والجلال لا يعرف الناقد البصير كل وسائله، وجميع مصادره، وليس في طاقته القدرة على كشف دلائله ومعالمه، وإن انتهى إلى البعض فسيظل حائرًا إلى الأبد عن البعض الآخر، وينتهي في حيرة إلى القول: بأ، الجلال في الصورة الأدبية، أو في نفسه، أو فيهما معًا، وهنا يعجز العقل الذي يبرهن ويدلل، ويترك للإحساس والوجدان مملكته وسلطانه، فالعقل لوضوحه وتحديده له مجاله وله غاية ونهاية غالبًا، أما الإحساس والشعور لغموضه، فلا غاية له ولا نهاية، فهو يدرك ما وراء الظاهر، ويحس وحده بالجمال المطلق، الذي هو في ذاته مصدر الجمال، وهو ما يقصده القاضي بالجلال في قول الأعرابي السابق: "لا تعلم -وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت بهذه المزية سببًا، ولما حصت به مقتضيًا ... إلى قوله: "وهو بالطبع أليق".
سادسًا:
ويتعرض للصورة الأدبية في دفاعه عن المتنبي حين يقول:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
ويرد القاضي البيت الذي وجهه النقاد إلى هذه الصورة، حيث إن المشبه به وهو "وقوف الشحيح" الذي ضاع في الترب خاتمه، لا يوفي بالغرض في المشبه؛ لأن الاستمرار في الوقوف على أطلال الحبيب، وترديد ذكريات الصبابة والعشق، فهذا يحتاج إلى وقت طويل يغيب فيه الحب عن الوجود، بينما البخيل لحرصه وشراهته فهو يجيد البحث عن خاتمة، ليحصل عليه بسرعة ولكن القاضي يصحح هذا الخطأ الذي ظنه النقاد عيبًا، في صورة المتنبي السابقة فيقول: "إن التشبيه والتمثيل قد يقع تارة بالصورة والصفة، وأخرى بالحال والطريقة فإذا كان الشاعر وهو يريد إطالة وقرفه قد قال: إني أقف وقوف شحيح ضاع
1 / 46