تقديم
1 - مدخل إلى الشعر الحديث
2 - بودلير (1821-1867م) شاعر العصر الحديث
3 - رامبو (1854-1891م)
4 - مالارميه (1842-1898م)
5 - ثورة الشعر في القرن العشرين
خاتمة
كلمة أخيرة
تقديم
1 - مدخل إلى الشعر الحديث
2 - بودلير (1821-1867م) شاعر العصر الحديث
3 - رامبو (1854-1891م)
4 - مالارميه (1842-1898م)
5 - ثورة الشعر في القرن العشرين
خاتمة
كلمة أخيرة
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول)
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول)
الدراسة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
تقديم
صلتي بالشعر صلة قديمة وحميمة. بدأت أكتبه في العاشرة من عمري حتى اجتمع لي منه بعد ذلك بسنتين ديوان صغير في حجم الكف لم يكن فيه بيت واحد موزون! وظللت محتفظا بهذا الديوان حتى ضاع فيما ضاع من كتب وأوراق، وتبعته بعد ذلك دواوين أخرى كنت أعتني بكتابتها وأفرح بوضع اسمي على غلافها وإثبات صدورها عن «مطبعتي الخاصة». كنت أخبئها في دولاب خشبي صغير أجعل مفتاحه دائما في جيبي. ولم تلبث أمي رحمها الله أن عثرت عليه فأراحتني منها جميعا؛ إذ عرفت بفطرتها - ولم تكن تقرأ وتكتب - أن أفضل ما يمكن عمله بهذه الكراسات الصغيرة المضيعة للوقت هو إحراقها في الفرن أو «الكانون» واستغلال أوراقها في شيء مفيد! واستمرت تجربتي في الشعر حتى الثانية والعشرين عندما توقفت تماما بعد حب فاشل. وبدأت تجارب أخرى في القصة والمسرحية تزاحمه، وأخذت الدراسة تحاصرني من كل ناحية حتى توارى غضبا أو حياء وراء طموح أكاديمي سخيف، واختنق تحت تراب المراجع والكتب العقيمة فلما عرفت أنني فقدت كنزه إلى الأبد، رحت أعزي النفس بتسمع خفقاته الضائعة بين ركام الكتب والأوراق والهموم، وأقنع بلمسات منه تصحبني في رحلتي اليومية فتعزيني عن خيبة أملي في الحياة والناس، وتسري في كل ما أكتبه - أو هذا على الأقل ما أرجوه - فتخفف من حسرتي التي لا تنقضي عليه.
وظل اهتمامي بالحياة مع الشعر قديمه وحديثه هو البقية الباقية من التركة الضائعة بعد أن تأكد عجزي عن قوله حتى في أشد أزماتي وأتعس لحظاتي. ويبدو أن روح الشعر أشبه بروح الآباء والأجداد لا تترك جسما دخلته ، ولا تخرج منه قبل أن يصبح جثة باردة. ومن يدري؟ فقد تكون قبسا صغيرا من النار الخالدة التي سرقها ذلك اللص الإغريقي العظيم «برومثيوس» وبدلا من أن يضعها بين أيدي البشر نسي فألقاها في قلوبهم. وتمر الأجيال بعد الأجيال ولم يزل لهيبها يحرقهم، ويجلو نفوسهم، ويشعرهم بعظمتهم وتعاستهم، ويجعلهم يسيرون على الأرض كالنيام الذين يحلمون بعالم أبهى وأكمل وأعدل ممكن التحقق على هذه الأرض نفسها.
هكذا رحت أعزي النفس من حين إلى حين بترجمة الشعر ودراسته وتقديم لمحات من تراثه إلى القراء والشعراء. فعلت هذا مع أشعار سافو اليونانية ولاوتسي الصيني وبرشت الألماني، إلى جانب دراسات أخرى في شعر جوته وغيره من أدباء الغرب. غير أن هذه الأعمال لم تقنعني أو ترضني، فقد كنت أطوي في الصدر أملا أعيش عليه وأنتظر اللحظة التي تسعفني بتحقيقه. كنت أحلم بإلقاء نظرة شاملة على الشعر الأوروبي الحديث، وتقديم نماذج من كبار شعرائه إلى القارئ العربي في طبق واحد. وظل هذا الحلم يشير إلي من بعيد حتى كان صباح يوم من الأيام في أوائل سنة 1966م؛ فقد شاءت الظروف أن تجمعنا - الشاعرين الكبيرين عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأنا - في مجلس واحد. ودار الحديث بطبيعة الحال عن الشعر. وذكرت ترجماتي المتواضعة فيما ذكر عن الشعر والشعراء المحدثين. وبرزت الأمنية القديمة حتى أوشكت أن تتجسد أمامنا وتزاحمنا في الحديث. وترددت أسماء نحبها جميعا: لوركا، كافافيس، إليوت، برخت، ناظم حكمت، أنجارتي ... إلخ. واتفقنا على أن هناك أمانة تنتظرنا؛ أمانة تقديم نماذج من هذا التراث العظيم الذي أصبح معظمه كلاسيكيا بالفعل. وسألنا أنفسنا: بمن نبدأ؟ ماذا نختار وكيف نختار؟ أيكون الاختيار على أساس الموضوعات أم البلاد أم الشعراء؟ هل نضع لأنفسنا حدودا في الزمان والمكان؟ وإذا التزمنا بالقرن العشرين فمن من الشعراء نأخذ ومن ندع؟ هل نكتفي بتقديم نماذج من شعرهم أم نضيف نبذة عن حياتهم وأعمالهم؟ ولكن هل تغنى هذه النبذ القصيرة عن دراسة شعرهم؟ وهل تغني دراسة الشعر عن فهم الحركة أو العصر الذي ينتمون إليه؟ وهل يمكن أن ينفصلوا عن الرواد الذين أثروا عليهم؟!
أسئلة كثيرة واجهتنا كصخور اليأس. ومع ذلك فقد اتفقنا على تقسيم العمل بيننا، وما أسهل الاتفاق على مشروعات المستقبل الضخمة في لحظة قصيرة تتضوع بعطر المحبة والقهوة والدخان! كان شعر العالم الأنجلوسكسوني بما في ذلك اليونان ولوركا وشعر الزنوج من نصيب صلاح عبد الصبور، ووقع شعر العالم الشرقي، سواء في ذلك العالم السلافي أو الآسيوي، من نصيب عبد الوهاب البياتي الذي يعرف اللغة الروسية ويترجم عنها، أما أنا فقد كان الشعر في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا من حظي.
ومضيت أعمل بالجدية الساذجة التي يعرفها عني أصدقائي! فلم ينقض العام حتى اجتمع لي أكثر من ثلاثمائة قصيدة لأكثر من أربعين شاعرا. وعرضت المسودات على صديق العمر صلاح فهاله ما فعلت. ثم سألت صديقنا البياتي بعد ذلك فهالني أن الصديقين الكبيرين لم يسيرا في مشروعنا خطوة واحدة؛ لقد عكف كل منهما على شعره وإنتاجه. وحزنت في مبدأ الأمر. ثم تبين لي أنهما أحسنا صنعا. فليس أضر بالفنان المبدع من التخلي عن موهبته إلى النقل والترجمة، ولكنني كنت قد وقعت في الفخ، ولم يكن بد من الاستمرار فيما بدأت. ومرت الأيام ومرت السنون، فإذا بالمشروع يكبر بالتدريج. أضفت إلى النصوص المترجمة دراسة قصيرة عن الشعر في القرن العشرين، ثم رأيت أن هذا الشعر لا يفهم على حقيقته حتى يوصل آخره بأوله. ورحت أفتش عن جذور الحركة الشعرية المعاصرة حتى عثرت عليها في البدايات الرومانتيكية وكتابات بودلير وترجماته، وتتبعت خيوط نسيجه الشامل الذي بدأه بودلير وأحكم بناءه رامبو ومالارميه، ثم طبع الشعر المعاصر كله بطابعه. واهتديت في هذا كله بكتاب قيم يعد من أهم الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة عن الشعر الحديث، بل أرجو ألا أكون مغاليا إذا قلت إنه عند المختصين أهمها جميعا، ولقد عرفت الكتاب عند صدور طبعته الأولى سنة 1957م، وكان لي حظ الاستماع إلى بعض محاضرات صاحبه العالم الكبير في اللغات الرومانية . وإذا كنت قد اعتمدت أكبر اعتماد على هذا الكتاب القيم، بحيث لم أغفل حقيقة علمية واحدة من الحقائق التي ذكرها ولا تركت سطرا واحدا بغير أن أستفيد منه؛ فلقد نقلته كذلك نقل المتذوق المتأمل لا نقل المترجم الحرفي، أضف إلى هذا أنني استعنت بمراجع أخرى عديدة في الشعر الحديث تجدها مثبتة في هوامش الكتاب، وتوسعت فيه وأضفت إليه - وبخاصة في الفصل الخاص بمالارميه والفصلين الأول والأخير - إضافات عديدة أملاها ذوقي أو اطلاعي، وزدت في المختارات التي ألحقها بدراسته؛ بحيث صار الكتاب الذي بين يديك خمسة أضعاف الكتاب الأصلي. ولست أريد من هذا الكلام كله إلا أن أؤكد فضل هذا الكتاب القيم علي، واعترافي بديني العظيم نحو صاحبه. ولولا أن عملي فيه جاء في وقت كرهت فيه الترجمة وزهدت فيها، ولولا أنني تصرفت فيه وأضفت إليه من عندي، لما ترددت في وضع اسم «هوجو فريدريش» في موضع المؤلف على الغلاف. ومع ذلك فأرجو أن ينظر القارئ إلى الكلمة التي تشير إلى اسمي نظرته إلى كلمة «المؤلف» و«التأليف» بمعناهما اللغوي الدقيق، أعني بمعنى الجمع والترتيب و«التأليف» بين فصول وأفكار ليس لي فيها فضل الخلق والإنشاء بل نصيب التذوق والعرض والتجميع.
أقول هذا عرفانا بالفضل الأكبر لأصحابه أو بالأحرى لصاحبه، وإنصافا لنفسي التي لا أحب أن أنسب لها شيئا لا تستحقه. •••
تبين لي من خلال العمل في هذا الكتاب أن الشعر الأوروبي الحديث ينبع من رافدين كبيرين تدفق عطاؤهما في القرن التاسع عشر وفي بلد واحد هو فرنسا، وأعني بهما الشاعرين رامبو ومالارميه. إن ما يجمعهما بالشعر الحديث ليس مجرد الريادة والسبق، بل عوامل مشتركة في البناء، لم تزل تظهر بصور مختلفة في ظواهره العديدة. ولعل البدايات ترجع إلى أبعد من القرن التاسع عشر، ولعل بعضها أن يمتد بجذوره إلى القرن الثامن عشر. ولكن هذا البناء الشامل قد بدأ يتشكل في صورته النظرية والنقدية حوالي سنة 1850م، ثم وضحت آثاره على الخلق الشعري حوالي سنة 1870م. ولم يزل هذا البناء يتعقد ويزداد تعقدا وتركيبا، ولم يزل يزداد تخصصا وتفردا عند كل شاعر جدير بهذا الاسم، بحيث نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إنه لا يزال أيضا يترك آثاره على كل الإنتاج الشعري الأوروبي؛ بل وعلى كثير من الإنتاج غير الأوروبي حتى اليوم. فهذان الشاعران الفرنسيان يفسران لنا قوانين الأسلوب التي تحكم بناء الشعر المعاصر، وقراءاتنا للشعراء المعاصرين تبين أنهما ما زالا معاصرين. هناك إذن وحدة في بناء الشعر الحديث، لن نذكرها أو نقدرها حق قدرها حتى نحرر أنفسنا من التقسيمات التقليدية التي تلجأ إليها كتب النقد وتاريخ الأدب، ونوسع من نظرتنا بحيث لا نقتصر على شاعر أو أسلوب بعينه، بل نجعلها تشمل الكل ولا تقف عند الأفراد والأجزاء. •••
وبناء الشعر الحديث عند أعلامة الثلاثة الكبار - بودلير ورامبو ومالارميه - ومن جاء بعدهم حتى اليوم بناء غريب شاذ. ولا بد من فهم هاتين الكلمتين بمعناهما الاستطيقي لا الأخلاقي. أما عناصر هذا البناء فهي وضعه الخيال في مكان الواقع، وتأكيده لحطام العالم لا لوحدته ومزجه بين عناصر متنافرة وناشزة، وتعمده الاضطراب والتشويه، وتأثيره السحري عن طريق الغموض والألغاز وسحر اللغة، وإغرابه لكل مألوف أو معتاد، وإيثاره للتفكير الرزين المحسوب الشبيه بالتفكير الرياضي، واستبعاده للعاطفية الساذجة أو ما سوف نسميه فيما بعد بالنزعة البشرية، وغياب ما يسمى بشعر الإلهام أو الشعر المباشر، وطغيان المخيلة الخلاقة التي يسيرها العقل والوعي، وتدمير نظام الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة، واستغلال الطاقات الموسيقية في اللغة إلى أقصى حد ممكن، والاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم، وإعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي، وإحساس الشاعر بانتمائه إلى عصر حضاري متأخر، وشعوره بالتوحد والتميز، وتزاوج التعبير الشعري مع التأمل المستمر في هذا التعبير، أي تلازم الشعر وفن الشعر ... إلى آخر هذه العناصر والمقولات التي سيأتي بيانها في الصفحات القادمة.
تلك هي بعض عناصر البناء الذي سيرسي بودلير دعائمه في نظريته في الشعر وفي عدد من قصائده، وسيبدع رامبو ومالارميه وأتباعهما شعرهم على أساسه، وأحب أن أؤكد منذ البداية أنني لم أرسم هذه الصورة حبا في الغرابة أو ولعا بالشذوذ، ولست أريد أن أدعو إليها أو أحبذ تقليدها. وأنا لا أنفي هذا لسبب ذاتي فحسب؛ فالواقع أنني لا أميل إلى كثير من النماذج التي يقدمها هذا الكتاب، وقد أستريح بطبعي لقصيدة من شعر امرئ القيس أو المعري أو الأندلسيين أو البارودي وشوقي وناجي أكثر مما أستريح لقصيدة من السياب أو البياتي أو عبد الصبور أو خليل حاوي أو أدونيس. وقد أجد نفسي في أبيات لسافو أو بندار أو جوته أو هولدرلين أكثر مما أجدها في أبيات لرامبو أو إلوار أو كرولوف أو أنجارتي. ومع ذلك فإن الذوق الفردي لا ينبغي أن يحول بيننا وبين الشعر الحديث، وواجبنا في كل الأحوال أن نعرف هذا الشعر ونفهمه وندرسه ونتتبع أصوله ونضعه في سياق تراثه. أما أن نتأثر به أو لا نتأثر فشيء آخر؛ ذلك لأن لكل لغة طبيعتها وتاريخها وحياتها الخاصة.
والمهم أن «نعرف» هذا الشعر الغربي كما أكدت في مواضع أخرى من الكتاب بمثل ما نعرف غيره من فروع العلم والفن الحديث، حتى يمكننا أن نعاصر العالم الذي نعيش فيه ونعرف مكاننا منه ودورنا فيه. وطبيعي أننا لن نضيف إليه شيئا حتى نفهمه قبل ذلك ونعرفه ونعاصره.
هذه كلمة لا بد منها حتى لا يصيبني رذاذ ذلك الشعار الرخيص السخيف الذي يحلو لكثير من الناس ترديده في هذه الأيام عن «عقدة الخواجة» أو «الغزو الفكري» وما إلى ذلك من الصيغ البليدة التي تحاول تبرير الكسل والتخلف والجمود. •••
سيلاحظ القارئ أن الكتاب يرتكز في مجموعه على ثلاثة شعراء جرت العادة في كتب الأدب على وصفهم بأنهم أقطاب المدرسة الرمزية. وسيدهشه أن كلمة «الرمزية» لن تصادفه في الكتاب كله سوى مرات معدودة لن تزيد على أصابع اليد الواحدة. فقد آثر الكاتب أن يتجنب هذا الاصطلاح الشائع الغامض ويستعيض عنه بتحليل النصوص نفسها ودراسة الظواهر الفنية التي أدت إلى هذه التسمية. والواقع أن الكلام عن المدارس والحركات الأدبية، كما يقول الناقد الكبير س. م. بورا،
1
شيء محفوف بالمخاطر . فأنفاس الإلهام تهب عنيفة كالرياح وتستعصي على القياس، وشخصيات الشعراء أعمق وأعقد من أن تصنف في هذه الفئة أو تلك، ولغتهم أغنى من أن تتخذ مثالا لقاعدة أو مذهب بعينه. هذا شيء لا بد من قوله، بل الصياح به إن أمكن بصوت يصم الآذان لنقادنا المولعين بترتيب الأدباء والشعراء في برامج ومدارس وأدراج، وهم لا يدرون أنهم في الحقيقة إنما يضعون عليهم شواهد قبور ويحشرونهم في توابيت وأكفان.
غير أن هذا لا يمنع من القول بوجود خصائص مشتركة، تميز الشعراء الأوروبيين الذين كتبوا بعد سنة 1890م عن الجيل الذي سبقهم والجيل اللاحق لهم، بحيث نستطيع أن نسلم بأن هناك تغييرا قد تم، وأن الشعراء المحدثين يشتركون في صفات تجعلهم أشبه بأعضاء أسرة واحدة تشغلهم هموم واحدة أو متقاربة، وإن كان من الضروري أن نؤكد مرة أخرى أن هذه الصفات لم تأت عن قصد ولم تكن نتيجة برامج متفق عليها، وإنما هي أوصاف تطلقها عليها الأجيال اللاحقة عندما تلاحظ أنهم يمثلون خصائص عصر بعينه ويتحدون في نسيج بناء فني مشترك.
وإذا أردنا أن نتوخى التبسيط واستخدمنا كلمة «الرمزية» جريا على الاصطلاح المعروف فلا بد من التمييز فيها بين حركتين أو موجتين متتابعتين. بدأت الحركة الثانية بفريق من الشعراء بلغوا قمة نضجهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ثم استنفد الآن طاقته بعد موت أكبر ممثليه وأصبح جزءا من التاريخ، من هؤلاء الشعراء بول فاليري ورينيه ماريا رلكه وستيفان جورجه وألكسندر بلوك ووليم بتلرييتس ...
والواقع أن الكتاب لم يكتب عن هؤلاء، وإن كان يذكر بعضهم ذكرا عابرا ويثبت في المختارات قصائد من شعرهم، بل إنه لم يكتب في الحقيقة عن شعراء بعينهم وإنما أريد به أن يكون مدخلا لفهم الشعر الحديث بوجه عام وإلقاء الضوء على العوامل التي تتحكم في بنائه؛ ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يعنى بالحركة الأولى التي يعد الشعراء المذكورون امتدادا لها، ألا وهي حركة الشعراء الذين يسميهم تاريخ الأدب تارة بالشعراء «الرمزيين» وتارة أخرى بشعراء الانحلال أو الانحطاط أو الشعراء الملعونين (كما سماهم واحد منهم وهو بول فيرلين في معرض الدفاع عنهم). وكل هذه الأسماء والأوصاف كما قلت غامضة تستوجب الحذر في استخدامها، ولذلك ابتعدت عنها الصفحات التالية بقدر الإمكان وحاولت أن تتفرغ لفهم الشعر نفسه وتحليله، ابتداء من الإرهاصات التي آذنت بتكوينه في صورته الحديثة عند الرومانتيكيين، مارة ببودلير الذي كان أول من احتفل بالرموز ومهد الطريق لتقدير قيمتها الكبيرة في بنائه، إلى فيرلين الذي استخدمها بفطرته الغنائية البسيطة العذبة، وإن ظل أثره محدودا على أشكال الشعر الحديث ونظرياته ومثله، إلى رامبو الذي سار ببعض أفكار بودلير وإدجار ألن بو إلى غايتها الحاسمة وخاض بها بحار تجربة شعرية فريدة صاخبة، إلى مالارميه الذي يعتبر خاتمة هذه الحركة وتاجها وذروتها، بحيث لا تذكر «الرمزية» إلا ويذكر معها اسم مالارميه وجهوده في خلق «الشعر المحض» وإرسائه على أسس فلسفية أو ميتافيزيقية. وهؤلاء الشعراء يكادون يتفقون في نظرة واحدة إلى الحياة ونظرية موحدة في الشعر على الرغم من الاختلاف بين تجاربهم ومدى تأثيرهم في بلادهم أو خارجها وارتباط الأجيال اللاحقة بهذه النظريات أو خروجها عليها إلى نظريات مستقلة وتجارب متميزة.
ومع أن التعميم شيء خطير فقد نستطيع أن نجمل خصائص هذه «الحركة» في مجموعة من الملاحظات التمهيدية التي سيزيدها الكتاب توضيحا وتفصيلا: (1)
تتميز هذه الحركة «الرمزية» في القرن التاسع عشر بطابع صوفي عام، يتجلى في الاحتجاج على النزعة العلمية والوضعية والنزعات التجارية وتيار الواقعية الأدبية التي بدأت تسيطر على روح العصر، كما تتميز بالبحث عن «الحقيقة» بعد أن تزعزع الإيمان التقليدي بالدين والتراث، والانطلاق من العالم «الصغير الضيق الممل» - كما وصفه «بودلير» - إلى عالم مثالي مجهول أشد واقعية في رأيهم وأكثر كمالا، بحيث لا نعدو الصواب إذا قلنا إنهم أقاموا نوعا من عبادة الجمال المثالي أخلصوا لها وأفنوا حياتهم من أجلها واقتنعوا بها بعمق وإيمان. (2)
تتجلى هذه النزعة الجمالية أو على الأصح «الاستطيقية» في إيمان بودلير بالجمال المثالي الذي كان يقابل باستمرار بينه وبين حياته الغارقة في الخطيئة والندم، فظل شعره يتمزق بين السماء والأرض، والملاك والشيطان، والقداسة والذنب ، وهذا الإيمان أيضا هو الذي جعل فيرلين يتحدث بلغة شعبية غنائية بسيطة عن روحه وجسده معا، ويبرر البحث عن سعادة خفية محرمة. أما مالارميه فقد كان هذا الجمال المثالي المطلق هو كل شيء عنده، وكان التقرب إليه بتنقية اللغة من شوائب المادة والظاهر، وصياغة عبارات مظلمة ملغزة، نافذة موحية مع ذلك وساحرة الإيقاع؛ هو شغله الشاغل وقربانه الذي لا يكف عن تقديمه كالكاهن الزاهد المتبتل إلى إلهه المعبود ...
2 (3)
أثبتت هذه الحركة أن هناك أوجه تشابه عديدة بين التجربة الاستطيقية والتجربة الدينية والصوفية. فقد حاول مالارميه أن يصور الجمال المثالي في أشعاره بنفس الحماس الذي حاول به دانتي أن يصور عالمه غير المرئي في صورة مرئية. ولذلك فقد كان على دانتي أن يلجأ إلى الرموز المستمدة من عالمه المسيحي، وكان على مالارميه أن يلجأ إلى الرموز والاستعارات لينقل بها تجربته المتعالية فوق الطبيعة في لغة الطبيعة والأشياء المنظورة. ولذلك أيضا لم تكن دلالة الرمز مقصودة لذاتها أو لغرضها المألوف بل بقدر ما توحي بحقيقة تقع وراء عالم الحواس والمحسوسات. والواقع أن هذا كله ليس جديدا على لغة الشعر فقد سبقه إليه وليم بليك مثلا، ولا هو جديد على اللغة بوجه عام، فتلك طريقة معروفة في كل أدب صوفي. ولكن الجديد فيها هو دلالة الرموز على تجربة جمالية لا تجربة دينية، وإن كان صاحبها يتحدث عن رؤاه بنفس الحماس واللهب الذي يتحدث به المتصوف عن رؤاه الإلهية. وإذا كان الدين أو التصوف يطلب من المؤمن والمريد أن يخلص لصلواته وخلواته وتأملاته، فالشعر أيضا يطلب نفس الإخلاص في الصنعة والتركيز والبعد عن شواغل الزمان والمكان والوجود والعدم والفرح والحزن. ومع ذلك فلا يصح أن ننسى أنه على الرغم من هذا التشابه بين التجربتين إلا أن هناك اختلافات أساسية بين الرموز الدينية المستمدة بأكملها من العقيدة التي يفهمها الجميع ويشاركون فيها، وبين رموز التجربة الفنية المتميزة بذاتيتها وتفردها بحيث يصعب على الكثيرين أن يفهموها ما لم يفهموا عالم كل شاعر على حدة ويدرسوه بتعمق وصبر.
وستحاول الصفحات القادمة أن تلقي شيئا من الضوء على غوامض هذه الرموز وتمهد الطريق للمشاركة في تجاربها، دون أن تعد القارئ مع ذلك بأكثر من المحاولة التي قد توفق وقد تخيب! (4)
أهم ما يميز هؤلاء الشعراء هو إخلاصهم لذلك المثل الأعلى. ولقد حماهم هذا من الوقوع في الخطابية المباشرة أو تملق الجماهير أو الدعوات الأخلاقية البالية أو الانشغال بشيء ما خلا الجميل والجمال (الذي اتسع مدلوله عندهم فصار يسع القبح والقبيح كما سنرى). صحيح أن عالمهم ضيق وموضوعاتهم قليلة، ولكنه مع هذا عالم غني، إذ إن الرؤية التي تتجاوز الظاهر والمحسوس لا تعرف الحدود، وهو كذلك عالم مثير وغريب، إذ يتطلب الإخلاص في البحث عن لغة جديدة تناسب الرؤى التي لا تدركها لغة التفاهم البالية. (5)
اهتم هؤلاء الشعراء بالعنصر الموسيقي في الشعر، وجعلوا واجبهم الأساسي - كما يقول فاليري - أن يستردوا من الموسيقى ما أضاعه منها الشعراء.
أرادوا أن يؤدوا بالكلمات ما كانت تؤديه موسيقى فاجنر بالأصوات. فلقد كانت موسيقى فاجنر أشبه بالكشف العظيم الذي فتن العصر كله، حتى وصفها مالارميه بأنها «قمة المطلق المخيفة»، كما امتدحها فيرلين في أكثر من قصيدة. لذلك كان احتفالهم بالموسيقى من أهم ما حققه الشعر الفرنسي الحديث وأثر به على الشعر في إنجلترا وألمانيا أكبر الأثر، ولذلك أيضا نستطيع أن نفهم ما يريده مالارميه من الشعر عندما يقول إنه لا يفيد بل يوحي، ولا يسمي الأشياء بل يخلق جوها ويبعث أثرها. قد لا يكون هذا القول جديدا. ولكن الجديد هو مثابرته (أي مالارميه) على تحقيقه بحيث أصبح الشعر عنده نوعا من الموسيقى ورجوعا به إلى الغناء، أي إلى صميم الشعر نفسه. وإذا كانت قصائده لا تزال تحير الشراح والمفسرين، فذلك لأنها تريد التعبير عن تجربة استطيقية مطلقة وراء الفكر أو خارجه، أي وراء الكلمات الدالة، ومن هنا فهي تجاور الصمت، أي تجاور السر. إنها تحاول الاقتراب من الكلمات الصامتة، «والموسيقى التي لا تسمعها أذن»، أي من مثل أعلى للشعر الخالص المطلق، بحيث يكون كل شعر كتب قبله - إذا جاز لنا أن نستخدم لغة أرسطو - كالهيولى بالنسبة للصورة أو كالمادة بالنسبة للشكل. كان الهدف الذي يرجوه مالارميه هو تنقية الشعر حتى يخلق تجربة خالصة شبيهة بتجربة الجذب عند المتصوفين، ويبعث فرحة مطلقة تتجاوز كل الحدود التي فرضتها الطبيعة على الكلمات، بحيث تبدو وكأنها تنتمي لعالم مثالي بالغ الشفافية والغنائية والصفاء. فهل نجح مالارميه في الوصول إلى هذا الهدف البعيد؟ ألم يؤد به إلى عزلة عن حياة الناس أشبه بعزلة الكهان والنساك؟ ألم تنته به إلى احتقار الجمهور «والقبيلة» والاقتصار على نخبة أرستقراطية مثقفة من القراء؟ ألم تفض كثرة التفكير في الفن ونظرياته إلى عجز الفنان عن تحقيقها أو عقمه ويأسه؟ - كل هذه أسئلة سيحاول الكتاب أن يجيب عليها.
قلت إن منهج هذا الكتاب يقوم على دراسة النص وتحليله واستقراء الظواهر الفنية والفكرية منه. وليس معنى هذا أنه يدرس كل نص على حدة أو يقتطعه من مجموع السياق العام، بل معناه أنه يدرسه كجزء من كل، ويضعه في إطار البناء الفني الشامل الذي يبحث طابعه العام وظواهره المتصلة في غيره من النصوص عند صاحبها وعند غيره من الشعراء، ودلالتها على روح العصر ونظام الفكر. ومعنى هذا مرة أخرى أن الكتاب يتعمد البعد عن منهج آخر لا يزال يتبع للأسف بكثرة؛ وأعني به المنهج «الرومانتيكي» الذي يرى في الشعر امتدادا لحياة الشعراء أو انعكاسا لتجاربهم المعذبة التي يلاقونها في حياتهم.
3
وإذا كان من واجب دارس الشعر أن يقوم بوظيفة سقراط في «توليد» النص وبعثه من جديد في عقل القارئ وقلبه، فهناك واجب آخر لا يقل عنه أهمية، وهو أن يخفي نفسه حين يفعل هذا بقدر الإمكان. إن دراسة النصوص في هذا الكتاب تعنى بالوقوف عند الجزئيات المتعلقة ببناء العبارة واختيار الكلمة وظواهر الإيقاع والنغم والصوت ودلالتها جميعا على الخلفية العقلية والفلسفية للشاعر والعصر. وقد يسخط هذا بعض المتذوقين الذين يكرهون تفتيت القصيدة وتشريحها - وهي الكائن الحي - بمبضع الناقد القاسي. وقد يغضبهم أنه يحاول أن يقرأ النص قراءة قد لا يوافقونه عليها إيمانا منهم بأن لكل قصيدة من التفسيرات بقدر ما لها من القراء، وأن التحليل يفسد الإحساس العام الذي يخرج به. ولست في الحقيقة ضد هذه الآراء، فمن الواجب أن يبدأ الدارس بالمعنى الكلي والانطباع العام الذي يوحي به النص في مجموعه، ومن الواجب أيضا أن ينتهي إليه. ولكن هذا لا يمنع أن التحليل الدقيق ضروري في المرحلة المتوسطة، وبخاصة في نصوص بلغت من إحكام البناء وتعقيد العبارة وغموض الإشارات والرموز والخروج عن القواعد اللغوية والنحوية المألوفة ما تبلغه على سبيل المثال بعض قصائد مالارميه.
ليس الدارس أو الشارح سوى الدليل الذي يساعد صاعد الجبل ويمده بالحبال التي تعينه على اجتياز الصخور الوعرة، أما الطريق نفسه والاستمتاع بالرحلة كلها فشيء لا بد أن يعتمد فيه صاعد الجبل - أي القارئ - على ذاته. وغني عن الذكر أن التحليل والتفسير يضران أشد الضرر إذا لم نخرج منهما بحكم أو تذوق عام للعمل الفني ثم لصاحبه وعصره. وهذا كلام يصدق على القصيدة كما يصدق على اللوحة والتمثال والسيمفونية. وإذا كان التحليل شيئا هاما وضروريا، فإن المبالغة فيه قد تصبح أمرا لا يحتمل. والسبب في هذا بسيط. فما زلت أومن بأن في كل عمل فني عظيم شيئا يستعصي في نهاية الأمر على التفسير. ومن الخطأ أن ندعي العلمية في هذا المجال فنزعم أن ما يستعصي على التحليل لا أهمية أو لا وجود له. إن الخسارة في هذه الحالة لا تعوض، هذا شيء تدركه العقول والنفوس الحساسة. والمهم بعد كل شيء أن لا يفرض التفسير «الجاهز» من خارج النص، ولا يبالغ الدارس في عمله حتى لا يصبح التفسير مرضا أو جنونا يتسلط عليه، بحيث لا يترك شيئا إلا فسره، ولو كان واضحا كالشمس! إن كل ما يطمع فيه المفسر أو الناقد هو أن يعينك على تجربة القصيدة في مجموعها وفي أجزائها. فهو يعمد إلى التحليل ولكنه لا ينسى التركيب، أي لا ينسى المبدأ أو البناء العام الذي تقوم عليه. وهو لا يفرض تجربته عليك، بل يضع يدك على ما توصل إليه من أسرارها وخصائصها ثم يترك لك أن تجرب وتتذوق بنفسك. وماذا يكون التذوق وأي جدوى من التجربة إن لم نعرف قبل ذلك شيئا عن الاستعارات والرموز التي استخدمها الشاعر، والوزن الذي اختاره، والكلمات التي فضلها على غيرها، والتجديد الذي ذهب إليه في بنية العبارة أو معنى الكلمة أو الرؤية الكونية والإنسانية التي تستتر وراء عمله ... إلى آخر ما يكشف عنه اجتهاد الدارسين؟ •••
بقيت كلمة أخرى عن النماذج المختارة وأسلوب الترجمة. أما عن الاختيار فقد التزمت كما قلت من قبل بفترة زمنية محددة لا تخرج عن القرن العشرين، كما تقيدت بمجال معين لا يتجاوز الآداب الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية. وأنا أعلم أن هذا التحديد يظلم الشعر الحديث في كتاب يحمل مثل عنوانه الطموح، وأعلم أن القارئ سيفتقد أسماء كبيرة لمعت في سمائه بل سيفتقد بلادا بأكملها في الغرب والشرق وبين الشعوب الناهضة لم تذكر بكلمة واحدة.
والواقع أنه لا بد لأي كاتب أن يحدد نفسه حتى لا يضل في التيه. والكتاب الذي بين يديك لا يريد إلا أن يكون مدخلا لقراءة الشعر الحديث وتتبع أصوله بقدر الطاقة وفي فترة زمنية محددة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. إنه يهتم قبل كل شيء ببنائه ولا يفكر في تقديم لوحة شاملة - أو بانوراما - تضم كل أعلامه.
إن مثل هذه المحاولة تخرج بطبيعة الحال عن هدف الكتاب. ثم إنها تفوق قدرة إنسان واحد وحياته، ولا بد أن تتضافر فيها جهود عشرات وعشرات.
توخيت في النماذج المختارة كما قلت ألا تخرج عن القرن العشرين؛ ولذلك اكتفيت من الشعراء الثلاثة الكبار - بودلير ورامبو ومالارميه - بالنصوص الواردة في متن الدراسة وأحسب أنها تقدم صورة وافية لهم. ثم أضفت إليها في المختارات بعض قصائد من فيرلين حتى تتم صورة هؤلاء الأربعة الكبار، وقد كان المقصود بالمختارات أن تكون «تطبيقا» للمبادئ النظرية التي يعالجها الجزء الخاص بالدراسة، وأن تكشف عن البناء الجديد الذي يحاول أن يلقي الضوء عليه. ولذلك فقد كان من الواجب أن تتم في حدود أضيق بكثير مما هي عليه، وأن تستبعد شعراء كبارا لم يكن لهم تأثير حاسم على الشعر الحديث ولا مشاركة مباشرة في بنائه. ولكنني اقتنعت بعد القراءة والتفكير أن الأمور في الأدب عموما لا يمكن أن تؤخذ بهذا التحديد الرياضي الدقيق، وأن عددا من الشعراء الكبار قد أسهموا بغير شك في تكوين صورة الشعر الحديث إن لم يكن بقصائدهم نفسها فبآرائهم ومواقفهم في الفن والحياة. ولذلك يجد القارئ، مثلا نماذج مختلفة من شعر أونامونو وماتشادو في إسبانيا، وبول فيرلين وجول سوبرفيي في فرنسا، وشتيفان جورجه ورلكه وهسه وكاروسا وبنسولت وكستنر في ألمانيا ممن لا يمثلون الطابع الجديد للشعر الحديث بالمعنى الدقيق. ولقد فكرت أن أضم إليهم مختارات من شعراء «الموجة الثانية» التي سبق الحديث عنها من أمثال ألكسندر بلوك ووليم بتلر ييتس أو من الدائرين بشكل أو آخر في نفس فلكهم مثل كونستانتين كافافيس اليوناني أو آندره آدي المجري أو غيرهما من مشاهير الشعراء في العالم السلافي والأنجلوسكسوني والشرقي والإفريقي. وفكرت كذلك أن أضم إلى المختارات نماذج من شعراء التعبيرية وفي مقدمتهم جورج تراكل وجورج هايم ثم طرحت الفكرة جانبا، لا لأن معظم هؤلاء الشعراء ليس لهم دور حاسم في بناء الشعر الحديث كما يفهمه هذا الكتاب، بل كذلك لاقتناعي بأن الكثيرين منهم يحتاجون إلى دراسات مستقلة أرجو - إن بقي في العين نور وفي العمر بقية - أن أفرغ لها أو يلتفت إليها غيري في المستقبل، وإن الاهتمام العام بحركة الشعر الحديث في وطننا العربي أو خارج حدوده، والدراسات والترجمات التي تتوالى على نحو جدير بالحمد والثناء، لتجعلنا نطمع ألا يطول بنا الانتظار.
4
ولقد فكرت أيضا أن أضم إلى المختارات عددا من قصائد الشعراء في العالم الأنجلوسكسوني ممن لهم تأثير لا شك فيه على الشعر الحديث، مثل ييتس وياوند وأودن واديث سيتويل وديلان توماس وغيرهم. لكنني استبعدت الفكرة كذلك راجيا أن يقوم بها من هم أقدر مني وأوثق صلة بالشعر الإنجليزي والأمريكي . على أنني قد خرجت عن هذه القاعدة في استثناء واحد أود أن أستأذن القارئ بشأنه فقد أوردت بعض النصوص من ت. س. إليوت، لا لشهرته ولا لحبي القديم له فحسب، بل لأنني تحدثت عنه في الكتاب بشيء قليل من التفصيل، وأصبح من الضروري أن أورد نماذج تطبيقا لما قلته. وقد أعدت نشر قصيدة «الرجال الجوف» التي كنت قد ترجمتها ونشرتها سنة 1952م في مجلة الثقافة القاهرية، كما اهتديت في سائر القصائد بالترجمة القيمة التي قام بها الأستاذ ماهر شفيق فريد وأرجو أن تجد سبيلها إلى النور في وقت قريب.
وأما عن الأسس التي أقمت عليها اختياري للقصائد فأرجو ألا ينزعج القارئ إذا قلت إنها لم تقم على أساس معين! صحيح أنني راعيت فيها - باستثناء الشعراء الكبار الذين ذكرتهم والذين ينتمون إلى الكلاسيكية الجديدة أو الرومانتيكية المتأخرة كما قلت - أن تكون ممثلة لبناء الشعر الحديث كما يبينه الكتاب. ولكن لا بد من الاعتراف بأن كل اختيار يقوم على الذوق الخاص قبل أي اعتبار آخر، لأن كل اختيار إنما هو في الواقع اختيار للنفس. والحقيقة أنني لا أملك تفسيرا آخر للإكثار من نصوص بعض الشعراء دون بعضهم الآخر. صحيح أن مجموعات الشعر التي بين يدي لم تسعفني في بعض الحالات. ولكن لا بد من الاعتراف بأن ذوقي الشخصي هو الذي تحكم إلى حد كبير في اختيار النصوص كما تحكم أيضا في عددها. ولهذا فإني أرجو ألا يفاجأ القارئ إذا لاحظ السخاء الزائد مع بعض الشعراء دون بعضهم الآخر (مثل أنجارتي الإيطالي، وإلوار الفرنسي، ولوركا وألبرتي واليخاندر الإسبان، وبن وكرولوف الألمانيين). وهناك حالة واحدة لا بد من ذكرها وهي حالة الشاعر الإيطالي «أويجنيو مونتاله» الذي لم أستطع أن أورد له نصا واحدا على الرغم من اقتناعي بأهميته في الشعر الحديث. ولا يرجع السبب في هذا إلى قلة النصوص التي وجدتها عنه وعن الشعر الإيطالي الحديث بوجه عام فحسب، بل لأنني لم أستطع أن أتذوق شعره على الإطلاق! وقد كان حظي مع الشعر الإيطالي سيئا في مجموعه، وإني لأرجو أن أعرض هذا في مستقبل الأيام.
أما عن أسلوب الترجمة فقد كنت أطالع مع كل نص أترجمه شبح الحكمة الإيطالية المعروفة: «أيها المترجم، أيها الخائن»! وإذا كانت الترجمة تنطوي حقا على الخيانة فلا بد أن تكون ترجمة الشعر هي الخيانة العظمى. ولقد طالما سألت نفسي وأنا أعمل في هذه النصوص إلى متى أضيف إلى ذنوبي الكثيرة ذنب الترجمة؟ كنت كذلك أسألها كيف نترجم القصيدة - وهي كيان فني مكتف بذاته، ونظام لغوي مرتبط بلغته - بغير أن ننزع منها روحها ونفقدها أهم ما يميزها من نبر وإيقاع وإحساس؟ ثم أجدني أرد عليها بقولي: وكيف نعزل أنفسنا عن التجارب الشعرية عند الأمم المختلفة؟ وكيف نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث؟ وكيف نرضى أن تظل أسماء أعلامه بعيدة عن قرائنا؟ أليس من الواجب «توصيل» هذه التجارب إليهم بأي وسيلة مهما كان من عجز هذه الوسيلة؟
غير أن هذه الأسباب لا ينبغي أن تخدعنا عن حقيقة لا مناص من التسليم بها، وهي أن ترجمة الشعر مشكلة من أعقد المشكلات، بل ينبغي أن تكون لدينا الشجاعة للاعتراف بأن الشعر لا يكاد يترجم، وأن هذه الصعوبة تصير استحالة كلما جربنا ترجمة الشعراء الذين اصطلح على تسميتهم خطأ أو صوابا بالرمزيين، وتبلغ هذه الاستحالة أقصاها في شعر مالارميه على وجه التخصيص.
وأحب أن أؤكد للقارئ أنني كنت على وعي بهذا كله، ولم أترك فرصة تفوتني بغير أن أشير عليه بالرجوع إلى الأصل كلما أمكن ذلك. ومع أنني التزمت دائما بالأمانة التامة في نقل النصوص، ولم أضف إليها شيئا من عندي إلا وضعته بين أقواس وأشرت إلى الضرورة التي ألجأتني إليه، فإنني أرجو القارئ أن ينظر إلى هذه الترجمات كلها كتجارب ومحاولات للاقتراب من روح الأصل (لا من جسده بالطبع فكل ترجمة هي حكم عليه بالإعدام)، ولا يمكن في نهاية الأمر أن تغني عن الأصل بحال من الأحوال.
إن الترجمة ضرورة نلجأ إليها اضطرارا، مجرد جسر نعبر عليه إلى الشاطئ الآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومن مده بعد أن نضع أقدامنا على بر الأمان! وإذا كنا نتفق على أن الخلق الأدبي عذاب ومعاناة، فالترجمة عذاب ومعاناة مضاعفة. إنها - على حد تعبير شوبنهور - نوع من تناسخ الأرواح فلا بد أن تتقمص روح المؤلف وفكره وإحساسه، ثم تنقلها في صبر وتعاطف وحب إلى جسد لغة أخرى. ولا بد أن تكون لديك القدرة على الفناء في النص الأصلي والقدرة على إفناء نفسك أمامه أي على القيام بفعل صوفي حقيقي فيه الخشوع والوجد ونكران الذات. وكلما تخليت عن نفسك وأنكرتها وجدتها وكسبتها كما يحدث في كل اتحاد صوفي، وكلما قضيت الأيام والأسابيع في البحث عن حقيقة نفسك ووجدتها في النهاية - كما يقول لوثر، وهو واحد من أعظم المترجمين في كل العصور - كانت الثمرة أحلى وأجل. فهل هناك أندر من المترجمين الصادقين في كل جيل؟ وهل هناك ضرورة أكثر إلحاحا من أن يتجه الأدباء وحدهم إلى ترجمة الأدباء، وأن يرفع التجار والمرتزقون أيديهم عنها؟!
هذا وقد رجعت إلى كل المجموعات الشعرية التي استطعت التوصل إليها، ولم أدخر وسعا في الالتزام بالأصل حتى في الحالات التي كنت أجهل فيها لغته، وذلك مثلا في النصوص الإسبانية التي كنت مع ذلك أستعين بمعلوماتي المتواضعة في اللغتين اللاتينية والإيطالية لأضاهيها بترجمتها في الإنجليزية أو الألمانية. أما النصوص الفرنسية فقد كنت أرجع فيها إلى الأصل بطبيعة الحال، وكان من حسن حظي أن وجدت الترجمة الألمانية الدقيقة لمعظم هذه الأصول. وأما الترجمات العربية السابقة لبعض النصوص فقد كنت أهتدي بها شاكرا جهود أصحابها ومشيرا إلى التعديلات التي رأيت إدخالها عليها. وسوف يجد القارئ بعض هذه المجموعات مثبتة في قائمة المصادر، وله أن يعود إليها إذا شاء.
وأخيرا فليغفر لي قارئ الكتاب عنوانه الطموح، وليكن شهادة وفاء للكنز المفقود، وتحية حب لقرائنا وشعرائنا الجدد، ورسالة أمل مفتوحة إلى كل أحباب الشعر والمؤمنين برسالته الخالدة في تنقية العالم، وتوحيد حطامه المبعثر، وإعادته إلى الكمال والخير والعدل والجمال، ودعوته الأزلية - بصوت الغناء - إلى تحرير الإنسان من ذنوبه التي اقترفها على مدار التاريخ في حق الطبيعة والحياة، وتذكيره على الدوام بعالم المثال وبأصله الإلهي النبيل.
5 (القاهرة) يوليو 1970م
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
مدخل إلى الشعر الحديث
(1) بين الثورة والحداثة
ثورة الشعر الحديث هو العنوان الذي وضعته لهذا الكتاب. ولا شك أن كلمة «الحداثة» تحتاج إلى تحديد. أما الثورة فهي في بنائه وظواهره العامة التي أرجو أن يوضحها الكتاب بشيء من التفصيل.
ومهما يكن اختلافنا في تحديد معنى الحداثة فلا شك أننا سنتفق على أن هذا الكائن اللغوي الحي الذي نسميه بالقصيدة يدين لصاحبه بالوجود كما يدين للعصر الذي عاش فيه، وللجو الفكري والحضاري الذي تنفس هواءه.
فنحن عندما نتذوق القصيدة نرجع تجربتنا الجمالية إلى عبقرية الشاعر الفردية وإلى شيء آخر قد نسميه روح العصر، أو تجربته وجوه العام، شيء تأثر به هذا الشاعر كما تأثر به غيره من الشعراء المعاصرين له سواء أكان هذا التأثير سلبا أم إيجابا وسواء كان يسير في اتجاه العصر أو في عكس اتجاهه.
إن العصر الحديث بالمعنى الواسع لهذه الكلمة قد بدأ مع بداية الثورة الصناعية باكتشاف القوى البخارية والمائية، ومضى الإنسان الحديث في حربه المستمرة للانتصار على الطبيعة واستغلالها لمصلحته وتجريدها من كل أسرارها وألغازها، حتى وصل به إلى قمة القلق على حياته ومصيره مع اكتشاف الطاقة الذرية.
ولقد تغيرت نظرة الإنسان إلى الطبيعة والله كما تغيرت نظرته إلى نفسه وإلى المجتمع البشري في خلال القرنين الأخيرين تغيرات كبيرة صاحبت ثوراته الصناعية والاجتماعية والدينية والعقلية أو تأثرت بها ونتجت عنها، وانعكست بالضرورة على وجدانه الفني وظهرت في تعبيره الشعري فيما يمكن أن نسميه بثورة الشعر الحديث أو ثوراته المتعددة.
فحين كان الناس من حوله مشغولين بالواقع الخارجي وبالسيطرة على الطبيعة، وبناء المصانع والمدن الحديثة واستغلال الأرض وإنتاج المزيد من البضائع، كان الشاعر يقف من ذلك موقف المؤيد حينا أو المعارض في معظم الأحيان، فيمجد التغيير السياسي والاجتماعي مرة أو ينصرف إلى تأمل ذاته واستكشاف عالمها الباطن المستتر في اللاشعور أو الرمز أو الأسطورة مرات. وكل من ينظر إلى تطور الفكر والحضارة في المائة والخمسين سنة الأخيرة لا بد أن يلاحظ مدى التغيير وعمق الاكتشافات التي تمت في هذين المجالين في وقت واحد.
في مجال المجتمع والطبيعة، وفي مجال النفس والواقع الداخلي.
وطبيعي أن هذا التطور في اكتشاف العالم الباطن قد سار في تيارات معقدة، وأنه كان يختلف في أوروبا وأمريكا من حيث العصر والمزاج والحركة الأدبية التي يرتبط بها هذا الشاعر أو ذاك، ولكن هذا التطور أو هذه الثورة كانت تسير في حلقات متتابعة ينبع أحدها من الآخر، فالرومانتيكية كانت كامنة في الكلاسيكية التي أرادت أن تبعث القديم وتطوره، والرمزية هي ذروة النضوج التي وصلت إليها الرومانتيكية المزدهرة في إنجلترا وفرنسا وألمانيا، والواقعية كانت رد فعل للرمزية على اختلاف أشكالها واتجاهاتها.
والشاعر، الذي خلع عن نفسه صفة الناظم إلى الأبد! يحاول في أثناء هذا كله أن يكتشف مجاهل نفسه وعالمه الباطن كما يكتشف لغته ويعيد بناءها لتكون قادرة على الإيحاء بعالمه الجديد، صحيح أن هذه التيارات والمدارس تختلف فيما بينها باختلاف البلاد والطبائع الفردية، كما أن لكل منها خصائصه المعقدة المتمايزة، وشعراءه المختلفين عن بعضهم البعض أشد الاختلاف، إلا أننا نستطيع أن نقول بوجه عام إن حركة اكتشاف الواقع الخارجي التي كادت تصل إلى نهايتها - على الأقل من ناحية السطح والظاهر - لم تستطع في مجال الواقع الداخلي أن تنتهي من اكتشاف عالم اللاشعور أو «أفريقيا الباطنة» كما يسميه الكاتب الألماني «جان باول».
1
ولعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إن كل محاولات الاكتشاف الجريئة التي يقوم بها الشعراء منذ قرن ونصف قرن لم تزد «أفريقياهم» هذه إلا سوادا وكثافة في الوقت الذي فرغ فيه زملاؤهم الجغرافيون من اكتشاف أفريقيا من زمن طويل، حتى لم يعد أحد يجرؤ اليوم على تسميتها بالقارة السوداء. (2) نشاز وشذوذ
الصورة التي يقدمها لنا الشعر الحديث صورة جذابة بقدر ما هي محيرة؛ إنها تزخر بالألغاز والرموز والمفارقات ، ولكنها تحفل كذلك بشخصيات لا يمكن تجاهلها، ونماذج لا يمكن الشك في روعتها وأصالتها، وإنتاج مثير خصب يدل على أن الشعر الحديث والمعاصر لا يقل شأنا عن الفلسفة أو الرواية أو المسرح أو الفنون التشكيلية في قدرته على التعبير عن روح عصرنا ومشكلاته وأزماته. ولو تأملنا مثلا إنتاج الشعراء الألمان ابتداء من رلكه في مرحلته المتأخرة إلى شاعر التعبيرية تراكل، أو الشعراء الفرنسيين من أبوللينير إلى سان-جون بيرس ورينيه شار، أو الإسبان من جارثيا لوركا إلى جيان، أو الإيطاليين من بالاتسيسكي إلى أنجارتي، أو الإنجليز من ييتس إلى إليوت، لاقتنعنا بأهميته وخطورته، وسحره وغموضه، وتعقيده وطرافته في آن واحد. إن القارئ يدخل معهم في تجربة تضع يده - ربما عن غير قصد منه - على روح هذا الشعر وطابعه المميز؛ فهو يؤخذ بغموضه بقدر ما يحار في فهمه، وهو ينجذب نحوه بقدر ما يصدم فيه، والسحر الذي ينبعث من كلماته الحافلة بالأسرار يأسره ويفرض نفسه عليه، ولكنه يضله في متاهاته ويقطع عليه كل طريق للفهم أو المشاركة أو التذوق بمعناه القديم. وليأذن لنا القارئ منذ البداية أن نسمي هذا المزيج من الغموض والسحر تسمية نستعيرها من لغة الموسيقى فنصفه «بالنشاز» فإن سأل: وما معنى النشاز في هذا المقام! قلنا: لعله نوع من التوتر يميل إلى القلق والاضطراب أكثر مما يميل إلى الراحة والتجانس والاطمئنان، ولعله كذلك أن يكون طابع الفنون الحديثة وهدفها بوجه عام. ومن أوضح ما يدل عليه هذه العبارة التي يقولها الموسيقى الأشهر إيجور سترافتسكي في كتابه عن «فن الموسيقي (1948م)»: «ما من شيء يلزمنا بالتفتيش عن المتعة في الهدوء وحده، فالأمثلة تتراكم منذ أكثر من قرن من الزمان لتقديم أسلوب استقل فيه النشاز بنفسه تمام الاستقلال وأصبح شيئا في ذاته، وهكذا اتفق أنه لا يمهد لشيء ولا يعلن عن شيء؛ فليس النشاز دليلا على الاضطراب ولا التناغم ضمانا للنظام واليقين.»
هل تصدق عبارة سترافتسكي كذلك على الشعر الحديث؟ هذا ما سوف تحاول الصفحات القادمة الإجابة عليه. فغموض الشعر الحديث غموض متعمد مع سبق الإصرار. ولقد قال إمام هذا الشاعر ورائده بودلير: «إن في تعذر الفهم نوعا من المجد.» وشاعر آخر من أبرز ممثلي هذا الشعر مثل «جوتفريد بن» يقول: «إن الشعر هو الارتفاع بالأمور الحاسمة إلى لغة المستحيل على الفهم، والفناء الكلي في أشياء تستحق ألا يقتنع بها أحد.» ويخاطب سان-جون بيرس الشاعر فيقول بلغته الصوفية الفياضة بالوجد والحماس: «يا صاحب اللغة المزدوجة بين أشياء متطرفة في الازدواج، يا من تمثل الصراع بين كل ما يعيش في الصراع، وتتكلم بعديد المعاني كإنسان ضل في الكفاح بين الأجنحة والأشواك!» ويعود الشاعر الإيطالي مونتاله فيقول: «لو كانت مشكلة الشعر هي أن يكون صاحبه مفهوما لما كتب أحد بيتا واحدا من الشعر!»
لا مناص إذن من أن يعود القارئ عينيه على الظلام الذي يحيط بهذا الشعر. لا مفر من أن يدرك منذ البداية أنه شعر يبتعد بقدر ما يستطيع عن نقل المعنى الواضح والتعبير عن المضمون الذي لا خلاف حوله. إن القصيدة الجديدة تريد أن تكون شيئا مكتفيا بذاته، كيانا يشع دلالات عديدة، نسيجا من عناصر متوترة، ميدانا تتصارع فيه قوى مطلقة تؤثر بالإيحاء على طبقات من النفس لا صلة لها بالعقل - سابقة عليه أو متجاوزة له - وتمد أثرها على مناطق الأسرار المحيطة بالأفكار والكلمات فتشيع فيها الرعشة والرفيف.
ولا يقتصر هذا التوتر أو هذا النشاز في القصيدة الحديثة على هذا. إنه يتجلى كذلك من ناحية أخرى. فالقصيدة تجمع في الغالب بين عالمين متعارضين، وتبدو كالوجه الواحد الذي يضم ملامح متباينة، فهناك ملامح تنحدر من أصول صوفية أو طقوسية أو مرتبطة بعبادات الأسرار، تقابلها في الجانب الآخر ملامح النزعة العقلانية الحادة، والعبارة البالغة البساطة ذات المضمون المركب المعقد البالغ التعقيد، والدقة والتحديد مع العبثية والاستحالة، والبواعث والأغراض التافهة الضئيلة الشأن في أسلوب فوار بالحركة والعنف. وقد تكون هذه جميعا أنواعا من التوتر الشكلي، لا يقصد بها إلى أبعد من الشكل، ولكنها تترك أثرها على المعنى والمضمون وتظهر فيهما بصورة أو بأخرى .
والقصيدة الحديثة حين تلمس الواقع أو جوانب منه في البشر أو في الأشياء، لا تتناوله تناولا وصفيا ولا تقف منه موقفها من شيء مألوف في الرؤية أو الشعور، بل تنقله إلى صعيد المذهل غير المألوف، كما تشوهه وتغر به، إذا صحت هذه الكلمة التي شاعت في السنوات الأخيرة، ولذلك يستحيل أن تقاس بما نصفه عادة بأنه الواقع، بل هي لا تريد ذلك مهما وجدنا فيها من أجزاء الواقع أو بقاياه، لأنها لا تلجأ إليها إلا كوسيلة للانطلاق إلى آفاقها الحرة. إن الواقع في هذه القصيدة قد تخلص من نظامه المكاني والزمني والموضوعي والنفسي، كما تحرر من تلك التفرقة التي لا نستغني عنها في توجيه نظرتنا العادية إلى الأمور، وأعني بها التفرقة بين الجميل والقبيح، والقريب والبعيد، والنور والظل، والألم والفرح، والأرض والسماء.
كان المفهوم الذي حددته الرومانتيكية للشعر (وإن كان من الخطأ تعميم هذا المفهوم) هو أنه لغة الوجدان، والتعبير عن الذات الفردية. وكلمة الوجدان هنا تعني الرجوع إلى المألوف، والسكون إلى وطن النفس الذي يشترك فيه أكثر الناس انفرادا مع كل من يشعر ويحس، ولكن القصيدة الجديدة تحس بالغربة أعمق إحساس، وتنفر من اللجوء إلى هذا الوطن الساكن المطمئن. إنها تبتعد عن «الإنسانية» أو «البشرية» بمعناهما المصطلح عليه، وتصرف النظر عن التجربة والعاطفة، بل تذهب في كثير من الأحيان إلى البعد عن ذات الشاعر نفسه. لم يعد هذا الشاعر يشارك في قصيدته مشاركة الذات الفردية أو الشخصية، بل مشاركة عقل مبدع، وصانع لغة، وفنان يجرب خياله المتسلط أو نظرته غير الواقعية على مادة فقيرة من المعنى، عرضت له كيفما اتفق. ولا يعنى هذا بالضرورة أن قصيدة من هذا النوع لا توقظ سحر النفس المكنون أو لا تنبع منه، بل معناه أنها أصبحت شيئا آخر يختلف عما نسميه بالقصيدة الوجدانية، وأنها تستخدم لغة أخرى غير اللغة التي اصطلحنا على وصفها بلغة الوجدان. لقد أصبحت لحنا متعدد الأصوات والأنغام وصورة مطلقة من الذاتية المحضة الخالصة التي لا يمكن تجزئتها إلى قيم شعورية مفردة. يقول جوتفريد بن، وهو أحد السحرة الكبار في معبد الشعر الحديث: «الوجدان؟ إنني لا أملك شيئا منه.» وهو كغيره لا يكاد يجد أثرا لنعومة الوجدان أو رخاوة العاطفة حتى يقطعه بسكين العقل، ويمزقه بالكلمات القاسية الناشزة.
باستطاعتنا إذن أن نتحدث عن نزعة درامية عدوانية في الشعر الحديث. إنها تكمن في العلاقة بين الموضوعات أو البواعث (الموتيفات) التي تتقابل تقابل الأضداد بدلا من أن تتصل وتتلاقى بنظام واطراد. وهي تكمن كذلك في العلاقة القائمة بين هذه الموضوعات والبواعث وبين الأسلوب القلق الذي يفرق ما وسعته التفرقة بين الدلالات والمدلولات. ولكن هذه النزعة الدرامية العدوانية تحدد كذلك العلاقة بين القصيدة والقارئ. فكثيرا ما تصدم القصيدة قارئها فيشعر أنه يتلقى منها الإنذار بالخطر بدلا من أن ينعم بالأمان! صحيح أن لغة الشعر كانت وستظل على الدوام مختلفة عن لغة التفاهم العادية وأنها لم تكن ولن تكون مجرد وسيلة للنقل والتوصيل. لقد كان الفارق بين اللغتين - باستثناء حالات قليلة نجدها في شعر دانتي الإيطالي أو جونجورا الإسباني - يتسم بالتدرج والاعتدال بوجه عام. وفجأة اختل الميزان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فتأكد الفارق الحاسم بين لغة الشعر ولغة الكلام، واتضح التوتر الهائل بينهما، وجاءت المعاني والمضمونات الغامضة المظلمة فزادت الهوة اتساعا، وأثارت دوامة الحيرة والبلبلة التي ما زالت تتسع حتى اليوم.
أصبحت الكلمات المألوفة ترد بمعان غير مألوفة، والاصطلاحات العلمية الموغلة في التخصص تمتلئ بشحنة شاعرية، وتركيب العبارة يفقد ترتيبه العضوي أو ينكمش أحيانا إلى جمل أو كلمات اسمية توضع إلى جانب بعضها البعض.
والتشبيه والاستعارة، وهما من أقدم الوسائل التي لجأ إليها الشعر في كل البلاد والعصور، تتغير وظيفتهما فيستخدمهما الشاعر بطريقة جديدة تتحاشى عنصر التشبيه الطبيعي أو تفرض على الأشياء وحدة غير واقعية لا تتفق مع المنطق والطبيعة.
أصبحت البنية اللغوية المتحركة والتتابع النغمي والإيقاعي المتحرر من المعنى أهدافا تقصد لذاتها كما حدث في فن الرسم الحديث والمعاصر عندما استقل اللون والشكل بنفسهما وأزاحا الموضوع والشيء أو استبعداهما كل الاستبعاد؛ ولذلك لم يعد من الممكن أن تفهم القصيدة من مضمون عباراتها، لأن مضمونها الحقيقي يكمن في «درامية» القوى الشكلية التي تتحكم فيها من الخارج أو من الداخل. مثل هذه القصيدة تجذب القارئ أو المستمع ولكنها تحيره وتصدمه. إنها تستخدم اللغة بطبيعة الحال ولكنها لغة لا توصل لقارئها موضوعا ولا تنقل إليه معنى.
لا غرابة إذن في أن يوصف الشعر الذي يحتوي على مثل هذه الظواهر بأنه نشاز. ولكنه يتصف كذلك بالشذوذ والخروج على المألوف. يشهد بهذا أن صفة المفاجأة أو الغرابة قد أصبحت من المفهومات الرئيسية التي تتردد في كتابات نقاده المعاصرين. والحق أن من يروم المفاجأة بالوسائل غير المألوفة يضطر للجوء إلى وسائل شاذة. والشذوذ كلمة خطيرة لا يرتاح إليها الإنسان في الشعر ولا في غير الشعر. فهو يوحي بوجود قيم ثابتة تعلو على الزمان والمكان، بينما الواقع يؤكد أن ما يصفه عصر بالشذوذ قد يتخذ منه عصر تال معيارا له، أي أن القيمة التي يستهجنها زمن قد يتقبلها زمن آخر. ولكن هذا الكلام لا يصدق على الشعر الذي نتحدث عنه، بل لا يصدق على رواده الفرنسيين الأوائل. فما زال شعر رامبو ومالارميه بعيدا عن تذوق الجانب الأكبر من جمهور القراء، على الرغم من كثرة ما كتب ويكتب عنهما، كما أن استحالة تمثل الشعر الحديث من أهم الصفات التي تنسحب أيضا على شعر المعاصرين.
ونحب أن نؤكد هنا أن استخدامنا لكلمة الشذوذ في الحكم على الشعر الحديث لا يعني أنه شعر مرضي أو منحل، ولا يعني أننا نصدر عليه حكما أخلاقيا، ولكننا نقصد منه الكشف عن ظواهره التي تميزه عن الشعر القديم. فإذا وصفنا مثلا إحدى قصائد جوته أو هوفمنستال بأنها سوية فإنما نقصد بذلك وصف الحالة النفسية أو الشعورية التي تقدر على فهم هذه القصيدة. صحيح أن بعض المتحمسين للشعر الحديث يحاولون أن يحموه من ضيق الأفق البرجوازي أو الذوق المدرسي والتقليدي ولكنهم بهذا يثبتون عدم نضجهم ويخطئون في إدراك الباعث الحقيقي على مثل هذا الشعر، بل ويؤكدون جهلهم بتطور الشعر الأوروبي على مدى ثلاثين قرنا. ليس الشعر الحديث ولا الفن الحديث في حاجة للوقوف منهما موقف الانبهار أو الإنكار. إنهما ظاهرتان راسختان من ظواهر العصر الحاضر ومن حقهما أن نعرفهما ونقدرهما عن وعي وتبصر. ومن حق القارئ أيضا أن يستمد مقاييسه وقيمه في الحكم والتذوق من الشعر القديم الذي تعود عليه، وليس لنا أن نلومه على ذلك. وإذا كنا نتحاشى تطبيق هذه القيم والمقاييس في حكمنا على الشعر الحديث، فإن هذا لا يمنعنا من الاستعانة بها في الوصف والمعرفة. والوصف والمعرفة ممكنان حتى في مثل هذا الشعر الذي لا ينتظر من القارئ أن يفهمه؛ لأنه، كما يقول إليوت، لا يحتوي على أي معنى يرضي عادة من عادات القارئ. ذلك لأن بعض الشعراء، كما يقول إليوت أيضا، يشعرون بالقلق والضيق إزاء هذا المعنى لأنه يبدو لهم شيئا سطحيا، وهم يرون أن إمكانيات العمق أو الحدة الشاعرية يمكن أن تأتي من انصراف الشاعر عن المعنى، والشعر الحديث قابل بغير شك أن يوصف ويعرف، مهما سمح لنفسه بأقصى درجات الحرية. صحيح أن الناقد أو القارئ لن يفهم منه كثيرا، بل إن قدرة الشاعر نفسه على فهم قصيدته محدودة إلى أقصى درجة، ولكن القارئ سيعرف على الأقل أنه شعر متحرر، وسيحاول أن يتبين مظاهر هذه الحرية التي بررت من قبل وصفه بالشذوذ أو النشاز، وسيقرر بعد قراءة العديد من نماذجه الصالحة أن صعوبة فهمه أو استحالته في أغلب الأحيان طابع مميز فيه وعلامة دالة على أسلوبه. وقد يستطيع كذلك أن يتبين بعض علاماته الأخرى المميزة، إذا حاول أن يضعه في سياق التطور التاريخي، ويستكشف أسرار صنعته ويدرك العوامل المشتركة بين مختلف الشعراء المحدثين والمعاصرين في اللغة والبناء والأداء، ولا بد أن كثرة المعاني التي تشع من القصيدة الواحدة ستربكه وتحيره، ولكنه سيعرف في النهاية أن تعدد المعاني في القصيدة وقابليتها لإمكانات التفسير المختلفة المفتوحة من أهم خصائص الشعر الحديث. (3) مقولات سلبية
لا بد لدارس الشعر الحديث أن يبحث عن المقولات التي يصفه بها، ولا مناص من القيام بهذه المهمة التي يؤكدها النقد كله، ولا مناص أيضا من القول بأن هذه المقولات في مجموعها مقولات سلبية. وينبغي أن نؤكد ما قررناه من قبل من أننا نستخدم هذه المقولات للفهم والتعريف، لا للتقييم وإصدار الأحكام. ووصفنا لها بالسلبية لا يعني بطبيعة الحال أننا ندين الشعر الحديث أو نوجه إليه الاتهام. فأقصى ما يطمح إليه الدارس هو أن يعرف طبيعة هذا الشعر ويضعه في موضعه التاريخي الصحيح. بل إن موقف التعريف لا التقييم هو نفسه جزء من العملية التاريخية الشاملة التي تحرر بها الشعر الحديث من القديم.
لقد أدى التغيير الذي طرأ على الشعر في القرن التاسع عشر إلى تغيير مماثل في مفهوم الآداب ونظريات النقد. كان الشعر حتى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر وربما بعد ذلك بفترة غير قصيرة، يعيش بأكمله في إطار المجتمع أو في حماه. فالناس ينتظرون منه أن يكون تعبيرا أو تشكيلا مثاليا للمواقف والمشاعر العادية، وعزاء شافيا للآلام والجراح مهما تناول من موضوعات مخيفة أو قاسية. وكان الشعر نوعا من الأنواع الأدبية لا يفكر أحد في تقديمه عليها أو تفضيله عنها. ثم وجد الشعراء أنفسهم في مواجهة مجتمع مشغول بمطالبه الاقتصادية وتأمين حياته المادية، وتقدم علمي يجاهد في تجريد العالم من أسراره وألغازه. فكانت صرخات الاحتجاج التي أطلقها على المجتمع والجماهير التي فقدت الإحساس بروح الشعر. وكان أن أنشق على التراث، وأصبح شذوذ الشاعر تبريرا لأصالة الشعر، وصار الأدب لغة العذاب المتصل الذي يدور ويدور حول نفسه فلا يسعى إلى النجاة والخلاص بقدر ما يسعى إلى الكلمة المعبرة عن عذاب الوجدان. وأصبح الشعر هو أسمى مظاهر الأدب وأنقاها، بل لقد وقف من بقية الأنواع الأدبية موقف المعارضة، وأعطى لنفسه الحرية المطلقة في التعبير عن كل ما يوحي به الخيال القادر المتسلط، والتغلغل المستمر في الحياة الباطنة وأعماق اللاشعور، واللعب بفكرة الوجود الخالي من كل حقيقة متعالية. وانعكس هذا التحول على اللغة التي يستخدمها النقاد والشعراء أنفسهم في كلامهم عن الشعر.
كان نقاد الشعر القديم وشعراؤه يحكمون على القصيدة من مضمونها ويصفونها بما يمكن تسميته بالمقولات الإيجابية. ولو نظرنا في تعليقات جوته مثلا على بعض قصائده أو قصائد غيره من الشعراء لوجدنا مثل هذه الأحكام: متعة، فرح، توافق سعيد، وكل ما خاطر به الشاعر يخضع لمعيار محكم مقنن. الكارثة تستحيل إلى نعمة، العادي والدنيء يسمو ويرتفع. وفضيلة الأدب أنه يعلم الناس أن حالة الإنسان أو وجوده شيء محبب مرغوب فيه؛ فهو ينطوي على «مرح داخلي»، «ونظرة سعيدة وموفقة إلى الواقع» وهو يرتفع بالفردي إلى المستوى العام، أما الأوصاف الشكلية فنجد منها:
الدلالة الفنية للكلمة، اللغة المتزنة المتماسكة التي «تسير بحرص ودقة وتأن». «وتنتقي الكلمة الصحيحة وتتحاشى المعاني الجانبية.»
وأحكام شيلر لا تخرج كذلك عن هذا الإطار، فالقصيدة عنده تضفي النبل وتخلع على الانفعال ثوب الكبرياء، إنها «تكوين مثالي للموضوع الذي تتناوله، بغيره لا تستحق أن تسمى قصيدة.» وهي تتلافي «الإغراب» والشذوذ الذي ينافي «العام المثالي»، وكمالها مستمد من روح مرحة صافية، وشكلها الجميل من «اتصال السياق». وطبيعي أن مثل هذه الأوصاف الإيجابية تستدعي أضدادها من الأوصاف السلبية. ولكن الشعر القديم لم يكن يستخدم هذه الأوصاف السلبية إلا للاتهام أو الإزراء بما يخالف معاييره وأحكامه، كأن يقول مثلا إن القصيدة شذرة ناقصة، أو غامضة مضطربة، أو مجرد حشد للصور، أو ليل مظلم (بدلا من أن تكون نورا يضيء)، أو أحلام مختلطة مترنحة أو نسيج مهزوز (كما يقول الشاعر والناقد النمسوي جريلبارزر في بعض أحكامه).
وهناك نوع آخر من المقولات السلبية يستخدمه أصحابه استخداما ينصب على الشكل أكثر مما ينصب على المضمون. فالشاعر الكاتب الرومانتيكي الألماني الشهير نوفاليس (1772-1801م) يطبق هذا النوع في شذراته المشهورة التي احتوت على تأملات قيمة عن الشعر تطبيقا يميل إلى الوصف والإطراء ويبتعد عن اللوم والاتهام وإبراز العيوب. إن الشعر عنده يقوم على «الإنتاج العرضي المقصود»، ويصور ما يقوله في «تسلسل عرضي حر». وكلما كانت القصيدة شخصية وكلما زاد ارتباطها بالمكان والزمان، كلما اقتربت من مركز الشعر (ولنلاحظ هنا أن الزمانية والمكانية أو المحلية كانتا تعدان في النقد القديم من المآخذ التي تحد من آفاق الأدب عامة).
وإذا انتقلنا إلى شاعر مثل لوتريمو (1846-1870م) وجدنا المقولات السلبية تتراكم عنده بشكل ملحوظ. فقد تنبأ في سنة 1870م بالصورة التي سيكون عليها الأدب من بعده. صحيح أن هذه الصورة تبدو أشبه بالتحذير ودق نواقيس الخطر، وإن كان من المتعذر أن يستقر الإنسان على تفسير لما يقوله هذا الفوضوي العظيم الذي ظل يغير الأقنعة على الدوام. ولكن المدهش حقا أن هذا الشاعر الذي ساهم مساهمة كبيرة في التمهيد للشعر من بعده، قد عرف كيف يحدد خصائصه الأساسية تحديدا صادقا يدل على بعد النظر، ويجعلنا نشك فيما يقال من إنه أراد أن يوقف تطور الشعر على هذا النحو الذي صوره، أو يحملنا على الأقل على عدم الاكتراث. ولننظر الآن إلى بعض هذه الخصائص والملامح التي حددها. سنجد بينها مثل هذه التعبيرات: القلق، الاضطراب، إهدار القيم، السخرية المرة، غلبة الاستثناء والشذوذ، الغموض، الخيال الجامح، الكآبة والظلام، التمزق بين الأضداد المتطرفة، الميل إلى العدم. ثم تأتي هذه الكلمة بين غيرها من عديد الكلمات: النشر (بمعنى نشر الخشب!) ...
ونحن نجد هذه الكلمة الأخيرة
scies
في مواضع أخرى كثيرة، في الشعر والفن التشكيلي على السواء. فالسطر الأول من قصيدة «لإلوار» بعنوان «الشر» (وتجدها بين مختارات هذا الكتاب)، يقول ضمن ما يقوله من صور الدمار والتحطيم:
هناك كان الباب كالمنشار ... إلخ.
وكثير من لوحات بيكاسو تصور المنشار أو تكتفي بتصوير أسنانه التي تخترق مساحات هندسية وحسب، دون أن تكون هناك ضرورة يفرضها الموضوع الذي يصوره، وبعضها الآخر يصور أوتار قيثارة في تكوينات أشبه بالمناشير. ولا يجوز أن نتكهن هنا بأي تأثر أو تأثير متبادل بين الشاعر والرسام. وكل ما نستطيع أن نقوله هو إن ظهور رمز المنشار هذا على فترات زمنية متباعدة إنما يدل على ما أشرنا إليه في الصفحات السابقة من وحدة البناء التي تغلب على الأدب والفن الحديث والشعر بوجه خاص ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ونستطيع أن نستطرد في ذكر بعض الاصطلاحات والأوصاف المميزة لطابع الشعر الحديث مما يكتب عنه في اللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والألمانية. فمن هذه الاصطلاحات التي تستخدم كما قدمنا للوصف لا لإصدار الأحكام أو توجيه اللوم والاتهام نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الضياع. تبديد العادي والمألوف. النظام المفقود، التفكك. الاقتطاف. العكس. أسلوب الرص والتجاور (أي رص الكلمات والمعاني بجانب بعضها البعض دون ضرورة منطقية أو معنوية أو لغوية). الشعر المجرد من الشاعرية. التحطيم والتفتيت. الصور القاطعة. المفاجأة الضارية. الإزاحة. الإغراب. إحداث الصدمات ... إلخ. وأخيرا نورد هذه العبارة للناقد الإسباني داماسو ألونسو:
ليس هناك وسيلة لتسمية فننا إلا بالتصورات والمفهومات السالبة.
ولقد كتب ألونسو هذه العبارة في سنة 1932م، واستطاع هو وغيره أن يكرروها بعد ذلك في سنة 1954م دون حاجة إلى تغيير.
من الأمانة العلمية إذن أن نستخدم هذه المفهومات في حديثنا عن الشعر الحديث. ومع ذلك فالأمر لا يخلو من وجود مفهومات واصطلاحات أخرى.
فالشاعر فيرلين يصف أشعار رامبو بأنها «فرجيلية». ولكن أشعار راسين يصدق عليها هذا الوصف أيضا. ولعل هذا الوصف الإيجابي من جانب فيرلين لم يقصد به إلا أن يكون محاولة غامضة للتقريب بين الشاعرين، ولعله لا يريد أن يصف أشعار رامبو وصفا دقيقا بقدر ما يريد أن يلمح للنشاز الملحوظ في موضوعاته وقاموسه اللغوي. ومن النقاد الفرنسيين من يتحدث عن شعر إلوار فيذكر جماله المتميز. ولكن هذه القيمة الإيجابية تقف وحدها بين طائفة من القيم السلبية التي يضفيها الناقد عليه وتميز جمال هذا الشعر قبل غيرها من القيم. ولا يقتصر هذا على نقاد الأدب وحدهم؛ إذ نصادفه كثيرا عند عدد من نقاد الفن الحديث. فهم يصفون رقبة يرسمها بيكاسو بأنها «أنيقة». وقد يصدق عليها هذا الوصف. ولكنه لا يصدق على الطابع المميز الذي جعل لها هذه الأناقة وأعني به أنها تكوين غير واقعي صرف، ليس فيه أثر من الشكل البشري المألوف. ولكن لماذا لا يتشجع أحد من النقاد فيذكر لنا هذه القيمة أو المقولة السلبية في وصفه لأناقة تلك الرقبة التي لم يبق هناك شبه بينها وبين رقبة الإنسان؟
إن السؤال يفرض نفسه أيضا في مجال الشعر. فلماذا تصف المقولات السلبية هذا الشعر بأدق مما تصفه المقولات الإيجابية؟
هل سبقنا كل هؤلاء الشعراء بمراحل بحيث لم يعد في مقدور أية فكرة أو تعريف إيجابي أن يلحق بهم؛ مما اضطرنا إلى استخدام الأفكار والتعريفات السلبية في الكلام عنهم؟ هل معنى هذا أن الشعر الحديث - وهو الغرض الذي أشرنا إليه من قبل - يستعصي على التمثل أو التذوق، وإن هذا هو أحد خصائصه المميزة؟ إن هذه الأسئلة تنصب على التحديد التاريخي لهذا الشعر، أي تتعلق بمستقبله، والسؤال عن المستقبل لا يدخل في نطاق العلم، وقد تصدق كل الأسئلة، ولكننا لن نستطيع أن نقطع فيها على وجه اليقين. والشيء الوحيد الذي يمكننا أن نؤكده هو شذوذ هذا الشعر، أي خروجه عن المألوف، ومن هذه الحقيقة نستخلص نتيجة ضرورية، وهي أننا ملزومون بمعرفة عناصر هذا الشذوذ معرفة دقيقة، لكي يحق لنا بعد ذلك أن نستخدم القصورات والمقولات السلبية التي قلنا إنها تفرض نفسها على قراء الشعر الحديث. (4) مقدمات نظرية في القرن الثامن عشر (4-1) روسو وديدرو
يلاحظ المتأمل للفكر الأوروبي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بعض الظواهر التي يمكن اعتبارها مقدمات مهدت للشعر الحديث والمعاصر. وسنكتفي في الصفحات المقبلة بتوضيح هذه الظواهر عند روسو (1712-1778م)، وديدرو (1713-1784م) ...
ولا يعنينا في هذا المجال أن نتحدث عن روسو المشرع للدولة والمجتمع، ولا عن روسو الذي أسكرته الطبيعة النقية العذراء فأخذ يتغنى بفضائلها بعاطفة الأنبياء وإخلاص المصلحين. ولن نمس هذا الجانب الهام من تفكيره إلا بقدر ما يتصل بأحد طرفي التوتر والصراع الذي يسري في كل أعماله، وأقصد به الصراع بين حدة العقل وفورة الانفعال، بين التفكير المنطقي المحكم والخضوع لمثاليات العاطفة، وهو صراع يمكن أن نرى فيه مظهرا من مظاهر النشاز الذي يطبع التفكير والأدب والفن الحديث بطابعه.
ومع ذلك فهناك ملامح أخرى من تفكير روسو تبرز أهميته في هذا المقام. فالمعروف أنه وريث أكثر من تراث. ولكن يبدو أنها لا تلزمه ولا تخدم هدفه. فأعجب ما في روسو أنه يريد أن يقف وحيدا وحدة تامة في مواجهة نفسه ومواجهة الطبيعة. وهذه الإرادة هي الشيء الجديد الفريد فيه. إنه يقف في نقطة الصفر من التاريخ، كأنما يريد أن يبدأ من العدم. وهو بمشروعاته التي يضعها للدولة والمجتمع والحياة يجرد التاريخ من قيمته، بل يعتبر أن دخولها في الظروف التاريخية تزييف وإفساد لها، ولذلك كان موقفه الفردي المطلق تجسيدا لأول شكل حاسم من أشكال الخروج على التراث، كما كان في نفس الوقت خروجا على البيئة المحيطة به وانشقاقا عليها.
تعود الكتاب أن ينظروا إلى روسو نظرتهم إلى مريض نفسي، بل إن بعضهم يعتبره أنموذجا كلاسيكيا على جنون الاضطهاد! ولكننا نعلم أن هذه الأحكام النفسية لا تكفي دائما لتفسير الأعمال الفنية والأدبية، بل إنها في بعض الأحيان تفسدها وتجني عليها. فهي لا تفسر في حالتنا هذه سبب إعجاب الناس بشذوذ روسو ووحدته وتفرده إعجابا لم ينقطع إلى اليوم. صحيح أن هناك ظواهر مرضية لا يمكن إنكارها في شخصية روسو، وصحيح أنها ساعدت على توسيع الهوة التي فصلته عن مجتمعه وتراثه، وصورت لذاته المطلقة الوحيدة أنه العبقري الذي لا يفهمه أحد. ولكن هذه الظواهر أو التجارب النفسية قد التقت مع تجربة العصر كله، وهي تجربة ترتفع فوق الذوات والأشخاص. والمهم أننا نجد عند روسو نوعا من التفسير الذاتي الذي سنجده عند عدد غير قليل من شعراء القرن التالي له، وهو تفسير الشذوذ بأنه الضمان الأكيد لرسالة المفكر والأديب والاقتناع بالصراع الضروري والشقاق المحتوم بين الذات والعالم اقتناعا يجعل روسو وأتباعه يقولون: «أحب إلي أن أكون مكروها من الناس على أن أكون عاديا مثلهم، بل إنهم ليجعلون من هذا القول قاعدة لسلوكهم وحياتهم. إن الذات التي لا يريد أن يفهمها أحد تتعذب بالاحتقار الذي تسببه لنفسها من الناس والمجتمع، كما تتعذب بالانطواء في عالمها الباطن الوحيد، وترى في ذلك آية العزة والكبرياء. بل إنها لتجد في هذا الاحتقار دليلا على رفعتها. ولقد عبر الشاعر فيرلين عن هذا كله حين أطلق على نفسه وأصدقائه كلمته المشهورة «شعراء ملعونون».
استطاع روسو في أحد أعماله المتأخرة «أحلام متجول وحيد» أن يعبر عما يمكن أن نسميه حالة يقين وجودي سابقة على مرحلة العقل. ومضمون هذه الحالة أشبه بضباب الحلم الذي يتسرب من الزمن الميكانيكي إلى الزمن الباطن الذي لا يفرق بين الماضي والحاضر، والخيال والواقع، والفوضى والنظام. والحق أن اكتشاف الزمن الباطن (أو الديمومة النفسية التي طالما تحدث عنها برجسون) ليس شيئا جديدا، ولكن الجديد عند روسو هو هذا الحماس الشاعري الذي يصفه به ويصوره جزءا من الذات الوحيدة المعادية للبيئة والمجتمع. وهو شيء سيكون له أكبر الأثر على حركة الشعر فيما بعد، وسيزيد في قوة تأثيره عن كل التحليلات الفلسفية لفكرة الزمن عند لوك أو غيره. وها هو ذا الزمن الميكانيكي أو الساعة، تصبح عند المتأخرين رمزا كريها للحضارة الآلية (كما نرى عند بودلير وغيره من الشعراء المعاصرين مثل ماتشادو)، كما يصبح الزمن الباطن ملاذ الشعر الذي يجاهد في الهروب من سجن الواقع.
أشار روسو في مواضع أخرى من كتاباته إلى فكرة إلغاء الفوارق بين الخيال والواقع، فالخيال وحده - كما يقول في قصته الشهيرة «هيلوييز الجديدة» - هو الذي يهب السعادة، أما التحقق في الواقع فهو للسعادة موت وفناء، كما يقول أيضا إن «بلاد الوهم هي البلاد الوحيدة التي تستحق أن يسكنها الإنسان في هذه الدنيا» (6، 8).
ووجود الإنسان قد بلغ من العدم والزوال بحيث لا يكون جمال إلا فيما لا وجود له. أضف إلى ذلك فكرة الخيال الخلاق. فمن حقه أن يخلق بقوة الذات وسلطانها أمورا ليس لها وجود ويضعها في منزلة أعلى من كل ما هو موجود (الاعترافات 2، 9).
قد يكون من الخطأ أن نبالغ في قيمة هذه العبارات وأثرها على الشعر المتأخر. إنها تنبع من حرارة العاطفة عند روسو وتصطبغ بألوانها. ولكننا لو استبعدنا هذه العاطفة لوجدنا الخيال قد أصبح ملكة جسورة تعلم أنها خادعة، ولكنها تريد هذا الخداع لأن صاحبها مقتنع بأن العدم - وروسو يفهم من الناحية الأخلاقية - لا يسمح للعقل بغير الإبداع الخيالي، وهذا وحده هو الذي يشبع حاجة الوجدان إلى التفتح والخلق. بهذا يصبح الخيال أو تصبح المخيلة قوة مطلقة، ولا يجد العقل نفسه ملزما بأن يقيس إبداع الخيال بمقياس الواقع. وسوف نلتقي بهذا الخيال نفسه في القرن التاسع عشر، بل سنجد إنه قد زاد حدة بحيث نستطيع عندئذ أن نتحدث عن طغيان الخيال المتسلط أو المخيلة الطاغية التي تحررت نهائيا من الألوان العاطفية التي صبغها بها روسو.
وإذا انتقلنا إلى ديدرو وجدناه يجعل من الخيال شيئا مستقلا بنفسه ويسمح له أن يقيس نفسه بنفسه وأفكار ديدرو تختلف عن أفكار روسو فهي مرتبطة بتفسيره لظاهرة العبقرية والعبقري كما عرضه في روايته «ابن أخ رامو».
2
وفي مقاله عن العبقرية في دائرة المعارف الشهيرة التي كان له فضل تأسيسها وإتمامها، يقول ديدرو في روايته إن الارتباط الذي نلمسه كثيرا بين العبقرية والنزعة اللاأخلاقية، وبين الإخفاق في الحياة الاجتماعية والنبوغ العقلي حقيقة ينبغي أن نقررها وإن كنا نعجز عن تفسيرها. والفكرة في حد ذاتها فكرة جريئة؛ فهي تلغي ما عرف منذ العصور القديمة من تسوية بين الملكات الجمالية والمعرفية والأخلاقية ووضعها في مرتبة واحدة. بذلك تصبح العبقرية الفنية نظاما مستقلا يخضع لقوانين مستقلة، كما يصبح العبقري استثناء يشذ عن كل قاعدة. ويكفي أن نقارن هذا الرأي بمحاولات «ليسنج» و«كانت» للربط بين شذوذ العبقرية وبين قيم الحق والخير.
ولا تقل مقالة ديدرو في دائرة المعارف عن ذلك جسارة. صحيح أنها تتصل بفكرة قديمة تقول إن العبقرية قوة فطرية تمكن صاحبها من القدرة على الاستشراف والتنبؤ وتجيز له أن يحطم كل القواعد المألوفة. ولكننا لن نجد عند كاتب قبل ديدرو أمثال هذه العبارات: إن من حق العبقري أن يكون ضاريا، ومن حقه أن يخطئ، بل إن أخطاءه الغريبة المذهلة هي التي تلهب وتضيء. إنها تنتثر في كتاباته كالشرارات المتقدة الخاطفة. وهو يحلق كالنسر المسحور بروعة أفكاره، ويبني بيوتا لا يستطيع عقل أن يسكنها. إن إبداعاته تأليفات حرة يفتن بها ويحبها، وملكته تنتج أكثر مما تكتشف. ولذلك «لم يعد الصدق والكذب من الخصائص المميزة للعبقرية.» أما الخيال أو المخيلة فهي القوة التي توجه العبقري، وما يصدق عليه يصدق بالمثل عليها، أعني أن تكون حركة ذاتية لملكات العقل وقواه، تقاس قيمتها بأبعاد الصور المبدعة، وتأثير الأفكار، والدينامية الخالصة التي تحررت من الارتباط بأي مضمون ولم تعد تعبأ التفرقة بين الخير والشر، والصدق والكذب، والصواب والخطأ. ألا يجعلنا هذا كله على بعد خطوة واحدة مما سميناه بطغيان الخيال أو المخيلة المتسلطة التي سيكون لها أكبر الأثر على الشعر فيما بعد؟
ثمة شيء آخر نجده عند ديدرو في كتابه «الصالونات» الذي كان يصدر فيه أحكامه النقدية على فن الرسم في عهده. فنحن نجد فيها لونا من التذوق الحساس لجو اللوحة، كما نجد آراء جديدة عن القوانين المستقلة للضوء والألوان، أعني المستقلة عن الذات المبدعة والذات المتلقية على السواء. وأهم من هذا كله أن تحليلات ديدرو عن الرسم تلتقى بتحليلاته الأدبية. ولا صلة لهذا بالنظرية القديمة التي ارتبطت بكلمة هوراس المعروفة (وهي كلمة أسيء فهمها كثيرا): «الشعر كالرسم
ut pictura
فالملاحظ عند ديدرو هو تقارب التفكير في الأدب من التفكير في الفنون التشكيلية، وهو شيء يعود إلى الظهور عند بودلير ويستمر ويزداد قوة في العصر الحاضر.
ونجد كذلك في «الصالونات» رأيا في طبيعة العمل الأدبي والخلق الشعري قد لا نعرف له نظيرا إلا في آراء الفيلسوف الإيطالي ج. ب. فيكو الذي لم يعلم ديدرو عنه شيئا. فديدرو يرى أن النغمة بالنسبة للبيت من الشعر كاللون بالنسبة للصورة. وهو يسمي العنصر المشترك بينهما «سحر الإيقاع»، ويقول إنه يؤثر على العين والأذن والخيال تأثيرا عميقا لا تقدر عليه الدقة الموضوعية. إن «الوضوح يضر!» ولذلك فهو يهتف بالأدباء: «أيها الأدباء، كونوا غامضين.» ويدعو الأدب إلى الاتجاه للموضوعات المظلمة، البعيدة ، المفزعة، الحافلة بالغموض والظلام والأسرار. والمهم بعد هذا كله أن الأدب في رأي ديدرو ليس تعبيرا عن الأشياء والموضوعات، بل هو حركة وجدانية «تتوسل بالخلق الحر للاستعارات» لتقذف بنفسها إلى أقصى الحدود والأطراف، كما تستعين كذلك بالألحان والأنغام الغريبة المتطرفة.
وديدرو يعلن بهذا كله حقائق جوهرية تتمثل فيها روح الشعر الحديث، وكأني به يتنبأ بما ستكون عليه حاله في المستقبل الذي نشهده اليوم!
فها هو ذا يقدم سحر اللغة على مضمونها، وحركة الصورة على معناها. وبينما كان عصر التنوير يشرف على نهايته كان ديدرو يكتشف ما أنكره أقطاب هذا العصر وتجاهلوه. فالأدب عنده سر، نسيج هيروغليفي، حديث بالرموز والألغاز، يتألف من طاقات نغمية أفعل في تأثيرها من الفكرة. بل إنه ليسير إلى أبعد مدى ممكن في التحرر من الموضوعية أو الشيئية، تشهد على ذلك هذه العبارة المدهشة: «إن الأبعاد الخالصة المجردة للمادة لا تخلو من قدرة معينة على التعبير.» وسنرى من هذه الدراسة أن بودلير سينطق بمثل هذه العبارة وسيزيدها حسما وتحديدا، وإنه سيضع بذلك حجر الأساس لأحد معالم الأدب الحديث، وهو الذي يمكن أن نسميه الشعر المجرد أو الشعر الخالص المحض.
وقد وضع ديدرو نظرية في الفهم يمكن تلخيصها على النحو التالي: ليس الفهم في أفضل حالاته إلا فهما للنفس. ولما كانت اللغة عاجزة عن أن تعكس المعاني بصورة دقيقة فإن العلاقة بين الأدب وقارئه ليست علاقة فهم بل إيحاء سحري.
وأخيرا فإن لديدرو الفضل في توسيع مفهوم الجمال؛ فلقد وجد في نفسه الشجاعة للتنبيه - في حذر شديد - إلى أن الاضطراب والفوضى يمكن التعبير عنهما تعبيرا جماليا، كما أن الإدهاش أو الإذهال يمكن أيضا أن يحدثا أثرهما الفني.
كل هذه أفكار جديدة سطعت في عقل عظيم طالما ومض في سمائه إلهام الخواطر والأحاسيس، حتى لقد شبه صاحبه بالنار أو البركان أو بروميثيوس. صحيح أن ساعة هذه الأفكار لم تدق إلا بعد أن نسي صاحبها نسيانا يوشك أن يكون تاما. ولكنها كانت قد تقمصت غيره من نوابغ الأجيال المتأخرة، ومهدت الطريق للحركة الجديدة الطموح التي سميناها حركة الشعر الحديث أو بالأحرى ثورته. (4-2) نوفاليس ورأيه في مستقبل الشعر
هذه الأفكار الجديدة التي نقلناها عن روسو وديدرو عن وظيفة الخيال والأدب زادت قوتها مع الحركة الرومانتيكية في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا. ويضيق المجال عن تتبع الطريق الذي سارت فيه حتى وصلت إلى الأدباء في منتصف القرن التاسع عشر وأواخره. ولكننا سنقف وقفة قصيرة عند الرومانتيكية لكي نتأمل أهم ظواهرها التي أصبحت من أدل الظواهر على طابع الشعر الحديث.
ولا بد أن نبدأ بالشاعر والكاتب الرومانتيكي الألماني نوفاليس (1772-1801م) إذ لا يستطيع منصف أن يتجاهل تأملاته وخواطره عن الشعر، ونحن لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن هذه التأملات والخواطر التي دونها في شذراته المعروفة أو في بعض صفحات من روايته «هينريش فون أفتردنجن» التي لم يقدر له كذلك أن يتمها، أهم بكثير من أعماله الأدبية نفسها.
كان نوفاليس يريد في مبدأ الأمر أن يفسر طبيعة الشعر الرومانتيكي، فخرجت منه مجموعة من الأفكار التي تحدد ملامح الشعر كله في المستقبل. ولن نستطيع أن نقدر هذه الأفكار على حقيقتها حتى نقيسها بالإنتاج الشعري الذي بدأ من بودلير وما زال مستمرا حتى اليوم.
ويحسن بنا قبل مناقشة آراء نوفاليس أن نورد بعضها بنصه، حتى يتضح لنا مدى أهميتها وأثرها على كثير من الأفكار التي نرددها اليوم عن الشعر الحديث.
يتحدث نوفاليس في أحد فصول «الشذرات» عن «الأدباء وعالمهم» وإن كان يقصد في الحقيقة الشعراء والشعر الغنائي قبل كل شيء:
ملكة الخيال هي أعظم ما في الوجود.
طبيعة العبقري بوجه عام طبيعة شاعرية، وحيثما أثر العبقري كان تأثيره شاعريا. كل إنسان ذي خلق أصيل فهو أديب أو شاعر (فالكلمة الأصلية تدل على المعنيين معا).
إذا كان الفيلسوف ينظم كل شيء ويضعه في موضعه، فإن الأديب يفك كل القيود. إن كلماته ليست علامات عامة، بل هي أنغام، رقى سحرية تحرك من حولها مجموعات جميلة. وكما تحتفظ ثياب القديسين بقوى عجيبة، فرب كلمة تباركها ذكرى رائعة، فتصبح بمفردها قصيدة. اللغة لا تجدب أبدا عند الأديب والشاعر، ولكنها تكون شديدة التعميم. كثيرا ما يحتاج إلى كلمات مكرورة بليت لطول الاستعمال. عالمه بسيط كأداته ، ولكنه مع ذلك عامر بالأنغام التي لا تنفد.
الشعر هو الواقع الأصيل المطلق، هذه هي نواة فلسفتي. كلما كان «التعبير» أشعر كان أصدق.
لا نستطيع أن نعرف ماهية الشعر على وجه التحديد. إنه مركب إلى حد هائل ومع ذلك فهو بسيط، جميل، رومانتيكي، منسجم؛ كل هذه تعبيرات جزئية عن الشعر.
