! أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر؟» قالت: «لا.» قال: «لما عرضت لها به عرضت لي بأن أمي أعرابية.» وأم الوليد وسليمان ولادة بنت العباس من بني عبس.»
فمن هذه الرواية نعلم أن ابن أبي ربيعة توفي في خلافة الوليد ولم يدرك سليمان، ولا أدرك عمر بن عبد العزيز. فخبر نفيه إلى دهلك وغزوه واحتراق السفينة به مصنوع لا شك في اصطناعه، وضعه أنصار بني أمية ليبالغوا في غيرة خلفائهم على الحرمات، فجعلوا الشاعر طريدا لخليفة اشتهر بتحرجه، وهو عمر بن عبد العزيز، ولكنهم لم ينتبهوا إلى تاريخ خلافته ولا إلى تاريخ موت ابن أبي ربيعة، وقد وقع بعض كتابنا المعاصرين في خطئهم،
57
فتبعوهم على غير روية، وذكروا حادثة النفي دون أن ينظروا إلى السنوات الست التي تفصل بينها وبين تاريخ الوفاة.
فيتبين لنا من كل ذلك أن موت ابن أبي ربيعة مجهول السبب؛ لعدم اهتمام الرواة بأخبار الشاعر بعد توبته، ولكنهم كادوا يجمعون على أنه توفي وقد قارب السبعين أو جاوزها. (4-7) آثاره
ديوان شعر كله في الغزل والنسيب، وأخبار كثيرة متفرقة في كتب الأدب، جمع منها صاحب الأغاني طائفة حسنة في أكثر من 180 صفحة، وأشهر شعره «رائيته» التي مطلعها:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد، أم رائح فمهجر؟ (4-8) ميزته - الغزل الحضري
عرفت ميزة الغزل الحضري في كلامنا على نهضة هذا الفن، وعرفت أن زعيمه عمر بن أبي ربيعة المخزومي؛ وقد استحق صاحبنا هذا اللقب لعدة أسباب، منها أنه أول شاعر قصر همه على الغزل دون غيره ونظم فيه القصائد الطوال؛ وأول شاعر وسع نطاقه القصصي، وأدخل فيه الحوار التمثيلي اللذيذ؛ وأول شاعر أجاد تصوير عواطف المرأة، واختلاجات نفسها، واختلاف حركاتها، وهو في دعابته ومجونه يصور الحياة الاجتماعية في حواضر الحجاز، وفي تشبيبه وقصصه يمثل لنا ترف المرأة المتحضرة في القرن الأول للهجرة وسرفها في اللهو، ولغتها الحبية في التخاطب مع الرجل، وفي رقته ولينه يرينا صفة الشعر في القرى خصوصا، وميزته بعد تطوره عموما. فشعر ابن أبي ربيعة مرآة لنفسه اللطيفة المتهالكة على الجمال؛ ومرآة لما في عصره من لهو ومجون. فإذا أردت أن تعلم حالة الحجاز المتحضر في الصدر الثاني فعليك بشعر عمر فإن فيه البلاغ المبين.
وإذا كان ابن أبي ربيعة زعيم الغزل الحضري كما كان جميل زعيم الغزل البدوي، فإن مذهب عمر كان أشد تأثيرا في أبناء عصره من مذهب الشاعر العذري، فاستهوى الشباب الحجازي المترف، وتلمذوا له، فأخرج منهم أساتذة كبارا ولكنهم دون زعيمهم، كالعرجي والأحوص والحارث بن خالد المخزومي وغيرهم، واستهوى النساء أيضا، فكان من أشد الأخطار على العفاف.
وقد قام هذا المذهب على ركنين من الغزل: أحدهما التشبيب، والآخر الحوار والقصص، وفي كليهما أجاد ابن أبي ربيعة؛ ولا سيما فن القصص فقد أبدع فيه ما شاء له الإبداع.
وابن أبي ربيعة في غزله ناعم فرح، مبتسم لعوب، إذا بكى فنادرا، وربما كان بكاؤه رقية وعبثا، ولماذا يبكي ...؟ وكل ما يحيط به ضاحك له: شباب وجمال، وثروة وجاه؛ وخليل يبادله المودة والولاء ...!
فلا تعجب له إذا رأيته يشبب أحيانا بنفسه أكثر من تشبيبه بصاحبته، فهو جميل معجب بالجمال ، يحبه في وجهه كما يحبه في وجه غيره، وقد انتقد عليه ذلك بعض معاصريه فلم يظفروا منه بطائل، ولا استطاعوا أن يردوه عن غروره؛ لأنه في وصفه نفسه لا يتكلف تصنعا، بل يتكلم بحسه.
وسمعه ابن أبي عتيق
58
ينشد شيئا من غزله فقال له: «أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك، كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي، فوضعت خدي فوطئت عليه.»
وقد تعابثه النساء في الحرم فيصد عنهن، فيطاردنه ليفسدن عليه طوافه. فإذا هو قنص لهن، وإذا هن يتبعنه بدلا من أن يتبعهن، فيريك نفسه قبلة أنظار الحسان يتجنى عليهن، وهن يسعين في أثره. على أنك إذا أردت أن تستوعب خصائص عمر من تشبيب، وقصص، وتتبين خفة روحه وظرفه، وما كان يجري بينه وبين صواحبه من حوار يطلعك على حديث النساء الحجازيات، وعلى طرف من أخلاقهن ومعاشراتهن، فلا غنية لك عن درس رائيته الشهيرة فهي خير شعره، وبها اعترف له جرير بالشاعرية. (4-9) رائية عمر
يستهل الشاعر قصيدته بذكر صاحبته نعم ويكثر من تكرار اسمها تلذذا:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
غداة غد، أم رائح فمهجر
59
ونراه يحاذر زيارتها خشية التشهير، ولكنه لا يلبث أن يشهر نفسه شيئا فشيئا، فيذكر أولا حوارا جرى بين نعم وأخت لها، وقد رأتاه متغيرا لوحت وجهه الأسفار، فأنكرته نعم، وعرفته أختها. فلا تغفل عن هذا الحوار الذي يمثل لنا شيئا من محاورات النساء عندما يبصرن رجلا يعرفنه، ولكن تغيرت هيئته فاشتبهت عليهن معرفته. ثم ينتقل إلى ذكر زيارته لها، فيزيد نفسه تشهيرا على تشهير، ويروي لنا خبر هذه الزيارة الليلية بأسلوب قصصي شائق اختص به ابن أبي ربيعة ففاق أقرانه.
ويختم هذه القصيدة البديعة واصفا ناقته الصلبة القوية، وانطلاقه بها طلبا للماء في القفار الخالية، وليس في هذا القسم ما يعنينا درسه؛ لأن خاصة ابن أبي ربيعة محصورة في غزله، بل في قصصه الغرامي الذي يريك في الأدب العربي شيئا جديدا، وفي ذلك الحوار اللذيذ الذي يدور بين النساء من ناحية، وبينه وبينهن من ناحية أخرى، حتى ليخيل إليك أنك تقرأ في شعره قطعة تمثيلية تكاد تكون تامة، ومثل هذا الأسلوب القصصي كثير في شعر عمر، وعليه قامت شهرته؛ لأن التشبيب وحده لا يجعل منه شاعرا متفردا ممتازا. فالشعراء الغزلون في الإسلام أجادوا جميعا وصف الحبيبة، ووصف العواطف والأهواء، ولكن لم يقم فيهم واحد يستطيع أن يجاري عمر في قصصه الغرامي ومخاطبته النساء، وتصوير حركاتهن وإشاراتهن، ونزعات نفوسهن.
ولا بد أن تتذكر امرأ القيس، وأنت تقرأ رائية فتى قريش؛ لأن الصلة قوية بين الشاعرين، فكلاهما يتعهر في غزله، وكلاهما يتجشم الأخطار للوصول إلى من يحب، وكلاهما يباغت حبيبته بالزيارة فتخاف وتلومه، وكلاهما يدركه الصباح عندها فيتهيأ لملاقاة الحي مستميتا، ولكن امرأ القيس يمتنع بسيفه وسهامه، ويسخر بزوج صاحبته ويستهين به، وأما ابن أبي ربيعة فيعمد إلى الاستخفاء وكان مجنه ... ثلاث شخوص: كاعبان ومعصر.
على أن هذه الصلة بين الشاعرين لا تجيز لنا القول إن عمر جاء مقلدا أمير الشعراء في قصصه الغرامي، فإنما هو جاء مجددا ومحسنا له، والقصص في غزل الشاعر القرشي أتم منه في غزل امرئ القيس فهو صفة لازمة لشعر ابن أبي ربيعة، وليس بصفة لازمة لشعر امرئ القيس، ومن العدل أن نسمي هذا الفن: «أسلوب ابن أبي ربيعة» لأنه احتكره احتكارا، وإن يكن شاعر كندة قد سبقه إليه.
ورائيته الحسناء تزف إليك ما في هذا الأسلوب من روعة وجمال، فتطلعك على تلطفه في الوصول إلى حاجته، وانتظاره رقدة الحي وسكون الصوت، وغيوب القمر، ثم تنفيضه النوم عن عينيه، وانسيابه كالحباب أزور الركن من الخوف والحذر، وتريك ما جرى بينه وبين نعم من حوار لذيذ تزينه تعابير قرشية لطيفة كأنها في نعومتها وجدت لتكون لغة السيدات: «أريتك إذ هنا عليك، ألم تخف، وقيت ...، كلاك بحفظ ربك المتكبر ...»
ولم يغفل ابن أبي ربيعة في هذه الزيارة عن التشبيب بنفسه، وكيف يغفل عنها؟ وهو معجب بجماله إعجابه بحمال صاحبته. فإذا هو يسمعنا نعما تقول له:
فأنت أبا الخطاب، غير مدافع
علي أمير، ما مكثت، مؤمر
وما أجمل الانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله:
أشارت: «بأن الحي قد حان منهم
هبوب، ولكن موعد لك عزور»
وهي لم تنتقل هذا الانتقال الجميل إلا لتضرب له موعدا جديدا.
وانظر إلى ظرف القرشيات في توبيخهن الشاعر بعد أن كن له مجنا: «أهذا دأبك الدهر سادرا ...؟ أما تستحي أم ترعوي أم تفكر ...؟» ثم إلى قولهن له بعد هذا التوبيخ:
إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
ألا وإن في هذه الوصية دهاء نسائيا، ولكنه دهاء محبوب. (4-10) منزلته
قيل كانت العرب تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها شيئا.
وقيل: بينا كان عبد الله بن عباس ابن عم النبي في المسجد الحرام، وعنده نافع بن الأزرق
60
وناس من الخوارج، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس فقال: «أنشدنا»، فأنشده: «أمن آل نعم ...» حتى أتى على آخرها، فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال: «الله
61
يا ابن عباس! إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مترف من قريش فينشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت
فيخزى، وأما بالعشي فيخسر»
فقال: «ليس هكذا قال.» وأنشده البيت على صحته، ثم أنشده القصيدة برمتها، وكان قوي الحافظة، فلامه بعض أصحابه في حفظه إياها، فقال: «إنا نستجيدها.» وكان يسأل كثيرا عن عمر فيقول: «هل أحدث هذا المغيري شيئا بعدنا ؟»
وروي عن نصيب الشاعر قوله: «لعمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال»
62
وقال هشام بن عروة: «لا ترووا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطا.» وسئل حماد الراوية عن شعر عمر فقال: «ذاك الفستق المقشر.» وسمع الفرزدق شيئا من نسيب عمر فقال: «هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه .» وقال أبو المقوم الأنصاري: «ما عصي الله بشيء كما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة.» وقال جرير: «إن أنسب الناس المخزومي.» يعني عمر.
ورأى عبد الله بن مصعب بن الزبير مولاته
63
داخلة منزله ومعها دفتر، فسألها عنه، فقالت: «شعر عمر بن أبي ربيعة.» فقال: «ويحك! أتدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة! إن لشعره لموقعا من القلوب ومدخلا لطيفا، لو كان شعر يسحر لكان هو، فارجعي به.» ففعلت، وقال الأصمعي: «عمر حجة في العربية، ولم يؤخذ عليه إلا قوله:
ثم قالوا: «تحبها؟» قلت: «بهرا!
عدد الرمل والحصى والتراب»
64
وله في ذلك مخرج إذ قد أتى به على سبيل الإخبار،
65
وأنشد عمر «رائيته» طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري، وهو راكب، فوقف وما زال شانقا ناقته
66
حتى كتبت له. وكان جرير إذا أنشد شعر عمر قال: «هذا شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد.»
67
حتى أنشد رائيته فقال: «ما زال القرشي يهذي حتى قال الشعر.» وقال ابن أبي عتيق: «لشعر عمر نوطة
68
في القلب وعلوق في النفس ليست لشعر.» وسمع جميل بن معمر عمر ينشد لاميته:
جرى ناصح بالود بيني وبينها
فقربني يوم الحصاب إلى قتلي
69
فقال: «هيهات يا أبا الخطاب! لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي،
70
والله ما يخاطب النساء مخاطبتك أحد.» ولمصعب بن عبد الله الزبيري رأي في ابن أبي ربيعة تجده في الأغاني يقدمه به على أقرانه بأشياء كثيرة منها: سهولة الشعر، وحسن الوصف، ودقة المعنى.
فيتبين من هذه الأقوال ما للشاعر القرشي من منزلة رفيعة في الغزل، فقد أجمعوا على أنه أغزل الشعراء، وأدخلهم شعرا في النفس، وأسحرهم للنساء، وإذا نظرنا إلى قول جرير فيه نعلم أن شعره لم يقف على حالة واحدة، بل تطور كثيرا حتى بلغ مرتبته من الحسن والجودة، ويظهر لنا ذلك جليا في درسه، فإننا نجد فيه قسما ضعيفا بين الإسفاف واللين، ثم نجد قسما رشيقا حلو الألفاظ سهلا على غير ضعف كأنه وضع للغناء؛ ثم نجد قسما آخر شديد الأسر حسن الديباجة؛ وهو الشعر الذي استهوى كبار الشعراء كالفرزدق وجرير.
وإذا نظرنا إلى قول الفرزدق وجميل بدا لنا أن ابن أبي ربيعة لم يصل إلى منزلته الأدبية العالية إلا بشعره القصصي، فقد رأى فيه الناس شيئا جديدا ليس في غيره، ولا سيما مخاطبته النساء، فافتتنوا به وراقهم أسلوبه، ونستطيع أن نعلم من أقوال المقوم الأنصاري وعبد الله بن مصعب الزبيري وهشام بن عروة ما كان لهذا الشعر من التأثير في نفوس النساء حتى أصبحوا يخافون عليهن منه، ويمنعونهن من حفظه وروايته. فقد كان شعر ابن أبي ربيعة، وهو الفستق المقشر، كما وصفه حماد، خطرا على النساء لما فيه من تشبيب بليغ وقصص غرامي شائق، ولكنه بوأ صاحبه أرفع رتبة في هذا الفن، فجعله شاعر قريش وفتاها، وأستاذ الغزل الحضري، وزعيم الغزلين على الإطلاق.
هوامش
ازدهار الشعر السياسي
(1) الأحزاب وشعراؤهم
تكلمنا على الشعر السياسي في الصدر الأول، وذكرنا الأسباب التي ساعدت على نشوئه وجعله فنا مستقلا بنفسه، غير أن هذا الفن لم يتم ازدهاره إلا في الصدر الثاني؛ لأن الشعر الذي قيل في حياة النبي كان فاتحة لهذا الفن في صورته التامة، ولما قبض الرسول أصاب الشعر السياسي شيء من الفتور كما أصاب غيره من الفنون الشعرية، فانصرف العرب إلى القرآن والجهاد، وكادوا يتناسون عصبيتهم الجاهلية، وما كان بين قبائلهم من منافرات ومخاصمات. على أن مقتل عثمان بن عفان أيقظ الفتنة من مضجعها، فاعصوصب الشر، وتفرقت الجماعة شيعا وأحزابا، وجرت الدماء أنهارا بين علي وخصوم علي. ثم استقر الأمر في بني أمية على كره من أعدائهم، فقبضوا على ناصية الملك بيد من حديد، وشددوا النكير على مناوئيهم، فأصلوهم حربا عوانا، فقاتلوا الشيعيين، وقاتلوا الخوارج، وقاتلوا الزبيريين حتى وطدوا دعائم دولتهم بشفار السيوف.
ولا نستطيع أن نتفهم حقيقة الشعر السياسي في هذا العصر ما لم نلم بتاريخ الأحزاب السياسية في الإسلام، ونعلم الأسباب التي أدت إلى نشوئها وتنظيمها، وإنه ليحسن بنا أن نعود قليلا إلى الصدر الأول، ونستعيد صور الحياة العربية بعد وفاة محمد، وقول الأنصار للقرشيين: «منا أمير ومنكم أمير.» فالأنصار يرون أن لهم الحق في الخلافة كما لقريش، فهم الذين جردوا سيوفهم على رءوس المشركين، وآووا النبي وأصحابه المهاجرين، وجعلوا ديارهم موطنا للأهوال في سبيل الإسلام ونصرة المسلمين، ولكن القرشيين أبوا عليهم هذا الحق، واستأثروا بالخلافة دونهم لأن النبي منهم. ثم أراد الأنصار أن تحصر الخلافة في بني هاشم لأنهم أهل النبي الأدنون، ودعوا إلى مبايعة علي بن أبي طالب، فأبت قريش ذلك وأخفق الأنصار في دعوتهم، فنبه هذا الاستئثار روحا عصبيا جديدا بين القرشيين والأنصار،
1
أو بين المضرية واليمانية، أو بين العدنانية والقحطانية.
على أن هذه العصبية بقيت ضعيفة حتى قتل عثمان وطولب علي بدمه، فشدت الأنصار ساعد بني هاشم، وحازبوهم على قريش كما حازبوا النبي من قبل، ولم تكن الحروب التي قامت بينهم إلا نزاعا عنيفا بين المضرية واليمانية. ثم نشأ حزب الشيعة في العراق
2
وأكثره يماني، ومنه الأنصار، ورأيه أن تكون الخلافة في بني هاشم بل في أبناء علي أسباط الرسول وأبناء عمه، ونشأ حزب الخوارج في الجزيرة، وقد أتينا على سبب نشوئه في لمحتنا التاريخية، ورأيه أن تكون الخلافة شورى بين المسلمين، غير محصورة في قبيلة دون أخرى، وكان يرمي سائر الأحزاب بالكفر والمروق من الدين.
وانشقت قريش ثانية على نفسها، فقام آل الزبير في مكة ينكرون على بني أمية جعلهم الخلافة وراثة فيما بينهم دون سواهم من القرشيين، فنشأ الحزب الزبيري، وعلى رأسه عبد الله بن الزبير، يجاهد الأمويين ويطالب بالخلافة، فبايعه بها أهل الحجاز في خلافة يزيد بن معاوية،
3
ثم بايعه أهل العراق واليمن ومصر. أما دمشق فثبتت على ولاء الأمويين، فبايعت معاوية بعد موت أبيه يزيد، ثم بايعت مروان بن الحكم
4
فقاتل الزبيريين وفتح مصر. ثم بايعت عبد الملك بن مروان
5
فافتتح العراق بعد مقتل مصعب بن الزبير أخي عبد الله، وأرسل الحجاج بن يوسف في جيش عظيم إلى الحجاز، فكانت بينه وبين أصحاب ابن الزبير وقائع كثيرة، وحاصر الحجاج مكة سبعة أشهر ورماها بالمنجنيق،
6
فظل عبد الله بن الزبير يقاتل حتى قتل في سنة 692م/73ه بعد خلافة تسع سنوات، وبموته صار الأمر لعبد الملك بن مروان فبايعه أهل الحجاز واليمن وامحى حزب الزبيريين.
فهذه الأحزاب الثلاثة كانت تناوئ الحزب الأموي، والأمويون يناوئونها جميعا، مدعين أنهم أحق بالخلافة من غيرهم؛ لأن الخليفة عثمان بن عفان الأموي قتل ظلما ولم يؤخذ بثأره، فحق لهم المطالبة بدمه، والاستيلاء على الملك من بعده.
ولم يقتصر خصام هذه الأحزاب على الغزو والقتل، بل أخذ منه الشعر قسطا كبيرا، فكان لكل حزب شعراء يدافعون عنه ويؤيدون آراءه ويشتمون خصومه، فعل الشعراء المخضرمين في الصدر الأول للإسلام.
وكان شعراء بني أمية أكثر عددا وأبعد صوتا؛ لأن الخلفاء الأمويين بسطوا لهم الأكف وأسبغوا عليهم النعم، وساعدهم على البذل ما في بيت المال من فيء
7
وفر، فأقبلت عليهم طوائف الشعراء تمدحهم، وتؤيد حقهم بالخلافة غير هيابة جانب خصومهم، وأما شعراء المعارضة فكانت أصواتهم تقوى بقوة أحزابهم، وتضعف بضعفها، فعبيد الله بن قيس الرقيات القرشي كان زبيريا يكره الأمويين ويهجوهم، فلما قتل مصعب بن الزبير وأخوه عبد الله، انحاز إلى عبد الملك بن مروان فمدحه خائفا، فأمنه على حياته. والفرزدق كان يتشيع لعلي وأبناء علي، ولكنه لم يستنكف من مدح خلفاء بني أمية وعمالهم رهبة منهم، أو رغبة في نوالهم، وكذلك فعل الكميت لما أمر هشام بن عبد الملك بقطع لسانه من أجل قصيدة رثى بها زيد بن علي،
8
والنعمان بن بشير كان أنصاريا من الخزرج، ولكنه ساير معاوية، فشهد معه واقعة صفين، وقد اجتذبه معاوية بسخائه ودهائه، ولما أفضت الخلافة إلى مروان بن الحكم كان النعمان على حمص فدعا أهلها إلى مبايعة عبد الله بن الزبير فلم يجيبوه، فهرب منهم، فتبعوه وأدركوه وقتلوه.
والنعمان على مسايرته معاوية وآله كان شديد التعصب للأنصار، ولما دفع يزيد بن معاوية الأخطل لهجاء الأنصار فهجاهم بقوله:
ذهبت قريش بالمكارم كلها
واللؤم تحت عمائم الأنصار
دخل النعمان على معاوية غضبان، وأنشأ قصيدته التي يقول فيها:
معاوي إلا تعطنا الحق، تعترف
لحى الأزد مشدودا عليها العمائم
ثم حسر عمامته وقال: «يا أمير المؤمنين، أترى لؤما؟» قال: «لا، بل أرى كرما وخيرا،
9
فماذا؟» قال: «زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار.» قال: «أوفعل ذلك؟» قال: «نعم.» قال: «لك لسانه.» فاستجار الأخطل بيزيد، فمنعه منه، وأرضى النعمان حتى كف عنه.
ولعل من الخير أن نعرض لقصيدة النعمان بن بشير في الدفاع عن الأنصار؛ فإنها مظهر قوي لاستيقاظ العصبية في الإسلام، واشتداد الخصومة بين المضرية واليمانية، ثم ننتقل إلى درس الأخطل شاعر بني أمية الأكبر، فدرس الفرزدق وجرير، وما كان بين الثلاثة من هجاء مقذع؛ فإن الهجو في هذا العصر لم يكن مقصورا على سياسة الأحزاب، بل تعداها إلى أغراض خاصة بالشعراء، منها ما يتصل بالعصبية القومية والمفاخرة بالآباء والجدود، ومنها ما يقصد منه إظهار قوة الشاعرية وبراعة الشاعر في هجو خصمه وإذلاله. (2) قصيدة النعمان
يستهل النعمان قصيدته متوعدا معاوية، ذاكرا هجاء الأخطل للأنصار، ولكنه لا يعنى بالرد على شاعر تغلب، بل يجعل همته في تهديد الخليفة الأموي، ثم يفتخر عليه ويذكره يوم بدر وما فعلت الأنصار بقريش، ثم يختم ضاربا على الوتر الحساس الذي يرجف وقعه قلب السياسة الأموية، وهو مصير الخلافة إلى بني هاشم؛ لأنهم أحق بها وأولى.
فقصيدة النعمان بن بشير تظهر لنا سياسة الأنصار، ورأيهم في الخلافة، وسخطهم على الأمويين بعد أن استأثروا بها، وتظهر لنا خصوصا سياسة النعمان في مصانعته معاوية وأبناء معاوية، وهي بما فيها من وعيد وتعيير وفخر وإنذار، تمثل ألم الأنصار لإخفاقهم في الحياة السياسية بعد أن استبدت قريش بالخلافة والسلطان، فهم ساخطون عليها لا يستثنون إلا بني هاشم آل البيت. بيد أنهم يؤثرون من الهاشميين أبناء علي، ويرونهم أحق من غيرهم بالخلافة؛ لأنهم أسباط الرسول وأبناء عمه. والنعمان بن بشير على مسايرته الأمويين، لم يشذ عن الأنصار في سياسته، بل كان يرى رأيهم، ولكنه يصانع معاوية رغبة في نواله:
أصانع فيها عبد شمس، وإنني
لتلك التي في النفس مني أكاتم
ولا بد أن تدهشك جرأة الشاعر على الخليفة، ومخاطبته إياه بتلك اللهجة الشديدة التي لا تليق بالملوك، ولا يسلم من يخاطبهم بها مهما عظم خطره. أجل، إن جرأة النعمان عجيبة غير مألوفة، ولكن أعجب منها حلم معاوية وأناته، بل سياسته ودهاؤه، فهو يعلم أن ملكه قائم على كره من الأنصار وغير الأنصار، ولا يستطيع تأييده إلا بالحكمة والحلم وحسن تصريف الأمور. فبهذه الصفات السامية تمكن معاوية من تأسيس عرش بني أمية وتوطيده.
فأما وقد عرفنا الآن شيئا من الشعر السياسي الذي كان يناوئ به بني أمية خصومهم، فلننتقل إلى درس الشعر الذي كان يؤيد سياسة الأمويين ويرد على أعدائهم، إلى درس شعر الأخطل شاعر بني أمية. (3) الأخطل
10 (710م/92ه ؟) (3-1) حياته
هو غياث بن غوث بن الصلت التغلبي من أهل الحيرة، ويلقب بالأخطل لخبث لسانه، وبذي الصليب لأنه كان نصرانيا يعلق صليبا على صدره، وبدوبل
11
لأن أمه كانت ترقصه به في صغره، ويكنى أبا مالك، ومالك أكبر بنيه.
نشأ الأخطل في قبيلة عزيزة الجانب شديدة البأس، حافل تاريخها بالمفاخر الكثيرة حتى قيل: «لو تأخر الإسلام لأكلت بنو تغلب الناس.» وكانت تدين بالنصرانية؛ فلما ظهر الإسلام وانتحله العرب، أبت تغلب أن تنزل عن دينها، ورضيت بالجزية تدفعها، فأقرها عمر بن الخطاب على نصرانيتها، وكانت منازلها في الجزيرة والعراق، فترعرع الأخطل مزهوا بمناقب قومه، حافظا أخبارهم وأيامهم، يعد منها ذخائر وأهبا لشاعريته التي بدأت تظهر منذ نعومه أظفاره.
ويحدثنا الرواة أنه هجا امرأة أبيه طفلا، وكانت تضيق عليه، وتؤثر بنيها باللبن والتمر والزبيب، وتبعثه يرعى أعنزا، فلحظ ذات يوم شكوة
12
فيها لبن، وجرابا فيه تمر وزبيب ، وكان جائعا، فقال: «يا أماه، آل فلان يزورونك ويقضون حقك وأنت لا تأتينهم وعندهم عليل، فلو أتيتهم لكان أجمل وأولى بك.» قالت: «جزيت خيرا يا بني، لقد نبهت على مكرمة.» وقامت فلبست ثيابها ومضت إليهم، فمضى الأخطل إلى الشكوة فشرب ما فيها، وإلى الجراب فأكل التمر والزبيب. فلما رجعت ورأت الشكوة والإناء فارغين، علمت أنه قد دهاها فعمدت إلى خشبة لتضربه بها فهرب، وقال:
ألم على عنبات العجوز
وشكوتها، من غياث، لمم
13
فظلت تنادي: ألا ويلها!
وتلعن، واللعن منها أمم
14
وكان لتغلب شاعر معروف يقال له كعب بن جعيل، فتعرض الأخطل لهجائه وهو حدث ما برح مقرزما،
15
فضربه أبوه وقال له: «أبقرزمتك تريد أن تقاوم ابن جعيل!» ثم لج الهجاء بينهما فأخمل الأخطل كعبا، وصار شاعر تغلب غير مدافع.
ولكن ريحه لم يبدأ هبوبها إلا في عهد معاوية، وكان العداء قد اشتد بين الأنصار والقرشيين، وكثر الهجاء والتفاحش بين شعرائهم، ولا سيما بين عبد الرحمن بن حسان بن ثابت وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص، حتى أمر معاوية بأن يجلد كل واحد منهما مئة سوط. ثم كان من أمر عبد الرحمن بن حسان أن شبب برملة بنت معاوية، فبلغ ذلك أخاها يزيد فغضب فدخل على أبيه فقال: «يا أمير المؤمنين، ألا ترى أن هذا العلج
16
من أهل يثرب يتهكم بأعراضنا ويشبب بنسائنا!» قال: «ومن هو؟» قال: «عبد الرحمن بن حسان.» وأنشده ما قال، فقال: «يا يزيد، ليست العقوبة من أحد أقبح منها من ذوي القدرة، ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار ثم ذكرني.» فلما قدموا ذكره به، فلما دخلوا عليه قال: «يا عبد الرحمن، ألم يبلغني أنك تشبب برملة بنت أمير المؤمنين؟» قال: «بلى، ولو علمت أن أحدا أشرف به شعري أشرف منها لذكرته.» قال: «وأين أنت عن أختها هند!» قال: «وإن لها لأختا؟» قال: «نعم.» وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعا فيكذب نفسه. فلم يرض يزيد ما كان من أبيه، فأرسل إلى كعب بن جعيل بأن يهجو الأنصار، فاعتذر خوفا ودله على الأخطل، ولعل كعبا أراد أن يلقي خصمه في تهلكة لما ناله من شر لسانه، فنفعه من حيث لا يريد. فدعا يزيد الأخطل وقال له: «اهج الأنصار.» فقال: «أفرق من أمير المؤمنين.» فقال: «لا تخف شيئا، أنا لك بذلك.» فهجاهم، وكان ما كان من أمره مع النعمان بن بشير وانتصار يزيد له، فانقطع إليه يمدحه وليا للعهد وخليفة؛ ثم مدح الخلفاء بعده، وجاهد حزب الزبيريين خصومهم، ودافع عن مصالح قبيلته في حروب قيس وتغلب فارتفع قدره ونبه ذكره. (3-2) حرب قيس وتغلب
ولا نستطيع أن نتفهم شعر الأخطل السياسي ما لم نلم بأخبار الحروب التي وقعت بين قيس وتغلب في أيام الأمويين؛ لأن لها صلة متينة بمصير الخلافة وانخذال الزبيري. وقيس هذه قبائل مضرية جاءت في الإسلام إلى الجزيرة وما يليها فزاحمت التغلبيين، وهم من ربيعة، في عقر دارهم، وزاحمت معهم بعض قبائل يمانية كانت تناصر الأمويين.
