ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
عبد الغفار مكاوي
تقديم
صلتي بالشعر صلة قديمة وحميمة. بدأت أكتبه في العاشرة من عمري حتى اجتمع لي منه بعد ذلك بسنتين ديوان صغير في حجم الكف لم يكن فيه بيت واحد موزون! وظللت محتفظا بهذا الديوان حتى ضاع فيما ضاع من كتب وأوراق، وتبعته بعد ذلك دواوين أخرى كنت أعتني بكتابتها وأفرح بوضع اسمي على غلافها وإثبات صدورها عن «مطبعتي الخاصة». كنت أخبئها في دولاب خشبي صغير أجعل مفتاحه دائما في جيبي. ولم تلبث أمي رحمها الله أن عثرت عليه فأراحتني منها جميعا؛ إذ عرفت بفطرتها - ولم تكن تقرأ وتكتب - أن أفضل ما يمكن عمله بهذه الكراسات الصغيرة المضيعة للوقت هو إحراقها في الفرن أو «الكانون» واستغلال أوراقها في شيء مفيد! واستمرت تجربتي في الشعر حتى الثانية والعشرين عندما توقفت تماما بعد حب فاشل. وبدأت تجارب أخرى في القصة والمسرحية تزاحمه، وأخذت الدراسة تحاصرني من كل ناحية حتى توارى غضبا أو حياء وراء طموح أكاديمي سخيف، واختنق تحت تراب المراجع والكتب العقيمة فلما عرفت أنني فقدت كنزه إلى الأبد، رحت أعزي النفس بتسمع خفقاته الضائعة بين ركام الكتب والأوراق والهموم، وأقنع بلمسات منه تصحبني في رحلتي اليومية فتعزيني عن خيبة أملي في الحياة والناس، وتسري في كل ما أكتبه - أو هذا على الأقل ما أرجوه - فتخفف من حسرتي التي لا تنقضي عليه.
وظل اهتمامي بالحياة مع الشعر قديمه وحديثه هو البقية الباقية من التركة الضائعة بعد أن تأكد عجزي عن قوله حتى في أشد أزماتي وأتعس لحظاتي. ويبدو أن روح الشعر أشبه بروح الآباء والأجداد لا تترك جسما دخلته ، ولا تخرج منه قبل أن يصبح جثة باردة. ومن يدري؟ فقد تكون قبسا صغيرا من النار الخالدة التي سرقها ذلك اللص الإغريقي العظيم «برومثيوس» وبدلا من أن يضعها بين أيدي البشر نسي فألقاها في قلوبهم. وتمر الأجيال بعد الأجيال ولم يزل لهيبها يحرقهم، ويجلو نفوسهم، ويشعرهم بعظمتهم وتعاستهم، ويجعلهم يسيرون على الأرض كالنيام الذين يحلمون بعالم أبهى وأكمل وأعدل ممكن التحقق على هذه الأرض نفسها.
هكذا رحت أعزي النفس من حين إلى حين بترجمة الشعر ودراسته وتقديم لمحات من تراثه إلى القراء والشعراء. فعلت هذا مع أشعار سافو اليونانية ولاوتسي الصيني وبرشت الألماني، إلى جانب دراسات أخرى في شعر جوته وغيره من أدباء الغرب. غير أن هذه الأعمال لم تقنعني أو ترضني، فقد كنت أطوي في الصدر أملا أعيش عليه وأنتظر اللحظة التي تسعفني بتحقيقه. كنت أحلم بإلقاء نظرة شاملة على الشعر الأوروبي الحديث، وتقديم نماذج من كبار شعرائه إلى القارئ العربي في طبق واحد. وظل هذا الحلم يشير إلي من بعيد حتى كان صباح يوم من الأيام في أوائل سنة 1966م؛ فقد شاءت الظروف أن تجمعنا - الشاعرين الكبيرين عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأنا - في مجلس واحد. ودار الحديث بطبيعة الحال عن الشعر. وذكرت ترجماتي المتواضعة فيما ذكر عن الشعر والشعراء المحدثين. وبرزت الأمنية القديمة حتى أوشكت أن تتجسد أمامنا وتزاحمنا في الحديث. وترددت أسماء نحبها جميعا: لوركا، كافافيس، إليوت، برخت، ناظم حكمت، أنجارتي ... إلخ. واتفقنا على أن هناك أمانة تنتظرنا؛ أمانة تقديم نماذج من هذا التراث العظيم الذي أصبح معظمه كلاسيكيا بالفعل. وسألنا أنفسنا: بمن نبدأ؟ ماذا نختار وكيف نختار؟ أيكون الاختيار على أساس الموضوعات أم البلاد أم الشعراء؟ هل نضع لأنفسنا حدودا في الزمان والمكان؟ وإذا التزمنا بالقرن العشرين فمن من الشعراء نأخذ ومن ندع؟ هل نكتفي بتقديم نماذج من شعرهم أم نضيف نبذة عن حياتهم وأعمالهم؟ ولكن هل تغنى هذه النبذ القصيرة عن دراسة شعرهم؟ وهل تغني دراسة الشعر عن فهم الحركة أو العصر الذي ينتمون إليه؟ وهل يمكن أن ينفصلوا عن الرواد الذين أثروا عليهم؟!