الشعر يأمر وينهى بالألم والوخز، باللذة والعذاب، بالخطأ والصدق، بالصحة والمرض. إنه يمزج كل شيء لخدمة هدفه العظيم؛ هدف الأهداف، وهو الارتفاع بالإنسان فوق ذاته.
الساحر شاعر. والنبي بالقياس إلى الساحر، كالرجل الحساس بالنسبة للشاعر.
الشعر بالنسبة للإنسان كالجوقة (الكورس) بالنسبة للمسرحية الإغريقية. هو مسلك النفس الجميلة الموقعة، صوت مصاحب لذاتنا المكونة، مسيرة في بلد الجمال، أثر ناعم يشهد في كل مكان على إصبع الإنسانية، قاعدة حرة، انتصار على الطبيعة الفجة في كل كلمة، تعبير عن فاعلية حرة مستقلة، علو وارتفاع، بناء للنزعة الإنسانية، تنوير، إيقاع، فن.
الشعر تصوير (تعبير) للوجدان، لعالم الباطن بكليته. إن وسيلته، وهي الكلمات، تدل بنفسها على هذا؛ فهي كما نعلم المظهر الخارجي الذي يكشف عن تلك المملكة الباطنة؛ مملكة القوى والطاقات. إنه أشبه تماما بعلاقة فن النحت، بالعالم الخارجي المتشكل، وفن الموسيقى في علاقته بالأنغام. إن التأثير المغرب على عكس طبيعته تماما - من حيث هو مرن (بلاستيكي) - ومع ذلك فثمة شعر موسيقي، يهز الوجدان نفسه ويحركه حركات متنوعة.
يجب أن يكون تصوير الوجدان - كتصوير الطبيعة - مستقلا، عاما بشكل ملحوظ، عاملا على الترابط، خلاقا. لا كما هو عليه، بل كما يمكن أن يكون وكما ينبغي أن يكون.
من الواضح تماما لماذا يصبح كل شيء في النهاية شعرا. ألا يصير العالم في آخر المطاف وجدانا؟
أليس من الواجب ألا يخرج الشعر عن كونه رسما وموسيقي باطنة ... إلخ؟ معدلة بالطبع من خلال طبيعة الوجدان.
يحاول الإنسان عن طريق الشعر - وليس إلا الأداة الميكانيكية لهذا الغرض - أن يبدع مشاعر باطنة ولوحات أو ألوانا من الحدس، وربما حاول أيضا أن يبدع رقصات عقلية ... إلخ.
الشعر يساوي فن إثارة الوجدان.
البداية الأصيلة هي شعر الفطرة. والنهاية هي البداية الثانية، وهي شعر الصنعة.
شعر الفطرة هو الموضوع الحقيقي لشعر الصنعة، والمظاهر الخارجية للعبارة الشعرية تبدو صيغا عجيبة لعلاقات مشابهة، وعلامات دالة على الطابع الشاعري للظواهر.
الاختيار الموفق ونقاء (الأسلوب).
أنسب تعبير وأصفاه.
الإيقاع والقافية. تناسق النغم.
فن الشعر. الشعر بمعناه الدقيق يوشك أن يكون هو الفن الوسط بين الفنون التشكيلية وفنون الألحان. موسيقى، شعر، الشعر الوصفي هل ينبغي أن يكون الإيقاع مطابقا للشكل، والنغمة مطابقة للون؟ الموسيقى الإيقاعية المتجانسة الألحان، النحت والرسم.
عناصر الشعر.
من لا يستطيع أن يبدع القصائد لا يمكنه أن يحكم عليها إلا حكما سلبيا. النقد الأصيل يرتبط بالقدرة على إبداع نفس الإنتاج الذي ينقده الذوق وحده لا يحكم إلا حكما سلبيا.
فن الشعر الرومانتيكي هو فن الإغراب بطريقة لطيفة مقبولة، هو جعل الشيء غريبا وجعله مع ذلك مألوفا وجذابا.
هناك حس خاص بالشعر؛ جو شاعري كامن فينا. إن الشعر شيء شخصي تماما ومن ثم لا يمكن وصفه ولا تحديده. من لا يعرف الشعر ويتذوقه بطريقة مباشرة، لا يمكن أن يعطيه أحد فكرة عنه. الشعر شعر إنه بعيد عن فن الكلام (اللغة) بعد السماء عن الأرض.
أما عن روايته «هينريش فون أفتردنجن» فنكتفي بهذه المختارات التي تتكرر فيها معظم الأفكار التي وجدناها في الشذرات:
الحلم في رأيي سلاح يحمينا من اطراد الحياة وسيرها المعتاد راحة من الخيال المقيد، حيث تخلط كل صور الحياة بعضها ببعض، وتقطع الجدية المستديمة التي يحيا فيها البالغون عن طريق اللعب، الطفولي المرح. لولا الحلم لشيخنا قبل الأوان؛ ولذلك نستطيع أن نعده هبة إلهية، ورفيقا طيبا على طريق الحج إلى القبر المقدس.
الحق إننا لم نعن أبدا باستكناه أسرار الشعراء، وإن كنا نصغي لغنائهم بلذة واستمتاع ربما كان من الصواب القول بأن ظهور شاعر في هذا العالم يكون لحكمة يشاؤها القدر، لأن الأمر في الحقيقة مع هذا الفن أمر عجيب. كذلك فإن الفنون الأخرى تختلف عنه اختلافا شديدا، كما يمكن بالقياس إليه فهمها بسهولة. (وبعد أن يبين نوفاليس طبيعة الفنون المختلفة كالرسم والنحت والموسيقى والغناء يستطرد في كلامه عن الشعر فيقول): أما فن الشعر فلا نجد منه شيئا في الخارج، وهو كذلك لا يبدع شيئا بالأيدي والأدوات، ولا تستوعب العين والأذن منه شيئا لأن مجرد سماع الكلمات ليس هو التأثير الحقيقي لهذا الفن المغلف بالأسرار، إن كل شيء فيه يدور في عالم الباطن، وكما يملأ أولئك الفنانون الحواس الخارجية بالمشاعر اللطيفة يملأ الشاعر قدس أقداس الوجدان بأفكار جديدة عجيبة محببة. إنه يعرف كيف يثير فينا تلك القوى الخفية الكامنة فينا كما يشاء، ويمنحنا عالما مجهولا رائعا نستوعبه من خلال الكلمات. إن العصور القديمة والمقبلة، وجموع البشر التي لا حصر لها، والأماكن والجهات العجيبة، والمشاعر والإحساسات الغريبة، تتصاعد كلها في نفوسنا كأنها تخرج من كهوف عميقة، وتنتزعنا من براثن الواقع المألوف. إننا نسمع كلمات غريبة ولكننا نعرف مع ذلك ما تدل عليه. حكم الشاعر تؤثر علينا بقوة سحرية. كذلك تخرج الكلمات المألوفة في ثوب من الأنغام الخلابة فتسكر المستمعين المأخوذين بسحرها.
لا بد أن الطبيعة كلها كانت في الأزمنة القديمة أكثر حياة وأتم معنى منها اليوم، فالأحداث التي لا تكاد الحيوانات الآن تلاحظها ولا يكاد يحس بها ويتذوقها إلا الناس؛ كانت تحرك الجمادات في العهود الماضية. وهكذا أمكن لأصحاب الفن وحدهم أن يأتوا من الأمور ويخلقوا من الظواهر ما نحسبه اليوم من الخرافات أو الخوارق التي لا يصدقها العقل، من ذلك أنه عاش من أزمنة سحيقة في بلاد اليونان الحالية، كما يروي الرحالة الذين صادفوا هذه الحكايات الخرافية بين عامة الشعب هناك، شعراء استطاعوا عن طريق الأنغام الغريبة التي تصدر عن بعض الآلات العجيبة أن يوقظوا الحياة المستترة في الغابات، والأرواح الخفية في جذوع الأشجار، ويحيوا البذور في المناطق القاحلة المقفرة، ويخلقوا البساتين الرائعة، ويستأنسوا الحيوانات الضارية، ويهذبوا المتوحشين من الآدميين، ويثيروا فيهم نوازع الخير والسلام، ويجعلوا من الأنهار العاتية مياها هادئة بل ويوحوا إلى الأحجار الموات أن تأتي حركات منتظمة راقصة. ولا بد أن هؤلاء الشعراء كانوا في نفس الوقت عرافين وكهنة، ومشرعين وأطباء، هبطت الكائنات العليا نفسها بقوة سحرهم لكي تلقنهم أسرار المستقبل وميزان الأشياء ونظامها الطبيعي، فضلا عن فضائل الأعداد والنباتات وسائر المخلوقات وقدرتها على الشفاء. ولا بد أن الأنغام المتنوعة والعواطف والنظم العجيبة، كما تقول الخرافة، قد وجدت طريقها منذ ذلك الحين إلى الطبيعة بعد أن كان كل شيء فيها وحشيا مضطربا منذرا بالعدوان.
ما من شيء ألزم للشاعر من الاستبصار بطبيعة كل شيء، ومعرفة الوسائل الموصلة إلى كل هدف، وحضور البديهة الذي يمكنه على اختلاف الأوقات والظروف من اختيار أنسب هذه الوسائل وأوفقها. إن الحماس الخالي من العقل شيء عقيم وخطير، وإن الشاعر ليقصر عن إتيان المعجزات، إن سمح لنفسه أن يدهش بالمعجزات.
ينبغي للشاعر الشاب أن يكون على أكبر قدر كاف من الرزانة والتعقل.
الوجدان الأصيل كالنور، يشبهه في هدوئه وحساسيته ومرونته ونفاذه. وهو في قدرته على التأثير القوي غير الملحوظ أشبه بهذا العنصر البديع الذي ينتشر فوق جميع الأشياء بميزان دقيق، ويجلوها جميعا في مظهر متنوع أخاذ. إن الشاعر من الصلب الخالص، وهو في حساسيته أشبه بخيط من الزجاج الهش ولكنه كذلك قاس كالحصاة الجامدة.
يريد الشعر بالدرجة الأولى أن يكون فنا محكما.
إن أفضل الشعر لقريب منا أشد القرب، ولا يندر أن يكون الشيء العادي من أحب الموضوعات إليه. والشعر بالنسبة للشاعر مقيد بأدوات محدودة، وبهذا وحده يصبح شعرا.
ليس هناك حد لما يمكن أن يتعلمه الشعراء من الموسيقيين والرسامين.
3
إن على هؤلاء أن يكونوا أكثر شاعرية، كما أن علينا أن نكون أكثر موسيقية.
من هذه المقتطفات نتبين أن ما يقوله نوفاليس عن الشعر يكاد ينصب بأكمله على الشعر الغنائي الذي يعده الشعر الحق. فجوهر هذا الشعر عنده هو إفلاته من كل تحديد، وبعده الشاسع عن بقية الأنواع الأدبية الأخرى. صحيح إنه يصفه أحيانا بأنه «التعبير عن الوجدان»، ولكن هناك عبارات أخرى تفسر الذات الشاعرة بأنها محايدة أو بأنها مجموع العالم الباطن الذي لا يحدده إحساس بعينه. إن التعقل الرزين هو رائد الفعل الشعري. فالشاعر مخلوق «من الصلب الخالص»، قاس كالحجر الجامد. والشعر يؤدي إلى المزج بين العناصر المتنافرة سواء جاءت مادتها من العقل أو من الأشياء، إنه يحمي الإنسان من الحياة العادية، والخيال فيه يتمتع بحرية تكفل له «تخليط الصور جميعا بعضها ببعض». إنه اعتراض منغم على عالم من العادات والتقاليد لا يستطيع الشعراء الحياة فيه لأنهم «أناس سحرة متنبئون».
الشعر إذا أشبه بالسحر. وهي علاقة ترجع إلى تراث قديم لدى شعوب عديدة نظرت إلى الشاعر نظرتها إلى الساحر والعراف والنبي. ولكن نوفاليس يلقي على هذه العلاقة ضوءا جديدا؛ إذ يربط بينها وبين ما يسميه «البناء» و«الجبر»، أي ذلك الملمح العقلي الذي يؤكده الشعر الحديث. هذا الشعر الساحر، أو هذا السحر الشعري يتصف بالدقة والإحكام. إنه توحيد بين الخيال والفكر، «عملية» تختلف في تأثيرها عن المتعة الخالصة التي لم يعد لها مكان في الشعر.
ونوفاليس يأخذ من السحر فكرة «التعزيم» أو التعويذ التي نعرفها لديهم. لكل كلمة عنده رقية وتعويذة، وكل كلمة تسحر الشيء الذي تسميه أو تبطل سحره، ومن ثم كان حديثه عن سحر ملكة الخيال، وقوله إن «الساحر شاعر» كما أن الشاعر ساحر. ففي مقدوره أن يجعل المأخوذين أو المسحورين بكلامه يتصورون الشيء ويعتقدون فيه ويحسون به كما يريد لهم أن يفعلوا. وكل هذا يشهد على خيال متسلط (دكتاتوري) أو خيال طاغ مبدع، سيتكرر حديثنا عنه فيما بعد، هذا الخيال هو أعظم ما في الوجود، وأعظم ما في العقل، وهو مستقل عن المنبهات والمؤثرات الخارجية؛ ولذلك كانت لغته «لغة ذاتية» ليس من هدفها الإفادة أو التوصيل. إن الأمر مع لغة الشعر كالأمر مع «الصيغ الرياضية التي تؤلف عالما مستقلا بنفسه، وتؤدي الأدوار مع نفسها وحسب.» وهذه اللغة معتمة غامضة إذ قد يحدث للشاعر في بعض الأحيان ألا يفهم نفسه، ويرجع هذا إلى اهتمامه «بالأحوال النفسية الموسيقية، وتتابع سلسلة الأنغام والتوترات التي تتعلق بمعاني الكلمات.» صحيح أن الشاعر يسعى إلى أن يفهمه الناس بعض الفهم ولكنه الفهم الذي لا يقدر عليه إلا العارفون. وهؤلاء العارفون لا ينتظرون من الأدب تلك الصفات التي تطلق عادة على أنواعه المنحطة؛ أي الصواب، والوضوح، والصفاء، والكمال، والنظام.» ذلك لأن هناك صفات أسمى كالتجانس والانسجام وتوافق الأنغام.
ثم ينتقل نوفاليس نقلة حاسمة عندما يقرر ما يشبه أن يكون قانونا للشعر الحديث؛ وأعني به الفصل بين اللغة والمضمون لصالح الأولى: «قصائد منسجمة النغم، ولكنها كذلك خالية من أي معنى أو ترابط، لا يفهم منها إلا بعض المقطوعات المفردة، كأنها مجرد شذرات من أشياء مختلفة.» سحر اللغة إذن من حقه - لكي يضفي الروح السحرية على العالم - أن يحطم هذا العالم إلى نتف وشذرات. ومن ثم يصبح الغموض والتفكك وعدم التماسك شروطا ينبغي توافرها في الإيحاء الشعري. «إن الشاعر يحتاج اللغة، كما يحتاج الموسيقي إلى أصابع البيان.» وهو ينتزع منها قوى وطاقات لا تعرف عنها لغة الكلام العادي شيئا (سنلاحظ فيما بعد أن مالارميه يتحدث عن «بيانو الكلمات»).
ثم يقول نوفاليس في معرض هجومه على الأدب القديم الذي كان «يضع ذخيرته في نظام يسهل إدراكه»: «أكاد أقول إن الاضطراب والاختلاط
chaos
يجب أن يتخلل كل أنواع الأدب.» «فالأدب الجديد يؤدي إلى الإغراب الكامل.» لكي يتسنى له الارتفاع بنا إلى «الوطن الأعلى». وطبيعة عمله شبيهة بعمل المحلل بالمعنى الرياضي، وهي استنباط المجهول من المعلوم. أما من ناحية الموضوع فإن الخلق الأدبي يخضع للمصادفة كما يخضع من ناحية المنهج للتجريدات الجبرية التي تقترب من تجريدات الحكاية الخرافية، أعني من ناحية تحررها من قيود العالم المألوف الذي «يعاني من الوضوح الشديد.» عالم الباطن المحايد بدلا من الوجدان، الخيال مكان الواقع، حطام العالم لا وحدته، المزج بين العناصر المتنافرة، الاضطراب والاختلاط، التأثير السحري عن طريق الغموض وسحر اللغة، التفكير المتعقل الرزين الشبيه بالتفكير الرياضي، الإغراب لكل مألوف ومعتاد، تلك على التحديد هي عناصر البناء الذي سيؤكده بودلير في نظريته في الشعر، ويبدع رامبو ومالارميه والشعراء المعاصرون شعرهم على أساسه. وسوف يظل هذا البناء صحيحا في جملته وإن تغير فيه هذا العنصر أو ذاك، أو أضيفت إليه عناصر أخرى لم تكن فيه.
ونستطيع أن نختم هذا كله ونكمله بعبارات لناقد الحركة الرومانتيكية الألمانية الكبير «فريدريش شليجل» تدور حول فصل قيمة الجمال عن قيم الصدق والأخلاق (وهو شيء لم يكن ليرضاه الأدب الكلاسيكي القديم أبدا!) والضرورة الشاعرية التي تقضي بوجود الاضطراب والاختلاط، ثم حديثه عن التطرف والغرابة والوحشية بوصفها من شروط الأصالة الشعرية. والمهم أن الفرنسيين عنوا بقراءة نوفاليس وشليجل اللذين أثرا على الحركة الرومانتيكية الفرنسية وأوحيا إليها بعدد من أفكارها الرئيسية. وما دمنا قد ذكرنا هذه الحركة فلا بد من حديث قصير عنها يوضح مدى تأثيرها على بودلير، أول الشعراء العظام في العصر الحديث، وأول منظر للشعر الأوروبي والإحساس الفني منذ أكثر من قرن من الزمان. (5) الرومانتيكية الفرنسية
انطفأت شعلة الرومانتيكية الفرنسية «كمودة» أو بدعة أدبية في منتصف القرن الماضي، ولكنها ظلت قدرا يحدد مصير الأجيال المتأخرة، حتى تلك الأجيال التي عملت على القضاء عليها وإحلال مودات أخرى محلها. وسقطت عنها كل مظاهر التطرف والبهرجة والتظاهر والتفاهة الرخيصة. غير أن الوعي الذي بدأ يتغير من منتصف ذلك القرن ويتخلص شيئا فشيئا من الروح الرومانتيكية ظل يلجأ إليها كوسيلة للتعبير، كانت ظواهر الشذوذ والنشاز التي تحدثنا عنها في الفصل السابق كامنة في أنغامها المتجانسة كمون البذرة في الثمرة.
كتب بودلير في سنة 1859م يقول: «إن الرومانتيكية بركة من السماء أو من الشيطان، وقد تركت فينا جروحا لن تندمل أبدا.»
وهذه العبارة تؤيد ما قلناه من أن الأجيال التي جاءت بعد الرومانتيكية لم تسلم منها، فقد أبت وهي في ساعة الاحتضار إلا أن تترك عليهم آثارها الدامية. صحيح أنهم ثاروا عليها، ولكنهم فعلوا ذلك لشعورهم بأنهم واقعون في أسرها؛ لذلك لا نغالي إذا قلنا على سبيل المفارقة إن الأدب الحديث رومانتيكية تخلصت من الرومانتيكية أو أرادت أن تتخلص منها .
إن المرارة والقتامة ومذاق التراب والخراب كلها من التجارب الأساسية التي تفرض نفسها على الرومانتيكي كما ينميها هو في نفسه.
ولقد كان الفرح والسعادة بالنسبة للحضارة القديمة والحضارات التالية لها حتى القرن الثامن عشر يمثلان القيمة النفسية الرفيعة التي تدل على كمال حكمة الحكيم، وإيمان المؤمن، وبسالة الفارس، وحنكة السياسي، وثقافة المثقف. وكان الحزن والكآبة - اللهم إلا أن يكونا شيئا عارضا - يمثلان الفساد والانحراف، بل لقد كان رجال الدين يعدونهما خطيئة كبرى. ثم تغيرت الحال منذ بدأ الإحساس بالعذاب والألم يسود الوجدان الغربي في المرحلة السابقة على الرومانتيكية في القرن الثامن عشر. تراجعت السعادة والفرح من الأدب، وحلت مكانهما الكآبة والعذاب الكوني. وراحت هذه الكآبة وهذا الإحساس الأسيان بالعذاب يستمدان غذاءهما من نفسهما، وسرعان ما أصبحا من علامات السمو والنبل الروحي. إن شاتوبريان الرومانتيكي الأصيل يكتشف الكآبة التي لا سبب لها ولا تتعلق بموضوع خارجي، ويجعل من «علم القلق والأحزان» غاية الفنون، ويفسر التمزق النفسي بأنه نعمة من نعم المسيحية. وينتشر هذا الشعور بالانحلال والانهيار، ويصبح نبعا ينساب في قلوب هؤلاء المعذبين، ينهلون من مائه الدامي ويتلذذون بغرائبه ومفارقاته. ولا تلبث اللهفة أن تتعلق بكل ما يتسم بالشذوذ والتحطيم والأجرام.
ويصبح الشعر الغنائي في إحدى قصائد ألفريد دي فيني (بيت الراعي) شكوى من أخطار التقنية
4
التي تتهدد الروح. وتبدأ فكرة العدم في أداء دورها، فتنطلق لأول مرة على لسان ألفريد دي موسيه الذي راح يعبر عن عواطف جيل من الشباب تحمس فترة من الزمن لنابليون ثم وجد نفسه فجأة يصطدم بعالم من الوهم والعبث والخراب والصمت، عالم من العدم. ها هو ذا يكتب قائلا: «إنني أومن بالعدم كما أومن بنفسي.» وأخيرا تتحول الشكوى والكآبة إلى خوف غامض من المجهول الفظيع. ويكفي أن نستشهد ببيت ورد في إحدى قصائد جيراردي نيرفال التي تحمل عنوانا يشذ عن مضمونها (أبيات ذهبية، 1840م): «خف نظرة في الجدار الأعمى تتلصص عليك.»
وسوف نرى كيف تستمر هذه المشاعر كلها في قصائد بودلير، وكيف تتغير وتتحول بالتدريج ...
ويتأثر الرومانتيكيون الفرنسيون بالنماذج الألمانية في تفسيرهم لطبيعة الشعر والشعراء. فالشاعر عندهم كاهن في معبد الفن المقدس، ونبي وعراف لا يفهمه أحد. والشعراء يؤلفون حزبا يعارض جماهير الطبقة الوسطى (البرجوازية) ثم يؤلفون فيما بينهم أحزابا يعارض بعضها البعض. وتفقد العبارة المشهورة التي صاغتها الناقدة التي اشتهرت برحلتها في ألمانيا وكتابتها عن الأدب الألماني، مدام دي ستايل، وهي أن الأدب هو التعبير عن المجتمع؛ تفقد هذه العبارة معناها.
ويتكرر في الأدب ما حدث في الثورة من احتجاج على المجتمع القائم، ويصبح أدب الرفض أو أدب «المستقبل»، وأخيرا يصبح أدب انعزال فخورا بوحدته وانفراده. وتتحقق فكرة روسو من أن الأصالة في الأدب تعتمد على الشذوذ والغرابة فتؤمن بها هذه الأجيال والأجيال اللاحقة.
ما من شك في أن تجارب العذاب والألم والكآبة والعدمية التي تغنى بها الشعراء كاذبين أو صادقين قد أطلقت كثيرا من طاقاتهم الكامنة، وأدت للشعر نفسه خدمات جليلة، فلقد ازدهر الشعر الفرنسي في ظل الحركة الرومانتيكية وبلغ قمة مجده الذي استمر قرابة ثلاثة قرون. والذي يقرأ هذا الشعر سيجد فيه أشياء رائعة لا يقلل من روعتها أنها لم تنتشر على صعيد القارة الأوروبية. لقد استفاد من تلك الفكرة التي ذاعت في كل مكان من أن الشعر هو اللغة الأولى أو اللغة الأم للبشرية، اللغة الشاملة للذات الشاملة التي لا تعرف حدودا فاصلة بين المواد والموضوعات، ولا تعرف كذلك الحدود الفاصلة بين الحماس الديني والحماس الشعري. وقد استطاع الشعر الرومانتيكي في فرنسا أن يعمق التجارب الباطنة ويلونها، ويتأثر تأثرا خلاقا بالأجواء الغريبة في بلاد الجنوب وبلاد الشرق، ويبدع أجمل الشعر وأرقه في الحب ووصف الطبيعة، ويثبت قدرته الفائقة على التمكن من الصنعة. سنحس بهذا الشعر الخطابي الخصب الذي يومض كاللهب عند فيكتور هيجو، وسنرى مع ذلك أنه قد يوفق، في أحيان كثيرة إلى التعبير عن لواعج الباطن، توفيقه في رسم صور نابضة بالحياة. وسنجد في شعر موسيه مزيجا من التهكم المرير والألم الدفين، وفي شعر لامارتين عذوبة النغم الصافي الذي وصفه بأنه ناعم الملمس كالقطيفة.
ولو أردنا أن نفتش هنا عن بدايات الشعر الحديث والمعاصر لوجدناها في الاهتمام باللغة، والبحث عن الطاقات الكامنة في الكلمة . إن فيكتور هيجو لم يكتف بتطبيق هذا على شعره بل حاول أيضا أن يبرره ويثبته مستعينا بعدد كبير من الشعراء السابقين عليه. اقرأ مثلا هذه العبارة من تأملاته
contemplations : «الكلمة كائن حي، وهي أقوى ممن يستخدمها؛ إنها وهي التي خرجت من الظلام تخلق المعنى الذي تشاؤه، إنها هي ما ينتظره منها الفكر والرؤية والعاطفة في الخارج وأكثر منه أيضا، هي اللون، والليل، والفرح، والحلم، والمرارة، والمحيط، واللانهاية، إنها كلمة الرب ...»
وسوف يكون علينا أن نذكر هذه العبارة كما نذكر عبارات أخرى جاءت على لسان ديدرو ونوفاليس إذا أردنا أن نفهم فكرة مالارميه عن قدرة اللغة على المبادرة والمبادأة، وإن كنا سنجد عند مالارميه من الضبط والإحكام ما لم نجده في عبارة هيجو المتوهجة بالحماس. (6) الشذرة والمسخرة
ربما بدا عنوان هذه الفقرة غريبا منفرا، ولكنه يدل على فكرتين من الأفكار الرئيسية في مفهوم الشعر الحديث. ونبدأ بنظرية المسخرة (أو الجروتيسك) التي شرحها فيكتور هيجو في المقدمة المشهورة التي كتبها لمسرحيته «كرومويل (1827م)». والنظرية جزء من نظريته في الدراما، وتعد في الحقيقة من أعظم ما أضافته الرومانتيكية الفرنسية. ولعل جذورها أن تكون ممتدة في أقوال فريدريش شليجل عن الدعابة والتهكم اللذين تتصل بهما معان أخرى تحدث عنها أيضا مثل الاختلاط (الكاوس)، والخفة الأبدية، والتهريج المتعالي (الترنسندنتالي) وطابع الجزئية أو الشذرة. ذلك شيء نرجحه ولا نقطع به، اعتمادا على ما قلناه من تأثر الرومانتيكيين الفرنسيين بجيرانهم الألمان، وبخاصة نوفاليس وشليجل.
مهما يكن من شيء فقد ومضت في مقدمة فيكتور هيجو (وكان عمره إذ ذاك خمسة وعشرين عاما) بعض الخواطر الأصيلة التي تنبئ بأحد المظاهر الرئيسية في الشعر الحديث وإن كان من الواجب مع ذلك ألا نقيسها بمقياس عقلي دقيق، ونقصد بذلك خواطره عن السخرية والمسخرة.
وقد كانت كلمة المسخرة في بداية الأمر تعبيرا يرد في لغة الرسامين للدلالة على الزخارف التي كانت ترسم على هامش اللوحات أو التهاويل التي تمثل ما يشبه الإطار المحيط بها وتصور في الغالب موضوعات خرافية. ثم اتسع مفهوم الكلمة منذ القرن السابع عشر وانتشر في مجالات الأدب والفن المختلفة فأصبحت تدل على كل غريب أو عجيب أو مضحك أو مشوه تشويها يبعث على السخرية.
كان هذا هو الذي فعله فيكتور هيجو، ولكنه زاد على هذه المعاني كلها معنى القبح. فهو لم يتوسع في نظريته عن المسخرة فحسب، بل سوى بين الجمال والقبح، وتلك في الحقيقة هي أهم خطوة خطاها الشاعر الفرنسي، وكان لها بعد ذلك أبعد الأثر في نظرية الشعر الحديث، ففكرة القبح التي كان ينظر إليها نظرة الإزراء ولا يسمح بها إلا في الأنواع الأدبية المنحطة أو على هامش الفنون التشكيلية؛ قد ارتفعت قيمتها حتى أصبحت قيمة ميتافيزيقية.
وفيكتور هيجو يصدر في هذا كله عن فكرته عن العالم الذي يراه في حقيقته منقسما على نفسه إلى أضداد متصارعة، كما يرى أنه لا يتحد مع نفسه إلا بفضل هذا الصراع بين الأضداد. والفكرة قديمة قدم هيراقليطس، ولكن الذي يضيفه شاعرنا هو الدور الجديد الذي تقوم به فكرة القبح في نظريته؛ فلم يعد القبح قيمة مضادة للجمال، بل أصبح عنده قيمة مستقلة بنفسها، تظهر في العمل الفني على صورة المسخرة، أي على صورة كيان ناقص مشوه متنافر. والنقص كما يقول هيجو: «هو أنسب وسيلة لتحقيق الانسجام.» وإذن ففكرة التجانس قد غيرت مدلولها القديم بحيث أمكن أن يدخل فيها التنافر وعدم الانسجام، ونقصد به تنافر الأجزاء أو الشذرات الناقصة، ووظيفة المسخرة أن تريحنا من الجمال وتجنبنا رتابته «بصوتها الزاعق». إنها تعكس على مرآتها ذلك التنافر أو النشاز القائم بين المراتب الحيوانية والمراتب الإنسانية العليا، وتشوه الظواهر أو تفتتها إلى قطع متناثرة معبرة عن أن «الكل العظيم» لا يمكن أن يدرك إلا على صورة شذرات؛ لأن إدراك الكل يتعارض مع طبيعة الإنسان.
ولكن ما هو هذا الكل؟ الغريب أن فيكتور هيجو لا يجيب على هذا السؤال أو يجيب عنه إجابة مضطربة. ولعله أراد أن يجيب عنه إجابة مسيحية، كأن يقول مثلا إنه العلو (أو الترانسندنس) الخالي من كل حقيقة.
المهم أنه لا يرى منه إلا حطامه الذي يتبدى له على هيئة نتف ممزقة تثير المسخرة وإن كانت لا تثير الضحك ولا تتصل به، ولو كان فيه شيء يضحك لكان ضحكا أقرب إلى التهجم والفزع والتكشير عن الأنياب؛ ضحكا من ذلك النوع الذي يبعث على الإحساس بالقلق والتوتر الذي تتطلع إليه النفس الحديثة أكثر مما تتطلع للهدوء والراحة والاستقرار.
تلك نظريات رومانتيكية سنجدها بعد سنوات قليلة عند كاتب مثل تيوفيل جوتييه. إنها بعض من هذه الجراح التي تحدث عنها بودلير وذكرناها في الصفحات السابقة. وهي تمهد الطريق على كل حال لقصائد فيرلين عن المهرجين، ولكثير من شعر رامبو وترستان كوربيير، كما تشير إلى «المزاج الأسود» الذي عرف عن السرياليين وسلفهم لوتريمو، وإلى كل ألوان العبث والمحال التي نلمسها لدى المعاصرين. وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على الحقيقة الشاملة المتعالية (أو ما يعرف في لغة الفلسفة بالترانسندنس)
5
التي استحالت عند المحدثين إلى شذرات ممزقة وألوان وأنغام متنافرة، فلم يعد أحد يعتقد بكليتها وشمولها أو يؤمن بانسجامها وتجانسها.
الفصل الثاني
بودلير (1821-1867م) شاعر العصر
الحديث
العالم ممل وصغير اليوم وأمس وغدا. ***
تمهيد
ما من شاعر استحق هذه التسمية مثل بودلير؛ فلم يقتصر أثره على الشعر الحديث من بعده إلى يومنا الراهن فحسب، بل امتد كذلك إلى نظريات فن الشعر التي تتحدث عن طبيعة بنائه وظواهره وقضاياه.
صار الشعر الفرنسي بعد بودلير مسألة تعني القارة الأوروبية كلها. ويكفي أن نذكر تأثيره على الإنتاج الشعري في ألمانيا وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، بل يكفي أن الفرنسيين أنفسهم سرعان ما تبينوا أن هذا الشعر كان أبعد أثرا من شعر الرومانتيكيين، وأن التيارات الجديدة التي انبعثت منه كانت أعظم قوة وأشد إثارة. لقد نفذ في قلوب فيرلين ورامبو ومالارميه، واعترف هذا الأخير بأنه بدأ من حيث انتهى بودلير. ولم يتردد شاعر كبير مثل فاليري في أن يتتبع قبل موته بقليل ذلك الخط المباشر الذي يصل من بودلير إليه، ثم جاء صوت الشاعر العظيم توماس إليوت ليؤكد في دراسته الهامة عنه أن بودلير هو أعظم مثل للشعر الحديث في أية لغة من اللغات. ولسنا بحاجة إلى الاستطراد في هذه النماذج والنصوص؛ فكل من يقرأ بودلير اليوم يعرف بغير شك أنه الرائد الذي وضع أساس هذا البناء الشامخ الغريب الذي نسميه بالشعر الحديث. بل إن القارئ الذكي لن يعدم أثره هنا وهناك على رواد شعرنا العربي الجديد.
لا غرابة إذن في أن يكون بودلير هو شاعر العصر الحديث، وأن يحس هو نفسه أنه جدير بهذه التسمية؛ فهو الذي استخدم الكلمة لأول مرة في سنة 1859م، واعتذر عن غرابتها وجدتها، ثم اضطر إليها للتعبير عما يميز الفنان الحديث. وما يميز الفنان الحديث هو أن يحيا في صحراء المدينة الكبيرة فلا يرى سقوط الإنسان فحسب، بل يحس كذلك بنوع من الجمال الغامض الذي لم يكتشف من قبل، والواقع أن هذه هي نفسها مشكلة بودلير: كيف يمكن أن يحيا الشعر في ظل المدنية التي سيطرت عليها التجارة والصناعة؟ ونستطيع أن نقول إن شعره يشير إلى الطريق، ونثره يتأمله ويتفكر فيه.
ولكن إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ إنه طريق الخروج من سجن الواقع الضيق، طريق النجاة من تفاهته إلى منطقة السر. ولكن ما يميز بودلير أيضا أنه يأخذ معه عناصر هذه المدنية المثيرة وهذا الواقع التافه إلى تلك المنطقة الغامضة التي قد تكون في أعماق الحضيض أو في أعالي القمم، وأنه يضفي عليها رفيف الشعر واهتزازه وخلجاته، ولا نبالغ إذا قلنا إنه بهذا يمهد للشعر الحديث ويلمس طبيعته السحرية القاسية في آن واحد.
لعل أهم ما يميز بودلير هو دقة عقله ونصاعة وعيه الفني. إن العبقرية الشعرية والذكاء النقدي يتحدان في طبيعته. وآراؤه في فن الشعر وطبيعة الخلق الشعرى تقف على مستوى واحد مع إنتاجه، بل قد تزيد عليه في أهميتها وخطرها، شأنه في ذلك شان الشاعر الرومانتيكي نوفاليس الذي تعد آراؤه المنثورة في شذراته أهم بكثير من أعماله الأدبية، وأقوى منها تأثيرا على الأجيال من بعده. وقد جمع بودلير أفكاره وآراءه تلك في مجموعتين من المقالات هما «تطلعات جمالية» و«الفن الرومانتيكي».
1 (وقد نشر كلاهما في سنة 1868م بعد موته.) وفي هذين الكتابين تفسيرات عديدة لأعمال فنية عاصرها بودلير، لا في الأدب وحده، بل كذلك في الرسم والموسيقى. وهي ظاهرة يتكرر فيها عند بودلير ما لمسناه من قبل عند ديدرو من استفادة بالفنون الأخرى في معرفة طبيعة الأدب والخلق الشعري. ولكن تحليلات بودلير وتفسيراته تزيد عن ذلك كله في أنها تقدم تحليلا لضمير العصر ولفكرة الحداثة بوجه عام، ينبع من إيمانه بأن الأدب والفن هما التعبير عن روح العصر وقدره. وهو بهذا يخطو الخطوة الأولى على الطريق الذي سيقطعه مالارميه فيما بعد، وأعني به الطريق إلى الشعر الأنطولوجي (الوجودي) ونظريته الوجودية في فن الشعر. (1) التخلي عن النزعة الشخصية
طرق كثير من الباحثين موضوع العلاقة بين بودلير وبين الرومانتيكيين ونود هنا أن نتحدث بإيجاز عن الدوافع والأسباب التي مكنت بودلير من تحويل التراث الرومانتيكي إلى لون جديد من الأدب والتفكير، أدى بدوره إلى لون جديد من الشعر الغنائي عند المتأخرين.
ويحسن أن نبدأ هذا الحديث بالكلام عن ديوان بودلير الشهير «زهور الشر» (1857م).
وزهور الشر ليست من شعر الاعتراف الذاتي في شيء، وليست كذلك من قبيل المذكرات الشخصية الخاصة التي يسجل فيها الأديب قصة حياته وآلامه، على الرغم مما نجده فيها من عذاب شاعر وحيد شقي مريض. ولم يحدث أن دون بودلير تاريخ كتابة قصائده، كما فعل فيكتور هيجو على سبيل المثال. ولو حاولنا الربط بين إحدى هذه القصائد وبين ظروف حياته لما خرجنا من ذلك بشيء يلقي بعض الضوء على موضوعها. ولذلك فلا بد من القول بأن بودلير أول شاعر حديث تنفصل حياته عن أدبه، وإذا أردنا المزيد من الدقة أمكننا أن نقول إن الاتجاه إلى التخلي عن النزعة الشخصية والعواطف الذاتية في الشعر الحديث قد بدأ مع بودلير. وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة قلنا إن الكلمة الشعرية لديه لم تعد تصدر عن وحدة تجمع بين الشعر والشاعر الحي كما حاول الرومانتيكيون ذلك وحققوه إلى حد كبير، على خلاف قرون كثيرة سابقة من الإنتاج الأدبي. وكلام بودلير في هذا الموضوع يستحق أن يؤخذ مأخذ الجد. ولا يقلل من شأنه أنه يعتمد فيه على كلام مشابه قال به الكاتب الشاعر الأمريكي إدجار آلان بو الذي ترجم بودلير العديد من مقالاته وأقاصيصه.
كان «بو» أول من فصل فصلا حاسما بين الشعر والشاعر أو بين الكلمة والقلب. كان يريد أن يكون موضوع الشعر هو العاطفة المتأججة، على أن تكون عاطفة لا صلة لها بالعاطفة الذاتية أو الشخصية ولا بما سماه «نشوة القلب».
2
إنه يريد بها نوعا من الحساسية الشاملة، يسميها في بعض الأحيان «الروح» ليسرع بعد ذلك بقوله: «لا القلب!»
وبودلير يكرر في هذا الموضع - وفي مواضع أخرى عديدة من آرائه النقدية - ما يقوله «بو»، وإن عدل بعض الشيء في صياغته. فهو يقول مثلا (ص1031 وما بعدها): «إن مقدرة القلب على الإحساس ليست في صالح العمل الأدبي.»
ماذا يكون إذن في صالحه؟ مقدرة المخيلة على الإحساس. ولكن ماذا يفهم بودلير من كلمة المخيلة أو ملكة الخيال؟ هي عنده قوة تعمل بتوجيه من العقل (وسنعود لذلك بالتفصيل فيما بعد).
ولذلك ينصح الشاعر بالبعد عن كل نزعة عاطفية ذاتية، والانصراف إلى «المخيلة الناصعة» التي تستطيع في رأيه أن تنهض بواجبات لا تقوى عليها العاطفة. ويقول أيضا على لسان الشاعر «إن مهمتي تخرج عن الحدود البشرية» (ص1044). كما يقول في إحدى رسائله إنه يتعمد أن تكون أعماله الأدبية غير شخصية، أي تكون قادرة على التعبير عن كل الأحوال الوجدانية التي يمكن أن يحس بها الإنسان، والأحوال المتطرفة، منها بوجه خاص. أليس ثمة مكان للدموع؟ أجل، ولكنها الدموع التي لا تنحدر من القلب. والشعر لا يكون شعرا بحق حتى يثبت مقدرته على أن يضع القلب في حالة حياد.
يريد بودلير للذات (أي جماع العواطف والانفعالات الشخصية التي أسميناها بالقلب) أن تكون في حالة حياد. وهو بذلك يضع يده على ملمح هام من ملامح الشعر الحديث، وأعني به نزعة التجرد من الذاتية، أو اطراح النزعة البشرية كما يسميها بعض النقاد، ونحن نجد في إنتاج بودلير وفي آرائه النقدية ذلك التخلي عن الذاتية الذي سيؤكد «أورتيجا أي جاسيه» و«إليوت» وغيرهما أنه شرط ضروري لصدق الشعر ودقته.
ومع ذلك فلا يجب أن نفهم من هذا أن بودلير يلغي «الأنا» أو «الذات»، لأن قصائد «زهور الشر» تكاد كلها تتحدث عن «الأنا» أو تعبر عنها. فبودلير شاعر عاكف على نفسه بكل ما في كلمة العكوف من معنى (ولا أقول الانطواء حتى لا تفسر الكلمة بمعنى المرض النفسي أو غيره من التفسيرات النفسية السخيفة)! ومع ذلك فيندر أن يلتفت هذا العاكف على نفسه عندما يكتب شعره إلى ذاته التجريبية أو الشخصية. إنه يعبر عن نفسه من حيث هو إنسان يتعذب بروح العصر الحديث ويعاني آلامه، ومن حيث هو شاعر يدرك هذه الحقيقة ويعيها تمام الوعي. إنه واقع في أسرها، وما أكثر ما قال إن العذاب الذي تقاسيه ليس عذابه هو وحده! بل إن بعض قصائده التي لا تزال تعلق بها بقية من عذابه الشخصي لا تعبر عن هذا العذاب إلا بطريقة غامضة وغير دقيقة. ولذلك فلا نستطيع أن نتصور مثلا أنه كان في إمكانه أن يكتب قصيدة من نوع القصيدة المشهورة التي كتبها فيكتور هيجو عن موت طفل. إنه يتعمق ذاته الشخصية تعمقا منهجيا دقيقا ليفتش عن كل القيم والآلام «غير الشخصية» أو «فوق الشخصية» التي يعانيها عصره كله: القلق، والضياع والسقوط، وانهيار النفس التي تشتاق إلى عالم مثالي تراه يتدهور في هوة الفراغ، وهو يتحدث عن هذا القلق النفسي الذي يعانيه تحت وطأة هذا القدر.
والواقع أن «القلق» والقدر، من الكلمات الدالة على فكر بودلير، كما أن «التركيز» و«التمركز» من مفاتيح شخصيته، وكأني به قد اتخذ لنفسه شعارا كلمة أمرسون: «البطل هو الذي لا يشغله عن التركيز شيء.» أما الكلمات المضادة فهي «التفكك» و«الدعارة»؛ والأخيرة تعني الاستسلام، والتخلي عن القدر الروحي، والهروب إلى الآخرين، والخيانة عن طريق التشتت. وكلها كما يؤكد بودلير من ظواهر المدنية الحديثة كما هي من الأخطار التي عاهد نفسه أن يحميها من شرها، وإنه لقادر على ذلك بفضل القدر الذي هيأته له طبيعته، وبفضل التركيز على «الأنا» التي تخلصت من الأعراض الشخصية وارتفعت حتى صارت وعاء يحتوي العصر كله. (2) التركيز والوعي بالشكل؛ الشعر والرياضة
ليس بودلير من الأدباء الذين تقاس خصوبتهم بعدد الموضوعات التي يطرقونها، بل بمدى العمق في تناولها. فلقد تناول عددا قليلا من الموضوعات التي ظل طوال حياته يدور في فلكها ويرجع إليها بالتهذيب والتنقيح من حين إلى حين. ومن المدهش حقا أنها تظهر في الأربعينات، أي في فترة مبكرة من حياته، وأنه لم يكد يزيد عليها بعد ذلك شيئا ذا بال، بل ظل منذ ظهور «أزهار الشر» حتى وفاته لا يكاد يخرج عن دائرتها. هذه الموضوعات القليلة التي ساعدت مقالاته ومذكراته الشخصية ورسائله على تثبيتها والتركيز عليها، تتخلل ديوانه وتجعل منه ما يشبه النسق المنظم أو الكيان العضوي الحي. وهي على قلتها أقرب إلى أن تكون تحولات أو متنوعات على لحن رئيسي واحد يفيض بالألم والصراع، ونستطيع أن نسميه لحن التوتر بين النزعة الشيطانية والنزعة المثالية. هذا التوتر يظل قائما بلا حل أو نهاية، ولكنه يظل كذلك محتفظا بالنظام والتسلسل اللذين يميزان كل قصيدة على انفراد.
والواقع أننا لن نفهم تطور الشعر الحديث حتى نفهم هذا التوتر الذي سيصل إلى غايته في شعر رامبو فيصبح لحنا من النشاز المطلق الذي تحطم فيه كل تماسك ونظام، ويزيد حدة وعنفا في شعر مالارميه وإن طرق به موضوعات أخرى وخلق له لغة جديدة غامضة موغلة في الغموض. •••
لقد حذر بودلير كما رأينا من الاستسلام «لنشوة القلب». وتركز قصائده على عدد من الموضوعات القليلة يحقق هذا الغرض. صحيح أن هذه النشوة قد تظهر في بعض شعره، ولكنها ليست هي الشعر نفسه بل مادته. ففي رأيه أن الفعل المؤدي إلى الشعر الخالص فعل كله جهد وتعب وبناء ومعمار وتجريب متصل لطاقات اللغة وبواعثها. ولقد نبه بودلير إلى أن زهور الشر لا تريد أن تكون مجرد «ألبوم» يضم عدة قصائد، وإنما هي كل متكامل يبدأ وينمو وينتهي إلى غاية. قد لا تخرج من ناحية المضمون عن مجموعة من العواطف السلبية كاليأس والشوق إلى الموت والشلل والتطلع المحموم إلى المثال والانفعالات الشاذة. ولكن هذه العواطف كلها محصورة في إطار من التأليف المحكم المدروس. ولذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا إن زهور الشر - بجانب أغاني بتراركا وديوان أنشودة لجيان الإسباني - هي أكثر مجموعات الشعر الأوروبي الحديث دقة وإحكاما، ولقد راعى بودلير في كل ما أضافه إليها بعد ظهور الطبعة الأولى سنة 1845م أن يكون متفقا مع الإطار العام الذي وضعه لها منذ البداية. بل إن حرصه في تلك الطبعة على أن يكون عدد القصائد مائة تقسم إلى خمس مجموعات، يدل على حرصه الشديد على دقة الشكل والبناء. صحيح أن هذه النزعة الشكلية عنصر مشترك بين أبناء الروح الرومانية أو اللاتينية، ولكن الآثار الباقية من التفكير المسيحي في شعره تدل من ناحية أخرى على تأثر البناء الشكل لقصائده بالاتجاه الرمزي العام الذي غلب على أواخر العصور الوسطى، عندما كانت أشكال التأليف الأدبي انعكاسا لنظام الكون الذي خلقه الله.
تخلى بودلير في الطبعات التالية من زهور الشر عن ذلك العدد الكامل، ولكنه لم يتخل عن النظام الداخلي الذي يربط بين قصائدها، بل زاده قوة. والنظرة العابرة إلى الديوان الشهير تكفي لتعرف هذا النظام. فبعد أن يبدأ بقصيدة تمهد للديوان كله «إلى القارئ» نجد المجموعة الأولى «ملال ومثال» تتناول التضاد القائم بين الارتفاع والسقوط، والثانية «لوحات باريسية» تشير إلى محاولة الفرار إلى عالم المدنية الكبيرة، والثالثة «النبيذ» تصور الانطلاق إلى جنة مصطنعة.
ولكن الشاعر لا يجد الراحة التي كان ينشدها؛ ولذلك يستسلم لإغراء التخريب والتدمير الذي تدور عليه قصائد المجموعة الرابعة التي جعل عنوانها «زهور الشر» عنوانا للديوان كله. وينتهي به التخريب والتدمير إلى التمرد الساخر على الله في المجموعة الخامسة «تمرد». ولا يبقى أمامه إلا التماس الراحة في الموت، هذا المجهول المطلق. وبذلك ينتهي الديوان بالمجموعة السادسة والأخيرة «الموت».
ولا يقتصر هذا البناء المعماري على تكوين الديوان في مجموعه، بل يتخلل المجموعات نفسها كنوع من التسلسل الديالكتيكي للقصائد. ولذلك نجد الديوان كله أشبه بنسق أو نظام متحرك، تتغير خطوطه من الداخل، ويسير في اتجاهه العام كالمنحنى من أعلى إلى أسفل. ونهاية المطاف في الحضيض أو الهاوية. والأمل في الجديد لن يكون إلا فيها. ولكن ما هو هذا الجديد؟ عبثا نبحث عن اسم له. فالأمل المعلق بالهاوية لا يعرف له كلمة تسميه.
زهور الشر إذن بناء منظم مقصود، وهذا وحده يؤكد بعد بودلير عن الرومانتيكيين الذين لم تكن دواوينهم الشعرية سوى مجموعات من القصائد رتبت كيفما اتفق، وعبرت بذلك من ناحية الشكل عن عفوية الإلهام وخضوعه للصدفة والاتفاق. وهو يؤكد أيضا أهمية الدور الذي تؤديه الطاقات الشكلية في أدب بودلير. فليست هذه الطاقات والقوى الشكلية مجرد حلية أو تقليد، ولكنها وسيلة الإنقاذ التي يلجأ إليها الشاعر للنجاة من الأزمات الروحية التي تحاصره بالقلق والعذاب. ولقد عرف الأدباء والشعراء دائما هذه الحقيقة البسيطة أو هذا العزاء الوحيد: إن الغناء يبدد الألم والعناء، والتعبير يرتفع بالتعاسة والشقاء. وعرفوا دائما أنه لا سبيل إلى التطهر من العذاب حتى يتحول أو يتشكل عن طريق الكلمة. فلما جاء القرن التاسع عشر وتحول العذاب الخصب إلى صحراء مجدبة بالوحشة والضياع والعدم، أصبح الشكل هو المنقذ الوحيد. وكان حتما أن تكون العلاقة بين الشكل المحكم المستقر الهادئ وبين المضمون القلق المتوتر علاقة تنافر ونشاز. ومثلما انفصلت القصيدة عن القلب تباعد الشكل عن المضمون، وأصبحنا نواجه أحد الملامح الرئيسية في الشعر الحديث، وهو التنافر أو النشاز.
سيبقى المضمون متفجرا كالبركان بالعذاب والقلق والتناقض. وسيكون على الشاعر أن يبحث عن النجاة في تجاربه الشكلية مع اللغة.
ويعبر بودلير في مواضع كثيرة من كتاباته عن الشكل كوسيلة للنجاة والإنقاذ. فهو يقول مثلا : «إن المزية المدهشة للفن هي أن الشيء المفزع المخيف يصبح جميلا إذا عبر عنه تعبيرا فنيا، وإن الألم الذي يدخله الإيقاع والتكوين يملأ الروح بالفرح الهادئ» (ص1040). والعبارة وإن شابها بعض الغموض تفصح في الواقع عن اقتناع بودلير بتفوق إرادة الشكل على إرادة التعبير، وعن شوقه إلى التماس الأمان والاطمئنان في الشكل، والبحث عن «خاتم الأمان المنقذ» كما سيقول الشاعر الإسباني جيان في إحدى قصائده، وهو يقول في موضع آخر: «من الواضح تماما أن قوانين الوزن ليست قوانين طاغية اختلقت اختلاقا؛ إنها قواعد تتطلبها بنية العقل نفسه. ولم يحدث أبدا أن كانت عقبة في طريق الأصالة، بل إن العكس هو الأصح إلى أبعد حد؛ فلقد كانت دائما خير عون للأصالة على النضوج» (ص779). وسيعود علم من أعلام الموسيقي الحديثة وهو سترافنسكي إلى هذه العبارة نفسها في كتابه «فن الموسيقى» كما ستتكرر الفكرة بعينها عند مالارميه وفاليري. ولم يرجع هؤلاء إلى هذا النص لمجرد أنه يؤكد وعي الروح اللاتينية بالشكل، بل لأنه يدعم التجربة العملية التي يمارسها المحدثون ويؤثرونها على غيرها، هذه التجربة التي تجعلهم يتناولون القواعد المتواضع عليها في القافية، وعدد المقاطع في البيت الواحد وبناء المقطوعة في القصيدة كما لو كانت أدوات تؤثر بدورها على اللغة وتنتزع منها إمكانيات وتضطرها إلى ردود أفعال لم يكن المضمون الأصلي وحده ليصل إليها بنفسه.
أثنى بودلير ذات مرة على الرسام الفرنسي دومييه، فقال إن لديه المقدرة على تصوير كل ما هو منحط وفاسد وتافه في صورة واضحة دقيقة. ولقد كان في استطاعة بودلير أن يطبق هذا الكلام على نفسه. فإنتاجه الأدبي يجمع بين الألم المميت والدقة الشديدة في وحدة واحدة، ويمهد بذلك للشعر الذي سيجيء بعده. وقد كان نوفاليس وإدجار بو أول من أدخل فكرة الحساب الدقيق في نظرية الأدب. والتقط بودلير الفكرة فوجدناه يقول مثلا في معرض كلامه عن سمو الفن على الطبيعة الخالصة: «الجمال هو حصيلة العقل والحساب» (ص911). بل إن الإلهام يبدو له طبيعة أو فطرة محضة، وذاتية غير نقية. ولو أن أديبا أنتج بدافع الإلهام وحده لما استطاع أن ينتج غير الخلط والاضطراب. مرحبا بالإلهام لو سبقه الجهد الفني الطويل والتدريب والمران الشاق. عندئذ يكتسب تلك الرقة التي نلمسها في راقص كسر عظامه في الخفاء آلاف المرات قبل أن يسمح لنفسه بالظهور أمام الجمهور!» (ص1133).
لن يخفى على القارئ من هذه العبارات كلها أن بودلير يؤكد دور اللحظات الإرادية والذهنية في فعل الخلق الأدبي. إنه يلجأ إلى فكرة الرياضة التي سبق أن لجأ إليها نوفاليس. فهو مثلا يشبه الأسلوب الدقيق «بمعجزات الرياضة». وهو يقول إن الاستعارة تنطوي على قيمة «الدقة الرياضية». وهو يستند بالطبع في هذه الأفكار كلها إلى «بو» الذي تكلم كثيرا عن صلة القرابة التي تجمع بين المشكلات الأدبية وبين «المنطق الدقيق في إحدى المشكلات الرياضية»، هذه كلها أمور سيكون لها أعظم الأثر على مالارميه، وسيمتد هذا الأثر كما سنرى على فن الشعر المعاصر كله. (3) الشعور بنهاية الزمن والشعور بالحداثة
أشرنا من قبل إلى مسافة البعد التي تفصل بودلير عن الرومانتيكيين وقلنا إن هذا البعد يتجلى في اختياره للموضوعات التي يتناولها ويؤثرها على غيرها.
ولكن هذا لا يمنع أنه قد ورث الكثير عن الرومانتيكية وإن كان قد حول هذا الموروث إلى تجربة قاسية تبدو تجارب الرومانتيكيين إلى جانبها أشبه باللهو والعبث. كان الرومانتيكيون قد ساروا خطوات في تفسيرهم الإسكاتولوجي للتاريخ (الذي انتشر منذ أواخر عصر التنوير وإن كانت له جذوره القديمة) وهو تفسير يعتبر الزمن الحاضر نهاية الزمن. ومع ذلك فقد ظل تفسيرهم هذا نوعا من الإحساس الحزين الرقيق الذي يعرو النفس حين تشاهد شمس الحضارة الآفلة ترسل ألوانها الجميلة الشاحبة.
وبودلير يضع نفسه وعصره في نهاية الزمن، ولكن صوره وعواطفه مختلفة كل الاختلاف. إن هذا الشعور بنهاية الزمن، وهو شعور يتغلغل في الروح الأوروبية منذ القرن الثامن عشر إلى اليوم، يظهر لديه في صورة حادة، مفزعة ومفزوعة في آن واحد. ويبدو هذا في قصيدته «غروب شمس الرومانتيكية» التي كتبها في سنة 1860م. فالقصيدة تضم مجموعة من الصور التي يأفل فيها النور والفرح حتى تغرق في ظلام الليل البارد ورهبة الخوف الفظيع من المستنقعات والحيوانات البشعة:
ما أجمل الشمس عندما تشرق وهي مكتملة النضارة،
وتلقي علينا بتحية الصباح مثلما يدوى (صوت) انفجار!
سعيد ذلك الذي يستطيع في حب
أن يحيى غروبها الذي يزيد في روعته عن حلم!
ما زلت أذكر! رأيت كل شيء، الزهرة، والنبع، والأثر،
تنتفض تحت عينها كالقلب الخفاق.
هلموا بنا نجري نحو الأفق، تأخر الوقت، فلنسرع الجري،
فقد نلتقط على الأقل شعاعا مائلا!
لكن عبثا أسعى وراء الإله الذي يتوارى؛
الليل الذي لا يقاوم ينشر سلطانه،
أسود، رطبا، فظيعا، وشديد الرعب؛
رائحة القبر تسبح في الظلمات،
وقدمي المتوجسة تدوس على حافة المستنقع،
على الضفادع والقواقع الباردة.
وليس من العسير أن نفهم رموز القصيدة. فهي تدل على الظلام الكالح المطبق وفقدان النفس لشعاع الأمل الذي تبقى لها في الغروب. ولا بد للشاعر أن يتشبث بالظلام والشذوذ حتى يستطيع أن يقول شعرا يتفق وروح العصر وقدره. الظلام هو الملجأ الوحيد الذي تبقى للنفس الموحشة الغريبة على ذاتها، والمكان الوحيد الذي تستطيع أن تبدع فيه الشعر وتهرب من تفاهة «التقدم» الذي يتقنع به الزمن الأخير؛ ولذلك فليس عجيبا أن يصف بودلير «أزهار الشر» بأنها «لحن نشاز من وحي آلهة الزمن الأخير».
وبمثل ما اختلفت نظرة بودلير إلى الزمن الأخير أو نهاية الزمن عن الرومانتيكيين اختلفت كذلك نظرته إلى فكرة الحداثة. والفكرة عنده مركبة شديدة التعقيد. فهي من الناحية السلبية تدل على عالم المدن الكبيرة الذي يفيض بالعقم والقبح والخطيئة، عالم الشوارع المسفلتة، والأضواء الصناعية والإعلانات واللافتات البشعة، ووحدة الإنسان الضائع وسط الزحام؛ عالم التقدم والتكنيك الذي يعمل بالبخار والكهرباء. والتقدم في رأي بودلير هو ذبول الروح وضمورها بالتدريج وسيطرة المادة سيطرة تزداد كل يوم. وكثيرا ما نقرأ في كتاباته عن «الاشمئزاز اللانهائي من اللافتات، والصحف اليومية وطوفان الديمقراطية التي تسوى بين جميع الأشياء». وهذا كلام يشبه ما يقوله ستندال وتو كفيل، كما يشبه ما سيقوله فلوبير فيما بعد. ولكن بودلير يزيد على ذلك فينظر إلى الحداثة من زاوية أخرى. فهي عنده فكرة تنطوي على تنافر ونشاز، ولكنه ينتزع من جوانبها السلبية شيئا له سحره وجاذبيته. فالشر والبؤس والسقوط والظلام والتقدم الآلي والافتعال ... إلخ ؛ تنطوي كلها على عناصر مثيرة يستطيع الشاعر أن يفيد منها. لا، بل إنها تنطوي على أسرار يمكن أن توجه الشعر وجهة جديدة. وكل من يقرأ «زهور الشر» سيلاحظ مقدرة بودلير على إضفاء الروح الصوفية على ركام المدن الكبيرة وبث أنفاس الروحانية في أكوامها وقاذوراتها، وليس معنى هذا أنه يريد العودة إلى الطبيعة كما أرادها روسو. فهو يؤكد كل فعل يلغي الطبيعة، أو يعمل على تأسيس مملكة الفن والصنعة المطلقة. ونحن نحس من إحدى قصائده المشهورة أن الكتل الحجرية المكعبة التي تزدحم بها المدينة الكبيرة - وهي كتل صماء خلت من الحياة الطبيعية وأصبحت مأوى للشر والفساد - أنما تمثل حرية العقل، كما تعبر عن الروح الخالص. وسنجد أصداء هذه الفكرة المتأخرين، وسنلاحظ أن الشعر الأوروبي في القرن العشرين لا يزال ينشر هذه الغلالة الصوفية التي اكتشفها بودلير فوق المدن الكبيرة.
إن الصور التي تقدمها المدينة الكبيرة صور متنافرة تنبعث منها أنغام ناشزة. ولكنها مع ذلك أو لهذا السبب عميقة شديدة العمق. إنها توحد بين أنوار الغاز وسماء الليل، بين شذا الأزهار ورائحة القار. وهي غنية بالفرح والألم، والمتعة والشكوى، يحس القارئ أن مضمونها متنافر مع أبياته ذات الأنغام المنسجمة الموقعة. إنه ينتزعها من التفاهة كما يستخلص الصيدلي عقاقيره من النباتات السامة، فتصبح بعد تحولها الشعري وسيلة لعلاج «رذيلة التفاهة». إن كل ما تشمئز منه النفس يأتلف مع نبل النغم ويكتسب تلك «الرعشة الجالفينية»
3
التي طالما امتدحها في كتابات إدجار بو، وها هي ذي الصور تتوالى: النوافذ المتربة التي لا تزال عليها آثار المطر، واجهات البيوت الهرمة الكالحة، خضرة السم المعدنية، الفجر الذي تراه العين كأنه بقعة قذرة، أو كأنه نوم المومسات الحيواني، ضجة السيارات العامة، وجوه بلا شفاه، عجائز، موسيقي الصفيح، عطور عفنة. تلك بعض صور الحداثة عند بودلير. وإنها لحية لا تزال في قصائد شاعر مثل إليوت. (4) استطيقا القبح
ربما يبدو هذا العنوان طريفا لما فيه من مفارقة، ولكنه يمثل في الواقع حقيقة أساسية من حقائق فن الشعر الحديث، أشار إليها فيكتور هيجو، ثم أكدها بودلير، وسارت فيها الأجيال اللاحقة إلى أقصى مداها.
كثيرا ما تكلم بودلير في دراساته النظرية عن الجمال، غير أن الجمال في شعره ظل قاصرا على البناء والشكل والتناول الموسيقي للغة. لم تعد الأشياء عنده تحتمل الفكرة القديمة عن الجمال؛ ولذلك فهو يلجأ إلى الإضافات التي تدل على الغرابة والمفارقة، ليخلع على الجمال طابعة العدواني المثير. إن الجمال ينبغي أن يكون «نقيا وغريبا» كما يقول في أحد تعريفاته له، ولا بد له أن يكون غريبا حتى يحمي نفسه من التفاهة والسوقية، ويستثير الذوق التافه السوقي في وقت واحد.
ومع ذلك فقد رحب بودلير بالقبح، واعتبره معادلا للسر الجديد الذي يريد أن يغزو أرضه، ونقطة الانطلاق التي يبدأ منها الصعود إلى المثالية. إن الشاعر، كما يقول: «يوقظ في القبح سحرا جديدا.» (ص1114). فالقبيح يولد المفاجأة، وهذه تولد «الهجوم غير المنتظر». بهذا يعلن الشذوذ عن نفسه كمبدأ أساسي من مبادئ الأدب والشعر الحديث، بل كأحد العوامل والأسباب التي أدت إليه. ولا بد من إثارة الأعصاب على كل ما هو تافه وتقليدي نلقاه في حياتنا كما نلقاه كذلك في الجمال بمفهومه القديم. إن الجمال «الجديد» يمكن أن يتساوى مع القبح، وهو يبلغ القلق الذي يتميز به عندما يتلقى ما هو تافه وسطحي فيحوله أو يشوهه ويجعل منه شيئا غريبا مثيرا. وعندما يجمع بين «المفزع والمضحك» على حد قول بودلير في إحدى رسائله!
لا شك أن القارئ قد لاحظ أن هذه كلها أفكار وردت في صورة أقل من ذلك حدة عند الناقد الرومانتيكي فريدريش شليجل (في فكرته عن التهريج الترنسندنتالي) وعند فيكتور هيجو في نظريته عن المسخرة (وقد فات الحديث عنها).
وقد أعجب بودلير - فوق إعجابه المستمر بشخصية «بو» وأعماله - بعنوان: «أقاصيصه عن المسخرة والأرابسك».
4
وقد عرف بالطبع أن المسخرة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدعابة أو المرح، فهي في الحقيقة ميدان الصراع بين النزعة المثالية والنزعة الشيطانية (التي تطبع حياته وأدبه كما قدمنا). ولذلك نجده يثني على رسوم «دومييه » الكاريكاتيرية ويحيي فيها ما يسميه «بعبث المغفلين الدموي»، ليبرر سخطه على الفكاهة الخالصة أو الدعابة البسيطة، بل إنه يضع «ميتافيزيقا المضحك المطلق» ويوسع من مفهوم المسخرة ليجعل منها فكرة سيكون لها في التفكير والوجدان الحديث أثر بعيد، وهي فكرة المحال أو العبث
5 (ص710). وسيستمد من قانون العبث (ص438) تجاربه الخاصة بل وتجارب كل إنسان يجد نفسه معلقا بين السمو إلى قمة الوجد والمثال، والسقوط في قرارة الحضيض والعدم. إنه القانون الذي يحتم على الإنسان أن «يعبر عن عذابه عن طريق الضحك». وهو يتحدث كذلك عن «شرعية العبث» ويمجد الحلم لأنه يزود المستحيل بمنطق المحال المخيف.
هكذا يصبح العبث هو الأفق الذي تطل منه العين على اللاواقع هربا من سجن الواقع الضيق. وسوف يتعلم منه المتأخرون هذه النظرة. (5) إثارة السخط لذة أرستقراطية
كان من الضروري لمثل هذا الأدب الذي يحتاج إلى مثل هذه الأفكار أن يستثير أعصاب القارئ أو يصدمه ويبعده عنه. ولقد عرفنا كيف بدأ هذا التصدع في علاقة الأديب بجمهور القراء على يدي روسو ثم أدى بالرومانتيكيين إلى موضوعهم الأثير عن الشاعر الوحيد.
وقد التقط بودلير هذه الفكرة فزادها حدة، وأضفى عليها نوعا من الدرامية العدائية التي ستصبح فيما بعد طابعا عاما للأدب والفن الأوروبيين.
إنه يتحدث عن «اللذة الأرستقراطية التي تأتي من إثارة السخط» ويصف «زهور الشر» بأنها «متعة حارة بالمقاومة» وبأنها «نتاج الحقد والكراهية» وهو يرحب بأن يثير الأدب «صدمة عصبية» ويشيد بقدرته على إثارة أعصاب القارئ، وبأن هذا القارئ لم يعد قادرا على فهمه. استمع إليه وهو يقول: «إن الشعور الأدبي الذي كان فيما مضى منبعا لا نهائيا للأفراح، قد أصبح الآن ترسانة تعج بأدوات التعذيب» (ص519). ونخطئ لو تصورنا هذا كله مجرد صدى أو تقليد للنزعات الرومانتيكية ؛ فالواقع أن عوامل التنافر والنشاز الكامنة في الأدب قد صارت بالضرورة أسبابا للتنافر والنشاز بين العمل الأدبي وقارئه. (6) مسيحية محطمة
لا حاجة بنا الآن للكلام عن هذه العوامل والأسباب بالتفصيل، فربما يكون الكلام عن التنافر الأساسي في أدب بودلير وشخصيته بين النزعة المثالية والنزعة الشيطانية أخطر منه وأهم، وربما نرى فيه إحدى الخصائص الرئيسية التي تميز مضمون الشعر من بعده والتي سنصفها بالمثالية الفارغة.
يقول بودلير: «ينبغي علينا لكي ننفذ إلى روح الأديب أن نفتش عن الكلمات التي يكثر من استخدامها في أعماله؛ إن الكلمة تكشف عن الفكرة التي تتسلط عليه.» هذه العبارة يمكن أن تكون أساسا صالحا للتفسير، كما يمكن أن نطبقها على بودلير نفسه. فالإحكام الذي يسيطر على عالمه العقلي، وإصراره على تناول موضوعات قليلة العدد يدور في فلكها ويزيدها على الدوام عمقا؛ كل ذلك يسمح لنا أن نستشف عالمه من بعض الكلمات التي تتردد في أعماله. إنها المفاتيح التي نستطيع أن ننفذ بها إلى هذا العالم. وليس من العسير على القارئ المتأني أن يقسمها إلى مجموعتين متضاربتين. فهناك من ناحية كلمات كالظلام، والهاوية، والقلق، والصحراء، والقفر، والسجن، والبرودة، والسواد، والعفن ... وهناك على الجانب الآخر كلمات كالارتفاع، والزرقة، والسماء، والمثال، والنور، والصفاء ... ولا تكاد قصيدة من قصائد بودلير تخلو من هذا التضاد. بل لقد يتركز في تعبيرات تجمع هذا الصراع الجدلي في صورة مكثفة كأن يقول مثلا: «عظمة قذرة»، أو «منهار وساحر»، أو «رعب جذاب»، أو «أسود وناصع»، وعلماء الأدب يسمون هذه الوحدة التي تجمع بين طرفين لا يجتمعان عادة بالتناقض الظاهر،
6
وهي صيغة فنية من صيغ التعبير الأدبي تصلح لتصوير الأحوال والمواقف النفسية المعقدة، وليس عجيبا أن تكون هذه الصيغة الأدبية هي مفتاح شخصية بودلير وشعره. بل إن من محاسن الصدف حقا أن يوفق إليها «بابو» صديق بودلير فيسمي ديوانه «أزهار الشر».
على أن هذه الصيغ اللغوية المتناقضة تدل على شيء آخر يختفي وراءها ولا يستقيم لها معنى بدونه؛ ذلك هو التفكير المسيحي الذي لا يزال يتحرك في أعماق بودلير، وإن لم تبق منه إلا بقايا حطام. صحيح أنه لا يعد مسيحيا بالمعنى الحقيقي، ولكن من المستحيل أن نتصور وجوده بمعزل عن المسيحية.
والنزعة الشيطانية التي طالما دمغه الشراح بها لا تلغي هذه الحقيقة، بل قد تؤكد صلته العميقة بالمسيحية أو بالأحرى بما تبقى منها في نفسه. إنه يعلم أن الشيطان يأسره (وهذا وحده دليل على التفكير الديني)، ولكنه لم يعد يؤمن بعقيدة الخلاص التي تبشر بها المسيحية. ونزعته الشيطانية هي سبيله للارتفاع إلى سماء المثال وصفائه. إنها تحاول التغلب على الشر الحيواني (بما في ذلك التفاهة والسوقية) عن طريق شر آخر من صنع العقل وتدبيره، وهدفها هو الوصول إلى قمة الشر كي تنطلق منها إلى سماء المثال.
من هنا امتلأت «أزهار الشر» بألوان بشعة من الفساد والقسوة والسقوط. إن الشاعر يحس «بالعطش إلى اللامتناهي»، ولكنه يغوص إلى حضيض «الشيطان» لكي يتسنى له البحث عن الجديد. إنه إنسان ممزق؛ إنسان ذو طبيعة مزدوجة (كما قال باسكال واليونان من قبل). ثمة قطبان يتجاذبه كل منهما ويشده من ذراع، ولا بد أن يشبع نهم القطب السالب لكي يلمس أثر الموجب على روحه، لا بد أن يطيع الشيطان قبل أن يشتاق إلى السماء. ولا بد أن الشاعر قد أحس بالحاجة إلى هذا «السقوط» إحساسا ملحا وعنيفا، وليس مهما أن يكون قد تأثر بالمانوية والغنوصية والأفلاطونية أو غيرها من الأشكال والمذاهب السابقة على المسيحية، أو يكون قد عرف قليلا أو كثيرا عن نزعة الإشراق
Illumination ، التي سادت في القرن الثامن عشر أو بإيمان جوزيف دي ميستر (1753-1821م)، فأهم من ذلك كله أنه أحس بضرورة «السقوط» كوسيلة لا غنى عنها للسمو والارتفاع، وأنه بهذا يعبر عن ظاهرة أساسية من ظواهر التفكير الحديث الذي يحلو له الرجوع إلى المذاهب الفكرية القديمة كلما رأى فيها تعبيرا عن صراعه وتمزقه الباطن.
ومع هذا كله فإن بودلير لم يهتد إلى طريق المسيحية الحقة.
صحيح أنه طالما أحس في نفسه بالرغبة في الصلاة وطالما شعر شعورا عميقا بخطيئة الإنسان، ولكن الصلاة ماتت على شفتيه، وإحساسه العميق بالعجز والتمزق سد عليه الطريق إلى الله. لقد تغنى في شعره بالألم، وعانى من لعنة الخطيئة الأزلية، وعرف أن العذاب هو أنبل ما في الإنسان. وكان من الممكن أن يجعل منه هذا كله مسيحيا مخلصا، لولا أن الإيمان بعقيدة الخلاص لم يجد له مكانا في قلبه، والخلاص كما نعلم هو جوهر المسيحية وأولى حقائقها. إنه يحس باللعنة، ولكنه يتلذذ بهذا الإحساس. وهو يذكر المسيح أحيانا في شعره، ولكنه يبدو كالطيف العابر أو الاستعارة الخاطفة، كإنسان تركه الله يسقط في الهاوية. وهو يتكلم عن الشر لا كطرف واحد من طرفي الحقيقة والخلق، بل كقوة مستقلة ذات كيان وسلطان. صحيح أن هذا كله لم يكن ممكنا بغير التراث المسيحي. ولكنه لا يجعل منه مسيحيا؛ إذ لم يبق في نفسه من المسيحية إلا بقايا حطام. ولعل هذا هو الذي أكسب شعره الجرأة على الشذوذ والنشاز.
صحيح أن الشعراء المتأخرين - فيما عدا رامبو - سينسون أن هذا الشذوذ لم يأتهم إلا بعد أن تنكبوا الطريق واحتضرت المسيحية في قلوبهم. ولكن الشذوذ نفسه لا يزال على ما هو عليه. ولا يستطيع أكثر الشعراء تمسكا بالمسيحية ودعوة إليها أن ينكر أصل هذا الشذوذ أن يفلت من قبضته. ويكفي أن نقرأ إليوت لنتحقق من هذا الكلام. (7) التقابل والتماثل
كان بودلير يؤمن إيمانا تاما بالضعف البشري؛ ضعفه، وضعف القارئ «المنافق» شبيهي وأخي «كما يقول البيت المشهور في افتتاحية «زهور الشر»». شعر طوال حياته أن مثله تحكم عليه وتدينه، وأنه سيظل دائما يتخبط في دائرة خانقة من الأمل واليأس، ويتمزق بين السماء والأرض، والملاك والشيطان، والمثال والملال ... كل ما كان الأخلاقي المتطهر الكامن في أعماقه يدينه ويحتقره، كان في نفس الوقت يجذب فيه الفنان ورجل الحس والجمال. ولا شك أن هذا التناقض الأساسي هو أصل هذا العمق وهذه الحدة الغريبة التي تميز كل ما كتب. وهو لا شك أيضا علة رفضه الواضح الصريح للتوحيد بين فكرتي الخير والجمال الذي طالما وجدناه في صورة متفائلة وساذجة عند لامارتين وهيجو. ولعله أيضا أن يكون المسئول عما سميناه بنزعته الشيطانية التي تجعله ينتقل دائما من الجمال - مثله الاستطيقي الأعلى أو حلمه الحجري كما كان يسميه - إلى إغراء الجمال الأنثوي المجسد:
ما أهمية أن تأتي من السماء أو من الجحيم
أيها الجمال! أيها الوحش الهائل، المخيف، البريء!
ما دامت عينك، ابتسامتك، قدمك، تفتح لي الباب
إلى اللامتناهي الذي أحببته وما عرفته أبدا؟
بحيث يصبح «ملاكه» أو حوريته مجرد وسيلة للفرار من الواقع القاسي ومن سأم الحياة. ولعله أخيرا أن يكون المسئول عن رغبته الدائمة في التحرر ولجوئه إلى النسيان الذي وجده أحيانا في الحب أو في تجربته القصيرة مع الحشيش والأفيون أو رغبته العارمة في الانطلاق إلى مكان آخر، أي مكان خارج هذا العالم، حتى ليصبح الموت نفسه هو «النبأ الطيب» والوثبة المرحة في قرار المجهول للعثور على الجديد.
ومن شواهد هذا التقابل والتضاد في شعر بودلير أنه يؤثر التعبير عن العواطف والمشاعر بالتماثل بدلا من التقرير المباشر أو الإغراق في الوصف. تدل على هذا قصيدته المشهورة «التقابلات» أو «التجاوب»
Correspondances
التي توضح لنا جانبا من نظريته الشعرية. ولنقرأ القصيدة قبل الكلام عما تحمله من أفكار.
تجاوب
الطبيعة معبد، تنبعث من أعمدته الحية
في بعض الأحيان كلمات مختلطة،
هناك يسير الإنسان وسط غابات من الرموز،
تحدق فيه وتتأمله بنظرات أليفة. •••
وكما تختلط الأصداء المدينة من بعيد
في وحده مظلمة وعميقة،
لها رحابة الليل والضياء؛
تتجاوب العطور والألوان والأنغام. •••
هناك عطور ندية كلحم الأطفال،
عذبة كالمزامير، خضراء كالمراعي؛
وأخرى فاسدة متبرجة وظافرة، •••
شاسعة كالأشياء غير المحدودة،
كالعنبر والمسك والصمغ والبخور،
التي تتغنى بنشوة الروح والحواس.
لعل هذه «السوناتة» المعروفة أن تكون مصداقا لما أشار إليه بودلير نفسه من أن الشاعر الأصيل يملك دائما الإحساس «بالتماثل الشامل»،
7
وليس في حاجة لأحد من الفلاسفة أو المتصوفين لكي يرشده إليه، ولا لمن يقول له إن الطبيعة معبد تخرج في بعض الأحيان من أعمدته الحية كلمات مختلطة. ولكن ما معنى هذا التماثل الكلي الشامل وماذا يقصده الشاعر بغابات الرموز التي يسعى فيها الإنسان؟
الواقع أن الفكرة القائلة بأن «المادي» يرمز «للمعنوي» أو «الروحي» أقدم بكثير من الفلسفة الأفلاطونية التي تقول إن عالم الحس يماثل عالم المثل والمعقولات مماثلة الظل للأصل. بل إنها فكرة قديمة قدم الديانات جميعا. ومع ذلك فمن الخطأ أن نقول إن غابات الرموز تدل على عالم المثل الأفلاطونية.
فالمعنى الذي يقصده بودلير هو أن الأشياء في عالم الحس تترجم بطبيعتها عن أفكار ومشاعر بشرية. بل قد نستطيع القول بأن فكرة بودلير بعث للفكرة القديمة التي اشتهرت في أواخر العصور الوسطى عن الماكرو كوزم (العالم الكبير) والميكرو كوزم (العالم الصغير) فالأول مادة بأكمله وأجسامنا جزء منه، و«يقابله» أو يتجاوب معه العالم الصغير، أي الروح أو العقل الواعي وغير الواعي. ولما كان الله الذي خلق العالمين عقلا أو روحا غير متناه، فإن نماذج الأفكار الإنسانية موجودة فيه، وبهذا المعنى تكون الأرض هي مقابل السماء أو تكون الأرض ومشاهدها لمحة من السماء على حد تعبير بودلير نفسه.
وإذن فالجديد عند بودلير هو هذا النظام الكامل من التقابلات أو التماثلات التي يستغلها عن قصد كأداة للكشف والتعبير الشعري. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فهناك نمط آخر من التقابلات تخصص له القصيدة عشرة أبيات من مجموع أبياتها الأربعة عشر. فالبيت الذي يقول إن العطور والألوان والأصوات تتجاوب مع بعضها البعض إنما يعبر عن فكرة كانت معروفة في عهد بودلير، وهي أن اللون أو الصوت أو الرائحة أو الطعم أو الملمس يمكن أن تثير انفعالا أو انطباعا وجدانيا واحدا. وقد لوحظ أن بعض الأشخاص يتميزون بحساسية خاصة تجعلهم يشعرون بتشابه الانطباعات الصادرة عن الحواس المختلفة، بل إن كلامنا العادي يحفل بأمثلة كثيرة من هذا النوع كان نقول مثلا أحمر صارخ، أو زرقة ناعمة، أو جرس ذهبي. وقد تعرض بودلير نفسه لهذا في مقاله الذي كتبه عن فاجنر حيث يقول: «قد يثير الدهشة حقا ألا يستطيع الصوت الإيحاء باللون، أو لا تستطيع الألوان إعطاء فكرة اللحن، أو يعجز الصوت واللون عن ترجمة الأفكار.»
ويقودنا هذا إلى ظاهرة أخرى يسميها علم النفس الحديث «بالسينيستيزيا» ويقصد بها الارتباط التلقائي - الذي يتفاوت من فرد لآخر - بين إحساسات ذات طبيعة مختلفة تبدو كما لو كانت تثير إحداها الأخرى ، كأن يثير صوت ما إحساسا بلون أو رائحة معينة. أي أنها أشبه بعملية سحرية إذا حدث فيها تنبيه لإحدى الحواس استثار ذلك في أذهاننا كل الخصائص الحسية الأخرى التي تتصف بها تجربة أو شيء ما، وصور للخيال أنه موجود أيضا في الواقع.
والقصيدة التي نقلناها الآن تنطوي على ظاهرة «السينستيزيا»
8
بأوضح معانيها. فالأصداء الممدودة التي تتجاوب بها الألوان والأصوات والروائح تشير إلى وحدة هذه «التجربة العميقة». وهذه الوحدة ليست قائمة فينا فحسب، بل هي كذلك وحدة الكون الشاملة. فمنذ أن خلق الله العالم كوحدة مركبة غير منقسمة، والأشياء تعبر عن نفسها عن طريق التماثل المتبادل. والأبيات الأربعة الأخيرة من القصيدة تبين أن بعض الإحساسات المتصلة بالشم يمكن أن تؤدي إلى ما وصفناه بالسينستيزيا وتسبب حالة من النشوة الحسية والروحية معا.
هناك إذن أفكار ثلاث يمكن القول بأن نظرية بودلير الاستطيقية تقوم على أساسها: التقابل أو التماثل، وتكافؤ عناصر التجربة الحسية أو قابليتها للعكس، والسينستيزيا، تضاف إليها فكرة رابعة يسميها علم النفس الحديث المشاركة. ومعنى هذا كله إنه إذا كانت المعرفة العقلية تعزلنا عن الموضوع الذي نريد معرفته فإن الحالات الذهنية والنفسية التي يثيرها التقابل والسينستيزيا تجعلنا نشارك في موضوع المعرفة ونشعر أننا وإياه شيء واحد. هذا هو الطابع الحقيقي للتجربة الفنية، وهو الذي ألمح بودلير إليه ثم أوضحه من بعده كثير من الشعراء والنقاد المحدثين، ولا شك أنه يشترك فيه من وجوه عديدة مع التجربة الدينية.
وأكثر قصائد الحب عند بودلير توضح أسلوبه في البعد عن الوصف الخالص والتقرير المباشر والتجاءه إلى طريقة المقابلة واستيحاء الموضوعات الحسية الخارجية للتعبير عن أحواله الذاتية. ومن أفضل الأمثلة على هذا قصيدته «الدعوة إلى السفر»
9
وسأنقلها إليك منثورة لأن من المستحيل المحافظة على تفعيلاتها القصيرة وقوافيها العذبة وإيقاعها السريع البسيط:
يا طفلتي، يا أختي، فكري كم سيكون بديعا أن ننطلق بعيدا ونحيا معا هناك! نحب على هوانا، نحب ونموت، في بلد تشبهك! الشموس الرطبة في تلك السماوات (الملبدة) بالضباب تخلب روحي بسحر غامض سحر عينيك الخائنتين عندما تلمعان من خلال الدموع.
ليس هناك إلا النظام والجمال، والترف والهدوء والاشتهاء. قطع أثاث براقة، صقلتها السنون، ستزين حجرتنا هناك؛ أندر الزهور تمتزج عطورها بأنفاس العنبر الخافتة، السقوف الثرية (بالزخارف)، المرايا العميقة، روعة الشرق، كلها ستكلم الروح خفية بلسان الوطن الحلو.
ليس هناك إلا النظام والجمال، الترف والهدوء والاشتهاء.
انظري تلك السفن الهاجعة في (مياه) القنوات، (السفن) المولعة بالتجوال؛ جاءت من آخر الدنيا، رغبة في إرضائك.
10
الشموس الآفلة تكسو الحقول، القنوات، المدينة كلها بالسنبل والذهب، العالم يغفو في نور دافئ.
ليس هناك غير النظام والجمال، الترف والسكينة والاشتهاء ...
والقصيدة تنمو من داخل الدعوة إلى «البلد التي تشبهك». هذه البلد فيما يقول الشراح هي هولندا. وسماء هولندا تقابلها عينا المحبوبة وجو البيوت الهولندية بكل ما فيها من ثراء وروعة وتمدن وغرابة يرمز للعلاقة الحميمة التي تجمع الحبيبين أو يرجى أن تجمعهما. والسفن التي رجعت إلى مراسيها عبر القنوات الهادئة قد قامت بأداء مهمتها، ووضعت العالم تحت قدميها.
ولا جديد في هذا كله بالنسبة للخيال الشعري، وحتى الرمز الأخير الذي يصور روعة العاطفة في صورة الشمس الغائبة ليس جديدا. ولكن أصالة بودلير تتجلى في تعبيره عن العاطفة بطريقة المقابلة أو التماثل بدلا من محاولة التعبير عنها بالتقرير والوصف المباشر. وحتى العنصر التقريري الوحيد في هذه الأغنية العذبة وهو المقطع المتكرر (ليس هناك غير النظام والجمال ... إلخ) لا معنى له إلا الإشارة ضمنا إلى أن «هنا» (في مقابل هناك) الفوضى والقبح والفقر والقلق والعذاب. أي أن العالم الخارجي كله بما فيه من جمال أو قبح، من نشوة أو ألم، من سماء النعمة أو هاوية اللعنة، إنما هو مجرد وسيلة تعبر في نهاية الأمر عن حالة ذاتية. وعن طريق المقابلة نستطيع نحن القراء أن نشارك في تلك الوحدة الوجدانية التي جمعت الداخل والخارج، والذات والموضوع.
ونستطيع أن نقول أخيرا إن هذا الأسلوب في تصوير التقابل بين الحواس المختلفة أصبح شكلا أساسيا من أشكال التعبير الشعرى بعد بودلير، فأثر على فيرلين وغيره وامتد إلى الشعر الحديث.
لقد خلق نموذجا من الاستعارة يختلف تمام الاختلاف عن الاستعارة العقلية التي كانت سائدة في عصر النهضة أو في القرن السابع عشر. وأصبح من المألوف أن نجد المشاعر الطبيعية كالكره أو الحب أو الغرور أو اللذة أو الخوف يعبر عنها بطريقة الاستعارة من عالم الحواس، أي بالصوت والشم واللمس واللون والمذاق.
11 (8) مثالية فارغة
كثيرا ما تتردد في قصائد بودلير على نحو ما رأينا كلمات كالمثال، والروحانية المتوهجة والارتفاع، ويسأل الإنسان نفسه: ارتفاع؟ إلى أين؟ ربما يذكر اسم الله هنا أو هناك، ولكن الهدف الأخير يضيع في زحام الكلمات والأوصاف العامة.
لنبحث عن جواب السؤال في إحدى قصائد بودلير. إنها قصيدة «ارتفاع».
12
واللحن والمضمون يشيران إلى العلو والارتفاع. هناك ثلاث مقطوعات تتجه بالكلام إلى روح الشاعر نفسه وتطالبه بالتحليق فوق البرك والجبال والوديان والغابات والسحب والبحار والشمس والنجوم والأثير إلى منطقة تتوهج باللهب وتطهر الروح من أبخرة الأرض. ثم يتوقف الخطاب الموجه إلى روح الشاعر لتأتي بعده عبارة شديدة التعميم.
سعيد من يقدر على هذا ويستطيع في تلك الأعالي أن يفهم «لغة الأزهار والأشياء الخرساء»:
عاليا فوق البرك، عاليا فوق الوديان،
فوق الجبال، الغابات، السحب، البحار،
وراء الشمس، وراء الأثير،
وراء حدود الأفلاك ذات النجوم، •••
تنطلقين خفيفة يا روحي.
وكمثل سباح بارع ينعم بالأمواج،
تشقين أعماقها المهولة.
بلدة رجولية تستعصي على التعبير. •••
حلقي بعيدا بعيدا عن هذا العفن المريض؛
هيا، طهري نفسك في أعالي الهواء،
وعبي من تلك النار الناصعة التي تملأ ساطع الأجواء،
وكأنها الرحيق الإلهي الصافي. •••
وراء الهموم ووراء الأحزان الرهيبة
التي ترزح بثقلها على الوجود الغائم كالضباب،
ما أسعد من يستطيع بجناحه الجبار
أن يطير صوب المروج المضيئة الصافية! •••
من تحلق أفكار كالقبرات،
حرة كل صباح إلى السماوات.
من يرفرف فوق الحياة ويفهم بغير عناء،
لغة الزهور والأشياء الخرساء.
تدور القصيدة في إطار من التفكير الأفلاطوني والروح المسيحية الصوفية. فارتفاع الروح إلى الحقيقة المتعالية، وسموها فوق القشرة الأرضية، ونفاذها من هذا الطريق إلى جوهرها وجوهر الحياة الأرضية هو ما تسميه كتب التصوف المسيحي بالارتفاع أو السمو أو الصعود
elevatio-ascensio - وهذه الكلمة الأخيرة هي التي جعلها بودلير عنوانا على قصيدته التي توحي إلى جانب هذا بالاتفاق في كثير من الوجوه بين لغتها ولغة التصوف عامة والتصوف المسيحي بوجه خاص. فالنار الصافية التي يذكرها بودلير تقابل المذاهب القديمة والمسيحية التي ترى أن السماء العليا، أو سماء النار
Empyreum
هي موطن «الترانسندنس» أو الحقيقة المتعالية. والتطهر المعروف عند المتصوفين من أقدم العصور يذكرنا به حديث الشاعر إلى روحه بقوله: «طهري نفسك.» أضف إلى هذا أن التصوف يرتب مراحل السمو والارتفاع على تسع درجات، توافق ما لهذا العدد من قداسة لحقت به منذ القدم. وإذا تأملنا القصيدة وجدناها تصف تسع درجات أو لنقل «مقامات» ينبغي للروح أن ترتفع إليها واحدة بعد الأخرى. فهل نستنتج من هذا أن التراث الصوفي قد أثر على بودلير؟ لا نستطيع أن نجيب على هذا التساؤل إجابة حاسمة. لا سيما وأن الشاعر قد تأثر أيضا بالمتصوف السويدي «سويد نبورج» وغيره من المتصوفين المسيحيين. ولا نستطيع من جهة أخرى أن ننكر دور التراث المسيحي عامة في التأثير على بودلير. والمهم بعد كل شيء أن القصيدة تفتقر إلى شيء يجعل التقابل الذي افترضناه ناقصا. فالشاعر لا يذكر شيئا عن الهدف الذي يريد أن يصل إليه من ارتفاعه، أو لعله لا يريد أن يذكره. وإذا وجدنا شاعرا صوفيا مثل الشاعر الإسباني خوان دي لاكروز يقول: «حلقت عاليا عاليا» حتى بلغت الهدف من رحلتي «فان بودلير لا يبلغ هذا الهدف أو لا يملك الوسيلة التي تمكنه من بلوغه.» والدليل على هذا تقدمه الأبيات الأخيرة من قصيدته. إنها تتحدث بطريقة غامضة عن الرحيق السماوي، كما تتحدث عن الأعماق المهولة غير المحدودة والأجواء الساطعة، ولكنها لا تذكر الله بكلمة واحدة. ثم إننا لا نعرف شيئا عن تلك اللغة التي ستفهمها الروح بغير عناء؛ لغة الأزهار والأشياء الصامتة الخرساء. ولذلك يظل الهدف بعيدا، أو بالأحرى يظل نزعة مثالية خالية من كل مضمون، وهذه المثالية في حقيقتها تمثل أحد قطبي التوتر والصراع الذي يعانيه الشاعر ويسعى إليه دون أن يستقر لديه في آخر المطاف.
هذه المثالية الفارغة هي التي تسيطر على تفكير بودلير بوجه عام. إنها تنحدر بلا شك من أصول رومانتيكية. غير أن الشاعر يبث فيها الحركة ويضفي عليها ديناميكية تجعل منها قوة جذب شديدة، تدفع التوتر إلى أعلى ثم لا تلبث أن تسقط المتوتر نفسه إلى الحضيض. إنها كالشر قوة قاهرة يطيعها الشاعر دون أن تزيل توتره أو تريحه منه؛ ولذلك نجد بودلير يسوي كثيرا بين المثال والهاوية، كما نجده في مواضع عديدة من أشعاره يستخدم تعبيرات تبدو متناقضة في ظاهرها ولكنها مشحونة بالتوتر الذي لا مخرج منه ... لنذكر أمثال هذه التعبيرات التي ترد كثيرا في قصائده: «مثال مؤلم»، «إنني مغلول إلى هاوية المثال»، «سماء مسدودة» ...
وأمثال هذه التعبيرات معروفة في كتابات المتصوفين الكبار، وهي تدل عندهم على الأثر المؤلم اللذيذ الذي تتركه النعمة الإلهية في نفوسهم، كما تدل على المرحلة التي تسبق حلول هذه النعمة، ولكنها تدل عند بودلير على الصراع والتوتر الذي أشرنا إليه بين النزعة الشيطانية والنزعة المثالية، بين الرغبة في السقوط والشوق إلى الارتفاع. ووظيفة التوتر القائم بين هذين القطبين هي المحافظة على العاطفة المتمردة الثائرة التي تمكنه من الخلاص من العالم السطحي السخيف الذي تختنق فيه حياته. ومع ذلك يظل هذا الخلاص بغير هدف، ويظل عاجزا عن الخروج من هذه العاطفة الثائرة أو تجاوزها إلى ما بعدها.
ربما تكون القصيدة الأخيرة في أزهار الشر، وهي قصيدة «الرحلة»، من أدل قصائده على ما نقول. إنها تجرب كل محاولات الخلاص، لكي تصمم في النهاية على الموت، أما ما يجلبه الموت، فهو شيء لا ندريه.
فالمهم هو السفر في حد ذاته، وأما الشاطئ المجهول فلا أهمية له:
أما المسافرون الحقيقيون فهم وحدهم الذين يسافرون،
من أجل السفر، قلوبهم خفيفة أشبه بالبالونات،
لا يهربون أبدا من قدرهم،
يقولون دائما: «إلى الأمام!» ولا يدرون لماذا.
إن الموت يشدهم إليه. فهو فرصتهم الباقية للهروب من سجن العالم الممل الضيق الشرير:
معرفة مرة، تلك التي يستخلصها المرء من رحلته!
العالم ممل وصغير،
اليوم، وأمس، وغدا،
يرينا صورتنا على الدوام:
واحة من الرعب في صحراء من السأم!
وهو وسيلتهم الوحيدة للعثور على «الجديد». وما هو هذا «الجديد»؟ هو شيء غير محدد. هو الضد الأجوف الفارغ للواقع الموحش. وعلى قمة هذه المثالية يتربع الموت، الموت المملوء بالعدم والفراغ:
يا موت! أيها الملاح العجوز، آن الأوان فارفع المرساة!
مللنا المقام هنا، يا موت! فعجل بالرواح!
إن يكن قد ادلهم سواد البحر والسماء
فإن قلوبنا التي تعرفها يفيض منها الضياء!
اسكب سمك فينا، كي يمنحنا القوة!
إن تكن هذه النار تحرق منا الدماغ،
فنحن نريد أن نغوص إلى أعماق الهاوية،
ماذا يضيرنا إن كانت هي الجحيم أو السماء؟ (نريد أن نغوص) في أعماق المجهول، لكي نعثر على شيء جديد!
هذه الحيرة التي يقاسيها بودلير هي نفس الحيرة التي تمزق الروح الحديث. إنها تتمرد على سجن الواقع وتنتفض للإفلات من ضيقه وملله ووحشته وانحطاطه، ولكنها عاجزة عن الإيمان بحقيقة عالية تبارك ثورتها أو ترسم هدف رحلتها. وهي لذلك تحيا في صراع لا نجاة منه، وتنتهي إلى نوع من الصوفية التي تعشق الأسرار لذاتها.
