ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
ليس بودلير من الأدباء الذين تقاس خصوبتهم بعدد الموضوعات التي يطرقونها، بل بمدى العمق في تناولها. فلقد تناول عددا قليلا من الموضوعات التي ظل طوال حياته يدور في فلكها ويرجع إليها بالتهذيب والتنقيح من حين إلى حين. ومن المدهش حقا أنها تظهر في الأربعينات، أي في فترة مبكرة من حياته، وأنه لم يكد يزيد عليها بعد ذلك شيئا ذا بال، بل ظل منذ ظهور «أزهار الشر» حتى وفاته لا يكاد يخرج عن دائرتها. هذه الموضوعات القليلة التي ساعدت مقالاته ومذكراته الشخصية ورسائله على تثبيتها والتركيز عليها، تتخلل ديوانه وتجعل منه ما يشبه النسق المنظم أو الكيان العضوي الحي. وهي على قلتها أقرب إلى أن تكون تحولات أو متنوعات على لحن رئيسي واحد يفيض بالألم والصراع، ونستطيع أن نسميه لحن التوتر بين النزعة الشيطانية والنزعة المثالية. هذا التوتر يظل قائما بلا حل أو نهاية، ولكنه يظل كذلك محتفظا بالنظام والتسلسل اللذين يميزان كل قصيدة على انفراد.
والواقع أننا لن نفهم تطور الشعر الحديث حتى نفهم هذا التوتر الذي سيصل إلى غايته في شعر رامبو فيصبح لحنا من النشاز المطلق الذي تحطم فيه كل تماسك ونظام، ويزيد حدة وعنفا في شعر مالارميه وإن طرق به موضوعات أخرى وخلق له لغة جديدة غامضة موغلة في الغموض. •••
لقد حذر بودلير كما رأينا من الاستسلام «لنشوة القلب». وتركز قصائده على عدد من الموضوعات القليلة يحقق هذا الغرض. صحيح أن هذه النشوة قد تظهر في بعض شعره، ولكنها ليست هي الشعر نفسه بل مادته. ففي رأيه أن الفعل المؤدي إلى الشعر الخالص فعل كله جهد وتعب وبناء ومعمار وتجريب متصل لطاقات اللغة وبواعثها. ولقد نبه بودلير إلى أن زهور الشر لا تريد أن تكون مجرد «ألبوم» يضم عدة قصائد، وإنما هي كل متكامل يبدأ وينمو وينتهي إلى غاية. قد لا تخرج من ناحية المضمون عن مجموعة من العواطف السلبية كاليأس والشوق إلى الموت والشلل والتطلع المحموم إلى المثال والانفعالات الشاذة. ولكن هذه العواطف كلها محصورة في إطار من التأليف المحكم المدروس. ولذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا إن زهور الشر - بجانب أغاني بتراركا وديوان أنشودة لجيان الإسباني - هي أكثر مجموعات الشعر الأوروبي الحديث دقة وإحكاما، ولقد راعى بودلير في كل ما أضافه إليها بعد ظهور الطبعة الأولى سنة 1845م أن يكون متفقا مع الإطار العام الذي وضعه لها منذ البداية. بل إن حرصه في تلك الطبعة على أن يكون عدد القصائد مائة تقسم إلى خمس مجموعات، يدل على حرصه الشديد على دقة الشكل والبناء. صحيح أن هذه النزعة الشكلية عنصر مشترك بين أبناء الروح الرومانية أو اللاتينية، ولكن الآثار الباقية من التفكير المسيحي في شعره تدل من ناحية أخرى على تأثر البناء الشكل لقصائده بالاتجاه الرمزي العام الذي غلب على أواخر العصور الوسطى، عندما كانت أشكال التأليف الأدبي انعكاسا لنظام الكون الذي خلقه الله.
تخلى بودلير في الطبعات التالية من زهور الشر عن ذلك العدد الكامل، ولكنه لم يتخل عن النظام الداخلي الذي يربط بين قصائدها، بل زاده قوة. والنظرة العابرة إلى الديوان الشهير تكفي لتعرف هذا النظام. فبعد أن يبدأ بقصيدة تمهد للديوان كله «إلى القارئ» نجد المجموعة الأولى «ملال ومثال» تتناول التضاد القائم بين الارتفاع والسقوط، والثانية «لوحات باريسية» تشير إلى محاولة الفرار إلى عالم المدنية الكبيرة، والثالثة «النبيذ» تصور الانطلاق إلى جنة مصطنعة.
ولكن الشاعر لا يجد الراحة التي كان ينشدها؛ ولذلك يستسلم لإغراء التخريب والتدمير الذي تدور عليه قصائد المجموعة الرابعة التي جعل عنوانها «زهور الشر» عنوانا للديوان كله. وينتهي به التخريب والتدمير إلى التمرد الساخر على الله في المجموعة الخامسة «تمرد». ولا يبقى أمامه إلا التماس الراحة في الموت، هذا المجهول المطلق. وبذلك ينتهي الديوان بالمجموعة السادسة والأخيرة «الموت».
ولا يقتصر هذا البناء المعماري على تكوين الديوان في مجموعه، بل يتخلل المجموعات نفسها كنوع من التسلسل الديالكتيكي للقصائد. ولذلك نجد الديوان كله أشبه بنسق أو نظام متحرك، تتغير خطوطه من الداخل، ويسير في اتجاهه العام كالمنحنى من أعلى إلى أسفل. ونهاية المطاف في الحضيض أو الهاوية. والأمل في الجديد لن يكون إلا فيها. ولكن ما هو هذا الجديد؟ عبثا نبحث عن اسم له. فالأمل المعلق بالهاوية لا يعرف له كلمة تسميه.