17
فلما هلك معاوية وبايع الناس يزيد ابنه أبت القيسية مبايعته وقالوا: «والله لا نبايع ابن الكلبية.» فوقعت الحرب بين أمية وقيس، فكانت تغلب وكلب في نحور القيسية مع أبناء أبي سفيان، ولما صارت الخلافة إلى مروان بن الحكم بايعت قيس عبد الله بن الزبير فخرجت إليهم أمية وأفناء اليمن
18
فالتقوا بمرج راهط على مقربة من دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت القيسية وقتل رئيسها الضحاك بن قيس الفهري، وقتل منها تسعة آلاف، ومن اليمن ألف وثلثمئة، وفي أيام عبد الملك بن مروان عادت الغارات بين اليمنية والقيسية فاقتتلوا مدة. ثم وقعت الحرب بين قيس وتغلب لما كان بينهما من التنافس والشحناء، فاتفقت أمية وتغلب وأفناء اليمن على استئصال هذا الحي من مضر، حتى تم النصر لعبد الملك بن مروان في العراق وقتل مصعب بن الزبير. (3-3) تمسك الأخطل بدينه
وكان الأخطل، على حظوته عند الخلفاء المسلمين واشتماله بنعمهم، شديد التمسك بنصرانيته، كثير التوقير للقسيسين وإن يكن - كما ذكر الأب لامنس - رقيق الدين، متهافت العقيدة شأن أهل البادية. حدث إسحاق بن عبد الله من بني عبد المطلب، قال: «قدمت الشام وأنا شاب مع أبي فكنت أطوف في كنائسها ومساجدها، فدخلت كنيسة دمشق، وإذا الأخطل فيها محبوس، فجعلت أنظر إليه، فسأل عني فأخبر بنسبي، فقال: «يا فتى، إنك لرجل شريف وإني أسألك حاجة.» فقلت: «حاجتك مقضية.» قال: «إن القس حبسني ههنا فتكلمه ليخلي عني.» فأتيت القس فانتسبت له فرحب وعظم، فقلت: «إن لي إليك حاجة .» قال: «ما حاجتك؟» قلت: «الأخطل تخلي عنه.» قال: «أعيذك بالله من هذا! مثلك لا يتكلم فيه، فاسق يشتم أعراض الناس ويهجوهم.» فلم أزل أطلب إليه حتى مضى معي متكئا على عصاه، فوقف عليه ورفع عصاه، وقال: «يا عدو الله، أتعود تشتم الناس وتهجوهم وتقذف أعراض المحصنات؟» وهو يقول: «لست بعائد ولا أفعل.» ويستخذي
19
له. فقلت: «يا أبا مالك، الناس يهابونك، والخليفة يكرمك، وقدرك في الناس قدرك، وأنت تخضع لهذا هذا الخضوع وتستخذي له ...!» فجعل يقول لي: «إنه الدين إنه الدين!»
وأخبر أبو عبد الملك قال: «رأيت الأخطل بالجزيرة وقد شكي إلى القس، وقد أخذ بلحيته وضربه بعصاه وهو يصئي
20
كما يصئي الفرخ، فقلت له: «أين هذا مما كنت فيه بالكوفة؟» فقال: «يا ابن أخي، إذا جاء الدين ذللنا.»
وقيل: كانت امرأته حاملا، فمر بها الأسقف يوما، فقال لها: «الحقيه فتمسحي به.»
ومر بالكوفة في بني رؤاس ومؤذنهم ينادي بالصلاة، فقال له بعض فتيانهم: «ألا تدخل أبا مالك فتصلي؟» فقال:
أصلي حيث تدركني صلاتي
وليس البر عند بني رؤاس
وسمع هشام بن عبد الملك الأخطل يقول:
وإذا افتقرت إلى الذخائر، لم تجد
ذخرا يكون كصالح الأعمال
فقال: «هنيئا لك، أبا مالك، هذا الإسلام!» فقال له: «ما زلت مسلما في ديني.»
21
وعرض عليه عبد الملك الإسلام مرارا، فكان يتخلص في جوابه إلى الهزل فعل من لا يريد أن يسيء إلى رجل أحسن إليه وآثره على جميع الشعراء المسلمين، ومن ذلك ما روي أن عبد الملك قال له يوما: «لم لا تسلم يا أخطل؟» قال: «إن أنت أحللت لي الخمر ووضعت عني صوم رمضان أسلمت.» فقال له عبد الملك: «إن أنت أسلمت ثم قصرت في شيء من الإسلام ضربت الذي فيه عنقك.» وقال له مرة: «ألا تسلم فنفرض لك ألفين في عطائك، وتوصل بعشرة آلاف درهم؟» قال: «فكيف بالخمر؟» قال: «وما تصنع بها وإن أولها لمر وإن آخرها لسكر؟» قال: «أما أن قلت ذاك، فإن بينهما لمنزلة ما ملكك فيها إلا كلعقة من ماء الفرات بالإصبع.» فضحك عبد الملك. (3-4) حبه الخمر
على أن الأخطل لم يكن كاذبا في حبه الخمر، وإن قصد الهزل وحسن التخلص في جعله إياها حائلا دون إسلامه، فقد أحبها كثيرا وبالغ في شربها ووصفها بشعره، يوم كان الشعراء المسلمون في كثرتهم يعرضون عن ذكرها فرقا من السلطان أو تورعا من وصف شيء نهى عنه القرآن، وكان يرى أنها تنعش الفؤاد وتنطق الشعراء؛ وربما دعا غيره إلى شربها لتجويد قريحته كما فعل بالمتوكل الليثي إذ سمع شعره فقال له: «ويحك يا متوكل، لو نبحت الخمر في جوفك كنت أشعر الناس.»
وقد يستنشده الخليفة فما يطيق إنشادا إلم يبرد حلقه بالراح. فقد روي أنه دخل يوما على عبد الملك فاستنشده، فقال: «قد يبس حلقي فمر من يسقيني.» فقال: «اسقوه ماء.» فقال: «هو شراب الحمار وهو عندنا كثير.» قال: «فاسقوه لبنا.» قال: «عن اللبن قد فطمت.» قال: «فاسقوه عسلا.» قال: «شراب المريض.» قال: «فتريد ماذا؟» قال: «خمرا يا أمير المؤمنين.» قال: «أوعهدتني أسقي الخمر لا أم لك؛ لولا حرمتك بنا لفعلت وفعلت.» فخرج فلقي فراشا لعبد الملك فقال: «ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني وقد صحل
22
صوتي، فاسقني شربة خمر.» فسقاه رطلا، فقال: «اعدله بآخر.» فسقاه رطلا آخر، فقال: «تركتهما يعتركان في بطني! فاسقني ثالثا.» فسقاه، فقال: «تركتني أمشي على واحدة، اعدل ميلي برابع.» فسقاه رابعا، فدخل على عبد الملك فأنشده رائيته الشهيرة: «خف القطين ...»
وهذه الرواية على علاتها لا تقتصر على إظهار حب الأخطل للخمر بل تظهر لنا أيضا دالته على عبد الملك بن مروان. (3-5) حرمة الأخطل
ولا نعجب لدالة الشاعر النصراني على الخليفة المسلم حتى ليبلغ به الأمر أن يستقيه الراح، فلقد كان الأخطل موفور الحرمة عند عبد الملك، مقربا إليه دون سائر الشعراء، وكان يدخل عليه بغير إذن ولحيته تنفض خمرا، والشعر هو الذي جعل للأخطل هذه الكرامة، فقد كان الخلفاء الأمويون مضطرين إلى اصطناع شعراء فحول يقاومون خصومهم، وكان الأخطل شاعرا فحلا يجيد مدح الملوك ويجيد الهجاء، فاصطنعه بنو أمية ورموا به أعداءهم فسقط عليهم سقوط الداهية الدهياء، وأولع عبد الملك بشعره ولعا عظيما فرفع قدره، ووالى نعمه عليه ولقبه بشاعر بني أمية وشاعر أمير المؤمنين وأشعر العرب.
وقد بلغت الدالة بالأخطل أن يخاطب عبد الملك بقوله:
ولست بصائم رمضان يوما
ولست بآكل لحم الأضاحي
23
ولست بزاجر عنسا بكورا
إلى بطحاء مكة للنجاح
24
ولست بقائم كالعير أدعو
قبيل الصبح: حي على الفلاح
25
ولكني سأشربها شمولا
وأسجد عند منبلج الصباح
26
ثم بقوله:
إذا ما نديمي علني، ثم علني
ثلاث زجاجات، لهن هدير
27
خرجت أجر الذيل زهوا كأنني
عليك، أمير المؤمنين، أمير
28
ولم تكن دالته تقف عند هذا الحد؛ بل كانت تدفعه إلى التدخل في سياسة الخلافة من عقد صلح أو مجاهرة بعداء، فهو لا يقنع في شعره السياسي بالدفاع عن بني أمية وهجو أعدائهم، ولكنه يطمح إلى أبعد من ذلك، إلى التأثير في مجرى السياسة الأموية، أي إلى الفائدة الأدبية مقرونة بالفائدة المادية، وربما سخر سياسة الخليفة لمصلحة قومه بني تغلب. (3-6) الأخطل وزفر بن الحارث
وحسبك أن تعلم خبره مع زفر بن الحارث؛ لتتبين مبلغ دهائه السياسي، وتدخله في شئون الخليفة لمصلحة قبيلته، وزفر هذا رئيس القيسية، وكان قد أوقع بالتغلبيين في بعض الأيام، وتحزب لعبد الله بن الزبير على بني أمية، ثم انقاد لهم بعد عصيانه، فقربه عبد الملك بغية استمالة قومه. فدخل ابن ذي الكلاع يوما على الخليفة فرأى زفر معه على السرير فبكى، فقال له عبد الملك: «ما يبكيك؟» فقال: «يا أمير المؤمنين، وكيف لا أبكي وسيف هذا يقطر من دماء قومي في طاعتهم لك وخلافه عليك، ثم هو معك على السرير وأنا على الأرض!» قال: «إني لم أجلسه معي أن يكون أكرم علي منك، ولكن لسانه لساني وحديثه يعجبني.» فبلغت الأخطل وهو يشرب فقال: «أما والله لأقومن في ذلك مقاما لم يقمه ابن ذي الكلاع!» ثم خرج حتى دخل على عبد الملك فلما ملأ عينه منه قال:
وكأس مثل عين الديك صرف
تنسي الشاربين لها العقولا
29
إذا شرب الفتى منها ثلاثا
بغير الماء، حاول أن يطولا
30
مشى قرشية لا شك فيها
وأرخى من مآزره الفضولا
31
فقال عبد الملك: «ما أخرج هذا منك يا أبا مالك إلا خطة في رأسك!» قال: «أجل والله يا أمير المؤمنين حين تجلس عدو الله هذا معك على السرير، وهو القائل بالأمس:
فقد ينبت المرعى على دمن الثرى
وتبقى حزازات الصدور كما هيا»
32
فقبض عبد الملك رجله ثم ضرب بها صدر زفر فقلبه عن السرير، وقال: «أذهب الله حزازات تلك الصدور.» وكان زفر يقول: «ما أيقنت بالموت قط إلا تلك الساعة حين قال الأخطل ما قال.» (3-7) تهاجي الأخطل وجرير
قال ابن سلام وغيره: لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال لابنه مالك: «انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني بخبرهما.» فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم أتى أباه، فقال له: «كيف وجدتهما؟» قال: «وجدت جريرا يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر.» فقال الأخطل: «فجرير أشعرهما.» ثم قال:
إني قضيت قضاء غير ذي جنف
لما سمعت ولما جاءني الخبر
33
أن الفرزدق قد شالت نعامته
وعضه حية من قومه ذكر
34
ثم قدم الأخطل الكوفة على بشر بن مروان، فبعث إليه قوم الفرزدق بدراهم وحملان وكسوة وخمر، وقالوا له: «لا تعن على شاعرنا واهج هذا الكلب الذي يهجو بني دارم.»
35
فلما دخل الأخطل على بشر سأله عن الفرزدق وجرير، فقال الأخطل: «أصلح الله الأمير، الفرزدق أشعر العرب.»
فرد عليه جرير بقوله:
يا ذا الغباوة إن بشرا قد قضى
أن لا تجوز حكومة النشوان
ثم استطار بينهما الهجاء واضطرمت نار العداوة، وأخبارهما كثيرة . (3-8) موت الأخطل
وعمر الأخطل حتى شاخ وتحطم، وكانت وفاته في خلافة الوليد بن عبد الملك، وله فيه عدة قصائد امتدحه بها، وزعم بعضهم أن الأخطل ظل مقربا عند خلفاء بني أمية حتى ملك عمر بن عبد العزيز فأقصاه؛ ونقل هذه الرواية على علاتها بعض كتابنا المعاصرين.
36
دون أن ينتبهوا إلى تاريخ وفاة الشاعر وتاريخ خلافة عمر بن عبد العزيز.
37
وليس في ديوان الأخطل ما ينبئنا أنه أدرك عمر أو أدرك قبله سليمان بن عبد الملك،
38
ولو أدركهما لذكرهما في شعره كما ذكر غيرهما من الخلفاء الأمويين.
ورب معترض يقول إن الأخطل مدح عمر بن عبد العزيز بأبيات مثبتة في ديوانه، ونحن لا ننكر ذلك، ولكننا نعلم أنه لم يمدحه بها وهو خليفة، بل مدحه وهو أمير من أمراء بني أمية ومدح معه أخاه أبا بكر فخصه بالقسم الأوفر من أبياته، ولم يذكر عمر إلا في البيت الأخير حيث يقول:
فرعان ما منهما إلا أخو ثقة
ما دام في الناس حي والفتى عمر
ومما يدلنا على أن الأخطل مات في خلافة الوليد ما رواه صاحب الأغاني من أن الوليد بن عبد الملك قال لجرير يوما: «فما تقول في الأخطل؟» قال: «ما أخرج لسان ابن النصرانية ما في صدره من الشعر حتى مات.» (3-9) آثاره
ديوان كبير أكثره في المدح والهجاء ووصف الخمرة وشاربها، وهو من أصحاب الملحمات،
39
ومطلع ملحمته:
تغير الرسم من سلمى بأحفار
وأفقرت من سليمى دمنة الدار
40
وجمع أبو تمام الشاعر العباسي «نقائض جرير والأخطل»
41
وشرحها وصدرها بكلمة في حرب قيس وتغلب. والديوان والنقائض نشرهما في بيروت الأب صالحاني اليسوعي. (3-10) ميزته
كان الأئمة الأقدمون يشبهون الأخطل بالنابغة لصحة شعره، ولكننا نرى أن الصلة بين الشاعرين أقوى من ذلك، فكلاهما شاعر بلاط خص مدائحه بالملوك وحظي عندهم، وكلاهما أجاد المدح وتفنن في معانيه، بيد أن الأخطل كان يتوكأ أحيانا على الشاعر الجاهلي، وتجد آثار هذا التوكؤ ظاهرة في مدحه وفي وصفه الثور الوحشي. فالأخطل يشبه النابغة بصحة شعره وبأشياء أخر - كما سترى - ولكنه ينفرد عنه بموقفه السياسي في المدح والهجاء. فالصفة السياسية هي الخاصة البارزة في الأخطل سواء كان مادحا أو هاجيا. فينبغي لنا أن ندرسه الآن شاعرا سياسيا، ثم نلم بما بينه وبين النابغة من صلة، ونعرض لخاصته في وصف الخمر، فهو أشهر وصافيها في صدر الإسلام. (3-11) شعره السياسي - المدح والهجاء
كان الأخطل يعلم أن الأمويين يهمهم أن يعرف لهم الناس حقهم بالخلافة، وكان يعلم أيضا أنهم يستندون في تأييد هذا الحق إلى مقتل عثمان بن عفان زاعمين أنهم ورثته وأن لهم الحق بأن يطالبوا بدمه. فتراه إذا عرض للخلافة رمى إلى هذا الهدف، كقوله:
ويوم صفين، والأبصار خاشعة،
أمدهم، إذ دعوا، من ربهم مدد
42
على الأولى قتلوا عثمان مظلمة
لم ينههم نشد عنه وقد نشدوا
43
فثم قرت عيون الثائرين به،
وأدركوا كل تبل عنده قود
44
وأنتم أهل بيت لا يوازنهم
بيت، إذا عدت الأحساب والعدد
45
ويختمها مخاطبا يزيد بن معاوية:
والمسلمون بخير ما بقيت لهم
وليس بعدك خير حين تفتقد
وإذا عرض لمدحهم وصفهم بأحسن ما توصف به الملوك، ثم انبرى إلى هجو القيسية أنصار الزبيريين وأعداء قبيلته فقذفهم بهجاء مقذع أليم، وهجا معهم أحلافهم بني كليب قوم جرير، ولعل العداء السياسي هو الذي أثار الهجاء بين الشاعرين وجعله حامي الوطيس.
ويحسن بنا أن نعتمد في إظهار ميزة الأخطل على رائيته الشهيرة أولا، ثم على غيرها من شعره. فإن الرائية تكاد تشتمل على أكثر خصائصه تفكيرا وتعبيرا، ومطلعها:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
وأزعجتهم نوى في صرفها غير
46
وهذه القصيدة من النقائض قالها في عبد الملك بن مروان بعد فتحه العراق وانتصاره على مصعب بن الزبير.
ولا يقصر مدحه على الخليفة بل يعنيه أن ترضى عنه أمية كلها، فإذا مدح أميرا منها لا يغفل عن تخصيص جانب من مديحه بأسرته الأموية، وحق له أن يفعل ذلك وهو مقرب إليها جميعا، واقف شعره للدفاع عنها، والإشادة بمكارمها، حتى إذا أرضى الخليفة وأرضاهم جميعا يفرغ إلى نفسه وإلى قومه فيذكر ما لهم من الأيادي البيض على الأمويين، ويدس خلال ذلك رأيه السياسي لمصلحة قبيلته، فيحرض عبد الملك على إقصاء زفر بن الحارث وترك الوثوق به.
فإذا تم له ما أراد من مدح وغرض سياسي يرمي إليه، انصرف إلى هجاء قيس عيلان وأحلافهم الكليبيين قوم جرير، فيقذفهم بحميم من لواذع أقواله، وإذا أفحش لا يتورط في الخنى تورط جرير والفرزدق، بل يجعل همته في تعييرهم ووصف هزيمتهم، وما لقوا من مذلة وهوان. فيبدو لنا حينئذ مؤرخا وسياسيا دقيق النظر يلقي الذنب على أعدائه الذين كفروا نعمة الخليفة فجازاهم بكفرهم، ونرى فيه مصورا بارعا للحرب وللجيش عند الهزيمة والانكسار.
فبمثل هذا الهجاء المؤلم الممض كان الأخطل يرمي أعداءه القيسيين، ويرمي جريرا وقوم جرير فيجعلهم خشارة تميم بل خشارة مضر أجمعين، وينفر عليهم أبناء عمهم من دارم قبيلة الفرزدق:
ملطمون بأعقار الحياض فما
ينفك من دارمي فيهم أثر
وأشد الهجاء إقذاعا عند العرب أن تفضل قوما على قوم ولا سيما إذا كانوا إخوانا أو أبناء أعمام. فبنو نمير لم يضعهم إلا قول جرير فيهم:
فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت ولا كلابا
ونمير وكعب وكلاب ثلاثة أبطن من عامر بن صعصعة، وقلما تخلو قصيدة للأخطل في جرير من مدح بني دارم وتفضيلهم على بني كليب بن يربوع:
أجرير، إنك والذي تسمو له
كأسيفة فخرت بحدج حصان
47
فى دارم تاج الملوك وصهرها
أيام يربوع مع الرعيان
48
وإذا وضعت أباك في ميزانهم،
رجحوا، وشال أبوك في الميزان
49
وهو وإن مدح دارما وأطنب في ذكرهم، لا يغفل عن الافتخار بقومه بني تغلب وتعداد مآثرهم. فقد فاخر بهم وهو يمدح الخليفة، فأحر به أن يفاخر جريرا عندما يريد هجو جرير:
إنا نعجل بالعبيط لضيفنا
قبل العيال، ونقتل الأبطالا
50
أبني كليب إن عمي اللذا
قتلا الملوك، وفككا الأغلالا
51 (3-12) صلته بالنابغة
فأما وقد عرفنا ما للشاعر السياسي من ميزة في المدح والهجاء وخصائص في التفكير والتعبير، فينبغي لنا أن نلتفت إلى تلك الصلة الوثيقة التي تربطه بالنابغة حتى جعلت الأدباء الأقدمين يشبهونه به، فليست هذه الصلة مقصورة على صحة شعره - كما ذكرنا - بل تتعداها إلى المعاني والتعابير، وقد تقع على بعض الأساليب فما تدري أشعر النابغة تقرأ أم شعر الأخطل.
ونحن قبل أن نشرع في إظهار هذه الصلة نسلم أن شاعر أمية يمتاز في صحة شعره ورونق ألفاظه وتخير معانيه، كما امتاز في ذلك صاحبه النابغة؛ ولا بدع أن تظهر هذه الميزة على شعر الأخطل، فهو من الذين يتنخلون قوافيهم ويثقفون متونها، فقد حدثنا الرواة أنه كان يختار أجود ما ينظم، فإذا اجتمع له تسعون بيتا انتخب منها ثلاثين؛ وأنه أقام سنة في مدحته: «خف القطين ...» ولكن هذه الصلة لا تكفي لتشبيهه بالنابغة؛ لأن صحة الشعر لا تجعل وجها حقيقيا للشبه، فعلينا أن نلتمس هذه الصلة في أسلوب الشاعر وفي ألفاظه ومعانيه.
وقد ذكرنا أن الأخطل يمت إلى النابغة بصلة أدبية اجتماعية، فكلاهما مدح الملوك وحظي عندهم، ولعل هذه الصلة هي التي حملت الشاعر الإسلامي على النظر إلى صاحبه الجاهلي فأغار على بعض أساليبه في المدح ووصف الوحوش، مثال ذلك قوله:
وما الفرات، إذا جاشت حوالبه
في حافتيه، وفي أوساطه العشر
52
وزعزعته رياح الصيف، واضطربت
فوق الجآجئ من آذيه، غدر
53
مسحنفر من جبال الروم يستره
منها أكافيف، فيها دونه زور
54
يوما بأجود منه، حين تسأله
ولا بأجهر منه، حين يجتهر
55
ولا بد أنك تذكر هذه الصورة الشعرية في دالية النابغة التي اعتذر بها إلى النعمان؛ فالأسلوب واحد والألفاظ والمعاني متواطئة في أكثرها، وقد أولع الأخطل بهذه الصورة فرددها غير مرة، فأنت تجدها في قصيدة أخرى إذ يقول:
كأنه مزبد ريان، منتجع،
يعلو الجزائر، في حافاته الزبد
56
تظل فيه بنات الماء أنجية
وفي جوانبه الينبوت والخضد
57
وتجدها أيضا في قصائد أخر لا نرى حاجة إلى ذكرها، ولا بدع أن يكثر الأخطل من هذه الصورة الاستطرادية في شعره، فإنها منطبعة على مخيلته، وهو وإن يكن واطأ فيها النابغة فتكراره لها يدل على تأثيرها في نفسه، وهذا التأثير لم يحدثه شعر النابغة وحده، بل شاركه فيه نشوء الشاعر في الجزيرة على شط الفرات يشاهد أمواجه المتلاطمة ويسمع زمزمتها وهديرها، ونحن نعتقد أن نشأة الشاعر لها اليد الطولى في إثبات هذه الصورة بمخيلته؛ ولذلك أكثر من إيرادها وتفنن فيها فأبرزها لنا بأشكال جميلة مختلفة، ولكنه لا يعد مبتكرا لها بل كان مقلدا. وكذلك وصفه الثور الوحشي فإنه يذكرك النابغة، وتتمثل لك رائيته التي يعدها بعضهم من المعلقات؛ فقد جاراه في البحر والقافية وترسم أسلوبه ناسجا على منواله، وواطأه في معانيه وألفاظه.
فحسبك أن تراجع وصف الثور في رائية النابغة حتى تعلم مبلغ تأثر الأخطل له، ولشاعر أمية قصائد غير هذه يصف بها الثيران وهي في أكثرها متشابهة الأسلوب، على أنها جعلت صاحبها أشهر وصافي الوحش في الإسلام. (3-13) وصف الخمر
كان الأخطل سكيرا يدمن الشراب ولا يجد عنه صبرا فلا عجب أن تفوح رائحة الخمر من شعره، كما فاحت قبله من شعر الأعشى، فيسمعنا في وصفها ما تنطق به نفسه النشوى، وما تنطق النفس إلا عن هوى. وقد عرفنا في درسنا الأعشى أن الأخطل أخذ عنه بعض معانيه في الخمر؛ ولكن الشاعر الإسلامي لم يقف في وصفها عند حد الشاعر الجاهلي بل تخطاه بعيدا، وأدخل على الشعر الخمري شيئا جديدا لم نعهده في الجاهلية. فهو أول من تفنن في وصف السكران. وأحسن تصوير دبيب الخمر في الأجسام، وشبه زقاق الخمر برجال من السودان عراة، ولسنا ننكر أن الأعشى وصف السكارى وصور حالتهم، غير أن الأخطل كان في ذلك أكثر فنا وإبداعا، وإليك وصفه للسكران:
صريع مدام يرفع الشرب رأسه،
ليحيا، وقد ماتت، عظام ومفصل
58
نهاديه أحيانا، وحينا نجره
وما كاد إلا بالحشاشة يعقل
59
إذا رفعوا عضوا، تحامل صدره،
وآخر، مما نال منها، مخبل
60
ثم يصف زقاق الخمر فيقول:
أناخوا فجروا شاصيات، كأنها
رجال من السودان، لم يتسربلوا
61
ويصف تعبد الشرب لها فيقول:
تمر بها الأيدي سنيحا وبارحا،
وترفع باللهم حي، وتنزل
62
ويصف مجلس الشراب والمغني فيوجز ولا يتعدى ما يقوله فيهما الأعشى :
وتوقف أحيانا، فيفصل بيننا
غناء مغن أو شواء مرعبل
63
ويصف فعلها في العظام فيرينا صورة رائعة لم يسبق إليها:
تدب دبيبا في العظام، كأنه
دبيب نمال في نقا يتهيل
64
فما أبدع هذا التشبيه الذي يصور لنا تمشي الخمرة في المفاصل، وما أجدر لفظة الدبيب بتأدية هذا المعنى، ولا شك في أن أبا نواس نظر إلى هذا البيت حين يقول:
وتمشت في مفاصلهم
كتمشي البرء في السقم
65
ويشربها فلتذع لسانه فيخيل إليه أنه مصاب بالحمى فيقول:
وكأن شاربها أصاب لسانه
من داء خيبر، أو تهامة، موم
66
وتهزه نشوتها فيناله منها زهو وخيلاء، فيقول:
خرجت أجر الذيل زهوا كأنني،
عليك، أمير المؤمنين، أمير
أو يقول:
مشى قرشية لا شك فيها
وأرخى من مآزره الفضولا
وقصارى القول إن الأخطل أحب الخمر كما أحبها الأعشى ووصفها مثله، ولكنه وصف شاربها وتأثيرها فيه بما لم يسبقه إليه شاعر قبله. (3-14) منزلته
عده ابن سلام في الطبقة الأولى بين الشعراء الإسلاميين، وكان حماد الراوية يفضله على جرير والفرزدق فإذا سئل عنه قال: «ما تسألوني عن شاعر حبب شعره إلي النصرانية!» وسأل جريرا ابنه: «يا أبت أأنت أشعر أم الأخطل؟» فقال: «يا بني أدركت الأخطل وله ناب، ولو أدركته وله ناب آخر لأكلني.» وقال فيه أيضا: «الأخطل يجيد نعت الملوك ويصيب صفة الخمر.» وقال عبد الملك للفرزدق: «من أشعر الناس في الإسلام؟» فقال: «كفاك بابن النصرانية إذا مدح.» وقال الأصمعي وذكر جريرا: «كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا، فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدا واحدا، وثبت له الفرزدق والأخطل.» وقال صاحب الأغاني في جرير: «هو والفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعا، ومختلف في أيهم المتقدم ولم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم، فانفضح وسقط وبقوا يتصاولون.» وأخبر أبو عبيدة قال: «جاء رجل إلى يونس فقال له: «من أشعر الثلاثة؟» قال: «الأخطل.» قلنا: «من الثلاثة؟» قال: «أي ثلاثة ذكروا فهو أشعرهم.» فقيل له: «وبأي شيء فضلوه؟» قال: «بأنه كان أكثرهم عدد قصائد طوال جياد ليس فيها سقط ولا فحش، وأشدهم تهذيبا للشعر.» وسأل سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز: «أجرير أشعر أم الأخطل؟» قال: «إن الأخطل ضيق عليه كفره القول، وإن جريرا أوسع عليه إسلامه قوله، وقد بلغ الأخطل منه حيث رأيت.» فقال له سليمان: «فضلت والله الأخطل.» وكان أبو عبيدة يقول: «شعراء الإسلام ثلاثة: الأخطل ثم جرير ثم الفرزدق.» وكان أبو عمرو يفضل الأخطل ويشبهه بالنابغة لصحة شعره، ويقول: «لو أدرك الأخطل يوما واحدا من الجاهلية ما فضلت عليه أحدا.» وقال أبو عبيدة أيضا: «الأخطل أشبه بالجاهلية وأشدهم أسر شعر وأقلهم سقطا.» وحدث عمر بن شبة قال: «كان مما يقدم به الأخطل أنه كان أخبثهم هجاء في عفاف من الفحش.» وقال الأخطل: «ما هجوت أحدا قط بما تستحي العذراء، أن تنشده أباها.» ولقبه عبد الملك بشاعر أمير المؤمنين، وشاعر بني أمية، وأشعر العرب.