وبودلير يتحدث كثيرا عن «السر» وعما فوق الواقع والطبيعة. ولكننا لن نفهم معنى هذه الكلمات حتى نعرف مضمونها عنده، وليس هذا المضمون إلا السر المطلق نفسه. تلك هي المثالية الفارغة التي يعيش فيها بودلير، وذلك هو الشيء الآخر الغامض الذي سيزداد لدى رامبو غموضا، وينتهي عند مالارميه إلى العدم، وعند الشعراء المعاصرين إلى ولع بالأسرار، وحب للغموض لذاته. (9) سحر اللغة
ويجب ألا يفهم من الكلام السابق عن الغموض والأسرار أن شعر بودلير غامض أو محاط بالأسرار والألغاز. فالواقع أن أزهار الشر تعبر تعبيرا واضحا عن كل الأسرار والحالات الوجدانية الشاذة والمواقف المتنافرة التي تحتويها.
وينطبق هذا الكلام أيضا على نظريته في فن الشعر والأدب بوجه عام. فهي نظرية واضحة كل الوضوح، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأن فيها آراء واقتراحات مهدت للشعر الغامض من بعده، ولم يطبقها هو نفسه على شعره. وسنقتصر هنا على مناقشة رأيه في سحر اللغة وفي الخيال الخلاق.
لقد عرف الشعر دائما، وبخاصة ذلك الذي أبدعته الروح اللاتينية-الرومانية، لحظات كان البيت يتحول فيها إلى قوة أو طاقة نغمية تزيد في تأثيرها بكثير عن تأثير المضمون. وكانت الأشكال الصوتية المؤلفة من إيقاعات متجانسة أو من توافقات بين الحروف الساكنة والمتحركة تسحر الأذن برنينها الأخاذ. ومع ذلك فلم يكن الشعر القديم يضحي في مثل هذه الحالات بالمضمون، بل كان يحاول أن يزيد من قوة تأثيره عن طريق العناصر الموسيقية التي يحتويها. والأمثلة على هذا عديدة في شعر فرجيل أو دانتي أو كالديرون أو راسين، ولكن الأحوال تغيرت منذ عهد الرومانتيكية؛ فوجدنا أبياتا من الشعر تهتم بالجرس أكثر من اهتمامها بالمعنى، وتسحر بالنغم أكثر مما تقول. واكتسبت موسيقي اللغة أو مادتها النغمية قدرة فائقة على الإيحاء. واستطاعت كلمات القصيدة المترابطة في سلسلة من الاهتزازات والذبذبات أن تفتح أمام الشاعر والقارئ آفاقا فسيحة من اللانهائية الحالمة. لم يعد هم الشاعر أن يفهم، بل أن يوحي. ولم تعد وظيفة القصيدة أن تنقل معنى أو مجموعة من المعاني، بل أن تؤلف كيانا حيا أو مجالا مستقلا من الطاقات الموسيقية. وتغيرت النظرة بطبيعة الحال إلى وظيفة اللغة، واتضح الفارق الكبير بين لغة «توصل» ولغة «توحي». وأصبح من الممكن أن تنشأ القصيدة عن «تأليفة» موسيقية تتعامل مع العناصر الإيقاعية والنغمية الكامنة في اللغة كما لو كانت تتعامل مع أشكال وصيغ سحرية. وأصبحت عناصر الإيقاع والنغم هذه هي التي تحدد دوافع العملية الشعرية نفسها، وتتسبب في وجود القصيدة واختيار كلماتها، لا بحسب معانيها بل بحسب الطاقات الموسيقية التي تشعها، والدلالات التي توحي بها. وساد هذا في الشعر الحديث والمعاصر حتى أوشك أن يصبح صنعة جديدة. وتحقق حلم الرومانتيكيين فأصبح الشاعر هو الساحر الذي يلعب بالأنغام والألحان.
ولقد كانت العلاقة الحميمة بين الشاعر والساحر معروفة من أقدم العصور. ولكن كان لا بد أن تكتشف من جديد في أواخر القرن الثامن عشر، بعد أن هدمها أصحاب النزعة الإنسانية والنزعة الكلاسيكية. وأدى هذا في أمريكا إلى نظريات إدجار ألن بو التي وافقت حاجة الروح الحديثة إلى «تعقيل» الأدب وربطه في نفس الوقت بالصور القديمة الموغلة في القدم. ولقد تكلمنا عن مظاهر هذه الحداثة عندما ذكرنا أن نوفاليس حاول أن يقرب بين شيئين يبدوان شديدي البعد عن بعضهما البعض، وهما الرياضة والسحر؛ ولذلك فليس من قبيل الصدفة أن نجد مثل هذه الأفكار في حديث الشعراء عن فنهم، من بودلير إلى عصرنا الحاضر.
والمعروف أن بودلير قد ترجم «بو» إلى اللغة الفرنسية وكان سببا في امتداد أثره على الأدب في فرنسا وخارجها حتى القرن العشرين. ونود أن نذكر في هذا المجال مقالتين شهيرتين «لبو» ترجمهما بودلير فيما ترجم من أعماله، وهما «فلسفة الإنشاء»
13 (1846م)، و«المبدأ الشعري»
14 (1848م) وتعتبر هاتان المقالتان من الآثار الباقية التي تسجل تأمل الشاعر في فن الشعر والأدب عموما وفي إنتاجه الذاتي بوجه خاص، كما تعبران كذلك عن ظاهرة من ظواهر الأدب الحديث التي يلتقي فيها الإنتاج الأدبي بالتفكير في طبيعة هذا الإنتاج. وقد ترجم بودلير المقالة الأولى بأكملها، ونقل مختارات من المقالة الثانية، وتبنى النظريات الواردة فيهما بحيث نستطيع أن ننظر إليهما كتعبير عن رأيه الشخصي.
وأهم ما في أفكار «بو» أنه عكس تسلسل الأفعال الشعرية التي سلم بها علم الجمال القديم. «فالشكل» الذي كان يعد نتيجة أو محصلة نهائية للقصيدة أصبح هو مبدأها وأصلها، و«المعنى» أو المضمون الذي كان يعتبر أصلا لها أصبح هو النتيجة.
إن في عملية الخلق الأدبية والشعرية شيئا سابقا على اللغة الدالة وعلى المعنى والمضمون، وهذا الشيء هو «النغم» أو الحالة النفسية أو الجو الذي لم يتشكل بعد. ويحاول الأديب أو الشاعر أن يعطي لهذا النغم أو هذا الجو شكلا، فيبحث في اللغة عن الأصوات التي تتفق مع هذا النغم الأصلي أو تقترب منه. وتربط الأصوات بكلمات، وتتجمع الكلمات في بواعث أو دوافع (موتيفات ) ينتج عنها في نهاية الأمر معنى أو مضمون.
والملاحظ أن «بو» يبني نظرية متناسقة من فكرة عابرة أحس بها نوفاليس من قبل. فلقد شعر نوفاليس بهذه النغمة أو هذا الجو الذي يسبق اللغة ويحدد لها طريق البحث عن المعنى، أو يحدد للمعنى الطريق الذي يمكن أن يجد نفسه عليه، كما أحس أيضا بأن المعنى أو المضمون ليس هو لب القصيدة وجوهرها، بل هو الذي يحمل الطاقات الصوتية والإمكانيات النغمية بكل ما فيها من اهتزازات وذبذبات هي أهم بكثير من المعنى والمضمون. ولقد بين «بو» أن هناك كلمات معينة وردت في قصائده ويرجع الفضل في وجودها إلى سحر النغم الكامن فيها وإلى نوع من التداعي الحر نتج عن أبيات سابقة. أما الأفكار نفسها فيصفها بأنها «مجرد إيحاء من شيء غير محدد أو معلوم.» والغرض من هذا كله أن الأفكار شيء جانبي وأن العوامل الصوتية والقوى النغمية ينبغي أن تبقى في المكان الأول ولا يضحى بها من أجل العوامل المعنوية أو الفكرية.
بهذا يصبح الخلق الشعري نوعا من الفناء في الطاقات السحرية للغة. فإذا أراد بعد ذلك أن يضيف إلى النغم الأولي معنى أو فكرة كان عليه أن يفعل ذلك بكل الدقة الرياضية. إن القصيدة كيان تام في ذاته. إنها لا تنقل لنا الحقيقة ولا نشوة القلب بل لا تنقل في الواقع أي شيء على الإطلاق! إنها قصيدة لأجل ذاتها وحسب، ولعل «بو» بهذه الأفكار أن يكون قد وضع أساس النظرية الشعرية التي ستدور فيما بعد حول فكرة «الشعر الخالص» وهي الفكرة التي سنتحدث عنها عند الكلام عن الشعر في القرن العشرين.
كل هذه الأفكار عن سحر اللغة وقوة الصوت والنغم يحتمل أن تكون قد وصلت إلى نوفاليس وبو نتيجة تأثرهما بالإشراقيين الفرنسيين. ونحن نعلم هذا عن بودلير، ونرجحه ولا نقطع به عن نوفاليس، وقد كان في نظريات هؤلاء الإشراقيين (التي تمتد فيها جذور الرمزية) نظرية فلسفية في اللغة، تقول إن الكلمة ليست شيئا عارضا من خلق الإنسان وإنما تنحدر من أصل كوني واحد. ونطق الكلمة يعقد صلة سحرية بين المتكلم وهذا الأصل. والكلمة الشاعرة هي التي تستطيع أن تغوص بأتفه الأشياء في السر الميتافيزيقي الذي انحدرت عنه، وتلقي الضوء على ألوان التشابه بين أجزاء الوجود. وقد كان بودلير يعرف كل هذه الأفكار ولذلك لم تكن نظريات «بو» في فن الشعر - التي يحتمل أن يكون قد أخذها عن نفس الأصل - غريبة عليه. لنستمع إليه وهو يتحدث عن أهمية الكلمة في هذه العبارة التي سيقتبسها مالارميه فيما بعد: «إن للكلمة قداسة تمنعنا من العبث بها. وإن تناول لغة من اللغات تناولا فنيا معناه القيام بنوع من التعويذ أو الرقى السحرية» (ص1035).
هذا التعبير عما يسميه بودلير بالتعويذ السحري سيتردد كثيرا فيما بعد، لا في الشعر والأدب وحدهما بل كذلك في الفنون التشكيلية. وهو في حقيقته تعبير عن فكر متأثر بالسحر والتصوف وعلوم الأسرار؛ ولذلك فليس عجيبا أن تصادفنا كلمات مثل «الصيغ السحرية» والعمليات السحرية والإيحاء وغيرها مما يتردد بكثرة فيما نقرأ عن نظرية الشعر الحديث.
ولا يقلل من أهمية هذه الأفكار أن شعر بودلير نفسه في «زهور الشر» لا يقدم نماذج كثيرة من هذا السحر اللغوي، وإن كتاباته النظرية قد تجاوزت إنتاجه تجاوزا بعيدا في هذا الصدد، فالمهم أنها قد مهدت للون من الشعر يقدم القوى النغمية الكامنة في اللغة على كل شيء، بل إنه ليضحي في سبيلها بالجوانب الموضوعية والمنطقية والانفعالية، وقد تصل به هذه التضحية إلى حد الخروج على النظام النحوي نفسه. إنه شعر يعتمد على نبض الكلمة، ويظل يتسمع إلى هذا النبض حتى يعثر عن طريقه - لا عن طريق التفكير والتدبير المسبق - على المعنى أو المضمون المناسب. ويأتي هذا المعنى أو المضمون في أغلب الأحوال شيئا غريبا شاذا، يقع على حدود الفهم أو وراء حدوده.
وليس هذا بالأمر المستغرب من شعر أفرغ من المثالية، وأخذ يحاول الفكاك من الواقع عن طريق الإغراب في الغموض والإغراق في الأسرار. وليس غريبا أن يلجأ إلى سحر اللغة ليجد فيه سنده وعونه. فالتعامل المستمر مع إمكانيات النغم وتداعيات الكلمة هو الذي يطلق معاني غامضة ويفجر طاقات سحرية تنبعث من النغم الخالص. (10) الخيال الخلاق
يتحدث بودلير في مواضع كثيرة من أعماله عن اشمئزازه من الواقع. وهو يريد به الواقع السطحي السخيف الذي يكون نسخة من الطبيعة. وقد قلنا إن شعره كله محاولة للخلاص من هذا الواقع؛ الذي غاص مع ذلك في لجته إلى القرار! وليس أدل على سخطه على الواقع من غضبه الشديد لاتهامه بالواقعية عندما قدم إلى المحاكمة بسبب ديوانه «زهور الشر». ويبدو أنه كان محقا في هذا الغضب؛ إذ كانت الواقعية في ذلك الحين صفة تطلق على الأدب الذي كان كل همه أن يعبر عن جوانب الانحطاط الأخلاقي والجمالي في الواقع، دون أن يكون له هدف سوى هذا التعبير. وشعر بودلير يختلف في الحقيقة عن ذلك كل الاختلاف. فهو لا يريد أن ينسخ الواقع بل أن يحوله، ومن الخطأ والسخف أن نصف بودلير بالواقعية أو الطبيعية. إن الدوافع الفطرية إلى الشر تتحول عنده إلى ما سميناه بالنزعة الشيطانية، وصور الشقاء والتعاسة تتوهج تحت يده فتصبح رعشة بالفزع تعبر عن التوتر والصراع والاستقطاب الذي تكلمنا عنه في فصل سابق، والظواهر الواقعية والطبيعية المحايدة تصبح لديه رموزا لحالات نفسية باطنة أو لعالم غامض غير محدود يشغل ما وصفناه بالمثالية الفارغة من الهدف والمعنى الأخير. إن المادة التي يعالجها بودلير تتوهج على الدوام - مهما بلغت من الحدة وإثارة الفزع والاشمئزاز - بروحانية متوقدة تسمو فوق كل واقع وتنزع بكل قوتها للخلاص منه. ومن مظاهر هذه النزعة في صنعته الشعرية عنايته الفائقة بدقة التعبير عن الجانب الأدنى من الواقع أي من هذا الواقع بعد تشكيله وتحويله، وخلو مضمون الصورة عنده من كل تحديد مكاني ، وميله إلى الأوصاف الانفعالية بدلا من الأوصاف الموضوعية الدقيقة، والاستغناء عن المعالم الحسية المحددة وغير ذلك كثير مما يدل على نزوعه للإفلات من الواقع والخروج من أسره.
هذه الملكة التي تمكن الشاعر من تحويل الواقع وتخليصه من «واقعيته» يسميها بودلير «الحلم» كما يسميها في أحيان أخرى «الخيال» أو «المخيلة»، وهو يخطو خطوة أبعد من ديدرو وروسو عندما يصفها بأنها ملكة خلاقة مبدعة. ولا بد من فهم هذا الوصف في إطار القوى الذهنية والإرادية التي تنطوي عليها فكرة الحلم والخيال لديه، والتي تدور كذلك في دائرة تسمح أيضا بالكلام عن الرياضة والتجريد.
ولا بد أن نفهم فكرة الحلم عند بودلير فهما جديدا حادا يصل إلى أقصى درجات الحدة. صحيح أنه قد يستخدمها أحيانا بمعناها القديم عندما يخلع صفة الحلم على مظاهر مختلفة من الحياة الوجدانية، أو على الزمن الباطن أو الشوق. ولكنه يؤكد حتى في هذه الأحوال نوعا من السمو فوق عالم الأشياء القريبة، كما يؤكد نوعا من التعارض الكيفي بين رحابة الحلم وضيق الواقع.
أضف إلى هذا أنه يميز الحلم في أغلب الأحيان عن «الكآبة الناعمة» و«الفيض العاطفي» و«القلب»، كما يصفه في المقدمة التي كتبها «للأقاصيص الجديدة» التي ترجمها عن «بو» بأنه «متوقد، غامض، كامل كالبللور». إنه ملكة مبدعة لا مدركة، تسير على خطة دقيقة واضحة ولا تخضع للصدفة والاتفاق. ومهما تكن طريقة الحلم أو شكله فالمهم دائما هو أنه يبدع مضمونات غير واقعية. قد يكون ملكة أدبية فطرية، وقد تساعده العقاقير والمخدرات على أداء وظيفته، وقد يصدر عن أحوال نفسية مرضية. ولكن هذه جميعا وسائل يستعين بها للقيام بالعملية السحرية التي يستطيع الحلم أن يضع بها اللاواقع الذي يبدعه فوق الواقع المألوف.
وليس من قبيل الصدفة أن يصف بودلير الحلم بأنه كامل كالبللور. فهو بهذا الوصف الذي يقارن فيه الحلم بشيء غير عضوي إنما يضمن له منزلة متفوقة على الواقع المحسوس.
وأمثال هذه المقارنات التي تقلب سلم الموجودات وتضع غير الحي فوق الحي ترد كثيرا عند نوفاليس ، نتيجة تأثره بمصادر الكيمياء القديمة. ويكفي أن نقرأ هذه العبارة لديه: «إن الأحجار والمواد هي أسمى الموجودات. الإنسان هو العماء أو الاختلاط الحقيقي». والعبارة تردد كذلك عند بودلير، وبخاصة عندما يتكلم عن الحلم، فيضيف إليها ما يدل على امتهانه للطبيعة وتحقير كل ما هو طبيعي بحيث يوازي الاختلاط والاضطراب والفساد. فالطبيعة في رأيه تعني الموجودات النباتية، كما تعني كذلك مظاهر الانحطاط المختلفة في أحوال البشر. فإذا لجأ إلى صور من العالم غير العضوي، كانت هذه الصور رموزا على العقل المتفوق والروح المطلق، وتولد عنها لون من التوتر الحاد الذي نلمسه لديه. وكل من يتأمل الفن التشكيلي في القرن العشرين سيلاحظ هذه الظاهرة نفسها. فالأشكال التكعيبية والصور التي ترسم بألوان غير واقعية، والتنافر والنشاز الذي يغلب على تركيباتها يتفق تماما مع ما يقوله بعض كبار الفنانين - مثل فرانز مارك وإرنست بكمان - عن الطبيعة ووصفهم لها بالاضطراب والاختلاط والفساد. وليس حتما أن نجد في هذا دليلا على التأثير المتبادل؛ إذ يكفي أنه يدل على وجود بناء مشترك يلتزم به الأدباء والفنانون المحدثون على السواء.
يري بودلير أن الكائنات غير العضوية ليست لها أهمية في ذاتها. إنها لا تكتسب دلالتها ومعناها حتى تصبح مادة للعمل الفني. فالتمثال عنده أدل من الجسد الحي، ومنظر الغابة على خشبة المسرح أعظم من منظر الغابة الطبيعية. وقد يقال إن هذا كله يتفق مع العقلية اللاتينية التي تعنى بالشكل والبناء أكثر من عنايتها بالمعنى أو الحياة. ولكن التطرف في تطبيق هذه الأفكار هو الأمر الجديد حقا. فالمساواة بين العمل الفني وبين الكائنات غير العضوية، وطرد «الواقع» من الأدب والشعر على هذه الصورة العنيفة أشياء جديدة قد لا نجد لها مثيلا من قبل إلا في أدب الباروك الإسباني الذي تربطه بالشعر الحديث روابط قوية. ومع ذلك فلم يكن من السهل أن نجد في العصور السابقة قصيدة مثل قصيدة بودلير التي تظهر الكائنات غير العضوية والفنية المصنوعة في صورة روحانية وتجريدية بالغة الدقة والروعة والصفاء، ونعني بها قصيدته «حلم باريسي ». والقصيدة لا تصور مدينة واقعية بل مدينة لا ترى إلا في الأحلام؛ فهناك أشكال هندسية مختلفة ليس فيها أثر للحياة النباتية، وهناك أقواس هائلة تحيط بالماء وهو العنصر الوحيد المتحرك في هذه الصورة - وإن بقي مع ذلك ميتا - وهناك أخاديد من الماس، وأنفاق من أحجار كريمة. لا شمس ولا نجوم، بل سواد ناصع بذاته، لا إنسان، ولا مكان، ولا زمان، ولا صوت:
رأيت في الحلم مشهدا مربعا
لم تره عين فانية،
ولم تزل صورته الغامضة البعيدة
تخلبني في هذا الصباح.
أن النوم يزخر بالعجائب!
فبنزوة فريدة
كنت قد نفيت من هذه المناظر
فوضى الحياة النباتية،
ورحت أستمتع في لوحتي
كالرسام المزهو بعبقريته
بالرتابة المسكرة
للمعدن والمرمر والماء.
كان قصرا هائلا غير محدود
أشبه ببابل كلها سلالم وأقواس
مملوء بالأحواض ومساقط المياه
التي تهوي في ذهب باهت أو ناصع؛
وهنالك كانت الشلالات ضخمة
كستائر من بللور
يعشي ضوءها البصر
معلقة على أسوار معدنية.
لم تكن أشجارا، بل أبهاء للأعمدة
تلك التي أحاطت بالبرك الناعسة،
التي انعكست على مرآتها آلهات الماء،
وهي تتأمل نفسها كما تفعل النساء.
وهناك كانت مساحات شاسعة من الماء
تنسكب، زرقاء، بين مراس وردية وخضراء،
وتمتد ألوف الألوف من الأميال
حتى آخر حدود العالم؛
وأحجار لم تخطر على بال
وطوفان أمواج ساحرة؛
ومرايا هائلة غشيت
من كل ما كانت تعكسه!
وأنهار في قبة السماء
غير مكترثة وصامتة
راحت تسكب كنوز جرارها
في أخاديد من الماس.
أنا الذي صممت خرافاتي
جعلت بإرادتي
بحرا مكبوح الجماح
يمر في نفق من نفائس الأحجار.
وكل شيء، حتى السواد
بدا لامعا، صافيا وبراقا؛
السيولة ثبتت بهاءها
في الشعاع البلوري.
وما من نجم، ولا من أثر للشمس
حتى ولا على حافة السماء
يضيء هذه العجائب
التي كانت تتلألأ بنارها!
وفوق هذه المعجزات المتحركة (يا للفزع الجديد! كل شيء للعين،
ما من شيء للآذان!)
كان يرف صمت الأبدية.
2
عندما فتحت عيني المتوهجتين بالنور
رأيت بشاعة حجرتي البائسة
وأحسست، وأنا أعود لنفسي
بشوكه الأحزان الملعونة،
أخذت الساعة بدقاتها الكئيبة
تعلن في ضراوة عن الظهيرة
والسماء راحت تصب الظلمات
فوق هذا العالم البارد التعيس.
والقصيدة توضح ما يقصده بودلير من هذا الحلم الذي جعله عنوانا لها: إنه تعبير بالصور عن بناء ذهني وروحي مركب، يسجل انتصاره على الطبيعة والإنسان في رموز مشتقة من عالم المعادن والأحجار والعناصر، ثم يلقي بهذه الصور المركبة في المثالية الفارغة، لتشع مرة أخرى فتسكر العين ببهائها الرائع، وتشقي النفس برعبها الفظيع. (11) التفكيك والتشويه
لعل تحليل بودلير للمخيلة أن يكون أهم إضافة ساهم بها في نشأة الشعر والفن الحديث. فهي عنده الملكة الخلاقة، بل هي الملكة (بكسر اللام!) التي تتربع على عرش القدرات البشرية. ولكن كيف تعمل هذه الملكة التي تبدو هي والحلم شيئا واحدا؟ لنقرأ ما كتبه عنها في سنة 1859م: «إن المخيلة تفكك
Décompose
العالم كله؛ إنها تجمع أجزاءه وتنظمها وتخلق منها عالما جديدا، بمقتضى قوانين تنبعث من أعمق أعماق النفس» (ص773).
نستطيع أن نقول إن هذه العبارة تنطوي على مبدأ أساسي من مبادئ علم الجمال الحديث أو على الأصح «علم الاستطيقا». ووجه الحداثة فيها أنها تضع «التفكيك»، أو «التحطيم» في بداية العمل الفني، ويؤكد بودلير هذا المعنى في إحدى رسائله حين يضيف إلى «التفكيك» كلمة أخرى هي «العزل» أو «الفصل».
وتفكيك الواقع أو عزل أجزائه التي ينقسم إليها معناه تغيير شكله وتعديل بنائه، أي تشويهه. والتشويه تعبير يرد بكثرة في كتابات بودلير ويستخدم بمعنى إيجابي. فهو يعبر عن قوة ذهنية وروحية، تفكك الواقع وتحطمه وتخلق منه عالما جديدا يختلف كل الاختلاف عن العالم الواقعي المنظم، أو بناء غير واقعي لا يمكن أن تحكمه القواعد والنظم التي تسيطر على عالم الواقع المألوف.
كل هذه إشارات وفروض نظرية لم يطبقها بودلير على شعره إلا في مواضع قليلة، بيد أن تأثيرها على الشعر من بعده كان بالغ القوة. ويكفي أن نتذكر شعر رامبو لنرى مدى ما حققته عبارة بودلير السابقة عن المخيلة من جرأة وجسارة. لقد كان الهدف الأساسي دائما هو الرغبة في الخلاص من أسر الواقع الضيق. ولن نستطيع أن نقدر القيمة الحقيقية لفكرة المخيلة أو الخيال الخلاق عند بودلير حتى نقارنها بفكرة النسخ الفوتوغرافي التي تصادف ظهورها وانتشارها في عهده. لقد احتج بودلير مرارا على هذا اللون من التصوير الحرفي للواقع، وأكد بذلك - كما قدمنا - أنه بعيد عن الاتجاه الواقعي أو الطبيعي الذي يكتفي بنسخ الواقع.
والظاهر أن من قوانين الوجود أن يؤدي الإفراط في شيء إلى النقيض منه؛ فالتحمس في تصوير الواقع نتيجة لاكتشاف الفوتوغرافيا، قد ساعد على استهلاك هذا الواقع الضيق المحدود وأغرى المخيلة بالاتجاه إلى عالم الخيال الحر. ويشبه هذا رد الفعل الذي نتج عن التحمس للنزعة الوضعية العلمية في العصر الحديث؛ مما أدى للرجوع إلى دراسة الإنسان وبعث التيارات الميتافيزيقية والوجودية على اختلاف مذاهبها. ويتصل هذا الاحتجاج على نسخ الواقع بالتصوير الفوتوغرافي باحتجاج بودلير على العلوم الطبيعية، فالمحاولات التي تبذلها للتغلغل إلى العالم والتحكم في الطبيعة هي في رأيه تضييق للعالم وتضييع لأسراره. ولذلك كان من الطبيعي أن يكون إطلاق الخيال إلى أقصى طاقاته هو الرد على تلك النزعة التي ثار عليها حسه الفني.
كان لهذه المشاعر والأفكار التي اعتملت في نفس بودلير وعقله أثرها القوي الذي امتد إلى يومنا الراهن. لقد قال بودلير مرة في حديث له: «أتمنى أن أرى مراعي حمراء وأشجارا زرقاء.» وجاء رامبو فنظم شعرا في مثل هذه المراعي والمروج العجيبة، ورسمها فنانو القرن العشرين في لوحاتهم. وليس من قبيل الصدفة أن يصف بودلير الفن النابع من الخيال الخلاق بأنه فن يعلو على الطبيعة أو فوق الطبيعة.
إنه الفن الذي يجرد الأشياء من شيئيتها فيحيلها إلى خطوط وألوان وحركات وظواهر وأعراض قائمة بنفسها، ويلقي عليها ضوءا سحريا يمحو واقعيتها ويعلن عن سرها. ولن يدهشنا بعد ذلك أن يأتي الشاعر جيوم أبوللينير فيشتق من تعبير بودلير السابق «فوق الطبيعية» تعبيره فوق الواقعية (السيريالية) فيواصل ما بدأ بودلير، ويؤسس حركة فنية وأدبية لا يزال لها دور كبير حتى اليوم. (12) التجريد والأرابيسك
لم يكن الخيال الذي تحدث عنه بودلير ملكة أفلتت من كل قيد، بل قوة ترتبط أوثق ارتباط بالعقل الذي يحكمها ويحدد لها الطريق. ويكفي أن نقرأ هذه العبارة التي يقولها في إحدى رسائله: «إن الشاعر هو العقل الأسمى، والخيال هو أكثر القدرات نصيبا من الروح العلمية» (المراسلات، 1، ص368).
ولا زالت المفارقة التي تنطوي عليها هذه العبارة صادقة إلى اليوم. إنها مفارقة تدل على أن الأدب الذي اقتحم اللاواقع فرارا من عالم سادت فيه الصنعة وجرده العلم من أسراره لا يزال مع ذلك يطمح في تعبيره عن هذا اللاواقع إلى نفس الدقة والذكاء والإحكام الذي جعل من الواقع شيئا ضيقا وسخيفا وسطحيا. أي أن الأدب الذي ثار على العلم لم يتخل عن دقته ومنهجه، ولذلك كان من الطبيعي أن ينتهي بودلير إلى القول بفكرة جديدة وهي فكرة التجريد. وقد سبق لنوفاليس أن استخدم نفس الفكرة لتحديد ماهية الخيال. وكان هذا بدوره أمرا مفهوما طالما أن الخيال هو الملكة القادرة على خلق اللاواقع. أما بودلير فيستخدم في الغالب كلمة «مجرد» بمعنى «عقلي» أي «لا شيء». ونستطيع أن نلاحظ في هذا بداية الفن والشعر المجرد، كما نستطيع أن نقول إن بودلير قد توصل إليها من فكرته عن الخيال المطلق التي تجد المعادل الموازي لها في الخطوط والحركات المتحررة من الأشياء والموضوعات. هذه الخطوط والحركات هي التي يسميها بودلير «الأرابيسك» ويقول إنها أكثر الرسوم نصيبا من العقل (ص1192). ولقد حاول نوفاليس، وبو، وجوتييه أن يقربوا بين الأرابيسك والمسخرة (الجروتيسك). وجاء بودلير فزادهما قربا، وجمع في مذهبه الاستطيقي بين المسخرة والأرابيسك والخيال برباط متين. فالخيال في رأيه هو ملكة الحركات المجردة - أي الخالصة من الأشياء - للعقل الحر؛ أما المسخرة والأرابيسك فهما نتاج هذه الملكة.
وإذا كان الخيال الخلاق يحول الأشياء إلى خطوط وألوان فإنه يجعل من اللغة أو من العبارة الشعرية مجموعة من «الأرابيسكات» أي من الخطوط والمنحنيات المتحركة المتحررة من المعنى. والعبارة الشعرية - كما يقول بودلير نفسه في كلمة كان يريد أن يقدم بها لزهور الشر - هي مجموعة من الأصوات والحركات الخالصة يمكن أن تكون خطا أفقيا أو خطا صاعدا أو هابطا، كما يمكن أن تكون خطا حلزونيا أو متعرجا تتلامس حوافه، ومن هنا يتلامس الشعر والرياضة والموسيقى؛ جمال يتسم بالنشاز، تنحية القلب عن مكانه القديم في الشعر، تعبير عن حالات وجدانية شاذة، مثالية فارغة من المعنى أو دائبة في البحث عنه، تخليص الأشياء من شيئيتها، غموض ونزوع إلى الأسرار مستمد من الطاقات السحرية الكامنة في اللغة ومن إطلاق الخيال بغير حدود، تقريب اللغة الشعرية من تجريدات الرياضة والموسيقى. تلك هي بعض الملامح التي اكتشفها بودلير في وجه الشعر الحديث، وهي خطى بدأها هذا الشاعر العظيم، وكان على الأجيال التي جاءت بعده أن تسير فيها وتواصل الطريق.
إنه شاعر تركت عليه الرومانتيكية آثار جراحها. لكنه استطاع أن يحول عبث الرومانتيكية إلى جد خالص، وأن يقيم بناء شامخا من بعض الخواطر المتناثرة التي وجدها عند أعلامها. صحيح أن واجهة هذا البناء تدير ظهرها لهم، ولكنها لا تخلو مع ذلك من لمساتهم؛ ولذلك نستطيع أن نقول عن شعر خلفائه إنه رومانتيكية خلعت عنها الرومانتيكية. وماذا تكون هذه المفارقة إلى جانب المفارقات التي ينطوي عليها هذا الشعر كله؟!
الفصل الثالث
رامبو (1854-1891م)
عبرت عما لا سبيل للتعبير عنه. *** (1) خصائص عامة
حياة لم تتجاوز السابعة والثلاثين عاما، موهبة شعرية تفجرت في سن الصبا ثم لم تلبث أن توقفت بعد أربع سنوات، صمت أدبي مطلق، ضياع بين أوروبا والشرق الأدنى وأواسط أفريقيا، حيرة متصلة بين أعمال متباينة تقلب فيها بين جيوش الاستعمار، والمحاجر، وشركات التصدير، تجارة البن والجلود في عدن، السفر مع القوافل لشراء الأسلحة وبيعها لنجاشي الحبش، كتابة التقارير للجمعيات الجغرافية عن مناطق لم تكتشف في الصومال، رحلات دائمة مع الحر والبرد والجوع والشقاء، علاقة جنسية شاذة مع شاعر آخر كبير (بول فيرلين)، مرض التيفوس، بتر ساق، موت مبكر في مرسيليا، تطور شعري مذهل في غضون أعوام قليلة تفوق فيه الشاعر على نفسه وتراثه وخلق لغة شعرية أصيلة لم تزل حتى اليوم هي لغة الشعر الحديث، تلك هي بعض الحقائق البارزة في حياة رامبو وشخصيته.
والعنف في حياته يتفق تمام الاتفاق مع أدبه. إن إنتاجه قليل، ولكن لعل الكلمة الوحيدة التي تصدق عليه أنه أشبه بالانفجار. لقد بدأ بالقصائد التقليدية، وانتقل منها إلى الشعر الحر، ثم انتهى إلى قصيدة النثر الموقعة غير المتساوقة مثل قصائده الطويلة «الإشراقات» (1872-1873م) و«فصل في الجحيم» (1873م)، وفي هذه الأشكال المختلفة التي مر بها - ومهد لها السابقون عليه - تسري عاصفة من الشعر النابض المفعم بالحركة، الذي يستغل الموضوعات والأشياء على هواه ليؤكد حريته قبل كل شيء. ونستطيع في الصفحات القادمة أن نهمل التقسيم المألوف لهذا الإنتاج إلى شعر ونثر، لنعتمد على تقسيم آخر لعله أقرب إلى روح هذا الإنتاج وحقيقته: وهو النظر إليه في المرحلة الأولى التي تنتهي في حوالي منتصف سنة 1871م وهي مرحلة الشعر المفهوم، ثم المرحلة الثانية التي يتصف شعره فيها بالغموض والإغراب.
نستطيع أن نقول بوجه عام إن أدب رامبو يحقق الأفكار النظرية التي خطط لها بودلير في ترجماته وكتاباته النقدية. ومع ذلك فهو يقدم صورة مختلفة كل الاختلاف. إن ألوان التوتر الحاد التي عرضنا لها عند الكلام على «زهور الشر» وقلنا إنها بقيت بغير حل على الرغم من إحكامها وترتيبها قد بلغت أشدها عند رامبو وأصبحت ألوانا من النشاز المطلق. فالموضوعات التي يطرقها شعره لا تكاد تتصل ببعضها إلا على نحو قد يحدس به القارئ ولكنه لا يستطيع أن يقطع فيه بالرأي اليقين، وهي في معظم الأحيان تختلط ببعضها البعض أشد الاختلاط وتمتلئ بالثغرات والفجوات. إن حقيقة هذا الشعر لا تكمن في موضوعاته، بل في غليان انفعالاته، وهو منذ سنة 1871م لا يقدم للقارئ أفكارا أو معاني مفهومة، بل مجرد شذرات، وخطوط متكسرة، وصور حسية حادة، ولكنها في نهاية الأمر صور غير واقعية. ثمة اختلاط شامل يسري في نغم هذا الشعر الذي تتألف من ألحانه المتناغمة أو المتنافرة وحدة تتجاوز المعنى والمفهوم. إن الشاعرية أو الفعل الشعري يتحول عن المضمون والعبارة إلى نوع من الرؤية الديكتاتورية المتسلطة التي تستلزم بدورها تكنيكا غير عادي في التعبير. وليس من الضروري أن يترتب على هذا التكنيك تحطيم بناء العبارة ونظامها المألوف. فالغريب أن رامبو (على عكس مالارميه) يلجأ نادرا إلى هذا، على الرغم من طبعه الانفعال المتفجر. إنه يكتفي بإفراغ مضموناته المضطربة المشوشة في جمل قد تصل في بساطتها إلى حد بدائي. (2) ضياع وضلال
لا غرابة إذن في أن يحير هذا الشعر ويربك. إن رسالة رامبو - كما قال الكاتب الناقد جاك ريفيير في سنة 1920م - هي أن يحيرنا ويضلنا. وأجمل ما في هذه العبارة هو اعتراف صاحبها برسالة رامبو. وليس ريفيير هو الوحيد الذي قال هذا. إن شاعرا كبيرا آخر - هو بول كلوديل - يقول في رسالة وجهها إليه بعد قراءاته لقصائد رامبو «الإشراقات»: «أخيرا استطعت أن أخرج بنفسي من العالم المنفر، عالم «تين» و«رينان»، من هذه الآلية البشعة التي تسيرها قوانين صارمة وهي مع ذلك قوانين يمكن معرفتها وتعليمها. لقد كانت هذه القراءة إلهاما كشف لي عن وجود يسمو فوق الطبيعة.» وكلوديل يهاجم هنا النزعة الوضعية العلمية التي قامت على الاعتقاد بأن في الإمكان معرفة العالم والإنسان معرفة كاملة، فأدت من حيث تدري أو لا تدري إلى خنق الطاقات الفنية والنفسية التواقة للبحث عن الأسرار. ولذلك فليس عجيبا أن يكون الشعر الغامض الذي ينطلق بقارئه من عالم جرده العلم من الألغاز والأسرار إلى عالم المخيلة الذي يموج بهذه الألغاز والأسرار بمثابة رسالة تعين المتلقي على التحليق في سمائه، ولعل هذا هو سر تأثير رامبو على الشعراء الذين جاءوا بعده. إن عالمه غير الواقعي المضطرب يحمل لهم الخلاص من الواقع الضيق. صحيح أنه لا ينتهي بهم إلى حقيقة عالية تسمو فوق هذا الواقع بل إلى مثالية فارغة أشد تطرفا من تلك التي وجدناها عند بودلير وأكثر عدمية. ولكنه كان ولا يزال نوعا من التحرر والخلاص على كل حال، مهما كان من ضباب الألغاز والأسرار التي أغرقها فيها.
ويزداد إحساس القارئ لرامبو بالضياع والضلال كلما تبين له أنه ينطلق من لغة لا تستطيع أن تجرحه وتصدمه وتروعه فحسب، بل تملك كذلك القدرة على أن تشجيه بالنغم العذب الساحر. ولقد يبدو له في بعض الأحيان وكأن الشاعر يهيم في ملكوت سماوي رائع، أو كأنه ينحدر من عالم آخر، تحيط به هالة من النور والفرح والصفاء ... يقول عنه «جيد» إنه غابة شوك متوهجة ، ومالارميه يصفه بأنه ملاك يعيش في المنفى. وتختلط أحكام الكتاب والنقاد على إنتاجه الزاخر بالعناصر الشاذة المتنافرة.
ويغالي البعض فيصفه بأنه أعظم الشعراء، ويحط البعض الآخر منه فيجعل منه مراهقا شاذا نسجت حول حياته وشعره الأساطير. ولا شك أن الدراسة المنصفة تستطيع أن تتجنب هذا التطرف من كلا الجانبين، ولكنها لا تملك أن تقف موقف الحياد من المبالغات التي وقع فيها الفريقان، ولا بد أن تفسرها بأنها نتيجة ضرورية للتأثير القوى الذي انبعث من شعر رامبو. ومهما يكن حكمنا عليه فلن نستطيع أن نتجاهل ظاهرة رامبو الذي أضاء واختفى كالشهاب القصير العمر، ولم يزل نوره يضيء سماء الشعر. (3) رؤية في رسالتين (شذوذ مقصود، موسيقى نشاز، فراغ)
كتب رامبو في سنة 1871م رسالتين دون فيهما برنامجه عن شعر المستقبل. وتدور الرسالتان حول الفكرة القديمة المعروفة التي تعتبر الشاعر شخصا ملهما يتنبأ بالمستقبل ويتحدث عنه بلسان الساحر والعراف والحكيم. ولذلك جاءت تسمية هاتين الرسالتين باسم «الرائي أو البصير
Lettre du voyant » (ص251 وما بعدها)، واتفق النقاد على أنهما تعبران عن بداية المرحلة الثانية في إنتاج رامبو التي تعتبر قصائده النثرية أو اعترافاته الرائعة «فصل في الجحيم» خاتمة لها. والرسالتان تؤكدان ما قلناه من أن الشعر الحديث يسير يدا في يد مع التأمل في طبيعة هذا الشعر.
والدعوة التي تحملها الرسالتان تتلخص في أن الشاعر ينبغي أن يجعل من نفسه رائيا أو بصيرا، ولكن كيف يصبح الشاعر كذلك؟ كيف يتسنى له أن يستحضر الرؤى؟ يجيب رامبو إجابته المشهورة: بإحداث بلبلة متصلة حادة في حواسه، بالانغماس «الديونيزي» المقصود في كل تجربة حسية ووجدانية ممكنة. وما غايته من بلبلة الحواس وتعمد تشويهها؟ الغاية هي معرفة الحقيقة الجوهرية الكامنة وراء الظواهر الخارجية والتعبير عنها. إن الرائي يستنفد كل سم وكل شراب لكي يحافظ على الجوهر واللباب، إنه يصبح بين الناس المريض الأكبر والمجرم الأكبر والملعون الأكبر، والعارف والرائي الأعظم! ذلك لأنه يصل إلى المجهول! وعندما يصيبه مس الجنون ويبوء بالعجز عن فهم رؤاه تكون هذه الرؤى قد أصبحت ملكة لديه؛ هو إذن بروميثوس جديد سرق النار الخالدة حقا لا خيالا، أو مسيح جديد منتظر يتوقف على ظهوره مستقبل الحياة ومستقبل الإنسانية.
لعل هاتين الرسالتين أن تكونا تنويعات على فكرة بودلير عن التماثل الشامل التي سبق الكلام عنها. بل إن رامبو يرى أن بودلير نفسه هو «الرائي الأول، ملك الشعراء إله حقيقي». وطبيعي أن مثل هذا الهدف الطموح لا يقاس إلا بالشعر الذي ألهمه وقد كانت «السفينة السكرى» - التي ستجد نصها فيما بعد - هي أعظم إلهام تمخض عنه خطاب الرؤية.
وليس جديدا على الشاعر أن يطمح إلى منزلة الرائي والبصير والعراف. فالفكرة كما قلت فكرة قديمة انحدرت إلينا عن الإغريق.
وقد رجع إليها أصحاب النزعة الأفلاطونية في عصر النهضة، ثم عرفها رامبو وهو بعد تلميذ صغير من إحدى مقالات «مونتني» التي تناول فيها فكرة أفلاطون عن المس أو جنون الإلهام الذي يصيب الشعراء (وقد عرضها بوجه خاص في محاورة فايدروس). وليس ببعيد أن يكون رامبو قد تأثر في هذا الصدد أيضا بفيكتور هيجو. المهم على أية حال أنه فهمها فهما جديدا، وأنه فسر الرؤية تفسيرا يختلف اختلافا كبيرا عما كانت عليه عند اليونان.
إن هدف الشعر في رأي رامبو هو «الوصول إلى المجهول»، أو هو في عبارة أخرى «رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع.» ويعلم القارئ أن هذه الأفكار ليست جديدة كل الجدة؛ فهي موجودة كما رأينا عند بودلير، وهي تستخدم هنا وهناك للدلالة على المثالية الفارغة، أو المتعالي (الترانسندانس) الخالي من كل معنى. ورامبو لا يحددها عن قرب، بل يكتفي بالتعريف السلبي للهدف الذي تتجه الرؤية نحوه. فهو أحيانا «غير المألوف» أو «غير الواقعي»، وهو في كل الأحيان ذلك «الآخر» الذي يخلو من أي معنى إيجابي. وأشعار رامبو تؤكد هذ؛ فأنت تلمس نزعتها العاصفة المتفجرة للانطلاق وراء الواقع، ثم تلمس تحويلها أو تشويهها للواقع إلى صور مفككة، صور غير واقعية حقا، ولكنها لا تدل على معنى متعال أصيل. إن المجهول يظل عند رامبو كما كان لدى بودلير قطب توتر فارغ من المضمون، ورؤيته الشعرية تتغلغل في حطام الواقع - الذي مزقه الشاعر عن عمد! - لتبصر السر المظلم. فما هو موضوع هذه الرؤية؟
يجيب رامبو على هذا السؤال بعبارة مشهورة: ... «لأن «أنا» شيء آخر، عندما تبعث الحياة في الصفيح فيتحول بوقا، فليس للصفيح فضل في هذا. إنني أعاين ازدهار تفكيري، أنظر إليه، أتسمع صوته. إنني ألمس الوتر، وما هو إلا أن تهتز السمفونية في الأعماق. من الخطأ أن يقال: أنا أفكر. لا بد أن يقال: إن هناك من يفكرني.»
ليست الأنا التجريبية إذن هي الموضوع الصالح للرؤية، بل هناك قوى تحل محلها، قوى صادرة من الأعماق، سابقة على الشخصية، ولكنها نافذة وقاهرة. إنها هي الأداة الملائمة لرؤية «المجهول». وليس من الصعب أن نحس اللمسة الصوفية في هذا الكلام. فالأنا تتجرد من نفسها، تطرح ذاتها، لأن الإلهام الإلهي يتملكها ويسيطر عليها، ولكن هذه السيطرة تأتي الآن من أسفل، تأتي من الأعماق. تغوص الأنا في الأعماق وهناك تغلب عليها الروح الكلية
Lâme miverselle
الجامعة فتشلها وتسلب إرادتها. ها نحن نعاين مشهدا جديدا سيتكرر في الشعر الحديث. إن الشاعر يتلقى تجاربه الجديدة - التي أصبح العالم المستهلك عاجزا عن تقديمها له - من عالم آخر هو عالم المجهول الذي يسوده الاضطراب والتشويش. ولا غرابة بعد هذا أن يرى السيرياليون في رامبو أحد آبائهم وروادهم.
ولكن لنعد مرة أخرى إلى فكرتنا الأصلية لنسأل: كيف تصل الأنا إلى تجريد ذاتها من كل قوة؟ يقول رامبو: عن طريق الفعل. ولكن ما هي طبيعة هذا الفعل؟ الجواب: الإرادة والذات هما اللتان تقومان بتوجيهه: «أريد أن أكون شاعرا، وإني لأعمل جاهدا لأن أكونه.» والعمل هنا جهد إرادي دءوب مضن يحاول به الشاعر، مهتديا بالعقل «أن يشوش حواسه ويشيع فيها الاضطراب.» بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول: «إن المهم هو أن يصنع الشاعر لنفسه نفسا مشوهة، متشبها في ذلك برجل يزرع البثور في وجهه ويرعاها حتى تكبر.» والدفعة الشعرية لا تنبعث إلا «بمسخ» الذات «وتقبيح» النفس. وما الهدف من كل هذا العناء ؟ الهدف هو بلوغ «المجهول». والشاعر الذي ينظر في المجهول هو «المريض العظيم، والمجرم العظيم، والمحتقر العظيم، وهو كذلك أعظم العارفين.»
إذن فلم يعد الشذوذ قدرا يحتمله الشاعر في صمت وشجاعة، كما كان الحال عند روسو والرومانتيكيين. إنه الآن رغبة مقصودة في «الابتعاد» و«الانطلاق» و«الخروج». والأدب، والشعر بوجه خاص، مرتبط بالمجهود الذي تبذله الإرادة «لمسخ» الذات أو تشويه النفس؛ لأن هذا المسخ وهذا التشويه هما اللذان يسمحان بالاندفاع الأعمى نحو الأعماق البدائية الدفينة أو الانطلاق نحو المتعالي (الترانسندنس) الفارغ من كل معنى وحقيقة. وما أبعدنا الآن عن ذلك الشاعر أو الرائي الإغريقي الذي تتملكه ربات الفن وتصيبه الرؤية بمس الإلهام أو عبقري الجنون!
إن الأدب الذي يأتي عن هذا الجهد الشاق سيصبح الآن «لغة جديدة» أو «لغة جامعة»، وهذه اللغة تختلط فيها عناصر الإغراب والعمق والتنفير والنشوة، يستوي أن يكون لها شكل أو لا يكون، ويستوي فيها الجميل مع القبيح. إن مقياس قيمتها هو الانفعال والموسيقى، هي عند الشاعر الذي لا يكف عن الحديث عنها «موسيقى مجهولة»، وهو يسمعها في «القلاع المبنية من العظام»، في «الأغنية الحديدية المنبعثة من أسلاك البرق»، وهي «نشيد مشرق عن محنة من نوع جديد». هي موسيقى عميقة امحى فيها كل أثر «للعذاب الشجي» الذي طالما تغنى به الرومانتيكيون. وكلما نغمت موسيقى هذا الشعر الأشياء والكائنات انبعث منها صراخ وزئير يخترمان الغناء والنشيد؛ إنها موسيقي نشاز أو هي نشوز موسيقي.
ولكن لنرجع مرة أخرى إلى الرسالتين؛ ستستوقفنا عبارات جميلة كهذه العبارة: «إن الشاعر يحدد مقدار المجهول الذي يجيش في روح عصره الشاملة.»
ثم يأتي الكلام عن الشذوذ فيعلن في برنامجه أن الشاعر هو الشذوذ الذي أصبح معيارا. ويصل إلى القمة حين يقول: «إن الشاعر يبلغ المجهول، وإذا لم يستطع في نهاية الأمر أن يفهم رؤاه، فيكفي أنه تمكن من رؤيتها.» قد تقضي عليه وثبته الهائلة في محيط الأشياء التي لم يسمع بها ولم يعرف لها اسم، ولكن سيأتي عمال آخرون مخيفون فيبدءون من تلك الآفاق التي تحطم هو نفسه عليها.
من هو الشاعر إذن؟
هو ذلك الذي يعمل على تفجير العالم بالمخيلة الطاغية المستبدة التي تنطلق إلى المجهول وتتحطم عليه. فهل يا ترى أحس رامبو أن القوتين المتعاديتين في عالمنا الحديث، وأقصد بهما العامل في الصناعة و«العامل» في الشعر يمكن أن يتلاقيا في الخفاء، ربما لأن كليهما مستبد متسلط على الأرض والنفس على حد سواء؟ (4) قطيعة مع التراث
هذا التمرد الذي يعلنه رامبو في أشعاره وفي برنامجه الطموح يرتد أيضا إلى الوراء فيصبح تمردا على التراث. والمتمرد على التراث قد ينجح في تحطيمه أو مقاطعته ولكنه لا ينجو أبدا من تأثيره ولا يستطيع الإفلات منه. فالمعروف أن رامبو كان في صباه وشبابه شديد النهم إلى القراءة، وأشعاره زاخرة بأصداء من أدباء عصره أو أدباء القرن التاسع عشر، ومع ذلك فإن حدة النغم في هذه الأصداء شيء يأتي من رامبو نفسه ولا يأتي من النماذج التي تتردد في وجدانه. إن كل ما يتلقاه من التراث الأدبي قديمه أو حديثه يتحول عنده إلى شيء جديد كل الجدة، شيء ينتج عن زيادة في دفء الانفعال تصل إلى حد الغليان، أو تطرف في برودته إلى حد التثلج ... ولذلك فلا يعتد كثيرا في الحكم على شعره بالأصداء المنبعثة من التراث، كل ما هناك أنها تؤكد حقيقة تصدق على رامبو كما تصدق على غيره: ما من أديب يبدأ من العدم.
إن رامبو يغير ما يقرؤه ويحوله إلى شيء آخر مختلف تمام الاختلاف، ولعل هذا هو الدليل على موقفه من التراث بوجه عام. إنه لا يكتفي بمقاطعته والتمرد عليه، بل يمقته ويعلن كراهته له ، ويكفي أن نذكر كلامه في رسالة الرؤية الثانية عن لعنة الأسلاف، ويكفي أيضا أن نتذكر ما يؤثر عنه من سخرية بمتحف اللوفر، ودعوته إلى إحراق المكتبة الأهلية في باريس! وقد تبدو هذه الأقوال صبيانية، ولكنها تتفق مع الروح الشائعة في آخر أعماله «موسم في الجحيم» الذي يشهد حقا بأن صاحبه لا يزال شابا، ولكنه يشهد كذلك بأنه تخطى مرحلة الصبا.
على أن انعزال رامبو عن جمهور القراء وعن عصره الذي عاش فيه بهذه الصورة المثيرة قد أدى كذلك إلى عزلته المثيرة عن الماضي، ولا ترجع هذه العزلة إلى أسباب شخصية بقدر ما ترجع إلى طبيعة العصر نفسه، فيبدو أن طغيان الروح التاريخية والتطرف في الاهتمام بالجمع المتحفي كانا عبئا كبيرا على كاهل العصر؛ مما أدى إلى انقطاع الاتصال الحي بالتراث، بل إلى مهاجمة كل ما يتصل بالماضي والنفور منه. ولا زالت آثار هذه الظاهرة ملموسة في الأدب والفن في القرن العشرين.
ويبدو أن رامبو كان في سني التلمذة شديد التحمس للتراث الكلاسيكي. ولكن التراث الكلاسيكي يظهر في أعمال هذه المرحلة من إنتاجه في صورة ممزقة شائهة، والسخرية أو المسخرة التي أخذها من فيكتور هيجو ومن رسوم دومييه تمتد فتشمل عالم الآلهة والأساطير، وتجرهما إلى حياة الشارع اليومية بكل ما فيها من فجاجة وسطحية. فنحن نقرأ عن «نساء باخوس»
1
اللائي يعشن في الضواحي، كما نقرأ عن فينوس التي تقدم كئوس الخمر للعمال، والغزلان التي ترضع من ثديي ديانا.
وتصل نزعة التقبيح إلى قمتها في سوناتة بعنوان «فينوس أنا ديومين» كتبها في 27 يوليو سنة 1870م، إذ تتحول فيها الأسطورة الإغريقية الجميلة عن ميلاد فينوس من زبد البحر إلى شيء غريب ومخيف:
فينوس
كأنما يرقد في تابوت أخضر من صفيح
رأس امرأة، بني الشعر، مضمخ بالدهون،
يطفو من حوض استحمام
2
قديم، في غباء وخمول،
والعيوب التي يكشف عنها، قد أساء إليها العلاج؛
والرقبة بعد ذلك مكتنزة بالشحم وداكنة،
والكتفان العريضان بارزان، والظهر القصير معوج؛
الدهن يلمع تحت الجلد كالأوراق الملساء؛
والاستدارة أسفل الظهر تبدو شديدة الانتفاخ؛
سلسلة الظهر محمرة قليلا، والجسد كله
ينشر رائحة مفزعة غريبة، ويرى الإنسان
أشياء عجيبة تحتاج لعدسة مكبرة ...
محفورة أسفل الظهر كلمتان: فينوس الشهيرة؛
الجسد كله يحرك ويمد خلفيته العريضة،
التي يزيد من جمالها البشع قرح في الشرج.
إن مضمون القصيدة يبين المفارقة الحادة مع عنوانها؛ فها هي ذي فينوس الجميلة الحالة قد استحالت امرأة بشعة ، يطفو رأسها المقروح من مغطس من الصفيح، وتستقر رقبتها الغليظة الكالحة فوق ظهر مقوس حفر عليه الاسم الرائع المهان، وبين الفخذين قرحة تنشر رائحة لا شأن لها بالطيب والعطور! وقد حاول بعض الشراح أن يجد في القصيدة سخرية ببعض قصائد شعراء البارناس (وهم جماعة من الشعراء الفرنسيين كانوا يميلون إلى التغني بالأساطير القديمة). بيد أنها سخرية مفزعة لا دعابة فيها؛ فالشاعر يهاجم الأسطورة نفسها، بل يهاجم التراث والجمال بوجه عام. وهو يفرغ في هذا الهجوم شحنة هائلة من رغبته العارمة في التحوير والتغيير والتشويه، ولكن الغريب حقا أن هذه الرغبة في التشويه تملك من المقدرة الفنية ما يمكنها من أن تجعل من القبح أسلوبا له منطقه الخاص.
وتزداد السخرية المرة بالجمال والتراث في قصيدة أخرى بعنوان: «ما يقال للشاعر عن الزهور»، إنها تهزأ بالقصائد التي يتغنى فيها الشعراء بالورود والزهور والسوسن والزنبق، فهناك نباتات أخرى تلائم الشعر الجديد: فلا تتغن أيها الشاعر بالزهرة والكرمة، بل بالدخان، وأعواد القطن، وأمراض البطاطس. إن دمعة شمعة واحدة أصلح للشعر من ندى الزهرة الحية أو الميتة، والنباتات الغريبة النادرة أنسب مما تراه في وطنك، وتحت سماء سوداء في زمن الرعب والحديد ينبغي أن تكتب قصائد سوداء، تبزغ فيها القافية كالملح أو كالمطاط السائل، إن أسلاك البرق هي قيثارتها، وسيأتي إنسان يعزف عليها نغم الحب العظيم، إنسان «يسرق منا المغفرة المظلمة.»
أيها التاجر! أيها الزارع! أيها الوسيط!
سوف تنبثق قافيتك الوردية أو البيضاء،
أشبه بالمطاط المصهور،
أو حزمة من ملح النطرون!
من قصائدك السوداء، أيها الحاوي! (وهي) مرايا بيضاء وخضراء وحمراء،
دع الزهور الغريبة تفلت منها،
وأجنحة الفراشات الكهربائية!
ها هو عصر الجحيم يأتي على فجأة.
وأعمدة البرق سوف تزين - كأنما هي قيثارة أغان من حديد -
ذات يوم ظهرك البديع.
المهم أن تنظم قصيدة
عن مرض البطاطس!
3 (5) الحداثة وشعر المدينة
ربما استطاعت الأبيات السابقة أن تعطينا فكرة عن موقف رامبو من الحداثة، وهو شبيه بموقف بودلير. فكلاهما يكره الحداثة إذا كانت تدل على التقدم المادي أو التطور العلمي، وكلاهما يتشبث بها بقدر ما تعطيه من تجارب جديدة، تدفعه بخشونتها وسوادها على أن ينشئ فيها قصائد خشنة سوداء.
من هنا نستطيع أن نفهم شعر رامبو عن المدينة، وهو الذي نجده في مجموعة القصائد النثرية التي تحمل عنوانا قد يفيد معنيين: الإشراقات أو اللوحات الملونة
Ill uminations .
ولو تذكرنا قصيدة بودلير السابقة التي يروي فيها حلمه عن مدينة صناعية لا توجد إلا في خيال عقل هندسي مجرد، فإن قصائد رامبو في هذه المجموعة الرائعة تصل بذلك الحلم إلى أقصى مداه، ومن أفضل هذه القصائد تلك التي تحمل عنوان «مدينة» و«مدن». هنا نجد أمامنا أكواما من الصور المفككة المتراكمة التي ترسم لنا مدن الخيال أو مدن المستقبل، وتحلق فوق الأزمنة والعصور، وتعكس كل نظام مكاني مألوف، هناك الكتل الضخمة التي تتحرك وتترنم بالأصوات الشجية وتبكي وتصرخ وتنشج، ويختلط الشيء بما ليس بشيء. و«ينهار المتألهون» بين أكواخ من بللور ونخيل من نحاس، وفوق أخاديد رهيبة وهوى عميقة ترقص فيها الأشباح، ونرى حدائق صناعية وبحرا صناعيا، وقبة كنيسة من الصلب قطرها خمسة عشر ألف قدم! وشمعدانات هائلة ومدينة عالية لا تكاد العين ترى المدينة الصغيرة التي بنيت تحتها:
مدينة
لست بالمواطن العابر الساخط كل السخط في عاصمة يعتقد الناس أنها حديثة لأن كل ذوق معروف قد استبعد من أثاث بيوتها الداخلي والخارجي كما استبعد من خريطة المدينة. لن يمكنكم أن تعثروا هنا على أثر واحد للخرافة. إن الأخلاق واللغة قد ردا إلى أبسط تعبير لهما، أخيرا! هذه الملايين من الناس الذين لا يشعرون بالحاجة إلى معرفة بعضهم البعض، يمارسون التربية والحرفة والشيخوخة ، بصورة بلغت من التشابه حدا يجدر معه أن تصبح أعمارهم أقصر بكثير مما يثبته التعداد المجنون لشعوب القارة. وهكذا أطل من نافذتي وأرى أشباحا جديدة تدور في دخان الفحم الأزلي الكثيف - ظل غاباتنا، ليل صيفنا! - وآلهة انتقام جديدة، أمام كوخي، الذي هو وطني وقلبي كله، وإذ كان كل شيء هنا يشبه هذا، ينشج الموت الذي خلا من الدموع ، خادمنا النشيط وعبدنا، وحب يائس، وجريمة فاتنة في وحل الطريق.
مدن
إنها لمدن! إنه لشعب من أجله ارتفعت جبال الأحلام في أليجانيس
4
ولبنان. أكواخ (شاليهات) من البللور والخشب، تتحرك على بكر وقضبان غير منظورة. فوهات البراكين القديمة التي تطوقها الأعمدة الضخمة وأشجار النخيل النحاسية، تزأر زئيرا شجيا في النيران. أعياد الحب تدق أنغامها فوق القنوات المعلقة خلف الأكواخ. مطاردة الأجراس تضج في الأغوار. زمر من المغنين العمالقة يهرعون في أثواب فخمة وبأيديهم أعلام تشع ضوءا أشبه بضوء القمم. على الأسطح، وسط الأغوار، يترنم أبطال (ملحمة) رولاند بشجاعتهم. فوق جسور الهاوية وأسطح الفنادق يزين وهج السماء السواري بالرايات. انهيار (الأبطال) المتألهين يبلغ الأعالي، حيث تتواثب القنطورات الساروفية
5
بين الحمم فوق مستوى الحواف العليا بحر جائش بميلاد فينوس الأبدي، محمل بأساطيل أتباع أورفيوس وهدير اللآلئ والأصداف النفيسة، البحر يظلم أحيانا من الدوي المميت. على المنحدرات تزأر قطوف الورد، التي تشبه دروعنا وكئوسنا في ضخامتها، أسراب من الجنيات في ثياب حمراء متلألئة تخرج من الهوى والأغوار. وفي مرتفع عال ترضع الغزلان من ثديي ديانا، وأقدامها في مساقط المياه وفي الأشواك. عابدات باخوس في الضواحي ينشجن، والقمر يحترق وينوح. فينوس تدخل كهوف الحدادين والنساك، فرق من نواقيس العواصف تتغنى بآمال الشعوب. من القلاع المشيدة من العظام تنبعث الموسيقى المجهولة. الأساطير كلها تتقدم مسرعة والحماس يندفع إلى الأسواق. جنة الإعصار تنهار. المتوحشون يرقصون بغير انقطاع في عيد الليل. نزلت ساعة كاملة في أحد أسواق بغداد التي تضج بالحركة والحياة، حيث كانت المجموعات تغني بالفرحة والعمل الجديد، بينما يهب عليها نسيم كثيف. رحت أدور هنا وهناك، دون أن أستطيع الإفلات من الأشباح الخرافية في الجبال، وهي التي كان يخلق بي أن أجد نفسي فيها.
أي ذراعين جميلتين، وأي ساعة حلوة ترد على هذه المدن التي يزورني منها نوم ليالي وأوهى حركاتي؟
من العسير حقا أن يحاول الإنسان فهم هذه الصور المختلطة أو البحث عن المعنى الذي تنطوي عليه؛ ذلك لأن معناها كامن في اضطراب صورها لقد خلقها خيال منفعل جياش، وغلفها بضباب شامل من المشاهد الغريبة المتشابكة التي يصعب تفسيرها، وإن كان من الممكن إدراكها بشكل محسوس وتلمس أوجه الشبه بينها وبين بعض العناصر المادية والنفسية التي تتكون منها الحياة الحديثة في المدن الكبرى. ولا شك أنها صور مخيفة مفزعة، ولكن لها تأثير السحر على نفوسنا، وربما يكون السبب في هذا أنها تقترب في كثير من الأحيان من صور الحياة اليومية التي نعيشها في المدن الكبرى، مدن الرعب والأسفلت! (6) ثورة على التراث المسيحي
ثورة رامبو على المسيحية جزء من ثورته على التراث بأكمله. إنها ثورة لا تهدأ، بل تبدأ بالعذاب وتنتهي بالعذاب. إنه يتمرد على كل شيء لا يستطيع أن يتخلص منه. والدين، ككل موروث، يفرض سلطانه على من يثور عليه، بل إن عبئه يزيد على رافضيه أكثر من المؤمنين به، وهذا العذاب، عذاب من لا يقدر الإفلات من عبء التراث، أوضح ما يكون في شعر رامبو. فنصوصه تبين كيف يبدأ متعذبا بالثورة عليه، وكيف ينتهي متعذبا بالعجز عن الإفلات منه، وعذابه هذا جزء من عذابه في البحث عن «المجهول»، عن ذلك «المتعالي الأجوف» الذي لا يستطيع أن يكشف عنه إلا بتحطيم الواقع وتفتيته.
عرف رامبو كل هذا، وسجل هذه المعرفة في شعره، فهو في المرحلة الأولى يوجه هجومه العنيف على المسيح والمسيحية، ويحلل النفس المسيحية تحليلا سيكولوجيا يكشف عن محنتها وشقائها. ففي قصيدة «قداس العشاء الرباني الأول» (يوليو 1871م)، نراه يكتب عن فتاة صغيرة تدخل الكنيسة لتحضر المناولة الأولى وتسمع ثرثرة القسيس، وتنسج أحلام المراهقة المتعبة التي تستسلم لثورة رغباتها الدفينة، وتلقي ذنب الكبت الذي تعانيه على العذراء والمسيح.
ولكن الشاعر يذهب إلى أبعد من هذا. فهو يكتب في حوالي سنة 1872م أو سنة 1873م قطعة نثرية تبدأ بهذه الكلمات: «بيت صيدا، المغطس ذو الأبهاء الخمسة» وتعتمد على ما ذكر في إنجيل يوحنا عن شفاء السيد المسيح لأحد المرضى عند بركة بيت صيدا. ولكنه يغير في قصة هذه المعجزة تغييرا شاملا فالمرضى والعجزة ينزلون في الماء الأسود العكر ، ولكن لا يهبط ملاك، ولا يشفيهم أحد، ويقف المسيح مستندا إلى أحد الأعمدة، وينظر صامتا إلى المرضى الذين يستحمون، ويرى وجه الشيطان الساخر يطل من وجوههم، وينهض أحد هؤلاء المشلولين فيخرج من الماء ويتجه نحو المدينة في خطى واثقة، من الذي شفاه؟ أهو السيد المسيح؟ ولكنه لم يقل كلمة واحدة! ولم ينظر إلى المرضى نظرة واحدة! أهو الشيطان؟ ولكن النص يصمت ويكتفي بأن يضع المسيح على مقربة من المريض. على أن القارئ قد يخرج بفكرة آخرة؛ قد لا يكون المسيح هو الذي شفى المريض، وقد لا يكون الشيطان. ربما تكون قوة علوية لا يعرف أحد عنها شيئا. ربما تكون تلك الحقيقة الجوفاء من كل معنى، ذلك المتعالي الأجوف.
بيد أن رامبو يقول كلمته الأخيرة عن المسيحية في مجموعته النثرية المشهورة «موسم في الجحيم» (أبريل - أغسطس 1873م): ويتألف النص من سبع قطع نثرية طويلة، تمضي لغتها في خطوات متعددة وحركات مفاجئة. إنها أشبه بدفعات قوية، تبدأ عبارة دون أن تختمها، وتبني أكواما من الكلمات المحمومة التي تركض هنا وهناك بغير اتجاه، وتلقي أسئلة بلا جواب، وتنثر في النص ذلك الجنون الساحر المريع الذي يصنعه تغير الفصول.
وموسم في الجحيم أشبه ما يكون بمراجعة يقوم بها الشاعر لكل المراحل الفنية التي مر بها. ولكنه كذلك أشبه بمجموعة من القفزات والكبوات المتصلة، فهو لا يكاد ينفض عنه مرحلة حتى يعود فيسقط فيها، وتكون النتيجة حيرة مربكة لا تستقر، فما أحبه الشاعر مرة فهو يكرهه الآن، ثم لا يلبث أن يحبه مرة أخرى، لكي يكرهه من جديد. وما يثبته في جملة يعود فينفيه في جملة تالية، ثم يكرره في ثالثة. وإذا تمرد مرة رجع فتمرد على تمرده ... حتى تأتي الخاتمة فتجرف شلال المتناقضات في هوة واحدة: وداع الشاعر لكل حياة عقلية أو روحية، ويأسه من الحب ومن كل يد صديقة. ... أحيانا أرى في السماء شطآنا مترامية تغطيها أمم بيضاء سعيدة. ثمة سفينة ذهبية كبيرة فوق رأسي ترفرف أعلامها الملونة في نسيم الصباح. لقد خلقت كل الأعياد، كل الانتصارات، كل المآسي. حاولت أن أبتكر أزهارا جديدة، نجوما جديدة، بشرا من لحم جديد، ولغات جديدة. اعتقدت أن في استطاعتي اكتساب قدرات خارقة. حسنا! علي أن أدفن خيالي وذكرياتي. يا له من مجد جميل ذهب؛ مجد فنان وقصاص!
أنا! أنا الذي سميت نفسي ساحرا أو ملاكا، ونفضت يدي من كل أخلاق، قد رددت للأرض كي أبحث لنفسي عن واجب وأعانق الواقع المجعد! يا لي من فلاح!
هل خدعت؟ أيكون الحب الرحيم بي شقيقا للموت؟
مهما يكن الأمر فسوف أطلب الغفران لأنني عشت على الكذب. ولأمض إلى الأمام!
ولكن ما من يد صديقة! وأين ألتمس العون؟ ...
ذلك إذن هو مجمل هذه المقطوعات الحائرة المحيرة؛ تشرد في العالم المألوف، عالم الأشياء والنفوس والعقول وتحديد لموقف الشاعر من التراث الديني. إنها تذكر المصطلحات المسيحية هنا وهناك: الجحيم، الشيطان، الملاك، ولكنها تتأرجح بين المعنى اللفظي والاستعاري، ولا تثبت إلا على معنى واحد، هو معنى الثورة العمياء والتمرد الجامح. يدل على هذا وصف رامبو نفسه لها بأنها «صحائف قبيحة من مذكراتي عن اللعنة، مقدمة للشيطان». أو قوله في مقطوعة منها «دم شرير»: «الدم الوثني يعود!» الروح قريب؛ لماذا لا يساعدني المسيح ويمنح نفسي النبل والحرية؟ آه، لقد فات الإنجيل، الإنجيل. الإنجيل! ثم يقول: «إنني أغادر أوروبا، أريد أن أسبح، أكسر العشب، أصطاد، أدخن بصورة خاصة، أعب خمورا قوية كالمعدن المصهور، كما كان يفعل الأجداد الأعزاء عندما كانوا يجلسون حول النار. سأرجع، بأعضاء من حديد، ببشرة غامقة، بعيون وحشية. عندما يبصرون قناعي سيعتقدون أنني من جنس قوي. سأملك الذهب؛ سأعيش عاطلا وضاريا . النساء يرعين هؤلاء المرضى المتوحشين العائدين من المناطق الحارة. سأهتم بالسياسة، وأنقذ نفسي.» غير أنه يقول في عبارة سابقة من نفس المقطوعة: «أنتظر الله في نهم.» وفي عبارة تأتي بعد هذا: «ما كنت مسيحيا أبدا. أنا من جنس يغني في العذاب.» وهو يدعو «لذات اللعنة» ولكنها لا تستجيب. وينادي المسيح والشيطان، ولكنهما لا يسمعان، ومع ذلك يحس بقيودهما حول جسده وروحه: «أعلم أنني في الجحيم، وإذن فأنا فيه!» الجحيم هو العبودية في ظل شريعة تسأل وتجيب. والوثنيون ليس لهم جحيم، ولذلك تمتنع عليه الوثنية أيضا.
وقد يتصور الإنسان أن الشاعر يعاني من المسيحية كما يعاني من جرح. ولكن سرعان ما تتحول ثورته إلى سخرية، ويصبح عذابه تهجما وسقوطا في آن واحد. ربما كان هذا هو ما يقصده من قوله إنه في الجحيم. والكلام عن الجحيم يدل على نوع من الارتباط بالتراث المسيحي، ولكنه يدل كذلك على نوع غريب وجديد، ويحس القاري «لفصل في الجحيم» أن الشاعر يكاد يسأل نفسه بشكل خفي: أليس الاضطراب في العالم الحديث وفي باطن الإنسان نفسه نوعا من القدر المسيحي؟ ولكن الشاعر لا يجيب على السؤال ولا يحل المعضلة. ويحس القارئ من ناحية أخرى بموضوع آخر يطرقه الشاعر بإلحاح؛ الهجرة من القارة الأوروبية، والهرب من «مستنقعات الغرب» وحماقته، من البرهنة على ما هو واضح وطبيعي، وعدم الانتباه إلى أن البرجوازي الضيق الأفق قد ولد يوم ميلاد المسيح. ويبرز هذا الموضوع في ثنايا المقطوعات السبع، ويسير في اتجاه محدد، وتمضي خلال الخريف، والشتاء، والليل والتعاسة؛ «ديدان في شعري وكتفي وقلبي». ثم يأتي القرار بعد الضياع الأخير: معانقة الواقع المغضن، الهروب من أوروبا العجوز إلى شطآن البحار وغابات الوحوش، بداية حياة من العمل الحازم القاسي ...
ولقد برهن رامبو على صدق هذا القرار. أوغل في البحث عن المجهول بأقصى طاقته، وفعل في سبيل ذلك ما لم يفعله شاعر سواه، ولكنه لم يصل في النهاية إلى شيء واضح عن طبيعة هذا المجهول. ولذلك أعلن استسلامه أمام صراعات الوجود العقلي وتوتراته التي لم يجد لها حلا وعدل عن هذا الطريق بعد أن أدرك خيبته، وراح يجتر موته الباطن، وصمته حيال العالم الذي فجره بنفسه. كان التراث المسيحي هو أعتى عقبة صادفته. لقد عجز عن إشباع جوعه الهائل إلى حقيقة تسمو فوق الواقع الذي بدا له ضيقا محدودا ككل ما هو أرضى. وكان من نتيجة الحريق الذي أشعله رامبو في الواقع والموروث أن انهارت المسيحية أمام عينيه.
وإذا كان بودلير قد استطاع أن يصنع من لعنته نظاما متسقا، فقد تحولت اللعنة على يدي رامبو إلى عماء مضطرب، ثم إلى صمت مطبق.
ولذلك فلا يستطيع أحد أن يصدق ما روته شقيقته إيزابيل من أنه مات مؤمنا، بعد أن تأكد الباحثون من كذب هذه الرواية. (7) طرح النزعة البشرية
إذا أردنا أن نفهم رامبو فلا بد من الفصل بين الذات الشعرية والذات التجريبية لديه. إن «الأنا» التي تتحدث في شعره - شأنها في هذا شأن الأنا التي تتحدث في أزهار الشر - لا صلة لها بالأنا والشخصية أو النفسية، أعني أن شعره ليس تسجيلا لحياته التي عاشها، أو تجاربه النفسية التي كابدها. ولعل هذا هو أهم مظاهر الحداثة في شعره، بل لعله أن يكون بداية هذه الظاهرة العامة التي نلاحظها بوضوح في الجانب الأكبر من الشعر الحديث - وبخاصة في شعر أزرا باوند وسان-جون بيرس - ألا وهي ظاهرة الانفصال بين الذات الشعرية والذات الشخصية.
صحيح أن تجارب رامبو الغريبة في صباه وشبابه قد تفيد في شرح نصوصه من الناحية السيكولوجية، ولكنها لا تكاد تصلح في شيء لبيان ذاته الشعرية. فعملية طرح النزعة البشرية التي تكلمنا عنها من قبل قد زادت وضوحا في شعره، وأصبحت الأنا ذات الأصوات المتعددة المتنافرة ثمرة ذلك التحول الذاتي الذي أشرنا إليه فيما تقدم، وذلك الأسلوب التخيلي الذي تنبع منه مضامين شعره وصوره.
قد تضع هذه الأنا على وجهها مختلف الأقنعة، وقد تمتد فتسع مختلف الشعوب والأزمنة والبقاع. وقد نجد رامبو في بداية كتابه «فصل في الجحيم» يتحدث عن آبائه وأجداده الغاليين. ولكننا لا نلبث بعد قليل أن نتبين أنها مجرد كلمات؛ إذ نقرأ بعد سطور قليلة: «لقد عشت في كل مكان، ما من أسرة أوروبية لا أعرفها.» ثم بعد قليل: «إنني أتذكر تاريخ فرنسا، أكبر بنات الكنيسة. كان من الممكن أن أسافر إلى الأراضي المقدسة كواحد من رقيق الأرض، في رأسي شوارع السهول الشفابية، ومناظر من بيزنطة، وأسوار القدس ...» هذه عبارات تصدر عن خيال حركي، لا عن رغبة في كتابة حياة شخصية. إن هذه الأنا الشعرية أو الذات الفنية تتغذى على صور حمقاء، وأثارات تأتي من عالم الشرق أو من عالم البدائيين، وتتسع فتشمل الأفلاك ومختلف أشكال الوجود، وتتحول إلى ملاك أو شيطان أو ساحر.
ومما يؤكد انفصال الذات الشعرية عن الذات التجريبية أن رامبو نفسه يفسر قدرة العقلي والروحي على أساس العوامل غير الشخصية المتصلة بعصره وبالحداثة بوجه عام. إنه يقول في ختام النص السابق: «الصراع الروحي شبيه في ضراوته بمعركة تنشب بين الرجال.»
إن الشاعر يعلم أنه سقط في قرار عميق، أعمق من كل من سقط قبله أو يسقط بعده؛ وهو لذلك يستطيع أن يرى آفاقا أبعد، ويحمل الموت معه أينما ذهب. لكنه يعلم أيضا أنه لن يفهمه أحد، ولديه الكبرياء التي تجعله يقول إن «لهذا العذاب الغريب سلطة مقلقة.» ومع هذا كله فهو عدو لدود لما يسمى عند الرومانتيكيين «بالقلوب الحساسة»، وهو معتز بأن تفوقه يرجع إلى أنه ليس له قلب، حريص على التخلص من ضعفه البشري بحيث يستطيع أن يقول في إحدى قصائده: «هكذا تحرر نفسك من إعجاب الناس، من الطموح الدنيء ثم تحلق ...» (ص132).
تخلص الشعر إذن من النزعة البشرية. إنه لا يتحدث لأحد، بل يكاد يتحدث لنفسه. لا يحاول أن يجذب انتباه القارئ. لا يحاول أن يغري المستمع. يبدو كأنه يتكلم بصوت لا يخرج من فم إنسان، خصوصا كلما توارت الأنا المتخيلة وراء عبارة خالية من كل ذكر أو إشارة إلى الأنا. إن العواطف المتميزة تخلي مكانها لنوع من التعبير المحايد، نكاد نحس به عند رامبو أقوى من إحساسنا به عند إدجار ألان بو. ولنضرب مثلا لذلك بقصيدة نثرية بعنوان «قلق
Angoisse »:
أمن الممكن أن تلهمني الصفح عن رغباتي الممزقة على الدوام، وأن تعوض نهاية مريحة أوقات الحرمان، وأن يعينني يوم أيام النجاح على النوم فوق عار خيبتي المقدورة؟ (آه أيها النخيل! أيها الماس! - أيها الحب! أيتها القوة! - أسمى من كل الأفراح والأمجاد! - في كل الأشكال - في كل مكان، شيطان ، إله - شباب هذا الكائن. أنا!).
أمن الممكن أن تحب مزاعم الخرافات العلمية والحركات الداعية إلى الأخوة البشرية كما لو كانت محاولات تدريجية لإعادة الحرية الأولى؟
لكن مصاصة الدماء التي تجعلني رقيقا ومحبوبا تأمرني أن أستمتع بما تتركه لي، وإلا فلأكن أكثر حماقة وسخفا.
أن يتمرغ الإنسان في جراحه، في الهواء وفي البحر، في ألوان التعذيب، في صمت المياه والرياح القاتلة؛ في أشكال العذاب التي تضحك بصمتها الأجوف المخيف.
ويبدو من عنوان القصيدة كأنها تشير إلى حالة نفسية محدودة. غير أن قراءتها تبين أن هذه الحالة لا وجود لها. فالقلق فقد وجهه المألوف. بل إن القارئ ليسأل نفسه: أهذا القلق موجود؟ إنه يشعر بعاطفة شديدة غير محددة، يختلط فيها الرجاء والاندحار والفرح والسخرية والسؤال - القصيدة تقول ما تقوله على عجل ولا تلبث أن تعبره إلى شيء جديد - حتى تصب الكلمات في الجراح والعذاب والتعذيب والصمت - دون أن يدري الإنسان من أين جاءت هذه الكلمات أو ماذا تعنيه، إنما هو خليط من الصور والانفعالات غير المحددة - مثلها في ذلك مثل الكائنين الأنثويين اللذين تشير إليهما القصيدة إشارة عابرة. قد يكون الانفعال كله نوعا من القلق، ولكنه انفعال تحرر من الإطار المألوف الذي يضم معالم الحياة الشعورية، بحيث لا نستطيع أن نسميه باسم بشري مألوف كالقلق.
وليس أدل على طرح النزعة البشرية من أن رامبو يظهر الناس إذا جاء ذكرهم في شعره في صورة ممسوخة أو في صورة مخلوقات غريبة مجهولة الأصل. وإذا ذكرت بعض أعضاء الجسد وجدنا علاقتها بالجسد في مجموعه علاقة شاذة غير مألوفة. إنه يركز الضوء على هذه الأعضاء بمفردها، ويثقل وصفه لها باصطلاحات من علم التشريح تزيدها موضوعية. ونستطيع أن نضرب مثلا لما نقول بقصيدة هادئة مثل قصيدة «النائم في الوادي» (أكتوبر سنة 1870م) التي تنطوي على سخرية هادئة بالحرب التي اشتعلت في سنة 1870م بين الفرنسيين والبروسيين. ولنقرأ القصيدة أولا قبل أن نشرع في تحليلها:
في ثغرة من الخضرة، حيث يطوف نهر
بغنائه المجنون حول أهداب الأعشاب، (ثغرة) من الفضة ، تضيئها الشمس المتكبرة من جانب الجبل؛
هنالك واد صغير، يفور بالأشعة.
جندي شاب، فمه مفتوح ورأسه عارية،
رقبته تستحم في الفجل الصغير
6
الطازج الأزرق،
ينام؛ ممددا على العشب، تحت خيمة السماء،
شاحبا في فراشه الأخضر، الذي يهطل فوقه الضوء.
ينام وقدماه في الليلك. يبتسم، في هدوء،
كما ابتسم طفل مريض في نومه:
أيتها الطبيعة، دثريه في مهدك الدافئ؛ فهو بردان.
العطور لا تنقل الرعشة إلى أنفه،
ينام في الشمس، ويداه على صدره، في هدوء.
في جانبه الأيمن ثغرتان حمراوان.
فالقصيدة تبدأ من واد صغير يكسوه العشب ويزيد ويفور بالشعاع، لتنتهي فجأة بالموت. ولغتها تتبع نفس المسار، فتبدأ بأبيات هادئة النغم وتنتهي بعبارة موضوعية محايدة - أشبه بالتقرير - نعرف منها أن الجندي النائم ميت. ومع السطور ننحدر في بطء إلى هذه الحقيقة التي تبرز في النهاية فجأة وعلى غير انتظار. ومضمون القصيدة هو الانتقال من النور إلى الظلام. ولكن هذا الانتقال يتم بغير مشاركة وجدانية، بل في هدوء وبرود. إنها لا تتكلم عن الموت، بل تستخدم نفس الكلمة التي لجأت إليها في البيت الأول. هناك «ثغرة من الخضرة» وهنا «ثغرتان في جانبه الأيمن». والميت صورة خالصة في عين الشاعر أو القارئ الذي ينظر إليه. والانفعال الذي يمكن أن يجيش به القلب من رؤية هذا المشهد لا وجود له. لقد حل مكانه أسلوب فني يضع الثقب الذي تحدثه الرصاصة في موضع الموت، موت الإنسان. بهذا يحيل الحركة إلى سكون مفاجئ. أم ترى نستطيع أن نقول إن هذا السكون نفسه يحركنا أكثر من أي شيء سواه؟ أتكون هنا مفارقة من مفارقات الشعر الحديث؟ (8) تفجير الحدود
كثيرا ما تنزع الذات الشاعرة عند رامبو إلى التوغل في آفاق خيالية بعيدة. إن البحث عن «المجهول» يلح عليه ويدفعه إلى التعبير عن «هاوية السماء الزرقاء» التي عبر عنها بودلير من قبل. وتزدحم هذه السماء العالية بالملائكة، ولكنها في نفس الوقت قرار الهزيمة، هوة الفشل، نبع لهيب تتلاقى فيه البحار والحكايات الخرافية، والملائكة نفسها نقط من الضوء الحاد تلمع وتختفي، علامات على البعد والاتساع والعلو والرحابة، لكنها ملائكة بلا إله ولا بشارة. إن المحدود داخل في دائرة رحبة أشمل منه. والقصائد المبكرة تشهد على هذا، ويكفي أن نذكر منها قصيدته الرائعة المشهورة عن أوفيليا (15 مايو 1870م) لنرى منها كيف يرتفع الجزء إلى الكل، ويذوب المحدود في اللامحدود:
أوفيليا
1
على الموج الهادئ الأسود حيث تنعس النجوم
تسبح أوفيليا الشاحبة كزهرة سوسن كبيرة،
تسبح في بطء شديد، ملتفة في وشاحها الطويل ...
ومن الغابات البعيدة يسمع صوت الصيادين «هالالا».
ها هي أوفيليا الحزينة منذ أكثر من ألف عام
شبح أبيض يعبر فوق التيار الأسود الطويل.
منذ ألف عام يهمس جنونها الحنون
بأغنيتها الخيالية لنسمة المساء.
الريح تقبل نهديها وتنشر وشاحها الكبير
كأنه إكليل زهرة تهدهده المياه الناعمة؛
الصفصاف المرتعش يبكي على كتفيها،
وعلى جبينها الكبير الحالم تهجع أعواد البوص.
ورود الماء التي اختلجت من لمسها تتنهد حولها؛
أحيانا توقظ في شجرة حور نائمة؛
عشا تفلت منه رعشة جناح صغيرة،
أغنية غامضة تهبط من النجوم الذهبية.
2
أوفيليا الشاحبة! أنت أيتها الجميلة كالثلج!
نعم، مت يا طفلتي، عندما جرفك نهر! - لأن الريح الهابطة من جبال النرويج الشامخة
كلمتك في همس عن الحرية القاسية؛
لأن نسمة تخللت شعرك الغزير،
حملت لروحك الحالة أنباء غريبة؛
لأن فؤادك سمع غناء الطبيعة
في بناء الأشجار وتنهدات الليالي؛
لأن نداء البحار المجنونة، نشيجها الهائل المرير،
كسر قلبك الطفل، قلبك الإنساني الرقيق؛
لأنه في صباح يوم من أبريل جثا فارس شاحب جميل،
فارس مسكين مجنون، عند ركبتيك في صمت وذهول!
السماء! والحب! والحرية! أي حلم ، أيتها المجنونة المسكينة!
ذبت فيه ذوبان الثلج في اللهيب.
رؤاك العميقة هي التي خنقت كلمتك، - واللانهاية الرهيبة أقلقت عينك الزرقاء!
3 - والشاعر يقول إنه رآك في ألق النجوم
باحثة، بالليل، عن الزهور التي قطفتها يداك،
وأنه أبصر أوفيليا الشاحبة طافية على الماء،
مكفنة في غلالتها الطويلة كالزنبقة البيضاء!
أوفيليا هذه لا تمت بصلة لبطلة شيكسبير المعروفة.
إنها تطفو على سطح الماء، فينفتح حولها فضاء رحب غير محدود ، تتألق في سقفه النجوم الذهبية التي يتحدر منها غناء غامض، وتهب الرياح من أعالي الجبال، وينشج البحر كحشرجة ميت، ويطوف فوقها رعب اللانهاية والكون الشاسع المخيف. لقد ارتفعت فصارت شخصية باقية ترمز للصفاء والجمال الحزين المجروح. فها هي ذي ألف سنة تنقضي منذ أن سبحت على النهر، وها هي ذي ترسل أغنيتها الباكية منذ ألف سنة، أغنية الجنون الذي يصيب أصحاب الرؤى العظيمة العميقة ويفقدهم القدرة على الكلام.
هذه النزعة للارتفاع بالقريب الداني إلى أفق رحب بعيد تتخلل أعمال رامبو كلها. وكثيرا ما تتركز العاطفة في جملة واحدة، تصل في بعض الأحيان إلى درجة شديدة من السرعة والحماس: «لقد شددت الحبال من برج إلى برج، وباقات الورد من نافذة لنافذة، والسلاسل الذهبية من نجمة لنجمة، وها أنا ذا أرقص» (ص178). لكنه رقص المتخبطين بغير هدف (أشبه برقصة بودلير بعد أن رأى في المدينة الصاخبة أشباح «العجائز السبعة» وعاد مفزوعا إلى بيته وأغلق الباب وراءه، وراح في حمى الذهول والخوف يستعيد صور البؤساء الممسوخين: «عبثا حاول عقلي أن يمسك المجداف، العاصفة أخذت تهزأ بكل جهوده، ومضت روحي، سفينة بضائع عجوز، ترقص وترقص، بلا شراع، فوق بحر مخيف بلا شطآن!»).
لكن البعد والرحابة لا يرتفعان دائما، بل يدمران في نهاية المطاف، استمع إلى قصيدته النثرية «ليلية شعبية» التي تبدأ بهذه الكلمات: «العاصفة تفتح فجوات أوبرالية في الجدران، تزعزع أركان السطوح المتآكلة، تبدد معالم المساكن، تعتم النوافذ ...»
والقصيدة تكاد تكون عنوانا على طريقة رامبو في التأليف؛ فهي تزدحم بصور متفجرة من كل مكان، وتكرر في الخاتمة ما بدأت به: «العاصفة تقوض معالم المساكن.»
وهناك قصيدة متأخرة (دموع، مايو 1872م) تفيض بالألغاز الغامضة، ولا ينفع في حلها أن نرجع إلى العنوان، الذي لا صلة له بموضوعها، ولا إلى صورها أو مضموناتها المتعددة، وربما تكون أفضل وسيلة لتذوقها وتفسيرها أن نتتبع اتجاه حركتها بدلا من الوقوف عند صورها المتحركة، بل ربما تكون أفضل وسيلة لتذوق الشعر الحديث بوجه عام.
والقصيدة تتحدث عن رجل يشرب وهو جالس بالقرب من أحد الأنهار، ونلاحظ منذ البداية أنه يشعر بالاشمئزاز من الشراب. ثم يحدث شيء غريب: تهب العاصفة لتغير وجه السماء، ونرى على الجانب الآخر من النهر أراضي سوداء، وبحيرات، وأعمدة تحت ليل أزرق ومحطات سكك حديدية. وتنحدر المياه فوق الغابات، وكتل الثلج في المستنقعات ونسأل أنفسنا، ماذا حدث؟ إن قطعة محدودة من الأرض قد تحولت فجأة إلى قطعة من السماء تشارك فيها الأرض بدورها، وينتهي النص بكلمات مختلطة على لسان الشارب، وتأتي الخاتمة التي لا تختم شيئا، بل تجدد اللغز الغامض. ومع ذلك فقد ندرك أمرا واحدا، هو الفعل الذي يذيب المعالم ويفجر الحدود حين تنفذ فيها الأبعاد المترامية الغاضبة. وإليك القصيدة نفسها (مايو 1872م):
دموع
بعيدا عن الطيور، والقطعان، والقرويات،
رحت أشرب وأنا قابع في مرعى بري،
تحيط بي أشجار البندق الرقيقة،
ويلفني بعد الظهيرة ضباب أخضر وفاتر.
ماذا كان بوسعي أن أشرب من نهر «الأواز»
7
الشاب،
أشجار دردار بلا صوت، عشب بلا زهر، سماء مفتوحة.
وماذا كان باستطاعتي أن أستخلص من ثمر اليقطين؟
سوى عصارة ذهبية، باهتة، تسيل العرق.
هكذا كنت أشبه بعلامة سيئة على (واجهة) نزل.
ثم لم تلبث العاصفة أن غيرت السماء، إلى أن حل المساء.
وكانت بلاد سوداء، وبحيرات، وقصبات،
وأعمدة تحت الليل الأزرق، ومحطات.
ماء الغابات ضاع في الرمال العذراء،
ريح السماء ألقت الجليد في المستنقعات ...
ذهب! كمثل صياد ذهب أو أصداف،
أقول إنني لم أشعر بميل إلى الشراب!
وتتردد كلمات العطش والجوع في لغة رامبو. وقراء التصوف يعرفون أنهما من الكلمات التي استخدمها المتصوفون دائما - كما استخدمها دانتي - للتعبير عن شوقهم للاتحاد بالذات العلية. غير أن رامبو يستخدمهما للدلالة على حالة من الظمأ الذي لا يروى والجوع الذي لا يشبع.
ويكفي أن نتذكر النهاية التي يختتم بها قصيدته الجميلة «كوميديا العطش». فالكائنات كلها، الحمام والوحوش والأسماك والفراشات، تحس بالعطش. ولكن ما من واحد منها يستطيع أن يذوب هناك حيث تذوب السحابة التائهة:
الحمامات المرتعشة في المرج،
الغزلان التي تجري وترى الليل،
الحيوانات في الماء ، والحيوانات المستعبدة،
الفراشات الأخيرة! ... كلها تحس بالعطش.
لكن آه! من يقدر أن يذوب حيث تذوب السحابة التائهة،
التي ترعاها الأنسام المرطبة المنعشة!
من يقدر أن يموت على حوض البنفسج الندي
الذي يحمله الفجر إلى هذه الغابات؟
ويكتب رامبو في نفس السنة قصيدته «أعياد الجوع». ولكنها أعياد إنسان لا يحس إلا بطعم الأرض والأحجار، ولا يأكل غير الهواء والصخور والفحم والحديد! يقيم احتفاله في هواء أسود مسموم، وتحت سماء زرقاء تدق الأجراس، ويأكل الحصى التي كسرها شحاذ، وأحجار الكنائس القديمة، والخبز المخزون في الأودية المعتمة:
يا جوعي، إنه، إنه
اهرب بحمارك من هنا.
لا أشتهي شيئا
كالأرض والأحجار
دن! دن! دن! دن.
أريد أن آكل
الصخرة والهواء
والفحم والحديد!
ليس جوع المعدة الخاوية فحسب، بل هو الشقاء. إنه لا يشبع أبدا، لأن الطريق إلى الزرقة، أي إلى السماء، طريق مسدود؛ ولذلك فهو يعض الحجر، ويلتهم العشب، ويحتفل بعيد الجنون الغاضب المظلم، عيد اللعنة والشقاء: «إن العطش المريض يملأ عروقي بالظلام ...» (9) السفينة السكرى
ونصل الآن إلى أشهر قصائد رامبو، وهي قصيدة «القارب النشوان» أو السفينة السكرى،
Le bateau ivre (1871م) التي كتبها الشاعر بغير أن يعرف شيئا عن البحار والبلاد العجيبة التي تزخر بها! وقد رأى بعض الشراح أن قراءته للمجلات المصورة هي التي أثارت فيه هذه الصور. وقد يصدق هذا الرأي، ولكن صدقه أو كذبه متوقف على ما يستطيع الإنسان أن يستخرجه منها. إن القصيدة لا تتصل بالواقع بأي سبب، وقارئها يواجه خيالا جبارا متجبرا يخلق رؤى محمومة عن أماكن شاسعة مدومة عاصفة، خالية من كل أثر للواقع. وقد نبه بعض النقاد إلى تأثرها بأعمال أدبية أخرى فقارنوا مثلا بينها وبين قصيدة فيكتور هيجو «السماء الصحو
» (في ديوانه أسطورة العصور) وقالوا إن القصيدتين تتحدثان عن سفينة منطلقة في الآفاق. ولكن إذا صح هذا التأثر أو الاقتباس فهو لا يلغي أصالة رامبو، ولا يستطيع أن يطمس ذاته المتميزة.
فالصور العديدة التي نراها في قصيدة فيكتور هيجو إنما تخدم عاطفة تافهة تتحمس للتقدم والخير والإخاء والسعادة. أما «السفينة السكرى» فهي تعبر عن حرية إنسان وحيد فاشل؛ حريته الضارية المدمرة. وإذا كانت بعض صورها متأثرة بقصائد أو أعمال أدبية أخرى، فإن بناءها وحركتها تدلان على سبق رامبو وأصالته، وإذا تذكرنا قصيدة «أوفيليا» وجدنا هذه القصيدة تبالغ إلى حد التطرف فيما تناولته تلك؛ وأعني به الارتفاع بالجزئي المحدود حتى يذوب في أفق كلي لا محدود.