أسئلة كثيرة واجهتنا كصخور اليأس. ومع ذلك فقد اتفقنا على تقسيم العمل بيننا، وما أسهل الاتفاق على مشروعات المستقبل الضخمة في لحظة قصيرة تتضوع بعطر المحبة والقهوة والدخان! كان شعر العالم الأنجلوسكسوني بما في ذلك اليونان ولوركا وشعر الزنوج من نصيب صلاح عبد الصبور، ووقع شعر العالم الشرقي، سواء في ذلك العالم السلافي أو الآسيوي، من نصيب عبد الوهاب البياتي الذي يعرف اللغة الروسية ويترجم عنها، أما أنا فقد كان الشعر في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا من حظي.
ومضيت أعمل بالجدية الساذجة التي يعرفها عني أصدقائي! فلم ينقض العام حتى اجتمع لي أكثر من ثلاثمائة قصيدة لأكثر من أربعين شاعرا. وعرضت المسودات على صديق العمر صلاح فهاله ما فعلت. ثم سألت صديقنا البياتي بعد ذلك فهالني أن الصديقين الكبيرين لم يسيرا في مشروعنا خطوة واحدة؛ لقد عكف كل منهما على شعره وإنتاجه. وحزنت في مبدأ الأمر. ثم تبين لي أنهما أحسنا صنعا. فليس أضر بالفنان المبدع من التخلي عن موهبته إلى النقل والترجمة، ولكنني كنت قد وقعت في الفخ، ولم يكن بد من الاستمرار فيما بدأت. ومرت الأيام ومرت السنون، فإذا بالمشروع يكبر بالتدريج. أضفت إلى النصوص المترجمة دراسة قصيرة عن الشعر في القرن العشرين، ثم رأيت أن هذا الشعر لا يفهم على حقيقته حتى يوصل آخره بأوله. ورحت أفتش عن جذور الحركة الشعرية المعاصرة حتى عثرت عليها في البدايات الرومانتيكية وكتابات بودلير وترجماته، وتتبعت خيوط نسيجه الشامل الذي بدأه بودلير وأحكم بناءه رامبو ومالارميه، ثم طبع الشعر المعاصر كله بطابعه. واهتديت في هذا كله بكتاب قيم يعد من أهم الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة عن الشعر الحديث، بل أرجو ألا أكون مغاليا إذا قلت إنه عند المختصين أهمها جميعا، ولقد عرفت الكتاب عند صدور طبعته الأولى سنة 1957م، وكان لي حظ الاستماع إلى بعض محاضرات صاحبه العالم الكبير في اللغات الرومانية . وإذا كنت قد اعتمدت أكبر اعتماد على هذا الكتاب القيم، بحيث لم أغفل حقيقة علمية واحدة من الحقائق التي ذكرها ولا تركت سطرا واحدا بغير أن أستفيد منه؛ فلقد نقلته كذلك نقل المتذوق المتأمل لا نقل المترجم الحرفي، أضف إلى هذا أنني استعنت بمراجع أخرى عديدة في الشعر الحديث تجدها مثبتة في هوامش الكتاب، وتوسعت فيه وأضفت إليه - وبخاصة في الفصل الخاص بمالارميه والفصلين الأول والأخير - إضافات عديدة أملاها ذوقي أو اطلاعي، وزدت في المختارات التي ألحقها بدراسته؛ بحيث صار الكتاب الذي بين يديك خمسة أضعاف الكتاب الأصلي. ولست أريد من هذا الكلام كله إلا أن أؤكد فضل هذا الكتاب القيم علي، واعترافي بديني العظيم نحو صاحبه. ولولا أن عملي فيه جاء في وقت كرهت فيه الترجمة وزهدت فيها، ولولا أنني تصرفت فيه وأضفت إليه من عندي، لما ترددت في وضع اسم «هوجو فريدريش» في موضع المؤلف على الغلاف. ومع ذلك فأرجو أن ينظر القارئ إلى الكلمة التي تشير إلى اسمي نظرته إلى كلمة «المؤلف» و«التأليف» بمعناهما اللغوي الدقيق، أعني بمعنى الجمع والترتيب و«التأليف» بين فصول وأفكار ليس لي فيها فضل الخلق والإنشاء بل نصيب التذوق والعرض والتجميع.