والأقوال في الأخطل كثيرة متضاربة، نكتفى منها بهذا القدر الذي يدلنا على ما لشاعرنا من منزلة رفيعة عند الأقدمين، وبوسعنا أن نعتمد على بعضها في إظهار ميزة الشاعر وفضله على أقرانه. فقد رأيت أن علماء اللغة كأبي عمرو وأبي عبيدة ويونس وحماد كانوا يفضلون الأخطل ويشبهونه بشعراء الجاهلية، ولهذا التفضيل سبب: وهو أن هؤلاء الأئمة وغيرهم كانوا يميلون إلى جزالة اللفظ وشدة الأسر، فراقهم في الأخطل فخامة شعره أكثر من رقة شعر جرير وطبعه، وكانوا يغارون على صحة اللغة ويستنكرون اللحن ففضلوا الأخطل على الفرزدق؛ لأنه أصح شعرا وأبعد به من الساقط المرذول، وكانوا معجبين بالسبع الطوال وغيرها من الشعر الجاهلي، فأحبوا الأخطل لطول نفسه ومتانته. وكانوا يعدون له عشر قصائد طوال جياد ليس فيها سقط، وعشرا غيرها إن لم تكن مثلها فليست بدونها؛ ولما يجدوا لجرير بهذه الصفة إلا ثلاثا، وأجمعوا - أو كادوا - على أن الأخطل أحسنهم مدحا، وشهد له الفرزدق بذلك.
ونحن نرى أنه لا يقل في الهجاء عن جرير، وإن قل عنه فحشا، فهو في هجوه لاذع مؤلم؛ وإذا درسنا «نقائض جرير والأخطل» وموقف الشاعرين في ذلك العصر نعلم مبلغ براعة الشاعر التغلبي في هذا الفن. فالأخطل دخل بين جرير والفرزدق بعد أن أسن ونفد أكثر عمره، ومن المعلوم أن شاعرية الشيوخ أضعف من شاعرية الشباب، ولكن الأخطل على كبره استطاع أن يقاوم فحلا من مضر هابته فحول الشعراء في الإسلام.
وإذا نظرنا إلى قول عمر بن عبد العزيز بدا لنا فضل الأخطل في مقارعته جريرا، فقد قال عمر لسليمان بن عبد الملك: «إن الأخطل ضيق عليه كفره القول، وإن جريرا أوسع عليه إسلامه قوله، وقد بلغ الأخطل منه حيث رأيت.» وهذا ما نستطيع أن نتبينه في تهاجي الشاعرين، فإن جريرا يجول في عرض الأخطل جيئة وذهابا فيناله من دينه ويعيره نصرانيته ويفتخر عليه بالإسلام، ويناله من قبيلته فينهش أعراض تغلب، وأعراض ربيعة بن نزار جميعا، وأما الأخطل فلم يكن يجرؤ أن يقابل جريرا بالمثل فيطعنه في ديانته وهو في كنف دولة إسلامية عزيزة الجانب، ولو حدثته نفسه بذلك لما سلم الذي بين كتفيه، وإن يكن شاعر بني أمية وشاعر أمير المؤمنين. وكان يقتصر على هجو كليب قوم جرير الأدنين فلا يجاوزهم إلى بني تميم، وهم قبيلة صاحبه الفرزدق وأخوال بني قريش، ولا يتناول مضر بكلمة سوء لأن قريشا من مضر والنبوة والخلافة في قريش. فأنت ترى أن نطاق الأخطل كان ضيقا في هجو جرير، وهذا ما أشار إليه عمر بن عبد العزيز في قوله: «إن الأخطل ضيق عليه كفره القول.» ويروي لنا صاحب الأغاني أن رجلا من بني شيبان جاء إلى الأخطل فقال له: «يا أبا مالك إن لك عندي نصحا.» قال: «هاته فما كذبت.» فقال: «إنك قد هجوت جريرا ودخلت بينه وبين الفرزدق وأنت غني عن ذلك، ولا سيما أنه يبسط لسانه بما ينقبض عنه لسانك، ويسب ربيعة سبا لا تقدر على سب مضر بمثله، والملك فيهم والنبوة قبله، فلو شئت أمسكت عنه.» فقال: «صدقت في نصحك وعرفت مرادك فوالصليب والقربان، لأتخلصن إلى كليب خاصة دون مضر بما يلبسهم خزيه ويشملهم عاره ، ثم اعلم أن العالم بالشعر لا يبالي، وحق الصليب، إذا مر به البيت السائر الجيد أمسلم قاله أم نصراني!»
فالأخطل إذا لم يكن مطلق العنان فيتصرف في هجو جرير تصرف جرير في هجوه، ومع ذلك فقد بلغ من خصمه مثل ما بلغ خصمه منه، وكان في هجائه فتاكا ممضا فلم يترك شائنة إلا رمى بها بني كليب ورهط جرير.
وجماع القول إن الأخطل شاعر لعوب بالألفاظ والمعاني، وله في الابتكار باع طويل، وهو مبدع في مدحه وهجائه، متفنن في وصف الخمر، مقدم في الشعر السياسي على سائر الشعراء في صدر الإسلام. (4) الفرزدق
67 (732م/114ه) (4-1) حياته
هو همام بن غالب بن صعصعة من دارم ثم من تميم، لقب بالفرزدق لغلاظة وجهه وجهومته،
68
وكنيته أبو فراس، وكانت ولادته في البصرة ونشأته في باديتها، فشب خالص البداوة، جافي الطباع، قوي الشكيمة، لا تلين قنانه، وكان له من مناقب قومه ومآثرهم ما أفعم نفسه زهوا وكبرا، وفسح له في مجال الفخر على أقرانه، فباهى الناس بآبائه وجدوده، وكان أبوه غالب من أجواد العرب المشهورين، إذا نحر لا يجاريه منافس، وإذا أعطى لا يسأل عفاته: من هم؟ وجده صعصعة له صحبة ولكنه لم يهاجر، وهو الذي أحيا الوئيدة، وبه افتحر الفرزدق في قوله:
وجدي الذي منع الوائدات
وأحيا الوئيد، فلم يوأد
69
قيل: إنه اشترى ثلاثمئة وستين موءودة كل واحدة منهن بناقتين وجمل، وأم الفرزدق ليلى بنت حابس أخت الصحابي الأقرع بن حابس.
ونظم الفرزدق الشعر صغيرا فجاء به أبوه إلى الإمام علي وقال: «إن ابني هذا من شعراء مضر فاسمع منه.» قال: «علمه القرآن.» فلما كبر الفرزدق تعلمه وهو مقيد لئلا يلهو عنه. (4-2) تشيعه
وكان يتشيع لعلي وأبناء علي ويجاهر بحبه لهم، وإذا مدحهم تدفق شعره عاطفة وحماسة، فما ترى فيه أثرا لتكلف المادح المتكسب، وخير دليل على صدق موالاته آل البيت قصيدته في زين العابدين، فهي من أبلغ الشعر وأخلصه عاطفة؛ أنشدها في وجه هشام بن عبد الملك لما حج على عهد أبيه وطاف بالبيت، وجهد أن يستلم الحجر الأسود فلم يبلغه لكثرة الزحام، فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس وحوله جماعة من أهل الشام. فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان من أجمل الناس وجها، فطاف بالبيت حتى إذا انتهى إلى الحجر انشقت له الصفوف ومكنته من استلامه. فقال رجل من أهل الشام لابن عبد الملك: «من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟» فقال هشام: «لا أعرفه.» وخاف أن يذكر اسمه فيرغبهم فيه، وكان الفرزدق حاضرا فقال: «أنا أعرفه.» فقال الشآمي: «ومن هو يا أبا فراس؟» فقال كلمته:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه، والحل والحرم
70
فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فهجاه الفرزدق بقوله:
أتحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوي منيبها
71
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد،
وعين له حولاء، باد عيوبها
72
فبلغ شعره هشاما فأمر بإطلاقه خوفا من لسانه. (4-3) اتصاله بالأمويين
على أن تشيعه لآل البيت لم يصرفه عن التقرب إلى الأمويين، فمدحهم رهبة منهم أو رغبة في نوالهم، وأكثر مدائحه في سليمان بن عبد الملك، ولكنه لم ينل حظوة الأخطل عندهم ولا استقام له أن يمدحهم بمثل شعره. فهم كانوا يعلمون موضع هواه، وهو كان يتكلف مدحهم على كره منه، وربما مرت به ساعة لا يستطيع فيها أن يسخر عاطفته، فيدعوه الخليفة إلى مدحه فما يطيق ذلك، فيعمد إلى الافتخار بنفسه، فعله في حضرة سليمان بن عبد الملك لما استنشده فيه أو في أبيه فأنشده مفتخرا عليه:
وركب كأن الريح تطلب عندهم
لها ترة، من جذبها بالعصائب
73
سروا يخبطون الليل، وهي تلفهم
إلى شعب الأكوار، من كل جانب
74
إذا استوضحوا نارا يقولون: ليتها،
وقد خصرت أيديهم، نار غالب
75
فتبين غضب سليمان، وكان نصيب الشاعر حاضرا فأنشده أبياتا يمدحه بها، فقال الخليفة: «يا غلام أعط نصيبا خمس مئة دينار، وألحق الفرزدق بنار أبيه.» فخرج الفرزدق مغضبا يقول:
وخير الشعر أكرمه رجالا
وشر الشعر ما قال العبيد
76
وقد يمدح عمال بني أمية ثم يهجوهم إذا وجد سبيلا إلى هجوهم، أو يهجوهم ثم يمدحهم إذا خشي شرهم. فقد رثى الحجاج بقوله:
فليت الأكف الدافنات ابن يوسف
يقطعن، إذا غيبن تحت السقائف
77
فلما بويع بالخلافة سليمان بن عبد الملك بعد أخيه الوليد مدحه الفرزدق، وهجا الحجاج وقومه؛ فقيل له: كيف تهجوه وقد مدحته؟ فقال: «نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلى منه انقلبنا عليه.»
وهجا آل المهلب فسخطوا عليه، فلما ولى سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب خراسان والعراق خاف الفرزدق فمدحهم. فلا تعجب إذا أن ترى الفرزدق مجفوا على سمو قدره في دولة الشعر، فبنو أمية وعمالهم لم يطمئنوا إلى ولائه ولطالما نالوا منه فحبسوه أو أبعدوه، وإذا أجازوه أحيانا فتقية للسانه أو رغبة في شعره ليمدحهم به. (4-4) الفرزدق الطريد
وكان خبث لسانه وتعهره يساعدان أولي الأمر على أذيته، فإذا هجا قوما أو نال من حرماتهم، استعدوا عليه السلطان، فيطارده فيفر من وجهه، أو يحبسه أو ينفيه فيكفي الناس شره ولو إلى حين.
ويحدثنا صاحب الأغاني أن الفرزدق كان يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم وكلاهما من دارم؛ فاستعدوا عليه زياد ابن أبيه وهو على البصرة من قبل معاوية، ففر الفرزدق إلى المدينة مستجيرا بعاملها سعيد بن العاص فأمنه. ثم ولي المدينة مروان بن الحكم فعلم أن الفرزدق يشرب الخمر ويدخل إلى القيان، فدعاه وتوعده وقال: «اخرج عني»، فعزم على الشخوص إلى مكة، فكتب مروان إلى بعض عماله ما بين مكة والمدينة بأن يصله بمئتي دينار، فارتاب بكتاب مروان فجاء إليه يقول:
مروان إن مطيتي معقولة
ترجو الحباء، وربها لم ييأس
78
أتيتني بصحيفة مختومة
يخشى علي بها حباء النقرس
79
ألق الصحيفة يا فرزدق. لا تكن
نكداء مثل صحيفة المتلمس
80
ثم رمى بالصحيفة، فضحك مروان وقال: «ويحك إنك أمي لا تقرأ، فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم ردها حتى أختمها.» فذهب بها، فلما قرئت له إذا فيها جائزة فردها إلى مروان فختمها.
وظل الفرزدق طريدا عن البصرة حتى هلك زياد. (4-5) خبره مع النوار
ولم تكن حظوته عند النوار بأحسن من حظوته عند الخلفاء وعمالهم، مع أن النوار بنت عمه، والدها أعين بن ضبيعة المجاشعي؛ وكان الفرزدق وليها، فخطبها رجل من دارم فرضيته، وأرسلت إلى ابن عمها أن يزوجها إياه، فقال: «لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك.» ففعلت، فلما توثق منها وقف في مسجد بني مجاشع بن دارم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها، وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مئة ناقة حمراء، سوداء الحدقة.» فنفرت منه وفزعت إلى مكة وفيها عبد الله بن الزبير، وقد بايعه العراق والحجاز، فاستجارت بامرأته بنت منظور بن زبان الفزاري، فتبعها الفرزدق، ولما قدم مكة اشرأب الناس إليه، ونزل على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه ثم شفعوا له إلى أبيهم، فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا صار إلى امرأته قلبته عن رأيه، فمال إلى النوار وأشار عليه بتطليقها فأبى وهجاه، وظل يرقيها حتى اصطلحا على أن يرجعا إلى البصرة، ويحكما في أمرهما بني تميم. فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها، ومكثت عنده زمانا ترضى عنه حينا وتخاصمه أحيانا، فأراد إغاظتها فتزوج عليها حدراء
81
بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني فخاصمته النوار وأخذت بلحيته وقالت: «تزوجت أعرابية دقيقة الساقين على مئة بعير.» فقال يفضل عليها حدراء:
لعمرى، لأعرابية في مظلة
تظل بروقي بيتها الريح تخفق
82
أحب إلينا من ضناك ضفنة
إذا وضعت عنها المراوح تعرق
83
فشكته إلى جرير فهجاه وهجا حدراء.
ولم يطب للنوار عيش في كنف الفرزدق، فظلت ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها، وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له، وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل وطلقها ثلاثا، ثم ندم وتحسر، وله فيها شعر كثير منه:
ندمت ندامة الكسعي لما
غدت مني مطلقة نوار
84
وكانت جنتي فخرجت منها
كآدم حين أخرجه الضرار
85
وكنت كفاقئ عينيه عمدا
فأصبح ما يضيء له النهار (4-6) جبنه
وكان الفرزدق على إعجابه بنفسه ومباهاته بأصله شديد الجبن لا يقاتل إلا بلسانه، وكان خصومه يتخذونه من جبنه ذريعة للضحك به والتشفي من غيظهم، وله معهم أخبار كثيرة نكتفي بواحدة منها رواها أبو عبيدة عن رؤبة بن العجاج قال: حج سليمان بن عبد الملك وحجت الشعراء معه، فلما جاء المدينة تلقوه بنحو أربع مئة أسير من الروم، فقعد يدفعهم إلى الوجوه وإلى الناس فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيرا فلم يجد سيفا فدسوا إليه سيفا كليلا فضرب الأسير فلم يصنع شيئا، فضحك القوم به ومن سوء ضربته، وشمت بنو عبس، فغضب الفرزدق وأنشأ يقول:
إن يك سيف خان، أو قدر أبى
لتأخير نفس حتفها غير شاهد
86
فسيف بني عبس، وقد ضربوا به
نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
87
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها
ويقطعن أحيانا مناط القلائد
88
وقال أيضا:
أيعجب الناس أن أضحكت خيرهم
خليفة الله يستسقى به المطر؟
89
لم ينب سيفي من رعب ولا دهش
عن الأسير، ولكن أخر القدر
90
ولن يقدم نفسا، قبل مدتها
جمع اليدين، ولا الصمصامة الذكر
91
ثم مضى وهو يقول:
ما إن يعاب سيد إذا صبا
ولا يعاب صارم إذا نبا
ولا يعاب شاعر إذا كبا
92
فشمت به جرير وعيره بقوله:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع
ضربت، ولم تضرب بسيف ابن ظالم
93
ضربت به عند الإمام، فأرعشت
يداك، وقالوا: «محدث غير صارم»
94
فرد عليه الفرزدق بقوله:
ولا نقتل الأسرى، ولكن نفكهم
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
95
فهل ضربة الرومي جاعلة لكم
أبا عن كليب أو أبا مثل دارم؟
96 (4-7) الفرزدق وجرير
وكان السبب في تهاجي الفرزدق وجرير أن شاعرا من بني يربوع يقال له غسان السليطي هجا جريرا فرد عليه جرير فأخزاه، فشكا آل يربوع إلى البعيث المجاشعي قهر جرير صاحبهم، فجعل البعيث يقول: «وجدنا الشرف والشعر في بني النوار بنت مجاشع.» فبلغ ذلك جريرا فهجا البعيث وقومه، فجاء البعيث إلى بني الخطفي رهط جرير، وقال: «يا قوم عجلتم علي.» فقالوا: «بلغنا عنك أمر فإن شئت قلت كما قلنا، وإن شئت صفحت.» فقال: «بل أصفح.» فأقام مجاورا لهم ثلاث سنين ثم إنه فارقهم راضيا، فقدم على ناس من بني مجاشع فسألوه عن بني الخطفي فأثنى عليهم خيرا، فقال رجل منهم: «لحسن ما جازيتهم على الذي قالوا لك.» ثم أنشده قول جرير فيه، ولم يزالوا به حتى أغضبوه، فهجا بني كليب. فقالت بنو كليب لعطاء بن الخطفي: «اركب إلى بني مجاشع واستنههم من أنفسهم فقد قالوا كما قيل لهم.» فأتاهم عطاء فقال: «أي بني مجاشع الإخوة والعشيرة، وقد قلتم كما قيل لكم فانتهوا عنا.» فأبى البعيث إلا هجاءهم. فلحم الهجاء بين جرير والبعيث فسقط غسان. ثم استطال جرير وأفحش القول في نساء مجاشع. فضج البعيث إلى الفرزدق، وهو يومئذ بالبصرة، وقد قيد نفسه وآلى ألا يفك قيده حتى يقرأ القرآن، وأقبلت عليه نساء مجاشع وقلن له: «قبح الله قيدك وقد هتك جرير عورات نسائك فلحيت شاعر قوم!» فأحفظنه ففض قيده وقال:
ألا استهزأت منى هنيدة أن رأت
أسيرا يداني خطوه حلق الحجل
97
ولو علمت أن الوثاق أشده
إلى النار، قالت لي مقالة ذى عقل
98
لعمري، لئن قيدت نفسي، لطالما
سعيت، وأوضعت المطية في الجهل
99
ثلاثين عاما، ما أرى من عماية
إذا برقت، إلا أشد لها رحلي
100
أتتني أحاديث البعث، ودونه
زرود، فشامات الشقيق من الرمل
101
فقلت: أظن ابن الخبيثة أنني
شغلت عن الرامي الكنانة بالنبل؟
102
فإن يك قيدي كان نذرا نذرته
فما بي عن أحساب قومي من شغل
أنا الضامن الراعي عليهم، وإنما
يدافع عن أحسابهم أنا، أو مثلي
103
وهجا الفرزدق البعيث لعجزه عن مقاومة جرير فسقط البعيث. قال ابن سلام: «ولج الهجاء بين جرير والفرزدق نحوا من أربعين سنة لم يغلب واحد منهما على صاحبه، ولم يتهاج شاعران في الجاهلية ولا في الإسلام بمثل ما تهاجيا به.» (4-8) موته
يحدثنا صاحب الأغاني أن لبطة بن الفرزدق قال: «إن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته، ووصف له أن يشرب النفط الأبيض، فجعلوه في قدح وسقوه إياه فقال: «يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار.» وكان له عبيد فأوصى بعتقهم بعد موته وبدفع شيء من ماله إليهم، فلما احتضر جمع أهل بيته وأنشأ يقول:
أروني من يقوم لكم مقامي
إذا ما الأمر جل عن الخطاب؟
104
إلى من تفزعون إذا حثوتم
بأيديكم علي من التراب؟
105
فقال له بعض عبيده: «إلى الله.» فأمر ببيعه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه.»
وذكر ابن قتيبة أنه مات وقد قارب المئة، وكانت علته الدبيلة،
106
وكان يسقى النفط الأبيض وهو يقول: «أتعجلون لي النار في الدنيا!»
وكانت وفاته في خلافة هشام بن عبد الملك، وله قصيدة يمدحه بها ويهنئه بالخلافة، منها قوله:
رمتني بالثمانين الليالي
وسهم الدهر أصوب سهم رام
وخلافة هشام تبتدئ في السنة الخمسين بعد المئة للهجرة، فإذا كان الفرزدق يومئذ في الثمانين من عمره كما ذكر في شعره، فلا يصح أن تكون سنه قد نيفت على التسعين يوم وفاته، هذا إذا حسبنا أن القصيدة قيلت في السنة الأولى لخلافة هشام وأن الشاعر كان في الثمانين دون زيادة أو نقصان، وفي أي حال فإن الفرزدق لم يبلغ المئة وإنما مات في التسعين أو دون التسعين أو أنه جاوزها قليلا. (4-9) آثاره
آثاره ديوان مطبوع أكثره في المدح والفخر والهجاء، وطبعت «نقائض جرير والفرزدق» في ليدن فجاءت في مجلدين ضخمين، وهو من أصحاب الملحمات ومطلع ملحمته:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
107 (4-10) ميزته
لم يشغل الناس شاعر في الجاهلية ولا في الإسلام كما شغلهم جرير والفرزدق بتهاجيهما، فقد لبثا أربعين سنة يتشاتمان، والناس تسمع لهما ولا تتفق على تفضيل الواحد منهما على الآخر، وكان يصح لنا أن نقتصر على درس خاصة الهجاء في الفرزدق، وما يتبع هذا الهجاء من فخر، لو لم تكن لشاعرنا خصائص أخرى لا ينبغي إغفالها، وإن تكن خاصة الهجاء أظهرها. فالفرزدق في تشيعه لآل البيت، وفي اتصاله بالخلفاء الأمويين وعمالهم شاعر مداح ولكن مدحه لهؤلاء يختلف عن مدحه لأولئك، فهو في ذكر آل البيت صادق اللهجة، بين الحماسة، متدفق العاطفة؛ وفي مدح الأمويين كذوب متكلف يظهر خلاف ما يبطن، والفرزدق في غزله يصطنع القصص الغرامي كابن أبي ربيعة ويتعهر مثله، غير أنه لا ينقاد له هذا الفن في الجودة والرقة انقياده لعمر، والفرزدق أول شاعر مسلم نظم في الزهد وخاطب إبليس وهجاه، وهو أكثر الشعراء الإسلاميين سرقة وانتحالا. فعلينا أن ندرس به خاصة الهجاء في شيء من الإسهاب، ثم نلم بسائر خصائصه لنعرف من هو الفرزدق وما هي ميزة شعره. (4-11) هجوه وفخره
ولسنا نعجب إذا رأينا للفرزدق شعرا كثيرا في الهجاء بعد أن علمنا أنه نتاج حرب عوان دارت بينه وبين جرير أربعين سنة؛ وكان فيها كلا الشاعرين يعنى بنقض أقوال خصمه لئلا يعد مغلبا، فالهجاء صفة لازمة لشعر الفرزدق كما أنه صفة لازمة لشعر جرير.
وإذا أراد الفرزدق أن يهجو وضع نفسه في مرتبة يتضاءل دونها خصمه، وشرع يعدد مفاخر قومه، ويذكر ما لهم من الأيام، وما هم عليه من كرم وخير ونجدة وإباء، وكان له من شرف قبيلته ومآثر آبائه ما فسح له في مجال الفخر والاستعلاء.
وهو على شدة إعجابه بقومه لا يغفل عن الافتخار بنفسه، وأكثر فخره بشاعريته، وهي المفخرة الوحيدة التي نجدها فيه، ونرى أنه يحق له أن يباهي بها، ولا ينتهي الفرزدق من مفاخرة خصمه إلا ليحشوه شتما وتعبيرا، فيعلن مخازيه ومخازي قبيلته، ويطعن في أعراضهم طعنا قبيحا مكثرا من الألفاظ الفاحشة، والأخبار الشائنة، حتى ليصبح شعره بؤرة فجور وفساد، وإذا رأيته يفتخر بقوله:
ولا نقتل الأسرى، ولكن نفكهم
إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
فلا تتوهم أنه يؤثر الرحمة على الظلم، ولكنه أراد الرد على من عيره الجبن فلم يجد غير هذه السبيل، وربما افتخر بالظلم فقال:
إذا مضر الحمراء حولي تعطفت
علي، وقد دق اللجام شكيمي
108
أبت أن أسوم الناس إلا ظلامة
وكنت ابن مرغام العدو ظلوم
109
ولا يقتصر في هجاء جرير على الدفاع عن بني دارم، بل يدافع أيضا عن تغلب قبيلة حليفه الأخطل، ويفاخر بهم جريرا وقومه. كما فاخر الأخطل ببني دارم ودافع عنهم:
لولا فوارس تغلب ابنة وائل
نزل العدو عليك كل مكان
110
حبسوا ابن قيصر، وابتنوا برماحهم
يوم الكلاب كأفضل البنيان
111
قوم هم قتلوا ابن هند، عنوة
عمرا، وهم قسطوا على النعمان
112
إن الأراقم لن ينال قديمها
كلب عوى، متهتم الأسنان
113
فعلى هذا النحو كان الفرزدق يهجو جريرا ويفتخر عليه، ويمزق عرضه وأعراض بني كليب أجمعين، ذاكرا سوءاتهم، فاضحا نساءهم، معددا انكساراتهم. وله في ذلك أسلوب خاص لا يتعداه، فهو لا يستطيع أن ينكر أن كليبا من تميم وأنهم أبناء عمه على الرغم منه، ولكنه يجعلهم أذل بني تميم وأحقرهم، وأخسهم وأجبنهم، ثم يجعلهم يتطاولون إلى دارم وينتحلون نسبها؛ ودارم تزبنهم
114
عنها، وهو إذا افتخر بأيام بني تميم جعل الفضل فيها لبني دارم، وإذا ذكر ما عليها من الأيام حصر مخازيها ببني كليب. فرهط جرير عند الفرزدق أعجز من أن يطاولوا دارما.
وهو على عنايته بهجو كليب لا يعف عن قيس عيلان بل يهجوهم هجاء خبيثا وينفر عليهم التغلبيين:
وما لقيت قيس بن عيلان وقعة
ولا حر يوم، مثل يوم الأراقم
115
ويندد بهم لمناصرتهم ابن الزبير على بني أمية، ويعيرهم انكساراتهم ويشتم جريرا معهم لأنه كان يدافع عنهم. (4-12) مدحه
عرفنا أن الفرزدق كان يشايع آل البيت وأن الأمويين كانوا يعرفون ذلك فيه، فلم يحظ عندهم كما حظي الأخطل النصراني، ولكنه مدحهم وأجازوه على مدحه، ونستدل من شعره أنه أخذ يتصل بهم في خلافة الوليد بن عبد الملك؛ إذ ليس له في أبيه ما يستحق الذكر. على أن مدحه لهم لم يكن إلا تكلفا، وسنجد أثر هذا التكلف في شعره الذي مدحهم به إذا قابلناه بشعره الذي مدح به آل البيت. فهو في مدح الأمويين متكسب يستجدي أو راهب يستعطف، وفي مدح آل البيت عاطفي بحت ينطق عما في نفسه من هوى. فنحن لا نستطيع أن نصدق شاعرا يتشيع لعلي وأبنائه حين نسمعه يخاطب الوليد بن عبد الملك:
أما الوليد فإن الله أورثه
بعلمه فيه، ملكا ثابت الدعم
116
خلافة لم تكن غصبا مشورتها
أرسى قواعدها الرحمن ذو النعم
117
كانت لعثمان لم يظلم خلافتها
فانتهك الناس منه أعظم الحرم
118
أفيصح لنا أن نحسب الفرزدق مخلصا في هذا المدح، صادقا في جعله الخلافة حقا من الله لبنى أمية، وفى قوله إنهم أخذوها شورى لا غصبا، وأن مقتل عثمان بن عفان أعطاهم هذا الحق الموروث؟ وقد علمنا أن أصحاب آل البيت ينكرون على الأمويين هذه الدعوى، ولا يرون أحدا أحق بالخلافة من أبناء بنت الرسول، والفرزدق نفسه كان يأبى أحيانا أن يمدح الأمويين على ما فيه من ميل إلى التكسب، وقد أوردنا خبره مع سليمان بن عبد الملك، ورأيناه في مكان آخر لا يحجم عن التعريض بهشام بن عبد الملك وهو حاضر لإنكاره زين العابدين. ثم رأيناه يهجو هشاما بعد أن حبسه، فيقول فيه:
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد
وعين له حولاء، باد عيوبها
ولكنه لم يستنكف من مدحه لما تبوأ سدة الخلافة، فقصد إليه في الرصافة
119
وأنشده قصيدة يقول فيها:
رآك الله أولى الناس طرا
بأعواد الخلافة، والسلام
120
أفيمكن أن يخلص الفرزدق في مدحه لهشام، ويصدق في زعمه أنه أولى الناس بالخلافة، وهو القائل فيه: «تبين فيه الشؤم وهو غلام؟» وحسبك أن تقابل قوله في هشام بقوله في زين العابدين لترى الفرق بينهما، وتعلم أن الشاعر لم يمدح هشاما إلا خائفا، أو مستجديا يستمطر الربيع لعياله، فكان شعره متكلفا خاليا من العاطفة؛ وأنه لم يمدح زين العابدين إلا مشغوفا بمناقبه ومناقب آله، فجاء شعره عاطفيا صرفا لا أثر للتكلف عليه، وأنى يكون التكلف في قصيدة جاش بها صدر الشاعر فقذفها بيتا إثر بيت، والتأثر النفسي يملك عليه؟ ويختلف أسلوبه فيها عن أسلوبه في مدح هشام. فهو لا يسأل زين العابدين ولا يستجديه، ولكنه يبث عاطفة متقدة بحب آل البيت ، عاطفة نفس تؤمن بكرامتهم وترجو بهم الثواب في الآخرة.