هناك سفينة أو - إذا شئنا الترجمة الحرفية - قارب كبير يحمل الأحداث جميعا. والأحداث تعبر تعبيرا ضمنيا لا يمكن إساءة فهمه عن الذات الشاعرة. أما الصور الواردة فيها فهي من القوة بحيث لا يمكن أن نتبين التشابه بين القارب والإنسان إلا من اتجاه حركة القصيدة في مجموعها. والمضامين المتحركة التي تحملها هذه الصور هي نفسها جزئيات تفصيلية مرئية ومرسومة بدقة شديدة. وكلما زادت غرابة الصور وبعدها عن الواقع، كلما نزعت لغتها إلى الحسية. أضف إلى هذا أن الصنعة الشعرية تجعل من النص كلمة واحدة عن الذات التي يرمز لها ولا بد أن رامبو كان جريئا في ذلك إلى أبعد حد. يدل على هذا أنه قرأ القصيدة على صديقه الشاعر «بانفيل» فعاب عليها هذا أنها «للأسف» لا تبدأ بهذه الكلمات. «أنا قارب ...» ولم يدرك بانفيل أن الاستعارة هنا ليست مجرد أداة للتشبيه، بل تخلق وحدة بين الذات والقارب. وكل من يقرأ الشعر الذي جاء بعد رامبو يعرف أن الاستعارة المطلقة تغلب عليه. ولقد ظلت كذلك هي الطابع الأدبي الغالب على رامبو، مما سنصفه فيما بعد «باللاواقعية الحسية».
إن «السفينة السكرى» تنطلق انطلاقة واحدة وفريدة، صحيح أنها تبطئ من سرعتها هنا وهناك، ولكن لتستأنف انطلاقها أشد عنفا وقوة، حتى تصل في بعض المواضع إلى ما يشبه الانفجار المحموم. ويبدأ الحدث في هدوء نسبي، إذ ينزلق القارب هابطا مع النهر. غير أن هذا الهدوء قد سبقته دفعة قوية، فالقارب أو السفينة لم تعد تكترث بملاحيها الذين قتلوا على الشاطئ قتلة فظيعة ... ولا يلبث كل شيء ثابت أن يتحلل ويتفكك بسرعة مذهلة. وإذا بالهبوط الهادئ مع تيار النهر يتحول إلى رقصة القارب المحطم في عباب العواصف والبحار، والطواف بكل البلاد والأراضي الممكنة، رقصة تدور في أعماق الليالي الخضراء، وفي لجة العفن والأخطار، تحت شعار الموت و«الفسفور الذي يغني»، يندفع إيقاعه في أثير خلا من ذوات الجناح، ويحفر ثقوبا في سماء ذات جدران حمراء، حتى يأتي التحول الأكبر، وهو الحنين إلى أوروبا، لكنه حنين لا يشتاق إلى وطن من الأوطان. وتتمثل للقارب صورة مثالية بريئة، صورة طفل يلعب في أريج المساء على شط مستنقع. إلا أن هذه الصورة تظل حلما عاجزا؛ ذلك لأن القارب قد استنشق رحابة البحار وخلجان النجوم، وعرف أن أوروبا قد ضاقت عليه. وبمثل ما انطوى الهدوء الذي بدأت به القصيدة على دفعة قوية، فإن النهاية المتعبة التي تختتم بها تنطوي على التوسع المخيف الذي اشتملت عليه المقطوعات السابقة. إنه هدوء العجز، هدوء القارب الذي يتحطم أخيرا على صخور اللامحدود، وهدوء القارب الذي لم يعد يقنع بالمحدود.
والقصيدة تتميز بالبساطة الشديدة في بناء عباراتها، والوضوح والتنظيم فيما تعبر عنه. والانفجار الذي يحدث فيها لا يتم في تركيب الجمل بل في التصورات التي تحتوي عليها. بل إن هذا الانفجار ليزداد دويا كلما زاد التنافر الشكلي بينه وبين روابط الجمل والعبارات.
أما التصورات والأفكار نفسها فهي أشبه بتفجرات تنبثق عنها المخيلة لا تحدث من مقطوعة إلى مقطوعة فحسب، بل من بيت إلى بيت، وقد تتم أحيانا في داخل البيت الواحد، فتضيف إلى البعد والضراوة بعدا أشد، وضراوة أقسى وأمر. أما الصور فهي فيما بينها غير متماسكة؛ ما من صورة منها تخرج بالضرورة من الصورة السابقة عليها أو تؤدي إلى الصورة اللاحقة لها، حتى ليستطيع الإنسان أن يبدل في ترتيب المقطوعات كيفما يشاء، أو يستبدل بعضها بالبعض الآخر. ويزيد من حدة هذا كله أن بعض الصور تنشأ عن امتزاج الأضداد المتباعدة، والتوحيد بين أشياء لا يمكن التوحيد بينها من الناحية الواقعية والموضوعية كالجمع بين الجميل والقبيح، وبين العفونة القذرة والفتنة المعطرة، أو استخدام بعض الاصطلاحات الفنية الغربية، وفي مقدمتها اصطلاحات الملاحة البحرية. وكأنما يشير هذا كله إلى العماء المختمر داخل إطار ثابت من التراكيب اللغوية المتينة.
ومع ذلك يبدو أن هذا العماء لا يخلو من التنظيم والترتيب.
إن اتجاه الحركة هنا - كما أكدنا من قبل - أهم بكثير من الصور أو المضمونات المتحركة نفسها، وحركية القصيدة أو ديناميتها، هي التي تتيح للصور أن تظهر مفككة كيفما تشاء ووقتما تشاء، لأنها هي التي تحمل الحركات المستقلة بنفسها. أما هذه الحركات فتسير في خطوات ثلاث: الاندفاع والتمرد، الانطلاق إلى اللامتناهي غير المحدود، السقوط في الهدوء الذي يتبع التحطم والدمار. وهذه الخطوات أو الحركات الثلاث لا تسري على «السفينة السكرى» وحدها، بل تصدق كذلك على شعر رامبو كله. إن «العماء» الذي ذكرناه كثيرا في مضموناته يستعصي في معظم تفاصيله وجزئياته على التفسير، ومع ذلك فالوسيلة الوحيدة لتفسيره - إن لم يكن لفهمه - هي النفاذ إلى اتجاه حركته، ومحاولة إدراك هذا الاتجاه بدلا من الوقوف عند الصور التي تحمله؛ ولذلك لم يكن غريبا أن يصبح هذا الشعر في معظمه شعرا تجريديا، أي أنه يضحي بالقيمة الواقعية لمضموناته بل يحطمها إلى حد الغموض والإلغاز لصالح حركته الخالصة. ولا بد من إدراك هذه المسألة إذا أردنا أن نجد مدخلا للشعر الحديث أو على الأقل لجانبه الأكبر الذي يتصل بنموذج شعر رامبو من قريب أو بعيد.
إن الخطوات أو الإيقاعات الثلاث التي ذكرنا أن شعر رامبو يسير عليها تمثل علاقته بالواقع وبالحقيقة المتعالية في آن واحد. تغيير الواقع بل تحويره وتشويهه، انطلاق إلى الآفاق الشاسعة البعيدة، خيبة أمل في نهاية المطاف، حين تجد الذات أن الواقع ضيق يكاد يخنقها، وأن المتعالي فارغ لا يستطيع أن يرضيها. وقد لا نجد تعبيرا عن هذا كله أفضل من تعبير رامبو نفسه حيث يقول «أسرار دينية أو طبيعية، موت، ميلاد، مستقبل، ماض، خلق العالم، عدم» (ص213). وفي نهاية الحلقة نجد العدم. •••
وإليك الآن قصيدة «السفينة السكرى» التي أرجو أن تصبر على قراءتها (كما صبرت على نقلها!).
عندما هبطت مع الأنهار العصية
أحسست أن ملاحي تخلوا عني:
كان ذوو الجلود الحمراء قد سددوا حرابهم إليهم،
وسمروهم، وهم يصرخون، عرايا إلى الأوتاد الملونة.
لم يعنني أمر البحارة أجمعين،
ولا إن كنت أحمل قمح الفلمنك أو قطن الإنجليز.
ولما انتهى الضجيج وقضي على الملاحين،
تركت الأمواج تسوقني إلى حيث أشاء.
كنت في هدير المد والجزر المخيف طوال الشتاء،
أشد صمما من أدمغة الأطفال أجري وأطير!
أشباه الجزر المقتلعة في صخب الأعاصير
لم تعرف في حياتها أروع من هذا الغناء.
العاصفة باركت صحوي في البحار.
أخف من سدادة رحت أرقص فوق الأمواج
التي تدحرج، كما يقال، ضحاياها إلى الأبد.
عشر ليال، غير آسف على وهج المصابيح السخيف!
أعذب من لحم التفاح النيئ (في أفواه) الأطفال،
غمرني الماء الأخضر، وغسل النبيذ الأزرق
وبقايا البصاق من هيكل قاربي الصنوبري،
وانتزع (من يدي) الدفة والمرساة.
رحت منذ ذلك الحين أستحم في قصيدة البحر،
التي تومض بالنجوم وتفور كاللبن،
وأبتلغ السماوات الخضراء، التي يحدث في بعض الأحيان
أن يهوي فيها غريق، وجهه شاحب وشارد وجذلان؛
وحيث يحدث فجأة تحت وهج النهار
أن تصبغ الفضاء الأزرق نشوة وأهازيج
أقوى من الخمر وأعمق من كل قيثار،
فتؤجج شعلة الحب المريرة!
رأيت السماء تتفجر بالصواعق، وسمعت زفير الإعصار
فوق الأمواج المتكسرة، ورأيت المساء،
والفجر يرف كأنه سرب من الحمام،
ورأيت أحيانا ما يتوهم الإنسان أنه يراه!
رأيت الشمس في الأعماق، تملؤها بقع صوفية مرعبة،
وتلمع بإشعاعات البنفسج المستطيلة الجامدة،
التي تشبه ممثلين في مسرحيات عريقة القدم.
بينما الأمواج تقعقع من بعيد كأنها تدحرج ألواحا من خشب؟
حلمت، في الليل الأخضر، بالثلوج الناصعة تغشى البصر،
والقبل تصعد في بطء إلى عيون الأمواج،
والعصارات العجيبة تزبد وتفور،
والصحوة الصفراء والزرقاء في أغنية الفسفور!
تابعت جيشان الأمواج أشهرا عديدة،
وكأنما هو ثور مجنون يناطح الصخور.
ونسيت أن قدم مريم المضيئة
كانت على الدوام تقهر فاه المحيط المبهور!
اصطدمت، أتدرون هذا؟ بجزر فلوريدا العجيبة،
حيث تمتزج عيون الفهود بالزهور، (وتغطي) جلد الإنسان، وحيث أقواس قزح
معلقة كاللجم تحت مرآة البحر، فوق قطعان خضراء!
المستنقعات رأيتها تختمر، والشباك الهائلة،
حيث يتعفن في عيدان الأسل تنين بأكمله.
دفقات المياه المدومة في سكون الريح،
والأبعاد المنحدرة شلالات نحو الأخاديد!
حقول الجليد، شموس فضية، أمواج لؤلؤية، مجامر السماوات!
أطلال بشعة في قاع الخلجان المغبرة؛
حيث تهوى الحيات الضخمة التي افترستها الزنانير
من على الأشجار المعوجة، فتفوح منها عطور سوداء!
كم تمنيت أن أدل الأطفال على أسماك المرجان (التي تسبح) في اليم الأزرق، هذه الأسماك الذهبية التي تغني. - زبد الأزهار قد هدهد رحلاتي،
ورياح رائعة حملتني على أجنحتها في بعض الأحيان.
أحيانا (كنت أراني) كالشهيد المتعب (من الأسفار).
بين القطبين وفي المناطق البعيدة، وكان البحر الذي تسوقني
تنهيدته الناعمة
يرفع نحوي أزهاره ذات الظلال وعليها العلق الأصفر،
وكنت أبقى هناك، أشبه بامرأة راكعة على ركبتيها.
شبه جزيرة، أهدهد على شطآني مشاحنات الطيور
ووسخها، الطيور الصياحة ذات العيون الشقراء.
ورحت أسبح، بينما كان ينساب من حبالي الهشة
بعض غريق، يغوص في النوم ورأسه إلى الوراء!
ها أنا ذا، سفينة ضائعة تحت ضفائر الخلجان،
طوح بي الإعصار في أثير خال من الطيور،
أنا الذي ما كانت المدمرات ولا سفن الهانزا
8
لتنتشل أشلائي السكرى بالماء.
حر، أدخن، وأخرج من خلال الضباب البنفسجي،
أنا الذي رحت أشق السماء المحمرة كالجدار
الذي يحمل بقع الشمس ومخاط السماوات الزرقاء،
كأنها الحلوى الشهية لنوابغ الشعراء.
أنا الذي رحت أجري، وقد تناثرت علي الأسماك الكهربية،
كلوح مجنون، تحف به أفراس البحر السوداء،
عندما كانت شهور يوليو تبدد بالرعود والضربات
زرقة السماوات في أقماع ملتهبة حمراء.
أنا الذي كنت أرتجف، عندما كنت أسمع من بعيد
نداء أفراس البحر واللجج الهائلة.
أنا الذي فتن شراعه السكون الأزرق،
أحن إلى أوروبا ذات الأسوار العجوز!
رأيت الأرخبيل المتلألئ بالنجوم، وشاهدت الجزر
التي يتألق فيها وهج السماء الرحبة للملاح: - أتنام منفيا في مثل هذه الليالي التي لا يسبر لها غور،
يا ملايين الطيور الذهبية، يا قوة المستقبل؟
لكنني بكيت كثيرا! أنوار الفجر جارحة.
كل الأقمار قاسية ، وكل شمس عذاب.
نفخني الحب المرير حتى أصابتني النشوة بالخمود.
آه! فلتنكسر يا قاع سفينتي! آه! فليغيبني البحر؟
إن كنت لا أزال أشتهي من أوروبا ماء،
فهو المستنقع المظلم البارد، الذي يلقى فيه طفل محني،
عند الغسق، يفيض (قلبه) بالحزن والشقاء،
قاربا رقيقا مثل فراشة في الربيع.
أيتها الأمواج، بعدما استحممت في أشواقك الفاترة
ما عدت أستطيع أن أمنع ناقلي القطن من الرحيل،
ولا أن أجوس في غرور الأعلام والمشاعل،
ولا أن أسبح تحت عيون الجسور المفزعة. (10) واقع محطم
الصورة هي حياة الشعر.
وهي تنطوي دائما على نوع من الصلة بالواقع. ولكن لن تبلغ بأحد السذاجة أن يقيم الأدب بعامة، والشعر الغنائي بخاصة، على أساس دقة صوره ومضموناته المتعلقة بالواقع الخارجي في التعبير عن هذا الواقع ومطابقته مطابقة تامة. لقد كان من حق الأدب دائما أن يغير الواقع، ويعيد بناءه، ويضيق منه بالتلميح الموجز أو يوسع فيه بالخيال الرحب، ويجعل منه وسطا يعبر عن الوجدان أو رمزا لموقف شامل من الحياة.
ومع ذلك فقد حرص الأدباء والنقاد دائما - عن قصد أو غير قصد - أن تكون هذه التغييرات كلها مراعية للعلاقات الموضوعية الخارجية، وأن تظل متصلة - مهما شط بها الخيال - بعالم الأشياء الواقعية، وأن تبقى في إطار القوى الصورية والاستعارية التي تكمن من بداية الأمر في كل اللغات. ومعنى هذا أنهم حرصوا على أن يكونوا مفهومين على نحو من الأنحاء.
غير أن الشعر بالذات لم يعد يحرص على شيء من هذا بعد رامبو. ولذلك أصبح من الضروري للدارس أن يحلل الواقع ويكشف عنه ليستطيع من المقارنة بينه وبين ذلك الشعر أن يتبين إلى أي مدى تحطم الواقع وإلى أي حد تفجر الأسلوب التقليدي في الصورة والاستعارة.
يقول رامبو في بعض كتاباته المتأخرة على لسان صديقه فيرلين: «كم من ليلة سهرت بجانب جسده النائم؛ لكي أعرف لماذا استبدت به (أي برامبو) الرغبة في الانطلاق من حدود الواقع!» (ص216)، ومن الواضح أن رامبو يتحدث هنا عن نفسه. إنه لا يدري سبب هذه الرغبة التي تستبد به، ولكن أعماله تدلنا على التطابق الواضح بين مسلكه من الواقع وعاطفته التي تشده إلى «المجهول».
وقد عرفنا شيئا من هذا التوتر عند بودلير، ولكن رامبو يزيد عليه أن المجهول عنده قد فرغ من كل مضمون ديني أو فلسفي أو أسطوري، ولذلك فهو يمثل قطب التوتر الذي يعود - بسبب فراغه هذا - فيرتد على الواقع. ولما كان الشاعر يعاني من عجز هذا الواقع وقصوره بالقياس إلى المجهول أو الحقيقة المتعالية (الترانسندنس)، فإن العاطفة التي تشده إلى هذا الأخير تتحول إلى نوع من التحطيم والتمزيق للواقع بغير هدف. وهذا الواقع المحطم يصبح بدوره علامة على عجز الواقع بوجه عام واستحالة الوصول إلى ذلك المجهول. ويستطيع القارئ أن يصف هذا الصراع بأنه ديالكتيك الروح الحديثة. ويستطيع أيضا أن يقول إنه قد تجاوز رامبو وشعره وصار طابع الأدب والفن الحديث بوجه عام.
لعل القارئ يتذكر عبارة بودلير التي يقول فيها إن أول أفعال الخيال هو «التفكيك». هذا التفكيك - الذي كان بودلير يعني به فيما يعني نوعا من التغيير بل التشويه - قد أصبح عملية أدبية ومسلكا فنيا حقيقيا في شعر رامبو. فالواقع عنده - هذا إذا كانت قد بقيت له بقية أو إذا استطعنا أن نحكم على القصيدة من حيث صلتها به - هذا الواقع قد أصبح يحتمل من التعديل والاتساع والتشويه والتمزيق والتقبيح والتوتر بين الأضداد ما يجعله مجرد معبر إلى اللاواقع أو مرحلة انتقال إليه، فالماء والريح مثلا من العناصر الأولية التي يتكون منها عالم رامبو الواقعي. كان الشاعر يروضهما ويكبح جماحهما في قصائده المبكرة، ثم انطلقت قواهما المكبوتة في إنتاجه الناضج والمتأخر؛ فصار لهما دوي العواصف وقصف الرعود، وأصبحا أشبه بطوفان كوني يقوض كل نظام في الزمان أو المكان: «السهول والصحاري والآفاق تصبح ثوبا أحمر يرتديه الإعصار» (ص124). ويذهل الإنسان إذا تفكر لحظة في كل هذه الموجودات التي تظهر في شعره ويأخذه العجب حين يراها قلقة ترتفع إلى قمة لتهوي في حضيض، لا تستقر في مكان ولا تهدأ في زمان (ربما كان السبب في هذا أنها لا ترتبط بشيء في المكان أو الزمان). إن الصور والأشياء تختلط في موكب غريب؛ متشردون وصعاليك، سكارى ومومسات، طرق زراعية وشطآن وحانات، غابات ونجوم، ملائكة وأطفال، فوهات براكين وكتل من الجليد، أبراج ومساجد وملاعب للسيرك، وعالم زاخر بالمناظر العجيبة كأنه «جنة التجهم المجنون» (172). (11) شدة القبح
مثل هذه الموجودات الواقعية لا تدور حول مركز واحد تنتظم حوله وتستمد منه قيمته ومقياسه. إنها آثار محمومة من انفعال عميق محموم. وهو يصورها تصويرا لا صلة له بأي مذهب واقعي. حتى القبح الذي تفيض به بقايا الواقع في نصوصه، لا بد أن نأخذه كانفعال عميق محموم. وليس القبح وحده في ذلك. فالجمال أيضا نوع من هذا الانفعال. صحيح أن هناك مواضع جميلة في شعر رامبو، جميلة في صورها ونغمها على السواء، ولكن المهم أنها لا تقف وحدها، بل تكون دائما بجانب مواضع أخرى قبيحة. ليس الجمال والقبح أضدادا من ناحية القيمة، بل من ناحية الإثارة والتنبيه، الفرق الموضوعي بينهما لا وجود له، تماما كالفرق بين الصواب والخطأ، أو بين الصدق والكذب، والتجاور الشديد بين الجميل والقبيح يؤدي إلى «دينامية الأضداد» التي يدور عليها كل شيء، لأن الصراع هو في الحقيقة كل شيء في هذا الشعر. على أن القبح وحده قادر أيضا على توليد هذا الصراع؛ هذه «الضدية».
كان القبح في الأدب علامة على السخرية أو التعريض بالنقص الخلقي. ويكفي أن نتذكر شخصية «ثيرزيتيس»
9
في الإلياذة، أو الشخصيات العجيبة التي يزدحم بها جحيم دانتي، أو أدب البلاط في العصور الوسطى . وكان الشيطان رمز القبح، ولم يكن من الممكن أن يتصور أحد ملاكا قبيحا، أعمى أو أفطس الأنف أو متشردا في أحياء المدينة كما نرى في بعض الشعر الحديث! وأصبح القبح في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ثم عند نوفاليس، وأخيرا عند بودلير شيئا مسموحا به، بل جديرا بالاهتمام، ووافق حاجة الفنان والشاعر لشدة الانفعال وعمق التعبير. ثم أصبحت مهمته عند رامبو أن يستجيب لطاقة حسية تريد تغيير الواقع بل تشويهه وتمزيقه بلا رحمة، وتبين أن مثل هذا الشعر الذي لا تهمه مضمونات الأشياء بقدر ما يهمه تصوير علاقات التوتر والصراع الذي يعلو فوق الأشياء يحتاج إلى القبح أشد الاحتياج، لا رغبة في تشويه الواقع فحسب، بل كذلك لإثارة الشعور الطبيعي بالجمال وتوليد ذلك الإحساس بالصدمة الذي تكلمنا عنه في الصفحات السابقة، وقلنا إنه من أهم ما يحرص الشاعر الحديث منذ عهد بودلير ورامبو على بعثه في نفس القارئ عندما يلتقي بالنص.
ومن أدل القصائد على القبح الذي تحدثنا عنه قصيدة رامبو الجريئة «القاعدون» التي كتبها في سنة 1871م. ويروى فيرلين أنها كتبت عن أمين المكتبة العامة في مدينة شارلفيل، وكان رامبو قد غضب منه غضبا شديدا! وقد تكون هذه الرواية صحيحة، ولكنها لن تساعدنا على فهم النص؛ فلغته تزخر باصطلاحات من علم التشريح، وكلمات من اللهجة العامية، واشتقاقات منحوتة، تخلق ما يشبه أن يكون أسطورة للقبح الفظيع. وهي لا تذكر أمين المكتبة المسكين بكلمة واحدة، ولا تورد كلمة واحدة عن الكتب أو المكتبات. إن حديثها كله ينصب على جماعة من العجائز الذين تتجسد فيهم الحيوانية والشر والتعاسة والخمول. لا بل إنها لا تتحدث عن هؤلاء العجائز مباشرة، وإنما تذكر تفصيلات بشعة محزنة: أوراما سوداء، ندوب الجدري، عيونا حولها حلقات خضراء، أصابع هزيلة معقودة حول السيقان، جباها تغطيها تلافيف غامضة مزمجرة أشبه بقروح النبات فوق الجدران القديمة. ثم يأتي دور الشخصيات والوجوه: هياكل عظمية خرافية زاوج أصحابها في وله بينها وبين هياكل الكراسي، وأقدام مصابة بالكساح تلتف حول قوائم المقاعد من الصباح إلى المساء دائما وإلى الأبد، وشموس حارقة تشوي جلودهم، وعيونهم تمتد إلى النوافذ «حيث يذوي الثلج»؛ في القش الذي حشيت به الكراسي. تتوقد أرواح شموس قديمة مختنقة، كان القمع فيما مضى يختمر تحت أشعتها. والعجائز قابعون، ركبهم في أسنانهم، كأنهم عازفو بيان خضر، يدقون بأصابعهم العشر تحت الكراسي، ورءوسهم تتأرجح مع اهتزازات خيالهم العجوز. فإذا ناداهم أحد راحوا يموءون كالقطط المضروبة، ويكشفون عن عظام أكتافهم، وتتسحب أقدامهم الملتوية إلى الأمام وترتطم رءوسهم الصلعاء بالحيطان الكالحة، وتخترق أزرار ستراتهم عين الإنسان خلال الظلام الذي يغشى الممرات، ومن نظراتهم المميتة يترقرق سم كلاب شبعت ضربا. فإذا جلسوا مرة أخرى غاصت أكفهم في أساور قمصانهم القذرة، وتحت الذقن الهزيلة حزمة من الغدد توشك أن تنفجر. إنهم يحلمون بكراسي أجمل، وزهور «الحبر» التي تبصق «بذور حروف العطف» تهدهد هذا الحلم.
مثل هذا القبح لم ينسخه الشاعر من العالم الخارجي وإنما ولده توليدا. إنه يصف لنا مجموعة من الكائنات توجد في كل مكان وزمان. ليسوا بشرا، بل هياكل بشر، هم والأشياء كيان واحد، والأشياء بدورها رفاق أولئك الذين يقعون فوقها. ثم انظر إلى نزعتهم الشريرة العاجزة، والضباب الذي يغشى حالتهم الجنسية في الشيخوخة. كل هذا في لهجة متهكمة، تظل خافية وراء غنائية الأبيات، فكأن القصيدة بأكملها نوع من التنافر بين النغم والصورة. صحيح أنها لا تخلو كما قلت من مواضع «جميلة» ولكن هذه البقية الباقية من الجمال تخدم ذلك التنافر أو هي نفسها متنافرة، تجمع على سبيل التضاد بين صور وعناصر غنائية بطبيعتها وبين أسخف الأشياء وأكثرها تفاهة. فها هي ذي القصيدة تتحدث عن أزهار الحبر، وبذور الشولات أو الفواصل التي تجملها بالمقارنة بينها وبين الفراشات الطائرة على زهور الجلاديولا:
وأزهار الحبر التي تبصق بذور الشولات
تهدهدهم، وهم مقعون على طول الكئوس،
كما يرى الإنسان الفراشات تطير نحو زهور الجلاديولا
ودور القبح هنا واضح. فإذا أردنا أن نقارن بينه وبين القبح العادي وجدنا أن هذا القبح الشاعري قد غير من القبح المألوف وشوهه ، بمثل ما غير الواقع وشوهه، لكي يجعل الانطلاق إلى ما فوق الواقع من خلال هذا التدمير والتمزيق أمرا ملموسا. ولكنه انطلاق إلى الفراغ، لأن الحقيقة المتعالية فوق الواقع فارغة كما علمنا من كل دلالة دينية أو فلسفية أو أسطورية.
وقد كتب بودلير قصيدته «العجائز السبعة» قبل أن يؤلف رامبو قصيدته هذه باثنتي عشرة سنة. ولا بأس من المقارنة بين القصيدتين لنرى إلى أي مدى يتفق الشاعران أو يختلفان في تصورهما «الدرامي» للقبح. فقصيدة بودلير تصور أيضا قبح الناس والأشياء ولكنها لا تتركنا حيارى، بل تعطينا بعض التوجيهات المحددة التي تعين على فهمها، وتقدم لنا المكان والحدث في ترتيب دقيق. في البداية نجد المدينة الكبيرة المزدحمة، ثم نجد شارعا في إحدى الضواحي، في زمن حدده لنا الشاعر بالصباح الباكر. ويظهر عجوز ترتسم أمامنا صورته وتتبين معالم هيئته، يتبعه عجوز آخر ثم ثالث ورابع حتى يظهر السابع. وتستجيب الذات الشاعرة لهذه المشاهد بانفعالات محددة: بالفزع والارتعاش حتى تصدر حكمها الأخير. ويبرز القبح بكل حدته المحسوسة، ولكنه قبح معتدل، نعرف العلاقة التي تربطه بالمكان والزمان والانفعال. والشاعر يشبه أحد العجائز بيهوذا، وفي هذا التشبيه إشارة وتوجيه؛ إشارة إلى شخصية معروفة، وتوجيه يصلنا بشيء مألوف. أما انفعالات الذات الشاعرة إزاء هذا المشهد المخيف، فهي تشيع الدفء في النص، أي أنها تظل - على الرغم من كل الألم والعذاب - انفعالات بشرية.
وإذا التفتنا إلى قصيدة رامبو لم نجد أثرا لهذه الإشارات الموجهة؛ فعجائزه ليسوا أفرادا ذوي معالم واضحة، بل مجموعة غامضة تتألف من تفاصيل تشريحية ومرضية، لا من وجوه وشخصيات وأشكال. المكان لم تبق منه إلا بقايا، والزمان ديمومة متصلة، وليس غريبا ألا نجد في القصيدة أية إشارة لأمين المكتبة المسكين الذي ذكره فيرلين في روايته عن صديقه، فلو قد ذكره لكان ذلك توجيها واضحا يتنافى مع الروح العامة للقصيدة وقربا من الواقع الذي تجاهد في تحطيمه والبعد عنه. إن من العسير أن نصل هذا القدر الهائل من القبح بواقع مألوف، حتى ولو كان ذلك عن طريق الرعب والفزع منه؛ ذلك لأن إرادة الشاعر الحديث في تغيير هذا الواقع وتشويهه قد فاقت كل حد، حتى وصلت به، كما يقال اليوم في لغة السياسة، إلى طريق لا عودة منه. (12) لا واقعية حسية
إن كل محاولة تبذل لقياس صور رامبو ومضموناته بمقياس الواقع لا يمكن أن تكون لها غير قيمة واحدة وهي الكشف عن النص وتوضيحه بقدر الإمكان. ولكننا كلما تعمقنا هذا النص اكتشفنا عجز كلمات مثل واقعي وغير واقعي. ولعل كلمة أو اصطلاحا آخر أن يكون أنسب منهما، ألا وهو «اللاواقعية الحسية» الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة. ونقصد باللاواقعية الحسية أن الشاعر يتحدث عن مادة الواقع المشوهة في مجموعات من الكلمات لكل جزء منها كيفية حسية. ومع ذلك فإن مثل هذه المجموعات توحد بطريقة شاذة بين أشياء ليس من طبيعتها أن تتحد في الواقع، بحيث ينشأ من الكيفيات الحسية تكوين لا واقعي. إن الصور تكون دائما صورا عيانية، ولكنها صور لم تصادفها العين أبدا ولن تلتقي بها في يوم من الأيام. إنها تتجاوز الحرية التي أعطاها الشعر دائما لنفسه، بفضل الطاقات الاستعارية الكامنة في كل اللغات الإنسانية. «بقسماط الشارع»، «الملك الذي يقف على بطنه»، «مخاط الأثير الأزرق» ... إلخ، قد تكون مثل هذه الصور نوعا من المبالغة الحادة في بعض الخصائص التي تكمن أحيانا في الواقع، ولكنها لا تتجه إلى الواقع بل تتبع منهجا ديناميا في الهدم والتحطيم يهدف - وهو في هذا ينوب عن المجهول الخفي - إلى أن يجعل من الواقع نفسه نوعا من المجهول المثير والمستثار في آن واحد، عن طريق تغيير حدود الواقع وأشكاله الثابتة، وضم أطرافه المتباعدة، وتوحيد ما هو متضاد فيه بالطبيعة أو بالضرورة. والحق أن تغيير نظام الواقع والبقاء مع ذلك في إطار المحسوس إنما هو من الأمور التي كان الشعر التقليدي يلجأ إليها في كثير من الأحيان. وهناك أمثلة عديدة على هذا في شعر رامبو. فهو يصف راية حمراء بأنها «راية من اللحم الذي ينزف دما». ولكن اللون الأحمر وهو المقابل الواقعي في هذه الصورة، ليس هو الذي تتحدث عنه؛ إذ سرعان ما تضيف اللغة (في ميلها إلى كل بشع وفظيع) تلك الاستعارة إلى الشيء الموصوف. ومع ذلك فإن هذه الأمثلة القليلة تخفي ما تعلنه معظم الحالات الأخرى التي تبين أن اللاواقعية الحسية عند رامبو هي المجال الحقيقي الذي تتم فيه درامية الصدمة التي تثيرها نصوصه في نفس القارئ.
ولننظر إلى هذه الصور التي تتكرر في شعره: «زهور من اللحم، تتفتح في غابات النجوم»، «قصائد رعوية ذات أحذية خشبية تزمجر في الحديقة»، «قذر المدن، أحمر وأسود كالمرآة، عندما بدور المصباح في الحجرة الجانبية»، وكلها صور تتألف من عناصر لا شك في وجودها في الواقع المحسوس. ولكن الشاعر يرتفع بها إلى مستوى قوى الواقع عن طريق الإدغام والإزاحة والقفز من الضد إلى الضد والتأليف الجديد بين عناصر لا تأتلف بطبعها في واقع الأشياء. ولذلك فإن «التركيبة» الجديدة لا تعود بنا إلى الواقع، بل تجبر العين والعقل أن ينتبها إلى «الفعل» الذي أبدعها. إنه فعل يقوم به خيال متسلط، أو خيال دكتاتوري. هذه الكلمة الأخيرة التي تعبر عن القوة الكامنة وراء أشعار رامبو ستعفينا في الحقيقة من قياس النصوص بمقياس الواقع، وهو الأمر الذي تحاشيناه في بداية هذه الفقرة. إن القياس هنا شيء مستحيل؛ فنحن في عالم تقوم واقعيته في اللغة وحدها. (13) خيال دكتاتوري
ما طبيعة هذا الخيال الذي وصفناه بهذه الصفة البشعة؟ ما وظيفته؟ كيف يعمل؟
الخيال الدكتاتوري لا يقوم على الإدراك والوصف، بل على الحرية الإبداعية المطلقة من كل قيد. إن العالم الواقعي يتحطم ويتفجر تحت سلطان الذات الشاعرة التي لم تعد تقنع بأن تتلقى مضموناتها وصورها، بل تصر على أن تخلقها بنفسها خلقا.
وقد لا نجد عبارة توضح هذا الكلام مثل هذه العبارة التي تروى عن رامبو عندما كان يعيش في باريس: «يجب علينا أن نخلص الرسم من عادة النسخ القديمة لكي نجعله فنا شامخا مستقلا بنفسه. عليه، بدلا من إعادة نسخ الأشياء، أن يستثير الانفعالات عن طريق الخطوط والألوان والمعالم والحدود التي تستمد حقا من العالم الخارجي ولكن تبسط وتهذب: سحر أصيل».
ونستطيع أن نقول إن هذه العبارة تدل أبلغ دلالة على فن الرسم في القرن العشرين. ويبدو أن رامبو قد تنبأ فيها، دون أن يشعر، بأن الرسم الحديث لا يمكن ولا ينبغي أن يفسر أو يفهم من جهة الموضوعات والأشياء الخارجية، وهي من أبسط الحقائق التي يعرفها كل من لديه فكرة عن الرسم التجريدي.
إن الذات الحديثة في الشعر والرسم بوجه خاص تريد أن تؤكد حريتها المطلقة، وليس من الصعب أن نتذكر هنا تأملات بودلير النظرية عن الخيال، لنرى إلى أي حد مهدت للإنتاج الشعري والفني في العصر الحاضر. وقد تكلم «روسو» و«بو» و«بودلير» عن الخيال الخلاق، وأكدوا ملكة الخلق وقدرة الإبداع فيه. واحتضن رامبو هذا التعبير نفسه، وزاده دينامية. فهو يتكلم عن «الدافع الخلاق»، أو «الحافز إلى الخلق» في عبارة يمكن أن تعد تلخيصا لنظرته الإستيطيقية:
ينبغي أن تكون ذاكرتك وحواسك غذاء للحافز الذي يدفعك إلى الخلق. أما العالم، فماذا سيتبقى منه بعد أن تتركه وراءك؟ شيء واحد مؤكد؛ إنه لن يحتفظ عندئذ بشيء من مظهره المألوف ... (ص200)
وإذن فالدافع الذي يحفز الفنان إلى الخلق سيترك وراءه وجها غريبا ممزقا للعالم، لأنه فعل، وفعل ضار متجبر، ولذلك فليس عجيبا أن تتردد كلمة القسوة كثيرا في نصوص رامبو، حتى لتصبح إحدى المفاتيح التي يتوسل بها من يريد أن يطرق أبوابه.
والخيال الدكتاتوري المتسلط يعكس نظام المكان، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة على ذلك من نصوص رامبو: المركبات تسير على درب السماء. في أعماق بحيرة يرقد صالون. البحر يسبح فوق قمم الجبال العليا. قضبان السكك الحديدية تنفذ في الفندق وتسير فوقه ...
ولكن الخيال المتسلط يعكس كذلك العلاقة السوية بين البشر والأشياء: «الموثق معلق من سلسلة ساعته» (ص59)، وهو يجمع بين أمور متباعدة كل التباعد، ويضم المحسوس والخيالي في سياق واحد «متكدر إلى حد الموت من دمدمة لبن الصباح، وليل القرن الأخير» (ص163). وهو يحقق رغبة بودلير عندما يصف الأشياء بألوان تنطبق عليها في الواقع، كأن يقول مثلا: «عشب أزرق، مهر أزرق، عازفو بيان خضر، ضحك أخضر، أقمار سوداء.» وهذا الخيال الذي ينطلق بعيدا عن العالم يجمع أشياء لا تجمع في الواقع لأنها بطبعها واحدة (كأن يجمع كلمات مثل أتنا وفلوريدا) وبذلك يزيدها حسية، ولكنه يجردها في نفس الوقت من كل صلة بالواقع. يقابل هذا ما نجده عند رامبو من شغف شديد بتجريد الكائنات المفردة من كل تحديد موضعي أو زمني أو غير ذلك من وسائل التحديد وذلك باستعماله كلمة «كل» قبلها: «كل جرائم القتل وكل المذابح»، «كل الثلوج» ... مما يلخص هذه المفردات ويرتفع بها فوق مستوى الواقع، وكلها أساليب يلجأ إليها الخيال المتسلط الذي يقلب في الواقع بملء يديه، ويطرحه إلى أبعد ما يستطيع، ويحوله إلى «ما فوق الواقع».
وتمتد الرؤى الحالمة - كما رأينا عند بودلير - إلى الكائنات غير العضوية، لنكتسب منها صلابة وغربة عن الواقع والمألوف: «في ساعات المرارة أتخيل كرات من اللازورد (السفير) والمعدن» (ص170). ومن أكمل القصائد النثرية التي تدل على هذا كله قصيدة «زهور» من مجموعة الإشراقات. إن عباراتها ترتفع شيئا فشيئا كالأمواج، وتخلق إحساسا بالتوتر تساعد خاتمة القصيدة على إزالته ولكنها مع ذلك لا تساعد على فهمها. وصورها تتحرك حركات أشبه ما تكون بمنحنيات خالصة يرسمها الخيال المطلق واللغة المطلقة. ويستفيد الخيال واللغة من الكائنات غير العضوية التي ترد في القصيدة في خلق جو من اللاواقعية ونسج غلالة شفافة من الجمال السحري: عتبة ذهبية. قطيفة خضراء. قطع من البللور تسود كقطع البرونز في الشمس؛ وتتفتح قمعية على سجادة ذات شبكات من الفضة والعيون وخصلات الشعر، قطع من الذهب منثورة على العقيق، وأعمدة من خشب البلاذر (الماهاجوني) تحمل كنيسة من الزمرد، أفرع نحيلة من الياقوت. وفي مثل هذه البيئة تتحول الزهور والورود إلى شيء غير واقعي، وترتبط بالسم الكامن في القمعية بقرابة خفية. ففي أعماق هذا الخيال المتسلط يتحد الجمال المسحور مع العدم والدمار. وإليك هذه القصيدة لتنظر فيها بنفسك:
من فوق عتبة مذهبة، بين الأربطة الحريرية، والأقنعة القاتمة وبقع القطيفة الفضية، والأقراص البللورية التي تسود كقطع البرونز في الشمس؛ أرى كيف تنفتح القمعية على سجادة ذات تلافيف من الفضة والعيون، والشعر.
بقع من الذهب الأصفر مبذورة فوق العقيق، أعمدة من خشب البلاذر (الماهاجوني) تحمل قبة كنيسة من الزمرد، باقات من الساتان الأبيض وأعواد نحيلة من الياقوت تحيط بوردة الماء.
أشبه بإله له عينان زرقاوان هائلتان وأعضاء من الثلج، البحر والسماء يجذبان حشود الورود الشابة الجميلة إلى الممرات المرمرية ...
وفي هذه القصيدة وغيرها نلاحظ كيف تجتمع النقائض وتخلق التنافر والنشاز الذي يميز شعر رامبو. فالنباتات السامة تأتي مع الورود الجميلة، والقذر البشع يتجاور مع الذهب الناصع، وكأن هذا هو الشكل العام للصورة التي تخلعها المخيلة الخلاقة على مبدعاتها المتنافرة الناشزة. وقد لا يكون هذا النشاز في الصورة بل في الكلمة. فكثيرا ما نصادف تنافرات لغوية حادة، أعني مجموعات من الكلمات التي تؤلف بين موضوعات أو قيم متضادة في أضيق مجال لغوي ممكن. انظر مثلا إلى هذه التعبيرات: شمس سكرى بالقطران. صباح يوم من أيام يوليو له طعم الرماد الشتوي. نخيل نحاسي. أحلام تشبه زبل الحمام ... وكثيرا ما تستمتع بالكلام عن شيء مريح، أخاذ، مألوف، ثم لا تلبث أن تصدمك في ختام النص كلمة سوقية أو حوشية أو وحشية. وتخرج من قراءتك لمعظم النصوص وأنت تقول لنفسك. هذا شعر يحب النهايات المفتوحة - كما يقال في لغة المسرح - لا النهايات المقفلة، ينطلق بك - ومعذرة للتشبيه المعاصر الأخاذ - على صاروخ تدفعه قوة خيال محموم أو في أرجوحة تموج بالصور والألوان والأضواء والأصوات والرؤى المختلطة المتداخلة. إلى أين؟ ربما إلى ما فوق هذا العالم أو ما وراءه. ربما في رحلة البحث عن المجهول؟
وقد يلفت انتباهنا في هذا الشعر نوع آخر من التنافر أو النشاز بين ما يقال والطريقة التي يقال بها، أو بين المضمون والأداء. فالشاعر ينشد واحدة من أجمل قصائده وأكثرها غموضا وغرابة بنغمة الأغنية الشعبية (التي تأبى الغموض بطبيعتها)، وأعني بها قصيدة «أغنية أعلى الأبراج». وفي قصيدة أخرى «الباحثات عن القمل» نراه يضع الوسخ وحمى الشهوة وعادة البحث عن القمل في شعر الرأس؛ يضع كل هذا في أصفى وأعذب لغة غنائية يمكن تصورها! ويظهر العماء والعدم والعبث في أوجز تعبير، وتصطف الأضداد والمتناقضات إلى جانب بعضها البعض كأنها شيء طبيعي محايد، بغير «لكن» أو «مع ذلك» أو «على الرغم من ذلك». وهذه قصيدة «أغنية أعلى الأبراج» التي تحررت قليلا في ترجمتها، وحاولت أن أحافظ على شيء من نغمها الأصلي، واضعا كل ما زدته عليها بين قوسين:
شبابي الخامل،
كم أنت مستعبد
برقة الحس!
ضيعت أيامي. (عهد الصبا بادا)
يا ليته عادا
ليشعل القلبا!
قد قلت يا نفس ازهدي،
لا تتركي أحدا يراك،
لا تضرعي، لا تحلمي
بسعادة عليا هناك.
زمن التخفي والرجوع
لا يوقفن أحد خطاك!
كم تصبرت طويلا!
بعدما أنسي فؤادي
كيف يصبر،
كل خوفي وعذابي
صعدا نحو السماء،
عطشى وهو السقام
راح يسرى كالظلام
في عروقي ودمي.
هكذا ينمو ويزهر
بعدما ينسى ويهجر.
ها هنا مرج معطر
ببخور وسموم،
حولها يهفو ويهدر
من ذباب بالمئات.
كل وحشي قذر،
يا ألف هم وهم
يعرو النفوس الشقية،
لم يبق فيهن إلا
خيال رسم قديم
لأمنا العذرية!
فهل هناك قلوب
تدعو لها وتصلي
من هذه البشرية؟ •••
شبابي العاطل
كم أنت مستعبد
برقة الحس!
ضيعت أيامي.
عهد الصبا بادا
يا ليته عادا
ليحرق القلبا! (14) الإشراقات
نستطيع الآن أن نتحدث عن مجموعة القصائد النثرية المعروفة باسم «الإشراقات». والكلمة تحتمل عدة معان؛ فهي - إلى جانب المعاني الصوفية التي توحي بها - قد تفيد الإشراقات التي تومض فجأة في القلب أو في الروح، فتقترب من الإلهام أو الكشف، وقد تفيد معنى اللوحات أو الرسوم الملونة. ومن أصعب الأمور أن نحاول تقسيم هذه القصائد بحسب موضوعاتها؛ فهي تزدحم بالصور والأحداث الغامضة الحافلة بالألغاز. ولغتها تتراوح بين العذوبة المسكرة والتقطع المفاجئ، بين التكرار المتصل الممل في بعض الأحيان وتسلسل الكلمات في تداعيات لا تجمع بينها علة أو رابطة ظاهرة. وكل قصيدة منها تحمل عنوانا خاصا بها، ومع ذلك يندر أن يفيدنا هذا العنوان في فهمها فائدة تذكر. والموضوع المفتت الممزق الذي تعالجه يتحرك بين النظرة التي ترجع للوراء والنظرة التي تتطلع للأمام، بين الحقد والتجلي، بين التنبؤ والزهد. والانفعالات الجياشة التي تحتشد بها تنتثر في مجال يمتد من النجوم إلى القبور، ويزدحم بصور وأشكال وشخصيات بلا أسماء، ما بين قتلة وملائكة، وتلتقي فيها مدن وبلاد متباعدة في مكان واحد؛ إبيروس
10
واليابان وبلاد العرب وقرطاجنة وبروكلين. وعلى العكس من ذلك نجد أشياء متفرقة بعيدة كل البعد عن بعضها البعض، في حين أنها متلاحمة في الواقع أشد التلاحم. إن النزعة الدرامية الكامنة في هذه المقطوعات تهدف إلى تدمير العالم وتفتيته، حتى تصبح الفوضى أو الاضطراب هو المجال المحسوس الذي يمكن أن يتجلى فيه السر الخفي المجهول. وتبدأ كل منها بداية بعيدة عن الفكرة أو الموضوع الذي دفع الشاعر إلى كتابتها، فيحمل النص على الفور طابع شذرة لم تتم، أو مزقة وصلت إلينا بطريق الصدفة من عالم آخر. وهنا وهناك يحكي لنا الشاعر شيئا. ولكن ماذا يحكي؟ وعن أي شيء يتحدث؟ لنقرأ على سبيل المثال هذه «الحكاية» القصيرة وهي المقطوعة الثالثة من الإشراقات:
كان هناك أمير أغضبه أنه لم يهتم أبدا إلا باستكمال أسباب الإحسان إلى الشعب. تنبأ بحدوث ثورات مدهشة في الحب، وأحس أن زوجاته يمكن أن يتقن شيئا أفضل من هذه الملاطفة المحلاة بالسماء والترف. أراد أن يرى الحقيقة.
ساعة الشوق والرضى الأصيلين. وسواء أكان في ذلك انحراف عن التقوى أو لا، فقد أراده. لقد كان له على كل حال سلطان هائل على الناس.
كل النساء اللائي عرفنه
11
ذبحن. أي خراب في بستان الجمال! كن يباركنه ومن تحت السيوف. ولم يأمر بنساء جدد، وعادت النساء إلى الظهور.
قتل كل أفراد الحاشية التابعين له، بعد الصيد أو بعد الشراب، استمر الجميع في متابعته.
تسلى بذبح الحيوانات البديعة. أمر بإشعال النار في القصور، انقض على الناس ومزتهم إربا. ومع ذلك فقد كانت جماهير الشعب، والأسقف الذهبية، والحيوانات الجميلة تستمر في الحياة.
أيمكن أن ينتشي الإنسان بالخراب، ويجدد شبابه بالقسوة؟!
لم يدمدم الشعب بشيء. لم يتقدم أحد إليه برأي. ذات مساء راح يركض فخورا فوق جواده.
ظهر جني جماله فوق التصور، بل فوق الإمكان. من ملامحه وهيئته انبثق وعد بحب مضاعف وشامل! بسعادة فوق كل تعبير، بل فوق كل احتمال! ربما يكون الأمير والجني قد أهلكا نفسيهما في الصحة الجوهرية. أكان من الممكن ألا يموتا بسببها؟ هكذا ماتا سويا، لكن هذا الأمير مات في قصره، في سن معقول. كان الأمير هو الجني، كان الجني هو الأمير.
إن الموسيقى الخبيرة لا ترضي شوقنا ...
هي إذن حكاية تروى عن أمير، ولكن من هو هذا الأمير؟ إنه يقتل زوجاته، فيعدن إلى الحياة من جديد. ويقتل رجاله، فيتبعونه. «كيف يمكن أن ينتشي الإنسان بالدمار، ويجدد شبابه بالقسوة؟» ويقابله جني يسمو جماله فوق كل تعبير، ويموتان معا. «ولكن الأمير مات في قصره، في سن معقول.» إن القتل والموت لا يحققان غرضهما. فالموتى يواصلون الحياة، والأمير الذي مات مع الجني قد مات ميتة سوية. ماذا نفهم من هذه الحكاية؟ لعل المعنى الذي أراده الشاعر هو هذا: حتى التدمير يخفق وينتهي نهاية تافهة. ومع ذلك فإن أهم ما يسترعي النظر في هذه «الحكاية الشعبية»
conte
أنها تعبر عن العبث بوسائل القص المحددة، مع علمها بأن هذا العبث أيضا لا يكفي. وتنتهي المقطوعة هذه النهاية الغريبة «الموسيقى الخبيرة لا ترضي شوقنا».
من العبث أن نحاول فهم والإشراقات؛ إنها لا تفكر في القارئ ولا تحسب حسابه، ولا تريد أن تكون مفهومة، هي أشبه بالبرق الخاطف الذي يفرغ شحنات من الصور والرؤى القريبة من الهلوسة، وأقصى ما تطمح إليه هو إيقاظ ذلك الخوف من الخطر الذي ينبع منه الحب للخطر. وهي كذلك نص خال من «الأنا»، لأن الأنا التي تظهر في بعض القصائد إنما هي الأنا المصطنعة الغريبة التي صورها الشاعر في رسالتي الرؤيا السابقتين. وإذا كانت الإشراقات تثبت شيئا، فهي تثبت أن صاحبها مبدع بل مخترع يختلف عن كل من تقدمه من الشعراء. ولا شك أنها ستظل أول أثر عظيم من آثار الخيال المطلق في الشعر الحديث. (15) أسلوب التضمين
لرامبو قصيدة كتبها في سنة 1872م، يرجح الدارسون أن تكون من مجموعة الإشراقات، كما يضمها الناشرون إليها بالفعل. وعنوان القصيدة هو «بحرية»
Marine
أو صورة بحرية إن شئنا التصرف قليلا. وتعد القصيدة أول نموذج للشعر الحر في فرنسا. فهي تتألف من عشرة أبيات متفاوتة الطول، خالية من الروي والقافية. وقد كان التخلي عن الوزن المحكم الدقيق (ولا يزال إلى اليوم لحد كبير) ظاهرة تسترعي الانتباه في فرنسا عنها في أي بلد أوروبي آخر، كما كان ولا يزال شيئا يقابل بالإعراض والاستهجان ويعد دليلا على التطرف والشذوذ وقد استطاع رامبو في هذه القصيدة أن يجد الشكل أو الصيغة اللغوية الملائمة لخياله المنطلق «المتفكك». فهو يكون من الأبيات وحدات غير متساوقة، تقترب في بنائها اقترابا شديدا من قصائده النثرية.
وبهذا يخطو من الناحية الشكلية خطوة أبعد وأعنف بكثير من بودلير. ولقد انتشر الشعر الحر في فرنسا انتشارا واسعا بعد قصيدة رامبو، ورأينا شعراء مثل أبوللينير وماكس جاكوب وإلوار يسهمون فيه بنصيب كبير. وهو على كل حال أحد أشكال هذا النموذج الشعري الذي يتأثر فيه الشعراء - عن قصد أو غير قصد - برامبو. تقول القصيدة التي أشرنا إليها.
العربات الفضية والنحاسية -
صدور (السفن) من الصلب والفضة -
تضرب الزبد،
ترفع جذور الأشواك.
تيارات الأرض البور،
الآثار الهائلة للمد والجزر،
تتجه في دوائر نحو الشرق،
نحو أعمدة الغابة،
نحو جذوع الرصيف،
التي تلطم حافتها دوامات النور.
تحتوي القصيدة - ويمكنك أن ترى هذا حتى من الترجمة العربية! - على تقابل مزدوج، مرة بين اختلاف الوزن في الأبيات وبين لغتها المتزنة المنتظمة، ومرة أخرى بين هذه اللغة الهادئة نفسها وبين جرأة المضمون جرأة غير عادية. إنها تضع تعبيرا إلى جانب تعبير، في هدوء واعتدال تام. وهي لا تربط بينها بالظروف إلا في موضعين اثنين، ليست لهما أهمية كبيرة في واقع الأمر. والحق أن الاستغناء عن الظروف وأدوات الربط يرفع القصيدة فوق لغة النثر الخالص، ويضفي على أسلوبها الموضوعي المحايد والمجرد عن الأنا طابع الغموض والأسرار. أضف إلى هذا أن الكلمات في معظمها اسمية، والأفعال القليلة التي نصادفها تتراجع أمام الموضوعات والأشياء التي نجد أن قيمة الصور فيها أهم بكثير من الحركة، ولا يقف الأمر عند هذا؛ إذ لا نلبث أن نتبين مفاجأة أخرى، تولدت عن قوة الخيال غير الواقعي وتسلطه. فهذه القطعة البحرية تبدأ ببيت من الشعر لا يناسب العنوان: عربات فضية ونحاسية. ويأتي البيت الثاني فنجده أكثر اتفاقا مع العنوان: صدور (سفن) من الصلب والفضة. والعربات وصدور السفن معا تلطم الزبد، وترفع جذور الأشواك. ثم تتحدث القصيدة عن «تيارات الأرض البور» وعن «آثار المد والجزر»، ويتجه هذا كله إلى «أعمدة الغابة» وإلى «جذوع الرصيف» التي ترتطم بها دوامات الضوء.
القصيدة إذن تسير بنا في مجالين، أحدهما بحري (سفينة، بحر) والآخر أرضي (عربات، أرض بور)، ولكن المجالين يتداخلان بحيث يبدو أحدهما متضمنا في الآخر كما تزول كل تفرقة مادية وموضوعية بينهما. وتصبح القطعة البحرية قطعة برية، والعكس صحيح. وليست المسألة مسألة استعارات، بحيث يمكن أن نقول مثلا إن السفينة تمخر الماء كما تنهب العربة الأرض. ذلك لأن الأفعال تشد كلا المجالين بعضهما ببعض وهذا ما تفعله كذلك الكلمات المفردة (التيارات، الأرض البور ... إلخ). وبدلا من الاستعارات نرى القصيدة تسوي تسوية مطلقة بين أشياء مختلفة من الناحية المادية والموضوعية. أضف إلى هذا كله أن النص لا يتكلم عن البحر، بل عن المد والجزر والزبد، ولا يتكلم عن السفينة، بل عن مقدمها أو صدرها. صحيح أن أسلوب الاستعاضة بالأجزاء عن الكل أسلوب مألوف في الأدب، ولكنه يصل عند رامبو إلى أقصى حدته، فهو إذ يتعمد ذكر أجزاء من الأشياء إنما يمهد لعملية التدمير أو التفتيت التي ستشمل نظام الأشياء بوجه عام.
ليست هذه القصيدة المركزية الهادئة أول قصيدة من الشعر الحر في فرنسا وحسب، بل تعد كذلك أول مثل لأسلوب التضمين الحديث الذي يعد بدوره حالة من حالات «تجريد الواقع» أو ما سميناه «باللاواقعية الحسية». فما هو الجديد فيه إذن؟ يمكن أن نحدده من ناحية الموضوعات بطريقة سلبية فنقول إنه «لا واقع» أو إنه إلغاء الفروق المادية التي تميز بين الأشياء. وينشأ عن هذا نوع من الإلغاز أو الغموض الذي لا يحل. وتدور الأشياء المتضمنة في بعضها البعض حول أمور اعتباطية تعرض للشاعر كيفما اتفق أو أمور يمكن استبدالها بغيرها، ويصدق هذا على النص نفسه. فنحن نجد ثلاثة أو أربعة أبيات من مجموع الأبيات العشرة يمكن تغيير أماكنها بالتقديم أو بالتأخير دون أن يغير هذا شيئا من بناء القصيدة وتكوينها العضوي. ويمكننا أن نستخدم فكرة إيجابية في وصف المخيلة التي أنتجت هذا كله، فنقول إنها مخيلة حرة فإذا أردنا أن نحددها عن قرب وجدنا الأوصاف السلبية تفرض نفسها علينا. وتفسير هذا أن الحرية التي نتحدث عنها إن هي إلا انطلاق من نظام الواقع، أو تداخل لا واقعي بين أشياء مختلفة. ومثل هذه الحرية التي تلجأ إليها المخيلة حرية قوية مقنعة من الناحية الفنية، ولكنها لا تتسم بالضرورة عند انتقالها من مرحلة إلى أخرى. وسيظل هذا طابعا أساسيا للشعر الحديث، فالمضمونات التي يعبر عنها يمكن استبدالها واحدة بالأخرى، بينما تخضع طريقة التعبير لقانون في الأسلوب يملك بداهته في ذاته.
والغريب أن أسلوب التضمين يمثل حتى أيامنا هذه عنصرا مشتركا بين الأدب والرسم. بل إن الأدب والشعر خاصة، قد مهد لفن الرسم الحديث طريق هذا الأسلوب. ومن المدهش حقا أن نجد بروست يشرح ذلك شرحا مفصلا، ففي الجزء الثالث من روايته «البحث عن الزمن الضائع» وهو في ظل الفتيات الزاهرات (1917م) يصف زيارة لدى الرسام الخيالي «ألستير». وتتخلل الوصف تأملات تتفق بصورة مذهلة مع جماليات الرسم الحديث، بل يمكن أن نعدها تأكيدا لأسلوب رامبو في القصيدة التي انتهينا الآن من مناقشتها. وتتلخص تأملات بروست في أن «الحلم» هو القوة الحقيقية التي يملكها الفنان. والمقصود بالحلم هو المخيلة التي تتفوق على الواقع وتسمو فوقه، ومثلما يلجأ الأدب إلى الاستعارة، يلجأ الرسم إلى «التحول»
Metumorphose
فيحيل الأشياء المادية والموضوعية إلى صور وتركيبات فنية لا وجود لها في عالم الواقع. ويطبق بروست هذا الكلام على رسامه الخيالي «الستير» فيقول إن من بين ما كان يلجأ إليه من تحويلات متكررة أنه كان في صوره البحرية يلغي الحد الفاصل بين البحر والبر، فيصور المدينة «بتعبيرات مأخوذة من البحر»، ويصور البحر «بتعبيرات مأخوذة من المدينة». وتكون النتيجة في النهاية صورة لا واقعية وصوفية، تتفتت فيها وحدات الأشياء والمجالات إلى أجزاء بحيث تتحول إلى «معادلة» غير واقعية بين أشياء مختلفة متباينة.
هذه كلها أحكام يمكن أن تطبق بحذافيرها على قصيدة رامبو البحرية. ومن الصدف العجيبة أن بروست يطبق أحكامه أيضا على صورة بحرية. (16) شعر تجريدي
تناولنا «المخيلة المتسلطة» أو «الخيال الدكتاتوري» في الفقرات السابقة ورأينا أنه قد يصل في بعض قصائد «الإشراقات» إلى حد العبث والمحال. ولو نظرنا مثلا في القصيدة الأولى منها، وهي «بعد الطوفان» لوجدنا فيها الأرنب الذي يجلس على العشب ويتلو صلاته لقوس قزح من خلال شبكة العنكبوت، ولوجدنا كذلك السيدة التي تضع المعزف (البيانو) في جبال الألب. والفندق الفخم الذي يبنى في عماء الثلج وليل القطب. والقمر الذي يسمع عواء بنات آوى في الصحاري، وزمجرة قصائد الرعاة ذات الأحذية الخشبية في البساتين، والملكة الساحرة التي تنفخ نارها في الوعاء الفخاري، والتي لن تحكي لنا أبدا ما تعرفه ولا نعرفه.
هكذا تزخر معظم هذه القصائد بخليط من الصور المتباعدة الممزقة، غير أن فيها إمكانيات أخرى لما وصفه بودلير بالتجريد. ويصدق هذا على بعض نصوص رامبو التي نرى فيها نسيجا مجردا من الخطوط والحركات الخالصة من كل أثر للأشياء المادية. ولنضرب لهذا مثلا بقصيدة قصيرة هي قصيدة «الجسور»:
سماوات رمادية من البللور. نسيج غريب لجسور، هذه مستقيمة، وتلك مقوسة، وأخرى تهبط بزوايا منحرفة فوق الأولى، وكل هذه الأشكال تتكرر في التعرجات المضاءة من القنال، ولكنها جميعا من الطول والخفة بحيث تميل الأنهار المحملة بالقباب، وتختفي. بعض هذه الجسور لا يزال مثقلا بأسوار قديمة، وبعضها الآخر يحمل أشرعة ، وأعمدة إشارة، وحواجز هشة. أنغام من الديوان الصغير (المول)، تتشابك معا وتسبح في خطوط. أوتار تصعد من المنحدرات. تتبين سترة حمراء، وربما ميزت العين ملابس أخرى وآلات موسيقية. أهذه أنغام شعبية، شذرات من حفلات موسيقية يؤمها علية القوم، بقايا أناشيد عامة؟ الماء داكن وأزرق، عريض كلسان البحر.
شعاع أبيض يهبط من علياء السماء ويبدد هذه الملهاة.
قد تكفي القراءة الأولى لتبين أن الشاعر يسير في وصفه على نهج دقيق. ولكن القراءة الثانية سرعان ما تكشف لنا أن الموضوع الذي يتناوله موضوع خيالي، وأن هذه المدينة التي يصف لنا جزءا منها مدينة بلا مكان ولا زمان، لم تأت عن طريق النسخ من الواقع بل عن طريق الرؤية الخيالية. إنه يصف مجموعة من الجسور، ولكن ليس المهم في هذه الجسور هو حجمها المادي، بل خطوطها المختلفة من مستقيمة ومقوسة ومنحرفة الزوايا، بحيث تتولد في النهاية صورة أو تركيبة شاذة وغريبة (لنتذكر هنا أن الغرابة في رأي بودلير تتصل بالتجريد والأرابيسك). وتلخص القصيدة هذه الخطوط جميعا فتصفها بأنها «أشكال». وتتكرر هذه الأشكال وتنعكس في المنعرجات الأخرى من القنال. ولكن القصيدة لا تذكر لنا شيئا عن هذه المنعرجات «الأخرى». ونلاحظ أن قوانين الثقل قد ألغيت، فالأشكال (التي نراها الآن على هيئة الجسور) قد بلغت من خفة الوزن حدا جعلها تحمى الشواطئ الثقيلة، أي أن الخفيف يضغط على الثقيل. ثم نرى خطوطا جديدة، تتألف في هذه المرة من أنغام تتحول إلى خطوط تسبح وترف في الهواء. وتأتي بعدها إشارات موجزة لسترة حمراء وآلات موسيقية، إلى أن نفاجأ بالخاتمة الغريبة التي يتبدد معها كل شيء، ويظل كل شيء عصيا على الفهم. صحيح أن تركيب الجمل بسيط غاية البساطة، ولكنه ينطوي على غرابة شاملة، تضاعف منها دقة التعبير وبرودته الشديدة. سنلاحظ أيضا أن القصيدة لا تذكر شيئا عن الناس، ومع أنها تشير إشارات عابرة إلى سترة حمراء وآلات موسيقية، وأنغام لا نعرف أصلها، فإن هذه الإشارات تظل منعزلة وتؤكد غيبة البشر عن جو القصيدة. قد نقول إن البديل هو وجود الأشياء بكثرة فائقة، ولكن هذه الأشياء تذكر دائما في صيغة الجموع غير المحددة، كما أن العلاقات التي تربط بينها علاقات عبثية أو غير معقولة لا تدل على صلة ضرورية بين الأسباب والنتائج. لقد تعرت هذه الأشياء من ثيابها المادية وتحولت إلى محض خطوط وحركات خالصة وتجريدات هندسية. ومهما تكن درجة اللاواقعية في هذه اللوحة كلها، فإن الخاتمة المفاجئة التي تحمل معها الدمار والفناء تزيدها غرابة ولا واقعية!
إن رامبو يتحرك في هذا العالم الغريب الذي لا يوجد في مكان ولا زمان بغير أدنى انفعال. بل لقد أصبحت لديه القدرة على التخلي عن تفجراته الصارخة المتمردة التي كانت تدفع بكتاباته المبكرة إلى الغرابة؛ ذلك لأنه يعيش الآن في صميم هذه الغرابة.
إن نظرته الحادة تأخذ الآن كل ما أبدعته بنفسها من غرابة وشذوذ مأخذ الأمور العادية المألوفة وتسلمه إلى لغة تتحدث عنه بلهجة من يتحدث عن شيء بديهي ومفهوم بذاته. غير أنها لا تسأل نفسها لمن ترويه، لأنها ترويه للاأحد! (17) شعر حديث ذاتي (مونولوج)
أصبح شعر رامبو بعد سنة 1871م مونولوجا أو حوارا مع الذات. وإذا كان الدارس يستفيد فائدة كبيرة من مقارنة مسودات الشاعر أو الكاتب ومخطوطاته بالصيغة الأخيرة التي ترك عليها نصوصه، فإن دارس رامبو الذي يقارن مسوداته الباقية من بعض أعماله النثرية بصيغتها التي بين أيدينا سيرى بنفسه إلى أي مدى كان الشاعر يغير فيها، وفي أي اتجاه كان يسير تفكيره. لقد أصبحت الجمل تميل إلى الإيجاز والتركيز، وزادت جرأته في إغفال أدوات الربط بين أجزاء العبارة، وكثرت فيها الكلمات الغريبة الشاذة كثرة ملحوظة. وإذا أخذنا برواية بعض معاصريه فسنجد أنه كان يستهلك كميات هائلة من الورق قبل أن يصل إلى الصيغة التي ترضيه، وأنه كان يتردد طويلا ويفكر كثيرا قبل أن يضع فاصلة أو يحذف صفة، بل لقد كان من عادته أن يحتفظ بمجموعة من الكلمات المهجورة أو النادرة الاستعمال ليلجأ إليها في نظم قصائده. وهذه الأخبار كلها تدل - إن صدقت - على أن رامبو كان يسير على نفس الطريقة التي سار عليها الشعراء الكلاسيكيون المشهورون بالوضوح ورصانة الأسلوب. ومن هنا يمكن تفسير الغموض في شعره بأنه لم يكن نتيجة جموح في العاطفة بقدر ما كان نتيجة تدبير فني محكم، ولذلك يصبح شيئا منطقيا ومعقولا في إطار هذا الشعر الذي يضطر تحت إلحاح عاطفة متأججة فشلت في تحقيق المجهول والوصول إليه - إلى تحطيم المألوف وتغريب كل ما هو معروف، ولننظر إلى هذه العبارة التي يقولها رامبو في إحدى كتاباته المتأخرة (ص219): «كنت أدون ما لا يمكن التعبير عنه، كنت أقبض على الدوامات.» ثم إلى هذه العبارة التي ترد بعد ذلك بصفحات قليلة: «لم أعد قادرا على الكلام.» وبين هذين الموقفين المتباعدين يمضي شعر رامبو المظلم الغامض؛ غموض ما لم يقله أحد من قبل، وغموض ما لم يعد من الممكن قوله، بعد أن تقف اللغة عند حدود الصمت واستحالة التعبير عما يستحيل التعبير عنه (وهي تجربة المتصوفين في كل اللغات والعصور).
قد نسأل: ولماذا يكتب الشعر من لا يخاطب به أحدا؟ ولكن السؤال عسير على الجواب. قد نجرب مع ذلك فنقول إن مثل هذا الشعر يكون محاولة أخيرة لإنقاذ حرية العقل والروح عن طريق الخيال المتسلط والقول المغرب الشاذ، في موقف تاريخي يبذل فيه العلم والتمدن وأجهزة الاقتصاد والتقنية أقصى جهودها لتنظيم الحرية وطبعها بخاتم الشمولية، أعني بقتل جوهرها وروحها. هل نعجب بعد ذلك إذا وجدنا الشاعر الذي طرد من كل مسكن وملجأ، يبني من أبيات شعره مسكنه وملجأه الوحيد؟ ألا يجوز أن يكون هذا هو السبب الذي يدفعه لكتابة الشعر؟ (18) دينامية الحركة وسحر اللغة
ينشأ نسيج التوتر في شعر رامبو عن طاقات من النوع الذي نجده في الموسيقى، والموسيقى الحديثة بوجه خاص.
وتشبيه الشعر بالموسيقى لا يرجع إلى الأشكال النغمية فيهما بقدر ما يرجع إلى تفاوت درجات الشدة والعمق، واختلاف الحركات المطلقة بين صعود وهبوط، والتغير المتصل بين «شحن» و«تفريغ». من هنا يأتي سحر هذا الشعر الغامض الذي يبدو كأنه يتحدث في فراغ.
ولنحاول أن نوضح العبارات السابقة عن «ديناميكية الحركة» في هذا الشعر بدراسة إحدى القصائد النثرية في الإشراقات، وهي قصيدة «تصوف». لنقرأ القصيدة أولا بقدر ما تسعفنا الترجمة:
على جانب المنحدر ترقص الملائكة بأثوابها المنسوجة من الصوف، وسط أعشاب من صلب وزمرد.
مراع ملتهبة، تثب إلى قمة التل. تربة النتوء على اليسار داستها أقدام كل القتلة وكل المعارك، وكل ضجيج الدمار يمد هنا قوسه. خلف النتوء الأيمن خط الشروق والتقدم المستمر.
وبينما الشريط في أعلى اللوحة يكتسب شكله من الضوضاء المدومة الفوارة لأصداف البحر وليالي البشر، تهبط العذوبة الموردة للنجوم والسماء وباقي العالم تجاه المنحدر، مثلما تهبط سلة، قريبة جدا من وجهي وتجعل الهاوية معطرة وزرقاء، هناك أسفل.
نحن إذن أمام مشهد خيالي من طبيعة خيالية، يتم فيه حدث هو نفسه جزء من هذه الطبيعة. في البداية نرى الملائكة ترقص على منحدر وسط أعشاب من صلب وزمرد، ثم نرى المراعي التي تتوثب ألسنتها كاللهب لتبلغ قمة التل. على اليسار بروز من هذا التل عليه آثار أقدام جميع القتلة والمعارك وكل ضجيج الفناء والدمار يغزل قوسه ويمد خيوطه. أما الشريط الأعلى من اللوحة فهو يتكون من ضوضاء أصداف البحر والليالي البشرية. ثم تأتي الخاتمة التي تجعل «عذوبة النجوم الموردة» تهبط في قاع الهاوية «المعطرة الزرقاء». إن المرئي والمسموع يذوبان في بعضهما البعض، كما يتداخلان كذلك في المجردات، فنتوء الجبل يصبح «خطا من شروق وتقدم».
إن تجريد الموجودات الفردية من حدودها وأبعادها، يقابله تجريد الكل من حدوده ومادته عن طريق الحركات الممتدة في المكان. فهذه حركة أفقية تبدأ بها القصيدة، تليها حركة صاعدة، ثم تعود الحركة الأفقية لتتجه إلى أعلى (وتكمن المفارقة في هذا العلو في أنه يتكون من أفكار تصور القاع: أصداف البحر) إلى أن تأتي في الخاتمة حركة هابطة تنتهي أسفل القاع. هذه الحركات كلها - كما يقال في لغة الفيزياء - ديناميات مطلقة، نلمس وجودها من الحسيات غير الواقعية أكثر مما نراها. كذلك تتحرك الجمل على هذا النحو؛ فتبدأ صاعدة بقوة (كحركة الكريشندو في الموسيقى) ثم تستمر في صعود بطيء حتى منتصف القصيدة، ويمتد بعد ذلك منحنى عريض، يمضي في البداية خفيفا سابحا، ثم يهبط متعثرا إلى أن تأتي الخاتمة التي تقطع هذا المنحنى فجأة بهذه الكلمة القصيرة المنعزلة «هناك أسفل.»
والمهم أن القصيدة في جملتها تؤكد ما قلناه من قبل من أن الحركة، لا المعنى أو المضمون، هي التي تعطيها شكلها ونظامها. وكلما قرأناها وأعدنا قراءتها زاد تأثيرها السحري علينا.
وهنا ننتقل للكلام عن سحر اللغة، ولقد تقدم القول عنه في الفصول السابقة، وعرفنا كيف استقر الرأي من «نوفاليس» إلى «إدجار آلن بو» و«بودلير» على أن النص الشعري لا ينشأ عن الموضوعات والبواعث الفنية فحسب، بل ربما كان الفضل في خلقه يرجع أساسا إلى إمكانيات التأليف والتركيب بين أنغام اللغة وأصواتها والذبذبات المترابطة المتداعية التي تنبعث من معاني الكلمات. ولقد رأينا أمثلة لذلك عند بودلير. ولكن رامبو توسع فيه بجرأة لم يسبقه إليها شاعر قبله، وساعده على ذلك أن شعره لا يهتم بأن يفهم بالمعنى العادي المقصود من كلمة الفهم، ولهذا أمكنه أن يفصل بين الكلمة كنغمة وإيحاء، وبينها كجزء من بناء لغوي يهدف إلى توصيل المعنى. وقارئ رامبو (ومالارميه ومعظم كبار الشعراء في القرن العشرين) في حاجة لمن يؤكد له دائما أن قيمة الكلمة عنده تكون في نغمها وصوتها وإيحاءاتها وإشعاعاتها الموسيقية والمعنوية التي تنبعث من جرسها قبل أن تكون في معناها أو فكرتها أو مضمونها. إن الكلمة تطلق طاقات وقوى لا منطقية، وهذه الطاقات والقوى هي التي توجه مسار العبارة وتؤثر بفضل تسلسل أنغامها غير العادية تأثيرا سحريا غير عادي. وهذا التأثير السحري يساهم بنفس المقدار في خلق الإحساس «بالمجهول»، بمثل ما تفعل اللاواقعية الحسية والحركات المطلقة التي تكلمنا عنها.
ولا بد الآن من الحديث عن المقصود بالسحر في هذا السياق بشيء قليل من التفصيل. فالمعروف أن رامبو يتكلم عن كيمياء الكلمة، وقد استنتج البعض من هذا التعبير ومن تعبيرات أخرى مشابهة أنه كان على صلة وثيقة ببعض الجماعات السرية التي تمارس الطقوس السحرية، وأنه تأثر ببعض الكتابات القديمة في الكيمياء والسحر والعرافة. والواقع أن مثل هذه الكتابات كانت قد انتشرت في فرنسا من منتصف القرن التاسع عشر حتى وصلت إلى أيدي الطبقات المثقفة ثقافة أدبية عالية، وكان من بينها تلك الكتب المعروفة بالكتب الهرمية التي ترجمها مينار في سنة 1863م إلى اللغة الفرنسية، وهي مجموعة من الكتب تضم المذاهب والآراء السحرية المنسوبة لهرميس ترسمجتسوس أو هرمس المثلث القوة، ويقال إنه هو توت أو تحوتي إله الحكمة في مصر القديمة الذي سوى اليونان في العصر الهلليني بينه وبين هرميس رسول الآلهة إلى البشر وأصبح عندهم إله المعرفة وبخاصة ما يتصل منها بالسحر والكيمياء. وهذه الكتابات المنسوبة إلى هرميس مثلث القوة عبارة عن اثنين وأربعين مقالة يونانية ولاتينية وعربية ترجع إلى القرن الأول بعد الميلاد، وتصور آراءه على شكل حوار مستمد من أفلاطون وفيثاغورس وأورفيوس وبوزيدونيوس وتدور حول مذهب الغنوصيين في الخلاص ونشأة العالم.
مهما يكن من شيء فليس هناك دليل قاطع على أن رامبو قد عرف هذه الكتابات أو مارس مثل هذه الطقوس. والمحاولات التي يبذلها البعض ليثبت أن أشعاره نصوص سرية ملغزة كتبت لأصحاب الأسرار ما هي في الحقيقة إلا ضرب من العبث والتجني.
صحيح أن التقريب بين الأدب وبين السحر والكيمياء (بمعناها القديم الذي يقصد منه البحث في العناصر المكونة للأجسام وخصائصها الأولية وتأثير أجسام الكواكب على الأجسام الأرضية وتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة كالذهب والبحث عن حجر الفلاسفة ... إلخ) أصبح من القرن الثامن عشر شيئا مألوفا، ولكن ينبغي ألا تأخذ هذا مأخذا حرفيا، فالمهم في هذا التقريب هو البحث عن أوجه التقابل بين العمل الشعري والعمل السحري أو الكيميائي. والواقع أن تأكيد هذا التقابل أو التشابه من جانب الشعراء المحدثين إلى اليوم إن دل على شيء فإنما يدل على النزعة الحديثة التي تحاول أن تضع الشعر بين طرفين متباعدين: العقلانية المحضة في جانب، والطقوس السحرية القديمة في جانب آخر.
يقول رامبو في تفسيره لما يريده بكيمياء الكلمة (ضمن مجموعة قصائد فصل في الجحيم): «لقد ابتدعت لون الحروف الصوتية!
A
أسود،
E
أبيض،
I
أحمر،
O
أزرق،
U
أخضر. حسبت شكل وحركة كل حرف ساكن وأوهمت نفسي أنني تمكنت بفضل إيقاعات فطرية من اختراع كلمة (أو لغة) شعرية يمكن في وقت قريب أو بعيد أن تصبح في متناول جميع الحواس.» ثم يقول بعد ذلك بقليل: «كان هذا في بداية الأمر مجرد تدريب. كتبت الصمت، الليالي، دونت ما يستعصي على التعبير. ثبت الدوار.»
ومع أن هذه الكلمات الواردة في آخر أعمال رامبو (فقد كتب فصل في الجحيم بين أبريل وأغسطس 1873م) تعبر فيما يبدو عن مرحلة تجاوزها الشاعر، فإن هذا لا يغير من الحقيقة شيئا وهي أنه كان لا يزال يجرب أسلوب السحر اللغوي على درجات مختلفة حتى في آخر أعماله، وفي كل مرة يطبق فيها هذا الأسلوب تنشأ تركيبات نحس لو قرأناها بصوت مرتفع أن الشاعر قد تدبر ظلال الحروف الصوتية وأحسن استغلال الارتباطات القائمة بين الأحرف الجامدة أو الساكنة. وتزداد جرأة الشاعر وجسارته كلما تمكنت منه إرادة النغم - إذا صح هذا التعبير - بحيث لا يعود للبيت الذي يوجهه هذا النغم أي معنى أو لا يبقى فيه سوى معنى مظلم أو عبثي أو غير معقول.
12
وفي مثل هذه الأحوال يمكننا أن نتحدث عن الموسيقى غير النغمية
atonale
في الشعر، كما يكثر الحديث عنها في الموسيقى الحديثة. والمهم أن النشاز بين المعنى العبثي المظلم وبين القوة النغمية المطلقة التي تحملها الكلمات سيظل قائما في الشعر الحديث بعد رامبو، وسيظل من أهم ملامحه وقوانين بنائه؛ ولذلك فإن العبارة عند رامبو وعند غيره، تكاد تكون مستحيلة على الترجمة. إنها في معظم الأحوال لا تخرج عن كونها سلسلة من الأنغام والأصوات المجردة التي يحددها التقارب أو التنافر بين الحروف المتحركة والحروف الساكنة، بحيث يتعذر علينا أن نفهم معنى الكلمات التي توحي بها هذه الأنغام والأصوات لأنه في معظم الأحيان لا يفيد معنى ولا صورة؛ ولهذا كله تظل الترجمة قاصرة وعاجزة. إنها ستكون في أحسن الأحوال تقريرا عن معنى القصيدة أو مضمونها، في حين أن معظم هذا الشعر «الرمزي» - وفي أعقابه أغلب الشعر الحديث كما قدمت - لا يهتم بالمعنى والمضمون بقدر ما يهتم بالصوت والنغم الموحى. هكذا تتسع الهوة بين لغة الشعر السحرية وبين لغة الكلام العادية. وهكذا يتحتم على المترجم أن يعرف حدوده، كما يتحتم على القارئ أن يرجع إلى النص الأصلي كلما أمكنه ذلك. (19) حكم أخير
يقول ج. ريفيير في كتابه عن رامبو: «إن المساعدة التي يقدمها لنا هي أنه يجعل إقامتنا على الأرض شيئا مستحيلا ... إن العالم يهوي في عمائه أو فوضاه الأولى من جديد، والأشياء تعود إلى الظهور في حريتها المخيفة التي كانت تمتلكها قبل أن تستخدم لتحقيق غرض أو منفعة.» إن عظمة رامبو تكمن في أنه استطاع أن يعبر عن هذا العماء الأول
13
في لغة بلغت من الكمال حد السحر والسر والغموض، وأنه استطاع أن يسيطر عليه بقدرته الفنية المبدعة. لقد عرف أنه أخفق في الوصول إلى «المجهول» فكان العماء هو البديل عنه، وكان أن حاول نقله إلى لغته التي تصور عالما ممزقا محطما فقيرا من حقيقة ذلك المجهول.
ولقد استطاع، كما استطاع بودلير من قبله، أن يحمل تبعة «الصراع الروحي الوحشي» الذي تحدث عنه بنفسه وكان قدر عصره كله. تحمله بشجاعة وأمانة وقدرة على التنبؤ بالمستقبل تشبه الإلهام؛ ولذلك لم يكن شذوذ شعره وغموضه واضطرابه سوى نوع من تقديم فروض الطاعة للمرحلة التاريخية التي عاشها وتعذب بها.
وعندما وصل إلى الحد الذي أدرك معه أن شعره الذي شوه العالم والأنا قد بدأ يشوه نفسه ويدمرها، وجد في نفسه الرجولة والشجاعة الكافيتين للإخلاد إلى الصمت المطبق. إن هذا الصمت جزء لا يتجزأ من وجوده الشعري نفسه. وكأن الحرية التي مارسها إلى أقصى حد ممكن في الأدب هي نفسها التي استطاعت أن تحرره من الأدب. وليت الذين فتنوا به وحاولوا أن يقلدوه تعلموا منه هذا الدرس؛ ليتهم عرفوا متى يصمتون في اللحظة المناسبة. وليت الذين يكثرون اليوم من الكلام دون أن يكون لديهم ما يقولونه يتعلمون أيضا هذا الدرس الخالد، وليت الثرثارين من أشباه الكتاب والشعراء في بلادنا يتعلمونه فيصمتون طويلا قبل أن تنتابهم شهوة الكتابة والكلام!
ولقد جاء بعد رامبو شعراء أثبتوا بأعمالهم أن رسالته في حاجة لمن يتمها، وأن جهد النفس الحديثة في التعبير عن التعبير عن ذاتها بالكلمة جهد متصل لا يمكن أن ينتهي.
الفصل الرابع
مالارميه (1842-1898م)
وجدت الجمال بعد أن وجدت العدم. ***
تمهيد
يبدو شعر مالارميه وكأن لا سبيل لمقارنته بشعر أحد من السابقين عليه أو المعاصرين له. لقد خطته يد إنسان عاش حياة برجوازية هادئة، ومنعته طبيعته الخيرة النبيلة من إظهار عذابه وتمزقه، بل أعانته على أن يتكلم عن نفسه في معظم الأحيان بأسلوب ساخر، على الرغم مما كان يعانيه من ألم وعذاب. وفي ظل هذه الحياة الطيبة الوادعة كان عقله يعمل في تأن وبطء شديدين، وينتج شعرا مجردا غاية التجريد، يختلف عما ألفناه من شعر رامبو بصخبه ونشوته وغرابته، واشتهر هذا الشعر بغموضه، وخاف الناس هذا الغموض وأحبوه في وقت واحد. ولا يكفي أن يكون الإنسان ملما باللغة الفرنسية حتى يقرأ مالارميه؛ إذ لا بد له من فك رموز لغته التي لا يكتبها شاعر غيره، وليس معنى هذا أنه ظاهرة فريدة في تاريخ الشعر الحديث، بل معناه أنه جزء من هذا الشعر ولبنة في بنائه العام الذي امتدت جذوره كما رأينا من قبل إلى الرومانتيكية واشتد عوده على يدي بودلير.
ونستطيع على ضوء العرض السابق للعناصر الجديدة في بناء الشعر الحديث أن نحدد العوامل المشتركة بينه وبين شعر مالارميه في النقط التالية:
غياب ما يسمى بشعر العاطفة أو شعر الإلهام. المخيلة الطاغية الخلاقة التي يسيرها العقل. تدمير الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة. استغلال الطاقات الموسيقية في اللغة. الاعتماد على الإيحاء بدلا من الفهم (أي أن الشعر يريد أن يوحي أكثر مما يريد أن يفهم). إحساس الشاعر بأنه ينتمي إلى عصر حضاري متأخر. العلاقة المزدوجة بالحداثة. إعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي. الشعور بالتوحد وبأنه علامة من علامات التميز. تكافؤ التعبير الشعر والأدبي مع التأمل في هذا التعبير، وغلبة المقولات السلبية على هذا التأمل أو هذا الفن الشعري.
كل هذه الخصائص التي سنتناولها بالتفصيل فيما بعد تبين أن شعر مالارميه ينتمي للطابع العام الذي يميز الشعر الحديث. ومع أنها تزداد لديه عمقا وتعقيدا، إلا أن القارئ لا يملك إلا أن يقتنع باتساقها المنطقي، والواقع أن شعر مالارميه من أول نماذج الشعر الحديث. والمفارقة التي تحكم شعر رامبو تحكمه أيضا، ونقصد بهذه المفارقة أنه قد أثر تأثيرا هائلا على الرغم من غموضه وتعقيده وإغرابه الشديد. وهذه الحقيقة نفسها تعد مظهرا لحالة الشعر الحديث بأكمله؛ فالشاعر الوحيد المغلق الغامض يقلق الناس وينزع الطمأنينة من نفوسهم! ولكنهم مع ذلك - أو بسبب ذلك! - يتهافتون على سماعه ويحاولون في كل مرة أن يفسروه تفسيرا جديدا. إن شعره يجتذب إليه المريدين والمحبين، وغرابته تفتن العقول التي سئمت المألوف. لم يكن هذا الشعر ثمرة لهو أو ترف أدبي، ولم يأت عن نزعة استطيقية أو حب للفن من أجل الفن أو ما أشبه. وإنما جاء نتيجة طموح عظيم، بل أقصى طموح يمكن أن يتطلبه شاعر من نفسه. ولقد استمع الناس لمالارميه وقرءوه، وأينع شعره ثمرات ناضجة، يكفي أن نذكر منها أسماء شعراء أوروبيين لامعين مثل شتيفان جئورجه، بول فاليري، سوينبيرن، ت. س. إليوت، جيان، أنجارتي ...
ونود أن نشير إلى بعض خصائص شعر مالارميه قبل أن نحاول تفسير عدد من قصائده، وسنقصر الإشارة والتفسير على المرحلة الثانية في إنتاجه، وهي مرحلة النضوج التي تبدأ من سنة 1870م.
أهم ما يميز هذا الشعر أنه شعر هامس حيي، لا يفرض نفسه على قارئه، بل يبدو كأنما يرف في فراغ. إن للقصيدة الواحدة طبقات عديدة من المعاني والدلالات، تسمو بعضها فوق بعض، بحيث تنتهي آخر هذه الطبقات وأعلاها إلى معنى لا يكاد يفهم. ومالارميه يتمم الرأي الذي نعرفه منذ عهد بودلير من أن المخيلة الفنية لا تنسخ الواقع ولا تصوره تصويرا مثاليا بل تغيره أو بالأحرى تشوهه. وهو يتمم هذا الرأي حين يرسيه على أساس أنطولوجي (وجودي)، كما يبرر غموضه وصعوبة فهمه تبريرا وجوديا كذلك (وكلمة الوجودية هنا وفي السطور التالية لا صلة لها بالفلسفة المعروفة بل بعلم الوجود أو الأنطولوجيا).
ذلك لأن الوحدة التي أشرنا إليها بين الفن وتأمل الفن أو بين الشعر وفن الشعر يعلو بها فكره الذي يدور حول الوجود المطلق (ويتساوى لديه مع العدم) وعلاقته باللغة، ويعبر مالارميه عن فكره هذا تعبيرا نظريا يتسم بالحذر الشديد في مقالاته المتنوعة وفي بعض رسائله. غير أنه لا يتشكل بصورته الحقة إلا في إنتاجه الأدبي وبخاصة في شعره القليل. ولا ينبغي أن نفهم من هذا أنه شعر تعليمي يعرض قضايا نظرية. بل ينبغي أن نفهم منه أن الشعر هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يلتقي فيه المطلق واللغة؛ بهذا يكون الشعر قد بلغ قمة لم يتح له أن يبلغها في العصور التي جاءت بعد الشعر القديم (ونعني به الشعر الإغريقي والروماني بوجه خاص) ومع ذلك فهي قمة وحيدة بائسة، تنقصها الآلهة، وتغيب عنها الحقيقة المتعالية أو «الترانسندنس» الحق.
لا شك أن هذا الكلام سيبدو للقارئ غامضا أو سابقا لأوانه. ولكننا سنعود إليه بشيء من التفصيل، بعد أن نعيش مع بعض نماذج هذا الشعر الذي نصفه الآن بالغموض والتجريد والتعقيد. ومع ذلك فربما يسأل القارئ هذا السؤال: ألا يزال هذا الذي وصفته يعد شعرا؟ ماذا بقي فيه إذن من الشعر؟ ولماذا لا يريحنا مالارميه فيسجل أفكاره الفلسفية والأنطولوجية في نثر واضح مفهوم يدل على معنى واحد ومحدد؟
والإجابة المباشرة على هذا السؤال أنه لم يكن من الممكن أن يعبر الشاعر عن أفكاره تعبيرا ثابتا محدد المعنى، لأن ذلك معناه ضياع «السر» الذي يطبع الشعر بطابعه. والحقيقة أن همه كله ينصب على الاقتراب من هذا السر. وشعره وفكره كله لا يسير من العالم التجريبي إلى الفكرة الأنطولوجية العامة، بل يسير في عكس هذا الاتجاه. إنه يستخدم أشياء بسيطة غاية في البساطة. كالزهرية والمنضدة والمروحة والمرآة. صحيح أنه ينزع عنها رداء «الشيئية» ويحيلها من الحضور إلى الغياب، ويحملها تيارا من التوتر والصراع غير المنظور. ولكنها على كل حال تظل حاضرة للتصور عن طريق الكلمة التي تسميها، وفي هذا الحضور «التصوري» تكتسب معناها غير العادي لأن تيار التوتر غير المنظور يتخللها ويجري فيها، بحيث تمتلئ هذه الأشياء العادية البسيطة بالسر حتى الأعماق. فكأن هذه الأشياء العادية البسيطة تقوم مقام كل ما نجده حولنا من أشياء. إن مالارميه لا يتناولها تناولا فكريا، بل يطبع الوجود المطلق أو العدم عليها، ويحيلها أمام أعيننا إلى أشياء غامضة زاخرة بالأسرار، وبذلك يحقق طابع السر الأصيل في أشياء عادية ومألوفة. هذا هو الذي يجعل شعره شعرا، أو تغنيا بالسر عن طريق الصور والكلمات التي تدركها النفس فترتجف وتهتز، وإن كانت تشدها إلى أفق بعيد وغريب. (1) ثلاث قصائد
ولنترك الآن هذه المقدمة النظرية لنقرأ ثلاث قصائد من أشهر أشعاره ونحاول تفسيرها، وهذه القصائد هي على الترتيب: قديسة، مروحة (زوجة الشاعر تمييزا لها عن قصيدة أخرى كتبها عن مروحة ابنته)، بروز من الاستدارة.
ومع إحساسي بأن تفسير شعر مالارميه لن يخلو من شيء من الادعاء أو المخاطرة أو التعسف فإن المحاولة تستحق مع ذلك أن تبذل. ولنبدأ بالقصيدة الأولى (ص53 من طبعة البلياد الكاملة) التي كتبها الشاعر في ديسمبر سنة 1865م ثم استقرت بصورتها النهائية في سنة 1884م. ولا بد من الاعتذار للقارئ عن إيراد النص الفرنسي والاكتفاء بالترجمة القاصرة. ولا بد أيضا أن ننصح القارئ المتمكن من الفرنسية بالرجوع إلى النص الأصلي وقراءته بصوت مسموع، لأن شعر مالارميه خلق للتأثير على الأذن واستثارة المعنى - إن كان هناك معنى يمكن فهمه على الإطلاق - من إيقاع النغم وجرس الحروف وتوافق الأصوات أو نشازها، هذا ويلاحظ أن كل ما يوضع بين قوسين فهو زيادة منا لتوضيح النص.
قديسة
عند النافذة التي تتكتم (خشب) الصندل العجوز الذي يفقد ذهبه
عن كمانها (الكبير) الذي كان قديما
يتألق مع الناي أو بالعود، (تقف) القديسة شاحبة وتنشر
الكتاب القديم الذي يتفتح
بالتسبيحة
1
التي كانت فيما مضى
تتفطر مع صلاة المساء وصلاة النوم:
على هذا اللوح من الوعاء المقدس
2
الذي تلامسه قيثارة
قدت من رفيف ملاك في المساء،
لأجل جزء رهيف من أصبعها
3
الذي تهدهده، بغير (خشب) الصندل العجوز،
بغير الكتاب القديم،
على المعزف المجنح،
موسيقية الصمت.
والنص كما نرى مركب من جملة واحدة لا تصل إلى نهاية محددة. وبنيته بسيطة غاية في البساطة، وإن كنا نحتاج إلى بعض الوقت للتعرف عليها. فهي ترتكز على هذه المحاور الثلاثة: «عند النافذة ... تقف القديسة (أو كما يقول الأصل تكون
est )، وعند هذا اللوح ...» وهي تقوم على تحديد ظرفي المكان والزمان (عند النافذة، قديما) وعبارة أساسية تبدأ بفعل الكينونة، وهو أبسط الأفعال وأعمها وأخفاها، ثم بجملة إضافية متأخرة (عند هذا اللوح ...) غير أن هذه البنية الرئيسية لا تبدو واضحة لأول نظرة؛ إذ يخفيها المقطع الأول الذي يؤخر بداية الجملة الأساسية، والاستدراكات الكثيرة التي ترد على شكل جمل إضافية أو إن شئت اعتراضية في المقطوعة الثانية، وأخيرا الجمل الإضافية في المقطوعتين الثالثة والرابعة. والمتأمل للجملة الإضافية الأخيرة (عند هذا اللوح ...) يلاحظ أنها معلقة في الهواء وكأنما تساعد الجمل الإضافية أو الاعتراضية التي تأتي بعدها - ولا تكتمل منها جملة مستقلة أبدا - على الإيحاء بأن القصيدة كلها تهيم في فراغ أو تظل مفتوحة وبغير خاتمة محددة. هذه الجمل البسيطة التي تدور حول نفسها تفسح المجال كذلك للأسلوب الهامس الخافت في الحديث، كما تقف بنا على حدود الصمت (الذي يذكره البيت الأخير صراحة).
وقد عالج الشاعر القصيدة نفسها بصياغة سابقة على هذه الصياغة الأخيرة بما يقرب من عشرين سنة. وكان عنوان الصياغة الأولى هو «القديسة سيسليا وهي تعزف على جناح ملاك من نور».
وقد بقيت من هذا العنوان كلمة «قديسة» وحدها، أي أنه اقتصر على أكثر الكلمات تعميما وبعدا عن التحديد. وكأن نزعة الشاعر للخلاص من الواقع أو البعد عنه قد أدركت العنوان وجردته من كل تحديد مباشر.
