والإيحاء الذي تتولى الألفاظ توليده يجعلنا نقبل - ونحن في نشوة الأدب - آراء وأفكارا نرفضها عندما نعود إلى حياتنا المألوفة. فالقطعة القصصية التي يحدثنا بها الشاعر عن زيارته الليلية لسلمى، تأباها الأخلاق القويمة، وترفضها الشرائع الدينية والمدنية. بيد أننا نقبلها في الأدب على غير إرادة منا، فتبتهج بها نفسنا، ونستمتع بجمالها الفني دون أن نشعر بقبحها؛ لأن النفس في مثل هذه الحال تأخذها أخذا ساميا مطهرا للعواطف
Catharsis
على حد تعبير أرسطو. ففضل الأدب الخالص أن فيه جمالا خاصا لا يشاركه فيه الجمال الذي اصطلحنا على اعتباره، ولا يشوهه القبح الذي نستنكره ونبتعد عنه، إلا إذا حكمنا العقل والمنطق فيه، وشعر امرئ القيس يتحلى بهذا الجمال الفني على ما فيه من قبح وفجور، فكيف به لو خلا منهما.
وبهذا يتميز أسلوبه كما يتميز بروحه ولغته وموضوعاته، وبأسلوبه استطاع أن يكون شاعرا شخصيا، كما كان شاعرا شخصيا في ظهور ذاتيته، وبه وحده تجلت عبقريته، فاعترف الناس له بإمارة الشعر، ولم يطمع فيها يوما، ولا خطرت له ببال. (1-5) درس تاريخي
قلنا في ترجمة امرئ القيس: «وقيل إن أمه فاطمة بنت ربيعة، أخت كليب والمهلهل.» وهذا هو المشهور عنه. غير أننا لا يسعنا ونحن ندرس شعره، إلا أن ننظر إلى هذا النسب بشيء من الاحتياط والشك. فليس في أشعار الملك الضليل ما يدلنا على هذه القربى حتى نؤمن بها، فلو كان كليب والمهلهل خاليه لما استنكف أن يذكرهما مفتخرا، أو أن يشير إلى الوقائع التي انتصر فيها التغلبيون على البكريين في حرب البسوس.
ورب معترض يقول: إن شعر امرئ القيس ضاع أكثره لتقادم العهد، ولم يصل إلينا منه غير القليل. ونحن لا نخالفه في ذلك، ولكن هذا القليل كان كافيا للدلالة لو صحت القربى . فلامرئ القيس قصيدة يفتخر بها ويذكر أخواله وأعمامه إذ يقول:
خالي ابن كبشة قد علمت مكانه
وأبو يزيد ورهطه أعمامي
فمن هذا ابن كبشة؟ ... إنه غير كليب والمهلهل، فما كان ابنا ربيعة ينتسبان يوما إلى «كبشة»، ولو أراد امرؤ القيس أحدهما لذكر اسمه واستقام له وزن البيت، ولكنه يشير إلى سواهما لأنهما ليسا بخاليه.
على أن هذا لا يمنع أن يكون والد امرئ القيس تزوج فاطمة بنت ربيعة، إلا أن الشاعر ليس منها بل من ضرة لها. ولعل فاطمة هذه هي التي تعشقها وتغزل بها في معلقته إذ يقول:
صفحة غير معروفة