وإذا علمت أن زين العابدين أرسل إلى الفرزدق أربعة آلاف درهم لما بلغته القصيدة، فردها الفرزدق عليه وقال له: «إنما مدحتك بما أنت أهله» - إذا علمت ذلك - تبين لك صدق الفرزدق، وإخلاصه في مدحه أبناء بنت الرسول.
وقد شك بعضهم في زعم الرواة أن هذه القصيدة قيلت ارتجالا، ولكننا لا نرى وجها للشك يصح الاعتماد عليه، ولا سيما أن أدلة الارتجال متوافرة. فالقصيدة قصيرة لا تبلغ الثلاثين بيتا، وفيها من الإيطاء
121
شيء كثير مما يدل على أنها لم تحكك في النظم بل جاءت عفو الخاطر، وليس بعجيب أن يرتجلها شاعر في صدر الإسلام كالفرزدق له من ملكته الشعرية، وبلاغته، وصفاء ذهنه ما يهون عليه الارتجال، وخصوصا في موقف كان التأثر يملي على العاطفة، والعاطفة تكتب. (4-13) غزله
لم يكن الفرزدق على تعهره ممن يحسنون الغزل والتشبيب بالنساء، فإذا نسب جاء قوله غليظا جافيا لا ترتاح إليه النفوس، وكان يشعر بتصلب عاطفته وخشونة تشبيبه فيقول: «ما أحوج جريرا مع عفته إلى صلابة شعري، وما أحوجني إلى رقة شعره مع شدة فسقي.»
وقد يخرج في غزله إلى المعاني الوحشية السمجة التي تنبو عنها الأذواق كقوله:
فيا ليتنا كنا بعيرين، لا نرى
على منهل، إلا نشل، ونقذف
122
كلانا به عر، يخاف قرافه
على الناس، مطلي المساعر، أخشف
123
وتجد في ديوانه قصيدة من القصص الغرامي يروي فيها خبر زيارة ليلية هي أشبه بزيارة ابن أبي ربيعة أو زيارة امرئ القيس، ولكنه يقصر عنهما في السرد والحوار، ولا يجاريهما في الرقة ولطف التعبير. فمنها قوله:
فما زلت حتى أصعدتنى حبالها
إليها، وليلي قد تخامص آخره
124
فإذا بلغ إليها لا يسمعك حوارا بينهما كما أسمعك الملك الضليل وفتى قريش، بل يلتقيها صامتة ما تنبس ببنت شفة، فيصف مجلسه بأبيات ثلاثة، ثم يقول ذاكرا تخوفه الرجوع:
أحاذر بوابين قد وكلا بها
وأسمر من ساج تئط مسامره
125
وهنا يسألها: «وكيف النزول؟» فتجيبه مظهرة له المصاعب التي تكتنفه، فيطلب إليها أن تدليه بالحبال كما أصعدته. فتفعل وتساعدها على إنزاله رفيقة لها:
هما دلتاني من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش، كاسره
126 (4-14) رثاؤه
ولم تكن عاطفته في الرثاء أقل تصلبا منها في الغزل، فقد مات أبوه فرثاه؛ فكان في رثائه إياه جافيا، ومات ولداه فأراد رثاءهما فتصلبت عاطفته، فأخذ يعزي نفسه بذكر من مات قبلهما من كرام الرجال، وختم مرثاته بقوله:
فما ابناك إلا ابن من الناس، فاصبري
فلن يرجع الموتى حنين المآتم
127
وماتت زوجه، وكان يحبها، فلم يستطع رثاءها فبكتها النوادب بشعر جرير، وقيل له أن يزور قبرها فقال:
ولست، وإن عزت علي، بزائر
ترابا على مرموسة قد تضعضعا
128
وأهون مفقود، إذا الموت ناله
على المرء من أصحابه، من تقنعا
129
فكيف ترجو أن تلين عاطفته، فيرثي زوجه رثاء حسنا، وهو يرى أن المرأة أهون مفقود على الرجل؟ (4-15) زهده
قد نكون مسرفين إذا وصفنا الفرزدق بالزهد، وجعلنا لشعره ميزة من هذه الناحية. فالزهد في حقيقته لم يعرفه الشعر العربي إلا في خلافة العباسيين؛ هذا بصرف النظر عما أضيف إلى علي بن أبي طالب من الأشعار الزهدية؛ لأن الإمام عليا لم ينظم الشعر وإنما كان خطيبا بليغا، وله في الزهد أقوال نثرية مشهورة، وليس له في الشعر شيء ثابت.
ولكن الفرزدق، على ضعف الخاصة الزهدية في شعره حتى نكاد لا نشعر بها، هو أول شاعر إسلامي أخذ بأهداب هذا الفن، فنظم قصيدة يهجو بها إبليس، ويتوب إلى ربه نادما على ذنوبه، وهي وإن تكن لا تستوعب شروط الشعر الزهدي من ذم الدنيا وملاذها، وإيراد المواعظ والحكم والأمثال، فإنها تنضم إليه بما فيها من إقرار بالخطيئة، وتوبة إلى الله، وخطاب للشيطان لم يسبق إليه.
على أن توبته غير حرية بالتصديق والإعجاب، لأنه لم يتمسك بها كثيرا بل ارتد عنها بعد حين، ومعاصروه أنفسهم لم يتلقوها بالاطمئنان لما يعهدون به من فحش وفجور، فإن ابن سلام يحدثنا بأن الفرزدق أتى الحسن
130
فقال له: «إنى قد هجوت إبليس فاسمع.» فقال: «لا حاجة لنا بما تقول .» قال: «لتسمعن أو لأخرجن فأقول إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس.» فقال الحسن: «اسكت فإنك عن لسانه تنطق.» (4-16) سرقاته
اشتهر الفرزدق بسرقة الشعر فكان لا يسمع بيتا عائرا
131
إلا قال لصاحبه: «لتتركن هذا البيت لي أو لتتركن عرضك!» فيتركه له خوفا من لسانه، فينتحله الفرزدق ويدمجه في شعره. وكان يقول: «خير السرقة ما لا يجب فيه القطع.»
132
يعني سرقة الشعر، ويروي لنا صاحب الأغاني: أن الفرزدق مر يوما بالشمردل وهو ينشد قصيدة حتى بلغ إلى قوله:
وما بين من لم يعط سمعا وطاعة
وبين تميم غير حز الغلاصم
133
فقال: «والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك!» قال: «خذه على كره مني!» فأخذه الفرزدق وهو في إحدى قصائده.
ومر بابن ميادة وهو ينشد:
لو أن جميع الناس كانوا بربوة
وجئت بجدي ظالم وابن ظالم
134
لظلت رقاب الناس خاضعة لنا
سجودا على أقدامنا بالجماجم
فقال: «أما والله يا ابن الفارسية لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها.» فقال له ابن ميادة: «خذه لا بارك الله لك فيه.» فانتحل الفرزدق البيتين ووضع دارما مكان ظالم فقال: «وجئت بجدي دارم وابن دارم.» وأخذ لملحمته من جميل بثينة أسير بيت فيها، وهو قوله:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس، وقفوا (4-17) مداخلته الكلام
وكان يداخل الكلام ويجوز في شعره ما لا يجوزه غيره، فرويت له أبيات كثيرة خالف فيها القواعد النحوية والبيانية، فأخذها النحاة وعلماء البيان شواهد في مباحثهم، وسخط بعضهم عليه من أجلها وسر بها بعضهم الآخر، ولا سيما أصحاب النحو؛ لأنها كانت تشغلهم في تمحل أوجه إعرابها. فمن ذلك قوله يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال هشام بين عبد الملك:
وما مثله في الناس إلا مملكا
أبو أمه حي أبوه يقاربه
والشاهد فيه التعقيد، وهو أن لا يكون الكلام ظاهر المراد، والمعنى: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، أي ابن أخته هشام. فالضمير في أمه يعود على المملك يعني هشاما، والضمير في أبوه يعود على الممدوح يعني خاله إبراهيم. ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ؛ وأبوه وهو خبر بلفظ أجنبي وهو حي، وكذا فصل بين حي ويقاربه، وهو نعته، بأجنبي آخر وهو أبوه، وقدم المستثنى على المستثنى منه، فهو كما تراه في غاية التعقيد، وكان من حقه أن يقول: وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه، ورفع مملك أشهر؛ لأن ما يبطل عملها إذا انتقض خبرها بإلا، وعدم إبطاله لغة حجازية.
وقوله:
وعض زمان با ابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا، أو مجرف
135
فنصب مسحتا على أنه مفعول لم يدع، ورفع بعده مجرف مع أنه معطوف عليه، فجعله النحاة خبرا لمبتدإ محذوف، وأما أبو عبيدة فإنه فسر لم يدع بمعنى لم يثبت ويستقر من الدعة، فارتفع مسحت ومجرف بفعلهما، وفي ذلك ما فيه من تعسف وتمحل. وللفرزدق شعر كثير من هذا النوع. (4-18) مقلداته
قال ابن سلام: وكان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا، والمقلد البيت المستغني بنفسه، المشهور الذي يضرب به المثل. فمن ذلك قوله:
وكنا إذا الجبار صعر خده
ضربناه حتى تستقيم الأخادع
136
وقوله:
ترى كل مظلوم إلينا فراره
ويهرب منا جهده كل ظالم
وقوله:
والشيب ينهض في الشباب كأنه
ليل يصيح بجانبيه نهار
137
وله غير ذلك كثير. ولعل مقلداته هي التي جعلت الأدباء الأقدمين يشبهونه بزهير بن أبى سلمى. (4-19) قصاره وابتداءاته
وكان الفرزدق يكثر من القصائد القصيرة ويفضلها على الطويلة، فسئل يوما: «ما بال قصارك أكثر من طوالك؟» فقال: «لأني رأيتها أثبت في الصدور، وفي المحافل أجول.» وغلبت الجودة على قصاره ولم تخل طواله من الجميل الرائع.
ومما يجدر ذكره أن الفرزدق كان لا يعنى كثيرا باختيار مطالعه، فليس له ابتداءات تذكر كما لغيره، وأكثر ابتداءاته خالية من التصريع.
138
فكأنه كان يميل إلى التملص من قيود طالما رسف بها الشعراء في أيامه، وقبله وبعده، وكثيرا ما تناول موضوعه مدحا أو هجاء دون أن يوطئه بالغزل. (4-20) منزلته
عده ابن سلام في الطبقه الأولى من الإسلاميين وقدمه في الذكر على جرير والأخطل، وقال: «كان يونس يقدم الفرزدق بغير إفراط، وكان المفضل يقدمه تقدمة شديدة.» وقال جرير: «الفرزدق نبعة الشعر.»
139
وقال أبو عبيدة: «كان الفرزدق يشبه من شعراء الجاهلية بزهير.» وقال أيضا: «لولا الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.» وقال أبو الفرج الأصفهاني: «والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل، ومحله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول، أو يدل على مكانه بوصف . أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق، وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا.»
وقال الفرزدق: «قد علم الناس أني أفحل الشعراء، وربما أتت علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت.» وقال مالك بن الأخطل: «جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت في صخر.»
وهذا الحكم يصف لنا أدق وصف صلابة شعر الفرزدق وخشونة ألفاظه، وفي كلام الفرزدق على نفسه ما يعلمنا أن الشعر كان يعصيه أحيانا فما ينقاد له إلا بعد نصب، وإجهاد النفس في قرض الشعر يحتاج إلى النحت، والشعر المنحوت يكثر فيه التكلف اللفظي ويقل الطبع، وقد أفرط الفرزدق في استعمال الوحشي من الكلام حتى قال فيه أبو عبيدة: «لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.» وحفظ لنا شعره كثيرا من أيام العرب وعاداتهم وأخلاقهم، فقلما تقرأ له نقيضة إلا وجدتها حافلة بطائفة من الأخبار.
ومنزلة الفرزدق قائمة على نقائضه، فإن مهاجاته لجرير جعلت الناس في صدر الإسلام ينقسمون حزبين: حزبا فرزدقيا وآخر جريريا، وكان كل واحد منهما يتعصب لشاعره ويفضله على قرنه، حتى بلغ من أحد الفرزدقيين أنه عقد جائزة قيمتها 4000 درهم وفرس لمن يفضل الفرزدق على جرير.
ومجمل القول أن الفرزدق لم يبلغ شأو الأخطل في المدح، غير أنه أناف عليه وعلى جرير بالفخر، وثبت لجرير في الهجاء، ولكنه تضاءل عنه بالغزل والرثاء لتصلب عاطفته، وفضله على الشعر لا يقل عن فضل صاحبيه. (5) جرير
140 (732م/144ه ؟) (5-1) حياته
هو جرير بن عطية بن الخطفي، والخطفي لقب جده حذيفة بن بدر من كليب بن يربوع ثم من تميم، وأمه حقة بنت معيد الكلبية، وكان يكنى أبا حزرة، وحزرة ولده؛ وله غيره سبعة ذكور وابنتان.
نشأ جرير في بادية اليمامة في أسرة دون أسرة الفرزدق جاها وثروة وشرفا، وكان أبوه مضعوفا لا يقاس بأبي الفرزدق في الشهرة والجود وعلو القدر، وقد نستطيع أن نعرف مكانة والده من حديث لبلال بن جرير قال: «قال رجل لوالدي : «من أشعر الناس؟» قال: «قم حتى أعرفك الجواب.» فأخذه بيده وجاء به إلى أبيه عطية، وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها، فصاح به: «يا أبت!» فخرج شيخ دميم رث الهيئة، وقد سال لبن العنز على لحيته. فقال أبي للرجل: «أترى هذا؟» قال: «نعم.» قال: «أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز؟» قال: «لا.» قال: «مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن.» ثم قال: «أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم به وغلبهم جميعا.»
على أن جريرا لم يكن برا بأبيه، فالرواة يحدثوننا بأنه كان أعق الناس له، وتأثره بلال فعقه فلم ينكر جرير ذلك عليه، وشتمه مرة فقالت له أمه: «يا عدو الله أتقول هذا لأبيك!» فقال جرير: «دعيه، فوالله لكأني به سمعها وأنا أقولها لأبي.» فيتبين لنا أن نشأة جرير تختلف عن نشأة الفرزدق والأخطل، فقد كان عيشه لا يخلو من شظف وبؤس وشقاء. ويحدثنا ابن سلام أن جريرا اشترى جارية من رجل من أهل اليمامة يقال له زيد، ويعرف بابن النجار، ففركته
141
وكرهت خشونة عيشه فقال:
تكلفني معيشة آل زيد
ومن لي بالمرقق والصناب
142
فقال الفرزدق:
لئن فركتك علجة آل زيد
وأعوزك المرقق والصناب
143
لقدما كان عيش أبيك جدبا
يعيش بما تعيش به الكلاب
144
ولكن هذا الرجل الوضيع الحسب، الخشن العيش، الخامل الأبوين، أعطي شاعرية بوأته أعلى مرتبة في الأدب العربي، وقد نظم الشعر صغيرا كما نظمه الأخطل والفرزدق. (5-2) صفاته وتدينه
كان جرير متعففا لا يتعهر، ولا يشرب الخمر، ولا يشهد مجالس القيان، وكان شديد التعصب للإسلام ، كثير الظهور بالدين، وتجد أثر ذلك باديا على شعره. فأخلاقه من هذا القبيل تختلف كل الاختلاف عن أخلاق الفرزدق. وكان أنفا يأبى الضيم، ولا يغمض على القذى، حاد اللهجة ذا مشارة،
145
ومهارة.
146
لا يحجم عن مقارعة خصومه ومهاجاتهم مهما كثر عددهم عليه، وكان إذا تكلم يخن في كلامه.
147 (5-3) اتصاله بالأمويين
كان جرير حدثا لما وفد إلى يزيد بن معاوية وهو خليفة في الشام. فلم يؤذن له بالدخول، وجاء الجواب: إن أمير المؤمنين يقول: «لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه، ولا نسمع بشيء من شعره.» فقال جرير: «قولوا له: أنا القائل:
وإنى لعف الفقر، مشترك الغنى
سريع، إذا لم أرض دارى، انتقاليا»
148
وكان يزيد في خلافة أبيه قد انتحل بضعة أبيات من قصيدة لجرير وعاتب بها أباه في غرض له، فاعتقد معاوية أن الأبيات لابنه. فلما أنشد يزيد البيت أذن لجرير فدخل عليه، فاستنشده القصيده فأنشده، فقال يزيد: «لقد فارق أبي الدنيا، وما يحسب إلا أني قائلها.» وأمر له بجائزة.
وهذه القصيدة قالها جرير في صباه يعاتب بها جده الخطفي، وكان ذا إبل ومال، فلما ولد جرير لعطية أخذ ينحله
149
من إبله وماله. فولد للخطفي صبية فرجع في ما كان نحل جريرا، فعاتبه جرير بأبيات رقيقة.
ولكن جريرا لم يعرف في بلاط الأمويين إلا بعد أن طارت شهرته في خلافة عبد الملك بن مروان، وكان اتصاله أولا بالحجاج بن يوسف، وهو على العراقين، فمدحه ونال جوائزه، فأوفده الحجاج في صحبة ابنه محمد إلى عبد الملك، وكان لا يسمع لشعراء مضر، ولا يأذن لهم لأنهم كانوا زبيرية.
فلما دخل عليه جرير بعد لأي، قال له عبد الملك: «ماذا عسى أن تقول فينا بعد قولك بالحجاج عاملنا:
من سد مطلع النفاق عليكم
أو من يصول كصولة الحجاج!
150
إن الله لم ينصرنا بالحجاج، وإنما نصر دينه وخليفته!» وظهر الغضب في وجه عبد الملك، فتوسط ابن الحجاج في الرضى، فاستأذن جرير في الإنشاد، وأنشد كلمته التي يقول فيها:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
151
فتبسم عبد الملك وقال: «كذلك نحن.» وأمر له بمئة من الإبل وثمانية أعبد لرعايتها، وكان بين يديه صحاف من فضة، فقال جرير: «والمحلب يا أمير المؤمنين؟» فنبذ إليه بواحدة منهن، فلذلك يقول جرير في قصيدة يمدح بها يزيد بن عبد الملك:
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية
ما في عطائهم من ولا سرف
152
وصار يفد إلى عبد الملك من ذلك الحين ويأخذ الجوائز، وكانت جائزته أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة. ومدح جرير من تولى بعد عبد الملك من الخلفاء فأجازوه. غير أنه لم يحظ حظوة الأخطل عندهم. (5-4) جرير وخصومه
لم يتصد لشاعر في الجاهلية ولا في الإسلام خصوم يقارعونه مثل ما تصدى لجرير، فقد قال الأصمعي عنه: «كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا، فينبذهم وراء ظهره، ويرمي بهم واحدا واحدا، وثبت له الفرزدق والأخطل.» وسواء صح هذا العدد كله أو بعضه، فإنه كاف للدلالة على أن شاعرنا كان محسدا، وأن شعراء عصره كانوا يتحرشون به إما طلبا للشهرة أو تشفيا للغض من شأنه. فنحن نرى طائفة من الأسماء التي هاجى جرير أصحابها وخذلهم قد بقيت خالدة باسم جرير، ولو لم يلتفت لفتها لاندثرت ولم يسمع لها خبر، وإذا استثنينا الأخطل والفرزدق وراعي الإبل
153
نجد أن سائر الشعراء الذين هاجاهم مدينون له بالخلود. فمن هو غسان السليطي؟ ومن هو البعيث وأشباههما ليقفوا في وجه جرير؟ ولكنهم أرادوا الشهرة فتعرضوا له، فرد عليهم، فجعل لهم ذكرا.
وأكثر الشعراء الذين هاجوا جريرا كانوا هم البادئين بمعاداته، فقد حدث جرير عن نفسه قال: «لما دخلت على الحجاج قال: «إيه
154
يا عدو الله علام تشتم الناس وتظلمهم؟» قلت: جعلني الله فداء الأمير، والله إني ما أظلمهم ولكنهم يظلمونني فأنتصر. ما لي ولابن أم غسان، وما لي وللبعيث، وما لي وللفرزدق، وما لي وللأخطل، وما لي وللتيم» حتى عدهم واحدا واحدا وذكر كيف كان اعتداؤهم عليه، وقد علمت في كلامنا على الفرزدق أن جريرا هجا غسان السليطي، ولكنه لم يكن البادئ بالهجاء، فإن غسان هو الذي تعرض له وهو من قومه، فهجاه وهجا عشيرته؛ فرد عليه جرير فأخزاه. فانتصر له البعيث وهو من مجاشع قوم الفرزدق، فألحقه جرير بابن أم غسان وفضح مجاشعا. فلم يجد الفرزدق بدا من الدفاع عن قومه، فاصطلى معمعان الهجاء فأحمى وطيسه.
وشاق الأخطل وقع الألسنة حدادا فبعث ابنه مالكا يكشف عن الخبر. فانحدر إلى العراق، ثم عاد إليه بحكمه: «جرير يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر.» فقضى الأخطل لجرير ونعى الفرزدق، ولكن بني مجاشع تداركوه وأكرموه واستعانوه على خصمهم، ولم يشأ جرير أن يقول له كلمة خير بعد أن فضله على الفرزدق، فغير أبو مالك رأيه وتحرش بجرير، فزادت النار به اشتعالا.
وكان عبيد الراعي بغنى عن مهاجاة جرير، ولكنه أحب أن يصلى بناره فأحرقته، ولم يستطع الثبوت له كما ثبت الفرزدق والأخطل، فخزي وأخزى قومه بني نمير. روى ابن سلام أن الذي هاج الهجاء بينهما: أن الراعي كان يسأل عن جرير، فيقول: «الفرزدق أكرمهما وأشعرهما.» فلقيه جرير وطلب إليه ألا يدخل بينهما وقال: «أنا كنت أولى بعونك، وإنى لأمدحكم وإنه ليهجوكم.» قال: «أجل ولست لمساءتك بعائد.» ثم بلغ جريرا أنه عاد في تفضيل الفرزدق عليه، فلقيه بالبصرة، وجرير على بغلته، فعاتبه وقال: «زعمت أنك غير داخل بيني وبين ابن عمي.» فأخذ الراعي يعتذر إليه؛ وإذا بابنه جندل قد أقبل فقال لأبيه: «إني لأراك تعتذر لابن الأتان! والله لنفضلن عليك ولنروين هجاءك عليه، ولنهجونك من تلقاء أنفسنا.» وضرب وجه بغلته، فانصرف جرير مغضبا. فقال الراعي لابنه: «أما والله ليهجوني وإياك.» وكان جرير نازلا بالبصرة على امرأة من بني كليب، فبات في علية لها وهي في سفل دارها، فقالت المرأة: «فبات ليلته لا ينام، يتردد في البيت حتى ظننت أن قد عرض.»
155
حتى فتح له:
أقلي اللوم عاذل والعتابا
وقولي، إن أصبت: لقد أصابا
ثم أصبح بالمربد
156
فقال: «يا بني تميم، قيدوا قيدوا.»
157
وأنشدها ثمانين بيتا، والراعي والفرزدق يسمعان، فلم يجبه الراعي ولم يهجه جرير بغيرها، ولكنها كانت كافية لإخزاء بني نمير، فصاروا ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة، ويتجاوزون أباهم نميرا إلى أبيه هربا من ذكر نمير، وفرارا مما وسم به من الفضيحة والوصمة، وتشاءموا بعبيد الراعي، وسبوه وابنه.
قال بعضهم: «كان الراعي فحل مضر فضغمه
158
الليث.» يعني جريرا. على أننا وإن قلنا إن الشعراء كانوا يتعرضون لجرير بغضة، أو حسدا، أو رغبة في الشهرة، فلسنا نعني أن جريرا كان يكره هذه الملاحيات أو يتجنبها، فلطالما عرض نفسه لها وابتاعها إن لم يجد لها شاريا. فعمر بن لجأ التيمي لم يتحرش بجرير، ولكن جرير عاب عليه بيتا من شعر، فعاب عليه التيمي بيتا من قصيدة له، فهجاه جرير فرد عليه التيمي، فالتحم بينهما الهجاء، وما كان التيمي بمستطيع أن ينافس جريرا لو أهمله جرير، ولكنه قارعه فشهره، حتى إن الفرزدق أنف لجرير أن يتعلق به التيمي فهجا أخا التيم بقوله:
وما أنت، إن قرما تميم تساميا
أخا التيم، إلا كالوشيظة في العظم
159
ولقي عمر بن عطية أخا جرير فقال له: «قل له: ويلك ائت التيمي من عل كما أصنع بك أنا.»
ويحدثنا ابن سلام أن رجال تميم مشت بين جرير والتيمي، وقالوا: «والله ما شعراؤنا إلا بلاء علينا، يثيرون مساوئنا، ويهجون أحياءنا وأمواتنا.»
فلم يزالوا بهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة، أن لا يعودا في هجاء. فكف التيمي، وكان جرير لا يزال يسل الواحدة بعد الواحدة، فيقول التيمي: «والله ما نقضت هذه ولا سمعتها.» فيقول جرير: «هذه كانت قبل الصلح.»
فمن هذه الرواية وغيرها نعلم مبلغ ميل جرير إلى الشر والخصام، ورغبته في ملاحاة الشعراء، وقد قال فيه الحجاج لما سمع أخباره مع خصومه: «قاتله الله أعرابيا! إنه لجرو هراش.»
160
ولعل أبلغ وصف لجرير في مهاجاته الشعراء قول الفرزدق فيه: «قاتله الله! ما أحسن ناجيته
161
وأشرد قافيته!
162
والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها، والشابة على أحبابها، ولكنهم هروه
163
فوجدوه عند الهراش نابحا، وعند الجد قادحا.»
164
وقد رأينا في درسنا الأخطل والفرزدق أن أشد الهجاء كان بينهما وبين جرير، ولا سيما جرير والفرزدق، فقد علمت كيف انقسم الناس حزبين معهما، فناصر كل حزب شاعره وفضله على الآخر، وبلغ من اشتغال الناس بهما أن جعلوا لهما شيطانا واحدا يلقنهما، ولكل شاعر عند العرب شيطان يوحي إليه، ونقل الرواة لنا أخبارا كثيرة عن وحدة شيطانهما، نكتفي منها بواحد نورده لا إيمانا بصحته، ولكن لنظهر ما كان لشعرهما من التأثير في نفوس أبناء عصرهما.
زعموا أن جريرا والفرزدق خرجا من العراق يطلبان الرصافة لهشام بن عبد الملك، وقد مدحاه، فلما كانا ببعض الطريق نزل جرير في حاجة له، فتلفتت ناقة الفرزدق فضربها بالسوط وقال:
إلام تلفتين وأنت تحتي
وخير الناس كلهم أمامي
متى تردي الرصافة تستريحي
من التهجير، والدبر الداومي
165
ثم قال لرواتهما: «الساعة يجيء ابن المراغة،
166
فأنشده البيتين فينقضهما بأن يقول:
تلفت أنها تحت ابن قين
حليف الكير والفأس الكهام
167
متى ترد الرصافة تخز فيها
كخزيك في المواسم كل عام
168
فرجع جرير فوجد القوم يضحكون فقال: «ما الخبر؟» فقال أحد الرواة: «يا أبا حزرة إن أخاك أبا فراس وقع له كيت وكيت.» وأنشده البيتين الأولين. فارتجل البيتين الآخرين، فتعجب القوم من ذلك الاتفاق وقالوا: «والله يا أبا حزرة لهكذا زعم أنك تقول.» فقال: «أوما علمتم أن شيطاننا واحد؟»
فالاصطناع في هذه الرواية ظاهر لا يحتاج إلى دليل، وأما البيتان الآخران فهما لجرير من قصيدة نقض بها قصيدة قالها الفرزدق في هشام بن عبد الملك. (5-5) موته
عمر جرير حتى أربت سنه على الثمانين، وكانت وفاته باليمامة وفيها قبره، وقد هلك بعد أن شهد هلك خصميه: الأخطل والفرزدق. فلما مات الأخطل هجاه بقوله:
زار القبور أبو مالك
فكان كألأم زوارها
ولما مات الفرزدق قال فيه:
مات الفرزدق بعدما جدعته
ليت الفرزدق كان عاش قليلا
169
فقيل له: «لبئس ما قلت، أتهجو ابن عمك بعدما مات! لو رثيته كان أحسن بك.» فقال: «والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل، وإن كان نجمي موافقا لنجمه فلأرثينه!» ثم قال فيه:
فلا ولدت بعد الفرزدق حامل
ولا ذات بعل من نفاس أبلت
170
وبين وفاة الفرزدق ووفاة جرير بضعة أشهر، وعدها بعضهم ستة. (5-6) آثاره
ديوان طبع في القاهرة في جزأين أكثره في الهجاء والمدح، «ونقائض جرير والفرزدق» طبعت في مجلدين كبيرين بليدن، «ونقائض جرير والأخطل» نشرها الأب صالحاني اليسوعي في بيروت، وهو من أصحاب الملحمات، ومطلع ملحمته:
حي الغداة برامة الأطلالا
رسما تحمل أهله، فأحالا
171 (5-7) ميزته
كان جرير والفرزدق والأخطل يتنازعون إمارة الشعر في عصر الأمويين، ولكل واحد منهم ميزة رفعته إلى الدرج الأعلى فتبوأ من دولة الأدب سدة عالية، ولكن لا بد لنا أن ننصف جريرا فنقول: «إنه كان أطبعهم شعرا، وأخصبهم مادة، وأبعدهم من تكلف. فكأنك به، وهو يهاجي أربعين شاعرا ونيفا،
172
بركان مشتعل لا تخمد ناره ولا يبرد حميمه. فتراه يتنقل من شاعر إلى شاعر غير عابئ ولا حافل، يدعو الشعر فيجيبه؛ ويهيب بالمعاني فتترامى على أسلة لسانه،
173
فيتصرف فيها كيف شاء.