والقصيدة تسمي بعض الأشياء بأسمائها؛ فهنالك نافذة، وآلة موسيقية قديمة مصنوعة من خشب الصندل، ولوح زجاجي يغطي وعاء قربان مقدس، وقيثارة، وكتاب به تسابيح العذراء البتول. ولكن العلاقة بين هذه الأشياء كلها تظل علاقة غامضة محفوفة بالأسرار، بحيث لا تبدو حاضرة بالمعنى الموضوعي لهذه الكلمة. وهذه الأشياء تتداخل في بعضها البعض وترتفع الفروق الواقعية التي تميز بينها. فاللوح الزجاجي الذي يغطي الوعاء المقدس يبدو كأنه إضافة شارحة للنافذة، إذ يذكر الشاعر في بداية المقطوعة الثالثة بقوله «عند هذا اللوح»، فهل هذا اللوح هو النافذة؟ إن طبيعة الأمور لا تكاد تسمح بهذا التصور، والقيثارة التي ترد في المقطوعة الثالثة قد صيغت «من رفيف ملاك في المساء ». فهل هي استعارة عن جناح الملاك؟ ولكن الأبيات التالية توحي بأنها قيثارة أو جناح من الريش تعزف عليه اليد الرقيقة كما تعزف على آلة موسيقية. هي إذن جناح وقيثارة في وقت واحد، وليس في الأمر استعارة بل وحدة ذاتية. تلك عملية فنية عرفناها ورأينا أمثلة كثيرة منها في شعر رامبو.
الفروق الواقعية المميزة للأشياء قد ألغيت إذن في هذه القصيدة، والأشياء قد خف وزنها وراحت تتداخل في بعضها كأنما ترف في أثير أو فراغ، تصبح فيه الأجسام رموزا ولغة الحديث همسا. إن النافذة «تتكتم» الكمان الكبير، أي أن وجوده ليس وجودا في الواقع بل في اللغة وحدها. والناي (أو بالأحرى الفلوت) والماندورا (وهي آلة موسيقية أشبه بالعود) لا وجود لهما إلا في الذاكرة من ماض قديم. بل إن كتاب التسبيحات القديم لا ينتمي كذلك للحاضر؛ إذ إن أنغامه كانت «تتقطر فيما مضى.» ومع بداية المقطوعة الثالثة يشتد غياب الأشياء أو أبعادها عن الحاضر والواقع.
والشاعر يمهد لهذا بالحديث عن القيثارة التي هي في نفس الوقت جناح ملاك، أي عن هذه الوحدة الذاتية غير الواقعية التي تكلمنا عنها فيما تقدم. ثم تغيب الأشياء بعد ذلك تماما، فالقديسة تعزف بدون خشب الصندل العجوز، وبدون الكتاب القديم. فهل تعزف القديسة حقا؟ الأولى أن نقول إنها تعزف في الصمت، أليست هي موسيقية الصمت؟
وإذن فالأشياء الواقعية الحاضرة قليلة العدد، وهي إن وجدت فوجودها غير واضح ولا محدد، يتداخل في أشياء مختلفة عنه ويتحد معها وحدة «غير واقعية»، إلى أن يتسلط عليها العدم في نهاية الأمر وتختفي في ظلال الغياب والصمت. ما من حدث «موضوعي» أو فعل من أفعال القديسة يوحي بهذا الإحساس. اللغة وحدها هي التي تفعل هذا؛ فهي التي تتكفل بإلغاء وجود الأشياء في الواقع، لتحيله بعد ذلك إلى وجود في اللغة. هذه الأشياء الغائبة عن الواقع حاضرة في اللغة وحدها، وحضورها حضور روحي، تزداد قوته وأثره كلما قل نصيب الأشياء من الحضور الموضوعي والتجريبي.
القصيدة إذن في مجموعها حدث في اللغة لا في الواقع، وهذا الحدث يتم في مرحلة زمنية تساعد من جانبها على إبعاد الأشياء عن الحاضر. ويكفي أن ننظر في الأبيات الأولى منها لنتأكد من هذا. فخشب الصندل العجوز يفقد ذهبه فيشيع ضوءا باهتا يوحي بالمساء. وصلاة المساء والنوم تؤكدان الشعور بهذا، ولكنه ليس مساء محددا في الزمن، يمكن أن نقول إن القديسة حاضرة فيه، وإنما هو شيء أقرب ما يكون إلى مقولة الزمن المتأخر، إن جاز هذا التعبير، أي أنسب المقولات الزمنية للتعبير عن التلاشي والغياب والغوص في قرار العدم. ويتأكد هذا الانطباع في المقطوعة الثالثة التي تتحدث في وضوح عن «رفيف المساء»، وهو شيء يفلت بدوره من كل تحديد زمني تجريبي. فإذا أضفنا لهذا أن القصيدة تذكر كلمة قديم أو عجوز أربع مرات، كما تضع الكمان والناي وكتاب التسابيح «فيما مضى»، قوي لدينا الشعور بتأخر الزمن أو بالزمن المتأخر على إطلاقه. إن «شيئية» الشيء تحطمت، والملامح الزمنية التي تتلبس به تلاشت. وفي توافق لا واقعي مع الغياب والعدم نجد ملامح الزمن - التي صارت مطلقة - تكون ماهية «القدم» و«التأخر» (انظر ما تقدم عن المساء)، وهي ماهية لا تبلغ حقيقتها إلا في مجال مجرد من الأشياء.
إن المكان الكبير «تتكتمه» النافذة أو تخفيه. والناي والعود لا وجود لهما إلا بالقدر الذي توحي به اللغة، فما الذي يدعو إلى وجودهما، ولو كان هذا الوجود في اللغة وحدها؟ إنهما آلتان موسيقيتان مثلهما في هذا مثل القيثارة الواقعية. وهذه الأشياء الخفية أو الغائبة أو اللاواقعية تحمل ماهية وتعبر عن حقيقة، هي ماهية الموسيقي وحقيقتها. ولكن ما هي طبيعة هذه الموسيقى؟ إن القديسة لا تعزف شيئا. والموسيقى صامتة؛ ولهذا فهي حقيقة أو ماهية تمثل مع حقيقة الزمن المتأخر وبعد الأشياء أو غيابها عن الواقع وجودا روحيا أو عقليا في اللغة، وفي اللغة وحدها.
وعلى الرغم من غياب الأشياء في هذه القصيدة التي تعد من أجمل وأنقى أشعار مالارميه، فإنها تثير فينا مدركات بصرية بل وقد تثير فينا أيضا مدركات سمعية، ولكنها تحول المدرك نفسه إلى شيء غريب غير مألوف، بل لعله كذلك شيء مخيف. إنها ببراءة همسها الحالم تحقق شيئا عجيبا وشاذا. فهي تحطم الأشياء أو تلغيها لترتفع بها إلى مستوى الماهيات المطلقة، وهذه الماهيات المطلقة لا يتم لها وجود إلا في اللغة، لأنها فقدت كل صلة تربطها بعالم التجربة وبفضل اللغة تتشابك هذه الماهيات في علاقات أفلتت من كل نظام واقعي.
كل هذه أمور يحتاج الإلمام بها إلى صبر وعناء طويل، ولعلها تحتاج أيضا إلى «نظارات المخ» التي تهكم بها موريس باريه (1862-1923م) في نقده لأشعار مالارميه؛ ذلك لأن هذا الشعر لم تعد له صلة بشعر التجربة أو الشعور والعاطفة، صحيح أنه شعر غريب وغير مألوف، ولكنه بأنغامه الهادئة الهامسة ينطق عن وجدان وحيد متخفف من كثافة الأشياء. هناك تتأمل الروح ذاتها وقد تحررت من ظلال الواقع، وتلعب بتوتراتها وصراعاتها المجردة فتجد في هذا اللعب، نوعا من متعة السيطرة التي يعرفها الرياضيون وهم يبنون رموزهم ويؤلفون معادلاتهم وحساباتهم.
ترجع الصياغة الأولى لهذه القصيدة كما قدمت إلى شهر ديسمبر سنة 1865م، تدل على هذا رسالة كتبها مالارميه إلى صديقه هنري كازاليس في مساء الثلاثاء الخامس من ديسمبر يقول فيها: «أبعث إليك بقصيدة صغيرة منغمة كانت مدام برونيه قد طلبتها مني.» وكانت مدام برونيه هذه صديقة حميمة لعائلة مالارميه، كما كانت تسمي نفسها على اسم القديسة سيسليا (وهي عذراء رومانية استشهدت حوالي سنة 232م وتعتبر راعية الموسيقيين) وقد وعدها مالارميه بالقصيدة لتقرأها في عيد ميلاد هذه القديسة (22 نوفمبر) فتأخر قليلا في الوفاء بوعده.
والمخطوطة الأولى للقصيدة تختلف قليلا عن الصياغة التي بين يدينا والتي يجد القارئ ترجمتها قبل هذا الكلام. فهي تحمل عنوانا واضحا حذفه الشاعر فيما بعد واستبدله بعنوان أعم. يقول العنوان: «القديسة سيسليا وهي تعزف على جناح ملاك نوراني» أغنية وصورة قديمتان. ويلاحظ على هذه الصياغة أنها تختلف قليلا عن صورتها الراهنة، وبخاصة في المقطوعة الثالثة، وأن كلمة تتكلم
Recelant
قد تكررت في قافية البيتين الأولين من المقطوعتين الأولى والثانية، وقد عدل الشاعر عن ذلك فيما بعد، وجعل قافية البيت الأول من المقطوعة الثانية كلمة ينفتح
étalant . وفيما عدا هذا فالاختلافات طفيفة لا تزيد عن تغيير حرف جر أو ظرف، وقد لاحظ الناقد شارل موران
Charles Mauron
أن القصيدة تتميز بوحدة نغم غير عادية ودقة في «السيمترية» لا تقلل في شيء من حساسيتها العامة. كما لاحظ أيضا أن الكمان الكبير والكتاب يمثلان الفن البشري كما يراه مالارميه، وإن الآلات الموسيقية القديمة كانت دائما تربط في تفكيره بالأمومة والطهر والعفاف.
وجدير بالذكر أن «موسيقية» القصيدة قد أغرت عددا من المؤلفين الموسيقيين بتلحينها، ومن هؤلاء موريس رافيل الذي لحنها في بداية حياته سنة 1896م وبيير دي بريفي وبيير فيللون
4 ... •••
ونأتي الآن إلى قصيدة مروحة (زوجة مالارميه) وهي سوناتة ترجع كتابتها إلى سنة 1887م. ولنحاول ترجمة هذه القصيدة، على ما في ترجمة الشاعر عامة وشعر مالارميه خاصة من مجازفة ومخاطرة. وقد أضفت التنقيط الذي تخلو منه القصيدة تماما (فيما عدا القوسين المفتوحين في المقطوعة الثالثة) عملا على تقريبها بعض الشيء:
بلغة كأنها ليست سوى
خفقة نحو السماوات،
ينتزع بيت المستقبل
5
نفسه من المسكن النفيس.
جناح، شديد الهدوء، رسول
هذه المروحة، إن كانت هي نفسها،
التي من خلالها
أضاءت خلفك مرآة ما.
بضوء ناصع (حيث سيسقط بعد،
مطاردا في كل حبة
قليل من الرماد غير المنظور،
الذي يسبب وحده الحزن لي)،
ليظهر إذن على الدوام
بين يديك النشيطتين
6
قد نقول بعد الفراغ من قراءة القصيدة. موضوع تقليدي في شكل تقليدي. فشكل السوناتة الإنجليزي شكل تقليدي، وإن كان يندر استعماله في فرنسا.
7
وموضوعها الذي يدور عن مروحة امرأة موضوع تقليدي أيضا، كثيرا ما تناوله شعر الحب في القرون السابقة. ومع ذلك فإن القارئ يخرج من قراءته للقصيدة بشيء غير تقليدي، شيء أقرب إلى العجز عن الفهم. سيسأل نفسه: ما الذي يقوله الشاعر في هذا الشكل؟ لماذا وقع اختياره على شيء تافه كالمروحة؟ كيف تداخل موضوع المروحة مع موضوع مثالي آخر؟ وسيلفت نظره كذلك بناء القصيدة من ناحية اللغة؛ فهي خالية تماما من التنقيط، اللهم إلا من قوسين يجدهما في المقطوعة الثالثة، ولكن هذين القوسين الوحيدين لا يساعدانه كثيرا على الفهم، ولا يقطعان ذلك الهمس الحالم الذي يشيع في القصيدة بأسرها. وسيلاحظ أيضا أن السطرين الأولين من المقطوعتين الأولى والثانية متشابكان ومضغوطان بشدة، وأن المقطوعة الثانية تزدحم بالفواصل أو بالأحرى تتألف منها وحدها، وأن صيغة الحال «شديد الهدوء» استخدمت كفاصلة استخداما جسورا. وهذا البيت «جناح بهدوء شديد، رسول» يمثل أسلوب مالارميه المتأخر، وهو أسلوب يجعل الكلمات تشع معانيها المختلفة من ذاتها لا من العلاقة النحوية التي تقوم بينها. وسيجد القارئ، عناء كبيرا في التعرف على بناء الجملة، ويزداد هذا العناء ابتداء من المقطوعة الثانية. فالملاحظ أن «هذه المروحة» في المقطوعة الثانية تنتمي إلى البيت قبل الأخير «ليظهر على الدوام» وبين هذين المجموعتين من الكلمات يمتد قوس طويل من الجمل الاعتراضية، بحيث يبدو في مجموعه أشبه بجملة دائرية، توحي في امتدادها وتشابكها بمعان مختلفة شأنها في ذلك شأن المضمون.
المروحة ترد في عنوان القصيدة، ولكن النص يتجنب هذا الشيء المباشر على الفور، ويقتصر على معنى من المعاني الكثيرة التي يوحي بها. فنقرأ في البيت الثاني كلمة «خفقة»، ولكن الكلمة تأتي ناقصة ومعزولة عن كلمة أخرى تتممها وهي «خفقة الجناحين»، وبذلك يرتفع الشاعر إلى معنى أعم يتجاوز «المروحة» بمسافة شاسعة. بل إن هذا المعنى لم يعد يتصل بالمروحة وإنما أصبح استعارة ترمز للشعر نفسه، أو بالأحرى للشعر المثالي أو لشعر المستقبل «بيت المستقبل ينتزع نفسه ... إلخ.» وإذن فالقصيدة لا تحاول أن تصف شيئا حاضرا أو تصوره تصويرا دقيقا، وإنما تبذل كل جهدها من البداية في التحرك بعيدا عن هذا الشيء، أي في تجريده من شيئيته.
ربما استطعنا على وجه التقريب أن نتحدث عن موضوع المقطوعة الأولى في العبارات التالية: ليس لشعر المستقبل (أو أدبه بوجه عام) لغة بالمعنى التقليدي المألوف، بل شيء «أشبه» باللغة، شيء أقرب إلى العدم، إلى خفق جناح يرتفع نحو السماء، نحو الأعلى، نحو المثال. هذا الشعر يتحاشى كل مألوف (ينتزع نفسه من المسكن النفيس) ويتجنب كل ما تسكن النفوس إليه.
فكأن مالارميه يقول بأسلوبه الهادي الهامس المنغم ما قاله من قبل رامبو بأسلوبه الثائر العاصف الصخاب: «عاصفة تفتح ثغرات الجدران، تقتلع معالم المساكن.»
ويعود النص من المقطوعة الثانية فيلمس موضوع المروحة. ونتوهم للحظات معدودة أن الشاعر بدأ يصور شيئا من الأشياء في خطوط وملامح غاية في الدقة والرهافة، ولكننا لا نلبث أن نستبعد هذا الوهم.
إن النص يذكر المروحة حقا (هذه المروحة ... السطر الثاني من المقطوعة الثانية) ولكنه يقول على الفور: إن كانت هي نفسها، كأنما يخشى أن يقع في التحديد فيسرع إلى التعميم أو الفرض أو الاحتمال! ويتكرر نفس الشيء مع المرآة. فهي قد أضاءت من خلال المروحة، أي أنها لم تعد حاضرة بالمعنى الواقعي، ثم إن الشاعر يصفها بأنها «مرآة ما» وهو أمر يلجأ إليه الشاعر في أغلب الأحيان ليضفي على الموصوف ثوب التعميم وعدم التحديد. ويحدث لهذه المرآة شيء آخر يبعد بها مرة أخرى عن الحضور ... فسوف يسقط على المرآة رماد غير منظور، فإذا سألنا عن طبيعة هذا الرماد وجدنا القصيدة صامتة. أيكون هو الشعر الذي شاب في رأس المرأة التي يخاطبها الشاعر؟ لا ندري. ولا بد أن يظل باب الإجابة مفتوحا على فروض عديدة. المهم أن الرماد موجود في اللغة وحدها لا في الواقع، إنه رماد غير منظور، لم يسقط بعد، بل سيسقط يوما ما، ساعة ما ، وهو إلى جانب هذا كله «مطارد في كل حبة». والمهم في هذه القصيدة وفي سواها من شعر مالارميه ألا نلتفت للمعنى الظاهر للكلمات، بل إلى المقولات التي تتناول بها اللغة الأشياء، وليس من الصعب أن نتبين المقولات التي أمامنا الآن. إنها الماضي، والمستقبل والغياب، والفرض، وعدم التحدد، وهي لا تنطبق على النص وحده وإنما تسيطر كذلك على الخاتمة. فالمروحة ينبغي أن تظل على الدوام خفقة نحو الأعالي، شيئا فرضيا محتملا، يتصل صلة غامضة بالمرآة الماضية، والضوء الماضي، والرماد الذي ينتظر أن يسقط في المستقبل.
قد نسأل أنفسنا: لمن كتبت هذه القصيدة؟ وقد يبدو لنا من النص أن الشاعر يتوجه بها إلى امرأة يخاطبها «بأنت» (ضمير المخاطب في البيت الرابع من المقطوعة الثانية، والبيت الثاني من المقطوعة الأخيرة). ولكننا سنتبين بعد قليل أن هذا الضمير لا قيمة له، شأنه في هذا شأن البقايا البشرية الأخرى كالرماد والحزن.
فالقصيدة تخلو من العواطف الرقيقة وما أشبه، وحتى الحزن الذي تذكره ذكرا عابرا يكاد يكون مجردا من الشعور. إن الأشياء والمشاعر لا وجود لهما إلا في اللغة؛ ولذلك يغلب على القصيدة نوع من البرود الهادئ الذي يستبعد كل ما يتصل بالبشر أو بالأشياء. فالأشياء والمشاعر البشرية «غائبة». وإذا كان لها ثمة حضور فهو حضور لغوي فحسب. لقد أخرجت من مسكنها المألوف؛ ولذلك تحقق القصيدة هذه الرغبة التي عبرت عنها في المقطوعة الأولى: «بيت المستقبل ينتزع نفسه من المسكن النفيس.»
إن قصيدة «مروحة»، مثلها مثل معظم قصائد مالارميه، هي في حقيقتها قصيدة عن «الشعر»، هي قصيدة تتغلغل فيها الفكرة الأنطولوجية الأساسية التي يقوم عليها كل تفكير مالارميه وعالمه الشعري والشعوري.
تظل الأشياء غير مطلقة وغير نقية بقدر ما يكون لها من وجود واقعي فإذا ما انعدمت أو تحطمت صار لها وجود حقيقي ونقي في اللغة. ولو حاولنا أن نقارن هذه اللغة باللغة العادية لكانت أقرب ما تكون إلى لغة فرضية (أو لغة كما لو أن ... على حد التعبير الأجنبي). أي لغة تعلو بالأشياء وتقي نفسها من كل مدلول محدد. إنها أشبه بخفقة الجناح، وينبغي أن تظل كذلك. إنها مجال يشع بمعان متعددة، وكل ما في هذا المجال يتحرك حركة لا تقبل التحديد.
كان من حق الشعر دائما أن يترك للكلمة حق الإيحاء بمعان مختلفة وظلال ودلالات عديدة، ولقد استغل مالارميه هذا الحق إلى أقصى حد ممكن فمن أصعب الأمور أن نجد في قصائده مضمونا محددا، والسبب في هذا أنه جعل الإمكانيات والطاقات غير المتناهية للغة هي المضمون الحقيقي لشعره، وبهذا وصل إلى نوع من الغموض أو السر الذي لا يكتفي بتحرير العقل والخيال من الواقع الضيق، كما كان الحال عند بودلير ورامبو، بل يتيح كذلك للحقيقة المتعالية الفارغة (التي تحدثنا عنها من قبل والتي يفسرها الآن تفسيرا أنطولوجيا) أن تظهر في اللغة نفسها عن طريق الإغراب الشامل لكل ما هو مألوف وتجريد الأشياء من شيئيتها.
وأخيرا نصل إلى القصيدة الثالثة التي نحاول تفسيرها، وهي سوناتة بغير عنوان تعود إلى سنة 1887م (ص74 من طبعة البلياد). وقد وضعت القوسين في البيت الأول من المقطوعة الأخيرة لتيسير القراءة، كما وضعت ثلاث كلمات بين قوسين زيادة منى لمحاولة التوضيح، أما الفواصل وعلامتا التعجب فهما من عند المؤلف:
بارزة من الاستدارة ومن وثبة (قطعة) من الزجاج سريعة الزوال،
بغير أن تزين اليقظة المرة بالزهور
تتوقف الرقبة المجهولة (فجأة).
أعتقد أن فمين لم يشربا أبدا،
لا حبيبها ولا أمي،
من نفس الوهم (الخداع)،
آنا، سلف
8
هذا السقف البارد!
الزهرية النقية بغير شراب
سوى الترمل الذي لا ينفد،
تحتضر ولكنها تأبى، (يا قبلة بريئة من أقتل القبلات!)
أن تزفر بشيء يبشر
بوردة وسط الظلمات.
والنظرة الأولى للقصيدة تصور لنا زهرية دقيقة (فازة) موضوعة فوق منضدة، كانت فيما مضى مزدانة بالزهور. يرى الشاعر هذه الزهرية فيؤخذ بشكلها المدور الرقيق الذي يبدو وكأنه يثب من مكانه، ثم يلاحظ أن رقبتها ترتفع لكي تتوقف فجأة. ويخطر للشاعر خاطر حزين يجعله يفتقد الزهور التي كان من الممكن أن تعزي سهاده المرير. ولكن ألا يمكن أن يجد الشاعر في نفسه هذه الزهرة التي تحمل له العزاء؟ ألا يمكنه أن يتخيلها أو يستوحي صورتها؟ هنا يغلب عليه الانفعال. فالوراثة نفسها تمنعه من هذا. والقصور والعجز يرزحان منذ الطفولة فوق كاهله ولا بد أن أبويه لم يمنحاه قوة التصور والاستيحاء، ولا بد أنهما لم يكلفا نفسيهما بالشرب من نبع الوهم الخصب؛ لهذا جف النبع الذي لم يرده أحد. يا للحسرة! ها هي ذي الزهرية عاطلة من تاجها الدافئ الجميل، إنها تحتضر كالعقيم، وقد ترملت من كل شراب إلا من فراغها الأجوف الحزين. وأخيرا فهي تأبى أن تلبي دعاء الفنان وتحمل هذا التاج الذي يزينها ، تاج الورود المزدهرة.
9
أما من ناحية الشكل فالقصيدة محكمة البناء، وهي تسير على التقسيم الكلاسيكي للسوناتة، فبينما تتألف الرباعيتان الأوليان من جملتين مختلفتين، فإن الثلاثيتين الأخيرتين تندمجان في جملة واحدة، ولكن هذا الشكل السليم - الذي لا يكاد يختلف بناء العبارة فيه عن البناء العادي - ينطوي على مضمون بالغ الغموض. وتبدو اللغة وكأنها تقول شيئا بديهيا، ولكنها لا تنطق إلا بأعوص الألغاز. ويجب علينا الآن أن نستكشف هذه الألغاز، على أن نقف عند الحد الذي يتحول فيه الكشف إلى نغم مسموع ويصبح ما نعرفه منها أغنية تعود فتضيع في المجهول.
ومن العبث في مثل هذه القصيدة أن نحاول شرح الكلمات أو تفسير الصور؛ إذ لا بد من الالتفات إلى الحركة أو مجموعة الحركات التي تسري فيها. فالمقطوعة الأولى
10
تبدأ بحركة البروز أو الظهور أو الانبثاق
surgir
التي تنقطع فجأة. من أين هذا البروز؟ ليس من شيء مادي مجسم، بل من شكل ومن حركة. أما الشكل فهو الاستدارة
croupe
وأما الحركة فهي الوثبة أو الطفرة
bond . ولغة القصيدة تضع القيمتين (المكانية والدينامية) على مستوى واحد، فتؤلف بين عنصرين متنافرين. ولكنها لا تفيدنا بشيء عنهما، وكل ما نعرفه أنهما متصلان بقطعة زجاج أو بنية زجاجية عابرة وسريعة الزوال
une verrerie éphémère . صحيح أن هذه القطعة شيء من الأشياء ولكن الشاعر يتعمد أن يصفها وصفا عاما غير محدد، بحيث نيئس في النهاية من التثبت منها ونضطر لاعتبارها في عداد المجهولات. إن الشاعر كما قلت يتعمد وصف الأشياء وصفا عاما يتركها بغير تحديد، أي أنه «يبعدها» ويجردها من «شيئيتها» بقدر الإمكان، ولكنه يميل إلى الدقة والتحديد كلما تكلم عن الحركة أو مجموعة الحركات التي تنعكس أيضا على الشيء نفسه وتحول خطوطه الساكنة إلى وثبة. وبعد أن يتم له تجريد هذا الشيء من شيئيته، نجده في المقطوعة الثالثة يسميه «زهرية وفازة نقية»، ها هي ذي الزهرية تبرز من خلف نقاب الحركة. ولكنها تبرز للحظات. فنحن لا نستطيع أن نكون لأنفسنا صورة عيانية عن هذه الزهرية. أضف إلى هذا أن وصفها في بداية المقطوعة الثالثة بأنها نقية أو خالصة
وصف يتصل بشكلها قبل كل شيء، كما يبعد كل تصور مادي يمكن أن يختلط به ويجعل من المتعذر تكوين صورة محسوسة لها.
لغة القصيدة تقترب إذن من الشيء ولكنها لا تثبته ولا تتمسك به. إنها تبدو كأنما تعبث به أو تلعب معه. والحق أن هذا ليس أمرا غريبا على مالارميه الذي كان يحلو له الحديث عن ألاعيب الفن وحيله. وهو يقصد بهذا فيما يقصد أن هناك أبياتا من الشعر تنشأ عن تركيبات غامضة أشبه ما تكون بالألعاب اللغوية. فإذا استطاع القارئ، أن يكتشف الحيلة الكامنة لم يضر ذلك بالبيت، لأن هذا الشعر في صميمه لعب كبير بطاقات اللغة وإمكانياتها. ونضرب مثالا ببيت يرد في قصيدته عن قبر إدجار آلان بو (ص70 من الطبعة الكاملة): «صخرة هادئة، انحدرت من كوكب شؤم مظلم».
11
والبيت يتحدث عن بو وقبره كما يتحدث عن الشعر في وقت واحد. وقد كان الأقرب إلى الشاعر أن يقول: «كوكب مظلم» خاصة وأنه في بعض كتاباته النثرية يصف الشاعر الأمريكي بهذا الوصف. ولكن البيت يتجنب كلمة
astre (كوكب) عن عمد ويضع كلمة أخرى عكسها
désastre
قد تدل على الكارثة كما تدل على كوكب الشؤم فيصل بهذا إلى تعبير غنى عن الشعر بوجه عام. فالكلمة الأولى قد أوحت بالثانية. ولولا أن الشاعر يتأمل في عملية الخلق، ولا يخلق فحسب، ولولا أنه يفحص ألفاظه كما يفحص الصائغ جواهره في كفه، لما كانت مثل هذه الألعاب. إنه يلعب لعبته السحرية باللغة، وما أشبهه «بالحاوي» الذي يتلو تعاويذه فتتحرك الألفاظ كما يشاء!
والحق أن هذه «الألاعيب والحيل» تنطوي على معنى عميق طالما حاول مالارميه أن يخفيه بابتسامته الساخرة. فهي تتفق تمام الاتفاق مع نهجه الشعري بأكمله، وتتلاءم مع طريقته في التجربة مع كل غريب، (كأنما يريد أن يوقظ الأرواح النائمة في اللغة!). ولم يكن من الممكن أن يقيم الشاعر تجاربه على الطاقات الكامنة في اللغة لو لم ينزع بأسلوبه إلى البعد عن تحديد الأشياء تحديدا ماديا وموضوعيا، بل إلى البعد عن التصور العادي لشيئية الأشياء. ومن طريف ما يذكر في هذا الباب أن الرسام الشهير «ديجا» - وكان يقول الشعر أيضا! - شكا مرة أمام مالارميه من أن الأفكار تتزاحم عليه وتفسد قصائده؛ فما كان من الشاعر أو «المعلم» - كما كان يسميه أصدقاؤه ومريدوه - إلا أن قال: «الأشعار لا تصنع بالأفكار ولكن بالألفاظ.» ويضيف بول فاليري الذي يروي هذه النادرة في كتابه عن ديجا: «هنا يكمن السر كله.»
كان مالارميه - مثله في هذا مثل أغلب الشعراء المعاصرين - على اقتناع تام بأن الكلمات تنطوي على طاقات وإمكانات تستطيع أن تحقق ما تعجز عنه الأفكار. ولا شك أن هذا الإيمان بسحر الكلمة وقدرتها على التأثير والإيحاء شيء قديم في حياة الإنسان قدم السحر والعرافة والكهانة، ولا شك أن مالارميه وتابعيه يبعثون ما يمكن أن نسميه «بعقيدة اللفظ» التي ظلت حية في فلسفة العصور الوسطى وأدبها، والفرق الوحيد بين القدماء والمحدثين هو أن هؤلاء لا يريدون بإطلاق المعنى من اللفظ واستخراجه من قيمه الصوتية أن يؤكدوا حقيقة دينية أو يثبتوا نظاما موجودا (فالمعروف أن عقيدة الخلق المسيحية كانت تنعكس في معاني الألفاظ). إن أقصى ما يريده المحدثون هو المغامرة في آفاق المجهول.
ولكن لنرجع إلى قصيدتنا، سنسأل أنفسنا بعد قراءة المقطوعة الأولى: ما الذي يبرز وما الذي ينقطع؟ البيت الرابع يقول إنها «الرقبة المجهولة». لعلها هي رقبة الزهرية ؟ ولكنها قد تكون كذلك شيئا آخر. قد تكون شيئا لا يتصف بهذا التحديد. ماذا يكون إذن؟ هنا نجد أنفسنا مرة أخرى وجها لوجه مع الحيل والألاعيب اللغوية! وقبل أن نجيب على سؤالنا نتذكر عبارة قالها مالارميه في خطاب مبكر له تعليقا على إحدى قصائده: «المعنى - إن كان للقصيدة معنى على الإطلاق - تهيب به الانعكاسات الداخلية للكلمات نفسها.» أي أن الكلمة تمد معناها على سواها من الكلمات التي تجمعها بها صلة موضوعية. ومثل هذه الكلمة في قصيدتنا هي «تزهر» أو «تزين بالأزهار»
fleurir . فهي توحي بمعنى الزهرة بجانب معاني أخرى وتعكسها على الرقبة، التي تصبح رقبة زهرة أو بالتعبير المألوف عود زهرة، ربما يكون هذا التفسير صحيحا خصوصا إذا عرفنا أن كلمة «زهرة» ترد في البيت الأخير من القصيدة، ولكنه سيظل مجرد احتمال، لأن الشاعر لا يريد أن يثبت للأشياء معنى محددا.
ولكن الشاعر يريد فيما يبدو أن يثبت أمرا آخر. ويكفي أن نتأمل كلمات مثل «سريع الزوال، مرة، بغير مجهولة، تتوقف أو تنقطع ...» إنها جميعا تدل على صفات سلبية. وأقوى هذه الصفات السلبية هو أن الرقبة مجهولة. وإذن فعود الزهرة - إن كان هو حقا ما يقصده الشاعر - لا وجود له. وتنتشر هذه الصفات السالبة في القصيدة كلها بمثل ما لاحظناها في القصيدتين السابقتين «قديسة» و«مروحة»، وكأن الشاعر يصر عليها إصرارا. والقصيدة تتحدث بلسان كائن خرافي (هو السلف
Sylph
الذي يرد ذكره في كتابات المتصوف العالم بارا سيلزوس). ونعرف عنه أن أبويه لم يجربا الحب (لاحظ أن القصيدة تعكس الترتيب الطبيعي فتقول لا حبيبها ولا أمي). ومعنى هذا إذا كنا قد فهمنا مالارميه هو أن هذا الكائن الخرافي لا وجود له أيضا. إن الزهرية تحتوي على فراغ أجوف. إنها قريبة من الموت، ترفض أن تسمح بإطلاق زفرة أو تنهيدة يمكن أن تحمل معها البشارة بميلاد «زهرة وسط الظلمات». وليس من الصعب أن نتبين الآن أن الزهرة عند الشاعر رمز للكلمة الشاعرة (وقد كان هذا هو معناها في كتب الخطابة القديمة؛ إذ يستخدمها شيشرون بهذا المعنى «زهرة الحديث» في كتابه عن الخطابة، 3، 96) ومن ثم يصبح معنى الخاتمة التي تنتهي بها القصيدة أن الزهرية الفارغة التي تغشاها الخيبة والفشل من كل ناحية تأبى السماح بكلمة الخلاص التي لا تستطيع بدورها أن تقوم بدورها إلا إذا قيلت في الظلام.
القصيدة تزخر إذن بالسلبيات. تنعكس هذه السلبيات في البداية على الأشياء: فالزهرة لا وجود لها، والكائن الأسطوري (السلف) غير موجود، والزهرية خالية إلا من الفراغ، ولكن الشاعر يريد ما هو أبعد من هذا. إنه يريد أن يعبر عن مقولة السلب كماهية وحقيقة في ذاتها تنتشر على الأشياء وتتجاوزها. ولا بد أن «الكلمة» تحتمل مثل هذه الماهية المجردة غاية التجريد، وإلا لما أمكن أن تنشأ مثل هذه القصيدة. فهي تقول كلمات ولا يمكن أن تقول غير الكلمات. ولكنها تحولها بحيث تصبح علامات على تلك الماهية أو المقولة المجردة. ومعنى هذا أيضا أن السلب أصبح حاضرا في الكلمة لأنها استطاعت أن تقول شيئا لا حضور له في المادة والواقع. ولكن هذا الهدف لا يتحقق بصورة كاملة. فالكلمة لم تستطع أن تتوصل «لزهرة الخلاص»، أي لم تحقق العدم أو بمعنى آخر لم تحقق المثالية الخالصة عن طريق اللغة. هذا الفشل في التحقق اللغوي المطلق (للعدم أو للمثالية الخالصة) هو الذي صار كلمة، أي صار هذه القصيدة، وكأن خيبة الطموح الأنطولوجي قد نجحت في أن تصبح قصيدة.
ربما خطر لنا من هذا كله أن شعر مالارميه غامض. والواقع أن العناء الذي نبذله في فهمه أو تفسيره لا يمنع من القول بأنه في صميمه شعر واضح، يبلغ أقصى درجات الوضوح والصفاء. إن لغته أشبه ما تكون بالسر المن غم، الذي يحاول أن يحمي الفكرة الأنطولوجية شر الذبول.
ولكن هذا كلام يجيء قبل أوانه، فلنؤجله إلى الفصول القادمة التي ستتناوله بالتفصيل. (2) تطور الأسلوب
يعتبر مالارميه أحد الفنانين القلائل الذين لم يتعجلوا، بل تركوا لأنفسهم الوقت الكافي على حد قول التعبير الدارج. ونظرة واحدة إلى تاريخ حياته كما كتبه في رسالة قصيرة جميلة إلى صديقه الشاعر فيرلين (الطبعة الكاملة، ص661-665) ترينا كم صبر واحتمل وقاوم، وكم عكف السنوات الطوال على صياغة قصيدة واحدة من قصائده القصيرة، عكوف الزاهد على صلاته أو النحات على تمثاله أو الصائغ على جوهرته النفيسة. نشأ في أسرة كان جل أفرادها من كبار موظفي الإدارة والسجلات، ولكنه رفض هذا المصير الذي حدد له منذ الطفولة، وصمم على أن يستخدم قلمه في شيء آخر غير الملفات والسجلات. وصبر، كما يقول، صبر الكيماوي القديم الذي يضحي بالغرور والطمأنينة، ويحرق أثاثه وأعمدة سقفه لكي يغذي نار الفرن الذي تختمر فيه تجربته الكبيرة. كان ينشر هنا وهناك مقطوعات نثرية وقصائد متفرقة وترجمات عن الإنجليزية ودراسات مختلفة (مثل كتابه عن الكلمات الإنجليزية أو كتابه عن الآلهة القديمة). ولكنه ظل طوال حياته يحلم بعمل كبير، بكتاب واحد يصمم بناءه ويفكر فيه على مدى العمر ويكون على حد قوله هو التفسير «الأورفي» للأرض، فيحقق به الواجب الوحيد المطلوب من الشاعر «واللعبة الأدبية الحقيقية». ولقد عانى الكثير من وظيفة كريهة إلى نفسه (فقد كان معلما للغة الإنجليزية بإحدى المدارس الثانوية) وقاسى من الفقر الشديد في فترات كثيرة من حياته، والأرق الذي تسلط عليه سنوات طويلة، ولكنه ظل مخلصا لمهمته الكبرى، يأخذ نفسه في سبيلها بنظام فكري شاق أشبه ما يكون بصرامة المصلحين، أو مجاهدات المتصوفين. كان يقضي في تأليف القصيدة الواحدة في بعض الأحيان عشرين أو ثلاثين سنة، ولم يكن يضيق بذلك لأن الهدف الأكبر كان يرتسم دائما أمامه. ومع أنه كان يعلم أن ذلك الكتاب الفريد يحتاج إلى أكثر من حياة، فقد ظل مقتنعا منذ البداية بأنه يمسك خيوطه الأساسية في يديه. لذلك لم يكف أبدا عن المحاولة، لقد أراد لهذا الكتاب أن يكون مثل «زهور الشر» في تصميمه وتنسيقه ومعماريته، وشاء القدر ألا يتم هذا المشروع الهائل. ولكن ما بقي من قصائده المتفرقة يدل على أجزاء متقنة الصنع من بناء محكم يقوم على أساس متين. ولا يصدق هذا الكلام على قصائده المتناثرة - كالدرر واللآلئ التي لم يتسن لها أن توضع في تاج رائع - بل يصدق كذلك على مقطوعاته النثرية وترجماته عن الإنجليزية، ومن أهمها ترجمة أشعار إدجار بو والأقاصيص الهندية التي أعاد كتابتها، وكلها تنبع من نفس المنبع الخصب الذي خرجت منه أعماله الشعرية الباقية، كما تعد من الروائع التي لم تحظ بعد بنصيبها الكافي من التقدير.
وإذا كان مالارميه يتميز في كتاباته المتنوعة بالتدفق والغنى والخصوبة فقد كان يميل في أشعاره إلى التركيز الشديد والحرص البالغ، ونستطيع أن نتأكد من هذا إذا تتبعنا قصائده في صيغها المختلفة على مدى السنين. كان يطيل النظر في القصيدة فيحذف منها كل صوت مرتفع وينقيها من كل نغمة خطابية. إن «الكليشيهات» والتعبيرات التقليدية تتخلى عن مكانها لكلمات وتعبيرات نادرة والجمل الطويلة تتحول إلى جمل ذرية - إن صح هذا التعبير - بحيث توشك كل كلمة أن تستقل بنفسها وتشع بإشعاع ذاتي من داخلها.
والشيء، الذي كان يذكر في الصياغة الأولى في بداية القصيدة يؤجل إلى موضع تال لكي يحرر هذه البداية أو يتيح لها الانطلاق بعيدا عن ذلك الشيء. وإذا فتشنا عن الشيء الذي ظهر في صورته البسيطة المألوفة الكاملة في الصياغة الأولى وجدناه في الصياغة الأخيرة ممزقا إلى تفاصيل وأجزاء منعزلة متعددة المعاني. إن الموضوعات التي يطرقها الشاعر تقل في العدد وعالم الأشياء يتخفف من ثقله ويزداد شفافية، والمضمون يميل باستمرار إلى الغموض والشذوذ. وبينما كانت الأبيات في صيغتها الأولى تحكي حكاية أو تصف شيئا أو تنقل إحساسا، أو توجه الأنظار إلى مضمون محدد، إذا بها في الصياغة الأخيرة لا تهتم إلا بنفسها، ولا تلفت الانتباه إلا إلى وجودها اللغوي.
وإذا بحثنا عن شبيه لهذه التعويلات والتنقيحات المستمرة وجدناه لدى بعض الرسامين المشهورين. فالمعروف عن الفنان الإسباني جريكو أنه رسم لوحة «الطرد من المعبد» ثلاث مرات. وبينما كان الرسمان الأولان قريبين من الطبيعة، وجدناه في الرسم الثالث يخضع لأسلوب يميل في تصوير الأشكال والأشياء إلى الاستطالة والشحوب والوعورة بحيث يبعد العين عن الموضوع ليجذبها إلى الأسلوب، والفنان الشهير بيكاسو في رسومه الثمانية (الليتوغرافات) للثيران يبدأ بتصوير الطبيعة لينتقل إلى الأسلوب التشريحي والتكعيبي وينتهي بأشكال تمثل خطوطا بحتة مجردة عن الأجسام والرسام هنا مثله مثل الشاعر؛ كلاهما يبتعد عن الشيء ليتجه للأسلوب. (3) طرح النزعة البشرية
لا يعني هذا العنوان القصير أن الشاعر الحديث قد تنكر للبشرية أو أصبح غير إنساني، ولكنه يعني في المقام الأول أن الشاعر الحديث قد أخذ يبتعد عن شعر التجربة والاعتراف والعاطفة، ويتجه إلى الاهتمام بالشكل والأسلوب والتجريب المستمر مع اللغة. سار الشعر الحديث خطوات واسعة باعدت بينه وبين الحياة الطبيعية والنزعات البشرية، وتمت الخطوة الحاسمة على هذا الطريق على يدي رامبو ومالارميه اللذين أدارا ظهريهما إلى الأبد لنموذج من شعر العاطفة والتجربة كان لا يزال حيا على عهدهما في أغنيات فيرلين العذبة. ونخطئ لو تصورنا أن الشاعرين قد أبدعا شيئا جديدا لم تكن له بذور عريقة.
فالواقع أن النماذج الكبرى من الشعر القديم، من أشعار التروبادور إلى ما قبل الرومانتيكية، كانت في أغلبها تهتم بالأسلوب وتجنح إلى تعميم التجربة، لم تكن تعبر عن العواطف والتجارب الخاصة إلا في حالات نادرة غير أن مؤرخي الأدب الذين أصابتهم عدوى الرومانتيكية قد أساءوا فهمه. ولو أعدنا النظر في هذا الشعر القديم وخلصناه من آفات النقد التقليدي لوجدنا فيه - عند مختلف الأمم وفي مختلف اللغات - بعض الخصائص التي نلاحظها اليوم في بناء الشعر الحديث.
مهما يكن من شيء فإن هذا الدفاع السريع عن الشعر القديم لا ينفي أنه في جملته يدور في الأفق الإنساني المألوف. أما الشعر الحديث فهو لا يستبعد الذات الخاصة فحسب، بل يحاول أن يتلافى كل الصفات والنزعات البشرية العادية. وأقرب مثل يفسر هذا الكلام نجده في قصائد مالارميه الثلاث التي انتهينا من شرحها. فما من واحدة منها يمكن أن تفسر تفسيرا «بيوجرافيا» أي من خلال شخصية الشاعر وظروف حياته. وإذا كان هناك عدد من النقاد ومؤرخي الأدب لا يزالون يحاولون هذا مع مالارميه أو غيره فتلك آفة رومانسية ينبغي كما قلت أن نتخلص منها بكل وسيلة ممكنة، فلم تخلق القصائد العظيمة أبدا لإثارة حب الاستطلاع لدى القراء أو تملق عواطفهم، أو استدرار دموعهم على الشعراء «المعذبين المساكين».
نعود إلى ما قدمناه عن قصائد مالارميه فنقول إنه ما من قصيدة واحدة منها يمكن أن نفسرها على أنها تعبير عن فرحة أو حزن من تلك الأفراح والأحزان التي نفهمها جميعا لأننا نحسها جميعا. وليس معنى هذا أن مالارميه إله أو جماد، بل معناه أن شعره ينبثق من منبع أو مركز باطني يصعب أن نجد له اسما. قد نستطيع أن نسميه النفس، ولكن بشرط ألا نفهم من ذلك مجموعة من العواطف والانفعالات المختلفة المتضاربة، بل نوعا من الوجدان الشامل الذي ينطوي على طاقات عاقلة وأخرى سابقة للعقل، ويضم مشاعر حالمة وتجريدات صلبة صارمة، بحيث تظهر وحدة هذا المزيج كله في اهتزازات اللغة الشاعرة. لقد سار مالارميه على الطريق الذي أشار إليه «نوفاليس» و«إدجار بو» فوصل فيه إلى أقصى مداه. وهو كما عرفنا من قبل طريق الذات الشاعرة التي تصل إلى حالة الحياد غير الشخصي أو التي ترتفع فوق الأشخاص.
ولقد أشار مالارميه بنفسه إلى هذا الطريق، فهو يقول في معرض حديثه عن صديقه الشاعر تيودور دي بانفيل (1823-1891م) إن الشعر شيء يختلف كل الاختلاف عن الحماس أو البحران العاطفي. إنه في رأيه تناول للكلمات على مقتضى وزن وإيقاع مطلق، بحيث تصبح «صوتا يخفي وراءه الشاعر والقارئ معا» (ص333 من طبعة البلياد). هذه الكلمة تعبر عن قضية أساسية من قضايا الشعر المطلق الذي يبدو وكأن أنغامه لم تعد في حاجة لأن تخرج من فم بشري أو تتجه إلى أذن بشرية.
يقول مالارميه في موضع آخر (ص386) إن روح الشاعر «مركز ذبذبة لانتظار غير محدد.» وهو وصف يستبعد كل ما يتصل بالنفس من صفات وأسماء. ويقول أيضا في عبارات أبسط: «إن مهمة الأدب - وهو في هذا يتفق مع الجوع - استبعاد السيد كذا الذي يكتبه» (ص657). أي لا يصح أن نسأل ماذا يفعل كل يوم مع أهله. كما أن الإبداع أو قول الشعر في رأيه هو «أن نفنى يوما من أيام العمر أو أن نموت قليلا» (ص410)، وهو كذلك «أن نهب أنفسنا لواجب فريد يختلف كل الاختلاف عن كل شيء ينزع للحياة» (ص551). ليس للفن أية صلة بالأمور العملية وليس للعمل الفني أي شأن بالمطامع والمصالح لأنه عمل خالص يكفي نفسه بنفسه (ص413). والذين يجرونه إلى الشارع ويجعلونه موضوعا للحديث على الشاي، ويكرهونه على دخول البيوت، هم الذين يهينونه أبلغ إهانة (ص569). إن الفن آلهة رقيقة الطبع، تعيش منزوية في الخفاء، وتكره الظهور وتقدم الصفوف، ولا تطمع أبدا في إصلاح الغير، وهي تحيا عاكفة على نفسها، مشغولة بشخصها، باحثة عن الجمال في كل الظروف والأوقات، عازفة عن شهوة تعليم الناس أو إصلاحهم أو تغيير بيئتهم (هكذا عاش رهبان الفن مشغولين بفنهم وحده، مثل رمبرانت وفيلاسكويز، وبول فيرونيز وغيرهم). كل هؤلاء لم يكونوا مصلحين، ولم يشغلوا أنفسهم إلا بإنتاجهم، والكشف عن قوانين فنهم، ورؤية الجمال الحق الذي كان مصدر يقينهم وانتصارهم؛ لذلك لم يخلطوا الشعر بالعاطفة، ولا الجمال بالفضيلة، ولا الفن بالمنفعة. فإذا صاح أحد من نقادنا المتحمسين: والفن والحياة؟ والفن والجماهير؟ قال له مالارميه - على لسان الفنان الأمريكي وستلر
whistler
12
إن الجماهير زائلة من على وجه الأرض والفن وحده باق. أما الفنان فهو الذي كلفته الآلهة بأن يتم عملها، ولا تزال تنظر إليه في دهشة لأنه خلق فينوس أكمل من حواء. والفنان غريب في المجتمع؛ الذي ينظر إليه نظرته إلى العاطل. وليس أمام الفنان في مثل هذا المجتمع إلا أن يقضي حياته الوحيدة في شيء واحد؛ هو نحت قبره، وأن يبذل جهده في شيء واحد؛ أن يكون هذا القبر جميلا. لأن الفن نوع من الموت كل يوم في الحياة (راجع من ص569-583).
كان من رأي مالارميه أن الفن قد بدأ منذ الأبد وأنه سيستمر إلى الأبد، وعلى الفنان أن يعيد صوته الناعم الكامل إلى الحياة في كل عمل من أعماله. وقد كان مالارميه نفسه فيما يرويه عنه معاصروه إنسانا مهذبا بالغ الرقة، شديد التعاطف مع الغير، ناعم الصوت في أحاديثه وفي أشعاره. سأله يوما أحد زواره هذا السؤال الساذج: ألا تبكي أبدا في أشعارك؟ فأجابه على الفور: «ولا أتمخط فيها!»
لقد انتقل الصوت الخفيض الناعم إلى شعره، ولكن لم تصحبه العاطفية والشفقة وكل ما تحمله النزعات البشرية.
ويبدو أن نزعة مالارميه إلى التخلص من العواطف البشرية واتجاهه إلى التجرد الخالص في التعبير قد ظهرت في بواكير أشعاره. فهي ظاهرة في القطعة النثرية العجيبة التي خطط لها سنة 1869م (وتسمى إجيتور
Igitur
ومعناها باللاتينية بالتالي أو ولهذا السبب) وحاول في أسلوب مركز كالنقط أو الرموز الرياضية أن يرسم صورة إنسان يريد يائسا أن يحقق فعلا عقليا صرفا هو الاندماج في العدم المطلق.
وهي كذلك ظاهرة في الحوار (من فصلين صغيرين يعد أولهما مجرد تمهيد ثانوي للحوار) الذي سماه «هيرودياد» وظل يعمل فيه من سنة 1864م حتى أواخر حياته، وقد كتبه عن سالومي جديدة تحاول أن تحقق جهدا عقليا يفوق القدرة البشرية، وهو أن تصبح كيانا أو ماهية عقلية خالصة، بعد أن استبد بها الخوف من جسدها الجميل والرعب من الغرائز والعطر والنجوم. إنها ترفض الطبيعة، وتموت عذراء، وتغوص في «ليل أبيض من الجليد والثلج ألمخيف»، في حالة عقلية أو روحية تقتل كل حياة. ويظل عذاب سالومي الوحيد أنها لا تستطيع أن تسير في هذا «القتل» إلى أبعد مداه: «ثم إنني لا أريد شيئا يمت بصلة للبشر.» هذا البيت الذي تقوله سالومي يمكن أن نضعه عنوانا لشعر مالارميه كله. إن من مظاهر التجرد من النزعة البشرية عنده أنه يبتعد بنفسه عن الحياة العضوية والنباتية كما فعل من قبله بودلير. وكل من يقرأ شعره المتأخر يلاحظ أنه يكاد يخلو خلوا تاما من الكائنات الحية، ويكاد يقتصر على الأشياء الصناعية أو المصنوعة كقطع الأثاث وما أشبه. صحيح أنه يذكر الأزهار هنا أو هناك (ويمكن أن تراجع السوناتة الأخيرة التي تكلمنا عنها) ولكنها لم تعد زهورا طبيعية حية، بل مجرد رموز غير طبيعية للكلمة الشاعرة. (4) الحب والموت
عرف مالارميه الحب كما عرفه كل من كتب الشعر الغنائي، غير أن الحب عنده لم يكن سوى مناسبة للتعبير عن أفعال عقلية، يستوي في ذلك مع الزهرية الفارغة أو الكأس أو الكمان أو الستارة. بل إن قصيدة تشبه من نواح كثيرة قصائد الغزل التقليدية مثل السوناتة البديعة: «آه يا عزيزة من بعيدة وقريبة وبيضاء!» التي يرجع تأليفها إلى سنة 1895م تبتعد بلغتها العسيرة عن عاطفة الحب المألوفة، وتفصح بتجربتها الرهيفة عن القبلة الصامتة التي تقول أكثر مما تقوله الكلمة عن تجربة أساسية في شعر مالارميه وعالمه، ألا وهي أن الكلمة لا تدرك عجزها ولا تتبين مصيرها وغايتها في أن تصبح كلمة (لوجوس، معنى) إلا على حدود الصمت.
ويتضح هذا على أكمل وجه في قصيدة كتبها مالارميه سنة 1887م ونرى فيها كيف يحلق الموقف العقلي فوق الحب بحيث يضمه ويطويه.
والقصيدة من نوع السوناتة أيضا (وقد كتبت على طريقة الإنجليز في السوناتة، ثلاث رباعيات وثنائية) وتبدأ بهذا البيت (ص53):
الشعر رفيف لهب إلى الغرب القصي،
للرغبات التي (تريد) أن تنشره كله
يميل (قد أقول إن تاجا يموت)
نحو الجبهة المتوجة، مسكنه القديم.
فالشعر رمزه شعلة اللهب وهو يغادر جبهة الحبيب (الشرق)، تحركه أيدي الرغبات، ليتجه إلى المحبوب (الغرب). والقصيدة تحلق في أفق مرتفع بعيد، وكأنها نسيت وظيفة اللغة في الإفادة والإفهام!
ونلاحظ أن «الأنا» في البيت الثالث تظهر بصورة عابرة وفي موضع لا أهمية له، ثم لا نجد إشارة إلى «أنت»، وكل ما نجده ذلك الشعر الذي ينتشر فوق الجبهة، ولا يلبث هذا الشعر أن يتحول إلى شعلة من اللهب تصدر عنها سلسلة من صور الاحتراق والاشتعال. ويقف الحدث الحسي في القصيدة عند هذا الحد، ولكننا نلمح وراءه حدثا آخر أهم، أو لعله هو الحدث الحقيقي المقصود. إنه الأمل في مثالية سامية، والفشل، والقناعة المرتابة بالواقع المحدود. إن اللعب بالصور والاستعارات ينقي الشيء المادي، وهو هنا الشعر، من ماديته، والرؤية الباطنة المتأملة تنقي عاطفة الحب وتجردها. والنتيجة شيء غريب غير مألوف . غريب في بناء الجملة، غير مألوف في الصور والاستعارات.
فالاستعارات في هذه السوناتة لا يمكن أن تفهم على ضوء الاستعارة التقليدية التي تقوم على صلة واقعية أو منطقية تجمع بين التشبيه والمشبه، بل ينبغي أن تفهم من شعر مالارميه في مجموعه، بحيث تصبح رموزا بعيدة الدلالة على موقفه الأنطولوجي من الحياة والفن والوجود. إن هذه الاستعارات تتحرر من سببها المادي وتستقل بنفسها وتقتحم مجالات وآفاقا بعيدة كل البعد عن شعر المحبوبة. والحدث الظاهر الذي تتناوله القصيدة (وهو خصلات شعر الحبيب التي تسقط على جبينها) تخفي وراءها حدثا آخر مجردا ومشحونا بالتوتر، لا يمت للإنسان عامة بأية صلة، ومن الصعب أن نحلل القصيدة تحليلا كاملا؛ لأن الشاعر نفسه يتعمد هذا التداخل والتعقيد، ويتعمد أيضا أن توحي بمعاني عديدة بحيث يصبح من المتعذر أن نعود بها إلى المجال البشري الطبيعي.
ونستطيع الوصول إلى نتائج مشابهة لو قارنا بين قصيدتي فيكتور هيجو ومالارميه في رثاء صديقهما الشاعر تيوفيل جوتييه، فقصيدة هيجو «قبر ت. جوتييه 1872م» تعبر عن حزن الشاعر على صديقه الذي مات وإن كان لا يزال قريبا منه كإنسان، تحيطه هالة من ذكريات الشاعر عن الصداقة التي كانت تجمعهما، في أبيات ذات نغمة خطابية مؤثرة، وصور مثالية عن العالم الآخر.
أما قصيدة مالارميه «نخب جنائزي لتيوفيل جوتييه» فهي تضع الميت في بعد شاسع لا سبيل للوصول إليه، وتؤكد أنه قد اختفى وانطفأ «كإنسان» - لأن الروح تموت مع الموت - بينما تبقى روحه في أعماله الأدبية التي تبلغ الآن حقيقتها «اللاشخصية» المأمولة بعد أن غاب صاحبها. فهي إذن تقوم بعملية التجريد من البشرية من ناحيتين. والغريب أن القصيدتين قد كتبتا في وقت واحد، والشاعران متأثران، ولا شك، بالمدرسة الرومانتيكية. والفارق بينهما هو أن أولهما كان أحد مؤسسيها وقد وصل بها إلى القمة في شيخوخته، أما الآخر فهو وريثها الذي استطاع أن يتخلى عن إرثه؛ ولذلك فمن العسير أن نقيم جسرا يصل بين إنتاجهما الذي كتباه في وقت واحد. (5) مأساة الشاعر
ويجرنا هذا إلى نظرة مالارميه لمأساة الشعر والشعراء كما عالجها في عدد من قصائده التي نعى فيها أصدقاءه وفي غيرها من شعره.
وقد لا نجد قصيدة تصور مأساة الشعر والشاعر أروع من القصيدة التي كتبها سنة 1885م بعنوان: «اليوم البكر الحي الجميل»، ولنحاول أن نقرأها أولا، على الرغم من استحالة ترجمتها ترجمة تفي بنقاء لغتها وتشابك عباراتها وتميز قوافيها (وقد اهتديت فيها بترجمة الأستاذ شفيق مقار في كتابه «شيء من الشعر»، ص131):
اليوم البكر، الحي، الجميل
أتراه سيفتت لنا بضربة جناح مخمور
هذه البحيرة الجامدة المنسية التي تغشاها تحت الصقيع
الثلاجة الشفافة للأسراب التي لم تهرب!
طائر بجع من الزمن الخالي يتذكر أنه رائع،
ولكن بلا أمل يحاول الخلاص؛
لأنه لم يغن للأرض التي (تصلح) للحياة
عندما تألق الملل من الشتاء الجديب.
كل رقبته ستنفض هذا الاحتضار الأبيض
الذي ينزله القضاء على الطائر الذي ينكره،
ولكنه (لن ينفض) رعب الأرض التي أخذ منها الريش.
شبح يلزمه ألقه الصافي بهذا المكان،
يتجمد في حلم بارد من الاحتقار،
يتدثر به طائر البجع في منفاه العقيم.
القصيدة كما نرى تقدم رمزا واضحا للشاعر في صورة طائر البجع أسير الثلج والصقيع، وفي ثلاث عبارات أو قضايا تؤلف بين قدر الشاعر والطائر في نسيج واحد محكم. ونخطئ لو فهمنا من هذا ما فهمه بودلير من هذا الرمز في قصيدته عن البجع أو في قصيدة أخرى عن طائر القطرس (الألباتروس) أراد أن يصور فيهما العبقري الذي يعيش وحيدا في بيئة لا تفهمه كأنه يعيش في المنفى.
فقصيدة مالارميه تعبر عن مأساة شاعر لم يحقق - في الماضي - رسالته الشعرية، بحيث تبدو «الآن» هدفا بعيدا عصيا، بل لعلها أن تكون مثالا يستحيل تحقيقه على بني الإنسان.
وتشير ضربة الجناح المخمور، والأسراب التي لم تهرب إلى الخيال، كما تشير إلى تحليق الطائر الكبير، أما الأرض التي تصلح لأن يعيش فيها الطائر فلا يتحتم أن تكون إحدى بلاد الجنوب بل هي أرض الجبال أو عالم الخلق الشعري.
والطائر يتذكر روعته الماضية، أي طبيعته الحقة التي كان عليها. لقد اقترف الخطأ الذي يدفع الآن ثمنه الغالي؛ لم يغن الأغنية الحقيقية للبلد الوحيد الذي يمكن أن يحيا فيه، وليست أغنيته غير الهمسات الموسيقية التي تخرج من خفق جناحيه. أما إنكاره للفضاء فهو تأكيد جديد لطبيعته الحقة - لأن طبيعة الطائر الحقة في إلغاء المكان بقوة الطيران - وتأكيد لقدرة الخيال الشعري على بلوغ البعيد واستحضار الغائب والمفقود.
وتبرز أهمية البعد الزمني في القصيدة إلى جانب البعد المكاني. فالبيت الثاني يسأل إن كان في استطاعة «اليوم» أو «الآن» أن يخلص الطائر (الشاعر) بفعل إرادي يفوق طاقة البشر. ولكن سرعان ما تجيب القصيدة على هذا التساؤل أو هذا الافتراض؛ فالشاعر يحيا الآن في الحاضر، وهو يتذكر الماضي أو يتذكر طبيعته الأصيلة ونفسه المثالية التي فشل من قبل في تحقيقها عندما عجز عن الغناء أو فرط فيه؛ ولذلك تنتقل إلى المستقبل المباشر (رقبته ستنفض ...) الذي سيفشل كذلك في أن يحرره تحررا كاملا. وأخيرا ننتقل إلى حالة من الديمومة - الحياة في الموت أو الموت في الحياة - أي الأبدية والصمت الجامد المطلق، فلم يبق للطائر إلا أن يتحول إلى شبح من نفسه؛ شبح أبيض يعيش في صمت أبيض بارد، ويحملق في الكوكب الذي يستعير منه اسمه (فقد كان فيما تقول الأسطورة اليونانية بطلا أو نصف إله ثم أحاله أبوللو إلى نجم منفي على حدود الفضاء). هو إذن جهد عقيم هذا الذي يبذله الطائر لتخليص نفسه، لأن النجم لا يرسل إلا نقطة باهتة من الضوء، ولن يبقى للشاعر إلا الوعي الصامت الذي يشبه شعاعا خافتا ينفذ في تابوت. أي لن يبقى له إلا الإحساس بهدفه البعيد وقدره المستحيل. وهكذا تنتهي القصيدة بالخروج من دائرة الزمان وتصوير مشهد أخير يغطيه الثلج والجليد. وهكذا يعكس طائر البجع صورة الشاعر الذي خان رسالته الشعرية أو فشل في تحقيقها، ولم يبق أمامهما إلا أن يتدثرا بالثلج ويتطلعا إلى سماء المثال المستحيل.
على أن هذه النغمة اليائسة لا تلازم مالارميه، بل تختفي في بعض قصائده التي ينعى فيها رفاقه الشعراء، مثل قصيدتيه الرائعتين عن «قبر إدجار بو» و«نخب جنائزي لتيوفيل جوتييه». ونكتفي هنا بإشارة موجزة إلى قصيدته الأولى التي كتبها في ربيع سنة 1876م ونشرت في نفس السنة (كما ترجمها الشاعر بنفسه بعد ذلك إلى الإنجليزية) في الكتاب التذكاري الذي صدر في مدينة بالتيمور بالولايات المتحدة الأمريكية بعد وفاة الشاعر الأمريكي العظيم:
كما ترده الأبدية أخيرا إلى ذاته الحقه.
13
يثير
14
الشاعر بسيف عار
عصره الذي أفزعه إن لم يعرف
أن الموت انتصر في هذا الصوت الغريب!
لكنهم، كرجفة خسيسة من الهيدرا
15
حين استمعت قديما للملاك
وهو يضفي على كلمات القبيلة معاني أكثر نقاء،
راحوا يذيعون بأعلى أصواتهم أن الشراب مسحور
بفيض دنس من مزيج أسود،
16
من (شر) الأرض و(حقد) السحاب، يا للشقاء!
17
إن لم ننحت من أفكارنا نقشا على الحجر،
يزدان به ضريح بو الرائع المجيد،
أيتها الكتلة (الصخرية) الهادئة التي سقطت من كوكب مظلم (مشئوم)،
لعل هذا الجرانيت أن يوقف إلى الأبد
أسراب التجديف السوداء التي ستنتشر في المستقبل.
والقصيدة كلها تعبر عن مأساة «بو»
18
التي ترجع إلى البيئة المعادية التي لم تتورع عن التشهير به والافتراء عليه. ولكن هذا التشهير والافتراء قد لا يخلوان من قيمة، إذا عرفنا كيف ننقش القصة الحقيقية عن رسالة هذا الشاعر وكل شاعر غيره في قلوبنا وعقولنا. والمهم أن الموت قد كرس انتصار الشاعر وضمن له الخلود، لا لأنه أدى واجبه وارتفع بلغة (القبيلة) بل لأن فكرة الموت كانت دائما متسلطة على عقله. (6) الشعر كأسلوب للمقاومة والعمل واللعب
التف حول مالارميه عدد كبير من المعجبين والمريدين الذين أحاطوه بشعائر الإعجاب والإجلال والإكبار التي تشبه الطقوس التي يقدمها المؤمنون للإله المعبود. ولكن مالارميه كان يملك لحسن الحظ من التواضع والذوق ما يجعله يوقف هؤلاء المريدين عند حدهم كلما بالغوا في إحراق البخور أمامه. ولعل عقيدته في الفن والشعر هي التي دفعت الحواريين إلى هذا التطرف. كان يؤمن بأن الشعر لغة لا يمكن أن تقوم مقامها أو تغني عنها لغة أخرى، وأنه هو المجال الوحيد الذي يمكن أن يقضى فيه على كل ما يتصف به الواقع من ضيق ومهانة وعرضية، ويخلق للإنسان في خضم السخف والتفاهة اليومية جزيرة التحرر والصفاء الروحي والعقلي. إنه يقول مثلا في خواطره التي كتبها ونشرها في سنة 1895م تحت عنوان «تنويعات على لحن واحد»: «إن الآخرين ينظرون إلى إنتاجي نظرتهم إلى السحب في الغسق وإلى النجوم، أي نظرتهم إلى شيء عقيم» (ص358 من الطبعة الكاملة)، أي أنه يريد أن يحقق لنفسه الحرية الكاملة، والنقاء التام، والتجريد الشامل. وهو بهذا يتابع الاتجاه الذي بدأ في الأدب والفن منذ أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، عندما راح الأدباء يحاربون طبقة التجار ورجال الأعمال ويقاومون النزعة الوضعية التي أخذت تجرد العالم من أسراره باسم العلم والتقدم. ولا شك أن هذا الاتجاه كله صورة حديثة من صور السخط على العالم والواقع الضيق المحدود. ولا شك أن هذا السخط كان يظهر عند ذوي العقول المتفوقة والأرواح الكبيرة على اختلاف العصور والبلاد.
ولعل أفضل تمهيد لشعر مالارميه أو على الأصح لفلسفته في الشعر هو الرسالة التي كتبها في سنة 1865م إلى أحد أصدقائه وقال فيها: «نعم. أعرف أننا لا نعدو أن نكون صورا عقيمة من المادة، ولكننا أسمى منها لأننا اخترعنا (فكرة) الله والروح. بل إننا يا صديقي لنبلغ من السمو أنني أريد أن أظهر بمظهر المادة التي تعي الوجود ومع ذلك تلقي بنفسها بقوة في هذا الحلم الذي تعلم أنه لا وجود له، لكي تتغنى بالروح وبكل الانطباعات الإلهية التي تراكمت في نفوسنا منذ العصور الأولى، والأكاذيب المجيدة أمام هذا العدم الذي يسمى بالحقيقة! ذلك هو مشروع كتابي الشعري، وربما حمل هذا العنوان: مجد الكذب أو الكذب المجيد.»
بهذه العبارات يحدد مالارميه موقفه من التيار الوضعي في عصره ومن بودلير نفسه تحديدا واضحا. فليس الواقع ولا وقائع الوجود المادي ولا كل جهد يبذل في تصويرها إلا عدما، لا بل إنه هو التفاهة بعينها. وليست الطبيعة كما تصور بودلير؛ معبدا من الرموز الموجودة من قبل، وإنما الحلم بأكاذيبه المجيدة أو ما يمكن أن نسميه الجمال أو الحقيقة العليا شيء يخلقه الشاعر خلقا. ومع تسليم مالارميه بأن الحلم لا يمكن أن يخرج عن كونه حلما وأن المثال أو الفكرة كما يسميها في أكثر الأحيان لا يمكن أن يزيد عن كونه مثالا، فقد ظل على اعتقاده بأن الكلمات تستطيع إذا أخذت بمعناها النقي الخالص أن تحقق تحولا هائلا أشبه بتحول المعادن الخسيسة إلى ذهب على يد الكيميائيين القدماء.
أضف إلى هذا كله ما قاله في محاضرة مشهورة ألقاها في أكسفورد سنة 1894م: «إننا نعلم أن ما هو موجود ليس موجودا على وجه اليقين!» فهو يلخص في هذه العبارة إيمانه بأن الثروة الروحية التي يملكها الإنسان وتتجسم في قدرة الفنان أو الشاعر على الخلق هي كل شيء ولا شيء في وقت واحد!
إن المادية والعرضية التي يتصف بها الحاضر الذي يفلت في كل لحظة من حياتنا لا قيمة لها إذا قيست بماض انقضى ومستقبل لم يتحقق بعد. غير أنه إذا كان للماضي والمستقبل كل هذا الدور في حياتنا العقلية فإن الوعي نفسه يمكن أن يصبح عدما، اللهم إلا إذا استطعنا أن نتصل بتراثنا الحق بفعل إرادي هو فعل الشاعر. بهذا يصبح الخلق الشعري تفسيرا «أورفيا» للأرض لأنه سيستطيع عندئذ أن يصور الطيور والأشجار والنجوم كما لو كانت خيالات يتحكم فيها كما يشاء ليخلق «النموذج الأبدي» أي النموذج الكامل المجرد من المادية والصدفة، ومع ذلك فمهما نجح الشاعر بنوع من الكيمياء الشعرية في تنقية لغته وتعريتها من المادية والوصول بها إلى الكمال المجرد، فلن ينجح أبدا في إلغاء عنصر الصدفة أو «رمية النرد» التي يتعرض لها كل جهد بشري. •••
أراد مالارميه إذن أن يعبر عن كل ما يتصف بالثبات والضرورة؛ لذلك كان أبغض شيء إلى نفسه وتفكيره هو التغير والصدفة والواقع العرضي. وكل من يقرأ نثره بإمعان سيجد أنه يكثر من استخدام كلمة الصدفة
Hasard
للدلالة على الواقع العادي في مقابل الضرورة التي لا يملكها إلا العقل الذي يخضع لقانونه الخاص. ولعل هذا أن يفسر أيضا موقفه من الصحافة والصحفيين! كان يكره الجدل والدخول في المناقشات والمنازعات على صفحات الجرائد، ويضيق أشد الضيق بالضجيج الذي نسميه اليوم بالإعلام. وكان يؤمن بقوة الصحافة وسلطانها ولكنه كان يؤمن كذلك بخطرها على الأدب والفن، وكان يعلن نفوره من المخبرين الصحفيين الذين تهيؤهم الجماهير لتصوير كل شيء في صورة مبتذلة، ويتناولون كل ما هو نبيل وفريد بالكتابة السطحية السريعة تلبية لمطالب الحاجة اليومية. ولذلك فإن الكتاب في رأيه هو العمل العقلي الخالص الذي يستطيع أن «يقهر الصدفة كلمة كلمة» (ص387)، كما أن المفكر إنسان له يدان بسيطتان (ص412)، والبساطة هنا معناها أن لا مهادنة في الفكر ولا توسط. إنها بساطة الفكر المجرد، أو بساطة التجريد الذي يبتعد بنفسه عن عالم التجار والمنتفعين، كما يبتعد أيضا عن عالم الغرائز والطبائع البشرية المألوفة. إن الحداثة تصل لديه إلى أقصى مداها حين تطالب بسيطرة العقل الغريب عن الطبيعة، أو الروح التي تجردها نفسها من «البشرية» وهنا أيضا نلمح جانبا من دكتاتورية الشعر الحديث التي وصفناها عند الكلام عن رامبو، بل لعل مالارميه أن يكون قد تطرف - على طريقته - في هذه الدكتاتورية أكثر مما فعل رامبو.
كيف السبيل إلى تحقيق هذا المطلب الصعب الذي يبدو كأنه يفوق طاقة البشر بالعمل الصابر الدءوب؟ هذا العمل يتلخص في التجريب مع الكلمة بحيث تدل على معاني متعددة، وبحيث تكون هذه الدلالة علامة على توترات لا واقعية تمر بها النفس. والصعوبة - إن جازت المفارقة - تكمن في أن يكون تعدد المعاني هذا صائبا وموفقا.
لا أثر إذن للإلهام الذي يصفه الشاعر بأنه ذاتية فاسدة. إنه يتحدث عن «معمله»، عن «هندسة العبارات»، ويعالج إبداعه الشعري بمسئولية العالم المتخصص في «الفعل العقلي الخالص» وفي «السحر اللغوي». والمشكلة هي في إحالة هذا الفعل العقلي الخالص إلى «غناء»، ولكنه غناء يصدر عن «أستاذية باردة»، تعمل تحت ظروف صعبة غير مألوفة؛ ولذلك يقف منها الناس موقف العداء ويتهمها النقاد بالإلغاز والغموض (ص535). إن بيت الشعر الذي ينبع من هذه العقلانية الباردة ومن هذا العمل الصابر الدقيق يؤلف من الكلمات العديدة «كلمة جديدة شاملة»، تضمن «عزل اللغة» عن المصادفات العرضية، بحيث تدل على الجوهر، والحقيقة، والماهية، وبحيث يخيل للسامع أن الكلمة التي يسمعها في بيت الشعر كلمة غريبة عليه لم يسمعها أبدا من قبل، وتذكره بأن الموضوع الذي تسمية أو تصفه يسبح في جو جديد عليه (ص368).
إن اللغة الشعرية تنفصل أو تنعزل عن لغة الإفادة أو تدور حول نفسها، والشاعر الذي ينطق بهذه اللغة ينعزل بالضرورة أيضا. إنه في نظر الناس «مسكين» أو «مريض» جدير بالرثاء. بل قد يصفه البعض بالحمق والجنون والانحلال، ويندد بخطره على أوروبا! ولكنه لهذا السبب نفسه رجل يعرف كيف يتعامل مع «المواد شديدة الانفجار» التي يصطدم بها في عمله مع اللغة (ص651).
كل هذه كما نرى خطوات على الطريق الذي أشار إليه روسو وديدرو ومن بعدهما إدجار بو وبودلير. إنه الطريق الذي يسير عليه الشاعر أو العبقري فيبتعد عن المجتمع أو يبتعد عنه المجتمع، وقد كان مالارميه يملك من السخرية والتهكم ما جعله يصف الشعر أحيانا بأوصاف تساوي الحكم عليه بالإعدام في نظر القراء والنقاد العاديين. إنه يقول عن الكتابة والأدب كله «ما الهدف من هذا كله؟ إنه اللعب» (ص647). أو يقول إنه «بريق الكذب.» وليس المقصود باللعب هو العبث، وإنما المقصود به هو التحرر من الهدف والغاية والمنفعة، بل الحرية المطلقة للروح الخلاق. أما المراد من بريق الكذب فهو أن كل ما ينتجه الأديب «لا واقع»، وكل ما يصل إليه شيء مؤقت إذا قيس بصعوبة رسالته وخطورتها. (7) العدم والشكل
لم يقف عناء مالارميه عند هذا الحد. لقد بذل كل جهده لإحكام شكل البيت، وحافظ على قواعد الوزن، وقوانين القافية، وتقسيم المقاطع. ولكننا حين نقرأ شعره نواجه بمفارقة غريبة، إذ لا نلبث أن نكتشف أن دقة الشكل عنده تتعارض مع غموض المضمون وعدم تحدده. يقول مالارميه في إحدى رسائله التي كتبها سنة 1885م: «كلما وسعنا من مضموناتنا، وكلما «رققنا» أو «خففنا» منها، كلما كان علينا أن نربط بينها في أبيات محددة المعالم، ملموسة، يتعذر نسيانها.» هذا التعارض الذي تشير إليه العبارة بين المضمون المخفف (من المادة بالطبع!) وبين الشكل المحكم المترابط هو في الحقيقة تعارض بين الخطر ووسيلة النجاة، وقد لاحظنا مثله في كلامنا السابق عن بودلير.
ويكتب مالارميه عبارة أخرى في إحدى رسائله المبكرة سنة 1866م يمكن أن نجد فيها إشارة إلى الخلفية الأنطولوجية التي يبني عليها عالمه الشعري والتي تتصل عنده كذلك بالشكل ووظيفته. والعبارة تقول: «وجدت الجمال بعد أن وجدت العدم.» ومن حقنا بالطبع أن نفهم الجمال على أنه جمال الأشكال الموزونة الكاملة، فإذا أردنا أن نفهمه من الناحية الأنطولوجية (التي ألمح إليها في هذه العبارة وإن لم يوضحها إلا في مرحلة متأخرة) أمكننا أن نقول إن مالارميه يربط فيها بين العدم (أو المطلق) وبين الكلمة (أو اللوجوس). فالكلمة في المكان الذي يولد فيه العدم ويدرك وجوده.
ونستطيع أن نتوسع في هذا الفهم قليلا إذا وضعناه في إطار التراث الفكري الفرنسي - أو الروماني بمعنى أوسع - الذي يعتبر الأشكال الأدبية مظاهر للكلمة. فشعر مالارميه الذي يلغي الواقع ويحطمه، يحاول في نفس الوقت أن يحقق الجمال في اللغة والكمال في الشكل. ولذلك تصبح الأوزان والإيقاعات الدقيقة المحكمة بمثابة الوعاء المنقذ الذي يحتوي الواقع الذي ألغاه أو «أعدمه» من الناحية الموضوعية، وسنرى فيما بعد أن الشعراء المعاصرين قد أسقطوا هذا التبرير الأنطولوجي للشكل من حسابهم.
ولكن هؤلاء الشعراء - مثل فاليري وجيان ومن تأثر بهما أو جرى مجراهما - سيثبتون أن الشعر، مع كل ما فيه من تجريد شديد وتعدد في معاني الكلمات؛ يحتاج أشد الحاجة إلى أحكام الشكل، لكي يكون سندا يعتمد عليه في المكان المجرد من الأشياء وطريقا ومعيارا للغناء. ويصبح الشكل هو طوق النجاة للشعر المحض الذي تسبح أغانيه في عالم لا واقعي حطم الأشياء وألغاها (من أدل الكلمات على هذا ما يقوله الشاعر الألماني جوتفريد بن عن قدرة العدم على إزكاء الشكل). ويؤكد كلام مالارميه عن الشكل - إذا أخذناه في سياقه التاريخي - أن الانفصال الذي بدأ منذ القرن الثامن عشر بين الجمال والصدق قد أصبح انفصالا نهائيا. ولا شك أن جمال الشكل المطلق يؤكد أيضا أن الكلمة الإنسانية لا يخبو نورها ولا تذبل روعتها حتى ولو وقفت أمام العدم وجها لوجه. وقديما قيل: في البدء كانت الكلمة. واليوم نقول: وفي النهاية أيضا. إن لغة الإنسان هي مجده، ولغة الشاعر هي موضع مجده وعذابه ومغامرته ووحدته. وماذا يبقى سواها، بعد أن أصبح الواقع غريبا عنه، وأصبح هو غريبا عن الواقع؟ (8) قول ما لا يقال
يعاني قارئ الشعر الحديث معاناة شديدة في فهمه وتذوقه. وتشتد معاناته وتصل في أكثر الأحيان إلى حدود اليأس إذا قرأ مالارميه! والحق أن صعوبة الشعر الحديث وتعقيد لغته ظاهرة ينبغي ألا ننظر إليها منفصلة عن ظواهره الأخرى، وإن كانت بالطبع أشدها غرابة وشذوذا وتطرفا. ويبدو أن مالارميه قد وضع هذا الأمر في حسابه، واقتنع بأنه يكتب لعدد قليل من القراء أو نخبة منهم كما كان يؤثر دائما أن يقول، هذا إذا كان قد فكر في القراء على الإطلاق! وقد حاول في كثير من تأملاته وخواطره (مثل التنويعات على لحن واحد، والموسيقى والآداب، وكتاباته النثرية المتفرقة) أن يبرر لغته العسيرة المتميزة. وهذه التأملات والخواطر تكاد تدور حول فكرة واحدة هي أن من واجب الأديب أن يعيد للغة تلك الحرية التي تجعلها تتقبل «بروق المنطق الأولى» (ص386)، وألا يسمح بأن تستهلك في أغراض الإفادة والتوصيل أو تتجمد في كليشيهات وصيغ محفوظة تمنع الفكر والشعر من أن يقولا شيئا جديدا كل الجدة. والإبداع الشعرى معناه عنده تجديد فعل الخلق اللغوي الأصيل تجديدا حاسما بحيث يكون القول على الدوام هو قول ما لا يقال (ص386).
والمتأمل لهذه الخواطر يعرف أنها قد قيلت من قبل صراحة أو ضمنا في أعمال كثير من الشعراء والمتصوفين، ولكن الفرق كبير بين خاطرة ترد صدفة هنا أو هناك وأخرى يصل بها صاحبها إلى غايتها ويجعل منها مبدأ أو قانونا يسير عليه من الناحيتين النظرية والعملية. ولقد حاول مالارميه في إنتاجه أن يحتفظ «للقول الذي لا يقال» ببدائيته وأصالته الأولى، بحيث تحميه صعوبته من كل فهم محدود، وتقيه من السير في الطرق العادية المألوفة. إن الكلمة الشعرية عنده لا تريد أن تكون مجرد درجة قصوى من درجات اللغة المفهومة، بل تريد أن تكون نشازا صريحا لكل لغة سوية أو عادية.
مثل هذا الهدف غير العادي يحتاج بالطبع إلى وسائل غير عادية، تخالف في معظم الأحيان قواعد النحويين في بناء الجملة أو تصريف الكلمة أو ترتيب العبارة. مثال ذلك أن نجد في أشعاره أفعالا في حالة المصدر المطلق (بدلا من حالة الإعراب المنتظرة) أو أسماء الفاعل والمفعول في الحالة التي تعرف في اللغة اللاتينية باسم مفعول الأداة المطلق
ablativus absolutus
أو حالات تقلب فيها العبارة بغير سبب واضح، أو يلغى الفرق بين المفرد والجمع، أو تستخدم الظروف استخدام الصفات، أو ترتب الكلمات على عكس التسلسل المعتاد، أو تستعمل أدوات التعريف والتنكير استعمالا جديدا ... إلخ.
والغريب أن هذه الأساليب كلها ترد في كتاباته النثرية أكثر مما ترد في أشعاره. ويشبه نثر مالارميه أن ينطبق عليه اصطلاح الموسيقى «الكونترا بونكتيه» الحديثة، فالفكرة تتداخل في العبارة الواحدة مع الفكرة، بل قد تتشابك مجموعة من الأفكار في عبارة واحدة وفي وقت واحد بحيث نسمع أكثر من صوت يعارض الآخر أو يكمله أو يوقفه، وبحيث نخرج من العبارة كلها بالإحساس بأن هناك «وحدة تأليفية متحركة» تجمع الأفكار المفردة كما تجمع الجملة الموسيقية أصواتا متعددة (هنا أيضا نلاحظ الصلة الوثيقة بين الأدب والموسيقى كما لاحظناها من قبل بينه وبين الرسم ...)
كل هذه وسائل وأساليب لا يمكن تقليدها أو نقلها. والواقع أنه لم يبق منها في شعر خلفاء مالارميه وأتباعهم إلا القليل، وبخاصة تلك الوسائل والأساليب التي يسخرها الشاعر لقلب النظام الطبيعي للأشياء، أو تجريد الواقع من ماديته وشيئيته كما أوضحنا من قبل وكما سيأتي تفصيله في الفصل القادم. والمهم أن هذا الشعر لم يخلق للقارئ ولا الناقد المتعجل. لقد قاوم هذا النوع من القراء والنقاد في عصره، وسوف يقاومهم في كل عصر؛ ذلك لأنه يخرج كما قلت عن حدود الفهم العادي، ويرتفع إلى أفق تستعيد فيه الكلمة أصالتها الأولى وبراءتها وثباتها. هناك تلمع الكلمة لمعان البرق أو الصاعقة، وهناك تقترب من الصمت لتقول ما لا يقال. والشيء الذي يستحق الملاحظة أن هذا الهدف لا يتم إلا بتجزئة الجملة أو تقطيعها إلى شذرات. وهكذا نجد الانفصال يحل محل الاتصال، والتجاور في مكان التسلسل. ونخطئ لو تصورنا أن هذه أساليب ظاهرية تريد أن تلعب باللغة لمجرد اللعب. إنها علامات على الانفصال الباطني في نفس الشاعر، على اللغة التي تقف عند حدود المستحيل. والغريب أن هذا التمزق إلى شذرات - وهو تمزق قائم في روح العصر وفي وجدان الشاعر على السواء - يسمح للشاعر أن يجعل الشذرة رمزا للكمال الذي يبحث عنه ويحس بالقرب منه: «الشذرات علامات عرس الفكرة » (ص387). وهي كلمة تعبر عن قضية أساسية من قضايا الإستيطيقا الحديثة. (9) في جوار الصمت
قلنا إن مالارميه يريد أن يقترب من المستحيل، أي من الصمت. كانت وسيلته إلى هذا هي «تكتم» الأشياء (التي يلغيها أو يحطمها أو يجردها من كيانها المادي الملموس)، وكانت هي اللغة التي ازدادت كلماتها مع الأيام إيجازا وهمسا (من هنا تستحيل ترجمة هذا الشعر بلغة خطابية زاعقة، هذا إن كان من الممكن ترجمته على الإطلاق). والصمت كلمة تتردد كثيرا في خواطر مالارميه وتأملاته.
فهو يقول مثلا إن الأدب تحليق صامت إلى المجرد، كما يقول إنه يخاف الثرثرة إلى حد الرعب (ص385)، وإن نصوصه «تنطفئ» على الصفحة المكتوبة (ص409) وإنها سحر لا يفهم معناه ولا يتذوق التذوق الكامل حتى تعود الكلمات إلى المعزوفة (الكونسير) الصامتة الوحيدة التي نبعت منها (ص380). من هنا تصبح القصيدة المثالية هي «القصيدة الصامتة من بياض تام»، أو هي التي تتحول كلماتها إلى ذبذبات عقلية أو روحية تذكرنا بالقصيدة السيمفونية الأولى التي كانت مستقرة في أعماق الإنسانية، قبل أن توجد اللغة وقبل أن تسمي الأشياء وتلتصق بها.
والواضح من هذا كله أن مالارميه يقترب من التفكير الصوفي، وأن تجربة «المتعالي» (الترانسندنس) أو بالأحرى تجربة الفشل في الوصول إليه هي التي تشعره بعجز اللغة، هذا التصوف في صميمه هو «تصوف العدم»، أي أنه قد خطا خطوة أبعد من تصوف «المتعالي الفارغ» أو المثالية الفارغة التي لاحظناها من قبل عند بودلير ورامبو.
عرف مالارميه بنفسه أن جوار الصمت أو القرب من المستحيل هو الحد الأخير الذي يطمح إليه إنتاجه ويقف عنده، وليس هذا مجرد استنتاج عقلي أو اجتهاد في التفسير، ولكنه ثمرة استقراء قصيدته التي يصدر بها مجموعة أشعاره، وهي قصيدة تحية
Salut . ويدلنا التحليل البسيط لهذه القصيدة على المحاور الثلاثة التي يدور حولها فكره وشعره؛ إنها الوحدة، وهي الموقف الذي يميز الشاعر الحديث بوجه عام، والصخرة التي تصطدم بها سفينته فيفشل ويخيب، والنجمة التي ترمز للمثالية البعيدة التي عجز عن بلوغها فرجع من رحلته باليأس والتمرد والمرارة أو بالرضى والزهد والاكتفاء.
صرح مالارميه في أحد أحاديثه مرة بقوله: «إن أدبي طريق مسدود.» والواقع أن عزلة مالارميه عزلة كاملة مقصودة، وقد كان في طبيعته من المرح وطيبة القلب ما عصمة من السخط والمرارة. إنه يشبه رامبو، وإن كان يسير على طريق آخر. ولقد بلغ بشعره إلى النقطة التي يلغي فيها نفسه بنفسه، لا بل يشير إلى نهاية كل شعر وكل أدب وكل كلام، والغريب أن هذه الرغبة الشديدة في الصمت أو النهاية تتكرر كثيرا في شعر القرن العشرين. ولا بد أنها تدل على حاجة ملحة في ضمير الإنسان الحديث. (10) الغموض
لا بد أن القارئ قد بذل جهدا غير قليل في فهم نصوص مالارميه التي قدمناها في الصفحات السابقة، ولا بد أنه التمس لنا العذر في الترجمة والتفسير اللذين لا يخلوان بالضرورة من العجز والقصور. والحقيقة أن شعر مالارميه - ونثره أيضا إلى حد بعيد - يبدو كأنما كتب لقارئ لم يوجد بعد، أو كأنه يحاول أن يخلق القارئ المتخصص لنصوصه المتخصصة. إنه يقوم كما قلنا على التجرد من النزعات البشرية أو طرح كل ما يتصل بالإنسان من عواطف وغرائز ورغبات. ومن شأن هذا التجريد المستمر للأشياء من واقعيتها وماديتها واستخدام الكلمات استخداما جديدا لتحقيق هذا الهدف أن يحطم المثلث المعروف الذي تتكون أضلاعه من المؤلف والعمل والقارئ، بحيث ينفصل العمل الشعري عن طرفيه البشريين. إن الكتاب - وهو رمز العمل الأدبي لديه - شيء غير شخصي، وبمجرد أن ينفصل عنه المؤلف لا يحتمل أن يقترب منه القارئ. إن من طبيعته أن يقف وحده، مخلوقا، موجودا (ص372). أضف إلى هذا أن رموز مالارميه وصوره واستعاراته ليست من ذلك النوع الذي يمكن أن يقال عنه إنه ملك مشاع بين المؤلف والقارئ. إنه إذا جاز أن نستخدم هذا التعبير، شيء مالارمي خالص. لقد وضع معظم هذه الرموز بنفسه ولا بد أن تفهم من خلال أعماله. وإذا كانت هناك استثناءات قليلة فهي ترجع إلى تراث أدبي قريب يتأثر فيه بودلير بوجه خاص. ومن هنا يختلف الغموض عند الشاعر الحديث مثل مالارميه عنه عند الشعراء القدامى. فهؤلاء كانوا يتعمدون تعقيد العبارة أو استخدام الصور والاستعارات النادرة والكلمات المهجورة، أو يعمدون إلى التلميحات الخفية والتصورات البعيدة عن عالم الواقع لكي يدهشوا القارئ أو يفوزوا بإعجاب نخبة من القراء «الأرستقراطيين» الذين يجدون متعة في حل رموزهم واستكشاف صورهم. ولكن عالمهم الرمزي كان يقوم على كل حال على نوع من الاتفاق الضمني بينهم وبين القراء ويستغل مجموعة مشتركة من الرموز والصور. أما الشاعر الحديث فهو يختلف عن ذلك؛ إن أسلوبه في الرمز يحول كل شيء إلى «علامة» على شيء آخر، دون أن يدخل هذا الشيء الآخر في معنى مقبول أو مفهوم أو متفق عليه من قبل، ولذلك فهو يخلق لنفسه رموزه الذاتية التي تظل بعيدة عن الفهم المحدود الذي اعتاد أن يربط الرمز بمعناه القديم المتوارث. على أن هذا كله ليس هو السبب الوحيد في غموض مالارميه؛ إنه يستمد شعره الغامض من الغموض «الأصلي» الذي يستقر في صميم الأشياء جميعا، والذي لا يتكشف قليلا إلا «في ليل الكتابة».
لقد عرفنا من قبل كيف كان ديدرو ونوفاليس وبودلير يطالبون بالشعر الغامض. ولكن هذا الشعر الغامض يعد شيئا متواضعا إذا قيس بالغموض الذي وصل إليه شعر مالارميه. صحيح أنهم قد مهدوا الطريق، وأن رامبو سار عليه خطوات. ولكن مالارميه قد وصل فيه إلى الحد الذي لم يستطع معه شعراء القرن العشرين أن يسايروه فيه أو لم يريدوا ذلك ولم يحاولوه.
مثل هذا الشعر المعقد لا بد أن يثير الدعابة. ولقد أثارها في نفس مؤلفه الذي راح في «قصائد المناسبات» (ص81 وما بعدها) يتفكه على أصدقائه من الكتاب والشعراء والناشرين والموسيقيين. يروى من نوادره أن صحفيا استعجله في تسليم إحدى مخطوطات قصائده؛ فما كان منه إلا أن قال له: «انتظر حتى أضع فيها قليلا من الغموض.» وسأله أحد زواره مرة عن معنى إحدى «سوناتاته» وهل تدل على الشفق أو الفجر أو المطلق، فأجابه بقوله: «لا، بل تدل على التسريحة.» (الكومودينو). هذه القدرة على السخرية من النفس لا تتأتى إلا لذوي العقول والقلوب الكبيرة، وهي تكشف بغير شك عن مكمن القوة في مثل هذا الشعر الغامض، تكشف عن حريته في اللعب وبعده عن غرور «الخالدين» وعلمه بأنه شيء مؤقت.
ولكن هذا لا يقلل بالطبع من عزلته وانفراده. (11) شعر يوحي ولا يفهم
ليست اللغة في مثل هذا الشعر أداة للتفاهم والإفادة والتوصيل، لأن هذا يفترض وجود أساس مشترك بين القائل والسامع، أو بين الكاتب والقاري. إن لغة مالارميه تعبر عن نفسها فحسب، ولذلك لم تضع القارئ في حسابها، أو لم تضع على أحسن الفروض في اعتبارها سوى عدد قليل من صفوة القراء.
وقد أشرنا من قبل إلى الدور الذي يلعبه العبث أو المحال
19
في الشعر الحديث. ومفارقة هذا العبث أو المحال موجودة عند مالارميه فيما يمكن أن نعبر عنه بقولنا إنه يتكلم لكي لا يفهمه أحد، ويقل جانب العبثية أو الاستحالة في هذه الحقيقة - وإن لم يقل جانب الشذوذ والغرابة - إذا استطعنا أن نتخلى عن المفهوم الشائع لفكرة «الفهم» واستبدلناه بالإيحاء. فالواقع أن شعر مالارميه يؤثر بتعدد معانيه وإشعاعاته وعذوبة أنغامه غير المألوفة تأثير السحر على سمع القارئ، قبل عقله. إن الشاعر يفكر على حد قوله في قارئ «متفتح لألوان عديدة من الفهم» (ص283).
إن القصيدة تغري القارئ أن يفهمها بطريقته. ليس هذا فحسب، بل إنها تستثيره ليكمل فعل الخلق الذي لم تتمه أو تركته ناقصا عن عمد، إما لأنها تكره النهاية المستقرة الهادئة، أو لأن هذا ينافي طبيعة الشاعر والقارئ معا.
هذه القصيدة التي تنطوي على طاقات وإمكانات لا نهاية لها لا يمكن أن يستجيب لها إلا القارئ الذي حركت طاقاته وإمكاناته في تفسير المعاني والدلالات المختلفة، وليس على هذا القارئ أن يفك رموز القصيدة وأسرارها، بل عليه أن يعايش الرمز والسر نفسه بحيث يحاول أن يكتنه معاني مختلفة ويستكشف دلالات قد لا تكون خطرت على بال الشاعر نفسه.
وسيأتي تلميذ مالارميه العظيم بول فاليري فيعبر عن هذا تعبيرا أكمل وأجمل حيث يقول: «إن معنى أبياتي هو ذلك الذي يعطيه لها القارئ.» وهو نفس المعنى الذي سيعبر عنه شاعر معاصر - سيأتي الكلام عنه في الفصل القادم - بقوله إن للقصيدة الواحدة من المعاني بقدر ما لها من القراء.
القصيدة إذن توحي بالعديد من المعاني والظلال والذبذبات والإشعاعات. إنها لا تحب أن تفهم عن خلال فكرة ثابتة غليظة بل تريد أن ترف وتتردد. وقد استخدم مالارميه اصطلاح الإيحاء للدلالة على هذه المعاني كلها، وهو اصطلاح استخدمه بودلير قبله وورد كثيرا في سياق كلامه عن سحر اللغة. ويفسر مالارميه ما يريده بالإيحاء حين يقول سنة 1896م عن أزمة الشعر (في التنويعات على لحن واحد ص364) إن المدارس الأدبية الحديثة تشترك في اعتناق نظرة مثالية (أشبه بالسوناتات والفوجات في الموسيقى) تتجنب المواد أو الأشياء الطبيعية كما ترفض كذلك الفكرة المضبوطة التي تقوم بتنظيمها باعتبارها فكرة غليظة لكيلا تكون إلا مجرد إيحاء، «هذا الإيحاء هو نقيض الوصف الموضوعي، إنه إهابة،
20
وتلميح
21
واستثارة.»
ويزيد مالارميه فكرته عن الإيحاء تحديدا فيقول في موضع آخر في رده على أسئلة عديدة عن الحياة الأدبية وجهها إليه أحد الصحفيين - جول هوريه - ونشر إجابته عليها في جريدة «صدى باريس» (في سنة 1891م) إن الإيحاء هو الهدف من الأدب، وليس للأدب هدف سواه، أي الإيحاء بالأشياء لا تسميتها أو وصفها وصفا مباشرا؛ ذلك لأن تسمية الشيء تضيع على القارئ ثلاثة أرباع المتعة الأدبية، متعة التخمين والحدس التدريجي؛ الإيحاء بالشيء، هذا هو الهدف (ص869). إن الأثر الذي يتركه هذا الإيحاء على القارئ هو الجسر الوحيد الذي لا يزال يمتد بين الشاعر الحديث وبين قارئه، ومع ذلك فلا يمكننا أن نتحدث عن نوع من الوحدة أو المشاركة بين الشاعر والقارئ، كما كان الحال مع الشعر القديم. قد يساعد الإيحاء على أن «يهتز» القارئ مع القصيدة. وقد يصل القارئ إلى معرفة الموضوعات الأساسية التي يدور حولها شعر مالارميه ويسير معه إلى الحد الذي يستحيل معه تفسيرها.