زهور الشر إذن بناء منظم مقصود، وهذا وحده يؤكد بعد بودلير عن الرومانتيكيين الذين لم تكن دواوينهم الشعرية سوى مجموعات من القصائد رتبت كيفما اتفق، وعبرت بذلك من ناحية الشكل عن عفوية الإلهام وخضوعه للصدفة والاتفاق. وهو يؤكد أيضا أهمية الدور الذي تؤديه الطاقات الشكلية في أدب بودلير. فليست هذه الطاقات والقوى الشكلية مجرد حلية أو تقليد، ولكنها وسيلة الإنقاذ التي يلجأ إليها الشاعر للنجاة من الأزمات الروحية التي تحاصره بالقلق والعذاب. ولقد عرف الأدباء والشعراء دائما هذه الحقيقة البسيطة أو هذا العزاء الوحيد: إن الغناء يبدد الألم والعناء، والتعبير يرتفع بالتعاسة والشقاء. وعرفوا دائما أنه لا سبيل إلى التطهر من العذاب حتى يتحول أو يتشكل عن طريق الكلمة. فلما جاء القرن التاسع عشر وتحول العذاب الخصب إلى صحراء مجدبة بالوحشة والضياع والعدم، أصبح الشكل هو المنقذ الوحيد. وكان حتما أن تكون العلاقة بين الشكل المحكم المستقر الهادئ وبين المضمون القلق المتوتر علاقة تنافر ونشاز. ومثلما انفصلت القصيدة عن القلب تباعد الشكل عن المضمون، وأصبحنا نواجه أحد الملامح الرئيسية في الشعر الحديث، وهو التنافر أو النشاز.
سيبقى المضمون متفجرا كالبركان بالعذاب والقلق والتناقض. وسيكون على الشاعر أن يبحث عن النجاة في تجاربه الشكلية مع اللغة.
ويعبر بودلير في مواضع كثيرة من كتاباته عن الشكل كوسيلة للنجاة والإنقاذ. فهو يقول مثلا : «إن المزية المدهشة للفن هي أن الشيء المفزع المخيف يصبح جميلا إذا عبر عنه تعبيرا فنيا، وإن الألم الذي يدخله الإيقاع والتكوين يملأ الروح بالفرح الهادئ» (ص1040). والعبارة وإن شابها بعض الغموض تفصح في الواقع عن اقتناع بودلير بتفوق إرادة الشكل على إرادة التعبير، وعن شوقه إلى التماس الأمان والاطمئنان في الشكل، والبحث عن «خاتم الأمان المنقذ» كما سيقول الشاعر الإسباني جيان في إحدى قصائده، وهو يقول في موضع آخر: «من الواضح تماما أن قوانين الوزن ليست قوانين طاغية اختلقت اختلاقا؛ إنها قواعد تتطلبها بنية العقل نفسه. ولم يحدث أبدا أن كانت عقبة في طريق الأصالة، بل إن العكس هو الأصح إلى أبعد حد؛ فلقد كانت دائما خير عون للأصالة على النضوج» (ص779). وسيعود علم من أعلام الموسيقي الحديثة وهو سترافنسكي إلى هذه العبارة نفسها في كتابه «فن الموسيقى» كما ستتكرر الفكرة بعينها عند مالارميه وفاليري. ولم يرجع هؤلاء إلى هذا النص لمجرد أنه يؤكد وعي الروح اللاتينية بالشكل، بل لأنه يدعم التجربة العملية التي يمارسها المحدثون ويؤثرونها على غيرها، هذه التجربة التي تجعلهم يتناولون القواعد المتواضع عليها في القافية، وعدد المقاطع في البيت الواحد وبناء المقطوعة في القصيدة كما لو كانت أدوات تؤثر بدورها على اللغة وتنتزع منها إمكانيات وتضطرها إلى ردود أفعال لم يكن المضمون الأصلي وحده ليصل إليها بنفسه.
أثنى بودلير ذات مرة على الرسام الفرنسي دومييه، فقال إن لديه المقدرة على تصوير كل ما هو منحط وفاسد وتافه في صورة واضحة دقيقة. ولقد كان في استطاعة بودلير أن يطبق هذا الكلام على نفسه. فإنتاجه الأدبي يجمع بين الألم المميت والدقة الشديدة في وحدة واحدة، ويمهد بذلك للشعر الذي سيجيء بعده. وقد كان نوفاليس وإدجار بو أول من أدخل فكرة الحساب الدقيق في نظرية الأدب. والتقط بودلير الفكرة فوجدناه يقول مثلا في معرض كلامه عن سمو الفن على الطبيعة الخالصة: «الجمال هو حصيلة العقل والحساب» (ص911). بل إن الإلهام يبدو له طبيعة أو فطرة محضة، وذاتية غير نقية. ولو أن أديبا أنتج بدافع الإلهام وحده لما استطاع أن ينتج غير الخلط والاضطراب. مرحبا بالإلهام لو سبقه الجهد الفني الطويل والتدريب والمران الشاق. عندئذ يكتسب تلك الرقة التي نلمسها في راقص كسر عظامه في الخفاء آلاف المرات قبل أن يسمح لنفسه بالظهور أمام الجمهور!» (ص1133).
صفحة غير معروفة