287

أدباء العرب في الأعصر العباسية

تصانيف

وكذلك القاضي الجرجاني وهو كالآمدي ممن تقدم زمانهم زمن البديع، فإنه ذكر في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، قصيدة أبي الطيب في وصف الأسد، وقال: «ولولا أبيات البحتري في هذا المعنى، لعددت هذه من أفراد أبي الطيب، لكن البحتري قال يصف قتل الفتح بن خاقان أسدا عرض له، فاستوفى المعنى، وأجاد في الصفة، ووصل إلى المراد. وأما أبو زبيد فإنما وصف خلق الأسد وزئيره، وجرأته وإقدامه. وكأنما هو مرعوب أو محذر، والفضل له على كل حال. لكن هذا غرض لم يرمه ومذهب لم يسلكه.» ا.ه.

فالجرجاني لم يجعل المتنبي منفردا في وصف الأسد؛ لأن البحتري سبقه إلى ذلك وأجاد، ولكنه جعل الفضل لأبي زبيد الطائي

21

لأنه سابق إلى هذا الغرض، وإن يكن سلك إليه مذهبا يختلف عن مذهب أبي عبادة وأبي الطيب. ولو عرف القاضي بشر بن عوانة لذكره مع أبي زبيد، والفرصة أسنح ما يكون لذكره، ولا سيما أن مذهب بشر في وصف الأسد أشبه شيء بمذهب البحتري والمتنبي.

وفي رسائل بديع الزمان أبيات من وصف الأسد استشهد بها صاحبها من غير أن يعزوها إلى بشر؛ مما يدل على أن البديع لم يخطر في باله يوما أن يجعل من مقاماته قصصا تاريخية، ولا من بشر بن عوانة شاعرا حقيقيا.

تحليل المقامة البشرية

لم يتعمد البديع الصنعة في هذه المقامة، ولا التزم السجع والتزيين، بل تركها تجري مع الطبع، فبعد بها شيئا عن إنشاء المقامات. فكأنه - وهو يتحدث عن شاعر في الجاهلية - أبي إلا أن يجعل كلامه ملائما لعصر شاعره. وهذا من بعض حسناته، إلا أنه لم يتأت له أن يبعد بقصته عن الإغراب، فهي على لطفها، وفكاهتها، وحسن سياقها، فيها أشياء كثيرة لا يطمئن إليها العقل، ولا يسلم بها المنطق. ولو لم تتخذ هذه المقامة تاريخا لحياة شاعر حقيقي لما عنينا بنقد ما فيها من الإغراب؛ لأنه مستملح في قصص خيالية كالمقامات.

لا يظهر في هذه المقامة أبو الفتح الإسكندري، إلا أن عيسى بن هشام يرويها وهو من عرفت. وأولها: «حدثنا عيسى بن هشام قال: كان بشر بن عوانة العبدي صعلوكا ، فأغار على ركب فيهم امرأة جميلة، فتزوج بها، وقال: «ما رأيت كاليوم!» فأنشدته السبية أبياتا وصفت بها جارية حسناء. قال بشر: «ويحك من عنيت؟» فقالت: «بنت عمك فاطمة.» فقال: «أهي من الحسن بحيث وصفت؟» قالت: «وأزيد وأكثر!» فترى أن بشرا لم يعرف أن له بنت عم حسناء إلا من امرأة غريبة سباها في إحدى غاراته، فلما عرف ذلك مل جانبها وطلقها: «ثم أرسل إلى عمه يخطب ابنته، ومنعه العم أمنيته، فآلى ألا يرعي على أحد

22

منهم إن لم يزوجه ابنته. ثم كثرت مضراته فيهم، واتصلت معراته

صفحة غير معروفة