ولكن المهم أنه لم يعد من الممكن أن تفرض هذه المعرفة على القارئ. إن غموض هذا الشعر وانعزاله لا يمكن أن يزولا بإرادة أحد، وسيبقى فيه من الغموض ما يوحي بالتساؤل ويثير الرغبة في التفسير بعد التفسير. (12) النسق الأنطولوجي (أ) الابتعاد عن الواقع
تكلمنا في الصفحات السابقة عن الأساس أو النسق الأنطولوجي (الوجودي)
22
الذي يقوم عليه عالم مالارميه الشعري، وبخاصة في مرحلة النضج. هذا النسق يشبه الخلفية التي تتحرك القصيدة في أفقها أو على هداها، بحيث تصبح وكأنها تحقيق لحدث أو فعل أنطولوجي، دون أن يضر هذا بروح الشعر وغنائيته وسره وقدرته على الإيحاء. والذي يلفت النظر إلى هذا النسق أن هناك أفعالا أساسية أو محاور مركزية تتكرر في مختلف القصائد، وتعطى لأبسط الكلمات والصور والأفكار بعدا لا يمكن أن تفسره هذه الكلمات والصور والأفكار وحدها. وقد حاول مالارميه في كتاباته النظرية وفي رسائله أن يشرح هذا النسق الفلسفي الذي يقوم عليه شعره. ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذا النسق الوجودي؛ لأننا لا ننظر إليه باعتباره إضافة إلى الفلسفة، بل باعتباره مظهرا من مظاهر الحداثة، فقيمته الحقيقية هي أنه استطاع أن يعطي لتجارب الروح الحديث (كتجربة الفشل في الوصول إلى التعالي أو التنافر والشذوذ، والصدع الذي حدث بين الإنسان والواقع وغيرها من التجارب التي أشرنا إليها) معنى أنطولوجيا، وأن ينقلها من خلال هذا البعد الجديد إلى مجال الشعر. وأود أن أؤكد مرة أخرى أن المهم في هذا كله هو ألا يفقد الشعر جوهره وألا ينسيه هذا الطموح الفلسفي حقيقته الوجدانية. والواقع أن عظمة مالارميه وعبقريته الفنية تنجلي في قدرته على جمع النسق الأنطولوجي والكلمة الشاعرة في تلك النقطة التي يتذبذب فيها النغم وتتعانق الأسرار؛ أي على الأرض التي كانت دائما مهد الشعر ومسكنه.
وقد فهمنا من القصائد التي ناقشناها في بداية هذا الفصل أن التجريد من الواقع أو نفي صفة الحضور عن الأشياء هو من أهم الظواهر أو الأفعال الأساسية في شعر مالارميه. ونستطيع أن نعده استمرارا لنزعة الانفلات والبعد عن الواقع «الضيق» التي رأيناها في كتابات بودلير النظرية وفي شعر رامبو. كما نستطيع أيضا أن نقول إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بروح العصر على نحو ما أشرنا في الفصول السابقة (كغلبة النزعة العلمية التي هددت بطرد الأسرار من العالم، وسيطرة الروح التجارية على الطبقات البرجوازية الزاحفة، وظهور تيارات جديدة في الأدب رأى الشعراء فيها تهديدا لهم كالواقعية والطبيعية ... إلخ). على أن الشيء الذي يميز مالارميه هو تعمقه لكل هذه الظواهر والأسباب وتأمله الطويل في موقف الشعر والشعراء والأدب بوجه عام من طوفان العلم والتجارة والصحافة. ولذلك فليس غريبا أن يكون التجريد من الواقع عنده نتيجة للتنافر بين الواقع واللغة، وأن يفهم هذا التنافر فهما أنطولوجيا.
ومن الصعب بل من المستحيل أن نجد عند شاعر من الشعراء نسقا فلسفيا بمعنى النظام المرتب المتكامل التام من الأفكار، ومن الخطأ أيضا أن نحاول البحث عنه. وكل ما سنجده هو مجموعة من الأفكار أو الأفعال الرئيسية التي نحاول نحن أن ننسقها لغرض الفهم والتقريب فحسب، لا لنجعل من صاحبها فيلسوفا رغم أنفه! ولن يزيد ما سنجده في كتابات مالارميه النظرية عن بعض العبارات التي تفسر هدفه من الشعر والفن، وهو كما قلت الابتعاد عن الواقع أو تجريده. يقول مالارميه في بيتين من إحدى قصائده:
هكذا أغنية الحب، تطير على الشفاه،
إن بدأتها فاطرد منها الواقع، لأنه منحط.
وهو يقول في أحد أحاديثه التي ألقاها في أكسفورد (ص642 وما بعدها) إن الطبيعة موجودة أمامنا، ولن نستطيع أن نضيف إليها سوى بعض الاختراعات المتصلة بحياتنا المادية كالمدن والسكك الحديدية، أما العمل الوحيد الذي يدل على الحرية الحقيقية فهو إدراك العلاقات الخفية المتعددة بفضل حالة باطنية تمتد حسب تقديرها فوق العالم وتبسطه. هكذا تكون طبيعة الخلق: «إيجاد الكلمة التي تدل على شيء غير موجود» (ص647).
وحذف الواقع الموضوعي أو استبعاده يرتبط بعمل المخيلة الخلاقة ويؤدي هذا إلى عمليات مختلفة ومتعددة، منها على سبيل المثال استخدام المواد غير العضوية أو غير الطبيعية استخداما رمزيا. فنرى مثلا - كما رأينا عند بودلير من قبل - كيف تصبح المعادن والجواهر النفيسة والأحجار الكريمة علامات ترمز للحياة العقلية والروحية التي تسمو على الطبيعة. من هنا نفهم دور هذه الأشياء في القصيدة الحوارية «هيرودياد» كرمز معادل للمرحلة التي تريد هذه العذراء الغريبة أن تصل إليها وهي كما قدمنا مرحلة قتل الحياة الطبيعية والغريزية فيها.
ومن هنا أيضا نفهم غرام مالارميه بوصف الحلي والملابس وقطع الزينة في مجلته «آخر مودة» التي أشرف على تحريرها وظهر أول أعدادها في السادس من سبتمبر سنة 1874م - تحت اسم مستعار هو ماراسكان - وأكملت ثمانية أعداد قبل أن تنتقل إلى سيدة اهتمت بتفاهات الزواج وفضائح باريس. وكان يشارك في تحريرها أصدقاؤه من الشعراء والقصاصين والموسيقيين، كما كانت تهتم بالملابس والحلي والأثاث وأخبار المسرح. والغريب أن أول مقال كتبه مالارميه فيها كان عن الحلي، ويقال إنه كان يعد بحثا عن الأحجار الكريمة لم يعثر له على أثر! على أن تجريد الواقع كان يتجلى أقوى وأوضح ما يكون في تصوير مالارميه للأشياء في صورة الغائبة، وفي تلافي كل معنى لغوي محدد أو كل معنى واحد وثابت، بغية الإيحاء بمعاني مختلفة للكلمة الواحدة. وكان من وسائله إلى ذلك ما يسمى بال
أي المواربة أو الدوران حول المعنى (كأن تسمي القمر مصباح الليل أو كوكب الظلام، أو تسمي العصفور رسول الربيع ... إلخ). وهنا يلاحظ النقاد أن أسلوب مالارميه في طمس معالم الواقع وإخفائها يشبه إلى حد كبير أسلوب أدب عصر الباروك - وبخاصة في فرنسا - الذي كان ينزع إلى الزخرف والتزين والتصنع. كانت وظيفة المواربة أو الدوران حول المعنى هي تخليص الشيء من ماديته الغليظة، وتحرير الكلمة من معناها العادي المستهلك. ولكنه كان يذهب إلى أبعد من هذا فيحلل الشيء الموصوف إلى خصائص أو كيفيات تتصل بحالات النفس الباطنة. ونضرب لذلك مثالا بيتين من قصيدة «هيرودياد» التي أشرنا إليها. تقول العذراء مخاطبة مربيتها: «أشعلي أيضا هذه الأضواء، حيث يبكي الشمع في ناره الخفيفة ووسط الذهب العقيم دمعة غريبة» (ص48).
تدور هذه الأبيات كما ترى حول الشمعة، ولكن الشيء المحدود يدخل في أفق غير محدود من العلاقات الرمزية. فهناك البكاء والغربة والعقم أو الإحساس بالعبث والزوال، وكلها تكون المضمون الحقيقي للأبيات. لقد انقطعت صلتها بالشمعة، وأصبحت ترتبط بالحالة الوجدانية التي تعيش فيها هذه العذراء التي تريد أن تميت جسدها وجمالها (وهو فعل صوفي أصيل وقديم) كما ترتبط بالموضوعات الأساسية التي تشغل فكر مالارميه وأدبه. (ب) المثالية، المطلق، العلم
تلتقي نزعة البعد عن الواقع بنزعة أخرى إلى المثال. وقد يبدو مالارميه في بعض الأحيان في صورة أفلاطونية. وقد تؤكد هذا بعض عباراته التي توحي لأول وهلة بأنه أفلاطوني صميم. فهو يقول مثلا في إحدى قطعه النثرية التي سماها «ميداليات وشخصيات»: إن التغيير الإلهي، الذي يحيا الإنسان لتحقيقه، يسير من الواقع إلى المثال (ص522). هذا الاتجاه من الواقع إلى المثال، أو من أسفل إلى أعلى، هو في حقيقته شيء غير أفلاطوني؛ فليس للمثال هنا أي وجود ميتافيزيقي مستقل، كما أن كل الأوصاف الإيجابية التي يصفها به تظل غامضة كل الغموض.
والحقيقة أنه لا يتحدد إلا حين يصفه وصفا سلبيا فيسميه العدم
Le néant
وبذلك يخطو مالارميه الخطوة الأخيرة الحاسمة التي تكمل الخط الذي تتبعناه من بودلير ورامبو ووصفناه «بالمثالية الفارغة» أو «الترانسندنس الخاوي».
لا يمكننا أن نتتبع في هذا المجال كيف وصل مالارميه إلى فكرة العدم، ولا كيف تأثر فيها بالفلسفة الألمانية (هيجل وشيلنج وفشته) كما يرجح بعض الدارسين، فقد يناسب ذلك بحث آخر مستقل ولكننا سنقتصر على بعض الملاحظات التي تتصل بشعره قبل كل شيء. فالملاحظ أن مالارميه بدأ منذ سنة 1865م يستخدم في قصائده كلمة «العدم» للتعبير عن نفس الموضوعات التي كان يعبر عنها في قصائده السابقة بكلمات مثل «زرقة السماء» أو «الحلم» أو «المثال». صحيح أن الشاعر حر في اختيار كلماته، ولكن تغير الكلمات هذا التغير الملحوظ يدل بغير شك على تغير في الموقف الفكري والفلسفي، وبخاصة إذا تذكرنا أن هناك كلمات معدودة تتكرر في قاموس كل شاعر كبير ويمكن أن تكون دليلا على منحاه الفكري والنفسي.
ومن أبرز الأمور دلالة على هذا الاتجاه عند مالارميه هذه العبارة التي يقولها في إحدى رسائله سنة 1866م: «العدم هو الحقيقة.» ومن أبرز النصوص أيضا هذا النص الهام المحير الذي أشرنا إليه من قبل وهو الذي جعل عنوانه الظرف اللاتيني
Igitur (بالتالي - ولهذا السبب) والذي كتبه سنة 1869م. والنص محير كما قلت؛ محير في طريقة كتابته التي تشبه الكلمات المتقاطعة التي تنتشر على الصفحة بغير ترتيب كما تنتشر النجوم على صفحة السماء.
والحق أنني لست متأكدا من فهم النص، ومع هذا فسوف أعرض عليك ما فهمته منه. إنه يتكلم عن شخصية غريبة تتأرجح بين المطلق والعدم، والمطلق يدل على حالة من المثالية تلاشت منها كل «مصادفات» وأعراض العالم المادي والتجريبي. ولكن الخطوة التي تؤدي إلى المطلق تمر بالمحال أو العبث (لاحظ ورود هذه الكلمة المشهورة في أيامنا عند مالارميه) أي تمر بمرحلة تتخلى فيها هذه الشخصية عن كل ما هو طبيعي ومعتاد وحي. ولكن المطلق - الذي لم يسمه بهذا الاسم إلا لأنه يدل على «الانطلاق» والخلاص من كل صلة بالزمان والمكان والأشياء - هو العدم نفسه في نهاية الأمر.
يقول «إجيتور» في نهاية القسم الثاني تحت عنوان «يترك الغرفة ويضيع بين السلالم» (ص439 ): «دقت ساعة الرحيل. سيحل نقاء المرآة، بغير هذه الشخصية، رؤية ذاتي، لكنه سيحمل النور معه! الليل! فوق الأثاث الفارغ، احتضر الحلم في هذه القنينة الزجاجية (التي تحمل السم!)، نقاء، يشتمل على جوهر العدم.»
إن «إجيتور» يحاول الفكاك من أسر الصدفة والخروج من ممر الزمن بماضيه وحاضره، والعودة إلى ذاته خلال النظر في المرآة، والوصول إلى المطلق واللامتناهي عن طريق التحرر من الصدفة. إنه يفعل كل ما يستطيع ليتحرر منها ويلغيها: يغلق الكتاب، يطفئ الشمعة، يضرب الزهر، يرقد على ذرات تراب الأجداد، يشبك ذراعيه على صدره. غير أن المطلق يتلاشى. ويتبين أن كل فعل يقوم به مع الصدفة فعل عقيم؛ لأنها توجد دائما ولا توجد، وتحتوي المحال أو العبث في حالة الكمون. ويهبط أخيرا إلى المقابر على شاطئ البحر ومعه قنينة السم التي «تحتوي على قطرات العدم التي يفتقر البحر إليها.» ويرقد المسكين على تراب النجوم، ويلقي الزهر أمامه، وعندما يسكن يكون الزمن أيضا قد توقف بكل ما فيه من حياة ومن موت، ولا يبقى في نهاية المطاف غير الفضاء الفارغ المطلق، أو العدم.
حرص مالارميه على ألا يغرق نفسه في تأملات نظرية عن العدم. وعلينا نحن أيضا أن نتجنب ذلك ما أمكن، وإن كان هذا لا يمنعنا من التنويه بأهمية هذه الفكرة في شعره. وينبغي ألا يغيب عنا على كل حال أن هذه الفكرة السلبية، بل أشد الأفكار في سلبيتها، قد نفذت بكل هذه القوة إلى إحدى قمم الشعر الحديث، لكي ترسل بعد ذلك ضوءها المعتم على الشعر المعاصر كله.
ومع ذلك فينبغي علينا أن نحذر من الخطأ الذي يمكن أن نقع فيه لو تصورنا هذا العدم من الناحية الأخلاقية أو فهمناه كما فهمه نيتشه على أنه «فقدان كل القيم لقيمتها». إن فكرة العدم عند مالارميه فكرة أنطولوجية تمتد جذورها بغير شك في الفلسفة المثالية. ولسنا في حاجة كما قدمت لأن ننسب للشاعر فلسفة معينة، ولكن يمكن أن نقول بوجه عام إن الشيء الذي يشغل مالارميه هو قصور الواقع وعجزه ، والاعتقاد بقصور الواقع وعجزه لا يصدر إلا عن فكر مثالي. فإذا كان المثال الذي يسعى إليه الشاعر ويقيس به الواقع من السمو والارتفاع بحيث لا يدركه التحديد بل يظل نوعا من عدم التحدد الخالص فلا بد في هذه الحالة أن يسمى بالعدم. وقد رأينا شيئا من هذا عند بودلير ووجدنا فيه تفسيرا لضيقه بالواقع والعصر والمدينة. ولا بد أن مالارميه قد تأثر بفكرته عن المثالية الفارغة ففهم من العدم أنه قوة عليا تقهر الروح وتسيطر عليها ولا بد أيضا أنه تأثر بذلك القدر العام الذي خيم على الروح الحديث فجعل الأدباء والشعراء يقفون من العقيدة والتراث موقف المعارضة أو الرفض في معظم الأحيان، فلا يتركون المثال الأعلى أو المتعالي كما سميناه فارغا أجوف فحسب (كما فعل بودلير ورامبو) بل يخطون خطوة أبعد فيحيلونه (كما فعل مالارميه نفسه) إلى عدم خالص.
إن عدمية مالارميه تعبر عن مطلب طبيعي للعقل الحديث الذي يستبعد كل المعطيات لكي يطلق العنان لحريته الخلاقة. إنها عدمية مثالية تنبع من تصميم هائل على التجريد، ورغبة في اعتبار المطلق جوهر الوجود الخالص (من كل المضمونات). ولو أن الأمر اقتصر على هذا لقلنا فلسفة كسائر الفلسفات. ولكن مالارميه حاول أن يقرب الأدب منها، ويجعل العدم حاضرا في اللغة نفسها، بقدر ما تسمح بذلك قدرته على تجريد الواقع أو تحطيمه واستبعاده.
المهم بعد هذا كله أنه لم يقدم لنا مجموعة من الأفكار النظرية التي يمكن الحصول عليها - وربما بشكل أدق وأكمل - في أي كتاب فلسفي، بل عبر عنها في شعر استطاع أن يحافظ على روحه الخالدة، ويبقي على خصائصه المميزة من غنائية وسحر وغموض وإيحاء. (ج) العدم واللغة
كيف استطاع مالارميه أن يحل هذه المشكلة؟
كيف أمكنه أن يعبر عن العدم بالكلمة؟
الواقع أن المشكلة الأنطولوجية الأساسية عنده تنصب على العلاقة بين العدم واللغة، وهي في نفس الوقت مشكلته كشاعر. وإجاباته عليها تحمل آثارا من فكرة اللوجوس (الكلمة، المعنى، الكل) عند الإغريق وان كانت مع ذلك لا تدل على أنه تأثر بهم بصورة مباشرة، وليس ببعيد - لمن يعرف شخصيته ومزاجه وأسلوب تفكيره - أن يكون قد فكر في المشكلة تفكيرا مستقلا. وليس ببعيد أيضا أن يكون قد تأثر - عن وعي أو غير وعي - بنظرية الرومانتيكيين في اللغة فسار بها إلى غايتها، دون أن يدري أن هذه النظرية تحمل أصداء بعيدة من التفكير اليوناني. مهما يكن من شيء فإننا نجده يكتب هذه العبارات في إحدى رسائله سنة 1867م: «أنا الآن غير شخصي. لم أعد أنا ستيفان الذي عرفته، بل استحلت إلى قدرة من قدرات العالم العقلي على رؤية نفسي وتفتيح طاقاتي وذلك عن طريق ما كانته ذاتي. لا زال في وسعي أن أنهض «بالتفتحات» التي لا بد منها حتما لأجل أن يجد العالم ذاتيته أو هويته في هذه الأنا.»
ومع أن هذه العبارات قد صيغت صياغة معقدة غير موفقة، فليس من الصعب أن نستشف معناها على وجه التقريب. يريد مالارميه أن يقول إن هناك «أنا» أو «ذاتا» أخرى قد حلت محل الأنا أو الذات التجريبية التي كان يعرفها في نفسه ويعرفها أصدقاؤه عنه. وهذه الأنا «غير شخصية»، وهي المكان الذي يحقق فيه العالم أو الكون «ذاتيته العقلية» والروحية، أو بمعنى آخر يصل إلى الوعي بنفسه.
ولنقرأ أيضا هذه العبارة التي كتبها في سنة 1895م: «إن جنسنا البشري قد وكل إليه شرف أن يعطي للخوف الذي تحس به الأبدية الميتافيزيقية المغلقة تجاه نفسها - والذي تحس به بطريقة تختلف عن إحساس الوعي الإنساني به - أن يعطي لهذا الخوف أحشاء» (ص391).
هذه العبارة المزدحمة بالصور الغامضة تكمل العبارات التي وردت في رسالته السابقة. وكلاهما يدور حول فكرة واحدة هي أن الموجود المطلق يتحقق في الإنسان باعتباره عقلا أي باعتباره لغة أو كائنا لغويا قبل كل شيء، بحيث يولد هذا المطلق في اللغة لا في أي مكان آخر. إن المطلق، أو العدم بتعبير مالارميه، يدعو اللغة - أو الكلمة اللوجوس - لكي يظهر فيها بصورته الخالصة، ولكي تكون المجال الوحيد الذي يتحقق فيه.
هذه الفكرة توضح كثيرا من الألغاز التي تحيرنا في أدب مالارميه، وفي مقدمتها تجريد الأشياء أو إحالة كل ما هو واقع إلى «الغياب»، أي التعبير عن الموجود الحاضر كما لو كان غائبا، على نحو ما بينا في بداية هذا الفصل. هذه الظاهرة التي نلاحظها دائما لديه ليست مجرد إدانة للواقع. إنها فعل ينبغي أن يفهم من الناحية الأنطولوجية؛ إذ تستطيع اللغة عن طريقه أن تحيل الشيء إلى «الغياب»، وأن تجعل هذا الغياب معادلا للمطلق (أو للعدم)، وتحقق الحضور الخالص (من كل صفات الشيئية والمادية) في الكلمة. أي أن ما يلغى ويتحطم من الناحية الموضوعية والواقعية عن طريق اللغة (وذلك عندما تعبر عن بعده أو غيابه أو عدمه، يعود فيتلقى من هذه اللغة نفسها وجوده العقلي، وذلك عندما تسميه).
هكذا يتأكد سلطان الكلمة في الأدب الحديث كما تتأكد قوة الخيال غير المحدود على أسس أنطولوجية. فالكلمة هي الفعل الخلاق للروح الخالص، ومن تمام حريتها ألا تقيم وزنا للواقع التجريبي، بل تترك لحركاتها الخالصة التي توجهها كيف تشاء أن تبعث إيقاعاتها وإيحاءاتها.
ولعل من أهم ما يتميز به مالارميه أنه لم يفهم هذه الحركات فهما ذاتيا، بل نظر إليها كأحداث أو أفعال أنطولوجية تحمل ضرورتها في ذاتها. وعلى الرغم من ذلك نجده يسمي «العقل المطلق» مخيلة، كما يسميه حلما، وقد استعملت الكلمتان من قبل للدلالة على حرية الخلق، والواقع أن ظهور الكلمتين عنده يفيدنا فائدة كبيرة، إذ يمكننا من تتبع الطريق الطويل الذي سارت فيه كلمة المخيلة (أو الخيال الخلاق) منذ أواخر القرن الثامن عشر حتى تسلمها القرن العشرون، ويستطيع القارئ أن يراجع ما قلناه عنها عند الكلام عن روسو وديدرو وبودلير ورامبو، ليرى كيف اتفقوا على أنها قوة تسمو على الواقع، لا بل ذهبوا إلى القول بأنها ملكة دكتاتورية طاغية.
لم يقف مالارميه عند هذا الحد بل ارتفع بالمخيلة إلى مستوى أعلى، أصبحت هي المكان الذي يتحقق فيه الوجود العقلي للموجود المطلق؛ بهذا تكون فكرة المخيلة قد تطورت تطورا طبيعيا حتى صارت إلى ما هي عليه عند مالارميه. وإذا دل هذا على شيء فهو يدل على وحدة البناء التي طالما أشرنا إليها في الشعر الحديث وفي «فن الشعر» الحديث على السواء.
وفكرة مالارميه عن المخيلة تبرر من ناحية أخرى أهم خصائص شعره، ألا وهو تحطيم الواقع. ويبدو أنه قد فطن إلى هذه الخاصية الأساسية قبل أن يجد الأساس الأنطولوجي الذي يفسرها. فهو يقول في رسالة له سنة 1867م إنه لم يستطع أن يخلق أعماله إلا بالحذف أو الاستبعاد، وإنه قد تعمق باستمرار في تجربة «الظلمات المطلقة». ثم يقول مشيرا إلى بياتريش حبيبة دانتي الخالدة: « أصبح التحطيم عندي هو بياتريش.»
وإذا كانت عبارات الشاعر التي يقولها عن نفسه لا تكفي بالطبع لتفسير شعره، فيكفي أن نرجع لبعض الكلمات التي يكثر من استعمالها. فمن هذه الكلمات التي يميل دائما إلى استعمالها للدلالة على تحطيم الواقع أو إبعاد الأشياء كلية
Abolition
أي الطمس أو الإلغاء والتحطيم. وهناك كلمات أخرى تعيش في جوارها أو تدور في فلكها مثل: فجوة، فراغ، بياض، نقاء، غياب، وكلها كلمات «سالبة» تعد مفاتيح هامة لفهم شعره وتأملاته النظرية في الشعر، وثمة كلمة أخرى تبدو إيجابية على عكس الكلمات السابقة، وهي كلمة «زهرة» التي ترد في بعض الأحيان في صور أخرى كالوردة أو السوسنة ... إلخ، وتدل في كل الأحوال على أن اللغة هي الجوهر الذي يميز الإنسان: «إن الإعلاء من شأن الكلمة معناه الإشادة بأخص ما يميز جنسنا البشري، وأدلة على صميم كيانه، ألا وهو اللغة» (ص492).
وهل تتجلى فاعلية اللغة بأقصى طاقتها إلا في الأدب؟
ها هي ذي عبارة أخرى توضح ما نقصده: «ما الفائدة إذن من تحويل واقعة من الوقائع الطبيعية إلى ما يشبه أن يكون تلاشيها التام عن طريق اللعب باللغة، إن لم تخرج من ذلك - بغير أن يزعجها القرب الوثيق - الفكرة الخالصة كما تنبثق الزهرة، أقول زهرة، فترتفع بالنغم فكرة حلوة معطرة، تفتقر إليها كل الباقات» (ص368).
ونحسب الآن أن هذه العبارات لم تعد في حاجة إلى تفسير. فها هو ذا الشاعر يفسر الأدب مرة أخرى كإلغاء للشيء، أو حذف للواقع، ثم يكمل هذه الفكرة بأن هذا الإلغاء أو الحذف لا يتم إلا لأن الشيء ينبغي أن يتحول في اللغة أو في الكلمة إلى فكرة خالصة أو ماهية عقلية. ولكن هذه الفكرة لا توجد أبدا إلا في الكلمة الشاعرة؛ ولهذا يقول إن الزهرة تفتقر إليها كل الباقات.
بهذا يصبح الأدب فعلا وحيدا يشع بأحلامه وألعابه وأنغامه السحرية في عالم محطم منهار. ويصبح ما يقوله في النهاية مجموعة من التوترات والاهتزازات والأشكال المجردة التي توحي بمعاني مختلفة لا حد لها.
وهكذا نلتقي مرة أخرى بفكرة الأرابيسك التي وجدناها عند بودلير، ونرى كيف توسع مالارميه فيها بحيث أصبحت «أرابيسك شاملة» أو بتعبير آخر يأتي بعده مباشرة «ترقيما صامتا بالرموز والألغاز».
23 (د) أظافرها الناصعة
لا شك أن العبارات السابقة لا تزال في حاجة إلى توضيح. وتوضيح المعاني النظرية التي يقوم عليها الشعر أو تعيش في «خلفيته» لا يتم إلا بتقديم نموذج منه نحاول أن نتذوقه بالأذن والقلب والعقل جميعا. ولذلك يحتاج الكلام السابق عن الفعل الشعري الذي يحطم الواقع الموضوعي ثم يعيد خلقه في اللغة إلى تفسير، والتفسير يحتاج إلى نص، والنص الذي نقدمه سوناتة تركها مالارميه بغير عنوان، وانتهى من صياغتها الأخيرة في سنة 1887م، وتبدأ بهذه الكلمات «أظافرها النقية أو (الناصعة)
24 » ... إلخ (ص68).
كتب مالارميه الصيغة الأولى للقصيدة في سنة 1868م وكانت كلماتها تختلف عن الصيغة التي بين أيدينا اختلافا كبيرا (راجع صفحة 1488 من الطبعة الكاملة)، وإن شابهتها تماما من ناحية الفكرة والموضوع. وقد استقبلت القصيدة لأول مرة أسوأ استقبال، وأعلن أصدقاء الشاعر الذين تناقلوها فيما بينهم (إذ لم تنشر إلا في سنة 1887م) يأسهم التام من فهمها ودهشتهم لغرابة قافيتها، وإن أبدى بعضهم إعجابه بالشاعر الذي يشرفه أن يتحدى أذواق الجماهير! مهما يكن من شيء فقد عمد مالارميه - على غير عادته - إلى التعليق على هذه القصيدة - أو على صيغتها الأولى - في خطاب أرسله في يوليو سنة 1868م إلى صديقه هنري كازاليس وقال فيه : «إنني أستخرج هذه السوناتة من دراسة شرعت في كتابتها عن الكلمة، إنها مقلوبة، أريد أن أقول إن معناها - إن كان لها معنى - (وأنا أعزي نفسي بالعكس بفضل ما تحتويه من الشعر) يوحى به انعكاس داخلي للكلمات نفسها. وإذا همس بها الإنسان عدة مرات شعر بإحساس سري غامض
25 ... إنها تتألف بقدر الإمكان من «الأبيض والأسود»، ويبدو لي أنها تصلح أن تكون نقشا محفورا مليئا بالحلم والفراغ. على سبيل المثال: نافذة ليلية مفتوحة، حجرة ليس فيها أحد، ليلة مكونة من الغياب والسؤال، بغير أثاث، اللهم إلا خطوط موائد غامضة مثبتة تحت مرايا (كونسولات) ومرآة معلقة في الخلفية في لحظة احتضار، تعكس «الدب الأكبر» بصورة نجمية غير مفهومة فتربط هذا البيت المهجور بالسماء» (ص1489). والتعليق على وعورته يصدق أيضا على النص في صيغته الأخيرة التي سأحاول تقديمها إليك بقدر ما تسعفني الترجمة:
بأظافرها الناصعة تمنح العقيق،
26
القلق، وتحمل كرافعة المشاعل في منتصف الليل
بعض أحلام السماء التي أحرقتها العنقاء،
27
ولم يتلقها وعاء رماد
على المناضد، في الصالة الخاوية: لا ثنية (قطعة) زينة مطموسة، عقمها يرجع الصدى
لأن المعلم قد ذهب يغرف الدموع من الستيكس،
28
ومعه هذا الشيء الفريد الذي يفاخر العدم به.
ولكن بقرب النافذة المواربة في اتجاه الشمال،
ربما يحتضر ذهب على طول الديكور،
29
الذي يصب منه وحيدو القرن النار على جنية الماء،
30
هي، السحابة المطفأة
31
في المرآة، وإن كانت
في النسيان المغلق في الإطار، سرعان
ما يسكن سباعي النغم
32
الباهر التلألؤات.
من الصعب كما أكدت مرارا أن نقدر هذا الشعر في غير لغته الأصلية. فالقصيدة تحيا على انعكاس الكلمات بعضها على بعض، ونتابع حركتها وفقا للأنغام ورنين الأصوات لا للمعنى. والقوافي في الأصل لها سحر غريب نافذ، ينبع من صوتها وندرتها؛ ولذلك تفقدها الترجمة أو أي ترجمة أخرى أهم ما يميزها، وهو الروح الموسيقية. وهناك كلمات يونانية غريبة الأصل، لم يضعها الشاعر ليضفي على قصيدته لونا محليا أو ليباهي بعلمه، بل ليزود النص بطاقة لغوية تثير الغرابة (وترى هذه الكلمات في هامش الترجمة).
ماذا تقول القصيدة؟ هل نستطيع أن نجد لها معنى؟ هل نتبين فيها حدثا أو فعلا؟
أول ما يقابلنا هو القلق
angoisse
الذي يسود القصيدة كلها. صحيح أنه يظهر في شكل رمزي، ولكنه خال من الحياة. ثم هناك الليل، والقاعة (أو الصالة) الخاوية، ومرآة، ونافذة مفتوحة، وذهب ينطفئ نوره. وهناك أشياء أخرى، ولكن وجودها لغوي فحسب؛ «فحلم المساء» «محترق»، وما من وعاء أو جرة رماد تتلقاه. وهناك الثنيات
33 (القصيدة تذكرها بالنفي فتقول لا ثنيات). ثم يأتي بيت هام يقول عن هذا الشيء المطموس إنه لا أهمية له
aboli bibelot
أو زخرف بلا قيمة، وإنه لا يوجد إلا في النغم وحده، وإن كان هذا النغم عقيما لا جدوى منه، لأنه عاجز وقاصر.
ثم نفاجأ ببيتين غريبين وضعهما الشاعر بين قوسين يقولان إن المعلم قد ذهب ليجلب الدموع من نهر في العالم السفلي، وإنه قد حمل معه هذا الشيء الفريد الذي يفاخر به العدم أو يشرف به.
ولكن من هو هذا المعلم؟ وأي مجد هذا الذي يفاخر به العدم؟ إن العدم يبلغ المجد عن طريق هذا الشيء المطموس الذي لا يوجد إلا في الكلمة التي تسميه. أي أنه لا يوجد وجودا «ماديا» وإنما يكون وجوده الخالص النقي في اللغة وحدها.
وجنية الماء النيكسي
Nixe
في المقطوعة الثالثة سحابة مطفأة أو ميتة. وإذن فكل الموجودات التي تسميها القصيدة غائبة، وليس بحاضر إلا النافذة والمرآة. ومن يعرف رامبو يعرف أنهما رمزان لاستشفاف اللامتناهي أو المتعالي. وكل ما عداهما من أشياء يلغى أو ينطمس في نفس الوقت الذي يولد فيه في اللغة وتسري في النص كله عملية انطفاء أو موت تدريجي تصاحب الانتقال المستمر من «الحضور» إلى «الغياب».
وفي النهاية نسمع أن لألأة النجوم «سرعان» ما تسكن أو تهدأ ونلمح من هذا أن الزمن الذي كان أقرب إلى السكون في المقطوعتين الأوليين، سينتقل إلى حالة «اللازمانية أو الأبدية» أو المطلق؛ أي أنه «سيكون» في المستقبل. والسر في هذا أن القصيدة لا تستطيع أو لا تريد أن تقترب من المطلق إلا في صيغة المستقبل أو الافتراض والاحتمال، كما لم تستطع أو لم ترد أن تقرب من الغياب (أو العدم) إلا عن طريق الرمز. ولو أنها حاولت أن تنقل المطلق (اللازمانية واللاشيئية) إليها لما أمكن على الإطلاق أن توجد كقصيدة، ولأصبحت لحظة صمت أو بقعة بيضاء فارغة (وخواطر مالارميه مليئة بحبه العميق للبياض والورق الأبيض الناصع الذي كان لا يمل النظر فيه ساعات طويلة!). إن اللغة تقف عند الحد الأخير الذي تستطيع فيه - عن طريق طمس الأشياء - أن تخلق بالكلمة النافية السالبة ذلك المجال الذي يمكن أن يدخله العدم. ودخول العدم يصحبه الخوف والقلق (الذي يسيطر على القصيدة كلها كما قدمنا). هذا القلق هو الذي ينتشر ويغرق الأشياء القليلة الباقية، ويجعلها مخيفة ورهيبة، بل يزيد من خوفها ورهبتها أن كل ما يجاورها من أشياء قد غاب وانطمس وسقط في لجة الظلام والعدم. كل هذا من عمل اللغة. وما يحدث في عالم اللغة لا يمكن أن يحدث في أي عالم واقعي. (13) النشاز في شعر مالارميه
حاولنا في السطور السابقة أن نقدم هذا الشاعر العسير في ثوب متجانس ما أمكن. وهذه المحاولة شيء يلجأ الدارس إليه بالضرورة، حتى ولو خالفت الواقع الأدبي والفكري الذي يعالجه. والحقيقة التي لا يمكن أن تغير منها الدراسة هي أنه شاعر صعب معقد، لغته مليئة بالغرائب والألغاز. هناك صدع يشق بناءه الفكري كله، وهو نفس الصدع الذي لاحظناه من قبل عند بودلير ورامبو بين اللغة والمثال، والإرادة والقدرة، والطموح والغاية. ولكن مالارميه يزيد هذا الصدع عمقا حين يبرره تبريرا أنطولوجيا. ومع ذلك فليس هذا الصدع سوى وجه من وجوه الظاهرة التي لاحظناها في الشعر الحديث كله ووصفناها بالنشاز الذي يسيطر على بنائه. ولعل الفارق الذي يميز مالارميه عن الشعراء الذين سبقوه هو أن هذا النشاز قد أصبح عنده، إن صح هذا التعبير، نشازا أنطولوجيا.
لننظر في هذا الكلام، كما فعلنا من قبل وكما ينبغي أن يفعل الدارس دائما على ضوء بعض النصوص. هناك كلمات تتردد كثيرا عند كل شاعر، وتدل إذا أحسنا النظر فيها على عالمه الشعري والنفسي والفكري. من هذه الكلمات عند شاعرنا: الصخرة، الغرق، السقوط، الليل، العبث والزوال ... إلخ. وكلها مفاتيح لتجربة كبيرة واحدة هي تجربة الفشل والخيبة (بشرط ألا نفهمها فهما نفسيا أو ذاتيا بل فهما فلسفيا وأنطولوجيا يرمز إلى العجز عن الوصول إلى المثال والمطلق، والسعي إلى بديله الوحيد وهو العدم الذي يحاول الشاعر أن يظهره في مجاله الوحيد وهو اللغة).
غير أن الفشل لا يظهر في الكلمات وحدها؛ إنه يعبر عن نفسه أيضا في الحدث الرمزي للقصيدة كلها. وهذا الفشل على نوعين: فشل اللغة تجاه المطلق (ونستطيع أن نسميه تجاوزا الفشل الذاتي)، وفشل المطلق تجاه اللغة (ونستطيع أن نسميه الفشل الموضوعي).
وقد قدمنا أمثلة عديدة للنوع الأول نستطيع الآن أن نستكملها بأمثلة أخرى. يقول الشاعر في إحدى العبارات الأخيرة من القطعة التي أشرنا إليها من قبل (إجيتور ص451) إنني أستخرج الكلمة لكي أغمسها من جديد في عقمها (عبثيتها أو لا جدواها)
34 ... ويقول في موضع آخر من التنويعات على لحن واحد (ص371): «إن كل ما يقدمه الإنسان للمثال كمركبة أو مسكن إنما يناقض طبيعته.» ويستطرد في نفس الموضع فيقول: «إن العمل الأدبي ووسائله يلطخان بعضهما البعض بالتبادل» (ص371).
ولعل تفسير هذه العبارات الغامضة هو أن المثالية التي يريد الأديب أن يحققها في عمله تظهر ما في اللغة من عجز وقصور وانحطاط؛ تمنع تحقيق ذلك المثال الأسمى.
وإذا تركنا «إيجتور» جانبا وجدنا عملا آخر من أعمال مالارميه المتأخرة (يتميز بالطبع الغريب لكلماته التي رتبت كما قدمت على طريقة الكونترابنكت في الموسيقى ووزعت على الصفحات كأنها نثار من النقط أو النجوم على صفحة السماء) وهو قصيدته المسماة «ضربة زهر».
35
وموضوع هذا النص العسير هو أن العدم أيضا لا يمكن الوصول إليه، لأن الفكر لا يمكنه الإفلات من الصدف (في اللغة وفي الزمن)؛ ولذلك يصبح الإنسان هو «أمير الصخور المر».
ونذكر بعد هذا قصيدته «أغنية لاسنت»
36
التي تعد تعبيرا عن فن الشعر لديه، وهي أشبه بقصيدة فيرلين المشهورة «فن الشعر»
37
وإن كانت تختلف عنها من حيث الغموض الشديد الذي حير المفسرين والشراح. والواقع أن القصيدة من أكمل السوناتات التي كتبها مالارميه، وهي عمل فني خالص، كتب من أجل الفن وحده، وينبغي أن نستمتع بسماعه أو برؤيته مطبوعا في كتاب فحسب؛ إذ إنه - كما يقول هنري شار بنتيير (ص1474) - لا يتجه إلى القلب ولا إلى العقل، ولا ينفع فيه التحليل النحوي أو المنطقي. وموضوع القصيدة يدور حول عجز اللغة وقصورها عن الوصول إلى هدفها المثالي، أو إلى الجمال المحض الذي تذكره في آخر مقطوعاتها. والمقطوعات العشر الأولى تحتوي على نداء للشعر الذي يتجه إلى غاية سامية - أسمى من أن يبلغها الإنسان أو اللغة - وتدور حول إمكانية خلقه. ولكن الشاعر - الذي يخاطب شقيقته فيما يشبه الحلم - يرى أرض الشعر أو جزيرة الجمال المحض من بعيد ولا يستطيع أن يملك رؤاها، فأرضها ذات المائة زنبقة ليس لها اسم يمكن أن يهتف به «ذهب البوق الصيفي»، وأزهار الزنبق فيها تختلف عن كل الأزهار، وبراعمها تتفتح دون أن نستطيع الحديث عنها، وجزيرة الشعر تبتسم للشاعر الذي يريد أن يدنو منها، ولكنها لا تمكنه أبدا من دخولها:
لكن هذه الأخت العاقلة الرقيقة
لم تلق بنظرتها إلى أبعد
من ابتسامة، وأنا كما لو كنت أسمعها،
أؤدي واجبي القديم.
آه! فلتعلم روح الشقاق
في ساعة صمتنا هذه
أن براعم الزنابق العديدة
قد نمت أكبر من عقولنا.
الهدف يلوح للمسافر وعليه أن يجاهد ليقترب منه. إنه يحمل معه مجد الشوق القديم، وأفكارا، وكل شيء فيه يلتهب رغبة في أن يعرف كيف ستستطيع «عائلة الزنابق أن تنهض بالواجب الجديد»، لا بد أن يواصل جهاده (ضد المادة والواقع والأشياء، وضد الكلمات والألفاظ المثقلة أيضا) ولا بد أن تستمر «روح الشقاق» التي تسكن هذه القصيدة، أي يستمر الصراع بين الإرادة والهدف، والطموح والغاية، وأن يعرف الشاعر في مرارة أن «تلك الأرض موجودة» (أي أرض المثال أو جزيرة الجمال) وأن قدر الشعر والشاعر معا أن يجربا الارتفاع إليها والبحث عنها، ويجربا كذلك الفشل في بلوغها. وليس هذا بالفشل المطلق؛ فيكفي أنه يدل على وجود المثال.
نخرج من هذا كله بأن مالارميه يسير في نفس الخط الذي سار فيه بودلير، وإن كان يزيد عليه أنه يكمل ما بدأه «أبو الشعر الحديث» ويدعمه على أساس أنطولوجي. ويتجلى هذا بصورة أتم فيما سميناه «بنزعة التجرد من البشرية» أو طرح «البشرية» التي قلنا فيما سبق إنها من أهم ظواهر الشعر الحديث.
ويبدو أن مالارميه قد سار هنا خطوة أوسع بكثير من بودلير ورامبو، ووصل بهذه الظاهرة إلى أقصى مدى ممكن. فهو - أي مالارميه - قد نقل مصدر الشعر والفكر من الإنسان إلى الوجود المطلق نفسه، ولذلك فقد كان عليه أيضا أن يعتبر أن النشاز الكامن في الروح والفكر والشعر الحديث - وقد تكلمنا عنه فيما تقدم - ليس من صفات الإنسان فحسب، بل كذلك من صفات الوجود المطلق نفسه. ولا بد أن تكون النتيجة مخيفة وهائلة. ولا بد أن تكون صدمة الفشل رهيبة ومفجعة - بل أشد رهبة وهولا مما كانت عليه في أي وقت مضى. فبعد أن كان الاتصال بالمثال أو المتعالي ممكنا (عند من سبقوه من الشعراء بل عنده أيضا في مراحله المبكرة) أصبح هذا الاتصال الآن بين الإنسان والمثال مستحيلا. وليست اللغة وحدها هي العاجزة عن تحقيق المطلق فيها، بل إن المطلق نفسه - وهذا هو الجديد المخيف كما قدمت - عاجز عن الاستجابة لنداء اللغة. والنتيجة المحتومة هي أن يخضع قطبا التجربة (اللغة والمطلق) لقانون الخيبة والفشل. صحيح أن الشعر أو الأدب والفن بوجه عام يظل هو أعلى الإمكانيات في هذه التجربة، ولكن الصدع أو النشاز الأنطولوجي سيبلغ قمته وسيصب على اللغة أقصى قدر من مرارة الفشل والشقاء. هل معنى هذا أن فشل اللغة والأدب فشل مطلق؟ بالطبع لا. ولكنها - إن سمح القاري بهذه المفارقة - ستنجح عن طريق الكلمة في شيء واحد، هو التعبير عن الفشل في تحقيق الاتصال بين الإنسان والمثال. ولعل عبقرية مالارميه تكمن في أنه عبر عنه بأسلوب هادئ وصوت هامس مكتوم .
لنطبق هذا الكلام على الشعر نفسه، والقصيدة الأولى هي «مروحة أخرى»
38 (إشارة إلى قصيدة مروحة التي أهداها لزوجته وقدمناها من قبل) التي أهداها لابنته جنيفييف، وقد كتبها في سنة 1884م، ونشرت في المجلة النقدية
39
ثم أعيد نشرها ضمن مجموعة أشعاره سنة 1887م، ولحنها الموسيقى الكبير كلود دوبيسي سنة 1913م. لنستمع الآن إلى المروحة نفسها وهي تخاطب سيدتها وتصف حركاتها وسكناتها في خمس مقطوعات أشبه بالريشات الخمس في هذه المروحة (ص58):
أيتها الحالمة، لأجل أن أغوص
في متعة صافية بلا طريق،
40
تعلمي، بكذبة بارعة،
حمل جناحي في يدك.
41
طراوة (النسيم) في الغسق
تأتيك مع كل خفقة
تزيح ضربتها السجينة
الأفق في نعومة
دوار! ها هو ذا الفضاء
يرتعش كقبلة كبيرة
جنت لأنها ولدت لغير إنسان
فلا تستطيع أن تنبثق ولا أن تهدأ.
هل تشعرين بالجنة القاسية
42
كمثل ضحكة مدفونة
تنساب من زاوية فمك
على الملامح البديعة!
صولجان الشطآن الوردية
الآسنة فوق الأمسيات الذهبية،
هو هذا الرفيف الأبيض المطوي
الذي تسندينه على نار أسورة.
43
في هذه القصيدة حدثان، أحدهما مادي والآخر عقلي. أما الأول فهو في منتهى البساطة: مروحة في يد فتاة رقيقة، والمروحة تفتح ثم تطوى. هذا الحدث البسيط يتفق تمام الاتفاق مع حدث عقلي أو روحي آخر، بل يكاد يرمز له. فالمروحة تجسد الرغبة الضالة (بلا طريق) في الارتفاع إلى أعلى، أي إلى المثال البعيد غير المحدود. غير أن «الفضاء» - الذي يقوم مقام هذا المثال - يرتعش كالقبلة الكبيرة التي جن جنونها إذ ولدت فلم تجد أحدا يتلقاها، فلا هي تستطيع أن تنبثق ولا هي قادرة على أن تهدأ أو تستريح. القبلة إذن تقاسي من العزلة، وكذلك المطلق معزول، لأن «قبلته» لا تجد العقل أو الروح الذي يتلقاها. لذلك تطوى المروحة أي تخيب الرغبة المتطلعة للمثال، فتنطوي على نفسها، ولا يبقى منها غير «الابتسامة المدفونة»، أي الوعي بالفشل المزدوج. هل ضاع كل شيء؟ لن يبقى شيء واحد: شواطئ وردية راقدة على ذهب الأمسيات، أي ذلك البريق الذي يشعه المطلق. يبقى من ناحيتين؛ فهو لا يتقدم للأمام ولا يصبح ضوءا كاملا، ولكنه يبقى في الكلمة التي تخلده، الكلمة التي جربت عبثا أن تعانق المستحيل. الكلمة إذن عاجزة، ولكن العدم يستطيع - على الرغم من عجزها ومن عزلته - أن يجد فيها مكانا يحل فيه. والمقطوعة الأخيرة تعبر عن هذا بطريقتها الرمزية حين تقول: «إنه هو، الرفيف الأبيض المطوي، الذي تسندينه على نار أسورة.» ولا بد أن القارئ قد أحس بروح الكآبة والاستسلام والمرارة التي تسري في هذه القصيدة المعتمة الجميلة!
أما القصيدة الثانية فهي «أغنية صغيرة»، يعطيها الشاعر رقم «2» (ص66). ويصعب ترجمتها ترجمة مفهومة، لأنها تخالف بناء العبارة في اللغة الفرنسية، وتقدم الحال والفعل والإضافة على الفاعل، ربما لتشعر القارئ بأنها بهذه الإطالة تريد أن تؤخر الحقيقة التي تنطق بها لتزيد من أهميتها، ولنحاول أن نقدم الأغنية في ثوب نثرى يقرب معناها فهي تحكي عن صوت غريب جامح، دوى في الغابة الصغيرة في «غضب وسكون» وضاع في الأعالي، بينما راح يلاحقه بالأمل والرجاء. لم يتبع الصوت أي صدى، فهو صوت طائر لا يتاح للإنسان أن يسمعه مرتين في حياته. هذا الموسيقي القاسي (الطائر) يشهق شهقة معذبة، ولكنها تتلاشى مع الشك فيما إذا كانت تنبعث من صدره أو من صدر الشاعر. وأخيرا يسقط الطائر ممزقا على أحد الدروب!
ويبدو من القراءة الأولى للأغنية الصغيرة أنها تعبر عن تجربة مؤلمة فشل فيها الشاعر - الذي يتحدث فيها بضمير الأنا - في تحقيق مثل أعلى، ولكن القراءة الثانية ستكشف عن نجاحه في التعبير عن فعل أنطولوجي وتوفيقه في خلق الصورة الملائمة له.
فالصوت الجامح يتردد من الأعالي في نغمة معذبة هادئة، لكي يقهر بعد ذلك ويضيع. وهو يتردد في نفس اللحظة التي يتطلع فيها «أملى إليه» (أي نزوعي إلى المطلق). إنه صوت طائر لا يسمعه الإنسان في حياته مرتين، أي صوت المطلق. غير أنه يصمت ولا يصل إلى السامع، على الرغم من إلحاحه ودويه المجنون. فهو إذن - أي المطلق - منعزل وبعيد، مهما صدر عنه من إشارات أو إشعاعات أشبه بالفنارة الغارقة في ظلمات الليل والبحر. ثم تند شهقة لا نعلم مصدرها، وتتلاشى في غمرة الشك. أتكون قد انبعثت من صدري لأنني لم أسمع صوت الطائر (المطلق) أم انبعثت من صدر المطلق لأن صوته لم يصل إلي؟
وتنتهي تجربة الفشل المضاعف بسقوط الطائر ممزقا على الدرب.
والتعبير في القصيدة يتعمد الابتعاد عن القطع واليقين، ويترك القارئ في حالة الشك والشعور بأن كل شيء محتمل وليس بواقع أكيد. وكأن الشاعر يتجنب العبارة المحددة ويتعمد أن توحي رموزه بمعاني متعددة، بعد أن وصل إلى أقصى حدود التجربة الوجودية واللغوية معا. قد يكون هذا فشلا آخر، ولكنه فشل مقصود: إن الشاعر لا يريد لمأساة الوجود والعدم أن تنسى أو تستهلك عن طريق الكلمة الثابتة أو الفهم المحدد، ولهذا فهو يحميها بالأغنية الهامسة اللماحة من ذلك المصير.
يتحدث الكاتب والروائي الألماني جان باول (1763-1825م) في كتابه الهام «الإعداد للاستطيقا»،
44
في فصل بعنوان «الشعراء العدميون»
45
عن «روح العصر الحاضر» الذي يريد أن يدمر العالم والكون بدافع من شهوة الأنا لكي يستطيع أن يخلق لنفسه مجال الحرية في العدم بدلا من الانصراف إلى تقليد الطبيعة.
وتكاد هذه العبارة أن تكون حدسيا بالحالة التي آل إليها الشعر الحديث من أيام بودلير إلى اليوم. وهي تصدق على شعر مالارميه أكثر من أي شاعر سواه، مع فارق واحد وهو أن «شهوة الأنا أو طغيانها» قد أخلت مكانها في شعره لنوع من استقلال العقل أو تجرد الروح حاول أن يبرره تبريرا أنطولوجيا. وقد تختلف الآراء حول هذا التبرير وهل أفاد شاعريته أو أضر بها، ولكن لا خلاف في أن هذا الرجل الهادئ المتواضع الذي تفانى في إخلاصه لفنه كان في غاية الأمانة حين تقبل الموقف السلبي الذي قدر على الشعر الحديث، وفكر فيه إلى آخر الشوط، ووفق إلى حد كبير في التعبير عنه، ومن الطبيعي أن يكون شعره غامضا مظلما، ولكن اتساقه مع نفسه يكفل له حق البقاء. وسيظل هناك دائما من يعجب بجمال شعره وصفائه وسحر موسيقاه (التي تعجز للأسف كل الترجمات عن القرب منها). (14) سحر اللغة وكيمياء الكلمة
يبدو أن كلمة رامبو هذه قد تركت تأثيرها القوي على مالارميه؛ فقد اهتم اهتماما كبيرا بالكتابات السحرية، بل يقال إنه قرأ كتابات الأسرار المأثورة عن العصر اليوناني المتأخر والمنسوبة إلى هرميس مثلت القوة (هرميس ترسمجيستوس) بشغف كبير، وشجع ترجمتها إلى اللغة الفرنسية رتراسل مع مترجمها ميشليه. ولا بد أنه فطن إلى تأثيرها على الشعر إذ يقول في فقرة بعنوان «سحر» ضمن كتاباته النثرية: «إن هناك قرابة خفية بين الطقوس القديمة وبين السحر الكامن في الشعر.» ولذلك فإن الشعر عنده إهابة أو (تعزيم، تعويذ) بالأشياء المتكتمة في غموض مقصود عن طريق الكلمات اللماحة غير المباشرة، أما الشاعر فهو «ساحر الحروف» (ص399) وأما أسلافنا فقد كانوا كيمائيين (بالمعنى القديم المعروف عنهم في العصور الوسطى كما تقدم).
ولا يعني هذا بالطبع أن مالارميه كان يمارس طقوس السحر أو ينتمي للجمعيات السرية، ولكنه يعني أنه كان مقتنعا بالصلة العريقة بين الشعر والسحر.
ولا شك أنه قد شارك مشاركة قوية في نزعة الشعر الحديث كله إلى الجمع بين الشعر التأملي المجرد والتعبير عن أعماق النفس الضاربة في جذور السحر ونماذجه وشعائره القديمة، ولا شك أيضا أن السحر اللغوي في أشعاره كان هو الوسيلة التي استطاع عن طريقها - بالإضافة إلى غموض مضموناته - أن يخلق فيها تلك القدرة الهائلة على الإيحاء، وأن يخلصها من المعاني الثابتة والكلمات المباشرة والأساليب الجامدة والفهم المحدود. وسحر اللغة عنده يكمن في قوة تأثير النغم وطاقة الكلمات على تحريك الشاعرية نفسها. ويكفي أن نذكر كلمته المشهورة: «إن الشاعر يترك للكلمات حرية المبادرة» (ص366). كما نذكر العبارة التي يقول فيها: إن إيقاع اللامتناهي يأتي من استخدام الكلمات الملائمة بل الكلمات اليومية الشائعة، عندما يمر الإصبع «المتسائل» على «بيانو الألفاظ» (ص648). وسيعرف قارئ مالارميه بنفسه أن بعض قصائده لم تنشأ في الأصل عن فكرة أو معنى بل بدافع من الطاقة اللغوية التي تحملها الكلمات التي تستطيع - برنينها ونغمها الصوتي وحده - أن تستدعي كلمات أخرى ، ويظهر هذا بوضوح إذا راجعنا بعض قصائده في صياغتها الأولى وقارناها بصيغتها الأخيرة. ولولا خوفي أن أثقل على القارئ لعرضت عليه بعض النصوص الأصلية التي تبين كيف يأتي الشاعر في بعض الأحيان بكلمة لا تتصل بالموضوع ولا الفكرة، وإنما ترتبط بكلمة أخرى بنغمة معينة.
46
ولذلك فهناك أبيات كثيرة من شعره تثبت في الذاكرة وإن لم يتصور العقل لها أي معنى. ويؤكد هذا ما يقوله فاليري من أنه كان يستطيع أن يحفظ أغرب أبيات مالارميه، على الرغم من أن ذاكرته الضعيفة لم تكن تحتفظ بشيء على الإطلاق! ونستطيع نقول دون أن نخشى الوقوع في التعميم إن هذه الظاهرة تنطبق على نماذج كثيرة من الشعر الحديث، فكم من أشعار يحفظها الناس ويرددونها دون أن يفهموها! بل إن هذا قد يكون في بعض الأحيان مقياسا صحيحا لجودة القصيدة أو رداءتها! (15) الشعر الخالص
يمكننا الآن أن نتناول اصطلاحا أشرنا إليه مرات عديدة في سياق الكلام، ألا وهو اصطلاح الشعر المحض أو الشعر الخالص
وقد ورد ذكره في بعض نصوص «سانت بيف» وبودلير وغيرهما، كما ورد كذلك في كتابات مالارميه. والنقاد والدارسون في القرن العشرين يقصدون به نظرية في فن الشعر تستند إلى إنتاج مالارميه و«الرمزيين». أما مدلول الاصطلاح نفسه فيجب البحث عنه في كلمة «خالص» التي تتردد كثيرا في كتابات مالارميه النثرية والشعرية. فالكلمة تعني دائما «خالص من شيء ما»، وهو نفس معناها عند «كانت» الذي يصف التصورات (في مقدمة كتابه نقد العقل الخالص) بأنها تكون خالصة حين تخلو من كل ما يتعلق بالإحساس أو بالعيان. ومالارميه يقصد بها نفس الشيء تماما. فإذا قال إن الشيء خالص كان غرضه من ذلك أنه نقي من كل الشوائب التي يمكن أن تلحق به فتفسد ماهيته وحقيقته النقية. ويمكن أن نرجع إلى إحدى رسائله التي كتبها في سنة 1891م لنتبين معنى الكلمة بوجه عام من هذه العبارة: «تبديد الأشياء واستهلاكها باسم نقاء أساسي.»
شرط النقاء أو الخلاص الشعري إذن هو التجرد من الأشياء أو نفيها وإلغاؤها على نحو ما أشرنا في الفصول السابقة، ولا يقتصر الأمر على هذا، بل إن كل خصائص الشعر الحديث التي تعرضنا لها تتجمع في هذه الفكرة كما استخدمها مالارميه وسلمها للأجيال التالية. فهي تعني إهمال مواد التجربة اليومية والمضمونات التعليمية أو الهادفة، وصرف النظر عن الحقائق العملية والمشاعر العادية، ونشوة القلب أو التطرف في الانفعال. وعندما يخلو الشعر من كل هذه العناصر يصبح قادرا على الإيحاء والسحر اللغوي الذي تحدثنا عنه. بهذا تستطيع الطاقات اللغوية - التي تكمن بعيدا عن وظيفة التفاهم والتواصل اليومية للغة، أو تحتها وفوقها إن شئت - أن تجرب وتجرب، وتوفق إلى النغم المؤثر المتجرد من المعنى الذي يحيل بيت الشعر إلى «تعويذة سحرية» ويضفي عليه قوتها وتأثيرها.
وقد تكلم مالارميه كثيرا عن الصلة الوثيقة بين الموسيقى والشعر، واتخذت بعض عباراته بمثابة تعريف للشعر الخالص، أو ساعدت على الوصول إليه. فالناقد الفرنسي برن-جوفروي
A. Berne-Joffroy
يقول مثلا في سنة 1944م: «الشعر الخالص هو اللحظة العليا التي ينسى فيها البيت - بطريقة منسجمة متجانسة - مضموناته. إنه الشعر الذي لم يعد يريد أن يقول شيئا، وإنما يريد أن يغني فحسب.» ومع ذلك فلا ينبغي أن نفهم من كلام مالارميه عن الموسيقى ما يفهم منها عادة من حلاوة النغم أو عذوبة الأصوات؛ فالواقع أنه يقصد بها نوعا من الرفيف أو الذبذبة التي لا تقتصر على الأصوات وحدها بل تمتد كذلك إلى المضمونات العقلية للشعر وتوتراته المجردة، وكلها تتجه إلى الأذن الداخلية - إن صح هذا التعبير - أكثر مما تتجه إلى الأذن الخارجية. يبقى أن نقول إن فكرة مالارميه عن الشعر الخالص تتلاءم تماما مع الأسس العامة التي يقوم عليها. إنها - بمعناها السالب أو النافي الذي فهمنا منه النقاء من كل العناصر الشائبة - هي المعادل النظري لفكرة العدم التي يدور حولها شعره.
ونستطيع أن نقول إن هذا الشعر الخالص لا يصدق على شعر مالارميه وحده، بل يتعداه إلى كل شعر - قديم أو حديث - لا يقصد إلى إثارة الإحساس أو التعبير عن أفكار ومضمونات، بقدر ما يريد أن يكون «لعبا» تمارسه اللغة والخيال. (16) الخيال المتسلط، التجريد والنظرة المطلقة
تكلمنا في الفصول السابقة عن الخيال المتسلط أو الدكتاتوري. وهذا الخيال يظهر أيضا في شعر مالارميه لتحل صوره محل الواقع الذي لم يعد يهمه أن يصفه ولا أن يعرف نظامه الموضوعي. إنه يعمل بشكل أكثر هدوءا وهمسا مما كان عليه عند رامبو، ولكن هذا العمل الهادئ الهامس له وزن الفعل القائم على أساس أنطولوجي، كما تظهر فكرة التجريد ضمن الأفكار التي يوحي بها، على نحو ما رأينا عند كل من بودلير ورامبو. إن الخيال بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة يوازي التجريد، تؤكد هذا عبارة ترد في معرض كلامه عن ريتشارد فاجنر إذ يقول إن الروح الفرنسية - التي تكره حكايات الخوارق والأبطال - روح خيالية بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ومجردة، أي شاعرية (ص544) والشاعرية هنا مقصورة بالمعنى الذي فهمه الإغريق عن الشعر من أنه صنعة وإنتاج. وبجانب هذه الفكرة نجد فكرة أخرى عن النظرة المطلقة التي يشرح مالارميه معناها في مقاله عن «الباليهات» (ص303-307) بقوله: «ليست الراقصة امرأة ترقص، بل هي استعارة تحتوي في ذاتها على صورة أولية من صور كياننا؛ سيف، أو كأس، أو زهرة ... إلخ. وهي لا ترقص، بل توحي بكتابة جسمها بشيء لا يستطيع النص أن يؤديه إلا بطريقة ملتوية» (ص304).
الرقص إذن تجسيم بصري للفكرة، أي أن الذي ينظر إلى الراقصة يرى من خلال مظهرها المادي صورة أولية من صور الوجود الإنساني، وهذا يأتي من «نظرة غير شخصية براقة، مطلقة» (ص306). قد يخيل إلينا أننا نلمس في هذا كله مسحة أفلاطونية، ولكننا لا نلبث أن نقرأ هذه السطور في نهاية المقال: «تقدم إليك الراقصة، من خلال النقاب الأخير الذي يبقى دائما، عري (أو صفاء) أفكارك وتسجل رؤيتك في صمت، في صورة رمز (أو علامة) هي الراقصة نفسها» (ص307).
لا نلبث كما قلت أن نتبين أن الفكرة غير أفلاطونية. فالذي ينظر لا يرى حقائق موضوعية ثابتة أو نماذج أولية خالدة - كما هو الحال مع المثل عند أفلاطون - بل يرى صورا أولية من عقله أو ذاته هو يسقطها على الظاهرة التي يراها ليحولها إلى علامات أو رموز تدل على ذاته وكيانه هو. ولا يتم هذا إلا «بنظرة مطلقة» تستطيع أن تنفذ في الظاهرة - دون أن تتحول مع ذلك عن ذاتها - لترى فيها رموزا على حركتها وجوهرها الباطن. ومن هنا يعد مقال «الباليه» أقوى دفاع عن فعل الخلق الحر المطلق من كل قيد، كما يصلح تعبير «النظرة المطلقة» أن يكون شعارا يصدق على الشعر المجرد عند مالارميه وأتباعه، بل يصدق كذلك على الرسم الحديث الذي يصرف النظر عن الموضوعات الخارجية ليستبدل بها بناء متشابكا من الخطوط والأشكال والألوان.
إذا طبقنا هذا الكلام على شعر مالارميه وجدناه يقلب نظام العالم الخارجي، ويجرد الظواهر والأشياء من النسق المألوف في الزمان والمكان. وهو في هذا قريب من شعر رامبو، وإن اختلف الأساس الفلسفي عندهما اختلافا شديدا. ويمكن أن نمثل لهذا ببعض إنتاجه ...
فأحد مقالاته (والمقالات أيضا أدب!) بعنوان «اللذة المقدسة» يبدأ بعبارات لا يمكن أن نفهمها بالمقاييس العادية إلا إذا ترجمناها على النحو التالي: «في الخريف يعود سكان باريس من الصيد ويذهبون إلى المسرح، ويسلمون أنفسهم لسحر الموسيقى.» فإذا نظرنا إلى النص الأصلي (388) وجدناه يقول: «الريح تدفع الناس للعودة من الأفق إلى المدينة عندما يرتفع الستار عن روعة الخريف المهجورة. رفيف لعب الأصابع، الذي تهدأ منه أوراق (الشجر)، ينعكس عندئذ في حوض الأوركسترا المتهيئ (للعزف).»
ويلاحظ أن هذه العبارة لا تتكلم عن الخريف إلا في صورة استعارة غير مباشرة، أي عندما يكون الكلام عن المسرح (الستار) وقائد الأوركسترا (لعب الأصابع) وبذلك يلتقي الخريف والمسرح في وحدة واحدة تزيد بالطبع عن كونها مجرد استعارة. كما أن تقديم التفاصيل الجزئية على الكل والأمور العرضية على الجوهر تعد من ناحية أخرى إحدى خصائص الأسلوب اللاواقعي الذي سيكون له صداه الكبير في شعر القرن العشرين. انظر مثلا إلى هذا البيت - من إحدى قصائده المبكرة - الذي يصف فيه ملاكا يحمل سيفا عاريا بقوله: «ملاك يقف في عري سيفه» (ص28 ). فيصف الملاك بما يميز السيف. أو حين يتكلم عن مجموعة من الراقصات فلا يذكر أشكالهن بل «شحوب الموسلين (نوع من القماش) العابر، الذي تبرز منه ابتسامة وذراع مفتوحة في حركة ثقيلة كحركة الدب» (ص276). فالراقصات يظهرن من خلال صفة جزئية واحدة ضمنت فيها صفة جزئية أخرى من كائن آخر يصعب علينا أن نتبين المقصود به في النهاية، وهو مهرج السيرك. أي أن الصفات العرضية تعزل عن الشكل الكلي الذي يحتويها وتتحول إلى صور لا واقعية متداخلة في بعضها البعض. وتبدأ إحدى القصائد المتأخرة بالإشارة إلى ستارة من الدنتيلا، ثم تتحدث المقطوعة الثانية فجأة عن خلاف عام أبيض لباقة ورد مع نفسها، يفر إلى النافذة الباهتة ويسبح أكثر مما يدفن (ص74). فنرى كيف جردت المخيلة ذلك الشيء من خصائصه المادية وحولته إلى مجموعة متشابكة من الحركات. إن الشاعر هنا لم يتلق مجموعة من الانطباعات من العالم الخارجي على طريقة التأثريين في الرسم، بل راح يطبع أشكالا خيالية على أشياء جردت تجريدا تاما من مادتها الواقعية. (17) الشاعر وحيد مع لغته
لعل هذه الأمثلة القليلة أن تكون مصداقا لقول مالارميه إن الشعر بناء منعزل. فالواقع أن شعر مالارميه أكثر أبنية الشعر الحديث عزلة وابتعادا ... لقد شيده بمواد قليلة ، وحاول في حرص وحذر أن ينقل المجال الفارغ اللامتناهي للمطلق إلى لغة أرضية تعبر عن رموزه في «نغم صامت منسجم» (ص648). ولقد قال مالارميه مرة في أحد أحاديثه إن الشعر قد ضل طريقه منذ أن «انحرف به هوميروس انحرافا عظيما.» وعندما سأله محدثه عما كان قبل هوميروس أجاب قائلا: «أورفيوس.»
فهو إذن قد حاول أن يرجع إلى هذا الشاعر الأسطوري البعيد، وأن يحقق فكرته عن الشعر كغناء يتحد فيه الشعر والفكر، والسر والمعرفة، ومن يدري؟ فلعله قد أحس بالقرابة التي تجمعه بهذا الشاعر القديم، أو لعل لغته الشعرية التي حاولت أن تعيد للكلمة بكارتها وأصالتها الأولى قد أعادته كذلك إلى هذا المنبع الشعري الأصيل القديم.
إن شعر مالارميه يجسد العزلة والوحدة الكاملة؛ فهو لا يحس بالحنين إلى التراث المسيحي أو الإنساني أو الأدبي، وهو يحرم على نفسه التدخل في شئون الحاضر، بل إنه يصد القارئ عنه ويأبى أن يكون بشريا، بالمعنى الذي أشرنا إليه مرارا من التجرد من النزعات والعواطف البشرية. وهو إلى وحدته أمام الماضي والحاضر وحيد تجاه المستقبل: «يجب على الشاعر أن يقوم بشيء واحد، هو أن يعمل في ظلال السر، ويوجه بصره إلى زمن يأتي فيما بعد أو لا يأتي أبدا»
47 (ص664). ولذلك فالوحدة هي رفيق الشاعر وقدره الضروري وسط مجتمع ينكره ويضع العقبات في طريقه.
إن الواقع قاصر، والحقيقة المتعالية عدم، وعلاقته بهما صراع مرير؛ ونشاز مستمر، والفشل دائما هو الحصاد الأخير ماذا يبقى إذن لهذا الشاعر؟ يبقى له القول الذي يحمل في ذاته حجته وبرهانه. إنه وحيد تماما مع لغته، يجربها ما شاءت له التجربة الحرة والخيال الطليق. هنا حريته ووطنه، وهو يقوم بمغامرته ويعلم أن الناس قد تفهمه وقد لا تفهمه، ولو لم يكن هذا هو موقف الشعر الحديث كله، لما وجد مالارميه ما وجده حتى الآن من الإكبار والإعجاب. (18) كلمة أخيرة
يقول مالارميه: «بعد أن وجدت العدم وجدت الجمال.» ولكنه بعد أن وجد الجمال المطلق رأى نفسه يعود من جديد إلى العدم. تبين له أو لمن جاءوا بعده أن «التذوق المتطرف للشكل» - كما يقول بودلير - والعناية الفائقة بالجمال قد التهمت الحياة وأفقرت الواقع وانتهت إلى عقم الشعر.
وإذا قلنا في نهاية هذا البحث بالعودة إلى الواقع فليس ذلك إيثارا للسهولة، ولا جريا وراء النداءات والكلمات المكرورة التي جنت هي أيضا على الواقع حين وضعته في قوالب جامدة محدودة. ولكننا نقصد أن الشعر كان دائما في صميمه مشغولا بالواقع، أعني بوضع الإنسان وحالته في العالم. وإذا كان الشعر في أواخر القرن التاسع عشر قد اندفع إلى أقصى حدود هذا الواقع لكي يمد يديه إلى المجهول، وإذا كان قد حاول إلغاء هذا الواقع والفرار من سجنه الخانق بحثا عن المطلق أو الجمال الخالص أو المجهول؛ فقد كان في ذلك كله يحقق وظيفة الشاعر الخالدة؛ تنقية الواقع وإعادة خلقه أو تشكيله بعد أن خربه الإنسان بالشر والقهر، وأفسده بالظلم والفقر، وتقديم أغنيته شهادة على إيمانه بالمعنى في عالم فقد معناه. صحيح أنه أسرف في هدمه للواقع - الخارجي واللغوي - وتصفيته بل وإلغائه، حتى صار الشاعر هو الشهيد أو المنتحر الذي يقتل نفسه في سبيل أن يحيا المطلق. ولكن ألم تكن هذه هي النهاية المحتومة لقصة طويلة بدأت من عصر الإصلاح والنهضة حين انفصلت الرموز عن الواقع الذي كانت قائمة فيه، وراح الإنسان بعد ذلك - مثل باسكال - يضل بينهما في صحراء البحث؟ ألم تصل هذه الدراما إلى ذروتها عند «كانت» الذي أوقف موكب العقلانية المنتصر، وكشف لسفينة العقل البشري عن الظلمات المحيطة بها من كل جانب في رحلتها إلى المطلق والمجهول؟ أليس حكيم كونجسبورج العجوز هو الذي سلب العقل من كل أمل في بلوغ المطلق ثم أشفق عليه ففتح باب الأمل الخلفي عن طريق القلب أو الإيمان أو الأخلاق أو العقل العملي كما يسميه؟ ألم يزد الاهتمام بعد ذلك بتجربة الخلق والفن والجمال على يد فلاسفة مثل شيلنج وشوبنهور حتى وصل إلى حد الرعشة المقدسة عند نيتشه؟ ألم يقل هذا إن العالم في صميمه «ظاهرة جمالية» وإن ملكة الخلق والإبداع هي السبيل الوحيد إلى المطلق، وإن الشيء الوحيد الذي يبرر العالم والوجود إلى الأبد هو أن يكون ظاهرة جمالية؟ ألم يحكم بعجز المعرفة والأخلاق عن إدراك معناه؟ وحين كان في مراحل حياته التالية يفقد إيمانه بهذه الحقيقة أو «هذا الإنجيل الوحيد الممكن على الأرض» - ألم يكن ينحدر إلى أعماق اليأس ويجد نفسه وحيدا مع العدمية التي كان أكبر مكتشفيها وأكثرهم استماتة وأملا في القضاء عليها؟ ألم يكن يحدث له هذا كلما تشكك في الجمال وتصور أنه وهم وباطل؟
ولكن نيتشه حلقة في سلسلة طويلة بدأت بكانت إلى شوبنهور، وامتدت بعدهما إلى فاجنر وبودلير، إلى أن وصلت لمالارميه فكان أعظم وآخر حلقة فيها، وجوهرة العقد التي توهجت ثم خبا فيها البريق. صحيح أن نورها أو لهيبها ما يزال يلسع أصابع الشعراء إلى يومنا الحاضر، ولكن لعلهم قد صاروا الآن أكثر ميلا إلى الاستدفاء بشمعة الحياة والواقع، بدلا من الاحتراق في وهج المثال والمطلق.
الفصل الخامس
ثورة الشعر في القرن العشرين
ليكن الشعر عونا على الفعل.
إلوار ***
كانت هذه نظرات سريعة إلى التطور العام للشعر الحديث، لا تغني بالطبع عن التفصيل؛ فالصورة العامة لهذا الشعر صورة محيرة، ولن يقربنا منها سوى الرجوع إلى الأصول التي مهدت لها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وإلقاء نظرة خاطفة على ملامحها الفردية عند بعض الشعراء الذين يمثلون أصدق تمثيل.
ولقد رأينا أن الأسلوب الشعري الذي يسيطر اليوم على القرن العشرين قد نشأ في فرنسا لا في أي بلد أوروبي آخر، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
1
مهد له الشاعر الكبير بودلير بعد أن ظهرت بوادره عند شاعر الرومانتيكية الألمانية نوفاليس والشاعر الكاتب الأمريكي إدجار ألن بو، ثم سار فيه الشاعران رامبو ومالارميه إلى أبعد الحدود التي يمكن أن يجسر الشعر على السير فيها. والواقع أن الشعر في القرن العشرين لم يعد يأتي بجديد. وليس في هذا القول ما يغض من قيمته أو يقلل من شأن بعض الشعراء المجيدين فيه، ولكنه يتيح لنا، أو بالأحرى يفرض علينا، التعرف على وحدة الأسلوب التي تربطه بأولئك الرواد العظام. ووحدة الأسلوب لا تعني الاطراد ولا الملل، ولكنها تدلنا على الروح العامة التي تجمع بين الشعراء على اختلافهم في النظرة والموضوع والأداء اللغوي والمنحنى الداخلي.
فنحن لا نستطيع مثلا أن نتحدث عن وحدة الأسلوب الشعري عند شاعرين مثل لامارتين وسان-جون بيرس في اللغة الفرنسية أو عند ليوباردي وأنجارتي في الإيطالية، أو جوته وجوتفريد بن في الألمانية، أو شوقي وأدونيس في العربية، ولكننا نستطيع أن نتحدث عن شعراء مثل رلكه وألبرتي وإليوت ورينيه شار، على ما بينهم من اختلاف في النشأة والنظرة والأصالة والمزاج. فوحدة الأسلوب التي نتحدث عنها هي سبيلنا الوحيد للاقتراب من هذا الحشد الهائل من القصائد التي تتأبى - عامدة - على الفهم المعتاد، تتلوها ولا شك خطوة أخرى للتغلغل في العبقرية الفردية لكل شاعر على حدة. والحق أن المجال لا يتسع للإشارة إلى هؤلاء الشعراء إلا في أضيق الحدود. وكل ما نستطيع أن نقوم به هو استكشاف الصورة المحيرة التي يقدمها الشعر المعاصر، وتبين بعض ظواهره الحية التي لا تزال تعمل عملها فيه منذ القرن الماضي.
المهم هو أن نعرف أن الظواهر التي رأت النور في القرن الماضي لا زالت تؤثر على الحياة الشعرية حتى اليوم. وسواء تبين لنا أن شاعرا من الشعراء قد تأثر بسلفه أو لم يتأثر، فإن ذلك لن يعفينا من التسليم بحقيقة هامة تسري على الشعر سريانها على سائر الفنون، ألا وهي أن لكل عصر روحه وأسلوبه الملزم، وأن هناك أسلوبا في الرؤية والإحساس والأداء لا يزال يسود الشعر الأوروبي منذ أكثر من مائة عام، ولا يصح أن ننخدع بكثرة المدارس والبرامج الأدبية التي ظهرت في أقل من قرن من الزمان. فقد لا يكون هذا التنوع الهائل سوى نوع من خداع البصر يبين لنا مدى خصوبة الشعر الحديث وتنوع إمكانياته وتعدد الفروق والظلال فيه، ولكن لا يجوز أن يحجب عن أعيننا وحدة البناء والروح العامة التي تسوده وتتغلغل فيه.
إن من يتصفح المراجع الحديثة في تاريخ الأدب يجدها تتحدث عن «المدرسة الرمزية» وتكاد تتفق على تحديد نهايتها بسنة 1900م. ولقد آثرنا تجنب هذا الاصطلاح المدرسي ما أمكن، إذ رأينا أن الخصائص المميزة لشعرائها الكبار لا تزال في مجموعها هي نفس الخصائص التي تميز الشعر في العصر الحديث، وأن تأثير أقطابها - وفي مقدمتهم مالارميه - لا يزال قويا على شعراء متأخرين مثل فاليري وجيان وأنجارتي وإليوت. وإذن فالأمر لا يخرج عن إحدى اثنتين؛ فإما أن الرمزية «لم تمت بعد» وإما أن الكلمة تعبر تعبيرا ناقصا عن أسلوب أدبي بذاته، ولا بد في هذه الحالة أن نقتصد في استعمالها أو تستغني عنها بوصف خصائص هذا الأسلوب وإبراز ظواهره.
والمهم بعد كل شيء هو ألا نغتر بالأسماء أو ننسى سياقها في التراث. وكل من يقرأ الدراسات النقدية التي تتناول الحياة الأدبية الأوروبية في نصف القرن الأخير لا بد أن تدهشه أو تفزعه كثرة المدارس والاتجاهات و«المودات» التي يلغي بعضها البعض! فمن دادية إلى مستقبلية إلى تعبيرية، ومن إبداعية إلى وضعية جديدة إلى سريالية إلى هرميتية أو إلغازية ... إلى آخر هذه الأسماء التي لن ينقطع سيلها مع تطور العصور. وكأنما هي صدى لتعدد الأحزاب السياسية وصراعاتها في بلاد البحر الأبيض بوجه خاص. ومع ذلك فلعل هذه الكثرة الهائلة أن تكون مظهرا صحيا من مظاهر الشعر الحديث الذي يؤكد أصحابه أنهم لا يكتبون للخلود وإنما يثبتون تجاربهم المستمرة في اللغة وحرصهم على قطع صلتهم بالماضي أو بالتراث الذي لا يمكن فهمهم مع ذلك إلا إذا عرفنا موضعهم منه.
ولننظر الآن في الظواهر العامة في شعر القرن العشرين، ولنحاول أن نقي أنفسنا شر التبسيط والتعميم. (1) تمجيد العقل أم تحطيمه؟
ليس من العسير أن نضع أيدينا على اتجاهين رئيسيين في بناء الشعر الحديث، سار فيهما رامبو ومالارميه في القرن الماضي. فهناك، إن شئنا التبسيط، ما يمكن أن نسميه بالشعر المتحرر من الشكل أو الشعر غير المنطقي في جانب، وهناك الشعر العقلي الملتزم بالشكل المحكم الدقيق من جانب آخر . وقد تم التعبير من كلا الاتجاهين سنة 1929م في صيغتين تناقض إحداهما الأخرى. فأما الصيغة الأولى فيعبر عنها فاليري بقوله: «ينبغي أن تكون القصيدة عيدا من أعياد العقل.» وأما الاتجاه الآخر المضاد فيعبر عنه رائد المدرسة السيريالية أندريه بريتون حين يقول: «إن القصيدة ينبغي أن تكون حطام العقل.» أو حين يقول بعد ذلك بقليل: «إن الكمال هو الكسل.» (المجلة السيريالية سنة 1929م).
ووجود هذين الضدين في شعر القرن العشرين شيء يرتبط بأسلوبه وصورته العامة، فليس الأمر - كما قد يبدو من النظرة السطحية - مجرد خلاف بين حزبين أدبيين متعارضين، بل هو تعبير عن توتر يشمل الشعر الحديث كله، وصراع تدور رحاه في وجدان الشاعر الواحد بين العقل والأسطورة، والنظام والحلم، والتجريد والهلوسة. وعلى الرغم من اختلاف النموذجين فهما يؤكدان مشاركتهما في وحدة البناء العام التي تميز الشعر الحديث. فالشعر العقلي والشعر غير المنطقي يشتركان في طرحهما للنزعات البشرية، وبعدهما عن العاطفية المألوفة، وتخليهما عن الشيئية المعتادة، وتأبيهما على الفهم المحدد، وإيثارهما للإيحاء بمعاني متعددة، وجعلهما من القصيدة كيانا مستقلا بنفسه يكمن مضمونه في لغته وخياله الطليق ولعبه بالأحلام لا في محاولة نسخ العالم أو التعبير عن العواطف. وكل هذه الصفات ستصدم القارئ العربي وتحيره لأنه اعتاد أن ينتظر من الشعر أن «يصور» و«يعبر»، ولكن لا بد له أن يتقبلها ويعود نفسه عليها إذا أراد أن يجد مدخلا إلى الشعر والفن التشكيلي والموسيقى الحديثة.
إن وحدة البناء في الشعر الحديث هي نفسها وحدة البناء في الفن الحديث بوجه عام، وهذا هو الذي يفسر تشابه الأساليب في الشعر والرسم والموسيقى. وهناك ظاهرة خارجية قد تؤكد هذا كله؛ فليس من قبيل الصدفة أن تنعقد أواصر الصداقة العميقة بين أقطاب الشعر والرسم والموسيقى الحديثة، وأن يشعروا بأنهم يشتركون في مغامرة واحدة، والصداقة التي كانت تربط بودلير بالرسام الشهير ديلاكروا، أو تجمع بين طائفة الرسامين والشعراء مثل هنري روسو وبيكاسو وبراك وأبوللينير وماكس جاكوب، أو بين لوركا ومانويل دي فايا وسلفادور دالي؛ أشهر من أن نتحدث عنها . أضف إلى هذا أن الرسامين والموسيقيين يلجئون في كثير من كتاباتهم التي توزع في معارضهم أو حفلاتهم إلى استخدام تعبيرات واصطلاحات يستعيرونها من كتابات الأدباء، والعكس أيضا صحيح. ولقد استطاع ديدرو أن يتوصل من تحليله لعدد من الرسوم إلى حقائق مذهل، وربما كان هذا نوعا من الإحساس بهذا البناء العام الذي تشترك فيه كل مغامرات الفن والأدب الحديث. (2) رأيان في الشعر الحديث
كان من طبيعة الأمور أن يتفكر الشعراء المحدثون منذ عهد إدجار بو وبودلير في شعرهم فيضعوا له البرامج والنظريات التي لا تقل أهمية عن إنتاجهم من هذا الشعر. ولم ينشأ هذا عن رغبة في التعليم بقدر ما نشأ عن اقتناع بأن العمل الشعري هو إحدى مغامرات العقل الذي يعمل ويتأمل ذاته في وقت واحد فيزيد بهذا التأمل من حدة التوتر الشعري نفسه. ويوشك معظم الشعراء الكبار في القرن العشرين أن يكونوا قد وضعوا مذهبا نظريا أو فنا شعريا عن أدبهم أو عن الأدب بوجه عام. ومع أن الفنان المبدع قد لا يحسن النقد في أغلب الأحيان، إلا أن في استطاعتنا القول بأن هذه الكتابات النظرية التي أخرجها الشعراء لا تقل أهمية عن شعرهم نفسه، وأنها قد أكدت الرأي المعروف في أوائل القرن التاسع عشر من أن الشعر الغنائي هو أنقى وأعلى ظواهر الإبداع الأدبي وأنه ما من طريق يصل بين قمة الشعر الوحيدة وبين منعرجات الأدب المستوية، وأن هناك مسافة بعد شاسعة بين الشعر وبين الفنون الروائية والدرامية التي تعتمد على المنطق والواقع، وهي نفسها مسافة البعد بين كتابة يتحدث فيها الأديب إلى نفسه (مونولوج) وأخرى يريد بها التوصيل إلى الآخرين، لأن الشعر، كما يقول جوتفريد بن، هو فن متنسك معتزل.
ويصح أن نعرض هنا لرأيين في الشعر بقلم شاعرين كبيرين يؤكدان فيهما أن كثيرا من الملامح والخصائص الهامة في فن الشعر في القرن التاسع عشر قد انتقلت إلى فن الشعر في القرن العشرين.
ويرجع الرأي الأول إلى الشاعر الفرنسي «جيوم أبوللينير»، وهو برنامجه الذي نشره في سنة 1918م بعنوان «الروح الجديدة والشعراء» في مجلة «مر كيردي فرانس».
2
والروح الجديدة التي يقصدها أبوللينير هي روح الحرية المطلقة. والحرية في الشعر معناها أن يعالج الشاعر كل مادة ممكنة بغير اعتبار لدرجتها أو شرفها وأهميتها. فالشاعر يستطيع أن يجد مادة إلهامه في الكواكب والمحيطات، كما يجدها في منديل ملقى على الأرض أو في عود ثقاب مشتعل. إن خياله يرى في أسمى الأشياء وأحقرها ما لم يره أحد، وأذنه تسمع فيها ما لم يسمعه إنسان قبله. إنه يحولها فجأة إلى مفاجآت مثيرة و«أفراح جديدة ولو كان في تحملها العذاب كل العذاب.» إن أقل الأشياء وأحقرها شأنا يصلح أن يكون معبرا إلى لانهاية مجهولة، تلمع فيها أضواء المعاني المتعددة، كما يصلح أن يكون سبيلا مؤديا إلى غياهب اللاشعور.
إن الشيء المضحك العابث يستوي في درجته وقيمته مع أمجاد البطولة. وكذلك لا يجد الشعر حرجا من اختيار مادته من واقع الحياة الآلية والتقنية التي وصلت إليها المدنية الحديثة، فيتسع للكلام عن التلغراف والتليفون والطائرة، والآلات التي هي «بنات الرجال اللاتي لا أمهات لهن». وهو يربط هذه الأشياء جميعا بأساطير يبتكرها خياله؛ أساطير يسمح فيها بكل شيء، وبالمحال نفسه أو المستحيل قبل أي شيء آخر. وهدف الشعر من ذلك كله هو الوصول إلى ما يسميه أبوللينير «القصيدة المركبة» التي تشبه صفحة في جريدة يومية، تلتقي العين فيها بأشياء مختلفة في وقت واحد، أو فيلما تتجاور فيه الصورة إلى جانب الصورة. لا مكان هناك لأسلوب الوصف والزخرفة والتنميق والخطابة، بل صيغ جادة تعالج أعقد الموضوعات بأدق شكل ممكن. إن الإبداع الأدبي أشبه ما يكون بعمل الميكانيكي الدقيق، ومن واجب الأدب والشعر بوجه خاص أن يبذلا كل ما في وسعهما لمنافسة العلوم الرياضية في دقتها وجسارتها، ومن واجب، الشعر كذلك أن يتشبه بالكيمائيين القدامى فيضني نفسه في البحث عن «صيغ وكشوف نادرة» تجعل منه «كيمياء شعرية عريقة».
إن الشعر الجديد تواجهه الأخطار والمزالق، مثله في ذلك مثل الروح الجديدة بوجه عام. ولكنه يظل تجربة تستحق الإقدام عليها، وتستمد قيمتها من شجاعة المخاطرة لا من النجاح النهائي. ينبغي أن يقوم الشعر دائما على المفاجأة؛ فالمفاجأة التي تذهل القارئ بغرابتها أو بلهجتها الدرامية المعادية له هي أهم ما يميز الشعر الحديث عن الشعر القديم؛ وعلى الشاعر الذي يبحث عن المجهول ويعبر عنه بلغة شاذة غير مألوفة ولا مقبولة أن يتحمل الوحدة والانعزال، ويصبر على سخرية الناس أو تشهيرهم به.
ونعرض الآن - بعد هذا البرنامج الجريء الذي يستمد كما نرى من روح رامبو والذي يعد أهم حلقة نظرية تربط بين شعر رامبو وبين الشعر في القرن العشرين - نعرض لرأي آخر أبداه جارثيا لوكا في حديث ألقاه في سنة 1928م في ذكر الشاعر الإسباني الكبير جونجورا
3
بعنوان «الخيال الشعري عند دون لويس دي جونجورا».
وجونجورا (1561-1627م) شاعر قديم لعله أعقد الشعراء القدامى في إسبانيا وأصعبهم. وقد أعاد الإسبان اكتشافه منذ سنة 1910م وأفادوا بحركة البعث هذه شعرهم الجديد فائدة لا تقدر، فلوركا يقول عنه في حديثه السابق إنه «أب الشعر الحديث» ويبين أوجه التقارب بينه وبين مالارميه في الأسلوب والأداء، بل ويقول إن مالارميه هو أفضل تلاميذ جونجورا، وأقربهم إلى فنه الشعري، على الرغم من أن الشاعر الفرنسي لم يعرف شيئا عن الإسباني!
ويعد كلام لوركا عن هذا الشاعر القديم تعبيرا عن رأيه في الشعر الجديد ونظرته الإستيطيقية إليه. فقد كان جونجورا - كما يقول لوركا - يعتقد أن قيمة الشعر لا ترتفع إلا بمقدار بعده عن كل ما هو عادي مألوف في العالم الخارجي والداخلي على السواء. كان يحب الجمال النقي العقيم، ويرى أن هذا الجمال لا يظهر إلا إذا تخلص الشاعر من التعبير المباشر عن العواطف. وكان يكره الواقع، ولكنه كان يملك القدرة على السيطرة المطلقة على الممالك الشعرية وحدها. إن الكلمات عنده مستقلة بذاتها، وهو يقيم منها بناء يناهض الزمن، لم يكن للطبيعة مكان في شعره، لأن «الطبيعة التي تخرج من بين يدي الخالق غير الطبيعة التي تحيا في القصيدة.» ولذلك فإن قيمة قصائده لا تقاس بالواقع بل تنبع من ذاتها. لقد كان «يحمل الأشياء والأحداث إلى غرفة ذهنه المظلمة حيث تتحول هناك وتعود لتتجاوز العالم.»
هذه القوة التي تحولها هي قوة الخيال القادرة على التشبيه والاستعارة. إنها تخلق صورا غير واقعية ترتفع إلى مستوى الأساطير وتؤلف بين أكثر المجالات بعدا عن بعضها البعض، وهو يسلط بهذه الصور ضوءا مشعا باهرا على المضمون الموضوعي لشعره بحيث يصبح هذا الشعر في النهاية عديم المعنى. إن أبياته يغمرها «ضوء روما البادر»، ربما يكون الإلهام قد سبقها، إلا أنها لم تتحول على يديه إلى حقائق نقية صلبة إلا لطول تجربته للخصائص النغمية والصوتية الموجودة في اللغة.
هكذا نشأ نوع من الشعر لا يبحث عن القارئ، بقدر ما يفر منه. فإذا أراد أن يقترب منه فعليه أن يستخدم العقل وحده. وإذا لاحظ فيه غموضا أو ظلاما فما ذلك إلا لشدة النور العقلي الذي يغمره.
لا بد أن القارئ قد لاحظ الفرق بين ما يقوله الشاعر الفرنسي والإسباني من حيث اللهجة والمستوى والهدف، ولكنه قد أدرك بغير شك أنهما يتفقان في تأكيد نوع من الشعر يوجهه العقل ويستقل بنفسه عن الواقع والمألوف، ويصدم القارئ، بغرابته وتنافر أنغامه. (3) اللغة الجديدة
من الطبيعي أن تكون لغة الشعر الجديد لغة جديدة، فتفسير قصيدة من هذا الشعر يحتاج منا أن نقف عند أسلوبها في الأداء أطول بكثير من الوقوف عند موضوعها أو مضمونها أو الباعث عليها. كان في استطاعة الناقد فيما مضى أن يبين للقارئ، مضمون القصيدة من الشعر القديم. وكان ذلك أمرا ممكنا ومقبولا ومفيدا، طالما كان هدف الناقد والشاعر معا أن يخطبا ود القارئ ويمهدا له طريق الإحساس بقصيدة كتبت بلغة تخدم نظام حياته الطبيعية. غير أن الأمر مع الشعر الحديث يختلف عن ذلك اختلافا بينا. فليس من الممكن أن نفهم قصيدة من شعر إليوت أو سان-جون بيرس أو أنجارتي من مضمونها، وإن كانت لا تخلو بالطبع من مضمون أو مجموعة من المعاني التي تكشف عن عالم هذا الشاعر أو ذاك. ذلك لأن المسافة هنا بين الذات وبين «التكنيك» أو الصنعة الفنية أكبر بكثير مما كانت عليه في الشعر القديم، كما أن قمة التأثير في هذا الشعر وطاقاته الفنية تكاد تكمن بأكملها في الصنعة أو الأسلوب. فالأسلوب هو المظهر اللغوي المباشر للتحول الذي طرأ على الواقع والمألوف في هذا الشعر. لقد اختل التوازن القديم بين مضمون العبارة وأسلوب أدائها، وأصبح الأسلوب الجديد بما فيه من تنافر وتضاد وإغراب وقلق وتقطع وفجوات هو الذي يجذب الأنظار قبل أي شيء آخر. إننا لا نستطيع الآن كما كان الحال قديما أن نشغل أنفسنا بالمضمون الذي تعبر عنه القصيدة عن الأسلوب الذي تم به التعبير، لأن التباين والتنافر بين أسلوب التعبير والشيء المعبر عنه أو بين الإشارة والمشار إليه قد أصبح من أهم قوانين الشعر والفن الحديث. وقد نجد في إحدى اللوحات أن قطعة قماش أصبحت تدل على آلة موسيقية كما تجد في إحدى القصائد أن الغاية تشير إلى ساعة البرج، واللون الأزرق يرمز إلى النسيان، وأداة التعريف تهدف إلى زيادة الغموض والإبهام وعدم التحدد.
هذا الأسلوب المتنافر الشاذ قد زاد ثقله في القصيدة إلى حد تجريد الموضوعات التي يلمسها من أهميتها ومعناها، بل ومن وجودها الواقعي نفسه. فالقصيدة الحديثة تتلافي الاعتراف «بموضوعية» العالم الكائن خارج الذات أو داخلها حتى لا ينال من أسلوبها، وإذا تناولت بعض بقايا هذا العالم الموضوعي فهي تستغلها لتحريك المخيلة «الطاغية» وزيادة طاقتها على التحويل والتشويه والتبديل. وليس معنى هذا أن الشعر الحديث يقصر نفسه على موضوعات قليلة أو عديمة الشأن، كما فعل مالارميه مثلا. وحتى إذا حدث هذا فلا يمنع أن هناك قصائد تزدحم بالعديد من الأشياء والموضوعات. إنما المهم أن هذه الأشياء تخضع الآن «لتركيبة» جديدة وأسلوب جديد في الرؤية والأداء، وأنها قد أصبحت مادة تتحكم فيها الذات الشاعرة كما تشاء، وفقدت كثيرا جدا من «موضوعيتها»، و«شيئيتها». ولو لم يكن الأمر كذلك لما استطاع الشاعر الحديث أن يؤلف بين أشياء لا تآلف بينها في الواقع ولا الطبيعة، أو يرمز إلى أشياء لا تطابق فيها بين الرمز والمرموز إليه، أو يشبه بين أمور لا وجه للتشابه بينها على الإطلاق ... من هنا نفهم السبب الذي يدعو الشعراء المحدثين إلى الإغضاء من شأن موضوعاتهم، كما نفهم أيضا ما يقوله الشاعر الفرنسي بيير ريفردي (1889-1960م) من أن الشاعر لا موضوع له، وإنه يفترس نفسه بنفسه، وأن قيمة العمل الشعري أنه يكشف عن سبب تمزقه وربطه بين عناصر لا رابط بينها.
