وأخذت نادية بهذه الدموع التي تبادلها الصديقان وعجز عقلها عن فهم الحديث. ولكنها رأت أنه لا بد أن تشارك في الأمر، ولم تكن تستطيع المشاركة إلا في الحديث عن البكاء، فهو الشيء الوحيد الذي تفهمه في كل ما حدث. - أنت زعلت يا آبيه محسن مني، طيب لا تزعل، لن أذاكر وسأكلمك.
وضمها محسن يخفي عنها دموعه، ولكن خيري أخذها من بين أحضانه وحملها ليصعد بها إلى غرفتها، وأراد محسن أن يبقيها فقال خيري: لا، ليس اليوم، أعصابك أصبحت تالفة جدا.
وخرج خيري فلم يغب غير دقائق، ثم عاد إلى محسن يقول له: قم بنا. - إلى أين؟ - إلى منزلكم. - لماذا؟ - عجيبة! أأقول لك إني أريد الذهاب إلى منزلكم فتقول لماذا، هل لا بد من مناسبة؟ - لا أبدا، أهلا وسهلا، ولكن المسألة لا تحتاج. - بالعكس تحتاج جدا، أولا نتمشى قليلا ونريح أنفسنا، وثانيا أرى فايزة فإني لم أرها من زمان، هيا.
وقاما. •••
كان عزت بك الأزميرلي رجلا من رجال السياسة، وقد كان يلجأ إلى بيته من صخب الحياة التي يحياها، وكان يجد الهناءة كلها في بيته، في الجلوس إلى أولاده كلما أتاحت له أعماله هذه الجلسة.
وكانت فايزة أقرب أبنائه إليه، فهو شديد الحب لها، فقد رزقها وهو كبير السن. وكانت في هذه السن الحبيبة التي لا يستطيع أحد إلا أن يدلل أصحابها. وقد هاله مرضها، وحين طال بها أصبح يهرب من البيت ويلقي بنفسه في غمار السياسة، فإذا وجد فراغا كان يقصد إلى ابن عمه همام محاولا ما وسعه الجهد ألا يعود إلى البيت.
وارتاحت إجلال هانم لغياب زوجها وابنها محسن ، فقد أتاح لها هذا أن تفرغ لتمريض ابنتها لا يشغلها عنها شاغل من زوج أو ولد. وأصبحت لا يلازمها إلا ابنتها الكبرى وفية، فقد كانت هذه عونا لها على هذه الشدة التي طال بها الأمد. وكانت وفية تحب أن تقوم بهذا العون، فهي تحب أمها وتحب أختها وتشفق على كلتيهما من الجهد والمرض. وقد أتاح شباب وفية لها أن تبذل الجهد الذي لا تطيقه أمها، فهي تتولى إعطاء الدواء لفايزة، وهي تتولى شئون البيت، وهي تنتظر أباها وأخاها حتى يعودا، وهي تقوم بهذا جميعه راضية لا تفكر في شيء إلا شفاء أختها، وإلا هذا الشيء الذي لا تملك أن تنساه وإن زجرت نفسها وعنفتها أن تذكره في هذه الأيام التي تمر بهم، هواها، إنه لا يستحي أن يذكرها بنفسه في هذه الأوقات الحالكة من حياتها. بل لقد أصبحت لا تذكره لأنها لا تنساه أبدا. لقد أصبح شعورا ملازما لكل شعور آخر ينتابها، فهو معها يتردد مع أنفاسها، ومع مسرى كل تفكير يمر بذهنها، ومع كل خلجة يختلج بها قلبها.
أقبل محسن وخيري إلى البيت ودخلا حجرة فايزة، ولم تكن بها وفية.
لم يكن خيري قد رأى فايزة منذ فترة طويلة، فجزع لهذا الهزال الذي نزل بها، ولم يشأ أن يظهر أهلها على ما لاحظه، وخشي أن يخونه تعبير وجهه، فتضاحك وحاول أن يداعب فايزة ففشلت دعابته، واستدار يخرج من الغرفة مسرعا. وجلس في ذلك الركن من البهو الذي حاول فيه أن يبوح بحبه فلم يستطع. ولم يطل به الجلوس، فقد جاء محسن ليجلس إليه، ولكن ما لبثت إجلال هانم أن دعت محسن ليعود إلا أخته لأنها تسأل عنه. وقام محسن وهو يقول في تأثر شديد: إنها لا تراني كثيرا في هذه الأيام؛ ولهذا تتعلق بي كلما دخلت إلى غرفتها.
فقال خيري: لا شأن لك بي، سأنتظرك هنا حتى تعود.
صفحة غير معروفة