أقول هذا عرفانا بالفضل الأكبر لأصحابه أو بالأحرى لصاحبه، وإنصافا لنفسي التي لا أحب أن أنسب لها شيئا لا تستحقه. •••
تبين لي من خلال العمل في هذا الكتاب أن الشعر الأوروبي الحديث ينبع من رافدين كبيرين تدفق عطاؤهما في القرن التاسع عشر وفي بلد واحد هو فرنسا، وأعني بهما الشاعرين رامبو ومالارميه. إن ما يجمعهما بالشعر الحديث ليس مجرد الريادة والسبق، بل عوامل مشتركة في البناء، لم تزل تظهر بصور مختلفة في ظواهره العديدة. ولعل البدايات ترجع إلى أبعد من القرن التاسع عشر، ولعل بعضها أن يمتد بجذوره إلى القرن الثامن عشر. ولكن هذا البناء الشامل قد بدأ يتشكل في صورته النظرية والنقدية حوالي سنة 1850م، ثم وضحت آثاره على الخلق الشعري حوالي سنة 1870م. ولم يزل هذا البناء يتعقد ويزداد تعقدا وتركيبا، ولم يزل يزداد تخصصا وتفردا عند كل شاعر جدير بهذا الاسم، بحيث نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إنه لا يزال أيضا يترك آثاره على كل الإنتاج الشعري الأوروبي؛ بل وعلى كثير من الإنتاج غير الأوروبي حتى اليوم. فهذان الشاعران الفرنسيان يفسران لنا قوانين الأسلوب التي تحكم بناء الشعر المعاصر، وقراءاتنا للشعراء المعاصرين تبين أنهما ما زالا معاصرين. هناك إذن وحدة في بناء الشعر الحديث، لن نذكرها أو نقدرها حق قدرها حتى نحرر أنفسنا من التقسيمات التقليدية التي تلجأ إليها كتب النقد وتاريخ الأدب، ونوسع من نظرتنا بحيث لا نقتصر على شاعر أو أسلوب بعينه، بل نجعلها تشمل الكل ولا تقف عند الأفراد والأجزاء. •••
وبناء الشعر الحديث عند أعلامة الثلاثة الكبار - بودلير ورامبو ومالارميه - ومن جاء بعدهم حتى اليوم بناء غريب شاذ. ولا بد من فهم هاتين الكلمتين بمعناهما الاستطيقي لا الأخلاقي. أما عناصر هذا البناء فهي وضعه الخيال في مكان الواقع، وتأكيده لحطام العالم لا لوحدته ومزجه بين عناصر متنافرة وناشزة، وتعمده الاضطراب والتشويه، وتأثيره السحري عن طريق الغموض والألغاز وسحر اللغة، وإغرابه لكل مألوف أو معتاد، وإيثاره للتفكير الرزين المحسوب الشبيه بالتفكير الرياضي، واستبعاده للعاطفية الساذجة أو ما سوف نسميه فيما بعد بالنزعة البشرية، وغياب ما يسمى بشعر الإلهام أو الشعر المباشر، وطغيان المخيلة الخلاقة التي يسيرها العقل والوعي، وتدمير نظام الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة، واستغلال الطاقات الموسيقية في اللغة إلى أقصى حد ممكن، والاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم، وإعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي، وإحساس الشاعر بانتمائه إلى عصر حضاري متأخر، وشعوره بالتوحد والتميز، وتزاوج التعبير الشعري مع التأمل المستمر في هذا التعبير، أي تلازم الشعر وفن الشعر ... إلى آخر هذه العناصر والمقولات التي سيأتي بيانها في الصفحات القادمة.
صفحة غير معروفة