ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
وموسم في الجحيم أشبه ما يكون بمراجعة يقوم بها الشاعر لكل المراحل الفنية التي مر بها. ولكنه كذلك أشبه بمجموعة من القفزات والكبوات المتصلة، فهو لا يكاد ينفض عنه مرحلة حتى يعود فيسقط فيها، وتكون النتيجة حيرة مربكة لا تستقر، فما أحبه الشاعر مرة فهو يكرهه الآن، ثم لا يلبث أن يحبه مرة أخرى، لكي يكرهه من جديد. وما يثبته في جملة يعود فينفيه في جملة تالية، ثم يكرره في ثالثة. وإذا تمرد مرة رجع فتمرد على تمرده ... حتى تأتي الخاتمة فتجرف شلال المتناقضات في هوة واحدة: وداع الشاعر لكل حياة عقلية أو روحية، ويأسه من الحب ومن كل يد صديقة. ... أحيانا أرى في السماء شطآنا مترامية تغطيها أمم بيضاء سعيدة. ثمة سفينة ذهبية كبيرة فوق رأسي ترفرف أعلامها الملونة في نسيم الصباح. لقد خلقت كل الأعياد، كل الانتصارات، كل المآسي. حاولت أن أبتكر أزهارا جديدة، نجوما جديدة، بشرا من لحم جديد، ولغات جديدة. اعتقدت أن في استطاعتي اكتساب قدرات خارقة. حسنا! علي أن أدفن خيالي وذكرياتي. يا له من مجد جميل ذهب؛ مجد فنان وقصاص!
أنا! أنا الذي سميت نفسي ساحرا أو ملاكا، ونفضت يدي من كل أخلاق، قد رددت للأرض كي أبحث لنفسي عن واجب وأعانق الواقع المجعد! يا لي من فلاح!
هل خدعت؟ أيكون الحب الرحيم بي شقيقا للموت؟
مهما يكن الأمر فسوف أطلب الغفران لأنني عشت على الكذب. ولأمض إلى الأمام!
ولكن ما من يد صديقة! وأين ألتمس العون؟ ...
ذلك إذن هو مجمل هذه المقطوعات الحائرة المحيرة؛ تشرد في العالم المألوف، عالم الأشياء والنفوس والعقول وتحديد لموقف الشاعر من التراث الديني. إنها تذكر المصطلحات المسيحية هنا وهناك: الجحيم، الشيطان، الملاك، ولكنها تتأرجح بين المعنى اللفظي والاستعاري، ولا تثبت إلا على معنى واحد، هو معنى الثورة العمياء والتمرد الجامح. يدل على هذا وصف رامبو نفسه لها بأنها «صحائف قبيحة من مذكراتي عن اللعنة، مقدمة للشيطان». أو قوله في مقطوعة منها «دم شرير»: «الدم الوثني يعود!» الروح قريب؛ لماذا لا يساعدني المسيح ويمنح نفسي النبل والحرية؟ آه، لقد فات الإنجيل، الإنجيل. الإنجيل! ثم يقول: «إنني أغادر أوروبا، أريد أن أسبح، أكسر العشب، أصطاد، أدخن بصورة خاصة، أعب خمورا قوية كالمعدن المصهور، كما كان يفعل الأجداد الأعزاء عندما كانوا يجلسون حول النار. سأرجع، بأعضاء من حديد، ببشرة غامقة، بعيون وحشية. عندما يبصرون قناعي سيعتقدون أنني من جنس قوي. سأملك الذهب؛ سأعيش عاطلا وضاريا . النساء يرعين هؤلاء المرضى المتوحشين العائدين من المناطق الحارة. سأهتم بالسياسة، وأنقذ نفسي.» غير أنه يقول في عبارة سابقة من نفس المقطوعة: «أنتظر الله في نهم.» وفي عبارة تأتي بعد هذا: «ما كنت مسيحيا أبدا. أنا من جنس يغني في العذاب.» وهو يدعو «لذات اللعنة» ولكنها لا تستجيب. وينادي المسيح والشيطان، ولكنهما لا يسمعان، ومع ذلك يحس بقيودهما حول جسده وروحه: «أعلم أنني في الجحيم، وإذن فأنا فيه!» الجحيم هو العبودية في ظل شريعة تسأل وتجيب. والوثنيون ليس لهم جحيم، ولذلك تمتنع عليه الوثنية أيضا.
وقد يتصور الإنسان أن الشاعر يعاني من المسيحية كما يعاني من جرح. ولكن سرعان ما تتحول ثورته إلى سخرية، ويصبح عذابه تهجما وسقوطا في آن واحد. ربما كان هذا هو ما يقصده من قوله إنه في الجحيم. والكلام عن الجحيم يدل على نوع من الارتباط بالتراث المسيحي، ولكنه يدل كذلك على نوع غريب وجديد، ويحس القاري «لفصل في الجحيم» أن الشاعر يكاد يسأل نفسه بشكل خفي: أليس الاضطراب في العالم الحديث وفي باطن الإنسان نفسه نوعا من القدر المسيحي؟ ولكن الشاعر لا يجيب على السؤال ولا يحل المعضلة. ويحس القارئ من ناحية أخرى بموضوع آخر يطرقه الشاعر بإلحاح؛ الهجرة من القارة الأوروبية، والهرب من «مستنقعات الغرب» وحماقته، من البرهنة على ما هو واضح وطبيعي، وعدم الانتباه إلى أن البرجوازي الضيق الأفق قد ولد يوم ميلاد المسيح. ويبرز هذا الموضوع في ثنايا المقطوعات السبع، ويسير في اتجاه محدد، وتمضي خلال الخريف، والشتاء، والليل والتعاسة؛ «ديدان في شعري وكتفي وقلبي». ثم يأتي القرار بعد الضياع الأخير: معانقة الواقع المغضن، الهروب من أوروبا العجوز إلى شطآن البحار وغابات الوحوش، بداية حياة من العمل الحازم القاسي ...
ولقد برهن رامبو على صدق هذا القرار. أوغل في البحث عن المجهول بأقصى طاقته، وفعل في سبيل ذلك ما لم يفعله شاعر سواه، ولكنه لم يصل في النهاية إلى شيء واضح عن طبيعة هذا المجهول. ولذلك أعلن استسلامه أمام صراعات الوجود العقلي وتوتراته التي لم يجد لها حلا وعدل عن هذا الطريق بعد أن أدرك خيبته، وراح يجتر موته الباطن، وصمته حيال العالم الذي فجره بنفسه. كان التراث المسيحي هو أعتى عقبة صادفته. لقد عجز عن إشباع جوعه الهائل إلى حقيقة تسمو فوق الواقع الذي بدا له ضيقا محدودا ككل ما هو أرضى. وكان من نتيجة الحريق الذي أشعله رامبو في الواقع والموروث أن انهارت المسيحية أمام عينيه.
وإذا كان بودلير قد استطاع أن يصنع من لعنته نظاما متسقا، فقد تحولت اللعنة على يدي رامبو إلى عماء مضطرب، ثم إلى صمت مطبق.
ولذلك فلا يستطيع أحد أن يصدق ما روته شقيقته إيزابيل من أنه مات مؤمنا، بعد أن تأكد الباحثون من كذب هذه الرواية. (7) طرح النزعة البشرية
صفحة غير معروفة