137

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

تصانيف

وتنتهي تجربة الفشل المضاعف بسقوط الطائر ممزقا على الدرب.

والتعبير في القصيدة يتعمد الابتعاد عن القطع واليقين، ويترك القارئ في حالة الشك والشعور بأن كل شيء محتمل وليس بواقع أكيد. وكأن الشاعر يتجنب العبارة المحددة ويتعمد أن توحي رموزه بمعاني متعددة، بعد أن وصل إلى أقصى حدود التجربة الوجودية واللغوية معا. قد يكون هذا فشلا آخر، ولكنه فشل مقصود: إن الشاعر لا يريد لمأساة الوجود والعدم أن تنسى أو تستهلك عن طريق الكلمة الثابتة أو الفهم المحدد، ولهذا فهو يحميها بالأغنية الهامسة اللماحة من ذلك المصير.

يتحدث الكاتب والروائي الألماني جان باول (1763-1825م) في كتابه الهام «الإعداد للاستطيقا»،

44

في فصل بعنوان «الشعراء العدميون»

45

عن «روح العصر الحاضر» الذي يريد أن يدمر العالم والكون بدافع من شهوة الأنا لكي يستطيع أن يخلق لنفسه مجال الحرية في العدم بدلا من الانصراف إلى تقليد الطبيعة.

وتكاد هذه العبارة أن تكون حدسيا بالحالة التي آل إليها الشعر الحديث من أيام بودلير إلى اليوم. وهي تصدق على شعر مالارميه أكثر من أي شاعر سواه، مع فارق واحد وهو أن «شهوة الأنا أو طغيانها» قد أخلت مكانها في شعره لنوع من استقلال العقل أو تجرد الروح حاول أن يبرره تبريرا أنطولوجيا. وقد تختلف الآراء حول هذا التبرير وهل أفاد شاعريته أو أضر بها، ولكن لا خلاف في أن هذا الرجل الهادئ المتواضع الذي تفانى في إخلاصه لفنه كان في غاية الأمانة حين تقبل الموقف السلبي الذي قدر على الشعر الحديث، وفكر فيه إلى آخر الشوط، ووفق إلى حد كبير في التعبير عنه، ومن الطبيعي أن يكون شعره غامضا مظلما، ولكن اتساقه مع نفسه يكفل له حق البقاء. وسيظل هناك دائما من يعجب بجمال شعره وصفائه وسحر موسيقاه (التي تعجز للأسف كل الترجمات عن القرب منها). (14) سحر اللغة وكيمياء الكلمة

يبدو أن كلمة رامبو هذه قد تركت تأثيرها القوي على مالارميه؛ فقد اهتم اهتماما كبيرا بالكتابات السحرية، بل يقال إنه قرأ كتابات الأسرار المأثورة عن العصر اليوناني المتأخر والمنسوبة إلى هرميس مثلت القوة (هرميس ترسمجيستوس) بشغف كبير، وشجع ترجمتها إلى اللغة الفرنسية رتراسل مع مترجمها ميشليه. ولا بد أنه فطن إلى تأثيرها على الشعر إذ يقول في فقرة بعنوان «سحر» ضمن كتاباته النثرية: «إن هناك قرابة خفية بين الطقوس القديمة وبين السحر الكامن في الشعر.» ولذلك فإن الشعر عنده إهابة أو (تعزيم، تعويذ) بالأشياء المتكتمة في غموض مقصود عن طريق الكلمات اللماحة غير المباشرة، أما الشاعر فهو «ساحر الحروف» (ص399) وأما أسلافنا فقد كانوا كيمائيين (بالمعنى القديم المعروف عنهم في العصور الوسطى كما تقدم).

ولا يعني هذا بالطبع أن مالارميه كان يمارس طقوس السحر أو ينتمي للجمعيات السرية، ولكنه يعني أنه كان مقتنعا بالصلة العريقة بين الشعر والسحر.

صفحة غير معروفة