ألا وإن الشاعر الذي تتألب عليه جمهرة من الشعراء تنهشه نهشا، وهو لا يبالي، ولا يعجز أن يرد عليهم جميعا، فيسلقهم واحدا بعد واحد، دون أن تنضب قريحته أو يجف معينها، إن هذا الشاعر لكما قال فيه مالك بن الأخطل: «يغرف من بحر.» فجرير كان ينظم الشعر بطبعه لا يحككه كالأخطل، ولا يدحرج ألفاظه كالفرزدق، فغلبت عليه السهولة، والشاعر المطبوع لا يأنس بالتكلف، وإنما يرخي العنان لقوافيه فتنطلق إرسالا.
وأوتي جرير من الرقة والهلهلة ما جعل لشعره علوقا في الحافظة أكثر من شعر صاحبيه، فسارت قصائده كل مسير في بوادي العرب وأمصارها.
ورقة جرير فضلته على الأخطل والفرزدق بالغزل والرثاء، ولو لم يكن همه مقارعة الشعراء الذين يهاجونه لما ترك بابا من الشعر إلا فتحه، ولكنهم «هروه فوجدوه عند الهراش نابحا.» فشغلوه عن كثير من فنون الشعر: كالوصف والقصص، ولم ينظم في الغزل إلا ما كان يوطئ به قصائد المدح والهجاء، على أن ما نظمه كاف للدلالة على مهارته في هذا الفن، وتمكنه من التأثير في النفس. فغزله اللطيف يختلف عن غزل الفرزدق الجافي، وعن غزل الأخطل الذي هو أقرب إلى الأسلوب الجاهلي منه إلى الأسلوب الإسلامي.
ونحن في درسنا شعر جرير، سنحلل أولا خاصته في الهجاء وما يتبعها من فخر، وهي أظهر خاصة فيه، ثم نتناول مدحه فغزله فرثاءه. (5-8) هجاؤه
قد يخيل إليك، وأنت تقرأ ما كتبناه عن تعفف جرير وتدينه، أن جريرا في هجائه أطهر لسانا من الفرزدق أو أقل إفحاشا وإقذاعا، في حين أن الفرزدق على تعهره يكاد لا يجاريه في حومة الخنى، وربما كان هجو جرير أفحش وأفجر من هجو الفرزدق، ونقول: ربما، لأننا نزعم ذلك في شيء من الاحتياط.
ولا تعجب لجرير أن يقذع في كلامه ويفحش على ما عرفت من تحرجه وصدق إسلامه؛ فالرواة يحدثوننا بأن الناس في ذلك العهد لم يكونوا يتأثمون من رواية الشعر أو نظمه، وإن خبثت ألفاظه. ولابن سيرين خبر يؤيد هذا القول، تجده في طبقات الشعراء لابن سلام وفى العمدة لابن رشيق، ويؤيد ذلك أيضا ما نعلم من أن طائفة من نقائض جرير والفرزدق مدح بها الخلفاء، وسمعوها دون أن يتحرجوا من سماعها على ما فيها من هجر في القول، وتمزيق للأعراض. فهجو جرير بؤرة فجور وفساد كهجو الفرزدق، ولكن أسلوبه يختلف عن أسلوب صاحبه. فقد عرفت أن أبا فراس يأتي خصمه من عل فيرفع نفسه إلى الذروة العليا، ويحط مهجوه في الحضيض. وأما أبو حزرة فإنه يتتبع مثالب عدوه واحدة واحدة، فيعلنها، ويبالغ في تقبيحها، وإذا أعياه وجودها لم يعيه الاختلاق، فهو أقدر الشعراء على اصطناع العيوب في خصومه، فتراه ينشر عنهم أخبارا مخزية لا مصدر لها إلا قريحته الجهنمية. (5-9) هجوه الفرزدق
وإذا أراد جرير أن يهجو الفرزدق لقبه بابن القين.
174
وبنو مجاشع جميعا قيون على زعمه، ولا يغفل عن ذكر الكير والعلاة
175
والقدوم وهن للقين عدة لا يستغنى عنها. ويعيره قفيرة أم جده صعصعة؛ لأنها بنت أمة، ويعيبه ويعيب قومه بالخزيرة
176
وذلك أن ركبا من مجاشع مروا برجل من تغلب فسألهم أن ينزلوا. فحمل إليهم خزيرة فجعلوا يأكلون وهي تسيل على لحاهم، وهم على رواحلهم، ويشهر جعثن أخته راويا عنها خبرا شائنا، ويندد ببني مجاشع زاعما أنهم خانوا الزبير بن العوام حين فزع إليهم يوم الجمل فقتل.
177
وقلما تخلو له قصيدة في الفرزدق من ذكر القيون وجعثن والزبير.
وجرير كثير الافتخار بدينه، شديد التعصب له، لا يوقر غير الإسلام. وكان له من صداقة الفرزدق والأخطل وسيلة لاتهام الفرزدق بالنصرانية وتعييره الكفر، فيقول:
لقد لحق الفرزدق بالنصارى
لينصرهم، وليس به انتصار
ويسجد للصليب مع النصارى
وأفلج سهمنا، ولنا الخيار
178
أو يتهمه بالنصرانية واليهودية معا فيقول:
خرجت من المدينة غير عف
وقام عليك بالحرم الشهود
179
تحبك يوم عيدهم النصارى
ويوم السبت شيعتك اليهود
180
فإن ترجم، فقد وجبت حدود
وحل عليك ما لقيت ثمود
181
ولا يفتأ يتتبع زلاته ليندد به ويعيره إياها؛ فاذا نبا سيفه شهره واستهزأ منه، وقد مر بك شيء من ذلك في بحث الفرزدق، وإذا طرد من مكان لفجوره أو لخبث لسانه، أخذه بالصيحة من ورائه وراح ينعته بأقبح النعوت، ويلذعه بأحر الشتائم. فمن ذلك قوله فيه بعد أن طرد من المدينة:
إذا دخل المدينة فارجموه
ولا تدنوه من جدث الرسول
182 (5-10) هجوه الأخطل
واذا انبرى جرير لهجاء الأخطل تناول تغلب بالمخزيات حتى يصل بهم إلى ربيعة بن نزار، فما يدع يوما عليهم إلا عيرهم إياه، وكثيرا ما يعيرهم مقتل كليب وائل، وينفر عليهم بني بكر، أو يذكر لهم الأيام التي قهرتهم فيها قيس عيلان، ثم ينفر عليهم قيس عيلان، ويدافع عنها ناقضا ما قال الأخطل في هجائها.
وأشد ما يعنى به جرير في هجو الأخطل وقبيلته تعييرهم النصرانية والافتخار عليهم بإسلامه، فهم الخنانيص، وهم الأذلاء الذين يؤدون الجزية، ويشربون الخمر، ويأكلون لحم الخنزير، ويمعن أحيانا في ذكر الصليب والقديسين والقسيسين معرضا ومصرحا، وأكثر ما يدعو الأخطل بصيغة التصغير، أو يلقبه بدوبل أو بذي الصليب.
ولا تخلو قصيدة لجرير في الأخطل من الطعن على ديانته، والدفاع عن قيس عيلان وتنفيرهم على تغلب. (5-11) فخره
وجرير شديد الافتخار ببني تميم، يباهي بهم الشعراء ، ويعدد أيامهم مزهوا بمفاخرهم، وما أكثر ما لتميم من المفاخر، وهي من أكرم القبائل وأكثرها حصى، وإذا هاجى الفرزدق، وهو مثله من تميم، افتخر عليه بقومه بني كليب بن يربوع، وذكر أيامهم، وعيره الأيام التي خذلت فيها بنو دارم، والأيام التي خذلت فيها بنو ضبة أخواله، ولكنه يقصر عنه فما يستطيع أن يجاريه في هذا الميدان.
على أننا إذا أردنا أن نتبين الخاصة التي يمتاز بها جرير في الفخر، فإننا نجدها في استخفافه بالشعراء المتألبين عليه، فتراه يردد أسماءهم مباهيا بقهره إياهم، وهو لا يهجو شاعرا إلا نعى إليه نفسه، وجعله مغلبا مشدودا في حبل واحد مع سائر الشعراء الذين هاجاهم. (5-12) مدحه
علمنا أن عبد الملك بن مروان كان لا يأذن لشعراء مضر لأنهم زبيرية، وعلمنا أيضا أن جريرا لم يتصل ببني أمية إلا بشفاعة الحجاج، فهو إذا لم يكن بجاهل سخط الأمويين عليه وعلى قومه، فتراه يلح في الاعتذار كلما أنشأ يمدح أمراء أمية، ولا يحجم عن التعريض بعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب، وإنكار حق عبد الله في الخلافة مع أنه في هجو الفرزدق والأخطل يؤيد قيس عيلان ويدافع عنها؛ وقيس عيلان كانت في حروبها تناصر أبناء الزبير. فيتبين لنا من ذلك أن لجرير خطتين متباينتين: إحداهما ترمي إلى الدفاع عن القيسية وتنفيرها على أعدائها، والرد على الشعراء الذين يهجونها، ويطعنون في أعراضها، فهو من هذا النحو شاعر ذو سياسة قبلية لا يستطيع إلا إظهارها. والأخرى ترمي إلى التكسب والانتفاع، وما من سبيل إليهما إلا في الاتصال بالأمويين والتملق لهم، إذ لم يكن للشعراء منهل أغزر من منهلهم، ولا ماء أعذب من مائهم، وخصوصا بعدما انهارت خلافة ابن الزبير وأصبح شعراء مضر لا يرتجون نجعة إلا في بني أمية.
وحسبك أن تقرأ شيئا من مدح جرير لهم لتعلم أسلوبه في استرضائهم، والاعتذار إليهم، وترى أن مدحه لهم ديني أكثر مما هو دنيوي حتى ليكاد يشغلهم بالآخرة عن الأولى، والعاطفة الدينية شديدة الظهور في شعر جرير. (5-13) غزله
وقد يعجبك أن تسمع هذا الشاعر يتعفف بغزله بعدما سمعته يهتك الأعراض بهجوه. فجرير على شدة فحشه في الهجاء لا ينطق في نسيبه إلا بأطهر من ماء الغمام، وهو أول غزل طرد الحبيب الزائر ليلا خوفا من الريبة، فقال:
طرقتك صائدة القلوب، وليس ذا
وقت الزيارة، فارجعي بسلام!
183
وهو في غزله رقيق العاطفة، لطيف المعاني، لين الألفاظ، يخلط الفن القديم بالجديد، فيجيد كل الإجادة، حتى لتحسبه أحد أولئك المتيمين الذين نشئوا في البادية واشتهروا بغزلهم العفيف. على حين أنه لم يكن في عداد المتيمين، ولكنه أوتي من الرقة وبراعة الفن ما جعل لشعره ميزة في الغزل فاق بها صاحبيه.
وإنا، وإن قلنا إن جريرا لم يكن في عداد المتيمين، لنأبى أن نجاري بعض الرواة في زعمهم أنه لم يعشق، فمثل هذا الغزل الناعم، لا يصح صدوره إلا عن قلب متأثر ملتاع، ونجد في رثائه لامرأته أنه كان يهواها ويتألم لفراقها.
أجل إن صاحبنا لم يهم على وجهه كجميل بثينة وقيس بن ذريح، ولم يتهتك كابن أبي ربيعة والعرجي، ولكنه أحب حبا صادقا، وتغزل غزلا صادقا لا تكلف فيه. فأحبب به متغزلا حين يقول:
إن الذين غدوا بلبك، غادروا
وشلا بعينك ما يزال معينا
184
غيضن من عبراتهن، وقلن لي «ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟»
185
فهل رأيت ما في عجز البيت الثاني من لوعة لم تستطع صاحبته الإفصاح عنها، فاكتفت باستفهام حائر ملؤه يأس وتحسر وتأنيب: «ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟»
فغزل جرير عاطفي رقيق في أكثره، روحاني متعفف، مع ما فيه من وصف مادي أحيانا. يريك من الشاعر صورة جديدة لطيفة تحجب عنك تلك الصورة الرهيبة التي طبعها هجاؤه في نفسك، فتحسب أنك أمام بدوي رقيق الشعور عفيف النفس، لا أمام أعرابي فاجر يهتك الحرمات وينهش الأعراض. (5-14) رثاؤه
وجرير في رثائه مثله في غزله، يذوب رقة وعاطفة إذا كان الميت من أهله، فترى على شعره مسحة من الكآبة والحزن تترك في نفسك أثرا بليغا، فيخيل إليك أن القوافي تساعد الشاعر على بكائه.
وهو يرى المرأة بغير العين التي يراها بها الفرزدق، فما يحسبها أهون فقيد على الرجل، ولا يأنف من التوله على زوجه بعد موتها، وقد تحدثه نفسه بزيارة قبرها فيمسكه الحياء؛ ولا تعجب لحيائه، فالبكاء على قبور النساء غير مألوف عندهم، فيرتد عن قصده وهو يقول:
لولا الحياء لعادني استعبار
ولزرت قبرك، والحبيب يزار
186 (5-15) منزلته
هو أحد الثلاثة المقدمين في الإسلام. ذكره ابن سلام بعد الفرزدق وقبل الأخطل، وسئل عنه الأخطل فقال: «دعوه أخزاه الله! فإنه كان بلاء على من صب عليه.» وقال مالك بن الأخطل: «جرير يغرف من بحر.» وقال الفرزدق: «أنا وإياه لنغترف من بحر واحد، وتضطرب دلاؤه عند طول النهر.» وقال بعضهم: «بيوت الشعر أربعة: فخر، ومديح، ونسيب، وهجاء، وفي كلها غلب جرير. في الفخر قوله: «إذا غضبت عليك بنو تميم.» وفي المدح قوله: «ألستم خير من ركب المطايا.» وفي الهجاء قوله: «فغض الطرف إنك من نمير.» وفي النسيب قوله: «إن العيون التي في طرفها حور».» قال ابن سلام: «وإلى هذا يذهب أهل البادية.» وسأل عكرمة بن جرير أباه عن نفسه فقال: «دعني فإني نحرت الشعر نحرا.» وحدث ابن سلام عن يونس: «إن الفرزدق كان يتضور
187
ويجزع إذا أنشد لجرير، وكان جرير أصبرهما.» وسئل نصيب الشاعر عن أشعر الناس فقال: «أخو بني تميم.» يعني جريرا، وكان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى، وقال الأخطل للفرزدق: «إنك وإياي لأشعر من جرير، ولكنه أوتي من سير الشعر ما لم نؤته.» وسمع راعي الإبل إنسانا يتغنى بشعر جرير فقال: «لعنة الله على من يلومني أن يغلبني مثل هذا.» وحكم بين الثلاثة مروان بن أبى حفصة
188
فقال:
ذهب الفرزدق بالفخار، وإنما
حلو الكلام ومره لجرير
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب
وحوى اللهى بمديحه المشهور
189
فقد حكم للفرزدق بالفخار، وللأخطل بالمدح والهجاء، وبجميع فنون الشعر لجرير، وقال بعضهم: «كان جرير ميدان الشعر، من لم يجر فيه لم يرو شيئا، وكان من هاجى جريرا فغلبه جرير أرجح عندهم ممن هاجى شاعرا آخر فغلب.» وهجا بشار جريرا وكان حدثا فاستصغره جرير فلم يجبه، فقال بشار: «لم أهجه لأغلبه ولكن ليجيبني فأكون من طبقته، ولو هجاني لكنت أشعر الناس.»
فمن كلام بشار نعلم كيف كان الشعراء يتحرشون بجرير طمعا في الشهرة لا طمعا في التغلب عليه، ولا سيما أن مغلب جرير أرجح عندهم من مغلب سواه، وفي حكم ابن أبي حفصة ما يؤيد زعمنا من أن جريرا أقدرهم على التصرف في جميع فنون الشعر، وهو بشهادة الأخطل أسيرهم شعرا، ونرى أن تشبيهه بالأعشى يتناول سيرورة شعره من ناحية، ثم رقته وطبعه من ناحية أخرى، ولا ينبغي أن ننسى أن كلا الشاعرين هجاء مداح، وأن كليهما من اليمامة، ولعل السهولة والانسجام من خصائص الشعر اليمامي، فإن في نعومة لغة جرير ووضوح معانيه وسلاسة قوافيه ما يذكرنا بالشاعر الجاهلي، بالأعشى الأكبر، ولكن رقة جرير قد تنحدر به إلى اللين في بعض قصائده الطويلة فتضطرب قوافيه ويسف شعره، وهذا ما نستطيع أن نفسر به قول الفرزدق: «وتضرب دلاؤه عند طول النهر.» على أن ذلك لا يضير شاعريته، وله من بدائع الشعر ما يرفعه إلى أعلى ذروة في الأدب، ويمكننا أن نعزو هذا الاضطراب أو اللين إلى الإكثار من النظم، فقد كان مضطرا إليه ليرد على خصومه. هذا وإن رقة الشعر نفسها لا تخلو أحيانا من لين وإسفاف.
وبعد، فإن الشاعر الذي يهاجي أربعين شاعرا ونيفا، ويرمي بهم واحدا واحدا، ولا ينكص عن مقارعة قرمين كالأخطل والفرزدق تضافرا عليه وهما لا يقلان شاعرية عنه، إن هذا الشاعر لأخصب الشعراء قريحة، وأقدرهم على الاختراع، والتلاعب بالمعاني، وأبعدهم من تكلف، وهو وإن يكن قصر عن الأخطل في المدح والوصف، وعن الفرزدق في الفخر، فقد كاد يبذهما في الهجاء، وفاقهما بالغزل والرثاء، وإنه لأجمعهم لأبواب الشعر بلا مراء.
هوامش
النثر الإسلامي
(1) القرآن (1-1) نزوله وكتابته
القرآن كتاب الوحي الذي أنزل على النبي محمد، وكان نزوله حسب مقتضى الحال، منجما
1
سورا سورا، وآيات آيات، وقد ظل ينزل عليه من نحو سنة 612م. إلى سنة 632م. منها عشر آيات في المدينة، وأول ما أوحي إلى النبي في غار حراء:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم
2
وآخر ما أوحي إليه:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
وكان كلما نزل شيء منه تلاه النبي على من حضر من صحابته فيحفظه بعضهم، ويكتبه بعضهم الآخر في سعف النخل، أو في رقاع من الجلود، أو في عظام مسطحة، أو حجارة رقيقة.
ولما مات النبي واستعرت الحرب بين المسلمين والمرتدين، قتل كثير من حفظة القرآن، فخاف عمر بن الخطاب عليه من الضياع، فأشار على أبي بكر بجمع الرقاع المكتوبة، وكتابة ما حفظ في صدور الرجال ولم يكتب في الرقاع. فعهد أبو بكر في ذلك إلى زيد بن ثابت أحد كتبة الوحي، فجمع الآيات المكتوبة، وكتب الآيات المحفوظة في صدور الرجال، وسلمها إلى أبي بكر فحفظها في بيته، فلما توفي حفظت في بيت عمر، فلما توفي حفظت في بيت حفصة زوج النبي وبنت عمر.
وفي خلافة عثمان انتشر حفظة القرآن في حواضر البلاد المفتوحة، وعند بعضهم نسخ رتبها كل واحد على هواه. فاختلفوا في قراءة بعض آياته، فبلغ ذلك عثمان، فتلافى الأمر وجاء بالرقاع المحفوظة عند حفصة، وعهد إلى زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام في نسخها، وقال لهم: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش، فإنما أنزل بلسانهم.» ففعلوا ذلك، وكتبوا أربعة مصاحف، أرسلها عثمان إلى مكة والبصرة والكوفة والشام، واثنين أبقاهما في المدينة: واحدا لأهلها وواحدا لنفسه. ثم أمر بإحراق ما كان قبل ذلك من المصاحف والصحف، فأحرقت جميعا إلا بعض نسخ ذكر منها صاحب الفهرست مصحف علي، ومصحف عبد الله بن مسعود، ومصحف أبي بن كعب، وكان لكل واحد منها ترتيب خاص في سوره. أما القرآن اليوم فنسخة عن مصحف عثمان المعروف بالإمام. (1-2) أقسامه
يقسم القرآن فصولا تعرف بالسور، والسور مقاطع تعرف بالآيات، وفيها الناسخ والمنسوخ،
3
وتسمى السور باعتبار نزولها مكية وعددها ثلاث وتسعون سورة؛ ومدنية وعددها اثنتان وعشرون، والمكية غالبا أقصر من المدنية، وقد رتبها جامعو الكتاب باعتبار الطول والقصر، فالسور الطوال في أوله، والقصار في آخره؛ إلا سورة الفاتحة فإنها مع قصرها في صدر الكتاب.
ويقسم المسلمون القرآن ثلاثين جزءا يقرءون منه قسما في كل حفلة، أو صلاة. (1-3) أغراضه
يخاطب القرآن في سوره المكية شعبا غير مؤمن، فيدعوه إلى ترك عبادة الأصنام، وأن يعبد الله وحده، ويؤمن بالرسول والكتاب المنزل. فيظهر له عظمة الخالق، ويحثه على التأمل بعجيبة خلق الإنسان وسائر المخلوقات: كالشمس والقمر والنجوم والرياح والليل والنهار، ويرشده أن في الآخرة لثوابا وأن في الآخرة لعقابا؛ فيقص عليه أخبار الأنبياء والمرسلين وأخبار شعوبهم، وكيف كان جزاء المؤمنين، وكيف كان عقاب الكافرين، وهو في أثناء ذلك يتناول صناديد قريش فيسفه آراءهم، ويرد على الذين يجادلون النبي أو يستهزئون منه فيهددهم، ويحقر أصنامهم، ويبين لهم أنها لا تجدي عابدها نفعا، ولا تضر من يكفر بها. ويفيض في وصف الجنة، وما أعد فيها للذين آمنوا من نعيم خالد؛ ويفيض في وصف النار، وما أعد فيها للذين كفروا من عذاب خالد. فترى في وصف الجنة أرغب تأميل، وترى في وصف النار أرهب تهويل.
ويخاطب في سوره المدنية جماعة مسلمة تؤمن بالله ورسوله، وبكتابه المنزل، ولكنها تجهل شرائعها وطرق عبادتها، فيعلمها ما لم تعلم، ويفرض عليها الصوم والزكاة والحج، ويبين لها ما حرم عليها وما أحل لها، ويسن نظم الزواج والطلاق والميراث، وحجاب المرأة، والجهاد في سبيل الله ورسوله، وكان في المدينة يهود يجاهدون النبي ويؤلبون عليه، ويغرون ضعيفي الإيمان بالارتداد عن الإسلام، فتعرض لهم القرآن، وذكرهم ما أنعم الله على آبائهم بني إسرائيل، وتوعدهم لتكذيبهم بالرسول، ودعاهم إلى تصديق دعوته.
وكان فيها منافقون يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان، وكانوا يذيعون الأخبار عن حروب المسلمين فيتأذى النبي، وتضعف قلوب المؤمنين؛ فتناولهم القرآن وندد بهم وهددهم.
وإذا رأى في المسلمين تقهقرا، أو ضعفا، أو شقاقا، دعاهم إلى الألفة، وأنبهم على الانهزام، وحضهم على القتال، وذكرهم أن الموت في الجهاد مغفرة ورحمة.
ولم يكن في الحجاز نصارى يقاومون الدعوة، فلم يتعرض لهم القرآن كثيرا، وهو في كلامه عليهم أرفق بهم منه باليهود.
والقرآن في السور المدنية كما في السور المكية يردد ذكر الأنبياء وأخبارهم، وما أنزل إليهم، ويدعو الناس إلى الإيمان، واصفا لهم الجنة والجحيم، مظهرا قدرة الله في مخلوقاته . (1-4) إنشاؤه
القرآن هو المثال الأعلى للبلاغة، سواء في إيجازه، أو في قوة تعبيره، أو في ائتلاف ألفاظه وانسجام كلماتها، ويمتاز برقته وسهولته، وبعده من الغريب المستهجن، ولمقاطعه رنة لذيذة، ظنها الأعراب في أول أمرهم شعرا، حتى نزلت الآية:
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ، وقد يوازن القرآن ويسجع، ولكنه لا يتكلف السجع ولا الموازنة.
وإنشاء القرآن يرافق أغراضه في الشدة واللين، فهو في المواقف العاطفية، مواقف الوعد والوعيد، قصير الآيات، فيه لفظ مكرر لزيادة التهويل، أو لزيادة التقرير؛ كثير السجع، قوي الرنة عند المقاطع، وأغلب ما يكون ذلك في السور المكية، ولا سيما السور القصار كسورة القارعة:
القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش * فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية * وأما من خفت موازينه * فأمه هاوية * وما أدراك ما هيه * نار حامية .
4
وهو في غير المواقف العاطفية طويل الآيات، قليل السجع، خفيف الرنة عند المقاطع. وأغلب ما يكون ذلك في السور المدنية، ولا سيما آيات الشرع، وما كان منها في غير الغزوات، وفي غير الوعد والوعيد، كقوله يشرع الصوم في سورة البقرة:
يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر
5 وعلى الذين يطيقونه
6
فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا
7
فهو خير له وأن تصوموا خير لكم
8 إن كنتم تعلمون . (1-5) تأثيره
للقرآن فضل عظيم على اللغة العربية ، فهو الذي هذب عبارتها، ووحد لهجاتها، ونشرها شرقا وغربا بانتشار الدين الإسلامي.
وسحر الناس ببيانه فحفظوه، وأثر فيهم أسلوبه، فرقت ألفاظهم، ولطفت معانيهم، وظهر هذا التأثير في الشعر والنثر معا ولا سيما الإنشاء الخطابي.
ومن فضله على اللغة أن علم النحو وضع خدمة له وإشفاقا من اللحن في قراءته، وأن علم المعاني وضع توصلا لمعرفة أسراره، وأن أشعار العرب في الجاهلية وصدر الإسلام جمعت ليستعان بها على تفسير آياته.
ولولا القرآن لتلاشت العربية بغارات التتر والأتراك، بعدما أديل من سلطان بني العباس، ولكنه وقف في وجه الفاتحين والمكتسحين، يدافع عن لغته الفصحى، فلم يجرؤوا أن يتعرضوا لها بسوء بعد أن أسلموا فظلت لغه الدين والدواوين والمراسلات، ولم يؤثر فيها انتشار اللهجات العامية، وطمطمانية الأعاجم. فاللغة - كما ترى - مدينة بآدابها وحياتها للقرآن. (2) الخطابة (2-1) أسباب ازدهارها
لم تزدهر الخطابة العربية في عصر من العصور مثل ازدهارها في صدر الإسلام، فقد كانت العوامل متوافرة لشيوع هذا الفن وتقدمه، فمن فصاحة فطرية في العربي، إلى براعة التصرف في ضروب الكلام، ومن انقلاب ديني عظيم، إلى انقلاب سياسي عظيم، ومن حروب وفتوح، إلى خروج وعصيان وأحزاب.
فقد جاء الإسلام، وهو دين جماعي، فكانت الخطب الدينية تلقى في الجوامع. ثم استعرت حروب الفتح والحروب الداخلية، وانقسمت الجماعة أحزابا من أجل الخلافة، فكانت الخطب العسكرية تضرم بها الحماسة في صدور الرجال؛ وكانت الخطب السياسية يلقيها الزعماء على أحزابهم لتشد أزرهم، أو يردوا بها على خصومهم ليدحضوا أقوالهم، أو يخاطبوا بها بلدا عاصيا ليدعوه إلى الطاعة. فلا عجب إذا أن يكون للخطابة شأن عظيم في ذاك العهد وهي تعتمد على الدين من ناحية، وعلى السياسة من ناحية أخرى، ولا عجب أيضا أن تكون الحاجة إلى الخطيب أشد منها إلى الشاعر، فيعنى الخلفاء باختيار ولاتهم ممن عرفوا بالفصاحة ومضاء اللسان؛ لأن الخطيب المصقع يستطيع أن يستفيض في غرضه منطلقا من القيود، فيتوصل إلى غايته من إقناع الجمهور أكثر مما يستطيع الشاعر المكبل بالوزن والقافية. (2-2) عاداتهم في الخطابة
كان العربي إذا وقف خطيبا قام على نشز
9
من الأرض أو على ظهر دابة، وأخذ بيده مخصرة
10
يشير بها، أو اعتمد على سيف أو قوس أو قناة.
وصنع للنبي أول منبر في مسجد، صنعه تميم الداري، وكان قد رأى منابر الكنائس في الشام.
وروي أن الوليد بن عبد الملك أول من جلس خطيبا في الناس، واقتدى به بعض الخلفاء والعمال، ولكن عادة الوقوف ظلت أكثر شيوعا واتباعا.
وكان العرب إذا خطبوا يشيرون برفع اليد ووضعها على غير إكثار، ولا يبالغون في الاهتزاز.
