النظم البلاغي بين النظرية والتطبيق
الناشر
دار الطباعة المحمدية القاهرة
رقم الإصدار
الأولى ١٤٠٣ هـ
سنة النشر
١٩٨٣ م
مكان النشر
مصر
تصانيف
ولقد شد انتباهي طويلًا ذلك الفصل الذي عقده في وساطته، وعنون له بعبارة "مواقع الكلام".
فلقد حاول أن يثبت فيه أن مزية الكلام إنما ترجع إلى نظمه، لا إلى جزالته وقوته ولا إلى ما فيه من تنميق وتزويق، ولكنه لا يستطيع أن يبين لنا أسباب تلك المزية كما بينها عبد القاهر من بعده، إذ هو لا يستطيع أن يفصح عن تلك الأسباب بأكثر من أن هذا أمر تستخبر به النفوس المهذبة، وتستشهد عليه الأذهان المثقفة، بل إنه ليجهر بأنك لا تستطيع أن تذكر لهذه المزية سببًا، بل ويقيم الدليل على هذا من الأمور الحسية المشاهدة، فيقول:
"وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس وأسرع ممازحة للقلب، ثم لا تعلم - وإن قاسيت واعتبرت ونظرت وفكرت - لهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا.
فالقاضي الجرجاني يدرك جمال الأساليب، ولكنه لا يكلف نفسه عناء البحث عن أسبابه، وكيف لا؟ وهو الذي يعتبر السائل عن السبب متعنتًا متجانفًا؟ "ولو قيل لك: كيف صارت هذه الصورة وهي مقصورة عن الأولى في الأحكام والصفة، وفي الترتيب والصنعة، وفيما يجمع أوصاف الجمال، وينتظم أسباب الاختيار - أحلى وأرشق وأحظى وأوقع؟ لأقمت السائل مقام المتعنت المتجانف، ورددته رد المستبهم الجاهل، ولكان أقصى ما في وسعك وغاية ما عندك أن تقول: موقعه في القلب ألطف وهو بالطبع أليق، ولم تعدم مع هذه الحال معارضًا يقول لك: فما عبت من هذه الأخرى؟
1 / 69