ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
تصانيف
مطاردا في كل حبة
قليل من الرماد غير المنظور،
الذي يسبب وحده الحزن لي)،
ليظهر إذن على الدوام
بين يديك النشيطتين
6
قد نقول بعد الفراغ من قراءة القصيدة. موضوع تقليدي في شكل تقليدي. فشكل السوناتة الإنجليزي شكل تقليدي، وإن كان يندر استعماله في فرنسا.
7
وموضوعها الذي يدور عن مروحة امرأة موضوع تقليدي أيضا، كثيرا ما تناوله شعر الحب في القرون السابقة. ومع ذلك فإن القارئ يخرج من قراءته للقصيدة بشيء غير تقليدي، شيء أقرب إلى العجز عن الفهم. سيسأل نفسه: ما الذي يقوله الشاعر في هذا الشكل؟ لماذا وقع اختياره على شيء تافه كالمروحة؟ كيف تداخل موضوع المروحة مع موضوع مثالي آخر؟ وسيلفت نظره كذلك بناء القصيدة من ناحية اللغة؛ فهي خالية تماما من التنقيط، اللهم إلا من قوسين يجدهما في المقطوعة الثالثة، ولكن هذين القوسين الوحيدين لا يساعدانه كثيرا على الفهم، ولا يقطعان ذلك الهمس الحالم الذي يشيع في القصيدة بأسرها. وسيلاحظ أيضا أن السطرين الأولين من المقطوعتين الأولى والثانية متشابكان ومضغوطان بشدة، وأن المقطوعة الثانية تزدحم بالفواصل أو بالأحرى تتألف منها وحدها، وأن صيغة الحال «شديد الهدوء» استخدمت كفاصلة استخداما جسورا. وهذا البيت «جناح بهدوء شديد، رسول» يمثل أسلوب مالارميه المتأخر، وهو أسلوب يجعل الكلمات تشع معانيها المختلفة من ذاتها لا من العلاقة النحوية التي تقوم بينها. وسيجد القارئ، عناء كبيرا في التعرف على بناء الجملة، ويزداد هذا العناء ابتداء من المقطوعة الثانية. فالملاحظ أن «هذه المروحة» في المقطوعة الثانية تنتمي إلى البيت قبل الأخير «ليظهر على الدوام» وبين هذين المجموعتين من الكلمات يمتد قوس طويل من الجمل الاعتراضية، بحيث يبدو في مجموعه أشبه بجملة دائرية، توحي في امتدادها وتشابكها بمعان مختلفة شأنها في ذلك شأن المضمون.
المروحة ترد في عنوان القصيدة، ولكن النص يتجنب هذا الشيء المباشر على الفور، ويقتصر على معنى من المعاني الكثيرة التي يوحي بها. فنقرأ في البيت الثاني كلمة «خفقة»، ولكن الكلمة تأتي ناقصة ومعزولة عن كلمة أخرى تتممها وهي «خفقة الجناحين»، وبذلك يرتفع الشاعر إلى معنى أعم يتجاوز «المروحة» بمسافة شاسعة. بل إن هذا المعنى لم يعد يتصل بالمروحة وإنما أصبح استعارة ترمز للشعر نفسه، أو بالأحرى للشعر المثالي أو لشعر المستقبل «بيت المستقبل ينتزع نفسه ... إلخ.» وإذن فالقصيدة لا تحاول أن تصف شيئا حاضرا أو تصوره تصويرا دقيقا، وإنما تبذل كل جهدها من البداية في التحرك بعيدا عن هذا الشيء، أي في تجريده من شيئيته.
صفحة غير معروفة