وكانوا يعيبون في الخطيب التشديق،
11
والتقعير،
12
والتفيهق،
13
والتزيد في جهارة الصوت، وهدل الشفاه،
14
والهذر، والتكلف، والإسهاب، والإكثار، والتوعر لأنه يسلم إلى التعقيد، والتعقيد يستهلك المعاني ويشين الألفاظ، ويكرهون اللحن، والتردد، واضطراب اللسان، وفساد مخارج الحروف، والتنحنح، والسعال، ومسح اللحية، وكل حركة يستعان بها على البيان.
وكانوا يمدحون شدة العارضة،
15
وظهور الحجة، وثبات الجنان، وكثرة الريق، والعلو عن الخصم، ويحبون الطلاقة، والتحبير،
16
والبلاغة، والتلخص، والرشاقة. (2-3) ميزة الخطابة
تمتاز الخطابة في صدر الإسلام بطلاوة أسلوبها، وقصر جملها، وتخير ألفاظها.
والخطب على ضربين: منها الطوال التي كثر فيها الإطناب، ومنها القصار التي غلب عليها الإيجاز مع بلوغ القصد، وقصارها أكثر شيوعا من طوالها، وكانت تبدأ بالحمدلة،
17
وكثيرا ما تعتمد على الآيات؛ لما للقرآن من التأثير في نفوس المسلمين؛ وربما جاءت الخطبة برمتها مجموعة آيات كخطبة مصعب بن الزبير لما قدم العراق داعيا أهله إلى مبايعة أخيه عبد الله.
وكثر عدد الخطباء في هذا العصر لكثرة الحاجة إليهم، وكان النبي خطيبا، والخلفاء الراشدون جميعا وأخطبهم الإمام علي، واشتهر الخوارج بجزالة ألفاظهم، وبلاغة منطقهم، ومنهم قطري بن الفجاءة، وله خطبة بليغة في ذم الدنيا.
وضرب المثل بفصاحة سحبان وائل، ولكن لم يصل إلينا من آثاره إلا شيء قليل، وكان يطيل الخطبة حتى يسيل عرقا ولا يتوقف ولا يقعد حتى يفرغ من غرضه.
ونكتفي بدرس خطيبين شهيرين يمثلان ميزة الخطابة في عصرهما أحسن تمثيل، ألا وهما زياد ابن أبيه والحجاج. (3) زياد ابن أبيه (672م/53ه ؟) (3-1) حياته
هو زياد ابن أبيه، وزياد بن سمية، وزياد بن أبي سفيان، وزياد بن عبيد،
18
لأنه لم يكن له أب شرعي يعرف به، ولد بالطائف في السنة الثامنة للهجرة، وقيل في السنة الأولى، وأمه سمية مولاة للطبيب الحارث بن كلدة الثقفي.
وظهرت النجابة على زياد منذ حداثته فعرف بالفصاحة والدهاء، والحزم والشدة. ولما نشأ استكتبه أبو موسى الأشعري، وهو على البصرة من قبل عمر، فأعجب به الناس. ثم عهد إليه عمر في مهمة فأحسن القيام بها، ولما عاد خطب في حضرة عمر، وعنده المهاجرون والأنصار، فدهشوا لفصاحته وقال عمرو بن العاص، وكان حاضرا: «لله در هذا الغلام! لو كان أبوه قرشيا لساق العرب بعصاه!» فقال أبو سفيان: «إني أعرف أباه.» فقال عمر: «من هو؟» قال: «أنا هو.» وبهذا القول تمسك معاوية حين استلحق زيادا بأبيه. (3-2) ولايته على فارس
ولما استخلف علي استعمل زيادا على فارس فأخمد ثورتها وضبطها وحمى قلاعها. فساء ذلك معاوية فكتب إلى زياد يتوعده ويعرض بولادة أبي سفيان إياه.
فلما قرأ زياد كتابه قام في الناس خطيبا وقال: «العجب كل العجب من ابن آكلة الأكباد، ورأس النفاق! يخوفني بقصده إياي، وبيني وبينه ابن عم رسول الله في المهاجرين والأنصار، ولو أذن لي في لقائه، لوجدني أحمر
19
مخشيا ضرابا بالسيف.»
وبلغ ذلك عليا فكتب إليه: إني وليتك ما وليتك وأنا أراك له أهلا، وقد كانت من أبي سفيان فلتة من أماني الباطل، وكذب النفس، لا توجب له ميراثا، ولا تحل له نسبا، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، فاحذر ثم احذر والسلام! (3-3) ولايته على البصرة
ولما قتل علي صالح معاوية زيادا واستلحقه بنسبه ليستميله ويستصفي مودته، ثم ولاه البصرة وأعمالها: خراسان وسجستان. ثم جمع له الهند والبحرين وعمان. فقدم زياد البصرة والمعارضة مستفحلة، والفسوق عن الدين متفش فيها، فخطب في الناس خطبته البتراء،
20
وجد في إقامة الشرائع التي قررها، فكان أول من شدد أمر السلطان، وأخذ بالظنة، وعاقب على الشبهة حتى هابه الناس، وأذعن المعارضون، وساد الأمن فكان الشيء يسقط من يد المرأة أو الرجل فما تمد إليه يد حتى يعود صاحبه فيجده في مكانه فيأخذه، وأصبح الناس لا يغلقون أبوابهم اطمئنانا، وقيل: إنه أول من سير بين يديه بالحراب والعمد. (3-4) ولايته على الكوفة
ولما مات المغيرة بن شعبة أمير الكوفة استعمل معاوية زيادا عليها فكان أول من جمع له العراقان، فكان يقيم في البصرة ستة أشهر وفي الكوفة مثلها.
ولما دخل الكوفة وخطب في الناس، حصبوه، فأمسك حتى فرغوا. ثم أسر إلى أصحابه أن يمسكوا الأبواب، وأخذ كرسيا وجلس على باب المسجد، وقبض على من وقعت الشبهة عليهم وقطع أيديهم. (3-5) موته
أصيب زياد بالطاعون فقضى على حياته، وزعموا أن السبب في ذلك أنه كتب إلى معاوية: «إنى قد ضبطت العراق بشمالي، ويميني فارغة فاشغلها بالحجاز.» فكتب له عهده على الحجاز، فأنف أهل الحجاز من ذلك، فاجتمع نفر منهم ودعوا عليه، وكان من دعائهم «اللهم اكفنا شر زياد.» فخرجت طاعونة في إصبع يمينه. فلما حضرته الوفاة دعا شريحا القاضي وقال: «أمرت بقطعها فأشر علي.» فقال شريح: «إنى أخشى أن يكون الأجل قد دنا فتلقى الله أجذم
21
وقد قطعت يدك كراهة لقائه. أو أن يكون في الأجل تأخير فتعيش أجذم ويعير ولدك.» فقال: «لا أبيت والطاعون في لحاف واحد.» وأراد قطعها، فلما رأى النار والمكاوي جزع وعدل، وقيل: بل أتبع رأي شريح.
فلما بلغ موته عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: «اذهب ابن سمية! لا الآخرة أدركت، ولا الدنيا بقيت عليك.»
ورثاه مسكين الدارمي، فرد عليه الفرزدق هاجيا، وكان يومئذ طريد زياد، ولكنه لم يجسر أن يهجوه في حياته لشده سطوته وطول يده.
وظل أبناء زياد يعدون من قريش حتى استخلف المهدي العباسي فردهم على عبيد. (3-6) آثاره
خطب سياسية، وإدارية، متفرقة في كتب الأدب، أشهرها الخطبة البتراء. (3-7) ميزته - الخطبة البتراء
يبدأ زياد خطبته بذكر ما يأتي أهل البصرة من المنكرات في عصيانهم الله، فيعدد لهم مساوئهم، ويؤنبهم على فسوقهم.
ثم يعلن قانونا جديدا للعقوبات، فكان فيها أول وال مسلم جاوز الحدود في أحكامه.
ثم يظهر لهم أنه لا يحمل الحقد لأحد ممن كان بينه وبينهم عداء، وأنه لا يبالي مبغضيه ولا يناظرهم، ويدعوهم إلى معاودة أعمالهم.
ثم يدعوهم إلى طاعة بني أمية، والإذعان إلى سلطان الله الذي أعطاهم.
وكانت هذه الخطبة كافية لإرهاب البصريين، فإن ألفاظها انقضت على رءوسهم انقضاض الصواعق، فوجموا لها وفت في عضدهم، وهالهم ما فيها من تهديد ووعيد، وما إن همس هامس: «أنبأنا الله بغير ما قلت.» وأراد بذلك الأحكام التي جاوز فيها السنة، حتى سمعه زياد فقال: «إنا لا نبلغ المراد فيك وفي صحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا.»
ولم يكن زياد هازلا في كلامه، فإنه لم يلبث أن قرن القول بالعمل، فكان رهيبا في خطبته، ورهيبا في تنفيذ أحكامه.
وتمتاز خطبته بما في معانيها من جلاء وبلاغة، وعلى إيجاز كثير في اللفظ، وما في تنسيقها من فن وجمال. فإنه وقف في القسم الأول منها موقف واعظ يذكر للقوم ذنوبهم، ويذكرهم كتاب الله وما فيه من وعد طيب للمتقين، ووعيد راعب للفاسقين.
ثم إنه وقف في القسم الثاني موقف القاضي الشارع، فبين للقوم أنهم أحدثوا في الإسلام أحداثا غير مألوفة، فأحدث لهم عقوبات غير مألوفة. ونستدل من هذا القسم أن العرب في صدر الإسلام ظلوا يحنون إلى جاهليتهم ويدعون بها؛ لأنهم رأوا في الإسلام نظما وقيودا لم يتعودوها، وأراد زياد أن يفهم البصريين أنه جاد في تنفيذ شرائعه، فأحل لهم معصيته إن تعلقوا عليه بكذبة: «إن كذبة المنبر بلقاء ...!» ويختم هذا القسم بدعوتهم إلى الاقتداء به وإلا ضرب أعناقهم.
ووقف في القسم الثالث موقف الحكم النزيه العادل، المصفى من الحزازات والضغائن، المرتفع عن الأحزاب: «فرب مبتئس بقدومنا سيسر، ومسرور بقدومنا سيبتئس.»
ووقف في القسم الأخير موقف سياسي داهية يبث الدعوة للأمويين، فطلب من البصريين السمع والطاعة، ووعدهم بقضاء حاجاتهم، وإعطائهم الرزق في وقته، وعدم حبس الجيش في أرض العدو.
ثم أفهمهم أنهم أعجز من أن يبلغوا مأربا من أئمتهم إذا أبوا الخضوع لهم، وأن بني أمية خير لهم من غيرهم، وكان ختام خطبته وعيدا ليظل صوت التهديد يطن في آذانهم: «إن لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي ...!» (3-8) منزلته
قال الشعبي: «ما سمعت متكلما على منبر قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت خوفا من أن يسيء، إلا زيادا، فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاما.» وقال الحسن البصري: «أوعد عمر فعفا، وأوعد زياد فابتلى.» وقال عمرو بن العاص، وقد سمعه يخطب وهو فتى: «لله در هذا الغلام! لو كان أبوه قرشيا لساق العرب بعصاه!» وكأن الأقدار أرادت أن تحقق قول ابن العاص فيه فما استلحقه معاوية وولاه البصرة حتى لمعت عبقريته، فصاحة وحزما ودهاء، فساق العرب بعصاه ...! (4) الحجاج (713م/95ه ؟) (4-1) حياته
هو الحجاج بن يوسف الثقفي؛ ولد في أيام معاوية سنة 41 هجرية، وقيل بل سنة 42، ونشأ في الطائف، وعلم فيها الغلمان، ثم جاء الشام واتصل بروح بن زنباع الجذامي وزير عبد الملك بن مروان، فكان في شرطته.
وأحس الخليفة أن عسكره ينحل ويتراخى عنه فشكا الأمر إلى روح، فقال: «إن في شرطتي رجلا لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله، وأنزلهم بنزوله، يقال له الحجاج بن يوسف.» قال: «قد قلدناه ذلك.» فما إن تولى الحجاج إمرة العسكر حتى أخذ يشدد عليهم، ويكرههم على الطاعة، فأذعنوا له ولم يعصه إلا أعوان روح بن زنباع. فأمر بهم فجلدوا بالسياط وطوفهم بالعسكر، ثم أمر بفساطيط
22
روح فأحرقت. فدخل روح على عبد الملك شاكيا، فقال: «علي به.» فلما دخل قال له: «ما حملك على ما فعلت؟» قال: «أنت فعلت فإنما يدي يدك وسوطي سوطك، وما على أمير المؤمنين إلا أن يخلف على روح عوض الفسطاط فسطاطين، وعوض الغلام غلامين، ولا يكسرني في ما قدمني.» فأعجب به عبد الملك، وفعل ما قال، وكان ذلك أول ما عرف من جرأته وحزمه، فوجد بعده منهلا عذبا لإرواء آماله ومطامعه. (4-2) ولايته على الحجاز
فلما افتتح عبد الملك العراقين بعد مقتل مصعب بن الزبير، لم يبق دونه غير الحجاز وفيه عبد الله يدعي الخلافة. فقال الحجاج: «أنا له يا أمير المؤمنين، فلقد رأيت في منامي أني سلخته من جلده.» فجهز له جيشا عظيما فزحف به في السنة الثانية والسبعين للهجرة، فجرت بينه وبين عبد الله وقائع كثيرة، دارت فيها الدائرة على ابن الزبير. ثم حاصر الحجاج مكة سبعة أشهر، ونصب المنجنيق على أبي قبيس
23
ورمى به الكعبة، وكان يأخذ الحجر بيده ويضعه في المنجنيق؛ لأن أصحابه خافوا هتك حرمة البيت. وشدد الحصار حتى تضايق ابن الزبير، وأصاب الناس مجاعة شديدة، فتفرقوا عنه وخرجوا إلى الحجاج مستأمنين. فلم ير عبد الله بدا من القتال، فخرج بمن بقي معه، وحارب مستبسلا حتى قتل. فأرسل الحجاج رأسه إلى عبد الملك، وصلب جثته. وصار الأمر بعد ذلك لعبد الملك وبايعه أهل الحجاز واليمن فأقر الحجاج أميرا على الحجاز، فجدد بناء الكعبة بعد أن هدمها، ثم أقام بالمدينة مدة فأساء إلى أهلها، وختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص، وكانت ولايته على الحجاز من سنة 73 إلى سنة 75ه/692 إلى 694م. (4-3) ولايته على العراقين
ثم ولاه عبد الملك العراقين، وقد عاثت فيها الحروب الداخلية، فسار من المدينة إلى الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب، فدخل المسجد وصعد المنبر وهو متلثم بعمامة خز
24
حمراء، وقال: «علي بالناس!» فحسبوه خارجيا وهموا به، وهو جالس على المنبر ينتظر اجتماعهم. فاجتمع الناس وهو ساكت قد أطال السكوت. فتناول أحدهم حصى لكي يرميه بها، فلما تكلم جعلت الحصى تتناثر من يده وهو لا يشعر رعبا ومهابة.
وخطب الحجاج يومئذ خطبته المشهورة في أهل العراق، ثم أمر كاتبه بأن يتلو عليهم كتاب الخليفة، فقرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالعراق من المؤمنين سلام! فإني أحمد الله إليكم ...» فصاح الحجاج: «اسكت يا غلام!» ثم قال مغضبا: «يا أهل العراق، يا عبيد العصا! يسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون عليه السلام! أما والله لأؤدبنكم أدبا سوى هذا الأدب.» ثم التفت إلى الكاتب وقال: «اقرأ يا غلام الكتاب.» فلما بلغ الكاتب السلام رد أهل المجلس: «وعلى أمير المؤمنين السلام ورحمة الله وبركاته.»
ثم أمر بأن يلحق الناس بجيش المهلب
25
لقتال الحرورية فجاءه عمير بن ضابئ الحنظلي فقال: «أصلح الله الأمير، أنا في هذا البعث
26
وأنا شيخ كبير عليل، وابني هذا أشب مني.» فقال الحجاج: «هذا خير لنا من أبيه.» ثم قال: «ومن أنت؟» قال: «أنا عمير بن ضابئ .» قال: «ألست الذي غزا عثمان بن عفان؟» قال: «بلى.» قال: «يا عدو الله، أفلا إلى عثمان بعثت بدلا! وما حملك على ذلك؟» قال: «إنه حبس أبي وكان شيخا كبيرا.» قال: «أولست القائل:
هممت، ولم أفعل، وكدت، وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله!
إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين.» وأمر به فضرب عنقه وأنهب ماله.
ثم سار الحجاج إلى البصرة وخطبهم، وتوعد من لا يلحق منهم بالمهلب بعد ثلاثة أيام. فأتاه شريك بن عمر اليشكري وكان أعور وبه فتق، فقال «أصلح الله الأمير، إن بي فتقا وقد رآه بشر بن مروان فعذرني.» فأمر به فضرب عنقه. فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلا لحق به. فقال المهلب: «لقد أتى العراق رجل ذكر. اليوم قوتل العدو!» فثبتت مهابة الحجاج في قلوب أهل العراق فدانوا له.
ثم شغب عليه أهل البصرة وعلى رأسهم عبد الله بن الجارود، فأخضعهم وقتل ابن الجارود، وخرج عليه شبيب الخارجي فكانت بينهما وقائع كثيرة كتب النصر في نهايتها للحجاج. فتفرقت أنصار شبيب عنه، وتردى به فرسه من فوق جسر فسقط في الماء وغرق.
ثم خرج عليه ابن الأشعث بأكثر من مائتي ألف، فاستولى على العراق، فأمد عبد الملك الحجاج بجيش لجب. فقاتل ابن الأشعث ثمانين وقعة في ستة أشهر حتى هزمه بدير الجماجم
27
واستنقذ العراق من يده، وقتل خلقا كثيرا من أصحابه.
ولما حضرت عبد الملك الوفاة قال لبنيه: «أكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر، ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء.» فأقره الوليد بعد أبيه على إمارته في العراقين والمشرق. (4-4) موته
قيل إنه هلك بأكلة
28
في بطنه، وأصيب بالزمهرير فكانت الكوانين تجعل حوله مملوءة نارا وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها. وشكا ما يجده إلى الحسن البصري، فقال: «قد كنت نهيتك أن لا تتعرض للصالحين.» فقال: «يا حسن لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني، ولكن أن يعجل قبض روحي، ولا يطيل عذابي.» وأقام الحجاج على ذلك خمسة عشر يوما، ثم توفي وله من العمر 54 سنة، ومدة إمارته على العراق 20 سنة. مات بواسط
29
فدفن بها، ثم عفي قبره وأجري عليه الماء لكي يخفى أثره، وكان هلكه في أواخر خلافة الوليد، وقد جعله بعضهم سنة 716م/98ه، وهذا خطأ ظاهر لأن الحجاج مات قبل الوليد والوليد توفي سنة 714م/96ه.
وقد ضرب المثل بجور الحجاج. وروي أنه أحصي من قتلهم فكانوا عشرين ألفا ومائة ألف، وكان في سجنه بعد موته خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة. (4-5) آثاره
طائفة من الخطب أكثرها في التهديد، وأشهرها خطبة عند قدومه العراق، وأخرى بعد واقعة دير الجماجم، ومن مآثره أنه أكثر من نسخ مصحف عثمان، وأوعز إلى كاتبه نصر بن عاصم بإعجام الحروف للتمييز بين المتشابه منها. (4-6) ميزته
ليست حجارة المنجنيق بأشد وقعا على الناس من خطب الحجاج في تهديده ووعيده. فلقد أوتي براعة عجيبة في تصريف الكلام، على جرأة نادرة تتضاءل دونها جرأة زياد، فترى في جمله المقطعة القصيرة قوة لا تراها في غيره، ويبدو لك في ألفاظه شيء من خشونة البداوة يزيد تعابيره عنفا على عنف.
وهو في خطبه كثير الاقتباس من القرآن، كثير الاستشهاد بالأشعار، ظاهر الحجة، يستهوي سامعيه ويملك إرادتهم، فيريهم ظلمه عدلا، وعقابه رحمة، ويصور لأهل العراق مساوئهم الكثيرة وتغاضيه عنها، وإحسانه إليهم، حتى يخلبهم، فيتوهموا أنه مصيب في دعواه، وأنهم هم القوم الظالمون.
فإذا أردت أن تتبين بلاغة الحجاج ودهاءه وشدة بأسه، فعليك بخطبه في أهل العراق فإنها أصدق صور لنفس ذلك الطاغية الداهية الملسان. وما قولك برجل قدم الكوفة في اثني عشر راكبا على النجائب، فجمع الناس في مسجدها، وقام على المنبر يخطبهم مهددا متوعدا، على ما في ألفاظه من قوة وبداوة، معتمدا على الشعر آنا وعلى الآيات آنا آخر. وكذلك خطبته بعد دير الجماجم، وفيها يذكر أهل العراق غدرهم، وانضمامهم إلى الخوارج، ويذكر لهم الوقائع التي خانوا فيها الخليفة، وساعدوا أعداءه كافرين بنعمته. فهذه وتلك تشتملان على أكثر خصائص الحجاج في تفكيره وتعبيره. فقد صور لأهل العراق غدرهم ونفاقهم، فجعل الشيطان يستبطنهم ويعشش فيهم ويفرخ، فهم لا يذكرون حسنة، ولا يشكرون نعمة. وما أكثر نعم الحجاج على أهل العراق، بعد أن أرهقهم تقتيلا وحبسا! ولكنه كان يسحرهم بفصاحته، ويذهلهم بمثل هذه الأقوال، فيريهم نقمته نعمة.
ولا ينبغي أن تغفل عن تأثره الشديد بأسلوب القرآن ولا سيما حين يقول: «ثم يوم الزاوية، وما يوم الزاوية ... ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم؟» (4-7) منزلته
قال الحسن البصري: «تشبه زياد بعمر فأفرط، وتشبه الحجاج بزياد فأهلك الناس.» وقال عبد الملك لبنيه لما حضرته الوفاة: «أكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر، ودوخ لكم البلاد، وأذل الأعداء.» ألا وإن في كلا القولين لأصدق وصف للحجاج، فإن هذا الجبار كان شديد الإعجاب بزياد، فتأثره مقتفرا
30
رسومه، ففاقه في تهديده، وفاقه في أحكامه، ولولا هو لذهب ملك بني أمية بعد معاوية وبنيه. فإنه وطد لهم العرش وأزال خلافة ابن الزبير، ورد عنهم الخوارج، وكان قلبه ولسانه يجريان إلى نحور أعدائه فرسي رهان. (5) الكتابة
قلنا في كلامنا على النثر الجاهلي: إن الإنسان الفطري لم يحتج إلى الكتابة؛ لأن هذا الفن إنما ينشأ بنشوء الجماعات المنظمة، وينمو بنمو القوى المفكرة، ويعظم بعظم الحاجة إليه، وقد ظل العرب في جاهليتهم لا يصطنعون الكتابة إلا قليلا، حتى جاء الإسلام بفتوحاته، وأنشأ دولة منظمة مترامية الأطراف، فمست الحاجة إلى الكتابة؛ لأن مصالح المملكة قضت بأن يكون لها دواوين تضبط شئونها، وأن يكون الخلفاء على اتصال بعمالهم، والعمال بخلفائهم، وما من سبيل إلى ذلك إلا بالكتابة، فجعل للدواوين كتاب يتوفرون على تنظيمها. ولم يكن للعرب يومئذ من الثقافة ما يمكنهم من الاضطلاع بهذه الأمور، فجعلت الدواوين على عاتق الموالي أبناء الشعوب الأعجمية المتحضرة التي قهرها المسلمون وافتتحوا بلادها، وكان هؤلاء الموالي لا يحسنون العربية في أول أمرهم، فنظموا شئون الدولة بلغاتهم، فكانت اليونانية في الشام، والقبطية في مصر، والفارسية في العراق وفارس.
وظلت كذلك حتى خلافة عبد الملك بن مروان، فشرع في نقلها إلى العربية شيئا فشيئا، وكان الموالي قد تعلموا لغة العرب وأتقنوها ، فاستمرت إدارة الدواوين في أيديهم لبراعتهم في تنظيمها؛ ولأن العرب كانوا لا يرتاحون إلى هذه الصناعات، وربما أنفوا منها.
وأما لغة الرسائل بين الخلفاء والعمال فكانت عربية خالصة، قصيرة الجمل، بليغة التعبير، لا فرق بينها وبين لغة الخطابة، وكانت موجزة، وربما اقتصرت على جملتين أو ثلاث تامة المعنى، كما في رسالة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يستنجده في مجاعة:
من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاصي ابن العاصي سلام. أما بعد، فلعمري، يا عمرو، ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك أن أهلك أنا ومن معي. فيا غوثاه! ثم يا غوثاه!
ثم في جواب ابن العاص له:
إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص. أما بعد، فيا لبيك! ثم يا لبيك! قد بعثت إليك بعير
31
أولها عندك وآخرها عندي والسلام!
ولم تطل الرسائل، وتوضع لها الأصول إلا بعد أن نبغ عبد الحميد بن يحيى وكتب لمروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فكان هذا المولى طليعة المترسلين البلغاء. (6) عبد الحميد الكاتب (749م/132ه) (6-1) حياته
هو أبو غالب عبد الحميد بن يحيى الملقب بالكاتب. شامي الأصل، نشأ بين العرب ولم يكن عربيا، وقيل: إن ولاءه في بني عامر، وكان في أول أمره يعلم الصبية وينتقل في البلدان، وحكي أنه علم في الكوفة حتى اتصل بمروان بن محمد الأموي، وكان أميرا على أرمينية، فكتب له. فلما بويع بالخلافة أخذه معه إلى الشام. فبقي ملازما له لا يفارقه، مع اشتداد الثورة الخراسانية وضعفه عن إخمادها، واشتد الطلب على مروان وتتابعت هزائمه، فقال لعبد الحميد: «القوم محتاجون إليك لأدبك، وإن إعجابهم بك يدعوهم إلى حسن الظن بك، فاستأمن إليهم وأظهر الغدر بي، فلعلك تنفعني في حياتي أو بعد مماتي.»
فقال عبد الحميد:
أسر وفاء، ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
ثم قال: «يا أمير المؤمنين، إن الذي أمرتني به أنفع الأمرين لك وأقبحهما لي، ولكن أصبر حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك.» فلما قتل مروان استخفى عبد الحميد عند صديقه ابن المقفع، وفاجأهما الطلب وهما في بيت واحد. فقال الذين دخلوا: «أيكما عبد الحميد؟» فقال كل واحد منهما: «أنا» - خوفا على صاحبه -، إلى أن عرف عبد الحميد فأخذ، وسلمه السفاح إلى عبد الجبار صاحب شرطته، فكان يحمي له طشتا ويضعه على رأسه إلى أن مات سنة 132ه. وقيل: إنه قتل مع مروان في مصر، وذكر المسعودي أنه رأى له عقبا بفسطاط مصر يعرفون ببني مهاجر، وقد كان منهم عدة يكتبون لآل طولون. (6-2) آثاره
كان عبد الحميد كاتب دواوين، ولم يعرف عنه أنه عني بتصنيف الكتب كصديقه ابن المقفع. بيد أنه نظم الشعر مثله على قلة، فرويت له أبيات لا تعدوها الجودة، وإن كانت لا تجعله في طبقات الشعراء. فإن صاحبنا توفر على إنشاء الرسائل دون غيرها، فبرع فيها، وكان له أثر بين في تبديل أسلوبها القديم. قال ابن خلكان: «إن مجموع رسائله مقدار ألف ورقة.» ولكن لم يصل إلينا منها سوى رسالة ولي العهد، ورسالة الشطرنج، ورسالة الكتاب، ورسائل أخرى قصيرة، أو هي قطع من رسائل لم تبلغ إلينا تامة، منها رسالة في وصف الإخاء، ورسالة إلى أهله وهو منهزم مع مروان، وانتهى إلينا عنه عدة تحميدات مستقلة أو متقطعة من صدور كتبه.
وقيل: إنه لما ظهر أبو مسلم الخراساني بدعوة بني العباس كتب إليه عن مروان كتابا يستميله ويضمنه ما لو قرئ لأوقع الاختلاف بين أصحاب أبي مسلم. وكان من عظمه يحمل على جمل. ثم قال لمروان: «قد كتبت كتابا متى قرأه بطل تدبيره. فإن يكن ذلك وإلا فالهلاك.» فلما ورد الكتاب على أبي مسلم لم يقرأه، وأمر بنار فأحرقه، وكتب على جزازة منه إلى مروان:
محا السيف أسطار البلاغة وانتحى
عليك ليوث الغاب من كل جانب
ومهما يكن من أمر هذه الرسالة التي حملت على جمل، وخشية أبي مسلم منها حتى أمر بإحراقها، فإنها تشير - على علاتها - إلى أن الإيجاز الذي تعودناه في رسائل صدر الإسلام قد حل محله الإسهاب؛ وأن عبد الحميد أول من شذ عنه وأطال الرسائل فبلغ بها عدة صفحات، ودليلنا على ذلك رسالة ولي العهد، فإنها تزيد على خمس وعشرين صفحة من القطع المألوف، وآثاره متفرقة في كتب الأدب، جمعها محمد كرد علي في كتاب «رسائل البلغاء». (6-3) السياسة والاجتماع: بين الشعر والنثر
كانت المباحث السياسية، قبل عبد الحميد، تكاد تقصر على الشعر والشعراء، وإذا عرض لها الخطباء في خطبهم فبلغة تشبه لغة الشعر، وبإيجاز لا يختلف عن إيجازه، إذا استثنينا ما أضيف إلى علي بن أبي طالب من الخطب الطويلة والعهود المسهبة المفصلة. مع أن هذه المباحث خليقة بالنثر أكثر منها بالشعر، والمنثور خليق بها أكثر من المنظوم. فتناول عبد الحميد المسائل السياسية والاجتماعية بإسهاب وتفصيل ولغة مختلفة عن اللغة الشعرية التي عرف بها الخطباء في الجاهلية وصدر الإسلام، فجاء كلامهم نثرا له من الشعر إيقاعه ومجازه وإيجازه، ولكن ليس هو الشعر الفني بصفاء جوهره، وله من النثر تصرفه في الأوزان والقوافي، ونزوعه إلى المنطق والإيضاح والتعليل، ولكن ليس هو النثر الفني بخالص صفاته. ففصل عبد الحميد برسائله بين الشعر والنثر، وميز بأسلوبه أحدهما عن الآخر، وجعل المباحث السياسية في موطنها الصحيح، وإن يكن الشعراء بعده لم يتخلوا عنها أصلا، فكان فيهم من له في السياسة جولات، ولكن النثر استطاع أن يوفيها حقها عند ابن المقفع والجاحظ والفارابي وابن سينا، ومن جاء معهم أو بعدهم من الكتاب الذين ذللوا أوضاع اللغة للأغراض العلمية والفلسفية، فلانت لهم أصلاب متونها، وأسلست قيادها في حقيقتها ومجازها، وكان لعبد الحميد فضل المتقدم في تخطيط طرائقها، وتأسيس بنياتها، فله من أصله العجمي ما يصدفه عن التقليد العربي الموروث، ومن ثقافته الحضرية ما يغريه بأسلوب طريف تقتضيه الحياة الاجتماعية الجديدة، فإنه لم يقتصر على العربية وآدابها بل كانت له مشاركة في العلوم الدخيلة كغيره من أبناء الموالي المثقفين، وبوسعنا أن نعلم ما ينبغي للكاتب من العلوم في عصره من رسالته التي وجهها إلى الكتاب، وبين لهم فيها آداب الكتابة وثقافتها فقال: «فتنافسوا، يا معشر الكتاب، في صنوف الآداب، وتفقهوا في الدين، وابدءوا بعلم كتاب الله - عز وجل - والفرائض؛ ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم؛ ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج.»