بل إن شرط «الشعر الخالص» أن وجوده كما يقول الشاعر الإسباني ساليناس، متوقف على قدرته على التخفف بقدر الإمكان من الموضوعات والأشياء لأن هذا وحده هو الذي يتيح للغة أن تتحرك حركتها الإبداعية الحرة. ثم إن الشاعر، كما قال جوتفريد بن في سنة 1950م ، يلجأ إلى الحيل الشكلية ليحافظ على انطلاق الأسلوب؛ فهو يثبت الخواطر التي ترد عليه كما لو كان يدق المسامير ويعلق عليها متتابعات ألحانه، وهو يتحاشى أن يربط الأشياء ببعضها ربطا ماديا سيكولوجيا بل يكتفي بالإشارة ولا يمضي في شيء إلى غايته.
إن أسلوب الشعر الجديد يأبى على المضمون أن يكون له وجوده المتماسك وقيمته الذاتية. إنه لا يكف عن البحث عن اللغة الجديدة، ويعيش في صراع متصل بين مطامحه المتطرفة وبين مضموناته، وهو يريد، كما يقول أبوللينير، لغة جديدة لا يدري النحويون عنها شيئا. ولكن كيف ستبدو هذه اللغة المفاجئة الناشزة؟
إن الشاعر الفرنسي لا يقدم إجابة محددة، بل بشير إلى لغة وحشية متنافرة أو لغة إلهية تكون الكلمة فيها مفاجئة أشبه بإله مرتعش!
يقول «أراجون» في مقدمة ديوانه «عيون ألز!» (1942م): إن الشعر لا يوجد إلا بفضل الخلق الجديد المستمر للغة وذلك بتحطيم النسق اللغوي، وتكسير قواعده، وتغيير ترتيبه المعتاد في الكلام. والشاعر «ييتس» يقول: ليس لي لغة، فكل ما أملكه لا يزيد عن مجموعة من الصور والتشبيهات والرموز، وفي قصيدة إليوت المشهورة «أربعاء الرماد» نجد هذا البيت الغريب: «لغة بلا كلمة وكلمة بلا لغة.» وسان-جون بيرس يتحدث عن التركيب اللغوي لديه فيشبهه بالبرق والصاعقة. وكأنما يتفقون جميعا على أن هذه اللغة الجديدة لن تقوم لها قائمة حتى تحطم اللغة القديمة وتكسر قواعدها المألوفة وتحل التنافر والتعارض والغرابة محل التجانس والتناسق والنظام، وكأنما يجمعون أيضا على نوع من التعالي باللغة أو «الترانسندس» الذي تحدثنا عنه كثيرا عند الكلام عن بودلير، ولكنه يظل هنا وهناك تعاليا مفرغا من أي معنى أو مدلول.
معنى هذا أن اللغة الجديدة ستصبح لغة مفاجئة للقارئ، لا بل معادية له. ولقد ألح الشعراء والفنانون الجدد على معنى الصدمة أو المفاجأة التي تحدثها هذه اللغة حتى صارت تعبيرا اصطلح عليه في الشعر الجديد منذ عهد بودلير. يؤيد هذا ما يقوله فاليري من أن أي دراسة للفن الحديث في نصف القرن الأخير لا بد أن تبين كيف كانت مشكلة الصدمة تثار كل خمس سنوات، وهو نفسه يعترف بأن شعر رامبو ومالارميه قد أثرا عليه عند قراءته لهما لأول مرة تأثير الصدمة المفاجئة. والسيرياليون يتحدثون عن «الإذهال» الذي يجب أن يحدثه الشعر الجديد، ويذهب زعيمهم «بريتون» إلى حد القول بأن الشعر إنما هو «إعلان احتجاج»، كما يقول سان-جون بيرس إن «ترف الشذوذ» هو أول مواد السلوك الأدبي! وكأن هذه اللغة الجديدة لم تحرص منذ عهد الرومانتيكية على شيء حرصها على الاحتجاج، وكأنها لم تسع إلى شيء سعيها إلى زيادة الهوة التي تفصل بين الشاعر وجمهوره، بحيث لا نغالى إذا قلنا إنها تحاول عن قصد أو غير قصد أن تصدمه وتفاجئه وتعاديه؛ ذلك لأن الاهتمام بالأسلوب وحده قد أصبح هدفا في ذاته، يختفي وراءه المعنى والباعث والمضمون، ويستوي معه أن يعالج خلود الروح ووجود الله أو يصف حذاء قديما أو علبة صفيح فارغة ... والمهم بعد كل شيء هو شذوذ هذه اللغة الشعرية الجديدة.
أراد فلوبير (1828-1880م) عندما كان يعمل في روايته «مدام بوفاري» أن يعرف الأسلوب فقال إنه «رؤية». وقد يبدو هذا التعريف مألوفا لدينا اليوم، ولكنه كان في عصره شيئا جديدا كل الجدة على «الاستطيقا» القديمة، وقد تحقق معنى هذا التعريف في روايات فلوبير نفسه، كما تحقق بصورة أكبر في الرواية الحديثة والشعر الحديث ، والقانون الذي يحكم مثل هذا الأسلوب لا ينبع من الموضوعات الخارجية ولا من اللغة الفنية الموروثة وإنما ينبع من المؤلف نفسه. وقد نتجت عن ذلك ظاهرة تتجلى في أوضح صورة في فن الرسم الحديث. فقد أصبح من المألوف منذ عهد سيزان (1839-1906م) أن يتناول الرسامون موضوعا عديم الأهمية، لأن هذا الموضوع لا يعنيهم بقدر ما تعنيهم تجربة إمكانياتهم في الأداء وقدراتهم في مجال الشكل؛ ولذلك فالرسام مشغول بخلق كيان فني مستقل، مستمد من عناصر الصورة نفسها لا من عناصر الواقع الخارجي، وكانت نتيجة هذا أن قل عدد الموضوعات إلى أقصى حد، بل أصبح وسيلة لتجربة متنوعات مختلفة عليه، كما أصبح الأسلوب هو الهدف والغاية الأخيرة. وتكرر نفس الشيء في مجال الشعر، فوجدنا فاليري يقول مثلا إن الشعر في رأيه هو خلق متنوعات متعددة على موضوع واحد، كما وجدنا شاعرا مثل جيان يترجم إحدى قصائد فاليري «نائمة» أربع ترجمات مختلفة كل الاختلاف عن بعضها البعض، وكاتبا مثل كوينو (1903م-؟) يسمي أحد كتبه «تمارين في الأسلوب» (1947م) ويقدم فيه تسعة وتسعين متنوعة على موضوع واحد! وكل هذه أمثلة على الأسلوب الذي استقل بنفسه فراح يشكل ويتشكل، ويحول ويتحول. (4) أبوللو بدلا من ديونيزيوس
هل اختفى الإلهام إذن؟ هل حرم على الشعراء أن يتحدثوا عن شياطينهم أو يتذكروا وادي عبقر؟
إن الشعر الحديث يتسم ببرود العقل، والتأمل فيه تأمل بارد محسوب. والكلام عنه يحتاج دقة المعرفة والتخصص والصنعة. ولكن هذا لا ينفي أبدا أن الشاعر الحديث يعلم في نفس الوقت الشعر سر ومعجزة، سحر وقوة، منطقة رقيقة ينتزعها الشاعر مما يكاد يقصر عنه التعبير والكلام. ويصبح الشاعر مغامرا يخاطر بنفسه في مناطق لغوية ظلت مجهولة قبله، وتصبح لغته المملوءة بالأسرار أشبه بالتجارب الكيماوية القديمة، يختبر فيها القوة الكامنة في الكلمات، وينتظر انفجارها الذري في كل لحظة. وهو في ذلك لا ينسى أن يراقب نفسه مراقبة دقيقة، ويقيس أفكاره بمقاييس فكرية دقيقة، ويقيها غلبة العواطف الطاغية والانفعالات الفجة السخيفة. لم تعد حرارة الإلهام منذ أوائل القرن التاسع عشر هي معياره الوحيد. فالسحر الذي ينبع من الشعر الحديث فيه رجولة، والعذاب فيه عذاب صلب خشن. ومهما كان من غموضه وتنافره فإن أبوللو إله النور والفن الواضح - لا إله النشوة والإلهام ديونيزوس - هو الضمير الفني الذي يسيطر عليه ويتحكم فيه. ويكاد معظم رواد الشعر الحديث يتفقون في سوء ظنهم بالإلهام، ويفرقون تفرقة تامة بين الانفعال والقوة، وبين المعاناة الشخصية والصدق العقلي. وها هو ذا فاليري يكتب في مقاله عن قصيدة «أدونيس» للافونتين فيقول «إن الشعر فن شكاك إلى أقصى حد، إنه يفترض الحرية البالغة تجاه عواطفنا الشخصية. إن الآلهة تباركنا بنعمتها فتهدينا بيتا من الشعر ثم يصبح علينا بعد ذلك أن نؤلف البيت الذي يليه، والذي ينبغي أن يكون جديرا بشقيقه العلوي القديم. وفي ذلك نحتاج إلى كل طاقات التجربة والعقل.» ثم يقول في موضع آخر إن التنهد والتوجع لا مكان لهما في الشعر، حتى يصبحا أشكالا عقلية.
ولقد امتدح لوركا الشعراء الفرنسيين في خطبته السابقة عن الشاعر القديم جونجورا لهذا السبب وأكد هذه الأفكار وزادها حدة. والشعراء الإيطاليون ساروا أيضا في نفس الاتجاه بعد أن تراجعت النغمة الخطابية الانفعالية التي غلبت على شعر دانو نزيو فوضعوا «الكلمة العارية» التي طال التفكير فيها، كما يقول أنجارتي، في منزلة أعلى من الكلام العاطفي المنفعل. وليست هذه الأفكار كلها جديدة ولا هي مقصورة على البلاد الواقعة تحت تأثير الروح اللاتينية، وكل هذا يدل على أن الشعر الحديث مشغول منذ عهد بودلير بالتجرد من الرومانتيكية والبعد بقدر الإمكان عن العواطف الشخصية الساذجة.
ومن هنا نستطيع أن نفهم إليوت حينما يتحدث عن تجرد الذات الشاعرة من شخصيتها بحيث يصبح عملها أشبه بعمل العلماء الوضعيين، وحين يؤكد حدة العملية الفنية ولا يكتفي بأن يطلب من الشاعر أن ينظر في أعماق قلبه، بل يزيد على ذلك فيطالبه بالنظر في تلافيف المخ والجهاز العصبي. ويمضي الشاعر الألماني جوتفريد بن في هذا الاتجاه نفسه في محاضرته التي ألقاها عن مشكلات الشعر وأصبحت اليوم هي «فن الشعر» للجيل الحاضر من شعراء بلاده. إنه يمجد إرادة الشكل والأسلوب اللذين يحتفظان بحقيقتهما الذاتية التي تسمو بكثير على حقائق المضمون. ذلك «لأن الإنسان لا يعرف بحق إلا في مجال التشكيل.» ولأن الإلهام وحده لا يهدي الشاعر بل يغريه ويغويه ولا يفضي به إلى شيء ذي قيمة. قد يفجر فيه أبياتا قليلة ولكن يبقى عليه بعد ذلك أن يعالجها بالتشكيل فيتناولها على الفور في يده ويضعها تحت الميكروسكوب ويفحصها ويلونها ويبحث عن مواضع المرض فيها.
لهذا كله لا يدهشنا أن نرى عددا كبيرا من الشعراء المعاصرين يتحدثون عن «معملهم» أو عن «الجبر والحساب» في أبياتهم؛ إنهم يجربون الصيغ والأشكال، ويرتبون نسق اللغة ويحددون نظام الأصوات والأنغام. هكذا يصبح النموذج الأسمى كما تقول الشاعرة الألمانية إليزابيث لانجيسر، هو «الشاعر المفكر»، الذي يتحول البرتقال والليمون بين يديه إلى «جبر الثمار الناضجة» كما يعبر عن ذلك الشاعر الألماني كارل كرولوف الذي يقول كذلك عن نفسه إنه صانع مواشير وعدته قطع الزجاج. والحقيقة أن كلمة الصنعة والصانع لا تستغرب في هذا المجال؛ فكلمة الشعر بلفظها اليوناني القديم مشتقة من الصنعة. ولذلك فليس عجيبا أن نجد فاليري يميل إلى استبدال كلمة «الشعر
» بكلمة «الصنعة
Fabrication » وبهذا لا يصرف تفكيره إلى العمل الشعري نفسه بقدر ما يصرفه إلى أسلوب إنتاجه أو صنعه أو التفنن فيه.
على أنه من الواجب ألا يساء فهم هذا الاتجاه. فاهتمام الشعراء المحدثين بالشكل والصنعة ليس معناه أنهم يجعلون منه بديلا باردا لقوى الخلق والإبداع بل معناه أن التفكير أو التأمل الذهني لا يؤدي باللغة إلى التفوق الشعري إلا حيث يكون على هذه اللغة أن تصارع للتحكم في مادة معقدة من نسيج الأحلام والأحاسيس. وليس معنى هذا أن الشعراء المحدثين مجردون من الحساسية بل معناه أنهم يسلطون ضوء أبوللو أو نور الفهم الفني الواضح الصريح على حساسيتهم المفرطة، فكأنهم يلجمون هذه الحساسية المفرطة ويمتحنونها ويضعونها تحت منظار العقل قبل أن يسمحوا لها بالكلام!
هكذا يلعب الوعي بالشكل دورا كبيرا في الشعر الحديث. والشعراء من أمثال مالارميه قد طبقوا هذا تطبيقا عمليا بالمراعاة الدقيقة للوزن والموسيقي وتناغم الأصوات. ولكن لعل أوضح شاهد نظري وعملي على دقة الشكل وأحكامه هو الشاعر بول فاليري. وكتاباته العديدة في هذا المجال وبالأخص كتابه «مدخل إلى فن الشعر»
4
تعد قمة العناية بالشكل المحكم الدقيق. لقد عرف ذلك التداخل الخفي بين الشك والإحكام الشكلي حين قال «إن الشك يؤدي إلى الشكل». فالشك يعرف مقدار التعسف الكامن في اكتشاف الأشكال العروضية الأولى التي حددت الوزن والإيقاع كما يعرف بالمثل أن الخواطر الخالصة التي تأتي من المضمون شيء لا يوثق فيه، ولكن الشعر يأخذ هذه الأشكال مأخذ القواعد الملزمة ثم يرتفع بها فوق التلقائية الفجة والخواطر والعواطف المضطربة، بذلك تصبح مراعاة الوزن ودقة الالتزام بالشكل هي الوجه المقابل للمضمون الغارق في ضباب الغموض مثله في ذلك مثل التقابل الذي أشرنا إليه من قبل بين التركيب اللغوي البسيط وبين العبارة المعقدة الغامضة.
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا كيف أن الشعراء المحدثين لا يملون من إمعان التفكير والمراجعة في وسائلهم الشكلية في الوزن والقافية وبناء البيت الحر. فقد طالما فكر كلوديل في الملاءمة بين البيت الحر ووقفات التنفس، وطالما حلل أراجون نظام القافية وما أدخله عليه من تجديد. وكل هذا يدل على أن الشعر الحديث أبعد ما يكون عن القواعد المدرسية القديمة.
ولنستمع إلى شاعر مثل لوركا ظل يجرب إمكانات الشكل حتى استنفدها جميعا حين يقول في حديث له:
إذا صح أنني شاعر بفضل الله - أو بفضل الشيطان - فقد أصبحت كذلك شاعرا بفضل الصنعة والجهد المضني، ومحاسبتي النفس حسابا مطلقا عن ماهية القصيدة.
أو لنستمع إلى رأي شاعر مثل إليوت حين يقول إن العمل الفني يتطلب الدقة والإتقان وأنه يشبه صناعة آلة أو خرط أقدام مائدة. وإذا كان إليوت يتحرر كثيرا من الأوزان والأشكال العروضية فإنه يلتزم مع ذلك بدقة لا مزيد عليها في بناء القصيدة، بحيث تبدو في مجموعها ومن خلال تكرار أبيات معينة فيها أشبه بعمل موسيقي كبير يتألف من حركات متعددة. ولو ألقينا نظرة سريعة على فن الموسيقى المعاصرة لتأكدت لنا من جديد وحدة البناء في كل الفنون الحديثة. ويكفي أن نتصفح كتاب «فن الموسيقى»
5 - الذي يعد توأما لكتاب فاليري عن فن الشعر - لنجد مثل هذه الأفكار الأساسية: ينبغي لأي عمل فني أن يتم على ضوء «فن الشعر»، أي على ضوء الإلمام بالصنعة. الفنان هو أسمى نموذج «للإنسان الصانع»،
6
وإلهه هو أبوللو لا ديونيزوس؛ الإلهام أمر ثانوي، والأصل هو فعل الاكتشاف الذي يضع التركيب والبناء في موضع الارتجال، كما يضع «مملكة التحديد الفني في مكان الحرية الفوضوية»، وفي هذه المملكة وحدها يمكن أن تبتسم الألحان. وليس فن الشعر في نهاية الأمر إلا نوعا من فلسفة الوجود (الأنطولوجيا). (5) بين الحداثة والتراث
إذا كان الشعر الحديث يحطم القديم فهل يعني هذا أنه يقطع صلته بالتراث؟ وهل يستطيع شاعر أن يستغني عن التراث فيكون كالسمكة التي خرجت من الماء؟ ثم ما هو موقفه من عالم التجربة والعلم والتصنيع والتخطيط والحروب والمحن الجماعية؟ وإلى أي حد يرفضه أو يتأثر به؟
لقد اهتم الشعر منذ عهد بودلير بهذا الوجه الجديد المزعج من المدنية والتكنيك الحديث، وكان لهذا الاهتمام جانبه السلبي والإيجابي. فأبوللينير يدخل عالم الآلة الواقعي مع أغرب أحلام العبث والمحال في نسيج واحد. وتصبح الآلة في يديه شيئا سحريا، بل قد تحل عليها البركات وتقدم إليها القرابين ... وتفضي به التجربة إلى النشاز وتنافر الأنغام، فهو في قصيدته المشهورة «منطقة»
7 - التي تجدها في مختارات هذه المجموعة - يضع قاعات المطار والكنائس في منزلة واحدة، ويجعل المسيح الطيار الأول، الذي يضرب أعلى رقم قياسي! ونجد مثل هذا في قصيدة أخرى لجاك بريفير «الصراع مع الملاك»
8 - وتجدها كذلك في هذه المجموعة - فالصراع مع الملاك يدور في حلبة «البوكس» تحت أضواء المغنيسيوم، والإنسان يخسر الملاكمة ويسقط صريعا على نشارة الخشب!
ولكن يبدو أن الشعر الجديد قد تأثر بهذا العالم الصناعي تأثرا مزدوجا. فالحياة الآلية التي نحياها، والمعيشة في المدن الكبيرة المزدحمة قد تجذب الإنسان وتستهويه، وقد تملأ نفسه بالخراب والوحدة واليأس والضياع .
وهكذا أيضا كانت استجابة الشعر الحديث ذات وجهين. فهو يعبر عن عذاب الإنسان وضياع حريته في عالم تتحكم فيه الآلات والساعات والمشروعات الكبرى والحروب والكوارث الجماعية وتحيله في ظل «الثورة الصناعية الثانية» إلى كائن صغير ضئيل. إن أجهزته وآلاته تشهد على قوته وضعفه، وتتوجه وتخلعه عن العرش في آن واحد. والنظريات الفلكية عن الانفجار الكوني ومليارات السنين الضوئية وملايين النجوم والكواكب والأنظمة الشمسية الأخرى قد أشعرته بأنه ليس إلا صدفة عارضة حقيرة في مجموع الكون اللانهائي. كل هذه أشياء صورها العلماء والفلاسفة والشعراء وعبر عنها باسكال في القرن السابع عشر في صورة تهز النفس أروع تعبير. ولكن لا شك أن هناك صلة قوية بين التجارب التي يعانيها الإنسان وبين بعض خصائص الشعر الحديث.
فالانطلاق إلى عالم اللاواقع، والبعد بالخيال الجامح عن كل ما هو مألوف، والشغف بالرموز والأسرار الخفية، وتعقيل اللغة إلى أقصى حد؛ يمكن أن تكون كلها محاولات من جانب النفس الحديثة للمحافظة على حريتها في مواجهة عالم يتحكم فيه المال والآلة، وإنقاذ معجزة العالم والخلق في زمن يلهث وراء القوة و«العلم» والمنفعة، ويعاني من البطش والقهر والتعذيب، ويسعى وراء النجاح والأرقام القياسية بأي ثمن.
ولكن إذا كان الشعر يعلن احتجاجه على هذا العصر فهو من ناحية أخرى يتأثر به وينطبع بطابعه، فالشاعر ميال إلى التجريب والمحاولة، دقيق في صنعته دقة العالم في معمله، متأثر بروح العصر في صلابته وبروده وقسوته. إنه يحاول أن ينشئ القصيدة التركيبية التي تمتزج فيها الصور الشعرية القديمة - كالنجوم والبحار والرياح - بصور الحضارة الآلية واصطلاحات العلماء المتخصصين. فالشاعر بيير جان جوف
(ولد في 1887م) يقول مثلا في إحدى قصائده: «أرى بقعة غليظة من زيت الآلة وأتفكر طويلا طويلا في دم أمي.»
والشاعر الإيطالي كارداريللي
Cardarelli
يشبه ساعة الموت بلحظات الانتظار تحت ساعة المحطة، حيث يحصي الإنسان الدقائق والثواني. وأشعار إليوت وسان-جون بيرس تزدحم بهذه التفاصيل العلمية والفنية وتحتفظ مع ذلك بصدقها وشاعريتها. ولكن إذا كنا نلاحظ هذا كله ونقرر وجوده فلا ينبغي أن نتجاهل خطره. فقد تؤدي المبالغة في هذا الاتجاه - وبخاصة لدى شعراء لا يملكون الموهبة والثقافة الحقة والقدرة على الرؤية الشاملة - إلى أن يقضي الشعر على نفسه بنفسه - وقد وصل إلى هذا الحد أحيانا في بعض أشعار رامبو ومالارميه - ويستسلم لهذه النزعة العامة المدمرة التي تزداد كل يوم، وكأن الإنسان لا يسعى إلى شيء كما يسعى إلى تفجير الكرة الأرضية في الهواء.
وموقف الشاعر الحديث من التراث الأدبي والتاريخ بوجه عام موقف مزدوج كذلك. فالقاعدة العامة هي تحطيم هذا التراث أو الوقوف منه موقف العداء. لقد اتسعت دائرة العلوم التاريخية وأصبح ما نسميه بكنوز الثقافة والآداب العالمية في متناول كل يد، وصار في إمكان الإنسان بعد جولة واحدة في متاحف إحدى المدن الكبرى أن يعود إلى بيته حاملا فوق ظهره تاريخ البشرية كله! وتطورت كذلك وسائل النسخ والطبع والتفسير إلى أقصى حد. وازدحمت دور الكتب كما ازدحمت رءوس الناس بالمعلومات، وزاد الإحساس بثقل المادة التاريخية حتى تجلى رد الفعل منذ القرن التاسع عشر على هيئة نفور من كل ما هو قديم، وصار هذا النفور في بعض الأحيان نوعا من التعب والملل أو الاستخفاف والاحتقار. وظهر هذا الإحساس لدى أشد المفكرين اعتدالا وأكثرهم تعلقا بالماضي؛ فراحوا يطالبون بأن يؤلف الشعراء بطريقة مخالفة لطريقة القدماء. ولذلك فليس عجيبا أن نجد فاليري يكتب بأسلوبه الساخر النبيل فيقول:
لقد أصبحت القراءة عبئا علي، إنني أتمنى في بعض الأحيان أن أكون في منتهى الفقر وأعجز عن الاطلاع على كنوز المعرفة المتراكمة؛ هنالك أكون فقيرا، ولكنني سأكون ملكا على قرودي وببغاواتي الداخلية.
وبقدر ما ينحو الشعر الحديث نحوا رمزيا نجده يحاول - منذ عهد مالارميه - أن يبتدع رموزا جديدة مستقلة لا تتصل بالتراث القديم ولا تستمد أصولها منه. قد نستثني فاليري وجيان من هذه القاعدة، ولكن رموزهما لا ترجع إلى أبعد من مالارميه، أي أنها تمثل نمطا حديثا في الأسلوب أكثر مما تعبر عن رغبة في الاتصال بمناهل التراث القديم. وعندما يحول شاعر مثل سان-جون بيرس أشياء كالجير والرمل والصخر والرماد إلى رموز، يصبح من العبث أن نحاول فهمها بالاستعانة بمعلوماتنا من التراث الأدبي؛ ذلك أن هذه الرموز تختلف من شاعر إلى آخر ولا بد أن نحاول فهمها من المعاني العديدة التي توحي بها في شعره، وإن كانت محاولاتنا ستبوء بالفشل في أغلب الأحيان!
على أنه إذا كان الشاعر الحديث قد قطع صلته بالتراث فقد فتح قلبه وعقله على جميع الآداب والديانات وراح يغوص في أعماق النفس البشرية، ويلتقط الصور والرموز السحرية والأسطورية القديمة التي عرفتها الشعوب المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا. ونحن نلاحظ هذا في أشعار رامبو، قبل أن يكتشف فرويد اللاشعور، أو يكتب يونج نظرياته في اللاشعور الجمعي والأنماط الرئيسية للشخصية، وكلها كتابات أثرت أعظم التأثير على الأدب والفن الحديث.
وهناك نصوص عديدة في الشعر الحديث تتردد فيها أصداء أسطورية وشعبية من كافة الأمم والعصور.
فشعر سان-جون بيرس مثلا يزدحم بإشارات كثيرة إلى الرسم القديم، والأساطير الغابرة وطقوس العبادة عند مختلف الشعوب والحضارات. و«إزرا باوند» يورد في قصائده نصوصا من الشعر البروفنسالي والإيطالي والإغريقي والصيني والمصري القديم برسومها الأصلية في بعض الأحيان! وقصيدة إليوت المشهورة «الأرض الخراب» تقتبس من مرجع كبير عن الشعوب البدائية كالغصن الذهبي لفريزر، كما تستفيد من الكتاب المقدس والأويانيشاد، وتورد نصوصا عديدة من أشعار بودلير ومالارميه وشيكسبير وأوفيد ودانتي وكتابات القديس أوغسطين. ويحس الشاعر فيما يبدو أن قصيدته قد أصبحت كالدغل الكثيف المخيف فيتولى التعليق عليها بنفسه ويصبح هذا تقليدا يحتذيه شاعر إيطالي مثل «مونتاله» أو إسباني مثل دييجو، أو بعض رواد شعرنا الجديد في ترجماتهم الذاتية القيمة.
ومع ذلك فلا يصح أن تخدعنا هذه الاقتباسات من النصوص القديمة؛ فهي لا تدل على ارتباط حقيقي بالتراث أو بعصر من العصور الماضية. إن الشاعر يمد يده إلى هذه النصوص والإشارات فيأخذها كيفما اتفق لأنها أصبحت بالنسبة إليه بقايا ماض تمزق وفقد وحدته. إنه لا يعود إلى هذه الرموز والأساطير ليمجد عصرا أو يسترجع ماضيا وإنما يسوي بينها كما يسوي بين الأشياء التي يستمدها من عالم الواقع، ويضعها إلى جوار بعضها أو يمزج بينها كيفما شاء هواه. ربما يكون هدفه من ذلك أن يزيد إحساسنا بتمزق قصيدته أو عدم تماسكها كتمزق الواقع نفسه وفوضاه، أو ربما يريد - كما يفعل باوند - أن يلبس أقنعة مختلفة لتعبر عن حالة ضياع جماعية واحدة أو يخلق بالكلمات والرموز القديمة - كما يفعل بن، وسان-جون بيرس - نوعا من سحر الأنغام والصور يضفي على شعره روعة وبهاء. والدليل على ذلك أنه لا يضع هذه الصور والرموز والنصوص المقتبسة في عصرها ولا يوردها بحسب ترتيبها التاريخي بل يخلطها بكلمات وشعارات وصور أخرى من العالم الحديث.
والواقع أن من حق الشعر أن يطوف كما يشاء في مختلف البلاد والعصور، ما دام يفعل ذلك للشدو والغناء، لا لتقرير حقيقة أو إثبات دليل. وإذا سمعنا شاعرا مثل جوتفريد بن يقول: «الدوائر تظهر: تماثيل أبي الهول العريقة في القدم، كمنجات وبوابة من بابل، رقصة جاز من ريو ورقصة سوينج وصلاة.» استطعنا أن نقول كما قدمنا إن الشاعر يسوي بين حقائق التاريخ كما يسوي بين الأشياء التي يجدها مختلطة أمامه في عالم الواقع، فكل ما يراه في التاريخ أو على الأرض قد صار غريبا بلا بيت ولا وطن. (6) طرح النزعة البشرية
من مفارقات الشعر الحديث وظواهره الغريبة التي تستلفت الانتباه ظاهرة يمكن أن نسميها باطراح الإنسانية أو تعرية التعبير الشعري بقدر الإمكان من النزعات والعواطف البشرية. ولا شك أن هذا يبدو أمرا محيرا للقارئ العربي الذي يغرق كل يوم في بحران العواطف الكاذبة والانفعالات المائعة التي تزعم أنها تعبر عن الكآبة والحزن والفرح، وهي في الواقع تزيفها. فما هي إذن هذه الظاهرة وكيف نفهمها؟
ظهر في سنة 1925م مقال للفيلسوف الإسباني أورتيجا أي جاسيت
Ortega y Gasset
عن تجريد الفن من النزعة البشرية فأصبحت هذه
La déshumanizacion del arte
الكلمة منذ ذلك الحين اصطلاحا شائعا في لغة النقد الحديث، لا يبغى إدانة الشعر بقدر ما يبغي وصف ظاهرة من ظواهره الأساسية. والفكرة الرئيسية في هذا المقال هي أن الإحساس الإنساني الذي يثيره العمل الفني يصرفنا عن قيمه الفنية وخصائصه الاستطيقية.
9
ولا شك أن جاسيت متأثر بكتابات كانت وشيلر الفلسفية عن الجمال المجرد من الهدف أو الغرض، ولكنه يطبق فكرته على عصور الفن المختلفة فيعلي من شأن كل أسلوب فني يحول الأشياء أو يحورها أو يشوهها أو يعريها من حضورها المشاهد. «فالأسلبة» في الفن معناها تحوير الواقع وتغييره، والأسلبة تنطوي على «نزعة التجريد من البشرية». والحق أن كلمة التحوير أو لنقل التشويه
Deformation
التي يعبر بها الفيلسوف الإسباني عن مبدأ استطيقي بعينه تستند - كما رأينا من قبل - إلى وقائع بدأت تظهر في مجال الفن الحديث بشكل عام منذ منتصف القرن التاسع عشر ولكنها مع ذلك تجعل من كلمته تعبيرا حديثا بمعنى الكلمة يستمد قوته من قوة الرفض والسلب التي يزداد سلطانها منذ قرن من الزمان. فالعمل الفني بهذا المعنى لا تكون له قيمة إلا بمقدار ما يحتوي على إمكانيات الأسلوب التي تحور و تغير بل وتشوه الموضوعات، وبمقدار ما فيه من قدرة التهكم على النفس، التي تعد نوعا من رد الفعل على النزعات الانفعالية التي يزخر بها الفن القديم.
ولكن ما معنى «التجرد عن الإنسانية أو طرح البشرية»؟ وكيف يتم؟ معناه استبعاد الحالات العاطفية الطبيعية وقلب النظام المتواضع عليه في ترتيب الكائنات ابتداء من الجماد إلى الإنسان، بل وجعل الإنسان في أسفل السلم الطبيعي من هذا الترتيب وتصويره على نحو يجعله يبدو في أقل درجة ممكنة من الإنسانية أو يخليه ما أمكن من الصفات البشرية. ويوضح «جاسيت» هذا بقوله: «إن المتعة الجمالية التي يشعر بها الفنان الحديث تأتي من هذا الانتصار على كل ما هو إنساني.» وفي هذا يلتقي مقاله بمختلف الأساليب والبرامج الأدبية التي وضعها الشعراء وطبقوها منذ عهد بودلير.
ولا بد من توضيح ما نقصده بالتجرد من النزعة البشرية بأمثلة من الشعر الحديث. فالذات فيه قد أصبحت نوعا من «الجو الوجداني» المحايد، وكلما أوشكت أن تقع في العاطفية أو الطراوة لجأت إلى عناصر تزيد من صلابتها وخشونتها وبرودها. وأوضح مثال يخطر على البال في هذا الصدد هو شعر رامون خيمينث (وله في هذه المجموعة قصائد كثيرة يمكن الرجوع إليها) وما طرأ عليه من تطور. فلقد كان شعره قبل الحرب العالمية الأولى شعرا ذاتيا خالصا يمزج الكآبة بالدموع بالأحلام بالحدائق النضيرة. غير أنه اشتد صلابة بعد العشرينات. فنجده مثلا في إحدى القصائد يصف النفس بأنها «عمود من الفضة» والتشبيه جميل ولكنه يعبر كما تعبر القصيدة كلها عن نفس تخلصت من الكآبة اليسيرة الساذجة وأصبحت نوعا من التوتر المعلق بين السماء والأرض لا يمكن تحديده أو وصفه.
وشعر الشاعر الإيطالي أنجارتي (وبخاصة بعد ظهور ديوانه «عاطفة الزمن» في سنة 1936م) ينطق عن حال لا تعرف الفرح ولا الألم بل ترف في جو من التأمل الخالص المحايد. فليس في أبيات القصيدة عنده «قيم نفسية» - لاحظ مثلا أنه يتجنب في إحدى قصائده التي تجدها في هذا الكتاب أن يظهر الفرح بمولد الفجر كما اعتاد الشعراء دائما - وإنما تقتصر الحركة فيها على حركة اللغة والصور غير الواقعية، وكأن الشاعر يخشى أن يضبطه القارئ متلبسا بعاطفة مألوفة، أو يتنهد عند قراءته له ويقول: «هذا هو ما كنت أحس به دون أن أستطيع التعبير عنه!» إن الإحساسات اليومية المعتادة ينبغي أن تصمت في القصيدة، والقصيدة التي يسميها فاليري «عيد العقل» تحتوي كما يقول أيضا على أشياء لا يمكن أن يتصف بها في العادة أي إنسان؛ ذلك لأن الجهد الفني، شأنه في ذلك شأن العمل العلمي، يحتوي على شيء غير إنساني. وليس غريبا بعد هذا أن نجد شاعرا يسمي ديوانه «لا قصائد» (كما فعل بيشيت
H. Pichette
في سنة 1947م)، أو «كراهية
La haine de la poésie
الشعر» (كما فعل باتاي
G. Bataille
في نفس السنة أيضا) ...
ونسوق مثلا آخر لتوضيح هذا الكلام عن الشعر الخالص من «الأنا» ومن النزعة البشرية بقصيدة «الصرخة» التي يجدها القارئ في هذه المجموعة (وقد كتبها لوركا في سنة 1921م):
منحنى
10
صرخة ... يمضي من جبل
إلى جبل ... إلخ.
والقصيدة لا تؤكد على المكان ولا على الصرخة، بل على هذا الشكل الهندسي الذي تبرزه كموضوع رئيسي تتكون منه بعد ذلك أو تنبني عليه موضوعات أخرى كالمكان، والليل، والجبال، وأشجار الزيتون. ويصبح المنحنى أو الإهليلج - الذي صار نصفه موضوعا ونصفه الآخر استعارة - قوس قزح أسود ثم قوس كمان «ترتعش تحته أوتار الريح الطويلة». وإذا سألنا أنفسنا من أين تأتي هذه الصرخة لم نتلق جوابا. فالصرخة هناك، بل تكاد تكون هي وحدها الموجودة. ولكن هل هي صرخة إنسان؟ إن القصيدة تتكلم قبل نهايتها عن الناس الذين سمعوا هذه الصرخة: «الناس في الكهوف يعلقون المصابيح في الخارج.» غير أن هذا لا يخلع على النص صفة إنسانية. أضف إلى ذلك أن البيتين الأخيرين موضوعان بين أقواس ، وكأن القصيدة تلقي نظرة من بعيد على أولئك البشر الذين وقفوا حائرين أمام تلك الصرخة التي تصدر عادة عن الإنسان ومع ذلك فقد قطعت صلتها بكل إنسان.
الصرخة إذن شيء محايد مجهول، خط من النغم يصل اليوم وأمس وغدا إلى الجبال والرياح وأشجار الزيتون ولكنه مقطوع الصلة بالإنسان، أو نحن نجهل على الأقل أنه يخرج من صدر إنسان.
وهناك أمثلة أخرى يستطيع القارئ أن يجدها في شعر رافائيل ألبرتي، تتحدث عن موضوعات مألوفة كالبكاء على الحب، ولكنها تدخلها في نسيج شفاف معقد وتستوحي خيوطها من اكتشافات المدنية والعلوم الحديثة، وتملؤها بالإشارات السريعة إلى السفن والطائرات والكازينات والبارات والبنوك المغلقة ... إلخ. وأوضح مثل لهذا قصيدته «الآنسة» س «المدفونة في ريح الغرب» (1926م)، فهي لا تتكلم عن حزن شخصي بل تضع الحزن في الأشياء وتعبر عنه من خلال أمور مضحكة أو سخيفة أو عادية أو كونية أو فلسفية، وتزيد بهذا من صلابته وتجرده من العاطفية والانفعال. والغريب أنه ليس هناك شخص واحد يبكي في القصيدة، بل أشياء كعمود التليفون الذي يحزن لأن الآنسة س لا ترسل حديثها منه، وكالشمس التي صعقتها الكهرباء والقمر الذي تفحم!
ويطول بنا المقام لو تتبعنا ما سميناه بالتجريد أو التعرية من النزعة البشرية في الشعر الحديث. ويكفي أن يلقي القارئ نظرة سريعة على نماذج من شعر سان-جون بيرس، هذا الشعر المجيد الذي يتغنى بعظمة الطبيعة وروائع الأعمال البشرية في بناء فني رفيع، ولكنه يدور في مناطق عجيبة منزوعة عن المكان والزمان، يصعب أن يهتدي القارئ فيها أو يجد في أجوائها النفسية الغريبة قدرا قليلا من الفرح أو البهجة، ويكفي أيضا أن يطلع على شعر «رافائيل ألبرتي» أو «خورخه جيان» ليرى إلى أي مدى يمكن أن يخلو الشعر من الوصف المباشر العاطفة الحزن والفجيعة والمرارة ويؤثر، على الرغم من ذلك بصوره وخياله ومفرداته اللغوية وبنائه الفني، أعظم تأثير. إن الشاعر يحول الناس والأشياء إلى صور ومقولات مجردة. إنه يتجرد عن عواطفه الشخصية لينظر إلى الأشكال الخالصة في المكان والنور. ومن العبث أن نسأل أين يعبر الشعر الحديث عن الفرح وأين يعبر عن الحزن. فمثل هذه المضمونات التي لا يمكن أن يستغني عنها الشعر بالطبع، ترف علوا أو هبوطا في منطقة تستطيع النفس أن تنظر فيها وتحس بأبعد وأشجع وأصلب وأنقى مما تستطيعه نفس عادية حساسة. ولعل هذا يفسر لنا كيف أن بعض الشعر الحديث الذي استطاع أن يتعرى من «معطف الأنا» - إن صح هذا التعبير - قد جعل من الأشياء موضوعه الوحيد.
إن الشاعر يستطيع الآن - كما يفعل الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج (ولد في 1889م) الذي يرفض أن يسمي شعره شعرا - أن يتكلم عن باب أو رغيف خبز أو قوقعة أو شمعة أو سيجارة بطريقة أشبه ما تكون بالفينومينولوجيا الشعرية إذا جاز أن نستعير هذا التعبير من فلسفة هسرل في الظاهريات! لا لكي يصف الأشياء وصفا واقعيا أو يشوهها ويغيرها، بل ليظهرها جامدة أشد الجمود أو ليضفي على الجماد منها حياة لا واقعية غريبة. والمهم أنه يستبعد الإنسان من شعره ويحاول كما يقول: «أن يولد الأشياء من الكلمات».
مثل هذا الشعر «الموضوعي في ظاهره» لا يكاد يبقي من الإنسان إلا اللغة الخلاقة والخيال الطليق. إن تجريد المضمونات وردود الأفعال النفسية من طابعها البشري هو النتيجة الضرورية التي ترتبت على السلطة غير المحدودة التي أعطاها العقل الشاعر أو الذات الشاعرة لنفسها. لقد أصبح الشاعر الحديث «دكتاتورا» مع نفسه. إنه يحاول أن يلغي نزعاته الطبيعية ويسلخ نفسه عن العالم أو يسلخ العالم عن نفسه لكي يؤكد حريته في التخيل والخلق وتجديد اللغة ويثبت قدرته على الثورة والاحتجاج والإغراب. وتلك هي المفارقة الكامنة فيما نسميه طرح النزعة البشرية. (7) التوحد والقلق
هل يعني هذا أن الشعر الحديث - على طريقته المختلفة عن شعر الأقدمين - لا يعبر عن مضمون نفسي، ولا ينقل لنا إحساسا ولا شعورا؟
ليس أبعد عن الصواب من هذا الظن. فالشعر الحديث ينقل إلينا الكثير على الرغم من أنه ينفر في مجموعه من إيجاد تلك العلاقة الحميمة التي كان يعتز بها الشعراء الأقدمون بين الشاعر وبين جمهوره من القراء. بل إنه ليغالي في ذلك في بعض الأحيان حتى ليوشك المرء أن يعتقد بأنه لا يبحث عن «معجبين» بقدر ما يبحث عن كارهين أو غاضبين.
وأبرز الإحساسات التي ينقلها إلينا الشعر الحديث، هو الإحساس بالوحدة والقلق؛ فالشاعر - كما يقول الكاتب النمسوي روبرت موزيل - هو أشد الناس شعورا بوحدة الذات في العالم ووحدتها بين غيرها من البشر، والفكرة قديمة بغير شك، وجدت قبل الرومانتيكية وبقيت حية بعدها ولكنها قد أصبحت في أيامنا فكرة جديدة كل الجدة، ترتبط ببدعة العصر أو حقيقته التي ذاعت اليوم على كل لسان من أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر «القلق» والوحدة والضياع في الزحام. ولعل الناس لا تتفق في شيء يتعلق بالشعر والشعراء كما يتفقون على أنهم أناس متوحدون قلقون.
وقد عبر الشاعر أبوللينير عن ذلك في قصة نثرية بعنوان «الشاعر المقتول»
11 (1916م) أو المغتال. والقصة تصور أحداثا عجيبة غير منطقية تنتهي إلى تصوير جريمة القتل التي ترتكبها جميع البلاد في حق جميع الشعراء! وتنتهي القصة بأن يصنع أحد المثالين للشاعر المقتول «تمثالا من العدم». والقصائد الأخيرة لشاعر التعبيرية الأكبر «تراكل»
12 (1887-1914م) تثبت أن وحدته مع نفسه كانت وحدة مطلقة. والشاعر سان-جون بيرس يقول عن اللغة التي يستخدمها في قصيده الطويل المشهور «منفى» (وتجد بعض مقتطفات منه في هذا الكتاب): «إنها لغة المنفى النقية.» وإن دل هذا كله على شيء، فهو يدل على أن القلق قد أصبح سمة العصر التي يتحدث عنها الجميع كما كانوا يتحدثون قديما عن «القمر» أو «الشوق»، حتى إن أحد الشعراء الإنجليز وهو و. ه. أودن، قد كتب في سنة 1946م قصيدة مشهورة بعنوان «عصر القلق» (1946م). ولكن الأمر ليس مجرد بدعة أو تقليد؛ فما أكثر القصائد الأصيلة التي تشهد بهذه التجربة الأساسية في وجدان الإنسان الحديث.
ولنعقد الآن مقارنة سريعة بين الجو العام الذي يسود إحدى قصائد شاعر قديم نسبيا مثل «جوته» وبين بعض قصائد المعاصرين. فهو يتحدث في قصيدته «سكون البحر» التي يحتمل أن يكون قد كتبها في سنة 1795م، عن الفضاء الشاسع المخيف، والبحر الساكن العميق الذي لا تتحرك فيه موجة ولا تهب عليه نسمة:
سكون عميق يسود المياه
وبلا حركة يمتد البحر،
والملاح ينظر مهموما
إلى السطح الأملس حواليه.
لا نسمة من أي ناحية!
سكون الموت المخيف!
في الفضاء الشاسع
لا تتحرك موجة واحدة.
ولكنه يتبعها بقصيدة أخرى تتفق معها في الموضوع والإيقاع والنغم وهي قصيدته «رحلة سعيدة»، فنجد كيف ينقشع القلق، وينفك إسار الخوف ويتشجع الملاح ثم لا يلبث شاطئ النجاة أن يظهر للعين من بعيد:
تبدد الضباب،
وصفت السماء،
والريح تفك
إسار الخوف.
تتنفس الرياح،
ويتحرك الملاح؛
اسرعوا! اسرعوا!
فالموج ينثني
والبعد يقترب،
وها أنا ذا أرى الشاطئ!
فالخوف والقلق هنا ليسا إلا جسرا يعبر عليه الشاعر إلى الأمل والصفاء.
أما ما نجده في الشعر الحديث فهو يختلف عن ذلك. فيندر أن نجد قصيدة تحدثت عن القلق ثم استطاعت أن تتخلص منه. وتشبه قصيدة جوته السابقة قصيدة لرامون خيمنيث بعنوان «بحر» تصور رحلة على مركب ويصطدم المركب بشيء ما، ولكن لا يحدث في الحقيقة شيء، فليس هناك إلا السكون والأمواج وشيء آخر «جديد» يتركه الشاعر بلا اسم. وهكذا يسير الشاعر الحديث من الأمل إلى القلق بعد أن كان الشاعر القديم يسير في عكس هذا الاتجاه.
وإذا تذكرنا قصيدة «الصرخة» للوركا التي تحدثنا عنها من قبل تذكرنا معها قصيدة أخرى له بعنوان «الصمت» (ويجدهما القارئ معا في هذا الكتاب).
أنصت يا ولدي للصمت؛
صمت متموج،
صمت،
تنزلق الوديان خلاله
والأصداء،
ويذل جباها
فوق الأرض.
فالصمت لا يمحو هول تلك الصرخة المخيفة التي سمعناها تتردد في القصيدة السابقة بل لعله يزيده رهبة إذ يولد هولا جديدا هو هول الصمت الذي تنزلق الوديان والأصداء خلاله ويضغط الجباه على الأرض.
وهو كذلك في قصيده «مرثية الصمت» يجعل من الصمت تعبيرا هامسا عن القلق ويصفه بأنه «شبح الانسجام ودخان من الشكوى» لأنه يحمل «عذابا سحيق القدم وصدى الصرخات التي انطفأت إلى الأبد». وهو في إحدى قصائده المتأخرة وهي قصيدة بانوراما عمياء لنيويورك يتحدث في إيقاع حر عن مضمونات لا تكاد تمت بصلة للعنوان الذي وضعه لها. ويسأل القارئ نفسه بعد قراءتها: أين هو الألم العظيم المطلق؟ ليس له وجود في المدن الضخمة الهائلة؛ مدن الدم والشقاء، ولا على الأرض «ذات الأبواب المتشابهة دائما، التي تؤدي إلى احمرار الثمار»، ولا هو في أصوات الناس، إنما الأسنان هي الموجودة وحدها، ولكنها أسنان «يتحتم عليها أن تصمت في العشب الأسود.» وكأني بلوركا يتحدث عن ذلك القلق الذي يقلقه ألا يجد غذاءه من الألم والعذاب، وعن الخوف الذي لم يعد يخاف شيئا كما يخاف الخوف نفسه.
وعلى نحو آخر يتكلم شاعر مثل «إلوار» عن القلق في قصيدة الشر (من ديوانه الحياة المباشرة 1932م).
13
إنه لا يسميه بل ينقل إلينا الإحساس الحذر به عن طريق النص نفسه عندما يكرر كلمة بعينها: «كان هناك ...» أو يكرر جملة واحدة كأنها تعويذة سحرية أو صلاة تتلى في ملل، وهو أسلوب معروف عند رامبو:
كان هناك الباب كأنه منشار ...
الباب بلا هدف،
كانت هناك قطع النوافذ المهشمة،
لحم الريح المعذب تمزق عليها ...
كانت هناك حدود المستنقعات ...
في حجرة مهجورة،
في حجرة فاشلة،
في حجرة خالية.
فهذه الأشياء التي تذكر واحدة بعد الأخرى دون أن تكون بينها علاقة؛ لم يهدف إليها الشاعر في ذاتها بل أراد أن تكون علامات على النفي والرفض والتهشيم والتحطيم، وبذلك تكون في نفس الوقت علامة على القلق الذي لا تذكره لغة القصيدة بل توحي به وتخلقه.
وهكذا نستطيع أن نقول بوجه عام - وإن كان التعميم شيئا كريها!- إن الشاعر القديم كان يسعى للاتصال بالعالم والناس وكانت نفسه تريد أن تألفهما وتقترب منهما، سواء نجحت في ذلك أم خاب أملها فيه.
ونحن في حياتنا اليومية نصف أشياء كثيرة بالشاعرية، فنقول مثلا عن مكان خال - مهما يكن فقره وبؤسه - إنه شاعري، أو نصف وجها عجوزا معبرا أو حفلا بهيجا بأنهما شاعريان؛ فنفهم في كل الأحوال أن هناك صلة ود بين النفس وبين ما تراه من الظواهر الحسية الخارجية تجعلها تسكن إليها وتأنس بها. أما في الشعر الحديث فالأمر مختلف.
فالشاعر يتعمد أن يجعل المألوف غريبا والقريب بعيدا! وكل من يقرأ لكبار الشعراء المعاصرين يخيل إليه أن هناك قوة خفية تدفعهم دفعا إلى تحطيم الصلة بينهم وبين العالم أو بينهم وبين غيرهم من الناس، ومن يتابع الرواية الحديثة يلاحظ أيضا أن أسلوبها يحرص على هذا الإغراب وقطع الصلة بين الناس والأشياء أو بينهم وبين بعضهم البعض، ابتداء من روايات فلوبير الأخيرة إلى روايات وأقاصيص هيمنجواي وألبير كامي والروائيين الجدد. وكأنها تحرص على إبراز التضاد بين الإنسان والعالم أو بينه وبين الناس عن طريق تفتيت الحدث إلى وحدات منفصلة لا تجمع بينها رابطة سببية، أو حذف الروابط في العبارة ووضع الكلمات إلى جانب بعضها البعض كأنها كتل متنافرة لا تدخل في سياق أو معنى عام.
ولقد سمعنا جميعا بالضجة التي أثارها برتولت برشت وناقدوه منذ العشرينيات باصطلاحه المعروف عن «الإغراب» الذي جعله شعارا لنظريته في المسرح الملحمي. كما وجدنا شاعرا كبيرا مثل أبوللينير يتكلم قبل موته بقليل عن «المناطق الغريبة» التي ينتظر أن ينطلق الشعر إليها.
يقول الكاتب الروائي النمسوي «روبرت موزيل»: «إن الشاعر يحس حتى في الصداقة والحب بأنفاس الكراهية والتقزز التي تبعد الكائنات عن بعضها البعض» والشعور بأن قرب الإنسان من الإنسان هو في حقيقة الأمر بعد عنه، يكاد أن يكون موضوعا ثابتا من موضوعات الشعر الحديث.
فقصيدة «أغنية» للشاعر الإيطالي «أنجارتي» (راجع النصوص) تنتهي بحزن (غير عاطفي!) يعبر عنه قوله: إن الحبيبة بعيدة كما لو كانت في مرآة، وإن الحب يكشف عن «القبر اللامتناهي» للعزلة الباطنة. ولوركا يقول في إحدى قصائده: «ما أبعدني حين أكون قريبا منك! وما أقربني حين أكون بعيدا عنك!» والشاعر الألماني كارل كرولوف يقول في «قصيدة حب» (1955م) التي تجدها فيما بعد: «هل ستسمعينني خلف الوجه المعشوشب للقمر الذي يتفتت؟ والليل يتكسر كالصودا، أسود وأزرق.» وكأن هذه الصور الصلبة وهذا التحطم والتناثر والانكسار يعبر عن فشل محاولته للقرب من الحبيبة كما يعبر عن خلاصه المنتظر على يد اللغة الشاعرة الخلاقة، وهو في الواقع خلاصه الوحيد.
ونجد في قصيدة أخرى للوركا (تجد مقتطفات منها في هذه المجموعة) كيف يتحول بعد الأموات - وهو شيء طبيعي - إلى بعد مطلق. والجزء الأخير من قصيدة لوركا هذه عن مصارع الثيران سانشيز ميخياس (1935م) يحمل هذا العنوان «نفس غائبة». إنه لا يذكر الميت ولا الموت بكلمة واحدة وإنما يقول: «إن أحدا لم يعد يعرفه، لا الثور ولا الخيل والنمال في بيته، ولا الطفل والمساء، ولا الحجر الذي يرقد تحته. لقد صار بعيدا عنه بحيث لا يستطيع التذكر نفسه أن يصل إليه. لكنني أغنى باسمك.» غير أن هذا الغناء لا يجدي أيضا؛ فالشاعر الذي غلبته الوحدة واليأس من الوصول إلى الصديق البعيد لم يعد يملك إلا أن يغني عن النسيم الحزين الذي يسري بين شجيرات الزيتون.
وقل مثل هذا عن قصائد رافائيل ألبرتي التي نشرها في سنة 1929م بعنوان «عن الملائكة» والتي تجد مختارات منها في هذا الكتاب.
فالملائكة التي يتحدث عنها الشاعر - كالملائكة التي تحدث عنها رامبو - ليس لها أي معنى ديني. إنها كائنات «خرساء كالأنهار والبحار»، خلقها خيال شاعر وحيد. هناك صراع درامي خفى يدور بينها وبين الإنسان وينتهي إلى انقطاع كل أمل في الاتصال بينهما. فالإنسان يعلم أن الملاك موجود، غير أنه لا يراه، ولا النور يراه، ولا الريح وزجاج النوافذ تراه، والملاك أيضا لا يرى الإنسان ولا يعرف المدن التي يسير فيها، لأنه بلا عيون، ولا ظلال، ولأنه «يغزل الصمت في شعره»، وما هو إلا «ثقب وحيد رطب، ونبع جف الماء فيه». لقد مات بيننا نحن البشر، أضاع المدينة وأضاعته. ومع أن من الصعب تفسير هذه القصائد (التي وصفها البعض خطأ بالسيريالية)، إلا أن الرمز الذي تدور حوله لا يستعصي على الفهم، لقد كانت الملائكة دائما كائنات نورانية مباركة، سواء أرسلت إلى الناس لتبشرهم بنعمة الله أو تنذرهم بغضبه ونقمته. كان الإنسان يحس صلة بينه وبينها ، وكان يشعر أنه ليس وحيدا في هذا الكون، وأن هناك كائنا علويا يرعاه ويتذكر وجوده على الأرض البائسة. غير أنه يبدو أن الملائكة التي يصورها الشاعر قد سئمت الإنسان فلم تعد تعرفه أو تهتم بشأنه، بل ولم تعد تذكر منه إلا صورا للقبح والفساد والفناء.
للكاتب الألماني الشهير فرانز كافكا أمثولة لطيفة جعل عنوانها: «القرية المجاورة»
14
يقول فيها: «كان من عادة جدي أن يقول: «للحياة قصيرة إلى حد مذهل!» والآن تضغط علي الحياة بذكرياتها حتى لا أكاد أتصور مثلا كيف يمكن أن يصمم شاب على ركوب جواده إلى القرية المجاورة دون أن يخشى - بصرف النظر تماما عن الصدف المؤلمة - أن يكون عمر الحياة العادية التي يلازمها الحظ أقصر بكثير من أن يتسع لمثل هذه الرحلة.»
هذه الأمثولة (وما أشبه اليوم بالأمس! فهل تذكر أيها القارئ مفارقات زينون الأيلي عن أخيل والسلحفاة؟) تعبر عن موقف أساسي في وجدان الجيل الحديث من الشعراء، ألا وهو العجز عن «الوصول» حتى ولو كان الهدف قريبا. ولنضرب مثلا لذلك من الشعر الحديث بقصيدة لوركا «أغنية فارس» (1924م).
قرطبة
وحيدة وبعيدة
فرس أسود صغير، قمر كبير،
حبات زيتون في حقيبة سرجي.
أعرف الطرق حقا،
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدا
عبر المدى الفسيح، عبر الريح،
فرس أسود صغير، قمر أحمر.
الموت يحدق في
من أبراج قرطبة.
آه! ما أطول الطريق!
آه! يا فرسي الشجاع؟
آه! الموت يخطفني
قبل أن أبلغ قرطبة!
قرطبة
وحيدة وبعيدة .
فالفارس يعرف الطريق إلى هدفه وهو مدينة قرطبة، ولكنه يعرف أيضا أنه لن يصل أبدا إلى هذا الهدف. إن الموت يحملق فيه من أبراج قرطبة، وهو لن يعود إلى بيته لأن الموت ينتظره هناك في السهول الشاسعة التي تعصف فيها الرياح.
وما كذلك الشاعر القديم الذي كان يحن إلى بيته أو وطنه، ويحمل في نفسه صورة البيت والدخان الذي يصعد من مدخنته، والسور الذي يظهر فوق سطحه، والعجوز التي ستفتح له الباب ... إلخ.
ولنضرب مثلا آخر بقصيدة «جوته» التي تبدأ بهذا البيت : «دعوني أبكي» وهي إحدى قصائد ديوانه الشرقي التي لم ينشرها فيه ووجدت بعد الموت في أوراقه.
دعوني أبكي ... يحوطني الليل
في الصحراء الشاسعة.
الجمال راقدة، الرعاة كذلك راقدون،
والأرمني سهران يحسب في هدوء،
أما أنا فأرقد إلى جواره، وأحسب الأميال
التي تفصلني عن زليخة، وأتفكر باستمرار
في الدروب الملتوية المزعجة التي تطيل الطريق.
دعوني أبكي فليس هذا عارا.
الرجال الذين يبكون طيبون.
لقد بكى أخيل على حبيبته بريزيس.
15
واكسيركس بكى الجيش اللي لا يهزم.
16
والإسكندر بكى حبيبه الذي قتله بنفسه.
17
دعوني أبكي. إن الدموع تحيى التراب، (و) ها هو ذا يخضر.
فالشاعر هنا بعيد عن هدفه. وهو يقضي ليلته في الصحراء المترامية الأطراف، ويفكر في الأميال التي تفصله عن حبيبته «زليخة» غير أن بعد هذا الهدف في المكان لا يبعده في الحقيقة عنه، لأنه يظل شيئا يحن إليه كما يظل شيئا مألوفا له، قريبا منه بالتذكر والشوق، يمكنه أن يصل إليه بين يوم وآخر. إنه حزين، ولكن حزنه يمكن أن يجد العزاء، بل إنه ليعزي نفسه حين يتذكر أبطالا قدامى، بكوا حقا، ولكن البكاء لا يعيب الرجال.
أما شاعرنا «لوركا» فيقول في مطلع قصيدته إن قرطبة بعيدة. ونخطئ لو تصورنا أنه بعد مكاني. فالفارس يرى المدينة أمام عينيه ولكنها بعيدة عنه بعدا مطلقا، على الرغم من قرب المسافة التي تفصله عنها. هناك لغز محير يتمثل في شبح الموت الذي يطارده ويبعد المدينة عنه ويجعل الطريق إليها طريقا خطرا لا نهاية له. ما من شوق ولا دموع، ما من عزاء عن هذا الإحساس بالبعد المحتوم. فالنفس تعيش في يأس مطبق، في حالة شعورية لا حدود لها ولا معالم. والشاعر ينادي الجواد والطريق والموت وهذا هو كل شيء. أضف إليه هذه الجمل التي تدور في شبه دائرة ناقصة، وتخلق باستغنائها عن الأفعال صورة لغوية تعبر عن استسلام الشاعر للغربة والخطر الجاثم عليه.
هكذا يتجلى لنا الفارق العميق بين أسلوبين في التعبير الشعري؛ فالهدف البعيد في المكان يظل قريبا من نفوس القدماء، إنهم يتصورونه ويحنون إليه ويبكونه ويعزون أنفسهم ببلوغه، أما المحدثون فيتحول القرب المكاني عندهم إلى بعد باطني مخيف، تحس به نفوسهم أوضح إحساس وأقساه.
إن الشاعر القديم مطمئن إلى العودة إلى بيته وأهله، أما الشاعر الحديث فيشعر أن هذه العودة مستحيلة، لأن هناك لغزا أو قدرا يأسره ويتسلط عليه ويبعد الوطن عنه أو يبعده عن الوطن. إنه ليس غريبا في هذا العالم فحسب، بل إن العالم نفسه قد صار غريبا عليه. ولعل قصيدة لوركا الأخيرة أن تكون من أوضح الأمثلة على استحالة العودة إلى وطن تسكن النفس إليه، ربما لأن الوطن صار غريبا، والغربة صارت وطنا. (8) غموض الشعر الحديث
تحدثنا في الصفحات السابقة عن غموض الشعر الحديث، وبينا أنه من أهم الخصائص التي تميزه. والواقع أن الشعر الحديث يلقي على اللغة مهمة عسيرة وغريبة معا، ألا وهي أن تفصح عن المعنى وتخفيه في آن واحد. فالغموض يوشك أن يصبح مبدأ جماليا عاما لهذا الشعر. إنه يعزل القصيدة عن وظيفة اللغة الأساسية في النقل وتوصيل المعاني، ليعلقها في ما يشبه الفراغ، فتبتعد عن القارئ كلما حاول أن يقترب منها. وقد يبدو في بعض الأحيان كأن الشعر الحديث ليس إلا محاولة لتسجيل إحساسات مبهمة وتجارب مضطربة يحتفظ بها الشاعر لمستقبل قريب أو بعيد، يستطيع أن يعبر فيه عن إحساسات أوضح وتجارب أنجح. ولهذا فهو يدور ويدور حول إمكانيات لم تثبت أو تتحقق بعد.
ولكن من أين يأتي هذا الغموض؟
قد يأتي من المضمون أو من الأسلوب الذي يلجأ إليه الشاعر. فالقصيدة تتكلم عن أحداث أو كائنات أو أشياء لا يعرف القارئ شيئا عن مكانها أو زمانها أو أسبابها، ولا يخبره الشاعر بشيء عنها، وعباراتها لا تتم ولا تكمل بل تنقطع فجأة لسبب لا يدريه، كأنما حاولت أن تقطع الصمت المطبق فلم تفلح. وقد لا يتألف المضمون إلا من مواقف لغوية متباينة، تختلف بين الخشونة والنعومة والسرعة، بحيث تكون الموضوعات والمشاعر التي تتحدث عنها مجرد مادة بلا معنى محدد. ومن أبرز وسائل الأسلوب التي تسبب الغموض تغيير وظيفة الحروف والروابط والصفات والظروف وصيغ الأفعال المختلفة، وترتيب الجملة العادية ترتيبا غير عادي، والميل إلى ما يمكن تسميته بالجمل المفتوحة، كأن تتألف الجملة من أسماء لا يرتبط بها فعل، أو نجد جملة رئيسية بلا جملة جانبية أو العكس، أو جملة شرطية بغير جواب الشرط، أو إسقاط أدوات التعريف عن الأسماء أو استخدامها بطريقة تزيد من الغموض بدلا من أن تعمل على التحديد والتعريف، أو استخدام الكلمات بمعان قديمة مشتقة من أصولها الأولى التي لم يعد يستخدمها أحد. أضف إلى هذا أننا قد نجد قصائد بلا عنوان، أو بعناوين لا توافق موضوعها فتزيد بذلك من تعدد المعاني المختلفة التي توحي بها. وقد يكون السبب في التخلي عن العنوان هو رغبة الشاعر أن يخلي مضمونه من أية صلة تربطه بالواقع والمألوف. ويذكرنا هذا ببيكاسو الذي اشتهر عنه أنه لا يضع عناوين للوحاته، بل يتولى ذلك عنه تجار اللوحات ومنظمو المعارض الفنية.
ويطول بنا الأمر لو أردنا أن نتتبع أقوال الشعراء التي يطالبون فيها بالغموض أو يحاولون تبريره. وقد سبقت الإشارة إلى بعض هذه الأقوال في الفصل الأول. ولا بأس من أن نورد بعضها الآخر؛ فهي جميعا تثير مشكلة الفهم إلى جانب مشكلة الغموض، ومعظمها يتجه إلى الجواب عليها في نفس الاتجاه الذي سار فيه مالارميه من قبل. فالشاعر «ييتس» يتمنى أن يكون للقصيدة من المعاني بقدر عدد قرائها! وإليوت يقول إن القصيدة شيء مستقل يقف بين المؤلف والقارئ، كما أن العلاقة بين المؤلف والقصيدة تختلف عن العلاقة بينها وبين القارئ. فالقصيدة التي يكتبها الشاعر تخرج من يده إلى الأبد. وقد يستشف القارئ فيها معاني لم تخطر على بال المؤلف، أي أن من حق القارئ أن «يؤلفها» لنفسه من جديد. والشاعر البرتغالي بيدرو ساليناس يقول في هذا المعنى: «إن الشعر يرتبط بشكل عال من التفسير يكمن في سوء الفهم. فالقصيدة تنتهي بعد كتابتها ولكنها لا تتوقف، بل تبحث عن قصيدة أخرى في نفسها أو في المؤلف أو القارئ أو الصمت ...» أي أن القوى الكامنة في القصيدة أو في اللغة التي كتبت بها لا تنتهي بمجرد الفراغ من تأليفها بل تطلق طاقات جديدة في نفس الشاعر والمتلقي، وهي طاقات تظل كامنة في لغة القصيدة دون أن يعرف الشاعر عنها شيئا.
وقد «يوضح» ما نريده بهذا الغموض أو الإظلام في الشعر الحديث أن نضرب مثلا له بإحدى قصائد الشاعر الإسباني «جيان» عنوانها «أغمض عيني» ويمكن أن تعتبر نوعا من التبرير الشعرى لذلك الغموض، كما يمكن أن نتسمع فيها أصداء من قصيدة مالارميه السابقة عن الزهرية. تقول القصيدة:
أغمض عيني، والسواد يطلق شرارات
هي القدر السعيد؛
الليل يفض أختامه ويجلب من الهاوية
ضوءا يرتفع فوق الموت،
أغمض عيني، فيقول عالم عظيم يغشيني (عالم) خال من الضوضاء؛
يقيني أبنيه على الظلام،
وكلما زاد البرق عتمة، كلما أصبح ملكا لي،
في السواد تبزغ زهرة.
وليس من العسير أن نفهم معنى القصيدة. فالظلام أو الغموض الذي يتحدث عنه الشاعر يأتي من احتمائه بنفسه من العالم الخارجي والابتعاد عن أضوائه وضوضائه. إنه يغلق عينيه فينفتح عالمه الداخلي ويتحرر من ضجة الحياة والموت ويحول الظلام - أو اختفاء الواقع الخارجي - إلى نور، ويطلع تلك الزهرة التي لا تتفتح إلا في نور الظلام (والوردة هنا هي الكلمة الشاعرة كما عرفناها عند مالارميه وإن لم تقترن عند الشاعر البرتغالي بمعنى الفشل الذي وجدناه لدى الشاعر الفرنسي). أي أن الشعر لا يوفق ولا يكتمل إلا في عالم «اللاواقع» الذي يجبره على الغموض والإظلام، وهي فكرة أساسية في الشعر الحديث.
وقد نشأت في إيطاليا منذ حوالى ثلاثين عاما حركة أدبية راحت تنادي بالغموض في الشعر حتى سميت بحركة الغموض والإلغاز
Hermetism-ermetismo
وكان من بين ممثليها الشعراء بونتمبيللي، ومونتاله (الذي ترجم أشعار إليوت إلى الإيطالية) وسابا، وأنجارتي، وكوازيمودو. وقد تأثرت هذه الحركة بشعراء البارناسية والرمزية في القرن التاسع عشر (رامبو، مالارميه، فاليري) فراحت تسعى إلى تأكيد طابع الغموض والسحر والأسرار في الشعر، وتقدم نغمة الكلمة وقيمتها الشعورية على معناها. ويصح أن نقف هنا قليلا عند أحد أعلام هذه الحركة الذين ارتبط اسمهم بها، وهو أنجارتي
18
الذي ولد في بلادنا سنة 1888م، وعاش فترة من حياته في الإسكندرية.
تأثر أنجارتي بمالارميه وأبوللينير وفاليري وسان-جون بيرس الذي ترجمه إلى الإيطالية، كما تأثر كذلك بالشاعر الإسباني القديم جونجورا. ويتميز شعره منذ العشرينيات - كما سيلاحظ القارئ بنفسه من النصوص الواردة في هذا الكتاب - بالتركيز الشديد. فالكلمة كما يقول بنفسه وكما كانت عند مالارميه، هي شق أو صدع قصير للصمت. إنها شذرة مبتورة، تقف وحيدة مرتعشة بين عالم الأسرار الذي لا تكاد تلامسه، وبين الصمت والسكون اللذين لا يلبثان أن يطبقا عليها. وكل قصائد أنجارتي تتفق في هذا الطابع الذي يميزها ويجعل منها شذرات ناقصة، ويتضح هذا بوجه خاص في قصائده المركزة القصيرة التي يعد أستاذا فيها مثل لوركا. وقد يبلغ من قصرها في بعض الأحيان أن تتألف من كلمتين اثنتين، كما في قصيدته المشهورة التي يصعب ترجمتها وتقول:
m’illumino d’immenso (أي أستضيء باللانهاية أو يغمرني نور الكون الهائل).
ولا يصح أن نحاول فهم قصائد أنجارتي من ناحية المضمون، فكثيرا ما يصيبنا الذهول لتفاهة مضمونها أو لأنها لا تتضمن أي شيء أو لأننا لا نستطيع في بعض الأحيان أن نفهمها على الإطلاق! والواجب أن ننظر إلى كلماتها كصيغ صوتية أو أشكال نغمية تبعث صدى ساحرا. ومن المؤسف أن ترجمتنا أو أية ترجمة أخرى إلى أية لغة ستخيب أمل القارئ وتضيع عليه متعة هذه الأنغام والأصداء. وإذا كانت الترجمة خيانة والمترجم خائنا كما يقول الإيطاليون أنفسهم، فلعل الترجمة هي الخيانة الوحيدة المسموح بها للتقريب بين الشعوب والحضارات!
ولنتأمل الآن إحدى قصائد أنجارتي الحرة لنرى كيف يبدو هذا الغموض الذي اشتهر به شعره.
إنها قصيدة «الجزيرة» (وقد ظهرت في سنة 1933م في ديوانه عاطفة الزمن)، ولنقرأ القصيدة أولا قبل التعليق عليها:
هبط إلى شاطئ، كان يسوده المساء الأبدي
من غابات متفكرة سحيقة القدم
وتوغل بعيدا،
وجذبه حفيف أجنحة
صعد من خفقة قلب الماء الصارخة،
ورأى شبحا (يسقط ثم يعود فيزدهر)؛
وحين استدار ليصعد،
رأى أنها كانت حورية بحر، وكانت تنام
منتصبة وهي تعانق شجرة دردار.
وبينما يترنح في نفسه بين الوهم واللهب الحق
أتى إلى مرعى
حيث كان الظل يتجمع
في عيون العذارى
كما يحدث مساء عند أقدام الزيتون،
قطرت الأغصان
مطرا كسولا من النبال،
هنا نعست الماشية
تحت الوداعة الناعمة،
ورعت (قطعان) أخرى
الغطاء المضيء،
يدا الراعي كانتا زجاجا،
صقلته الحمى الهامدة.
القصيدة تتكلم عن حدث ما، في جمل متموجة بالغة القصر، مركبة تركيبا نغميا دقيقا، خالية تماما من أي أثر للأنا. وهي تدور حول شخص تسميه «هو». ولكن من هو هذا الشخص؟ لن نتلقى جوابا. فالضمير غير محدد ولا معروف، ويزيد من عدم التحديد أن العبارات قد رصت بغير علاقة ضرورية تربط بينها. والقصيدة تضم صورا من الحياة الرعوية التي طالما تغنى بها الشعراء وحنوا إليها: كالجزيرة والغابات وحورية البحر والراعي والماشية. ولكننا سنسأل أنفسنا حين يذكر العذارى: أي عذارى هؤلاء؟ غير أن الحدث يتوقف، ويظل شذرة لا سبب لها ولا هدف. ومع الخاتمة يحل السكون وتزداد مجموعات الكلمات شذوذا وبعدا عن بعضها البعض:
الأغصان قطرت
مطرا كسولا من السهام،
الماشية نعست
تحت الوداعة الناعمة
ورعت قطعان أخرى الغطاء المضيء،
ولكن إلى أين وصل ذلك الشخص؟ إن الصورة الهادئة في النهاية قد أنستنا بداية الحدث، وكأن لم يكن له ولا لصاحبنا القديم وجود ولا معنى. وإذا أمكن أن نجد للقصيدة مضمونا فهو في اتجاه حركتها. وصول ولقاء وسكون. وكلها حركات مجردة، لا تعني إلا نفسها، مشبعة بسر ذلك الحدث الغامض الذي تظهر على سطحه. فإذا جاءت الخاتمة لم تحل هذا السر، بل أضافت إليه جديدا. صحيح أن الحركة ستنتهي بالهدوء والسكون - ولكن تنافر الصور فيها (يدان كالزجاج) يشير إلى مستوى أعلى تصنعه اللغة نفسها - أي يشير مرة أخرى إلى الغموض والظلام.
ومن الطبيعي أن يكون لمثل هذا الغموض سحره الشديد، وقد يكون له عند الشاعر العظيم ما يبرره في النغمة أو الصورة أو الرؤية. غير أنه قد يصبح عند العاجزين من الشعراء ميدانا للادعاء والثرثرة السخيفة، أو مجالا للتهكم والسخرية عند القراء، أو مبعثا للحيرة عند النقاد. وقد عمد بعض هؤلاء القراء منذ سنوات قليلة في أستراليا إلى دعابة خبيثة تشبه عندنا فضيحة اللامعقول ومسرحية دورنمات المزعومة؛ فألفوا أبياتا لا معنى لها، ونسبوها إلى عامل منجم مغمور، زعموا من باب الاحتياط أيضا أنهم وجدوها بعد موته في أوراقه ... وراح النقاد يشيدون بعمق هذه الأبيات ويبكون موهبة الفقيد!
وليس ببعيد أيضا ذلك السخف الذي وقع فيه شاعر كبير مثل «رلكه» حين زعم في إحدى رسائله أن السوناتا السادسة عشرة من ديوانه «أغاني أورفيوس» موجهة إلى كلب ... فهل يئس الشاعر أن يعثر بين الآدميين على أحد يفهمها أو يحسها؟! (9) اللغة سحر وإيحاء
أصبح الشعر الحديث منذ عهد رامبو ومالارميه نوعا من السحر اللغوي. وقد شرحنا المعنى المقصود من هذه الكلمة في الفصول السابقة وبينا أن النظريات النقدية والأدبية في القرن العشرين تتعرض دائما لفكرة الإيحاء كلما عرضت لتأثير الشعر. ونحب الآن أن نذكر شواهد أخرى على هذا. فبرجسون في كتابه «المعطيات المباشرة للشعور (1889م)» قد جعل من الإيحاء عنصرا أساسيا من نظريته في الفن، وكثير من الرسامين والموسيقيين يحدثوننا عن أثره في إنتاجهم. والمقصود بالإيحاء هو تلك اللحظة التي يطلق فيها الشعر «العقلي» أو الذهني طاقات وإشعاعات روحية يؤخذ القارئ بسحرها ولو لم «يفهم» شيئا من هذا الشعر. هذه الإشعاعات الإيحائية تأتي في الغالب من الطاقات الحسية التي تزخر بها اللغة؛ أعني من الإيقاع والنغم والصوت. وقد تأتي من تلك المعاني والدلالات التي توحي بها الكلمة أو تقع على حدودها أو يحدثها الربط بين الكلمات بطريقة شاذة غير مألوفة.
مثل هذا الشعر الذي يعتمد على سحر اللغة وإيحائها يزيد من سلطان الكلمة ويجعلها أصل الفعل الشعري وأول أسبابه. إنه لا يعتبر العالم حقيقة واقعة، بل الكلمة وحدها هي الواقع بالنسبة إليه. ومن هنا نفهم ما يقوله بعض الشعراء المحدثين من أن القصيدة لا تدل على شيء، بل توجد أو تكون. ومعظم الشروح والتعليقات التي تقدم عما يسمى «بالشعر المحض» أو الشعر الخالص
pure
تدور حول هذه الفكرة. ويظهر أن المبدأ الشعري الذي قال به «إدجار ألن بو» وأشرنا إليه من قبل قد ثبتت صحته في حركة الشعر الجديد. فالشاعر الكاتب الأمريكي الكبير يرى أن يصمم الشاعر قصيدته مبتدئا بقوة النغم اللغوي أو الطاقة الصوتية السابقة على المعنى، فإذا تم له ذلك استطاع أن يضفي عليها المعنى الذي سيظل على الدوام شيئا ثانويا. وقريب من هذا ما يقوله الشاعر الألماني «جوتفريد بن من أن القصيدة تكون قد تمت بالفعل قبل البدء فيها، ولكن المؤلف لا يكون قد عرف نصه بعد.»
وشعر «بن» نفسه من أصدق الأمثلة على أصالة الكلمة وتقدم الصوت على المعنى. ولعل هذا هو الذي مكنه من معالجة أبعد الموضوعات عن الشعر وجعلها مع ذلك شاعرية. وقصيدته عن «شوبان» التي تجدها في غير هذا الموضع؛ هي في الحقيقة سيرة حياة بالأنغام. فليس المضمون فيها سوى مجموعة شذرات تشير إلى أحداث وتأملات ومونولوجات (أحاديث ذاتية)، صيغت في عبارات مبتورة.
والحدث في هذه القصيدة لا يسير في مسار الزمن العادي من الحياة إلى الموت، بل يعكس هذا الاتجاه. وهو لا يجد حرجا من ذكر أبعد الألفاظ عن الشعر، فيحدثنا بأسماء بعض الآلات الموسيقية أو «ماركتها»، ومقدار المكافأة التي كان يتقاضاها الموسيقي العظيم، وأسماء العظماء الذين كان يعزف أمامهم وعناوين بيوتهم بمنتهى الدقة، وبعض التفصيلات الخاصة بأسلوب شوبان في الفن. ولا ينسي «بن» أنه طبيب للأمراض الجلدية فيورد جزءا من التشخيص الطبي لمرض شوبان الفتاك (مع نزيف وتكوين بثور ... إلخ). غير أننا نحس مع هذا كله بشيء يشبه الرعشة تتخلل كل هذه التفاصيل الموضوعية والاصطلاحات العلمية والشذرات والجمل الناقصة، شيء ينبع منها ويطغى عليها في وقت واحد. وإذا دلت هذه القصيدة التي لا تنسى على شيء، فإنما تدل على أن الشاعر يستطيع أن يتخلى عن الموضوعات التقليدية التي كان يدور حولها الشعراء، وأن يقترب كثيرا من لغة النثر دون أن يحطم جوهر الشعر نفسه.
وفي شعر رامون خيمنيث، وهنري ميشو، وتوماس إليوت شواهد كثيرة على هذا التأثير السحري - بل المغنطيسي في بعض الأحيان - الذي يأتي من نغم الألفاظ، أو من تكرار بعض الأبيات بشكل مستمر، أو من مجرد اللعب بالمقاطع والألفاظ أو بداياتها بحيث تخلق توافقات إيقاعية أو تركيبات موسيقية تنفذ إلى الأذن مباشرة وإن لم تصل إلى العقل، وما ذلك إلا لأن هذا الشعر ينظر إلى اللغة بوصفها طاقة نغمية قبل كل شيء، ولا شك أن أبرز ممثليه من الشعراء العقليين هما الشاعران فاليري الفرنسي وجيان الإسباني، وكلاهما يستحق منا وقفة قصيرة. (10) بول فاليري (1871-1945م)
مات مالارميه في سنة 1898م، وبدا عندئذ كأن الحركة التي كان رائدها وكاهنها الأكبر قد ماتت معه. صحيح أن الشعر الفرنسي أخرج بعده عددا من أقطابه المتميزين (مثل جان موريا وفرانسيس جام وهنري دورينير وبول كلوديل) ولكن لم يكن واحد منهم من أتباع مالارميه ولا كان من «الرمزيين» بمعنى الكلمة. تساءل الناس: هل أضاع «المعلم» كل هذه السنوات الطويلة في البحث عبثا عن الرؤية الشعرية الحقة؟ أم تراه كان يبحث عن رؤيته هو وحده؟ ولكن الجواب لم يلبث أن جاء بعد سنوات قليلة. لقد غرس المعلم بذوره في أحد تلاميذه والمعجبين به، وكان لهذه البذور أن تنمو وتزدهر. كان هذا التلميذ هو «بول فاليري» الذي طالما أعجب بأستاذه وكتب بعض قصائد شبابه تحت تأثيره، ولكن التلميذ رأى أن يبتعد فترة ليجد نفسه، وأن يصمت ليكتشف طريقه الخاص به، فعكف من سنة 1898م إلى سنة 1917م على دراسات علمية وتحليلية دقيقة، وظل عازفا عن نشر الشعر حتى ظهرت قصيدته «آلهة القدر الشابة»
19
في سنة 1917م، وظهر معها بوضوح أنه تعلم من دروس أستاذه ومبادئه، وأن الحركة الروحية التي ذبلت أو كادت تنطفئ في أواخر القرن التاسع عشر قد عادت مرة أخرى إلى الحياة. وتجلى كذلك بوضوح أنه وإن لم يكتب شعرا في هذه الفترة الطويلة التي قاربت العشرين عاما، فقد كان في أعماق نفسه مشغولا بالتفكير فيه، وأن الدراسات العلمية والرياضية والفنية التي عكف عليها قوت موهبته وزادته معرفة بنفسه، وبلورت ذوقه وأفكاره.
و«آلهة القدر الشابة» مشهورة بصعوبتها، حتى لقد قيل إنها من أعقد ما كتب في الشعر الفرنسي وأشده غموضا. ومن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن نحدد موضوعها الذي اختلف عليه الشراح والمفسرون. ولكننا قد نقترب منها قليلا لو عرفنا شيئا عن الصراع الذي كان يدور في كيان صاحبها فيوزع نفسه ويكاد يمزقها. إنه الصراع الذي عانى منه معظم حياته بين الفنان والشاعر والإنسان في نفسه، وبين المفكر العقلي الصارم الدقيق الذي يميل إلى التحليل والتأمل والاستقلال والتجرد. ولا بد أن هذا الصراع بين العقل والجسد هو الذي أعاده إلى الشعر وأجرى قلمه بهذه القصيدة الغامضة العجيبة، وليست القصيدة مجرد تسجيل لصراع نفسي، ولا تتضمن أية إشارة إلى حياة الشاعر الشخصية بل ولا تمس موضوعا محددا. وهي كذلك ليست من نوع القصائد الدرامية أو القصصية التي تتناول موضوعا أو موضوعات معينة، وإنما هي قصيدة رمزية تقوم على أسطورة غامضة وتعبر عن حالات شعورية متعددة أشبه بحالات المد والجزر وتتفاوت أمواجها بين التردد والتصميم، بين العزلة الهادئة والانفعال الجارف، بين الإقبال على دفء الحياة والعزوف عنها إلى برودة الفكر. وتتداخل كل هذه الأمواج في بعضها البعض فلا نتبين معالم ولا حدودا. قيل مثلا في تفسيرها إنها «مونولوج» آلهة قدر شابة تواجه مشكلة الاختيار بين عزلتها السماوية ومسئولياتها الأرضية. وقيل إنها رحلة في مجاهل الوعي الإنساني بين غرائب الموت والحياة. وقيل إنها أحلام شاعر راقد في فراشه. وقد تكون القصيدة شيئا من هذا كله وقد لا تكون. إنها بطبيعتها لا تقبل التحديد في شكل معين، ولا تقرر موضوعا بل تحدث أثرا وتشير إلى حالة. وربما لم نبعد عن الصواب كثيرا إذا قلنا إنها حالة صراع واجهه الشاعر نفسه وألبسه هذه الرموز الغائمة وهذه الأسطورة الغامضة.
وطبيعي أن يقارن القارئ بين هذه القصيدة وبين قصيدة مالارميه أو حواريته القصيرة «هيرودياد»، وهي هذه العذراء العنيدة الباردة برودة الثلج التي أراد أن يجسد فيها رغبة الإنسان في البعد عن كل الرغبات والعواطف والتجرد من كل الانفعالات والغرائز، فهل أراد فاليري كذلك أن يعبر «بآلهة القدر الشابة» عن الصراع بين الرغبة في الحياة الدافئة الفعالة، وبين الرغبة الأخرى في التأمل المستقل المجرد من كل العواطف والانفعالات التي يوحي بها الجسد أو توحي بها الحياة؟
قد يكون هذا حقا، ولكنه لا يمثل كل الحقيقة؛ فقد سار مالارميه على طريقة درامية وأدار الحوار على لسان هيرودياد ومربيتها ليصور جانبي الصراع الذي قد يعبر عن نفسه. أما فاليري فليس في قصيدته شيء من هذه الدرامية، وموضوعاتها بغير معالم أو حدود، وهي تبدأ وتنتهي بغير حدث معين، والخيط الوحيد الذي قد نعثر عليه فيها هو هذه الحالة المركبة التي تعبر عن وجدان أو وعي نصف حالم، تتوالى عليه أمواج ودرجات مختلفة من المشاعر والتجارب، وتترابط فيه مجموعة من الرموز التي تتجاوب مع التغيرات المختلفة في جو الحلم العام. وقد ننسى لدى قراءتها شخصية «الآلهة» التي تدور حولها، بل قد نحس بأن الشاعر نفسه قد نسيها! وربما كان الحق معنا ومعه فهو يعالج أمورا لا يكفي الرمز الذي اختاره للإلمام بها، ويتناول مشاعر يصعب تحديدها وترتيبها في نظام أو تفكير محدد. هكذا يكون التلميذ قد ذهب إلى أبعد من أستاذه. فنحن نستطيع أن نفهم «هيرودياد» بغير حاجة إلى النظر وراء شخصيتها هي ومربيتها. أما «آلهة القدر» فندخل معها في عالم شحب فيه كل شيء حتى شخصية هذه الآلهة نفسها. هذا الشحوب أو الغموض أو عدم التحدد يميز القصيدة من بدايتها. لنستمع إلى هذه الأبيات التي تفتتح بها القصيدة وتوحي بأن الشاعر يتكلم عن نفسه:
من يبكي هناك، غير الريح البسيطة، في هذه الساعة الوحيدة
ذات الجواهر القصية؟ ... لكن من يبكي،
قريبا كل القرب مني في لحظة البكاء؟
ولكننا لا نلبث أن ننتقل - بغير إشارة ولا تحذير - إلى مونولوج الآلهة الفتية التي جاءت إلى عالم غريب عليها، ويتغلغل الشاعر فيها، وتصبح كلماتها هي كلماته التي تجسد أفكاره وتأملاته . ومع ذلك فنحن لا نكاد نتأكد من شيء على وجه اليقين. لا نكاد نعرف، حين تبدأ في الكلام، إن كانت هي التي تتكلم أو إن كان الشاعر هو الذي ينطق بلسانه أو لسانها. إن من الصعب التمييز بين الشاعر ورمزه. فآلهة القدر مخلوقة تنبثق من حالة وسط بين اليقظة والحلم، والوعي واللاوعي، وهي تخرج من الشاعر لكي تعود فتذوب فيه، بحيث لا ندري إن كانت مثل هذه الأبيات تصدق على الشاعر أم على آلهته الفتية:
نامي، يا حكمتي، نامي. شكلي لنفسك هذا الغياب؛
عودي إلى المنشأ والبراءة المظلمة،
هبي نفسك حية للأفاعي، للكنوز.
نامي أبدا! اهبطي، نامي على الدوام!
اهبطي، نامي، نامي!
فهي تصدق على آلهة القدر التي تتمزق بين السماء والأرض وتريد أن تبقى على الأرض حيث عضتها الأفعى. وهي تصدق كذلك على الشاعر الذي سئم صراعه مع الوعي اليقظ أو تخلى عنه ويريد الآن أن يستسلم لتجربة الحلم المضطربة.
من الصعب إذن أن نميز بين الشاعر ورمزه، بل ليس هناك ضرورة لذلك. علينا بدلا من هذا أن نتذوق الجو أو الأثر أو الحالة التي توحي بها القصيدة وأن نستمتع به ونعيشه ونتلقاه بالشعور والإحساس لا بالعقل أو الفهم. فالقصيدة لا تريد أن تعلمنا وتفيدنا بقدر ما تريد أن توحي وتؤثر وتبتعث جوا عاما تتماوج فيه مختلف المشاعر والتجارب والانفعالات. ولعلها تصور ما قاله فاليري نفسه من أن الشعر لا يهدف على الإطلاق لتوصيل فكرة محددة إلى إنسان ما. بل إن المهم فيه هو الكلمات وإيقاعها، والصور التي توحي بها، والتداعيات التي تثيرها. والتجربة أو الحالة التي تخلقها. ولو كانت القصيدة أقل غموضا مما هي عليه، أو لو استطعنا أن نميز بوضوح بين الشاعر وبين آلهته الشابة أو نضع أيدينا على أحداث أو أشياء محددة لفقدت أهم شيء فيها وهو هذه الحالة الغامضة التي يريد الشاعر أن يخلقها فينا؛ حالة التأرجح بين الحلم واليقظة، حيث تتجلى الصور المتألقة ثم تنداح في ضباب الغموض، وحيث نفهم معانيه في بعض اللحظات لنغوص من جديد في الحلم أو الضباب.
وليس المهم بالطبع أن يكون الشعر غامضا أو صعبا؛ فهذا شيء مألوف من الشعر الحديث، وإنما المهم أن ينقل إلينا في النهاية حالة نستطيع أن نقول إنها قريبة من الحالات التي نعرفها في أنفسنا، وإنها في غموضها أو وضوحها لا يمكن التعبير عنها بالنثر ولا بالوضوح الكلاسيكي القديم. بل إن مثل هذه الحالة التي توحي بها القصيدة بين الحلم واليقظة تقدم لنا صورا ورموزا تتجاوز نفسها، وتجعلنا ننظر إلى أنفسنا في ضوء جديد وكأنما نحن رموز لقوى كونية أكبر وأعظم. فالشاعر يرى نفسه أشبه بآلهة تخلت عن مسكنها السماوي الأعلى لتشارك في متاعب الحياة الفانية وعواطفها ومصادفاتها، أي يصور نفسه ممزقا بين أفكاره وأفعاله، بين عقله وجسده. ونحن نتعاطف معه ونشاركه هذه الحالة التي تتجاوز حدود طاقتنا البشرية العادية، ونحس أننا قد أصبحنا مركز الكون كله أو على الأقل مركز نظام هائل كبير، وأن كل ما نفعله أو نفكر فيه أو نحس به إنما يحمل دلالات أكبر وأعظم منا. انظر مثلا إلى هذا البيت:
الكون كله يتأرجح ويرتعش على برعمي!
أو إلى هذا البيت:
كل الأجسام المشعة ترتعش في صميم كياني.
لترى أن كل تغير في النغمة أو الرمز يفتح أفقا جديدا، ويكشف عن إمكانيات جديدة من البهجة أو الألم، توشك أن تكون كونية لا شخصية فحسب.
لم يعد الشاعر يرى نفسه بمثابة المركز من عالم خاص به، بل تحول إلى أفق أكبر منه، وأوسع، وكأنما حدثت - كما يقول س. م. بورا - ثورة كويرنيقية في عالم الشعر «الرمزي» استبدلت بمثاليته الرمزية نزعة مطلقة جعلت أفكار الروح الواحد هي أفكار الكل، كما جعلت تجربته الفردية هي تجربة الإنسان بوجه عام.
فالقصيدة تتحرك إذن بين طرفين، وتشير لصراع الآلهة الشابة - وصراع الشاعر نفسه - بين عالم السماء؛ عالم الأسرار والألغاز والانسجام والآلهة - وعالم الأرض، عالم الألم والمرارة والقبل والاحتضار والأجساد. وتختار الآلهة أن تعود إلى السماء. وينتهي صراعها عندما تتأكد من فشل الحياة وفزعها. والقصيدة يمكن كما قلت أن تكون تعبيرا عن صراع في نفس الشاعر بين فكره الدقيق وذاته الشاعرة، وما دام قد نجح في صياغة هذا الصراع في شكل فني فقد نجح إلى حد كبير في التخلص منه (وهذا ما تعلمنا تجارب الفنانين الكبار بوجه عام). ومع ذلك فإن نجاحه في إبداع قصيدة استلهمها من مشكلته الباطنة لا يعنى أنه نجح في حل مشكلة أخرى، وأعني بها منزلة الشعر في حياة تريد أن تخضع لقواعد العقل وتصر في نفس الوقت على رؤية الأشياء الواقعية على ما هي عليه.
أي أن مشكلة فاليري - وعدد كبير من الشعراء المحدثين - هي ربط الشعر بالتجربة المألوفة، والعثور على موضوعات لا تكون بالضرورة شاذة أو غير واقعية، والجمع بين اكتشافات العقل ورؤى الخيال. ولعل هذا هو الذي جعل فاليري يحس أن طاقته الشعرية تستطيع أن تتجاوز الحدود التي يحاول عقله التحليلي الدقيق أن يرسمها لها، وأن هناك عوالم أخرى غير العالم الذي يقع بين الحلم واليقظة كما صورته «آلهة القدر الشابة» لا تقل عنه أهمية وخصوبة وشاعرية، وأنه يستطيع أن يكون أقل غموضا وأقرب إلى التذوق (وإن بقي شعره في نهاية الأمر مقصورا على الصفوة التي تستطيع أن تتذوق ما فيه من دقة ورهافة، وتفهم ما تعنيه صراعاته ومشكلاته أو تشاركه فيها).
ويبدو أن فاليري قد غير طريقته في التعبير في ديوانه «تعاويذ» أو «رقى»
20
الذي يختلف اختلافا واضحا عن «آلهة القدر الشابة». إنه يضم مجموعة كبيرة من القصائد المتنوعة البحور والموضوعات، ويعدل عن غموض الحلم الذي ساد جو «آلهة القدر» إلى جو أكثر وضوحا، ويقتصد في استخدام الاستعارات والرموز المركبة ليستخدم في القصيدة رمزا أو استعارة واحدة تحفظ عليها تماسكها واتزانها، ويلجأ في بعض الأحيان (بما يشبه التنازل للقارئ العادي!) إلى تفسير مراميه أو تقديم لمحات تشير إلى موضع القصيدة سواء في عنوانها أو نصها، أو اقتباس نص يصلح أن يكون مفتاحا أو عكازا نافعا! (كالنص المعروف الذي اقتبسه من بندار ووضعه في بداية المقبرة البحرية) أو تقرير بعض الحقائق (كما فعل في نهاية قصيدته عن الكاهنة بيثيا)،
21
أو غير ذلك من أمور كان من الممكن أن تصدم مالارميه وتفزعه فزعا هائلا! ومع ذلك فلا ينبغي أن نفهم من هذا كله أنه يتنازل للقارئ العادي حتى يفهم ما يريد أو أنه أصبح يكتب شعرا تعليميا أو مجموعة شروح وتفسيرات. إنه لا يزال يكتب كشاعر. وهو في «التعاويذ» يكتب عن موضوعات يمكن أن تفهم فهما واضحا إلى حد ما، أي يمكن أن يشارك فيها الفكر أيضا، وأن تصدر عن التأمل الواعي للشاعر وتجد مكانها فيه، بحيث لو تناولها بنفس طريقته في «آلهة القدر» لشوهها أو زيفها. وليس معنى هذا أيضا أنه يضحي بالشاعرية أو بالإيحاء والخيال، بل معناه أنه يحاول أن يوحد بين نفسيه المتصارعتين، بين عقله التحليلي الناصع وبين ذاته الخلاقة الشاعرة.
