ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف كما يشاء في مختلف البلاد والعصور، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء، لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرا مثل جوتفريد بن يقول: «الدوائر تظهر: تماثيل أبي الهول العريقة في القدم، كمنجات وبوابة من بابل، رقصة جاز من ريو ورقصة سوينج وصلاة.» استطعنا أن نقول كما قدمنا إن الشاعر يسوي بين حقائق التاريخ كما يسوي بين الأشياء التي يجدها مختلطة أمامه في عالم الواقع، فكل ما يراه في التاريخ أو على الأرض قد صار غريبا بلا بيت ولا وطن. (6) طرح النزعة البشرية
من مفارقات الشعر الحديث وظواهره الغريبة التي تستلفت الانتباه ظاهرة يمكن أن نسميها باطراح الإنسانية أو تعرية التعبير الشعري بقدر الإمكان من النزعات والعواطف البشرية. ولا شك أن هذا يبدو أمرا محيرا للقارئ العربي الذي يغرق كل يوم في بحران العواطف الكاذبة والانفعالات المائعة التي تزعم أنها تعبر عن الكآبة والحزن والفرح، وهي في الواقع تزيفها. فما هي إذن هذه الظاهرة وكيف نفهمها؟
ظهر في سنة 1925م مقال للفيلسوف الإسباني أورتيجا أي جاسيت
Ortega y Gasset
عن تجريد الفن من النزعة البشرية فأصبحت هذه
La déshumanizacion del arte
الكلمة منذ ذلك الحين اصطلاحا شائعا في لغة النقد الحديث، لا يبغى إدانة الشعر بقدر ما يبغي وصف ظاهرة من ظواهره الأساسية. والفكرة الرئيسية في هذا المقال هي أن الإحساس الإنساني الذي يثيره العمل الفني يصرفنا عن قيمه الفنية وخصائصه الاستطيقية.
9
ولا شك أن جاسيت متأثر بكتابات كانت وشيلر الفلسفية عن الجمال المجرد من الهدف أو الغرض، ولكنه يطبق فكرته على عصور الفن المختلفة فيعلي من شأن كل أسلوب فني يحول الأشياء أو يحورها أو يشوهها أو يعريها من حضورها المشاهد. «فالأسلبة» في الفن معناها تحوير الواقع وتغييره، والأسلبة تنطوي على «نزعة التجريد من البشرية». والحق أن كلمة التحوير أو لنقل التشويه
Deformation
صفحة غير معروفة