ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
أؤدي واجبي القديم.
آه! فلتعلم روح الشقاق
في ساعة صمتنا هذه
أن براعم الزنابق العديدة
قد نمت أكبر من عقولنا.
الهدف يلوح للمسافر وعليه أن يجاهد ليقترب منه. إنه يحمل معه مجد الشوق القديم، وأفكارا، وكل شيء فيه يلتهب رغبة في أن يعرف كيف ستستطيع «عائلة الزنابق أن تنهض بالواجب الجديد»، لا بد أن يواصل جهاده (ضد المادة والواقع والأشياء، وضد الكلمات والألفاظ المثقلة أيضا) ولا بد أن تستمر «روح الشقاق» التي تسكن هذه القصيدة، أي يستمر الصراع بين الإرادة والهدف، والطموح والغاية، وأن يعرف الشاعر في مرارة أن «تلك الأرض موجودة» (أي أرض المثال أو جزيرة الجمال) وأن قدر الشعر والشاعر معا أن يجربا الارتفاع إليها والبحث عنها، ويجربا كذلك الفشل في بلوغها. وليس هذا بالفشل المطلق؛ فيكفي أنه يدل على وجود المثال.
نخرج من هذا كله بأن مالارميه يسير في نفس الخط الذي سار فيه بودلير، وإن كان يزيد عليه أنه يكمل ما بدأه «أبو الشعر الحديث» ويدعمه على أساس أنطولوجي. ويتجلى هذا بصورة أتم فيما سميناه «بنزعة التجرد من البشرية» أو طرح «البشرية» التي قلنا فيما سبق إنها من أهم ظواهر الشعر الحديث.
ويبدو أن مالارميه قد سار هنا خطوة أوسع بكثير من بودلير ورامبو، ووصل بهذه الظاهرة إلى أقصى مدى ممكن. فهو - أي مالارميه - قد نقل مصدر الشعر والفكر من الإنسان إلى الوجود المطلق نفسه، ولذلك فقد كان عليه أيضا أن يعتبر أن النشاز الكامن في الروح والفكر والشعر الحديث - وقد تكلمنا عنه فيما تقدم - ليس من صفات الإنسان فحسب، بل كذلك من صفات الوجود المطلق نفسه. ولا بد أن تكون النتيجة مخيفة وهائلة. ولا بد أن تكون صدمة الفشل رهيبة ومفجعة - بل أشد رهبة وهولا مما كانت عليه في أي وقت مضى. فبعد أن كان الاتصال بالمثال أو المتعالي ممكنا (عند من سبقوه من الشعراء بل عنده أيضا في مراحله المبكرة) أصبح هذا الاتصال الآن بين الإنسان والمثال مستحيلا. وليست اللغة وحدها هي العاجزة عن تحقيق المطلق فيها، بل إن المطلق نفسه - وهذا هو الجديد المخيف كما قدمت - عاجز عن الاستجابة لنداء اللغة. والنتيجة المحتومة هي أن يخضع قطبا التجربة (اللغة والمطلق) لقانون الخيبة والفشل. صحيح أن الشعر أو الأدب والفن بوجه عام يظل هو أعلى الإمكانيات في هذه التجربة، ولكن الصدع أو النشاز الأنطولوجي سيبلغ قمته وسيصب على اللغة أقصى قدر من مرارة الفشل والشقاء. هل معنى هذا أن فشل اللغة والأدب فشل مطلق؟ بالطبع لا. ولكنها - إن سمح القاري بهذه المفارقة - ستنجح عن طريق الكلمة في شيء واحد، هو التعبير عن الفشل في تحقيق الاتصال بين الإنسان والمثال. ولعل عبقرية مالارميه تكمن في أنه عبر عنه بأسلوب هادئ وصوت هامس مكتوم .
لنطبق هذا الكلام على الشعر نفسه، والقصيدة الأولى هي «مروحة أخرى»
38 (إشارة إلى قصيدة مروحة التي أهداها لزوجته وقدمناها من قبل) التي أهداها لابنته جنيفييف، وقد كتبها في سنة 1884م، ونشرت في المجلة النقدية
صفحة غير معروفة