فإذا كانت عامة الكتاب لا تستغني عن هذه العلوم، فأولى بكاتب الخليفة ووزيره أن يكون واقفا عليها، متزيدا في غيرها لما نجد في رسائله من أثر اليونانية والفارسية تنم عليه أقسامها المنطقية إلى أغراض وشعب مفصلة، وما تشتمل عليه من الآداب السياسية؛ لتقويم ولاة الأمور ورجال الدولة، وتنظيم الخطط والحركات العسكرية في الحروب، وما إلى ذلك من المواعظ والحكم التي تصلح بها الشئون الاجتماعية، وتتهذب الأخلاق.
وقد يكون عبد الحميد استفاد من سالم كاتب هشام بن عبد الملك، فإنه كان مقربا إليه متصلا به، وربما كلفه الخليفة أن يكتب إلى بعض عماله، فلدينا من آثاره الباقية رسالة كتب بها عن هشام إلى يوسف بن عمر عامله في اليمن، وكان سالم يعرف اليونانية؛ لأن صاحب الفهرست يخبرنا عنه أنه نقل إلى العربية رسائل أرسطو إلى الإسكندر، ولكن لم يبلغنا من آثار هذا المولى ما يتيح لنا أن نحكم على مبلغ تأثيره في كاتب مروان، ولا على مقدار جهده في تجديد النثر، بيد أن المؤرخين القدماء يجمعون على أن الفضل في تطويل الرسائل ووضع أصولها وتنويع فصولها يعود إلى عبد الحميد دون سواه . (6-4) أثر الدين
تصطبغ رسائل عبد الحميد بصبغه دينية ظاهرة؛ لما للقرآن من تأثير في نفوس المسلمين، وكانت آثاره في النثر أبلغ منها في الشعر، كما تبدو في خطب الإسلاميين؛ لأن الخطيب يتوخى - في الغالب - غايتين وهما إثارة العواطف والإقناع، ولا يتوخى الشاعر - في الغالب - غير الغاية الأولى، فكانت حاجة الخطباء إلى الدين أشد من حاجة الشعراء، لأنه ليس كالقرآن من كفيل بإثارة عواطف المؤمن وإقناعه، إذا دعي إلى جهاد أو طاعة أو عصيان.
وجرى عبد الحميد في رسائله على سنة الخطباء؛ لأنه كان يقصد بها إلى ما يقصدون بخطبهم، وهو - إلى ذلك - كاتب أمير المؤمنين، ناطق بلسانه، فلا ينبغي أن تبتعد كتبه عن روح القرآن. ففيها التحميدات الطويلة، وفيها المواعظ والوصايا الدينية، وفيها الآيات الكثيرة يستشهد بها أو يتوسع في تفصيلها وتحليل معانيها، مثل قوله في الرسالة التي كتبها عن هشام إلى يوسف بن عمر، ناظرا إلى الآية التي تقول:
لئن شكرتم لأزيدنكم : «لتحمد الله وتشكره به. فإن الشكر من الله بأحسن المواضع، وأعظم المنازل. فازدد منه تزدد به، وحافظ عليه وتحفظ به، وارغب فيه يهد إليك مزيد الخير، ونفائس المواهب، وبقاء النعم. فأقرئ على من قبلك كتاب أمير المؤمنين إليك ليسر به جندك ورعيتك، ومن حمله الله النعم بأمير المؤمنين؛ ليحمدوا ربهم على ما رزق الله عباده من سلامة أمير المؤمنين في بدنه، ورأفته بهم، واعتنائه بأمورهم. فإن زيادة الله تعلو شكر الشاكرين، والسلام!»
على أننا لا نعلم شيئا عن حياته الدينية لنتبين مبلغ ائتلافها بكتاباته، وإنما نعلم أنه صديق حميم لابن المقفع، ولم يكن هذا الفارسي على شيء من الإسلام، بل كان مجوسيا على دين آبائه وأجداده، وأسلم في بني العباس إرضاء للأمراء الذين حظي عندهم، وظل - مع ذلك - متهما بعقيدته. فهل جمعت الصداقة بين المؤمن والكافر دون أن تتفاعل العاطفة الدينية في قلبيهما معا، فيجتمعا على كفر أو على إيمان، كما اجتمعا على المودة والوفاء؟ أولم يكن يجري بينهما ما يجري عادة بين صديقين مثقفين، يميلان إلى الحياة العقلية، من مجادلات فلسفية تقودهما إلى البحث في العقائد والأديان، وكلاهما مرتاض بالآداب الفارسية والحكمة اليونانية، فيحاول أن يؤثر في صاحبه ويقنعه ويجتذبه إلى رأيه ومذهبه؟
لا نستطيع أن نقطع في الجواب عن هذين السؤالين، وإن كنا نعلم أن ابن المقفع لم يجحد مجوسيته في بني أمية، وأن عبد الحميد لم يغمز في عقيدته الإسلامية، مع تأثير الفكر الأعجمي فيه، حتى إنه ما كان يستشهد بشعر ولا مثل عربي، شأنه - في ذلك - شأن ابن المقفع، وإنما يؤثر مثله الأمثال التي تذكرنا بالحكمة الفارسية الهندية، مثل قوله في رسالة الكتاب: «وقد علمتم أن سائس البهيمة، إذا كان بصيرا بسياستها، التمس معرفة أخلاقها. فإن كانت جموحا لم يهجها إذا ركبها، وإن كانت شبوبا اتقاها من قبل يديها، وإن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها، وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها. فإن استمرت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها. وفى هذا الوصف من السياسة دليل لمن ساس الناس وعاملهم وخدمهم وداخلهم.»
فكل ما نستطيع أن نقوله هو أن الإسلام أبلغ أثرا في كتاباته منه في كتابات ابن المقفع بعد إسلامه، فإن صح فيه أن الإنشاء صورة لصاحبه، فخليق به أن يكون مسلما راسخ الإيمان. (6-5) الأهل
لم ينقل إلينا المؤرخون خبرا عن أسرته وحياته البيتية نستوضح منه نورا يضيء مجاهل رب المنزل وأحواله الداخلية. فنحن لا نعرف شيئا عن امرأته وبنيه لنحكم على سياسة الزوج والوالد مع أهله، ومبلغ عطفه على نسائه وعنايته بأولاده، إلا ما أمكننا أن نستخلصه من رسائله الباقية، وليس فيه كبير عناء. فله رسالة كتب بها إلى أخيه يبشره بأول مولود رزقه الله إياه، فشد به أزره على حين حاجته إليه، ولعل هذا الولد البكر هو غالب الذي يتكنى به؛ لأنه لم يذكر اسمه في كتابه، وإنما قال إنه سماه فلانا، وأمل ببقائه بعده حياة وذكرى وحسن خلافة، وشكر الله فيه وحمده على آلائه، وصور عطف الوالد ورقته، وامتلاء قلبه من الغبطة والفرح، أبلغ تصوير حيث يقول : «فإذا نظرت إلى شخصه، تحرك بي وجدي، وظهر به سروري، وتعطفت عليه مني أنسة الوالد، وتولت عني وحشة الوحدة. فأنا به جذل في مغيبي ومشهدي، أحاول مس جسده بيدي في الظلم، وتارة أعانقه وأرشفه، ليس يعدله عندي عظيمات الفوائد، ولا منفسات الرغائب.»
32
وكأنه كان ينظر إليه وهو يتحرك ويصيح، فيكاد لا يصدق حلول هذه النعمة عليه، مع ما وهبه الله من النعم السالفة، فيخشى زوالها عنه، فيقول: «ما يدركني به من رقة الشفقة عليه مخافة مجاذبة المنايا إياه، ووجلا من عواصف الأيام عليه.» ويسأل الله أن يجعل ما يهب من سلامته والمدة في عمره موصولا بالزيادة، مقرونا بالعافية، محوطا من المكروه.
فهذه الرسالة ناطقة بحب الوالد الشفيق وحنوه على أولاده، ومثلها رسالة أخرى كتبها وهو منهزم مع مروان، تطارده الأعداء، وترهقه الكوارث، فلم تشغله الهموم والأحزان عن تحبيرها إلى أهله، يذكر لهم فيها مصائب الدنيا وكرائهها، وما يلقى من الأسى في ابتعاده عنهم؛ ويبين لهم حرج الموقف وما يحدق به من خطر الأسر المهين، أو خطر الهجرة الطويلة لا رجوع بعدها إليهم، ولكنه لا يقنط من رحمة الله ومعونته. قال فيها: «وقد كتبت والأيام تزيدنا منكم بعدا، وإليكم وجدا، فإن تتم البلية إلى أقصى مدتها، يكن آخر العهد بكم وبنا، وإن يلحقنا ظفر جارح من أظفار من يليكم، نرجع إليكم بذل الإسار، والذل شر جار. نسأل الله الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء أن يهب لنا ولكم ألفة جامعة في دار آمنة، تجمع سلامة الأبدان والأديان، فإنه رب العالمين وأرحم الراحمين!»
فإذا كان المؤرخون قد أهملوا أمر الكلام على حياته في أسرته، فمن هاتين الرسالتين نتنسم آصرة الكاتب على أهله وولده. (6-6) الصديق
كان عبد الحميد، كصديقه ابن المقفع، يجل الصداقة ويعظم شأنها، فقد سئل مرة: «أيما أحب إليك أخوك أم صديقك؟» فقال: «إنما أحب أخي إذا كان صديقي.» وقال ابن المقفع في كتابه «الأدب الكبير»: «ابذل لصديقك دمك ومالك.» ولما قتل مروان واستخفى عبد الحميد عنده وفاجأهما الطلب، لم يتأخر عن تحقيق ما أوصى به، فأراد أن يبذل دمه لصديقه، ولكن عبد الحميد أبى أن يقتل صاحبه فدى له، فيكون أوفى وأكرم منه نفسا، فأبان عن حقيقة أمره، واستسلم إلى جلاديه، ولم يكن دونه وفاء وحفاظا على المودة عندما دعاه مروان إلى إظهار الغدر به، والازدلاف إلى العباسيين الظافرين لعله ينفعه في حياته أو بعد مماته، فأنكر واستنكف، وآثر أن يقتل معه على أن تلحقه معرة الخيانة، وإن كان فيها نفع له أو للخليفة المقهور، ومن ساواك بنفسه ما ظلمك. فالصداقة عنده لا تدنس بالغدر، ولو ظاهرا، لأنه يفسدها ويكدر صفاءها في نظر الناس الذين تخدعهم الظواهر، فما ينبغي أن ينالها حيف منه، على ما لها في نفسه من كرامة وقداسة، وإن أراق في سبيلها دمه، ورفض أن يساوم عليها مروان رجاء أن ينتفع في حياته أو بعد مماته، فمن الخير أن يصبر حتى يفتح الله عليه أو يقتل معه، وقبيح به أن يسر الوفاء ويظهر الغدر: «فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره!» مع أنه لو جارى نزعته الأعجمية، أو لو تحركت فيه روح شعوبية، لوجد الصلاح لأبناء قومه في مناصرة الدعوة العباسية، وقد دعمتها أسنة الفرس لتعيد مجد الأعاجم وترفع رأس الموالي، ولكن وفاءه للأمويين جعله يتنكر لها، ويحض فرق العرب على دفعها حين فاض العجم من خراسان بشعار السواد العباسي، فقال من رسالة كتبها عن مروان:
فلا تمكنوا ناصية الدولة العربية من يد الفئة الأعجمية، واثبتوا ريثما تنجلي هذه الغمرة، ونصحو من هذه السكرة، فسينضب السيل، وتمحى آية الليل، والله مع الصابرين، والعاقبة للمتقين.
ولو شاء أن يستأمن إلى العباسيين ملبيا صوت عجميته لرأى من إعجابهم بأدبه، وحاجتهم إلى براعته ما يحملهم على تأمينه وتقريبه وحسن الظن به، كما قال له مروان. فصوت الشعوبية كان أخف وقعا في أذنيه من صوت الصداقة والوفاء، فسار في ركب الأمويين حتى تقطعت الآمال وقطعت الأعناق.
ولم تقتصر آراؤه في الصداقة على ما أوردنا من أقواله المقتطفة بل هناك رسالة له ، في الإخاء، يبين فيها أسباب المودات الخالصة ودعائمها بأسلوب خطابي تكثر فيه الأوصاف المجازية التي تلمس المعنى عن بعد وترسله مطلق الجناح بدون تقييد، وهي - في جملتها - لا تعدو أقواله وأفعاله التي تقدم ذكرها، مع ما فيها من اتساع التعبير وتقليب الجمل على المعاني المتقاربة. فأهل المودات يصلون إلى الإخاء بصدق التقوى، ويبنون دعائمه على أساس البر، يشيده مستعذب العشرة، فيكون قويا صافيا من الكدر: «تسكن به القلوب، وتسمو من مواصلته الهمم عن كل زائغ معتاف ومخوف عارض.» لا يدخل على صاحبه سآمة ولا ضعف عند عوارض الأقدار وحوادث الزمان بل يؤاسي في الأزمات، مقتحما غمرات المهالك: «حتى تصير به الأقدار إلى تناهيها، ويبلغ به القضاء مقداره، غير منان النصرة، ولا برم التعب. يرى تعبه غنما، ونصبه دعة، وكلفه فائدة، وعمله مقصرا.»
بمثل هذه الأوصاف حدد عبد الحميد إخاء أهل المودات في رسالة كتبها إلى صديق جوابا عن سؤال له عرض فيه لهذه العلاقة الاجتماعية، وكان يود لو توسع في الموضوع، فشعب الكلام في تصنيف طبقات الرجال، ومن أين دخل عليهم نقص الإخاء؛ ولكن ورد عليه سؤال صديقه، وهو محصور العقل، متقسم الذهن في مشاغل الدولة، وما يكلفه الأمير من تدبير شئونها، والاهتمام بأحوال الخزر وبعث الرسل إلى جبال اللان والطبران وما والاهما بنوافذ أمره. فلم يتسن له أن يحقق رغبته، فاكتفى بهذا القدر من صفات الإخاء، ومودة أهل الحجى، فكان فيه صادق التعبير عما يشعر به من جلال الصداقة الفاضلة وقداسة حرمتها، كما ميزها أرسطو، لا صداقة المنفعة التي ليس لها بقاء إلا ببقاء عائدتها. (6-7) الرئيس والمرءوس
يجعل عبد الحميد للفضائل الدينية والخلقية مكان الصدارة في سياسة الدولة، فينبغي للرئيس والمرءوس أن يتزينا بها في أعمالهما وعلائقهما. فرسالة ولي العهد عظة بليغة في آداب الملوك، تطلعنا على مدى معرفته بالصفات التي تلزم الأمراء في تدبير الملك وتصريف أموره، وما يتصل بها من خصال يأخذون بها نفوسهم، وخصال يأخذون بها من دونهم. كتب بها إلى الأمير عبد الله عن أبيه مروان سنة 128ه يأمره بأن يسير إلى ملاقاة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي، وكان قد استولى على الموصل وكورها، وعبد الله يومئذ نائبه على الجزيرة. فجاءت الرسالة على قسمين كبيرين، أحدهما يتعلق بالسياسة المدنية، والآخر بالسياسة العسكرية، وفي كليهما ظهرت حنكة الكاتب، وشمول ثقافته، وسعة اطلاعه، وحسن تدبيره، وغرضنا الآن القسم الأول منها، فإنه يشتمل على ما يحتاج إليه ولي العهد من أمور دينه ودنياه، فيذكره أن الخليفة لم يندبه إلى هذه المهمة الخطيرة إلا لثقته بمزاياه الدينية والخلقية، فيدعوه إلى التوكل على الله، وأن يقرأ كل يوم جزءا من القرآن مهتديا بهديه، ويحذره من الغفلة وغيرها من دخائل النقص التي يخشى عليه منها.
ويشير عليه أن تكون حاشيته وجلساؤه من المجربين الذين عرفوا بالفقه والورع والطاعة وصدق النصيحة؛ وألا يأذن لأهل مجلسه بالاسترسال في الحكايات والمضاحك التي يأنس بها ذوو الجهالة، حفاظا على الشرف ودفعا لمثالب الحاسدين.
ومن عيوب ذوي السلطان، وعلى الأمير أن يبرأ منها، ضعفهم عن ضبط أنفسهم في مواكبهم. إذا سايروا العامة، يستخفهم اجتماع الناس حولهم، فيكثرون من التلفت زهوا وأشرا، وربما أقبل أحدهم على مداعبة مسايره، مع أنه يحسن بالسلطان أن يظل مطرق النظر لا يتلفت إلى محدثه في موكبه، ولا يقبل عليه بوجهه، ولا يخف في السير فيقلقل أعضاءه بالتحريك.
وعليه أن يتحرز من أصحاب السعاية الذين يتظاهرون بالنصيحة، وغايتهم إغراؤه بغيرهم من الناس ليوقع بهم. فينبغي أن يكلف صاحب شرطته أو بعض قواده استماع أقاويلهم والفحص عنها، ليتبين صادقها من كاذبها، فإذا حقت العقوبة تولاها الفاحص بنفسه، فإن أخطأ نسب الخطأ إليه، ولا يجري مكروه على يد الأمير، وأما العفو والرحمة وإخلاء السبيل فيتولاها الأمير دون غيره، وبذلك يقرن خصلتين: ثواب الله في الآخرة، ومحمود الذكر في العاجلة.
ولا ينبغي أن يصل إليه أحد من جنده وخاصته وبطانته أو من الوفود والرسل بمسألة إلا بواسطة كاتبه، فإن أراد قضاءها استقبله وقضاها له، وإلم يرد قضاءها، جعل رده على يد كاتبه، فيحمل اللوم عنه .
ويجمل به أن يمنع أهل بطانته وسواهم من اغتياب الناس وتمزيق أعراضهم في حضرته، وأن يستقبل محدثه والناظر إليه بإطراق جميل وسكون، فذلك أدعى للهيبة والوقار، وأن يتصفح وجوه قواده ليعرف من حضر منهم ومن غاب، فيسألهم عن أشغالهم التي منعتهم عن الحضور.
وعليه أن يتجنب حشو الكلام وترديد فضوله من نحو: اسمع، أو اعجل، أو ألا ترى، فإنها تزري بالعاقل وتنسبه إلى العي، ومن معايب الملوك والسوقة كثرة التنخم، والتبزق، والتنحنح، والتثاؤب، والجشاء، والتمطي، وتنقيض الأصابع وتحريكها، والعبث باللحية والشارب ، والمخصرة، وذؤابة السيف، والإيماض بالنظر والإشارة بالطرف إلى أحد الخدم، والسرار في المجلس، والاستعجال في الأكل والشرب.
ويختم هذا القسم بقوله: «وهذه جوامع من خصال قد لخصها أمير المؤمنين، وجمع شواهدها مؤلفا وأهداها لك مرشدا، تقف عند أوامرها، وتنتهي عند زواجرها، إلخ.» لأن الرسالة - في مجموعها - أمر ونهي وترغيب وترهيب، فلا يصح أن يخاطب بها ولي العهد إلا أبوه، وهي - إلى ذلك - تناسب الحكم المطلق بالممالك الأوتوقراطية في تصنيف الرعية ثلاث طبقات، أرفعها الأشراف ورجال الدين، وأدناها طبقة العامة؛ وفي ضرورة تحمل المرءوس تبعات الخطأ ومساوئه، ونسبة الصلاح والصواب إلى الرئيس، وهذا ما نجده - بعد عبد الحميد - في رسالة السياسة المدنية المأثورة عن الفارابي. على أنها لا تغفل الشورى، ولا تهمل النظر في أحوال السوقة وإصلاح أمورها، وإقامة قسطاس العدل في قضاياها، وفتح باب الرحمة عليها، فكانت رسالة جامعة للآداب العامة والآداب الخاصة بالملوك.
ومثلها الرسالة التي وجهها إلى كتاب الدواوين، يوصيهم فيها بأن يلتزموا الخلال التي ينبغي أن يتحلوا بها ليكونوا خلقاء بالعمل الموكول إليهم، مبينا لهم قيمة الكتابة وشرفها. فعلى الكاتب: «أن يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الفهم، مقداما في موضع الإقدام، محجاما في موضع الإحجام.» وأن يعرف بالعفاف فلا يختلس من مال الدولة ولا يرتشي؛ وبالعدل فلا يجور على الرعية؛ وبكتم الأسرار فلا يذيعها؛ وبالوفاء عند الشدائد وأن تكون له ثقافة عامة ومعرفة بالعلوم التي لا يستغني عنها في حرفته، وقد تقدم ذكرها في كلام سابق.
وإذا كان سائس البهيمة بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها ليحسن قيادها ومداراتها، والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته، أولى بالرفق من سائس البهيمة: «فليكن على الضعيف رفيقا، وللمظلوم منصفا، فإن الخلق عيال الله، وأحبهم إليه أرفقهم بعياله. ثم ليكن بالعدل حاكما، وللأشراف مكرما، وللفيء موفرا، وللبلاد عامرا، وللرعية متألفا، وعن أذاهم متخلفا، وليكن في مجلسه متواضعا حليما، وفي سجلات خراجه واستقصاء حقوقه رفيقا.»
ومراده بالرفق ألا يتحيف بيت المال في جباية الضرائب، وألا يعنف على الشعب في استئدائها.
ويدعوهم إلى التعاون في الملمات، كما تتعاون النقابات في زماننا: «فإن نبا الزمان برجل منهم عطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله؛ وإن أقعد أحدا منهم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه، زاروه وعظموه، واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته، وإن عرضت في الشغل محمدة، فعلى الكاتب أن يصرفها إلى صاحبه؛ وإن عرضت مذمة، فليحملها هو من دونه.» إلى ما هنالك من الوصايا التي تليق بشرف الكتابة، وتحث على التزين بمكارم الأخلاق.
وكذلك رسالة الشطرنج، فإنها تطلعنا على مبلغ عناية الراعي بتقويم أود رعيته إذا جارت عن النهج السوي، فقد كتب بها إلى بعض الولاة يعلمه فيها أنه بلغ أمير المؤمنين أن جماعة من المسلمين في ناحيته ينصرفون إلى لعب الشطرنج، ملتهين به عن الصلوات، تاركين أعمالهم، لا ينفكون عنه من الصبح إلى المساء، مع ما يتخلله من مداعبات سمجة وألفاظ قبيحة يظهرون بها في الأندية والمجالس؛ فاستفظع أمير المؤمنين ذلك منهم، فأحب أن ينذرهم متقدما إليه بأن يأمر عامل شرطته في إنزال العقوبة بهم، وإطالة حبس من يؤخذ منهم وهو مظهر اللعب معتكف عليه، ويوصيه بأن يطرح اسمه من ديوان أمير المؤمنين.
وهناك رسائل قصيرة أو قطع رسائل تتصل بسياسة الدولة في ما ينبغي أن تعرفه الرعية من الأنباء التي تطلعها على عظمة الملك وقوته، وفتوحه، أو على اهتمام السلطان بأمورها، وتفقد أحوالها، وتبشيرها بسلامته عندما تدعو الحاجة، توددا إليها، وإشعارا لها أنه واثق بإخلاصها ومحبتها، وسرورها بهذه البشرى، لعلمها أنه لا خير لها يرجى إلا في دولته وبقاء عرشه، ويقطع بذلك قالة السوء على الذين يذيعون الأخبار الكاذبة أو الصادقة، وخصوصا بعد انشقاق البيت المالك بعضه على بعض، مع تألب الأحزاب والخوارج، وتفاقم خطر الدعوة العباسية في خراسان، ولو انتهت إلينا رسائل عبد الحميد بأجمعها لأمكننا أن نتبين فيها من أثر السياسة المتقلبة وحالة العصر شيئا أكثر وأوضح، وإن يكن ما بقي منها كافيا للدلالة على ما قام به في السياسة المدنية من العمل الصالح للخير والإصلاح. (6-8) السياسة العسكرية
يطلعنا القسم الثاني من رسالة ولي العهد على ما بلغ إليه عبد الحميد من ثقافة عسكرية، وعلم بفنون القتال، وعلى ما للأعاجم المستعربين من فضل في تنظيم الجيوش العربية وحسن تدريبها، إذا نظرنا إلى حالتها في الجاهلية وأوائل صدر الإسلام، ونرى ذلك ظاهرا في أنواع السلاح، ثم في الآداب العسكرية التي تعرف اليوم عندنا بالانضباط، ثم في الخطط الحربية، ثم في حركات القتال. (6-9) السلاح
تبدو خبرة الوزير الكاتب بأنواع السلاح المعروفة يومئذ، وطرق توزيعها واستعمالها، عندما يوصي ولي العهد أن يكون للطلائع سلاح مخصوص، وللفرسان الذين يختارهم للقاء العدو، أول ما يلقاه، سلاح آخر. فالطلائع، في انفرادها عن الجيش الأعظم. مستهدفة للمخاطر، فينبغي أن يكون سلاحها وافيا واقيا، من دروع ماذية الحديد، أي لينة لا تشق على لابسها، متقاربة الحلق، متلاحمة المسامير، وأسوق الحديد مموهة الركب، خفيفة الصوغ، لوقاية سيقانهم، وسواعد بأكف وافية، طبعها هندي، وصوغها فارسي، ويلق
33
البيض لحماية الرأس، فارسية الصوغ، سابغة الملبس، وافية اللين، مستديرة الطبع، مبهمة
34
السرد، وافية الوزن، كتريك
35
النعام في الصنعة، معلمة بأصناف الحرير وألوان الصبغ، فإنها أهيب لعدوهم. هذا ما عدا السيوف والرماح والقسي، وتلك ينبغي أن تكون من شجر الشوحط أو النبع،
36
أعرابية التعقيب، رومية النصول، فإنها أبلغ في الغاية وأنفذ في الدروع، ويحسن بهم أن يعلقوا حقائبهم على متون خيولهم، مستخفين من الآلة والأمتعة، إلا ما لا غنى عنه، ويجب أن تكون خيولهم إناثا مهلوبة، أي مقطوعة الأذناب، فإنها أسرع طلبا، وأبعد في اللحوق غاية، وأصبر في معترك الأبطال إقداما.
وأما الفرسان المختارة للقاء العدو فينبغي أن تكون دوابهم إناث عتاق الخيول، وأسلحتهم سوابغ الدروع وكمال آلة المحارب؛ وأن يكونوا ملبدين بالترسة الفارسية، صينية التعقيب، معلمة المقابض بحلق الحديد، أنحاؤها مربعة، ومحارزها بالتجليد مضاعفة؛ وأن تكون القسي أعرابية الصنعة، مختلفة الأجناس، ونصول النبل مسمومة، تركيبها عراقي، وترييشها بدوي، والفارسية منها مقلوبة المقابض، منبسطة السية،
37
سهلة الانعطاف، واسعة الأسهم.
وقلما ذكر حركة عسكرية إلا بين سلاحها وسبيل استعماله فيها. فالدبابات
38
التي تهاجم بها الحصون يتولى ركابها حراسة الجيش نوبا بينهم، ويقوم العسس مقامهم في الليل مخافة البيات، وإذا وقع البيات وطرق العدو على غرة، فلا يسمح لأهل الناحية المبيتة أن يجالدوه بالسيوف، لئلا يختلطوا به، فلا يميز الصاحب منهم صاحبه، ولكنهم يشرعون رماحهم مادين لها في وجوههم، ويرشقونهم بالنبال، ملبدين بترستهم، لازمين لمراكزهم. وكذلك يكون سلاح الذين يرسلون مددا لهم. فمن هنا يتبين ما كان عليه عبد الحميد من الخبرة بالسلاح على اختلاف أنواعه وأساليب استعماله. (6-10) الآداب العسكرية
تكلم عبد الحميد على الآداب العسكرية في مواضع شتى من رسالته، فألم بالنظام والطاعة والتهذيب، وما إليها من الخصال الكريمة التي تطلب من الجندي ليستكمل مزاياه الرفيعة، فكان فيها المؤدب الفاضل للجيش العربي القديم، يسن له النظم الصالحة لتدريبه وإزكاء خصاله العسكرية، وهي في جملتها توافق الأنظمة الحديثة في عصرنا، وإن تكن دونها دقة وشمولا واتساعا، ولها قيمة تاريخية لا تنكر، لدلالتها على أفضل الصفات العسكرية في العصور الخالية، وعناية الأمويين بتقويم جنودهم ورياضة أخلاقهم. فالقواد مسئولون عن آداب رجالهم، مفوض إليهم الأخذ على أيديهم وتدريبهم على السمع والطاعة لأمرائهم؛ حتى يتبعوا أمرهم، ويقفوا عند نهيهم؛ لأن استخفافهم بقوادهم استخفاف بولي العهد القائد الأكبر، وتضييعهم لأوامرهم دخول الضياع على أعماله. فيجب أن يقمعوا عن الإخلال بمراكزهم لشيء ما وكلوا به من أعمالهم، فإن ذلك مفسدة للجند، معي للقواد من الجد والمناصحة والتقدم في الأحكام، ولا يؤذن لهم في الحرب أن ينتشروا ويضطربوا ويتقدموا طائفتهم، لئلا تصاب منهم غرة يجترئ بها العدو ويقوى ويداخله الطمع.
