ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
لكن البعد والرحابة لا يرتفعان دائما، بل يدمران في نهاية المطاف، استمع إلى قصيدته النثرية «ليلية شعبية» التي تبدأ بهذه الكلمات: «العاصفة تفتح فجوات أوبرالية في الجدران، تزعزع أركان السطوح المتآكلة، تبدد معالم المساكن، تعتم النوافذ ...»
والقصيدة تكاد تكون عنوانا على طريقة رامبو في التأليف؛ فهي تزدحم بصور متفجرة من كل مكان، وتكرر في الخاتمة ما بدأت به: «العاصفة تقوض معالم المساكن.»
وهناك قصيدة متأخرة (دموع، مايو 1872م) تفيض بالألغاز الغامضة، ولا ينفع في حلها أن نرجع إلى العنوان، الذي لا صلة له بموضوعها، ولا إلى صورها أو مضموناتها المتعددة، وربما تكون أفضل وسيلة لتذوقها وتفسيرها أن نتتبع اتجاه حركتها بدلا من الوقوف عند صورها المتحركة، بل ربما تكون أفضل وسيلة لتذوق الشعر الحديث بوجه عام.
والقصيدة تتحدث عن رجل يشرب وهو جالس بالقرب من أحد الأنهار، ونلاحظ منذ البداية أنه يشعر بالاشمئزاز من الشراب. ثم يحدث شيء غريب: تهب العاصفة لتغير وجه السماء، ونرى على الجانب الآخر من النهر أراضي سوداء، وبحيرات، وأعمدة تحت ليل أزرق ومحطات سكك حديدية. وتنحدر المياه فوق الغابات، وكتل الثلج في المستنقعات ونسأل أنفسنا، ماذا حدث؟ إن قطعة محدودة من الأرض قد تحولت فجأة إلى قطعة من السماء تشارك فيها الأرض بدورها، وينتهي النص بكلمات مختلطة على لسان الشارب، وتأتي الخاتمة التي لا تختم شيئا، بل تجدد اللغز الغامض. ومع ذلك فقد ندرك أمرا واحدا، هو الفعل الذي يذيب المعالم ويفجر الحدود حين تنفذ فيها الأبعاد المترامية الغاضبة. وإليك القصيدة نفسها (مايو 1872م):
دموع
بعيدا عن الطيور، والقطعان، والقرويات،
رحت أشرب وأنا قابع في مرعى بري،
تحيط بي أشجار البندق الرقيقة،
ويلفني بعد الظهيرة ضباب أخضر وفاتر.
ماذا كان بوسعي أن أشرب من نهر «الأواز»
صفحة غير معروفة