فعلى القواد أن لا يتوانوا في قمعهم وتقويمهم ورياضتهم على الطاعة، ويحق لهم أن يعاقبوهم عقوبة تأديب وتثقيف أود، ولكن لا يجوز لهم أن يبلغوا بها تلف المهجة وإقامة الحد في قطع أو إفراط في ضرب، أو أخذ مال، أو عقوبة في سفر. فهذه الأحكام يقوم بها ولي العهد بنفسه، أو صاحب شرطته بأمره، وعن رأيه وإذنه. فإنه لا ينبغي أن يذل الجنود لقوادهم. فإذا ذل الجند صعب على الأمير - بعد ذلك - أن يعنف القواد ويعاقبهم إذا أخطئوا، أو فرط منهم تقصير في شيء أسنده إليهم.
ويحسن بولي العهد أن يجعل على ساقته
39
أوثق أهل عسكره، يأمره بالعطف على ذوي الضعف من جنده، ومن استرخت به دابته، أو أصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة، ولا يأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره، أو التخلف بعد ترجله، إلا المجهود أو المطروق بآفة، وإذا مر به أحد متسللا من المعسكر شده وثاقا، وأوقره حديدا، وعاقبه موجعا، أو وجهه إلى الأمير لينهكه عقوبة، ويجعله عظة لغيره من الجند.
ومن فضائل الجندي أن يكف معرته عمن يمر به من أهل الذمة أو من المسلمين، فيكون معهم حسن السيرة، عفيف النفس، متحليا بالوقار.
وإذا تدانى الصفان، واحتضرت الحرب، فعلى الجند أن يلزموا الصمت وقلة التلفت إلى المشار له، وكثرة التكبير في نفوسهم، والتسبيح بضمائرهم، لا يظهرون تكبيرا إلا في الحملات والكرات والاقتراب من العدو؛ فأما وهم وقوف فإن ذلك من الفشل والجبن.
وإن فاجأهم العدو وبيتهم ليلا، فلا ينبغي أن يرفع أحد صوته بالتكبير، معلنا للإرهاب، إلا الناحية التي وقع فيها العدو، ويظل سائر الجند هادئين.
وإذا اتبعوا العدو - بعد كسره - فليكونوا في سكون ريح، لا يتلفظون بالكلام القبيح، بل يكثرون التسبيح والتهليل بلا لجب وضجة ولا ارتفاع ضوضاء.
فهذا مجمل ما جاء في الرسالة من تبيان فضائل الجندي المدرب، وهي، على إيجازها في هذا الموضوع، محيطة بنواح مختلفة من الآداب العسكرية، أو نظام الانضباط. (6-11) الخطط الحربية
عني عبد الحميد بأن يبين لولي العهد الخطط التي يحسن به أن يترسمها في مقاتلة العدو ليأمن الكسرة، وينال النصر عليه، وإنها، وإن لم تكن خططا واسعة النطاق، لتلائم السلاح الذي يحاربون به، والأرض التي تتحرك العساكر عليها، وأسباب المواصلات في الزمان الخالي. فقد أوصاه بأن يكون موضع نزول الجند مستديرا ضاما جامعا، وألا يكون منتشرا ولا ممتدا، فيشق ذلك على صاحب الأحراس الذي يتولى رعاية الجيش من المفاجآت، ويكون فيه النهزة للعدو، والبعد عن المادة إن طرق طارق في الليل.
وينبغي له أن يتعرف المواضع والمياه التي ينزل بها، فربما كان الموضع ضيقا والمياه قليلة، فلا يمكنه القيام به ولا مطاولة العدو ومكايدته، ولا يأمن هجومه عليه لإزعاجه منه، ومن الخير أن يجعل نزوله في خندق أو حصن يأمن به البيات، فيقطع لكل قائد ذرعا من الأرض بقدر أصحابه، يحتفرونه عليهم ويطرحون له الحسك دون الرماح والترسة، لتنشب في أرجل من يدوسها من الخيل والناس الطارقين، على أن يكون له بابان يحرس كل واحد منهما قائد في مئة من أصحابه.
ويحسن بالأمير أن يجعل الحيل والخدع في مقدمة خططه المرسومة، فإن الحرب خدعة كما جاء في الحديث، والجواسيس رأس المكيدة، فعليه أن يبثهم في معسكر العدو متطلعا لعلم أحوالهم ومنازلهم ومطامعهم، وإذا تناقضوا في الأخبار، فلا يعجل إليهم بسوء الظن والعقوبة؛ لأنه لا يدري صادقهم من كاذبهم، ولعل أمورا جرت فجعلتهم يتناقضون، وليحذر أن يعرف بعضهم بعضا لئلا يتواطئوا عليه ويمالئوا العدو؛ أو أن يعرفوا في معسكره، وللعدو عيون راصدة، فلا يأمن أن يبلغوا خبرهم إلى صاحبهم فينزل بهم العقوبة، ويكسر من نشاطهم، فيعدلوا عن استقصاء الأخبار إلى أخذها عن عرض من غير ثقة ولا معاينة.
ويفيض في الحديث عن الجواسيس وما يترتب على أخبارهم وصدقهم وغشهم من النتائج مما يدل على أن شأنهم في العصور القديمة لا يقل عن شأنهم في عصرنا الحاضر.
ومن المكايد أن يغتمد الحيلة لشق عسكر العدو وإخراج القواد عن رئيسهم ، وذلك بأن يكاتبهم ويعدهم المنالات والولايات لعلهم ينتقضون عليه؛ أو أن يطرح إلى بعضهم كتبا كأنها جوابات عن كتب جاءته منهم؛ وأن يكتب على ألسنتهم كتبا تبلغ صاحبهم، فتحمله على اتهامهم، فقد تفضي هذه المكيدة إلى افتراق كلمتهم، وتشتت جمعهم.
وعلى الجملة فالأمير مسئول عن جميع الخطط الحربية التي تمهد طريق النصر، وتساند الحركات العسكرية إذا كان لا مخلص له من القتال. (6-12) الحركات العسكرية
كان قواد العرب يرتبون الجيش صفا صفا في أوائل الإسلام، ثم عمدوا إلى تقسيمه كراديس فعلهم في واقعة اليرموك، ثم أخذوا الطريقة الفضلى التي أطلق بها على الجيش اسم الخميس لترتيبه على أقسام خمسة، وهي المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، على أشكال مختلفة من مربع أو هلالي، وهذه الطريقة يوصي بها عبد الحميد ولي العهد في رسالته إليه. فإذا كان من عدوه على مسافة دانية، سار بالجيش على هذه الأهبة، قد شهروا السلاح ونشروا البنود والأعلام، ويولي شرطته وأمر عسكره أوثق قواده، ويحسن أن يكون معروف البيت مشهور الحسب، فذلك أضمن لهيبته ومناصرة عشيرته له.
ويرى أن الطلائع أول مكيدة المحارب، لأنها تسعى إلى جس نبض العدو واستدراجه، والكشف عن أحواله، فيشير على الأمير أن ينتخب لها رجالا ذوي نجدة وبأس وخبرة، كما يشير عليه أن يعنى بإقامة الأحراس، وإذكاء العيون، وحفظ الأطراف؛ وأن يجعل على الساقة أوثق أهل عسكره ليعاقب الهارب، ويعطف على الضعيف والمريض، وخلف الساقة رجلا من وجوه القواد في خمسين فارسا جليدا، ليلحق من يتخلف من الجند بعد عقوبته، وليلقى الكمين إذا ظهر في مؤخرة الجيش.
وعليه أن يوكل بخزائنه ودواوينه رجلا أمينا ذا ورع، ومعه فرسان ترافق الخزائن، ويكون العسكر مجانبا لها، متخلفا عنها من تحوله إليها عند الجولة والفزعة.
وينبغي أن يكون الرحيل إبانا واحدا، ووقتا معلوما، لتخف المؤنة على الجند في معالجة أطعمتهم وأعلاف دوابهم، متى عرفوا أوان رحيلهم، ولا ينادى بالرحيل حتى يأمر صاحب التعبية العسكر بالاستعداد لكل مفاجأة واعتداء، فيرحل الناس والخيل واقفة، والأهبة معدة، ويسيرون بسكون ريح وهدوء، ولا ينزلون في موضع إلا بعد الفحص عنه والتوثق فيه، والتحصين له، ونشر الدبابات والأحراس حوله؛ لئلا يطرقهم العدو وهم على غير منعة ووقاية.
فإن ابتلي ببيات عدوه، ظلت الناحية المطروقة لازمة مراكزها، لا تتقدم للمجالدة بالسيوف، بل تمد الرماح وترشق بالنبال، وتكبر ثلاثا ليعرف مكانها فيرسل إليها المدد ليفرج عنها برماحه ونشابه.
وإذا حان اللقاء اختار من جيشه ذوي البأس والجد ممن قد اعتاد طراد الكماة، وعرف بالصبر على أهوال الليل، لم تضعفه السن، ولا أبطرته الحداثة، فيعرضهم رأي العين، على كراعهم
40
وأسلحتهم، ثم يولي على كل مئة منهم رجلا من أهل خاصته وثقاته، ويتقدم إليه في ضبطهم، فيكونون له عدة في المفاجآت والطوارق؛ إذ لا يدري أي الساعات يحتاج إليهم، فيبعث منهم المئة بعد الأخرى بحسب حاجته.
وعندما يتواقف الجمعان للقتال فليس إلا الصمت، وقلة الجزع، والتوكل على الله، والتسبيح والتكبير في القلوب.
وأوصى الأمير أن يبعث مكبرين بالليل والنهار يطوفون على العسكر قبل المواقعة، يحضونهم على القتال، ويحرضونهم على عدوهم، ويصفون لهم منازل الشهداء وثوابهم، ويذكرونهم الجنة ورخاء أهلها وسكانها، ويجمل به - إذا استطاع - أن يباشر تعبية الجند بنفسه مع رجال من ثقات فرسانه ذوي سن وتجربة؛ وينبغي ألا يخوض غمار الحرب إلا بعد أن يدعو العدو إلى الطاعة وترك العصيان.
فرسالة ولي العهد وثيقة تاريخية تطلعنا على ما بلغت إليه العرب، في فنون الحرب، من التنظيم والارتقاء زمن الأمويين. (6-13) أسلوب عبد الحميد
بلغت صناعة الترسل عند عبد الحميد درجة رفيعة من البلاغة، وخرج بها النثر الفني إلى ميزته التي استقل أو كاد يستقل بها عن الشعر، فلم تغلب عليه النغمات والنبرات الصوتية التي نجدها في خطب علي وزياد والحجاج، ولا تلك الصور الشعرية المتلألئة في التشابيه والكنايات والاستعارات؛ ولا ذاك الخيال المغرب الذي يرين على الحقيقة فيموهها بإغرائه وفتونه؛ ولا ذلك الإيجاز الذي يكثر فيه الحذف والتلويح، ولا يخلو بعض الأحيان عن الإخلال. فقد كتب عبد الحميد رسائله بلغة أدبية رصينة، متينة على غير خشونة، خالية من العبث والمضاحك على غير جفاف، تنبض الحياة فيها على غير خفة وأشر، وعالج المباحث السياسية والاجتماعية بروية العاقل وأسلوب الأديب، لا ينتقص الفكر، ولا يتحيف الفن، يؤثر الإسهاب على الإيجاز، ويميل إلى التفصيل أكثر منه إلى الإجمال. يتوخى بلوغ الحقيقة، ولا يعرض عن المجاز، فيكثر من الكنايات والاستعارات، ولكنها قريبة المدلول لا تجنح إلى الإغراب، وتقل عنده الصور التشبيهية، فنكاد لا نرى منها إلا ما جاء من باب المحاكاة والمماثلة مثل قوله: «وسيحتال لك كاحتيالك له، ويعد لك كاعتدادك له.» ولا نظفر بالتشبيه التصويري إلا نادرا حيث يقول: «مبهمة السرد، وافية الوزن، كتريك النعام في الصنعة.» بيد أنه يعنى بالنعوت عناية ظاهرة، وقد يتوالى بعضها إثر بعض، فلا تثقل ولا تتنافر لما بينها من إضافات فاصلة كقوله: «فليول عليهم رجلا ركينا مجربا، جريء الإقدام، ذكي الصرامة، جلد الجوارح، بصيرا بموضع أحراسه، غير مصانع، ولا مشفع للناس.»
وتتوافر المنصوبات متتابعة في الجمل المقطعة المتوازنة، فهنا المصادر والمفاعيل، وهناك الحال والتمييز، تتداعى أصواتها متجاوبة، فتحدث في السمع وقعا جميلا لا يجحد تأثيره في التعبير الأدبي.
وموازنة الجمل لها مكان الصدارة في أسلوبه، يؤثر القصيرة منها، فإذا طالت لا تسرف في الطول، ويمدها بواو العطف، فتتعاقب موصولة الأطراف. متعاشقة الأجزاء، وربما وردت مترادفة، يقلبها على المعاني المتشابهة والمتقاربة، رغبة في الإسهاب والتبليغ، واستطرابا لائتلافها وحسن موقعها. فيقول: «جريئا على مخاطر التلف، متقدما على ادراع الموت، مكابرا لمرهوب الهول، متقحما مخشي الحتوف، خائضا غمرات المهالك.»
وهذه المماثلات والمترادفات لم ينهكها التعمل وفساد الذوق. فإن له من سلامة الطبع ورهافة الحس الفني ما يقصيه عن التكلف الممقوت. فأتت هذه الأشياء ونظائرها جارية على سجية النفس، ملبية صوت البلاغة، حرة مطمئنة في منازلها، لا مقودة مكرهة متعبة، ولم تكن الصناعة البديعية من طلباته، فقلت أسجاعه ومجانساته، فلا تشعر بها إلا إذا تلمستها؛ لأنها تمر خفيفة عى الأسماع، خفية عن الأنظار، كأن بها حياء، فلا ترنن خلاخيلها ودمالجها، ولا تعرض زينتها وتبرجها.
ومع ما في رسائله من تقسيمات منطقية لأغراضها وأجزائها، ومع ما فيها من مباحث عقلية في السياسة والاجتماع، فإنه لم يأنس بالقياس المنطقي الذي حفلت به مصنفات صديقه ابن المقفع، وقلما ضرب الأمثال لتأييد حجته كمثل سائس البهيمة. فليس في رسائله سوى أدلة خطابية وأوصاف أدبية تحدث تأثيرا في النفس، ولا يصح أن تعد دعامة عقلية لآرائه، وهي إلى ذلك مطلقة العنان محطمة القيود؛ والأمثلة عليها كثيرة، ولا سيما تحديده للإخاء.
ولعل ذلك يعود إلى أن اللغة لم تكتسب في بني أمية دقة التعبير العلمي الذي أحرزته في بني العباس، على ما في طبيعة اللسان العربي نفسه من السعة والاحتمال، في استشفاف التعابير ومعاني الألفاظ، فكثر في كلامهم التأويل واختلفت الشروح والتفاسير.
وإنشاء عبد الحميد، على جزالته وشدة أسره، لم يخالطه التعقيد، ولا نبا عنه الوضوح والسهولة، وإن لم يبلغ بهما مبلغ ابن المقفع، وربما وقعت على ألفاظ غريبة، ولكنها ليست من الحوشي المسترذل، ولا تخلو عن الرواسم المأثورة مثل قوله: «كشر عن ناجذه في الحرب، وقام على ساق في منازلة الأقران، مستحصد المريرة.»
41
وهي من ثقافته العربية الأصيلة في بني أمية، ونجد معها ألفاظا جديدة عرفت في الإسلام بعد خروج العرب من الصحراء، كالحسك والسواعد والسوق لبعض أنواع السلاح.
وعلى الجملة، فعبد الحميد من أصحاب الأساليب الشخصية التي تعرف بها أصحابها، وإنشاؤه صورة جلية على الارتياح إلى التأمل في آداب نفسه وأخلاقه الإنسانية. (6-14) منزلته
إذا ذكر عبد الحميد قيل إنه أول من وضع أصول الرسائل وأطالها وفصلها، وأكثر من التحميدات، واستعمل في بعض كتبه الإيجاز البليغ، وفي بعضها الإسهاب المفرط على ما اقتضاه الحال، وقيل: «فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد.» وقال ابن خلكان: «وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماما، وعنه أخذ المترسلون ولطريقته لزموا، ولآثاره اقتفوا، وهو الذي سهل سبيل البلاغة في الترسل.» وضرب المثل به فقيل: أبلغ من عبد الحميد، وكان أحمد بن يوسف يقول في رسائله: «ألفاظ محككة وتجارب محنكة.» وقال ابن نباتة : «إنه البالغ إلى أعلى المراتب في الكتابة البليغة.» وقال جعفر بن يحيى البرمكي: «عبد الحميد أصل، وسهل بن هارون فرع، وابن المقفع ثمر، وأحمد بن يوسف زهر.» وكان أبو جعفر المنصور يقول: «غلبنا بنو أمية بثلاثة أشياء: بالحجاج وعبد الحميد والمؤذن البعلبكي.»
فمن هذه الأقوال تظهر منزلة الكاتب الوزير عند الأقدمين، واتفاقهم على الإعجاب به، والإشادة ببلاغته، وتقديمه في الترسل ووضع أصوله وتنويع فصوله.
ومن كلام له نستدل على رأيه في الكتابة وما فيه من ملاءمة لأسلوبه، قال: «القلم شجرة، ثمرتها الألفاظ، والفكر بحر، لؤلؤه الحكمة.» ومن أقواله: «خير الكلام ما كان لفظه فحلا، ومعناه بكرا.»
وسئل مرة: «ما الذي مكنك من البلاغة؟» فقال: «حفظ كلام الأصلع.» يعني علي بن أبي طالب، ولا خلاف أن كلام الإمام قدوة البلغاء. وإذا وجد التشابه بينه وبين عبد الحميد في بعض النواحي، فهما يفترقان في سائرها، وكلاهما بلغ الدرجة العليا في إنشائه على طريقته وأسلوبه. فإن كان الإمام أفخم لفظا، وأعرق تعبيرا، وأظهر حكمة، وأقوى شخصية؛ فعبد الحميد أكثر تفصيلا وإيضاحا، وأبرع سياسة، وأوسع تدبيرا، وله الفضل الذي لا ينكر في تعبيد طريق النثر الفني، وفي ابتداع سنة الرسائل على نهجها الجديد. (7) العلوم
كان من أثر اختلاط العرب بالموالي وتزاوجهم، أن فسدت ملكة اللغة، وفشا اللحن في الكلام، وكان الخلفاء جد حراص على صحة قراءة القرآن؛ فأشفقوا من أن يفضي هذا اللحن في اللفظ إلى إفساد المعنى؛ فشرعوا في ضبط إعراب الكلمات، وتحريك الحروف وإعجامها. وأول من نظر في النحو أبو الأسود الدؤلي، ويقال إن أول باب وضعه كان التعجب. وهو أيضا أول من وضع الحركات على شكل نقط؛ فجعل الفتحة نقطة فوق الحرف، والضمة نقطة بين يدي الحرف، والكسرة نقطة من تحت الحرف، وكانوا ينقطون هذه الحركات بمداد من غير لون المداد الذي يكتبون به الكلمات.
وظلت الحركات كذلك حتى زمن الحجاج بن يوسف فجعلت النقط لإعجام الحروف المتشابهة، ثم كتبت الحركات بصورتها المعروفة الآن.
ولم يقتصر اختلاط العرب بالموالي على وضع النحو والحركات والنقط، بل تعداه إلى أبعد من ذلك؛ فإن هؤلاء الأعاجم من روم وفرس حملوا إلى الأمة العربية حضارة عادية، وعلوما مزدهرة، فنبهت بها كامن الفكر على طلب العلم، وكان لها من القرآن والحديث حافز على ذلك، فتولد في نفسها نزوع إلى التحضر والاشتغال بالعلوم. فعنيت أولا بدراسة القرآن وتفهم أسراره، واستنباط الأحكام منه، فنشأ علم التفسير ممهدا طريق علم اللغة، وقد اشتهر من علماء التفسير طائفة من الصحابة وغير الصحابة، وكان للموالي حظ وافر منه، من بينهم أئمة كبار كالحسن البصري، وابن سيرين، ومجاهد بن جبر وغيرهم.
ثم عنيت بالتاريخ رغبة في الاطلاع على أحوال الأمم القديمة، فكان القصاصون من عرب وموال يروون لها أخبار الملوك والعظماء. ذكر المسعودي: «أن معاوية كان يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء، فيقصون عليه أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها في رعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها. ثم ينام ثلث الليل ويقوم فيأتيه غلمان وعندهم كتب قد وكلوا بحفظها وقراءتها. فيقرءون عليه ما في تلك الكتب من سير الملوك، وأخبار الحروب ومكايدها، وأنواع السياسات. وعني المسلمون أيضا بتدوين سيرة النبي، وأعمال صحابته. وكان يعرف علم التاريخ عندهم «بعلم أخبار الماضين.»
وعرف العرب في العصر الأموي شيئا من العلوم الدخيلة كالفلسفة، والطب، والنجوم، والكيمياء. ويرجع الفضل في ذلك إلى المدارس السريانية كمدرسة الرها ونصيبين، فإن المسلمين بعد أن افتتحوا تلك البلاد تركوا هذه المدارس تتابع أعمالها فاستفادوا من علومها، وأخرجت لهم أطباء عرفوا في ذلك العهد كابن أثال النصراني وكان طبيبا لمعاوية، وماسرجويه، وكان سرياني الجنس يهودي المذهب. قيل: إنه نقل كتابا في الطب في أيام مروان بن الحكم.
وكان أول من اشتغل بهذه العلوم من العرب خالد بن يزيد بن معاوية فإنه درس صناعة الكيمياء على راهب رومي يدعى مريانوس، فلما تعلمها أمر بنقلها إلى العربية، فنقلها له رجل اسمه اسطفان، وذكر صاحب الفهرست أن سالما كاتب هشام بن عبد الملك نقل رسائل أرسطو إلى الإسكندر.
بيد أن صدر الإسلام لم يترك لنا من العلوم الدخيلة وغير الدخيلة، إلا أخبارها فلا يصح لنا أن نبحث عنها في هذا العصر، ولكن في عصر بني العباس. (8) الرواة
كان لكل شاعر في الجاهلية راوية يروي شعره ويرويه غيره؛ لأن الكتابة لم تكن شائعة في ذلك العصر، ولولا الرواة لما وصل إلينا شيء من الشعر الجاهلي. ثم شاعت الكتابة في الإسلام بعد أن تم الأمر لبني أمية، ولكن الشعر ظل محفوظا في صدور الرواة أو في أوراق خاصة بهم، ولم يعم تدوينه إلا في العصر العباسي الأول. على أن الرواة كثر عددهم في العصر الأموي، لأن المسلمين لما شرعوا بتفسير القرآن وضبط ألفاظه، اضطروا إلى جمع أشعار العرب وأمثالهم؛ ليستعينوا بها على تفهم الآيات وإدراك أسرارها، وكان ابن عباس يقول: «إذا قرأتم شيئا من كتاب الله لم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب؛ لأن الشعر ديوان العرب.»
وكان لتنافس الأحزاب السياسية يد في ازدياد الرواية، فكانت كل فئة تفاخر الأخرى بشعرائها وعظمائها، وتروي أخبارهم وأقوالهم، وآنس الرواة من الأمويين ارتياحا إلى معرفة نوادر الأعراب وأشعارهم، فراحوا يتلقفونها بين الخيام من كل قبيلة خالصة البداوة، ويأتون بها إليهم فيصيبون عليها نوالا عظيما.
غير أن هذه الروايات لم تسلم من النحل والكذب؛ لأن الرواة لم يتورعوا من إضافة شعر إلى غير قائله، واختراع قصة لا أصل لها؛ إما للإتيان بشاهد يعتمد عليه في المعاني أو في النحو، وإما لإرضاء شخص أو حزب بذكر مآثر من ينتمي إليه، أو لمفاكهة الخلفاء والأمراء وسواهم من الناس. فنشأ عن ذلك الشعر المنحول، ونشأ أيضا فن القصص الخيالية كأخبار مجنون ليلى، وجميل بثينة، وعنترة وسواهم.
وإذا كان الرواة أساءوا إلى التاريخ بما اصطنعوه من الأشعار والأخبار، فقد خدموه أجل خدمة بما حفظوا من أقوال أهل الخيام وعاداتهم وأخلاقهم.
ومن الرواة من عرف بصدق الرواية كقتادة بن دعامة السدوسي
42
وأبي عمرو بن العلاء.
43
ومنهم من عرف بالكذب والنحل كحماد، وهو أشهر الرواة الأمويين. (9) حماد (772م/156ه ؟) (9-1) حياته - منزلته
هو أبو القاسم حماد بن ميسرة الديلمي الكوفي من موالي بكر بن وائل، ويلقب بالراوية لأنه كان أعلم الناس بأيام العرب، وأشعارها، وأخبارها، وأنسابها، ولغاتها، وكان في أول أمره يصحب الصعاليك واللصوص، فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله، وكان فيه جزء من شعر الأنصار فقرأه حماد فاستحلاه وتحفظه. ثم طلب الشعر وأيام العرب ولغاتهم، وترك ما كان عليه، فبلغ من العلم مرتبة سامية، واشتهر بقوة الحافظة، فرويت عنه أخبار كثيرة لا تخلو من الغلو، منها: أنه كان يروي سبع مئة قصيدة، أول كل واحدة منها: بانت سعاد ، وأنه سمع الطرماح الشاعر ينشد قصيدة، عددها ستون بيتا، فقال له: «ليست لك.» قال: «كيف لا؟» قال: «إني أنشدها بزيادة عشرين بيتا لتعلم أنها ليست لك.» ثم أنشدها وزاد فيها من نظمه.
وحظي حماد عند الأمويين فكانوا يستقدمونه ويسألونه عن أيام العرب وأشعارها ولغاتها، فيروي لهم وينال جوائزهم. قيل: سأله الوليد بن يزيد يوما: «بم استحققت أن تلقب بالراوية؟» قال: «إني أروي لكل شاعر تعرفه أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لا تعرفه ولم تسمع به. ثم لا ينشدني أحد شعرا قديما أو حديثا إلا ميزت بينهما.» فقال له: «كم مقدار ما تحفظه من الشعر؟» قال: «كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مئة قصيدة كبيرة سوى المقطعات، وذلك من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام.» قال: «فإنى ممتحنك.» ثم أمره بالإنشاد فجعل ينشد حتى ضجر الوليد، فوكل به من يسمع بقية القصائد واستحلفه أن يصدقه، فأنشد حماد 2900 قصيدة للجاهلية.
ومهما كان في هذا الخبر وما قبله من المبالغة فإنه يدل على حافظة عجيبة، ورواية واسعة عرف بها حماد.
وأدرك راويتنا دولة العباسيين، ولكنه لم يحظ عندهم حظوته عند الأمويين فخمل ذكره. وقيل: إنه أدرك المهدي، وأن الخليفة العباسي كان يستدعيه ويستنشده، ولكنه كان يؤثر عليه المفضل الضبي لصدق روايته. وخلافة المهدي تبتدئ سنة 158 للهجرة أي بعد سنتين من وفاة حماد، فالخطأ واضح كما ترى.
وكما عرف بالعلم وسعة الرواية، عرف بالكذب والوضع، فكان يزيد في الأشعار التي يرويها لغيره من شعره، أو ينتحل من شعر غيره مما هو قديم لا يرويه أحد غيره ويضمه إلى شعره، فيختلط بعضه ببعض. قال المفضل الضبي: «قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده، فلا يصلح أبدا.» فقيل له: «وكيف ذلك، أيخطئ في روايته أم يلحن؟» قال: «ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل، ويدخله في شعره، ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد؛ وأين ذلك؟»
واستحلف المهدي حمادا في أمر الزيادة في أشعار الناس، فأقر له بأبيات أضافها إلى زهير بن أبي سلمى، فأمر المهدي بإبطال روايته، ووصل المفضل لصدقه وصحة روايته، ولعل ذلك حدث قبل مبايعته بالخلافة.
قال ابن سلام: «وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به، وكان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار.» وقال يونس: «العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر.»
وحماد أول من جمع السبع الطوال، وجمع أشعار أكثر القبائل، وأكثر شعراء بني أمية، قيل: إنه جعل شعر كل قبيلة أو شاعر في كتاب. فكان عنده كتاب لشعر قريش، وآخر لشعر ثقيف، وآخر لغيرهم، ولكنها ضاعت كلها وروى الناس عنه. غير أن الأدباء المدققين الذين جاءوا بعده لم يعتمدوا على الروايات التي انفرد بها دون غيره، وقد أظهر ابن سلام والأصفهاني وسواهما كثيرا من منتحلاته وأكاذيبه. •••
فقد رأيت أن الصدر الثاني للإسلام كان عصر يقظة وتفكير وعمل، عصر تنعم وترف، ولكن لم يطل عمره فيتم ما بدأ به، بل أديل منه العصر العباسي، عصر حضارة الإسلام، ونهضة العلم والأدب، عصر التدوين والتأليف.
هوامش
صفحة غير معروفة