والعنوان الذي اختاره فاليري لهذه المجموعة له دلالته، بل يكاد يكون نوعا من التعليق على محتوياتها. فالفكرة التي تقول بأن الشعر نوع من السحر، وأن الشاعر يعرف من الأسرار ويملك من الطاقات ما لا يملكه غيره من الناس فكرة قديمة متأصلة الجذور في ضمير الجنس البشري كما تقدم، والشاعر الذي كان يطلق عليه الرومان اسم «فاتيس
Vates » كان شاعرا ونبيا وعرافا وساحرا في وقت واحد، والشعراء الرومانتيكيون كانوا أيضا بهذا المعنى أنبياء.
وقد ساهم مالارميه كما سبق في تأكيد هذا المعني بنظرته المثالية إلى الشعر كنوع من السحر الذي يحرر العالم ويخضعه بقوة الكلمة. وربما يصعب علينا أن نتصور أن فاليري يوافق على هذا الرأي. ألم يقل في كتاباته النقدية إن واجب الشعر هو أن يصنع من لغة الأمة بعض التطبيقات الكاملة؟ ألم يقل إن اختياره لنوع معين من البحور هو الذي يحدد طريقته في التأليف، وأنه يحس دائما بالحاجة إلى الكتابة كلما وجد القلم والحبر أمامه؟ ألم يذهب إلى أن الشعر يمكن أن يختفي من العالم كما اختفت منه فنون الضرب بالرمل أو التطير أو شعائر الحروب؟ ومع ذلك فإن العنوان الذي اختار له كلمة «التعاويذ » يوحي بإيمانه بأن الشعر ضرب من السحر، وأنه لم يستخدم هذا العنوان لمجرد السخرية. فالشعر عنده فعل خلاق، وهو يؤثر على النفس بوسائل تخفى حتى على الشاعر نفسه. إنه يعمل على طريقته، ولكن النتيجة تخرج عن رؤيته وتتجاوز قصده. ولذلك فإن اختيار «التعاويذ» عنوانا لقصائد هذه المجموعة اختيار له ما يبرره؛ فهي تريد أن تؤثر وتوحي، لا أن تعلم أو تفيد، والشاعر فيها يشبه الساحر بقدر ما يؤثر على النفوس والمشاعر بوسائل لا يفهمها هو نفسه تماما ولا يستطيع أن يسيطر عليها كل السيطرة.
إن مجرد وجود الشعر ليكفي في حد ذاته لإثارة التساؤل في عقل الناقد والعجب في نفس الشاعر. والواقع أنه يثير الأمرين معا في نفس فاليري وعقله. لقد شغل طوال حياته بالتفكير في الشعر، في قيمته ووظيفته وكرامته ومعناه. وكتب عنه أجمل وأحكم ما يمكن أن يكتب. وصدقت عليه هذه العبارة التي لا تصدق على شاعر سواه وهي أنه «شاعر الشعر»، الذي لم يمل من الكلام عن معنى الشعر وطبيعة الخلق الشعري، ولم يتعب من التغلغل في أعماق الشاعر للكشف عن ظلماتها وأنوارها. إن الشعر عنده شيء واقعي لا مثالي. وهو لا يهتم كثيرا - كما فعل بودلير أو مالارميه أو شيلي - بالقصيدة المثالية ولا بمكان الشاعر من العالم أو بآماله في المجد والخلود. إن اهتمامه كله ينصب على عمل الشاعر ورأيه فيه وشعوره نحوه عندما يكون في طور النشأة أو بعد أن يفرغ منه. وقد نجح في التعبير عن هذه العملية الخلاقة التي تفلت دائما من الشاعر وتخفي عنه أسرارها في قصائد تجمع بين التأمل المجرد والغنائية العذبة، نذكر منها على سبيل المثال قصائده «الخطى»، و«تخيل»، و«أغنية الأعمدة»، و«فجر». وسنكتفي بالحديث عن القصيدة الأولى باختصار.
تقول أبيات هذه القصيدة:
22
خطاك، أطفال صمتي،
قدسية تطأ (الأرض) وبطيئة،
نحو سرير يقظتي
تتقدم خرساء مثلجة.
كيان خالص، ظل إلهي،
ما ألطفها، خطاك المتئدة!
أيتها الآلهة! ... كل الهبات التي أنتظر
توافيني على هذه الأقدام العارية!
إن أردت، بشفتيك الممدودتين،
أن تهيئ، له الهدوء،
وتهبي المعتاد من أفكاري
طعام قبلة،
فلا تتعجلي هذا الفعل الرقيق،
حلاوة أن نكون وألا نكون
لأنني عشت على انتظارك
وقلبي لم يكن إلا خطاك.
تبدو القصيدة للوهلة الأولى كأنها تصف حالة انتظار الشاعر لمحبوبته القادمة إليه. ولو صح هذا لما كانت به حاجة للحديث بهذه الصورة الملتوية. فما الداعي للتجريد الشديد في قوله «سرير اليقظة»؟ ومن هو «ساكن أفكاره»؟ وما السر في وصف الخطى المحبوبة بأنها «أطفال الصمت»؟
لا شك أن شاعرا يدقق في اختيار كلماته مثل فاليري لا يستخدم هذه العبارات كيفما اتفق. فما الذي يدعوه إذن إلى استخدامها؟ الجواب بسيط: إن المحبوبة التي ينتظرها هي الشعر نفسه؛ من هنا يمكن أن تكون الخطى هي الشعر نفسه، من هنا يمكن أن تكون الخطي هي «أبناء صمتي» لأن معنى الخلق الشعري قد نضج لديه في وقت آثر فيه أن يعتزل ويصمت عن قول الشعر. وسرير يقظتي، هو النفس التي تنتظر استقبال الوافد، والمعتاد من أفكاري هو الذات الخلاقة التي تعيش وسط الأفكار المتعددة.
فالقصيدة كلها توحي بجو الانتظار والتهيؤ الواثق المستبشر ببدء الفعل الخلاق. والرموز التي يستخدمها الشاعر متجانسة تماما مع هذا الجو. فانتظار الشعر أشبه بانتظار زيارة الحبيب، وحالة الشاعر المنتظر أشبه بحالة العاشق المتلهف على مقدم المحبوب. كلاهما يحيا على الأمل، ويثق في ساعة اللقاء. ومهما تأخر الوافد المحبوب فهو لا يقلق ولا يتعجل. إنه يتهيأ لهذه اللحظة العذبة الأليمة ويجمع شتات نفسه قبل أن يستسلم لفعل الخلق استسلام الحبيب للحبيب: (10-1) عذوبة أن نكون ولا تكون
هذه اللحظة هي ذروة العمر كله، هي التي يهب فيها الإنسان نفسه ويبقى على الرغم من ذلك هو نفسه، كمثل ما يكون العاشق ولا يكون في اللحظة التي يطبع فيها المحبوب قبلته على شفتيه. هذه المفارقة التي تعبر عنها «عذوبة أن نكون ولا نكون» لها دلالتها على نظرة فاليري إلى طبيعة الإلهام والخلق الفني. كانت نظرة القدماء إلى الإلهام أن الشاعر هو أداة أو وسيلة تنطق بلسانه قوة إلهية خفية. فهوميروس يبدأ إلياذته بأن يطلب من ربة الفن أن تنبئه عن غضبة أخيل. ولكن فاليري يرى أن هذه النظرة ساذجة وغير علمية، وأن فكرة الإلهام أو القوة الخفية التي توحي للشاعر وتسيطر عليه فكرة لا تتفق مع ملاحظته للواقع. إن العملية الشعرية تسير على نحو آخر، فهناك كما يقول أبيات من الشعر «يجدها» الإنسان وهناك أبيات أخرى «يصنعها صنعا». ومن السهل أن نفهم المراد بالجزء الثاني من هذه العبارة، أما الجزء الأول فلا يزال سرا خفيا. قد يستطيع علم النفس أن يقدم له تفسيرا ولكنه تفسير غير كاف ولا مقنع. فهو قد يصطنع له سببا من الأسباب، ولكنه يقصر عن تفسير البهجة التي تصحبه أو القوة التي يرد بها عليه؛ ولذلك يظل الفعل الشعري شيئا غامضا محفوفا بالأسرار، ويثير من المشاعر والانفعالات ما لا يعبر عنه إلا الشعر نفسه. إن الخلق الشعري يحتوي دائما على عنصر المصادفة. فما من شاعر يستطيع أن يتنبأ بما ستنتهي إليه قصيدة بدأ في تأليفها. صحيح أنه يبدأ بفكرة معينة، فإذا مضى في عمله اكتشف أن فكرته وأسلوبه وهدفه قد تغير، وأن كل جهد يبذله وكل عقبة تصادفه إنما تبدل أفكاره وتزيدها غنى. وقد فطن مالارميه إلى هذا الرأي وعبر عنه بكلمته المشهورة التي ذكرناها في الصفحات السابقة: «ما من رمية زهر تستطيع أن تلغي الصدفة.» - وقد تكون الصدفة التي يقصدها هي الواقع العرضي الذي تحاول لغة الشعر أن تلاشيه. وقد يكون تعبيرا عن البلبلة والحيرة المطلقة التي تواجه الشاعر في أثناء الخلق. فهو يلقي «زهرة» ولا يدري ماذا يكون حظه من التوفيق أو الفشل، لأن مادته تواجهه بمفاجآتها العديدة التي لم يكن يتوقعها أو يحسب حسابها.
ولكن ماذا يحدث لو تأخر هذا العطاء، لو تلكأت هذه الصدفة؟
هذا هو موضوع القصيدة الأخرى «التخيل». إن الملاك الذي يظهر في سطورها الأولى يوصي الشاعر بأن ينتظر في ثقة وهدوء (والملاك رمز آخر أخذه فاليري من معلمه مالارميه ويدل عنده على المثال المطلق للجمال والسلام). فقد تمر به أوقات يحس فيها بالعجز والعقم والإجداب، ولكن هناك قوى خفية تظل تعمل عملها في أعماقه دون أن يدرى، ولا بد أن يأتي الشعر في اللحظة المناسبة:
هذه الأيام التي تبدو لك فارغة
وضائعة في نظر العالم
لها جذور نهمة
كنبت الصحاري.
ولا بد أيضا أن ينتظر الشاعر في صبر وثقة وأمل، وأن يتأكد من أنه سيكافأ على هذا الصبر، وأن المفاجأة السعيدة لا شك آتية.
صبرا، صبرا،
صبرا في الأفق الأزرق!
فكل ذرة صمت
فرصة ثمرة ناضجة!
ستأتي المفاجأة السعيدة:
حمامة، نسمة،
التوهج العذب اللذيذ
والمرأة التي تنعطف (عليك)
ستجعل هذا المطر يتساقط
فيخر المرء راكعا على ركبتيه!
وإذن ففاليري يميز بين المعطي - وهو عنصر الصدفة والمفاجأة غير المنتظرة - وبين عنصر «الصنعة» الذي يجعل الشاعر يشكل الأفكار التي نضجت في عقله، والإحساسات والصور والتداعيات التي جمعها عن غير وعي واختزنها في ذاكرته ويضعها في إطار أو نظام لغوي معين. وقصيدة «النخيل» تشهد على هذا كله، كما تشهد على ما كرره فاليري من أن الشعر لا يأتي من الأفكار بل من الجسد، أو بعبارة أخرى من الإحساسات؛ فالحمامة، والنسمة والمرأة، كلها إحساسات تستثير في الشاعر قدرته على الخلق، والمهم بعد كل شيء هو أن ينتظر ويصبر.
ويبلغ حديث فاليري عن سر الخلق الشعري والأدبي ذروته في قصيدته الرائعة «كاهنة بيثيا». والقصيدة درامية وفلسفية، بل توشك أن تكون تعليمية في سطورها الأخيرة. وهي كما يدل عليها عنوانها تدور حول كاهنة معبد أبوللو في دلفي، التي اعتاد إله الفن والنور أن يعلن تنبؤاته على لسانها. وهي لذلك تشبه الشاعر الذي يوحي إليه بالكلام بلا سبب معروف. ومع أن القصيدة لا تشير إلى الشاعر مباشرة فإن عذابها الذي تعانيه لا يقتصر عليها وحدها، وإنما يرمز لعذاب كل شاعر، بل كل من يحتمل آلام التجربة اللغوية والفنية بوجه عام. ومع أنها أيضا تعبر عن جانب واحد من جوانب الخلق وهو جانب العذاب والصراع واليأس والفزع الذي تقاسيه الكاهنة في واحد وعشرين مقطوعة حتى يأتي الخلاص الأخير في المقطوعة قبل الأخيرة، فإن الشاعر يختمها في المقطوعة الأخيرة بما يشبه الحكمة التعليمية التي تعتبر خاتمة القصيدة وذروتها في آن واحد.
و«بيثيا» هي العذراء التي تصارع قوة إلهية تريد أن تحل فيها رغما عنها. هذا الحلول يؤلمها ويهينها ويثير فيها عواصف الثورة والتمرد. إنه نوع من الغزو والاغتصاب. وهي تصرخ وتعوي كالحيوان الجريح، وتلعن «الإله القذر» الذي يجلدها ويعذبها. إنها أشبه بالضحية التي ستقدم على المذبح. وصراعها المخيف يبدأ عندما يصر الإله على أن يحل فيها ويقتحم وجودها، وتصر طبيعتها البشرية على مقاومته، وهي بهذه الآلام كلها ترمز للفعل الروحي الذي تتحول به القوى الإلهية والبشرية إلى كلام مرتب ومنظم. ولذلك فإن صراعها هو نفس صراع الشاعر الذي تغزوه هو أيضا قوة متعالية أو إلهية تحاول أن تخلق النظام في الكلمات، وتضطر لذلك أن تصارع انفعالات الجسد وغرائزه وعواطفه حتى تخضعها. والجسد يقاوم لأن هذه القوة العالية تهدد أمنه واستقلاله وسعادته. ويحس الشاعر أنه ليس هو الذي يعمل أو يخلق، بل إن هناك قوة خارجية تتخذه أداة لها وتعمل وتخلق من خلاله، كما يحس أنها تفوق احتماله وتتجاوز قدرته المحدودة. هذا الصراع الذي تقاسيه الكاهنة أو الشاعر مثل لصراع آخر أعم تقاسيه الروح البسيطة عندما تصطدم بالحياة وتحاول أن تكيف نفسها مع الوجود فتفقد براءتها. بل إنه هو صراع فاليري نفسه بين القلب والعقل، وبين الشعر والفكر المجرد. ويشتد هذا الصراع ويحتد، وتكابد الكاهنة كما يكابد الشاعر أفظع الآلام، ولكنه يهدأ شيئا فشيئا حتى يصل به فعل الخلق إلى التحرر والخلاص الأخير.
إن الكاهنة تشعر أنها أهينت واغتصبت لأن الإله اعتدى على حريتها العقلية والروحية. ليست هذه هي الحياة التي كانت تحلم بها، ليس هذا هو العالم المثالي الذي يخلو من الحركة والحياة، والذي يمكن أن تصبح فيه أشبه برأس «الميدوزا» الخرافية التي تحول كل إنسان وكل شيء تقع عليه عيناها إلى حجر:
عندئذ، بهذه الشريدة (التي صارت) ميتة، تائهة، وقمرا أزليا ،
فلنفاجئ مياه البحار،
ولتندفع الموجة مرغمة إلى ذرى أبدية!
ليتحول البشر إلى تماثيل،
بقلوب متجمدة وأرواح مقتولة،
وبالجليد المتساقط من عيني،
لينقلب شعب بكلماته
إلى شعب من أوثان بكماء؛
أخرسه الحمق والكبرياء!
23
إن الكاهنة تدافع عن براءتها وكبريائها دفاع المستميت. وإنكار الحياة هو المثل الأعلى لهذه البراءة المهانة:
إلهي! أنا لا أعرف جرما جنيته
أكبر من أنني كدت أعيش!
والرب الذي يغزوها يحطم هذا المثل الأعلى، ويدمر أشواقها ووجودها الذي ظل مكتفيا بذاته، وعالمها الخاص الذي بنته لنفسها بعيدا عن عالم الناس.
هذا الصراع لا يمكن أن يحله البعد والتجرد العذري. فالمؤلم فيه حقا أنه يدور في الجسد. إن الكاهنة تحس بجسدها في هذا الصراع، كما يحس الشاعر بمادته الشعرية في غرائزه وعواطفه، أي في جسده. فالجسد في نهاية الأمر شيء يشترك فيه البشر جميعا، وشهواته وحاجاته وإشباع رغباته هي الأساس المشترك الذي تقوم عليه حياتهم. والكلام أيضا شيء جسدي وطبيعي. والإله حين يفرض إرادته على الكاهنة ويملي عليها كلماته إنما يعيدها إلى النظام ويحرمها من استقلال المجرد، ويوحد بينها وبين سائر الناس، ويستمر الصراع فتهدأ الثورة شيئا فشيئا. ويبدو للكاهنة أن المهانة التي عذبتها بدأت تؤذن بالتقاط الأنفاس وتعد بالأمل والخلاص. لعل الألم الذي احتملته لم يذهب عبثا، لعل النصر أن يأتي من الخضوع للمغتصب الغازي:
أنصتي يا نفسي، أنصتي لهذه الأنهار!
أي كهوف هنا؟
أهذا دمي؟ أهذه هي الغمغمات الجديدة
للأمواج التي لا ترحم؟
أسراري تقرع فجرها!
أيها النحاس المحزون، أيتها الأصداغ المدوية،
ما عساك تقولين عن المستقبل؟
اقرعي، اقرعي في الصخر،
أجهزي على أكثر الساعات قربا ...
إن طبيعتي على وشك الاتحاد!
ونشهد الكاهنة ما يحدث في كيانها. إن طبيعتيها العقلية والجسدية الخاصة والعامة على وشك الاتحاد، والصراع أيضا على وشك أن ينتهي إلى الحل المتجانس السعيد.
هذه هي المعرفة التي تصل إليها؛ ما من طبيعة منهما يمكن أن تحيا بمفردها. والكاهنة تعرف هذا الصراع في كيانها بين أفكارها العذرية وغرائزها الجسدية، كما يعرف الشاعر الصراع الذي يعانيه بين الفكر والشعر.
كلا الطرفين إذن في حاجة إلى الآخر؛ فالعقل بغير الجسد يعيش في عالم وهمي مجرد، والجسد بغير العقل يتحول إلى وعاء تضطرم فيه الغرائز والانفعالات. لا بد أن يتحد الطرفان، ولا بد أن يوحد بينهما إله.
وحين يدوي صوت النبوءة في النهاية، تكون التجربة الفردية قد وجدت إطارها العام، وانتقلت معها تجربة الخلق إلى آفاق أخرى تتسع لتجربة اللغة نفسها عند البشر. وتنتهي القصيدة بأبيات «النبوءة» التي تدهش القارئ بنزعتها الحكمية أو التعليمية الغريبة على فاليري:
يا شرف البشر، أيتها اللغة المقدسة
أيها القول النبوي الموشى،
أيتها السلاسل الجميلة التي يتقيد بها
الإله الذي ضل في الجسد،
أيتها اللألاء والآلاء!
ها هي ذي حكمة تتكلم
ويدوي صوت مهيب
يعرف عن نفسه حين يتردد
أنه ليس بصوت إنسان
بقدر ما هو صوت الأمواج والغابات!
بيت غريب تنتهى به هذه القصيدة؛ فلا يتوقع القارئ من الشاعر المتفلسف أن يقدم له نظرية في اللغة. إن الصوت الذي يتكلم من خلال كاهنة بيثيا ليس بصوت الأمواج والغابات، ولكنه يشبهها بعض الشبه. وهو ليس بصوت إنسان واحد، بل ينطق عن الجميع؛ ذلك لأن فعل الكلام وحده وإمكان فهمه دليل على إنكار الانفصال بين البشر. ولا مفر من تفسير هذه النهاية بأن الكلام أو الشعر فعل يقرب الفرد من الحياة ويكسر الحدود التي تعزل إنسانا عن إنسان. ولا مفر أيضا من القول بأن تلميذ «مالارميه» قد ابتعد قليلا عن الشعر الخالص أو «الشعر المطلق»، وإنه يرفض ما ذهب إليه المعلم من أن الشعر لا وجود له إلا في المطلق، ويؤكد أنه مهما اشتدت آلامه وعذاباته فلا بد أن يتصل في نهاية الأمر بالحياة العادية والوجود العادي، ولا بد أن يحترم الجسد ويلمس الإحساس
24 ... •••
لعل أحدا لم يفكر في العلاقة بين الأدب واللغة كما فعل فاليري. لقد تأثر في هذا بأفكار مالارميه أعظم التأثر وأخذ يطورها ويسير فيها إلى غايتها. فالخلق الأدبي في رأيه يعني التعمق إلى الطبقات السفلى للغة، عندما كانت قادرة على صياغة التعاويذ والرقى السحرية، وعندما تكون قادرة عليها في المستقبل، والخلق الأدبي معناه أن يعكف الأديب على تجربة التركيبات المشتركة بين المعاني المختلفة والتأثيرات الصوتية حتى يوفق إلى تأليفة واحدة لها ضرورة الصيغ الرياضية. وفاليري يعلم أن هذا يتم دائما على حساب المعنى؛ فليست هناك قصيدة واحدة ذات معنى واحد صادق، أي ليس هناك معنى واحد يمكن أن يستنفد كل طاقاتها وإشعاعاتها وظلالها، وشعر فاليري نفسه مصداق لهذا القول.
فلو نظرنا مثلا في قصيدته «خطى» (التي تجدها في نصوص هذه المجموعة) لبدت لأول وهلة كأنها مشهد حب رقيق ولكنها ستكشف لنا بعد القراءة الأولى عن معاني أخرى أهمها التعبير عن الحالة العقلية والوجدانية التي تصاحب عملية الخلق الأدبي، والإحساس بأن انتظار «ربة الشعر» يسعد القلب أكثر مما يسعده وصولها. والقصيدة تنطوي على المعنيين، ولا يصح أن نؤكد أحدهما ونسقط الآخر، وإلا فقدت ذلك الضوء الخافت الذي تسبح فيه.
يقوم تفكير فاليري في أساسه على «عدمية المعرفة»، ولا يتسع المجال للكلام عن هذا الرأي بالتفصيل؛ ولذلك سنكتفي بالإشارة البسيطة.
لما كانت المعرفة غير ممكنة، فإن اللغة الشعرية تكتسب مطلق الحرية في أن تسقط «مخلوقاتها» في العدم، ويسمي فاليري هذه المخلوقات «بالأساطير»، ويعرف الأسطورة بأنها الاسم الذي يطلق على كل ما لا وجود له ولا نلمسه إلا عن طريق الكلمة. أما الكلمة فهي «الوسيلة التي يلجأ العقل إليها لكي يتكاثر في العدم». وفي مواجهة الواقع الذي ليس له سوى وجود عرضي، يقوم الخلق الأدبي بعملية تحويل وتشكيل مستمرة ، إلى أن يصل إلى تلك اللاواقعية التي يصفها فاليري بأنها «حلم». ففي الخلق الأدبي يتعرف العقل على إمكانياته ويحققها بالسيطرة على الشكل المحكم الذي فرضه على نفسه. إن أفعاله وحدها لها صفة الضرورة ولذلك فهو دائما أسمى من الواقع العرضي.
هذه أفكار قريبة جدا من أفكار مالارميه، وهي تبين أن أعظم الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين يبرر وجود الأدب من خلال الذاتية الخالصة (لا الشخصية) ويؤكد أن موطن هذه الذاتية هو اللغة والحلم، لا العالم أو الواقع. إنه يرى في تفاهة الواقع وعدمية الحقيقة المتعالية (الترانسندنس) شرط الكمال الوحيد الممكن، وهو الكمال الفني. إن القصيدة، كما يقول في كتابه «ألوان
25
شذرة كاملة التشكيل من بناء غير موجود». أما أن البناء غير موجود فلان مضمونها لا يوجد إلا في اللغة، وأما أنها شذرة فلأنها تظل دائما عاجزة عن بلوغ الهدف. ونلاحظ أن فاليري يعمد إلى فكرتين سالبتين لكي يؤكد شيئا إيجابيا واحدا هو فعل الخلق. يقول في عبارة أخرى من عباراته العميقة الدقيقة. «ليس هناك شيء أجمل مما لا وجود له». وهي شبيهة بالعبارة التي أوردناها من قبل لروسو ويقول فيها إن بلاد الوهم هي البلاد الوحيدة التي تستحق أن يسكنها الإنسان في هذا العالم، وإن الإنسان من التفاهة بحيث إن الشيء الوحيد الجميل هو الشيء الذي لا وجود له. ولا شك أن القارئ قد رأى بنفسه أن فكرة فاليري أقسى وأبعد عن العاطفة، وهي تدلنا بغير شك على وعورة الطريق الذي سار فيه التأمل في الأدب من أيام روسو إلى هذه الأيام.
عرف فاليري بيت الشعر بأنه «توازن معجز وشديد الحساسية يقوم بين الطاقة الحسية والطاقة العقلية للغة.» ونستطيع أن نقول إن شعره يحقق هذا التوازن. لقد روي عن نفسه في مناسبات كثيرة كيف كانت بعض قصائده تنشأ في البداية عن لعب حر بالإيقاع والتنغيم، تنضاف إليه بعد ذلك الكلمات والصور والأفكار. والقصيدة التامة تحتفظ هذا التدرج في القيم، فهي في المرتبة الأولى غناء وفي المرتبة الثانية مضمون.
ويكفي أن يتلو القارئ بعض المقاطع التي تبدأ بها قصائده ليتذوق سحر النغم الكامن في ألفاظها الأصلية؛ سيلاحظ كيف تتدرج الحروف الصوتية والأنفية بين علو وهبوط لكي ترجع إلى المركز الذي بدأت به.
ومع ذلك فقد تأتي المبادرة من المعاني لا من الكلمات. فقصيدة «باطن» - التي تجدها أيضا مجموعة النصوص - يدور الحدث فيها داخل الوجدان وخارجه في وقت واحد. إنها تبدأ بهذه الأبيات:
أمة ضيقة العينين، تثقل نظرتها الأغلال الناعمة،
تغير ماء أزهاري، تغوص في المرايا القريبة ...
ونلاحظ أن الأصل في استعارة الأغلال أو السلاسل في البيت الأول هو الأمة التي توحي بالعبودية، كما أن الغوص في المرايا في البيت الثاني يأتي من الماء، ومع ذلك فلا تريد هذه الأبيات أن تصف شيئا، بل تريد أن نسمعها ونتذوقها كتجارب لغوية تتولد فيها الكلمة عن كلمة أخرى، أضف إلى هذا أن الكلمة التي يصف بها الشاعر المرايا تدل على الزمن لا على المكان، فالمرايا قريبة
26
قربا مباشرا (في الزمان أو المكان) وهي كلمة يستخدمها الشاعر ليتلافى كلمة أخرى يتوقعها القارئ لدلالتها المباشرة على القرب المكاني وهي «قريبة».
27
ونستطيع أن نجد أمثلة أخرى على توليد الصور والرموز بل والفكرة الفلسفية نفسها من الكلمات. ويكفي أن يرجع القارئ إلى إحدى قصائد فاليري المبكرة وهي قصيدة «الحائكة»
28
ليرى كيف عبر الشاعر عن فكرة - تأثر فيها بمعلمه مالارميه - وهي فكرة انقطاع الصلة بين الإنسان والعالم. فهناك فتاة تجلس في المساء أمام نافذة، مستغرقة في النوم والأحلام. عبثا تحاول زهرة من الحديقة المجاورة أن تحيي الناعسة الجميلة، وتنجح اللغة فيما أخفقت الزهرة فيه، فتجمع بينهما في وجود غير واقعي، تنسج خيوطه من كلمات مشتقة من الخيط والنسيج، تخرج منها كما تخرج الأرواح من الرقى والتعاويذ السحرية.
على أن شعر فاليري أعمق وأبعد غورا من أن نفسره من ناحية اللغة وحدها. إن له أيضا أسلوبه الداخلي الذي يخضع لقانون خاص به. ولا يتمثل هذا في الموضوعات التي يتناولها بقدر ما يتمثل في الأفعال العقلية التي نتسمعها من خلال الصور والرموز الغنية، فنتبين أنها أفعال «الوعي الفني» الذي طالما شغل تفكيره. وقد تحدث مرة عن «الكوميديا العقلية»
29
التي تكون لب القصيدة أو المركز الذي تدور حوله. وأوضح الأمثلة على ذلك قصيدته «إلى شجرة الدلب».
30
ولسنا في حاجة إلى القول بأن الشاعر لا ينظر إلى الشجرة كما نجدها في الطبيعة، بل هي عنده «ظاهرة» تدل على حركة (ديناميكية) خالصة مشدودة بين نداء يهبط عليها من أعلى، وقيود تشدها إلى أسفل. إن الشجرة تسمع نداء «الرياح » التي تريد أن تتحقق لغتها فيها، ولكنها تحس كذلك بالضرورة التي تعجزها عن اللغة أو تجعل اللغة ممتنعة عليها، كل هذا على نحو يذكرنا بتجارب مالارميه الفنية، ومن خلال التوتر المستمر الذي لاحظناه لديه. فالتوتر يظل هنا أيضا بغير حل، والنشاز واضح في عوامل الصراع المجرد في القصيدة. ولكنه واضح كذلك في التوتر القائم بين المضمون المقيد والغناء المنطلق.
ومما يلفت النظر في شعر فاليري أن الموضوعات التي يعالجها والحلول التي يقدمها ليست واحدة، وهذا دليل على اهتمامه بالصراع الدرامي أو بما يسميه بالكوميديا العقلية قبل أي شيء آخر. إن الأحداث العقلية نفسها تتغير وتتبدل؛ فهي تعبر مرة عن اليقظة من ظلام الحلم إلى نور الوعي، كما تعبر مرة أخرى عن الهبوط من جديد في غياهب الحلم، وهذا يؤدي بنا إلى القول بأن فاليري - على الرغم من قربه الشديد من مالارميه - ينوع كثيرا من موضوعاته، بينما يحرص معلمه على الالتزام الشديد بعدد قليل من الموضوعات، ومع ذلك فإن اختلاف الموضوعات والحلول لا يمنع أن هناك شيئا واحدا تتفق فيه القصائد العديدة، وهو تحول «الفعل العقلي» إلى غناء شعري، تتحد فيه النزعة العقلية مع النزعة الحسية، ويأتلف فيه وضوح الفكرة وغموض السر. ونمثل لهذا بقصيدتين إحداهما هي «أغنية الأعمدة»
31
وهي نشيد يتغنى فيه الشاعر بالخطوط الخالصة التي يراها في الكتل المعمارية، بل هي نشيد صامت للعيون التي تدرك الوجود المستقر في الحجر، المنتظم في النسب والأعداد، وكأن العقل نفسه هو الذي يقوم بعزف هذا النشيد. وأما الأخرى فهي القصيدة الشهيرة «المقبرة البحرية»
32 ... وتتردد فيها أنفاس من قصيدة لو كريس المعروفة «طبيعة الأشياء»،
33
ويغلب عليها التأثر بعدد من صورها وموضوعاتها، والقصيدة تعبر عن أزمة عقلية. فالوعي يحاول أن يتحد بالوجود الثابت، «بسطح» البحر، بتاج النور الأعلى، بغيبة الأموات وعدمهم، غير أن إغراء الحياة «المتحركة» أقوى وأغلب. ويستسلم الوعي لها، وإن كان يعلم خداعها وزيفها. وتختفي الصور والاستعارات التي كانت تدل على البحر في حالتي الثبات والحركة ليسمى بأسمائه الطبيعية من جديد (أمواج ، مياه)، وليكون في ذلك الدليل على أن الوعى قد تفتح لاستقبال الطبيعة والواقع الخارجي.
وقد نشعر من قراءة هذه القصيدة العسيرة
34
أنها تتراجع عن تجريد الأشياء وإلغاء الواقع كما رأيناه في أقصى صوره عند مالارميه، بل قد نشعر أيضا أنها تقول عكس ما تقوله القصيدة السابقة (أغنية الأعمدة). ولكن لا يصح أن نقف عندهما طويلا، فهناك قصائد أخرى تقدم حلولا وموضوعات مختلفة. والمهم أن الأمر لا يتوقف على الموضوعات والحلول، بل يتوقف على شيء واحد حرص عليه فاليري، كما قدمت، كل الحرص. وهو أن يتحول الفعل العقلي الخالص إلى شعر، أي إلى غناء، يتحد فيه العقل والحس، ويتجاوز الوضوح والغموض. (11) خورخه جيان
والحديث عن فاليري يؤدي بنا إلى الحديث عن هذا الشاعر الإسباني الذي يعد أكمل وأنضج ممثلي الشعر الخاص أو الشعر المحض في العصر الحاضر. إن أشعاره تتلألأ بالنور الذي تشعه عليها أعمال مالارميه وفاليري (اللذين ترجمهما إلى لغته)، وقصائده حبات في عقد واحد فريد، ظهر للناس لأول مرة في سنة 1928م، ثم أضاف إليه ونقح فيه حتى ظهر في شكله الأخير سنة 1950م تحت عنوان «أغنية»
35 ...
والملاحظ على هذا الديوان أنه يشبه «أزهار الشر» لبودلير في بنائه المعماري العام، وأنه ألف وفق نظام عددي دقيق يذكرنا بالكوميديا الإلهية لدانتي.
يمكن أن نصف شعر جيان في مجموعه بأنه أنطولوجيا شعرية أو «فن شعري» يقوم على أساس أنطولوجي. إنه يتراوح بين أبسط الظواهر وأدق التجريدات، وهو شعر غامض، بل لعله أن يكون من أكثر نماذج الشعر الحديث غلوا في الغموض. إنه لا ينطق عن ذات أو «أنا» شخصية، بل ينطق عما يمكن أن نسميه «عيون العقل» التي تذكرنا «بالنظرة المطلقة» التي تحدثنا عنها عند مالارميه. فعيون العقل تتجرد من مادة الحياة لكي تصير مرآة للعالم ككل، أو لهيكل الوجود الخالص الذي يتجلى من خلال العالم بكل ما فيه من ظواهر وكائنات. ويوشك القارئ، أن يسمع في هذا الشعر رنة فرح هادئ مختلف عن كل أفراح البشر؛ ذلك لأنه فرح عقلي أو سعادة روحية خالصة تأتي من رؤية قادرة على النفاذ في صميم الأشياء وإدراك صورها الأولية الثابتة، وماهياتها الساكنة الهادئة، وهي رؤية تعلم كذلك أنها قادرة على أن تعطي - بالكلمة - لكل الكائنات وجودها العقلي الباقي.
وقد وصف بعض النقاد جيان بأنه أقرب الشعراء المعاصرين من المدرسة الإيلية،
36
محاولين بذلك أن يميزوا شعره من خلال علاقته بالوجود الأسمى وحقائقه الثابتة، ولكن الواقع أن هذا الوصف يقلل من شأنه، فهو لا يريد أن يكون تعبيرا عن الوجود نفسه - وإلا لما كان شعرا على الإطلاق! - بقدر ما يريد أن يكون حركة؛ حركة في اتجاه الوجود، من الظلام إلى النور، ومن الاضطراب إلى السكون.
إن القيمة الرئيسية في شعر جيان والمحور الأساسي الذي يدور حوله هو النور. فالنور هو المظهر النقي الخالص للوجود، وأكثر القصائد نصيبا من النور هي أدقها من ناحية الشكل والبناء. يقول أحد الأبيات: «دائما يكون النور.» ولكن الحدث الهام فيه هو حدوث النور نفسه وصيرورته، أو هو على حد تعبيره «نشوة الانتقال». والطاقة الشعرية فيه تنبثق عن حالة من التوتر الذي يسعى إلى التجاوز والعلو. إنه يرتفع بالشيء البسيط إلى حقيقته وكمال ماهيته، فيجعل الحديقة «أكثر من حديقة» والجسر «أكثر من جسر»، لكي يستخلص من ذلك مقولة الماهية أو الحقيقة (كما رأينا عند مالارميه) التي يغمرها في النهاية نور الوجود الكامل. وهذا الفعل أو هذا الحدث الشعري يمتد فيشمل كل الأحياء والمحسوسات، حيث «تنغم المادة بالنغمة التي تجعل منها ظاهرة». ولكنه من ناحية أخرى يحولها ويعمل على «تغريبها ». فالأشياء تستجيب «باكية» للمثالية الخالصة. واللغة لا تزينها ولا تزخرفها، بل تعري جوهرها المحض، الذي تدخله في نسيج من العلاقات غير الواقعية.
فإحدى القصائد مثلا تتكلم عن مدينة صيفية (تسميها مدينة الصدفة) يسقط عليها نور حريري يجلي خطوطها فتصبح «نشوى من الهندسة». وتتمكن منها «لذات الدقة والتحدد» فتصير «مدينة الماهية».
37
وتتحول المناظر الطبيعية إلى خطوط شفافة لا مادية في نسيج من التوتر، ويصبح الثلج والبرد كلمتين ترمزان إلى المطلق الذي يتلاشى منه الموت المحتوم على كل حياة، لا بل يتلاشى فيه كل أثر للحياة، (وإن كان يبدو من بعض القصائد أن الشاعر يمجد الحياة الشاملة فيما يشبه وحدة الوجود). وتتجرد المرئيات شيئا فشيئا من صفاتها الحسية. وينشأ نوع من الفراغ، تغلب عليه الصور والظواهر الساكنة (كالدوائر والخطوط والأحجام) أو رموز لمثل هذه الصور والظواهر (كالوردة والنهر والبحر) ويتحول شعر جيان كله إلى نموذج مصغر للوجود، متسق البناء غامر النور. ومن الطبيعي ألا يترك للإنسان شيئا من «إنسانيته» وأن يمضي فيما أسميناه بطرح النزعة البشرية إلى أبعد مدى ممكن. وحتى الحب لا ينجو من هذا التجريد؛ فشعر الحب، يصبح نوعا من المعرفة بالوجود، ويتجلى هذا الوجود في أسمى مظاهره للمحب الذي يراه بفكره من خلال جسد الحبيبة لا من خلال روحها. أما هي فلا تدري، كما هي العادة، شيئا عن هذا، ولا تعلم أنها هي النافذة التي يستشف منها النور.
وروعة الربيع لم تخلق للقلب، «ففوق الهدير المضطرب يسري نداء بعيد وخافت؛ نداء ناعم من لا أحد إلى لا أحد.»
والأطفال تلعب على شاطئ البحر، ولكن ليست هي التي تقوم باللعب، بل البحر والأصداف، وكذلك أيادي الأطفال التي صارت موجودات مستقلة بذاتها. وتنتهي القصيدة بنقلة أخيرة إلى موسيقى الأفكار: «سلاسل حمراء، أصداف، أصداف، تناغم، نهاية، دائرة». لأن سر الوجود الذي يعلو على الحياة ويتجلى في روعة الضياء ويختفي، إنما يلمع في الدائرة «ويتخفى بين كتل الهواء» (انظر قصيدة كمال الدائرة) مثله في ذلك مثل الشعر نفسه.
هذا الشعر في صميمه غناء . غناء معدني قاس، صيغ بلغة إسبانية هي بطبيعتها حادة وقاسية. وتجريداته غناء؛ وهو مضطر لهذا السبب أن يستخدم ثروة من الكلمات التي تدل على التجريد: كالمنحني، والخط، والدائرة، والمركز، واللانهاية، والجوهر، والعدم، والحاضر ... إلخ!
وليس ثمة حدود لغوية تفصل في هذا العالم الشعرى بين الكلمات المجردة والكلمات البسيطة الأخرى، وليست هناك كذلك حدود موضوعية بين مضموناته المعنوية والحسية. يقول أحد الأبيات: «ريش البجعة يرسم نظاما من الصمت المقدور ...»
وفي قصائد أخرى تصور مشهدا من مشاهد الطبيعة نرى المجردات تتحول إلى ذوات فاعلة. ولكن اللغة تكيف نفسها بوسائل أخرى وفقا للموضوع. فقد تستخدم جملا اسمية فقيرة في الأفعال، وتعزل بواسطتها مختلف الظواهر والأفكار التي تخلصها من الزمان أو تضعها خارج الزمان. لن تحس بتدفق هذه اللغة، بل ستشعر بأنها تتردد وتتعثر وترص الكلمات كما ترص الكتل الصخرية بجوار بعضها البعض، ثم تعود فتنفتح على سؤال قصير، أو لمسة سريعة كلمسة الوتر. وستشعر أيضا ببراعة الشاعر وقدرته على أن يستخرج من الكلمات المركزة مجموعة من الأصداء التي تتردد طويلا في فضاء مملوء بالأسرار. وستتبين في هذا شيئا هاما يشترك فيه عدد كبير من الشعراء المحدثين، وهو التناقض بين عذوبة اللغة وصعوبة الفكرة، بين بساطة العبارة وغموض المضمون. وتظهر المضمونات، سواء أكانت صورا أم أفكارا، على شكل شذرات وضعت بجانب بعضها البعض، لم ينم أحد منها من داخل المضمون السابق عليه، ولم تبق رابطة - مهما كانت صغيرة - إلا وتحطمت.
هناك شيء يحدث دائما في قصائد جيان، ولكن مراحل هذا الحدث وخطواته - ما دامت في مجال التجربة - لا تحمل ضرورة في ذاتها، ولا تعرف تسلسل السبب والنتيجة. ولا تصبح للضرورة فاعلية أو تأثير إلا مع تفاعل التوترات المجردة أو تغيرها وتبدلها. والمهم أن هناك شيئا واحدا في هذه القصائد لا يختلف حوله اثنان؛ أنها تفتقد الألفة بينها وبين القارئ.
ولكن ماذا يحدث عندما يتناول هذا الشعر موضوعا قديما؟ تستطيع قصيدة «ليلة قمرية» (التي تحمل عنوانا فرعيا آخر هو «بلا حل») أن تجيب على هذا السؤال.
38
إنها ترسل لنا لوحة طبيعية من أفكار كهذه: علو، بياض، انتظار إرادة، نحولة، تكون في مجموعها سورا من الماهيات المتعالية فوق الأشياء، يحيط بحدث يتم في برودة الليل دون أن يشارك فيه إنسان. وإذا تلفتنا داخل هذا السور لم نجد شيئا تراه العين، وحتى لو عثرنا على شيء فسوف نراه ينزلق كالأشباح في ثنايا الحدث اللاواقعي. ويسير هذا الحدث في حركته من الهبوط (بينما ترف رياش البرد) إلى التريث لحظات في السهل (بينما ينتشر الانتظار المتموج في صمت)، والصعود من الأعماق لأول مرة؛ صعود إلى البياض (بينما تلتمس الشواطئ الرائعة نعمة الرياح)، يتلوه صعود ثان، لا يزال يتم في تساؤل، ولكنه في تساؤله يرفع العالم إلى «زوال أبيض، تام، أبدي».
هذه القصيدة، ككثير غيرها، نسيج يتكون من مجالات توتر خالصة. والسؤال الذي تطرحه في النهاية ثم تتركه بغير جواب يزيد التوتر حدة. وليست هناك أنا تتكلم. لأن اللغة وحدها هي التي تتكلم اللغة التي توجد بين المرئي والمعقول وتنزل عليهما برودة الصيغ الرياضية، ولكنها صيغ تشدو وتغني. وهذا هو الذي يجعلها شعرا. (12) شعر بلا منطق أو وراء المنطق
وعلى الطرف الآخر من هذا الشعر النابع من تراث مالارميه نجد ما يمكن تسميته بالشعر اللامنطقي، أي شعر الهواجس والأحلام والهلوسات التي تصدر أو تحاول الصدور عن اللاشعور الباطن. والشعراء الذين يمثلون هذه النزعة يتأثرون رامبو ولوتريمو وعلوم الأسرار والكيمياء القديمة والكتابات اليهودية السرية المعروفة «بالقبلة». إن شعرهم هو شعر الأحلام - بالمعنى النقي لهذه الكلمة - سواء أكانت أحلاما طبيعية ترى في النوم أو أحلام يقظة «فنية» تصطنع بالمخدرات والعقاقير لتنشيط ملكة التخيل الخلاق. والواقع أن الفارق بين الحلم بمعناه النفسي أو بمعناه الفني فارق غير ملموس، والمهم أنهما يتلاقيان في شيء واحد هو أن ذات الشاعر فيهما ذات منسلخة عن الواقع وأن الإنسان هو سيد العالم بفضل ملكة الحلم التي وهبت له وحده.
الشعر اللامنطقي يستفيد إذن مثله في ذلك مثل الشعر العقلي من قدرة الإنسان على تخيل الصور اللاواقعية، ولكنه في حالتنا هذه يتلقى هذه الصور من أعمق طبقات الحلم دون أن يتدخل في ترتيبها وتنظيمها. فالإنسان عند شعراء الحلم ليس وحشا ذهنيا كما يقول «بريتون» ولكنه - بفضل أبحاث فرويد ويونج التي سبقت الإشارة إليها - كائن ينطوي على قوى مظلمة مجهولة تكمن في أعمق طبقات وجدانه وتسبق ذاته الشخصية الواعية. وقد رأينا أمثلة لتأثير هذا العالم المظلم على خيال الشاعر في كثير من قصائد رامبو. ثم جاءت أبحاث فرويد ويونج فأحدثت هي الأخرى أثرها. فيونج مثلا يفسر الأدب والشعر بوجه خاص بأنه ينشأ تحت تأثير «رؤى أولية قديمة» تعيش في اللاشعور الجمعي وما الشاعر إلا «الوسيط» الذي تتدفق هذه الرؤى من خلاله، وبذلك تكون عملية التشكيل الفني عملية ثانوية إلى جانب الاهتمام بهذا العالم المعتم السحيق.
ومن الطبيعي أن يكون لهذا تأثيره على السيرياليين ورائدهم الأول أبوللينير الذي أوجد كلمة السيريالية نفسها. فقد كتب، في سنة 1908م شعرا منثورا بعنوان «أو نيرو كريتيك»
Oniro critique (عن عنوان الكتاب القديم الذي ألفه أرتيمدور في تفسير الأحلام باليونانية
ÔvSipo-kpitika ) ولا بأس من ذكر بعض سطور من هذا النص (اخترناها كما اتفق، لأن ذلك لن يغير من الأمر شيئا!) وسنجد أن أبوللينير يجمع صورا لا واقعية ونتفا من الأحداث التي صفها إلى جانب بعضها بغير رابطة تجمع بينها بحيث يمكن أن يعيد القارئ ترتيبها على نحو آخر. وإذا كانت هناك ثمة رابطة بين الصور والأحداث فيمكن أن نسميها «التحول اللامعقول» الذي يشبه ما يحدث في الأحلام؛ فالرأس تتحول إلى لؤلؤة والأنغام تتحول إلى ثعابين. لن تجد إنسانا بمفرده في هذا العالم بل ستقابل حشدا من الناس. وليست الصور المفككة غير الواقعية هي وحدها التي تشبه الأحلام بل كذلك طريقة التعبير. إنه عالم يزدحم بالجنون والقبح والجريمة: «كانت قطع الفحم في السماء شديدة القرب منى بحيث شعرت بالخوف من رائحتها. حيوانان غير متكافئين مارسا الجماع، وفروع الكروم أصبحت عناقيد ثقيلة بصرر الأقمار. من حلقوم القرد ارتفعت ألسنة اللهب وزخرفت العالم بالزنابق. الطغاة فرحوا. أقبل عشرون خياطا أعمى. قرب المساء طارت الأشجار هاربة وتكاثرت حتى صرت مائة شخص. القطيع الذي كنته جلس على شاطئ البحر. السيف أطفأ ظمئي. مائة ملامح قتلوني تسعا وتسعين مرة. شعب كامل ضغطوه في المعاصر، فراح ينزف دما وهو يغني. ظلال غير متساوية نشرت السواد بمحبة على حمى الأشرعة القرمزية، بينما تكاثرت عيوني في الأنهار والمدن وفوق ثلوج الجبال ...» ولن يخطئ القارئ صوت رامبو في هذا النص، ولن ينسى أوجه التشابه العديدة بينه وبين الإشراقات.
ومع أن السيرياليين قد توالى إنتاجهم منذ العشرينيات من هذا القرن فإن رائدهم وملهمهم أبوللينير يعد أبدعهم خيالا. والحق أن برامج السيرياليين تستحق الاهتمام أكثر بكثير من إنتاجهم. فلقد دأبوا على تأكيد لون من ألوان الإبداع ظهر في الشعر منذ عهد رامبو، وحشدوا في سبيل ذلك لغة أشبه ما تكون بلغة العلم. إنهم مقتنعون بأن في مقدور الإنسان الذي يتخبط في ظلام اللاشعور أن يمد تجربته الفنية بلا حدود، وهم مقتنعون بأن مرضى العقول يستطيعون أن يبنوا لأنفسهم عالما فوق الواقع لا يقل «عبقرية» عن عالم الأدب، وأن اللاشعور هو الذي يملي الشعر والأدب دون أن يتقيد بقيد ولا شكل. تلك هي بعض مواد هذا البرنامج الغريب الطموح. وقد نبالغ إذا قلنا إنهم يخلطون فيه بين التقيؤ والتفنن أو بين الإفزاع والإبداع! ولا يستطيع منصف أن يذكر للسيرياليين شعرا عظيما، وإن ذكر لهم برامجهم ونظرياتهم الجديدة الجريئة. وحتى الشعراء الكبار الذين يحسبون عادة من السيرياليين - مثل أراجون وإلوار - لا يدينون بشعرهم لبرامج السيرياليين، بل لذلك الأسلوب العام الذي شاع في الأدب منذ عهد رامبو وجعل الشعر لغة الأحلام والصور المجردة عن المنطق والمعقول. إن كل ما يذكره الناقد للحركة السيريالية هو أنها كانت نتيجة لا سببا، وأنها شكل واحد من أشكال عديدة تعبر عن شوق الإنسان الحديث إلى الأسرار والألغاز. وقد يشفع لشطحاتهم أن نذكر على كل حال أن الشعر الحديث في أوروبا ما زال يغوص في غياهب الأحلام، وكأن الشعراء يصرون على أن ينطبق عليهم هذا الوصف الذي يشهر بهم ويمجدهم في آن واحد فيصورهم كالسائرين نياما.
ويمكن أن نوضح ما تقدم بقصيدة مشهورة من شعر لوركا وهي قصيدة «خيالية ناعسة أو جوالة في النوم»
39
التي كتبها قبل سنة 1927م.
وإذا أردنا أن نعرف القصيدة من مضمونها لم نجد إلا فتاة تقف في ضوء القمر مستندة إلى سور شرفة. ويتحدث رجلان في مكان لا ندريه، ثم لا تلبث أن نجدهما أيضا في الشرفة، وبعدها بقليل نجد الفتاة مقتولة في صهريج . ولكن هذا التلخيص يدمر القصيدة تدميرا ويجعل منها جريمة قتل لا أكثر ولا أقل! ذلك لأن هناك شيئا آخر يختلف عن ذلك تمام الاختلاف. نسيج حالم من بقايا أحداث، وصور غير واقعية، وسحر ينبعث من نغم الكلمات وكأن النشيج كله من صنع إنسان يسير في نومه وتبدأ القصيدة باللون الأخضر، واللون هنا لا علاقة له بالأحداث ولا بالأشياء، وهو لا يأتي منها، بل يأتي إليها: «ريح خضراء، لحم أخضر، شعر أخضر» إنه أشبه بغلالة من النغم تشع منها قوة سحرية تشيع في القصيدة كلها. وتظهر مشاهد طبيعية مفككة تتحرك وسطها الأحداث والأشكال البشرية الباهتة، فهناك سفينة في البحر وحصان في الجبل يتعاقبان في بيتين يكرران وحدة نغمية قوية. وتسير القصيدة بطريقة غنائية لا ملحمية، فتغني أكثر مما تحكي، وتترك كل موضوع تقوله بغير تحديد مكاني أو زماني أو سببي. بل إنها لا تذكر كموضوع القصيدة - وهو الحب والموت - بكلمة واحدة، ومع ذلك فهو يبدو واضحا من خلال الخطوط الباهتة التي تلقيها الأشياء والأحداث. وتتوالى الاستعارات الرائعة أمام أعيننا: شجرة التين التي تمسح فروعها ريح الصباح، الجبل الذي ينفش صباره كالقط المتلصص، القمر الثلجي الذي يرعى الفتاة القتيلة فوق الماء. والكلمات والألوان تحل محل الأحداث أو توحي بها. فها هو ذا اللون الأسود يشوب الاخضرار قبل أن يذبل وينطفئ - واللون الأسود هو علامة الموت.
كل شيء في القصيدة يلمح ويشير ويفتح الباب لإمكانيات وإشعاعات عديدة. إننا نحس كأننا لا نقف على الأرض الصلبة، بل كأنه ليس هناك مكان سوى المكان الحالم الذي تخلقه الاستعارات والصور غير الواقعية. ونحس أيضا أننا لسنا في زمان، لأن الزمان توقف في القصيدة. إنها تبدأ في الليل، ثم يطلع الصباح «الذي تجرحه آلاف الطبول البللورية» إلى أن يحل الليل مرة أخرى في النهاية، ولكن لا الليل ولا الصباح من الزمن، إنهما منظوران شعريان للزمن الذي لا يتحرك. أما الخاتمة التي تكرر بيتين من بداية القصيدة فتبدو كأنها تغلق الدائرة. غير أن الواقع يختلف عن هذا؛ فنحن نحس كأن شيئا لم يحدث أو كأن الأمر كله أشبه بحركة مروحة فتحت بسرعة أشبه بسرعة الضوء في لحظة واحدة. ولم نذكر هذه القصيدة لتكون تطبيقا للنظريات النفسية أو الأدبية عن الأحلام بل لنقول إنها مثال لما يمكن أن يصل إليه الشعر العظيم الجسور.
ولا نستطيع أن نترك شعر الأحلام قبل أن نتكلم عن ميله إلى ما يمكن أن نسميه «بنشاز» اللامعقول «أو العبث والمحال». ولقد نوه بودلير بقدرة الحلم على ابتداع اللامعقول ورأى في هذا دليلا على انتصار الذاتية المطلقة من القيود، وكذلك طالب إلوار في سنة 1939م - متأثرا في ذلك رامبو - أن يكون الأدب «إزعاجا للمنطق إلى درجة اللامعقول». أما بريتون فذهب إلى أبعد من هذا وأعلن أن اللامعقول وحده هو الذي يقدر على الشعر. وتدخل في مجال اللامعقول كل الأشعار الغريبة التي يمكن أن نسميها أشعار «المسخرة» وذلك من نوع قصائد رافائيل ألبرتي، وكل الإنتاج الأدبي الذي يتصف بالسخرية والمرارة ويسميه الفرنسيون «المرح الأسود أو المزاج الأسود»،
humour noir
ويذهبون فيه بنظرية فيكتور هيجو السابق ذكرها عن
humour noir
المسخرة أو الجروتيسك
Grotesque
إلى أقصى مداها.
ففي مثل هذا الإنتاج يتفتت العالم إلى شذرات مبتورة، وتصبح الغرابة والشذوذ المضحك المؤلم من علامات أسلوب التشويه الذي أشرنا إليه من قبل عند الكلام عن رامبو. إن المزاج الأسود يمزق الواقع إلى أجزاء متناثرة غير مترابطة، ويخترع أبعد الأشياء عن الاحتمال، ويصل بين أزمنة وأمكنة وأشياء لا صلة بينها في عالم الحقيقة والواقع، ويغرب كل ما هو موجود ومألوف، ويشق السماء ليكشف عن «بحر الفراغ الهائل »، ويعبر عن التنافر الأصيل بين الإنسان والعالم، وكلها متنوعات على لحن الشعر الحديث.
ويؤدي بنا هذا الكلام باختصار عن موقف الشعر الحديث من الواقع وكيف يحور مادته أو يدمرها أو يسقطها من حسابه. لقد عبر بودلير من قبل عن موقف الفنان والشاعر من الواقع عندما سجل تجربته المخيفة في هذه الأبيات: «العالم ممل وصغير، اليوم، أمس، غدا، إلى الأبد ...» ولا شك أن هذه العبارة تصدق أيضا على الموقف في القرن العشرين، كما تصدق على كل ما سميناه بديالكتيك العصر الحديث، فالشاعر والفنان في شوقه إلى المجهول واللامتناهي يصطدم بخلو العالم من الحقيقة المتعالية (أو الترانسندنس) فيعود إلى عالم الواقع ليجده كذلك خرابا وحطاما خلا من المطلق والحقيقة والمعنى. وقد تكلمنا في الفصول السابقة عن المثالية الجوفاء أو فراغ العالم من حقيقة عالية، وشرحنا ذلك عند الحديث عن بودلير ورامبو ومالارميه.
إن نفس الكلام يصدق أيضا على الشعر المعاصر.
وإذا كان بعض الشعراء المحدثين يحلقون في فضاء المطلق فلا يصح أن يخدعنا هذا عن فزعهم من فراغ العالم من الحقيقة المتعالية. إن المطلق في شعر جيان مثلا نور وكمال هندسي، غير أنه لا يحدد لنا مضمونه أي تحديد. وكلما اقترب الشعر من حقيقة مثالية أو أوشك أن يلامسها وجدناه يعمد إلى التجهيل أو يلجأ إلى الرموز والأسرار.
إن علاقة الشاعر الحديث بعالم الواقع غنية متنوعة ولكنها تتفق في نتيجتها النهائية على شيء واحد هو تجريد العالم الواقعي من قيمته. وهذا العالم يتحول في الشعر - كما تحول في الرواية على يد فلوبير في أواخر إنتاجه أو على يد هيمنجواي وكامي ومن جاء بعدهما - إلى ظواهر مفردة متناثرة يدقق الشاعر في وصفها وتشريحها ولكنه يضعها في مكان الكل الشامل الكبير. قد يتم هذا على صورة تقريرية غليظة، كما في قصائد الشاعر السويسري بليز سندرارس (1887-1961م) الذي حاول في معظم أشعاره أن يلائم بين لغة الشعر وكل ما جد في عصر السرعة والتقنية والفيلم والطائرة من تغيرات في البناء النفسي والاجتماعي (وعنوان أحد دواوينه «وثائق » وقد سماه فيما بعد «كوداك»).
وهو يصور العالم في صورة شديدة الحيدة، وكأن الصلة قد انقطعت بينه وبين الإنسان، أو كأن هذا العالم قد أصبح يقاومه ويحد من حريته وانطلاقه بعد أن كان الوسيط الذي يعبر به الشاعر القديم عن عذاب الإنسان وأفراحه. ولهذا يبحث الشاعر الحديث عن كل ما قد يبدو لسلفه القديم حقيرا وسخيفا ومخزيا. ولعله بذلك يزيد من إحساس الإنسان «بضغط» العالم عليه ووحدته المؤلمة فيه؛ فهو يتحدث عن نفايات المدينة الكبيرة وحانات البيرة وقضبان الترام، وقصاصات الصحف وساحات المصانع ... إلخ. وينفث فيها - في بعض النصوص الجيدة فحسب - تلك الرعشة الكهربية التي أراد بودلير وبو أن يضفيا بها الشاعرية على الحياة اليومية. وهنا نجد القبح - الذي عرفنا دوره الهام عند رامبو - يحتل مكانة بارزة ويصبح وسيلة للإثارة والإدهاش. ولو تأمل القاري، قصيدة «صورة»
40
لجوتفريد بن، لوجد فيها - شبه جملة واحدة - لوحات مخيفة تعكس القبح والمرض والفساد والانهيار وتقول للقارئ في النهاية إن هذه هي أعمال «العبقري العظيم» أو أن القبح هو الأثر الذي يدل على عالم علوي خلا من كل حقيقة عالية، وهي نظرة تعبر عن تشاؤم هذا الشاعر وتجاربه المخيفة أصدق تعبير. (13) توماس إليوت
رأينا في الفصول السابقة كيف تمزق الواقع على يد الشعراء المحدثين وتفتت إلى أجزاء وشذرات. وقد تبينا أهمية هذه الفكرة في شعر مالارميه وفاليري وفي تصورهما للشعر على السواء. فهما يقصدان من ورائها أقصى درجة ممكنة من الحضور الفني لغير المرئي في المرئي - أو بلغة أبسط للمثل المجردة البعيدة أو الحقائق المتعالية في الواقع المشاهد - بحيث تدل على مدى تفوقها كما تدل على مدى قصور الواقع المرئي وعجزه. ولقد ظل هذا الطابع - طابع التجزؤ والانقسام إلى شذرات - غالبا على الشعر المعاصر، بحيث يتناول الشاعر قطعا متفرقة من الواقع أو على الأصح من بقايا أطلاله ويظل يعالجها في عناية واهتمام حتى تتلاقى أطرافها أو تتلاءم مع بعضها البعض، ويبدو العالم الواقعي في نهاية الأمر أشبه بجدار تتخلله الصدوع المخيفة من كل ناحية، أي لا يمت للواقع بأية صلة.
هذه المقدمة كلها تفضي بنا للحديث عن الشاعر الأشهر توماس ستيرن إليوت. والحق أن الكلام عنه في هذا الحيز الضئيل أمر مستحيل ولكنه لن يعفينا من تقديم صورة مبسطة تكشف عن الملامح الرئيسية في شعره. ولقد اختلف النقاد في تفسير هذا الشعر وتباينت مذاهبهم في فهمه، ومع ذلك يبدو أنهم يجمعون على شيء واحد؛ وهو أن السحر الذي ينبعث منه راجع إلى «نغمه »؛ فهو نغم لا يمكن أن ينسى، وإن لم يكن في الحقيقة نغما واحدا بل خليطا من الأنغام العديدة المتنافرة. إن اللغة تتنقل تنقلات مفاجئة وتسير من التقرير الجاف إلى التأمل المجرد، ومن الكآبة الصافية العذبة إلى الانفعال أو الغضب العارم، ومن السخرية والتهكم المرير إلى لغة الحوار اليومي المملة المرهقة. وهذا التعدد في الأنغام هو الذي يربط كل أجزاء قصائده وهو الذي يخلع عليها وحدة لا تستطيع الحالة النفسية أو الموقف الفكري الذي تقوم عليه - وما من أحد استطاع حتى الآن أن يصل إلى كنهها!- أن تخلعها عليه. صحيح أن هناك موضوعات أساسية تتردد في شعر إليوت: ضياع الإنسان ويتمه في صحراء المدينة الكبيرة، الإحساس بالزوال والفناء، التأمل الطويل في حقيقة الزمان ووظيفته، وفي غربة العالم واغترابه. ولكن هذه الموضوعات المختلفة تسري كالنسمات في هذه الحديقة الموحشة الساحرة، ولا تصلح أساسا يمكن أن ينهض عليه. ولعلنا نجد هذا الأساس فيما يسميه إليوت نفسه «بالعاطفة الفنية» التي يريد لها أن تكون بعيدة عن الذاتية أو الشخصية كل البعد. إنها تمتد بين القمة والحضيض، وتسير، كما يقول بيتان من القسم الرابع من قصيدته «أربعاء الرماد» في الأبيض والأزرق، لوني مريم، وهي تتكلم عن أشياء تافهة، وتعبر هذه العاطفة عن نفسها «بالمقابل أو المعادل الموضوعي» أي بالصور والأحداث التي تدور في عالم الناس والأشياء. ولكن أية صور وأية أحداث؟ يقول إليوت في إحدى ملاحظاته النقدية الخصبة إن التقلب والتضاد الحاد من أهم الخصائص المميزة للعصر الحاضر.
والواقع أنهما أيضا من أهم الخصائص المميزة لأسلوبه الشعري . ومن هنا يمكن القول بأنه يلائم المدنية الحديثة التي تتطلب - بتعقيدها البالغ وتناقضاتها ومشاعرها وأفكارها المضطربة - أدبا يتصف بالشمول ويلمح ويوحي ويتحدث حديثا غير مباشر؛ أي أدبا يجنح بالضرورة إلى الغموض والتعقيد.
في بداية «الأرض الخراب» نجد هذا البيت (البيت العشرين):
يا ابن الإنسان، ليس في مقدورك أن تقول ولا أن تحدس،
لأنك لا تعرف غير كومة من الصور المهشمة.
وفي آخرها نقرأ هذا البيت (البيت الأربعمائة والثلاثين ):
هذه الشذرات قد كومتها أمام أطلالي.
وكلاهما يمكن أن يعد اعترافا من الشاعر بأسلوب التجزئة والتفتت والشذرة، أو بالأحرى بقانونه الذي يحكم كل أعماله الشعرية. فهو يحدد عباراته التي تبدأ أحيانا بحكاية قصيرة ثم لا تلبث أن تقطعها لتمضي في مونولوج داخلي، لا يلبث أن يقطعه أيضا نص مقتبس يضمنه الشاعر في قصيدته لغير سبب ظاهر، يتبعه على الأثر نتف من حوار عادي بين أشخاص ليست لهم معالم ولا ملامح محددة، وما يقال في مجموعة من الأبيات ينسى على الأثر في مجموعة أخرى، كذلك الشأن مع الصور والأحداث؛ فهي تركيبات (على طريقة المونتاج في السينما) من قطع متفرقة متنافرة الأصول، لا تمت لمكان أو زمان محدد. هناك قطع الأثاث المتهرئة وأنابيب الغاز، والفيران، والسيارات، وضباب لندن، وأوراق الشجر الجافة، ثم حوريات الماء. والعراف تريزياس، والجواهر النفيسة، إلى جانب حلاق أشعث الشعر من أزمير، وكلها تختلط في اضطراب غريب والحضارات المختلفة تتداخل في بعضها البعض، فلا يكاد الشاعر يتحدث مثلا عن نادل حتى تلمع فجأة في عقله ذكرى أجاممنون. ومن أمثلة ذلك قصيدة «الرباعيات الأربع» التي يصف فيها أحد أيام شهر نوفمبر وصفا مسهبا يقطعه بعد حين ليقول: «كان هذا وصفا غير مرض.» ثم يتحدث عن نفس الموضوع بطريقة أخرى، يعبر بها عن مضمون مختلف عن المضمون الأول كل الاختلاف، متبعا في هذا كله أسلوب الشاعر «لوتريمو» صاحب «أغنيات مالدورور».
وفي نفس النص نجد القسم الثاني من «شرق كوكر»
East Coker
ينتهي بهذا البيت: «حكمة الخضوع، الخضوع بلا نهاية.» وتتلوه صورتان لا رابطة بينهما على الإطلاق: «كل البيوت اختفت في البحر. كل الراقصين اختفوا في الت.» وتبدو الخاتمة وكأنها تعقد صلة خفية بين مضمون البيت السابق وبين حدثين مختلفين (لم يأت ذكر البيوت أو الراقصين فيهما إلا في موضع سابق على الخاتمة بمسافة بعيدة). ولكن لعل هذه الصلة الخفية أن تكون في تجاور هذا الخليط من الأفكار والأحداث والأشياء التي لا تربط بينها صلة، فكأن الشاعر يعبر عن العلاقة الممكنة بتفكيك كل علاقة !
أي عالم هذا الذي يرسمه لنا إليوت؟
إن كلمة «غير واقعي» تصادفنا كثيرا في قصيدة الأرض الخراب كما نقرأ في «أربعاء الرماد» عن الرؤية المطلسمة في حلم أسمى، وعن الكلمة التي لم تسمع. وكل هذه أشياء ترتبط ببعضها البعض لتؤكد أن الشاعر يعرف ما يصنع. إنه يستعين بقدرة «الحلم» على تحطيم العالم، وتصويره في صورة غير واقعية، لكي يبث فيه أسرارا لم تكن لتشع منه لو بقي عالما واقعيا. إن تعدد الأنغام والأصوات السحرية في لغته يقربها مما «لا يقال»، ويجعلها تلتقط موسيقى الحلم التي لا تسمع عن طريق الكلمات المحطمة والصور المشتتة. (14) سان-جون بيرس
41
تكلمنا في الصفحات السابقة عن فكرة اللاواقعية الحسية عند رامبو، ويبدو أن هذه الفكرة نفسها تصدق تماما على شعر سان-جون بيرس. إن من العسير أن نفهمه من جهة المضمون؛ فالأناشيد والأبيات الطويلة الشبيهة بالمزامير تكاد تغمر القارئ كالطوفان، والأصوات المهيبة الغامضة تتردد أصداؤها - كأصوات السحرة والعرافين القدماء - لتخلق سيلا من الصور الكثيفة المتجددة التي تبهر القارئ وتحيره. ما من صورة منها تستقر أو تهدأ، وكأن روح العالم كله تجيش وتفور، هو عالم غريب عالم «المنفى». الواقع الذي ينطوي عليه واقع مجهول، عجيب، يأتي من بلاد مجهولة عجيبة، ويحكي عن حضارات مندثرة وأساطير نادرة. ميزة هذا الشاعر أنه يضمن إبداعات خياله كثيرا من الوقائع والحقائق الثابتة التي يلتقطها من بعيد، ويعبر عنها تعبيرا سريعا شاذا بحيث لا نحس بقيمتها الواقعية، وبحيث تتحول، كما يقول في إحدى قصائده، إلى لحن «أغنية لم توهب لشاطئ».
إن سعيه الدائب إلى اللامتناهي تقابله التفاصيل الدقيقة التي يغرق في أوصافها، ويشتق معظمها من عالم الحيوان. ولكن هذه التفاصيل الحسية الدقيقة ملغزة بعيدة عن الوضوح، يستعين الشاعر فيها بمصطلحات مستمدة من علوم النبات أو الطب أو البحرية أو الصيد وتضطر القارئ الفرنسي نفسه إلى اللجوء إلى القواميس المتخصصة لمعرفة معناها. ولعل الأوفق ألا يجهد الإنسان عينيه في البحث عن معانيها، بل يحاول أن يسلم نفسه لها كما لو كانت أنغاما تنبعث من آلة موسيقية غريبة تأتي من بلد غريب.
وبين التفاصيل المرهقة واللانهاية غير المحددة تضيع - عن عمد - الخصائص العامة التي تميز الأشياء والمشاهد والمواقف. ولنأخذ لذلك مثالا من قصيدته «مدائح»؛ فهي تضم فيما تضمه جبينا بين أيد صفراء، ذكرى عن سهام ملقاة في بحر الألوان، سفن موسيقى على رصيف الشاطئ، جبالا من خشب أزرق، ولكن ماذا جرى للسفن؟ أصبحت أشجار نخيل. ثم هناك بحر أليف تلجأ إليه الأسفار غير المنظورة، مدرج كسماء فوق الحدائق، منتفخ بالثمار الذهبية والأسماك والطيور البنفسجية والعطور ترتفع إلى الأعالي الساحقة، و«بفضل شجرة القرفة في حديقة أبي، ترنح عالم غريب!» أجل عالم غريب. الإنسان الذي يحيا فيه مغامر يخاطر بنفسه في كل مكان وزمان، أمير يخطو نحو المجهول، إسكندر (ومن هنا يجيء عنوان أحد دواوينه من حملة الإسكندر «أنا باز») ولكن لا بد لهذا المغامر الفاتح أن يحطم كل ما سبقه. تقول بعض أبيات قصيدته أمطار: «امسحوا الوصمة من على عين الصالح المستقيم، وصمة الجدير الموهوب، امسحوا تاريخ الشعوب، الحوليات العظيمة والأخبار، امسحوا الواح الذكريات، امسحوا من قلب الإنسان أجمل كلمات الإنسان!» ذلك لأن الفاتح المغامر لا يريد أن «يوصم بخمر البشر وبكائهم». ولكن ما هو هدفه وأين يكون؟ الشاعر لا يجيب. إنه لا يزيد عن الكلام عن الانطلاق بعيدا عن الأوطان وبعيدا عن مسقط الرءوس، ولا يزيد عن الكلام عن «قصيدة لم تكتب أبدا». ولا شك أن القارئ قد لاحظ أنفاسا من رامبو؛ تحطيم المألوف رغبة في الانطلاق إلى المجهول، غير أن اللغة تقف عاجزة أمام المجهول. إن أقصى ما تستطيعه هو أن تنشد ألحانها الغريبة من أعماق الكلمات التي تقترب من الصمت أو تقترب من الجنون.
هنا نرى أيضا كما رأينا عند رامبو رغبة حارة في إبداع الصور المثقلة بالصفات الحسية التي لا تنتمي مع ذلك إلى أي واقع مألوف. ويكفي أن نذكر بعضا منها نختاره كيفما اتفق: «البحر في تشنجات الميدوزا»، «الصوف الأسود للإعصار»، «السماء ترضع عصارتها البنفسجية من إسفنجة الشجر الخضراء»، «إنسان يتأمل السماء ويريح ذقنه على النجم الأخير»، «وباء الروح في طقطقة الملح، في جير اللبن الحي»، «الرياضة المعلقة في جبال الملح الثلجية». إن كل عناصر الصورة حسية، ولكن الصورة في مجموعها تؤلف بين أجزاء لا تآلف بينها فتصبح صورا غير واقعية. هي إذن لا واقعية حسية. ومن العجيب أن سان-جون بيرس يمزج صوره كثيرا بالملح. لقد رأينا هذا عند رامبو، كما رأينا كيف تتكرر صورة «المنشار» التي وجدناها عند لوتريو في شعر إلوار ورسوم بيكاسو. لا بد إذن أنها ضرورة كامنة في بناء الشعر الحديث. وتتأكد هذه الضرورة إذا عرفنا أن الملح كان في الكتابات الكيمائية القديمة أحد العناصر الطبيعية الأساسية إلى جانب الزئبق والكبريت.
ولعل من مظاهر وحدة البناء المشترك أن أشعار سان-جون بيرس قد حظيت بمترجمين هم أنفسهم شعراء كبار؛ فقد ترجمه إليوت إلى الإنجليزية وأنجارتي إلى الإيطالية، كما قدره الشاعر الإسباني جيان أعظم التقدير، وقدم الشاعر النمسوي هوفمنستال سنة 1929م لديوانه «أنا باز» وأبدى بعض ملاحظاته العميقة الحساسة التي يقول فيها إن مالارميه وفاليري وسان-جون بيرس أفراد مبدعون، يلقون بأنفسهم في اللغة نفسها. وقد كانت هذه في رأيه هي طريقة الشعراء اللاتينيين في الاقتراب من اللاشعور، فهي لا تتم على طريقة الروح الجرمانية في تدفق نصف حالم، بل بتحطيم الأنظمة القائمة وبعثرة الأشياء في بعضها البعض على نحو ساحر قوي معتم ينبعث من سحر الكلمات والإيقاعات. (14-1) الخيال المتسلط
يقول «هوفمنستال» عن هؤلاء الشعراء إنهم أفراد مبدعون، وهذا القول يفضي بنا إلى فكرة طالما تحدثنا عنها أثناء الكلام عن رامبو، وهي فكرة الخيال المتسلط أو الدكتاتوري، فهذا الخيال هو في الشعر المعاصر أيضا أصل كل ما يصيب العالم الواقعي من تغيير وتحطيم. ولذلك فمن المستحيل أن نقيس إنتاج هذا الخيال بمقاييس الواقع أو نزنه بموازين الأحوال البشرية السوية، ولا بد أن نتخذ منه وسيلة للكشف والاهتداء فحسب. صحيح أن الشعر الغنائي كان في مختلف اللغات والعهود يلغي الفروق بين الواقع والظاهر أو بين ما هو موجود وما يبدو الخيال الشاعر كذلك، وصحيح أيضا أنه كان ولا يزال يخضع مادته لسلطان النفس الشاعرة التي تغيره وتحوره كما يتراءى لها. ولكن الجديد أو المعاصر حقا هو أن العالم الذي يبدعه هذا الخيال الخلاق وهذه اللغة المتميزة أصبح معاديا للعالم الواقعي كل العداء. ولقد قال بودلير في إحدى عباراته النقدية: إن الخيال أو المخيلة تبدأ بالتفكيك والتشويه ثم تواصل عملية إعادة البناء والتركيب بفضل قوانينها الخاصة، وهذه العبارة لا تصدق فحسب على الشعر في القرن العشرين، بل تؤكدها كذلك أقوال الشعراء أنفسهم، والفنانين التشكيلين كذلك. والشيء الذي يلفت النظر أن هذه الأقوال تصاغ على الجملة في صيغة سلبية أو عدوانية ظاهرة. فلوركا مثلا يصف شعر خيمنيث فيقول: «أي جرح نقي وكبير تركه خياله في البياض اللانهائي!»
ويلاحظ أورتيجا أي جاسيت أن «النفس الشاعرة تهاجم الأشياء الطبيعية، فتجرحها أو تميتها.» ودييجو يقول إن الشعر هو خلق لأشياء لن نراها أبدا. ومارسيل بروست يكتب قائلا إن عمل الفنان أشبه بتلك الحرارة الشديدة التي تعمل على تحلل التركيبات الذرية وتجميعها في تركيبات جديدة مختلفة عن سابقتها تمام الاختلاف. والشاعر الألماني جوتفريد بن يتحدث عن الروح الغربي فيقول: إن من طبعه القدرة على «تفكيك» الحياة والطبيعة ووضعهما في إطار جديد نابع من القانون الإنساني. وبيكاسو يصف فن الرسم بأنه «صنعة عميان» ويقصد بذلك أن الفن متحرر من كل اعتبار لعالم الموضوعات الخارجية. وكل هذا يدل على أن سلطان الخيال الذي بدأ في الظهور منذ أواخر القرن الثامن عشر قد وصل إلى أقصى قوته في القرن العشرين، وأن الشعر قد أصبح بما لا يحتمل الشك لغة التعبير عن عالم من خلق الخيال وحده، عالم يرتفع فوق الواقع أو يحطمه ويلغيه. (14-2) آثار الخيال المتسلط
عديدة هي آثار هذا الخيال الطاغية المتسلط على المضمون وأسلوب التعبير في الشعر الحديث، ويكفي أن نذكر بعض الأمثلة على لسان بعض الشعراء المعاصرين، فالمكان أيضا يتفتت في الشعر ويفقد تماسكه وأبعاده المعتادة. ولقد عاب الشاعر الألماني الكبير فريدريش شيلر مرة على إحدى القصائد بأنها تتحدث عن حافة الجبال ثم تتحدث بعد ذلك مباشرة عن مرعى في الوادي، وكان من رأيه أن الشاعر قام بطفرة «قطعت اتصال السياق». ويستطيع القارئ أن يقلب في بعض النصوص التي اخترناها من شعر إليوت أو سان-جون بيرس ليتبين بنفسه كيف تتنقل القصيدة الحديثة بين أجزاء المكان المتباعدة التي تفصل بينها مسافات شاسعة.
إننا نقرأ مثلا في شعر جوج تراكل - أكبر الشعراء التعبيريين الألمان - قوله: «قميص أبيض من النجوم يحرق الأكتاف التي تحمله.» فيلغي المكان بهذا المزج بين النجوم والوجه البشرى إلغاء تاما. وفي قصيدة «منطقة» للشاعر الفرنسي أبوللينير نلاحظ تجاور أمكنة عديدة في وقت واحد، فبراغ ومرسيليا وكوبلنز وأمستردام كلها مسرح واحد يدور فوقه حدث خارجي وداخلي واحد. وفي معظم الأحوال تختفي الإشارات المكانية أو تستخدم عكس استخدامها الصحيح. ففاليري مثلا يقول إن البحر ينام فوق القبور، ورافائيل ألبرتي يقول: «فوق النجمة الريح، وفوق الريح الشراع.» أضف إلى ذلك قلب النظام المألوف الذي رتبت الأشياء في العالم الخارجي بمقتضاه. فالشاعر الإيطالي كوازيمودو يقول إن الهواء يزفر أوراق الشجر المرة. والشاعر الإسباني جيان يقول إن الرطوبة المظلمة الملموسة تفوح برائحة الجسر. بل إن المثل الأخير يوضح كيف تستخدم الكلمة في غير موضعها؛ إذ نجد الرطوبة، وهي شيء غير مادي، توصف بأنها ملموسة، مع أن الجسر كان أحرى بهذا الوصف. وهذا الأسلوب (الذي أجازته البلاغة اليونانية القديمة وإن اقتصدت فيه أشد الاقتصاد) قد انتشر في الشعر الحديث منذ عهد رامبو ثم تغلغل اليوم في الشعر المعاصر ، لأنه فيما يبدو أقدر الأساليب على جعل الصور تتشابك في بعضها البعض بطريقة غير واقعية، وإضفاء الأهمية على الكلمات المستخدمة بعكس المقصود منها. وانظر مثلا إلى هذه الأبيات؛ فجاك بريفير يقول. «عجوز من الذهب معه ساعة في حداد.» بدلا من قوله «عجوز في حداد ومعه ساعة من الذهب.» وخيمنيث يقول: «غصن محزون وقلب جاف.» بدلا من قوله: غصن جاف وقلب محزون. والأمثلة عديدة يستطيع القارئ أن يكتشفها بنفسه من نصوص هذا الكتاب.
ولا يقتصر الأمر في هذا كله على المكان؛ فالزمان أيضا تصبح له وظيفة شاذة. إن الشاعر الحديث يؤمن فيما يبدو بكلام أينشتين، ويرى معه أن الزمان هو البعد الرابع الذي يضاف إلى أبعاد المكان الثلاثة بحيث يمكن - كما رأينا عند إليوت - أن تتجمع عناصر زمنية متفرقة في لحظة واحدة تقابلها صورة مكانية واحدة، أو أن تستخدم الصفات الزمانية بدلا من الصفات المكانية المنتظرة (وقصيدة فاليري عن المرأة من أوضح الأمثلة على هذا). ويصل الأمر في أغلب الأحوال إلى إلغاء التدرج العادي في مراحل الزمن، بل إلى إلغاء الزمن نفسه.
ويتم هذا في أغلب الأحوال عندما تتنقل القصيدة في حرية بين الأزمنة المختلفة، دون أن تكون هناك حاجة لذلك من ناحية المضمون فإذا استخدم الشاعر صيغ الأفعال لم تزد هذه عن كونها منظورا شعريا يعرض من خلاله شيئا مستقرا متجردا من الزمن أو مرتفعا عليه. بل قد لا تزيد هذه الأفعال عن كونها متنوعات نغمية وإيقاعية تفرضها طبيعة اللغة نفسها واتجاه سيرها. وقد يلجأ الشاعر إلى استخدام صيغ الأسماء للتعبير عن أحداث تجريبية تتم في عالم واقعي من شأنه أن يحتاج إلى الأفعال، ثم يعبر بصيغ الأفعال عن حدث لا واقعي يتم في زمن لا واقعي من شأنه أن يلغي التدرج الزمني ويمحو الفوارق الفاصلة بين المستقبل والحاضر.
وهناك قصيدة للوركا يمكن أن نسوقها دليلا على تحكم الخيال وخضوعه لقوانين ذاتية تختلف عن قوانين الواقع، واستبعاده للتسلسل الزمني والترابط العلي المألوف في المنطق والحياة. والقصيدة التي نعنيها هي قصيدة «صيادون» وتتألف من ثماني أبيات، تسير بطريقة بصرية تلخص الصور والأحداث. فهناك أربع حمامات يطرن إلى أعلى ثم يرجعن إلى الأرض وقد «جرحت ظلالهن.» والحدث بسيط غاية البساطة تعبر عنه لغة موجزة غاية الإيجاز، لا تفصح عن الترابط السببي بل تمثل له بواو العطف أو بتغيير المكان (أعلى - الأرض).
وفي لحظة من اللحظات يبدو كأن اللغة تقترب من التعبير عن العذاب (في كلمة مجروح) ولكنها سرعان ما تؤجله على الفور حين تقول إن الظلال هي التي تجرح، وحين تمتنع عن التصريح بالسبب الحقيقي في تغير الصور والأمكنة وهو الطلقة النارية التي يسددها الصياد إلى الحمام، أضف إلى هذا أن بداية القصيدة ونهايتها مكتوبتان بصيغة الفعل المضارع على الرغم من أن طرفي الحدث ينتميان أو ينبغي أن ينتميا لمرحلتين زمنيتين مختلفتين، هذا لو أن الشاعر وضع الواقع الخارجي في اعتباره، ولكن الخيال يفرض حكمه وسلطانه؛ فيبدع صورا متحركة تحذف من الحدث ما تشاء أو ما تستطيع حذفه، ولا تستثني من ذلك الزمن ولا التسلسل العلي.
على أن الشاعر قد يلجأ إلى عكس ما تقدم؛ فهناك بيت لإليوت يقول: «اذهب، هكذا قال الطائر، لأن الشجر كان مزدحما بالأطفال.» فالبيت كما نرى يقيم علاقة سببية بين أمرين لا علاقة بينهما. فازدحام الشجر بالأطفال هو السبب الظاهر لنداء الطائر، مع أن الواقع والمنطق لا يشهدان بضرورة الجمع بينهما. هذه المفارقة وأمثالها كانت ممكنة في الشعر القديم، ولكنها كانت نادرة. أما الشعر الحديث فقد جعل منها قانونا من أهم القوانين التي تحكم بناءه. ولولا الخيال الذي بلغ أقصى درجات قوته وحريته ما أمكن أن يوجد مثل هذا القانون الذي يحاول أن يلغي كل القوانين!
ومن الأساليب التي يلجأ إليها الشعر الحديث أنه يسوي بين الواقع المشاهد وبين الفكرة المجردة. فمن أمثال هذه التعبيرات التي تجمع بين الواقع والمجرد «رماد العار» لسان-جون بيرس، «أبناء الشكوى» لرافائيل ألبرتي، «ثلج النسيان» لإليوت. وكثيرا ما تلجأ المخيلة إلى الألوان غير الواقعية بغية التحكم في المشاهد أو المسموع، وغالبا ما يكون الأخضر هو اللون المفضل، ومن أمثلة ذلك «خطوات تخضر»، «عيناك الأرجوانيتان الخضراوان»، «شمس خضراء»، «ذهب أخضر»، «رائحة خضراء»، «موسيقى خضراء». ونخطئ لو تصورنا أن هذا كله نوع من ازدواج الإحساس أو «السينستزيا» كما يقول الاصطلاح المدرسي. فالواقع أنها ألوان من الأغراب والتنافر والنشاز التي تحكم بناء الشعر الحديث ويريد الشاعر أن يفزعنا بها كما تفزع الأطفال عفاريت الأساطير. (14-3) الاستعارة غيرت وظيفتها
ونود قبل أن نختم هذا العرض السريع لبعض ظواهر الشعر الحديث أن نلقي نظرة سريعة على الاستعارة ووظيفتها المتغيرة فيه. فمن المعروف أن الاستعارة كانت دائما من أمضى وسائل الشعر لتغيير الواقع وإضفاء ثوب الشاعرية عليه. إنها، كما يقول أورتيجا أي جاسيت: أعظم قوة يملكها الإنسان. فهي تقترب من حدود السحر وكأنها أداة من أدوات الخلق التي تركها الله في ضمير مخلوقاته، على نحو ما يترك الجراح المشتت البال إحدى آلاته في بطن المريض.
كانت الاستعارة في الأدب التقليدي تقوم على أساس المشابهة بين الشيء والصورة فإذا قلت مثلا إن شعر العذراء ذهب، اتضح وجه الشبه على الفور (وربما جاز لنا أن نقول إن الأدب قد استطاع في بعض عصوره التالية للأدب الكلاسيكي القديم أن يستعين بالاستعارة ليحقق الترابط بين الأشياء بطريقة شاعرية، وإن ذلك كان يقوم على عقيدة دينية تؤمن بأن الكائنات جميعا تتصل ببعضها في نظام إلهي رائع). غير أن الاستعارة الحديثة قد أصبحت أهم أدوات الخيال غير المحدود، فهي تقلل من التشابه بين الأشياء أو تقضي عليه تماما، وهي لا تعبر عن الترابط بين الأشياء بقدر ما تجمع بين أشياء لا ترابط بينها في المنطق أو الواقع. إن أهم ما يميزها الآن هو التباعد الهائل بين الشيء والصورة، وطبيعي أن يتم هذا على حساب الشيء وقيمته الواقعية، وإن كان يفيد الصورة وكل ما يبدعه الخيال ويصل بالقوة العقلية التي كانت تكمن دائما في الاستعارة إلى أقصى درجاتها.
بهذا تصبح الاستعارة صورة مطلقة، لا تحتفظ إلا بأثر ضعيف غاية الضعف من الأصل ولا تأتي من التشابه بينها بل من قفزة أو طفرة واسعة. ومما يوضح هذا أن نجد شاعرا كبيرا مثل «إزرا باوند» يتحدث عن الاستعارة فيطالب بأن تكون دوامة مشعة تعصف خلالها أفكار تتردد أصداؤها ترددا غير متناه. وشاعر آخر يقول إن الشعر وحده هو الذي يعرف أن الريح يمكن أن تسمى بالشفاه مرة وبالرمال مرة أخرى.
ويمكن أن نوضح الوظيفة الجديدة للاستعارة في الشعر الحديث بأمثلة من قصائد ورد معظمها في هذا الكتاب. فإلوار يقول مثلا: «في السهل العاصف تفسد جذور التنهد.» ولوركا يقول: «القمر يحصد ببطء رعشة النهر القديمة.» وكثيرا ما يضع الشاعر الاستعارة إلى جانب الشيء مباشرة، حتى يكاد أن يوحد بينهما. والمثل المشهور على هذا هو البيت الأخير في قصيدة أبوللينير «منطقة»: «شمس - رقبة مذبوحة»، الذي يصور فيه غروب الشمس.
وفي بعض الأحيان تبتعد الاستعارة عن الشبه بالشيء الموصوف بعدا شديدا، وقد لا يذكر هذا الشيء إلا متأخرا وقد لا يذكر على الإطلاق. ومن أمثلة ذلك ما يقوله الشاعر كارل كرولوف في أحد أبياته: «عملات النهر الفضية.» أو ما يقوله فاليري: «هذا السطح الهادئ» فنكتشف بعد ذلك أنه يقصد البحر.
وإذا كانت هذه الاستعارات جميعا تقسر أبعد الأشياء عن بعضها على التقارب والترابط فإن هناك ألوانا أخرى من الاستعارات الناشزة المتنافرة التي يحار فيها القارئ. ومن أمثلة ذلك وصف «رافائيل ألبرتي» للشواطئ بأن لها جباه حيات، أو قول لوركا «رمل المرآة»، أو إلوار: «قش الماء». والأمثلة كثيرة، ومن الأفضل أن يكتشفها القارئ بنفسه في النصوص التالية ليتأكد له أن هذا التنافر أو النشاز الذي يلاحظه إنما يخضع لقانون كامن في بناء الشعر الحديث، بل وفي رؤية الرسامين المعاصرين مثل مارك، وكاندينسكي، والموسيقيين (وفي مقدمتهم استرافنسكي) والموقف العقلي والروحي الذي نعيش فيه اليوم بوجه عام.
إن الفنان الحديث يحس بأن القوى التي تهدد حريته تزداد كل يوم؛ ولذلك يزداد تلهفه للحرية وإلحاحه عليها. إنه لا يبخل في سبيل ذلك بشيء ولا تعز عليه تضحية، ولو أدى به الأمر إلى تحطيم الواقع وإعادة النظر في كل المقدسات والانفصام عن التراث أو معاداته.
إنه لم يعد يجد الراحة والاطمئنان في الواقع التاريخي أو الموضوعي المحيط به، ولا عاد يشعر بقربه من حقيقة عالية كانت تطل على أسلافه وترعاهم. ولذلك راح يخلق لنفسه عالما جديدا من خياله، ويبدع بالكلمة الشاعرة وحدها مملكة غير واقعية، مملكة تتعمد أن تعلن العداء على كل ما هو مألوف، وتناقض كل ما كان يفوح برائحة الثبات والاطمئنان.
إن الشعر الحديث أشبه بحكاية أو «حدوتة» عظيمة لم تسمع من قبل، ولكنها حدوتة وحيدة شديدة الوحدة. إنه بستان تنمو الزهور فيه، ولكنه يمتلئ كذلك بالأشواك والأحجار والأصباغ الكيماوية وعجائب علم النبات الحديث، وتكثر فيه الثمار، كما تكثر العقاقير والسموم الخطرة. وإذا أراد القارئ أن يتجول في لياليه أو يعيش في جوه المتقلب فلا بد أن يستعد لتحمل أقصى ما يستطيعه من العذاب والشقاء. وإذا أمكنه أن يسمع شيئا فربما سمع في هذا الشعر صوت الحب الوحيد العنيد الذي يرفض أن يستهلكه القراء «والمعجبون»، بل يؤثر أن يضل في المتاهات أو يتحدث في الفراغ على أن يتحدث إلينا أو يتقرب منا. إن القصيدة الواحدة تمتلئ بأطلال الواقع الذي فككه الخيال الجريء ومزقه. ولكن هناك عوالم أخرى غير واقعية تسبح فوقها، وتكون مع تلك الأطلال ذلك السحر الذي يدفع الشعراء إلى تأليف شعرهم.
لقد امتلأت لغة الشعر الحديث كما قدمنا بالأنغام الناشزة والصور المتنافرة، ولكنها ستظل لغة شعرية وإن استعصت على الفهم في معظم الأحيان. إن الشعراء يحسون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنهم وحيدون مع اللغة، ولكنهم يحسون كذلك أن اللغة هي ملجؤهم والمنقذ الوحيد لهم. كما يعرف أكثرهم وحدة أنه يتصل على الرغم من كل شيء بنوع من الخلود الذي يمتد إلى الأزل ويتصل بالأبد، وأعني به حرية اللغة وقدرتها المستمرة على أن تبتكر، وتجرب، وتلعب، وتغني فتسحر الأسماع والقلوب.
خاتمة
يتغير الشعر كما يتغير كل كائن حي، ويتجدد
1
على الدوام بمعايير وأساليب جديدة. ولكن لعلنا لا نكون مخطئين إذا قلنا إنه ظل يتحرك بين طرفين؛ بين التعليم من ناحية والسحر من ناحية أخرى. ذلك يؤكد على المعنى والفكرة، ويريد أن ينبه العقل ويرتفع بالنفس ويهذب الضمير ويغير العالم بالموضوع الشريف والحكمة السامية، وهذا يؤكد سحر الكلمة وعذوبة النغم وجمال الإيقاع ويريد أن يوحي ويخلق الجو والانطباع ويهدف في النهاية إلى القرب من مثله الأعلى في الموسيقى أو في الصمت. على أن هذا لا يمنع وجود طرق أخرى عديدة بين هذين الدربين المتباعدين، فالشعراء العظام - مثل هوميروس ودانتي وشيكسبير - قد علموا وسحروا، وأفادوا العقل بقدر ما أسعدوا القلب، ومن حسن حظهم أن الأزمنة التي عاشوا فيها كانت تنتظر من الشاعر أن يكون حكيما ذا نظرة خاصة في الحياة، كما كانت تتوقع منه أن يمتع الأذان والمشاعر بحلاوة النغم وعذوبة الألحان. أما الشاعر الحديث فهو أقل حظا من زميله القديم، لم يعد في مقدوره أن يكون معلما بنفس الدرجة التي كان عليها أسلافه. لقد نازعه العالم في كثير مما كان وقفا عليه، وأصبح الفلكي والجغرافي وعالم النفس والتاريخ والأساطير القديمة ... إلخ؛ يعرفون عن موضوعاتهم أكثر مما يعرف، بل لقد أصبح عليه في مجال الأخلاق أن ينافس الكاهن والشيخ والفيلسوف والصحفي. ما من أحد يسمح له الآن بحقوقه «الشرعية» القديمة؛ إنه مطالب بأن يكون شاعرا فحسب، أما معنى الشعر أو وظيفة الشاعر فأمر لا يعرفه الجمهور ولا يعني نفسه بمعرفتها. ربما يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت الشاعر يرتد إلى التصور السحري القديم عن الشعر، ويتحول من جديد إلى ساحر كل قوته في تأثيره على الآخرين؛ أي يتحول إلى ما كان الرومان يسمونه «فاتيس»
2
ويقصدون به الساحر والكاهن والرائد والمتنبئ، والملهم الذي ينطلق بلسان قوة عالية غامضة، أو بالأحرى تنطق هذه القوة بلسانه، وقد ينجح هذا الساحر حقا في النفاذ إلى أعماق النفس البشرية والتعبير عما يستقر في قلوب الكثيرين دون أن يتمكنوا من التعبير عنه. غير أن وظيفته الأساسية تظل هي الإيحاء وإحداث الأثر وتحريك النفوس وامتلاك الأسماع؛ أي السحر بمعناه الشامل. لم يكن هناك أحد أشد إحساسا بهذه الوظيفة المتميزة من طائفة الشعراء التي تسمى خطأ أو صوابا باسم الرمزيين، ابتداء من بودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه إلى أتباعهم والمتأثرين بهم أو الثائرين عليهم في القرن العشرين. لقد عاشت هذه الطائفة للشعر وحده، وأراد أصحابها - وكان لهم ما أرادوه - أن يكونوا شعراء فحسب، وأن يكتبوا شعرا خالصا يملك قوة السحر وتأثيره، ويقدم موسيقى الكلمة والإيقاع على الفكرة والمعنى والمضمون، ويعنى بالصنعة والشكل عناية النحات بصياغة تمثاله، ويقف بعيدا عن مطامع المجتمع ومادية العصر وغرور العلم.
وطبيعي أن يكون الشعر الذي اصطلح على تسميته بالشعر الرمزي قد تغير كثيرا على يد الأجيال التي خلفت أولئك الرواد. فقد أخذ يعبر عن تجارب جديدة، واختلف مفهومه عن السحر والصنعة والرمز، واقتحم آفاقا حرمها الرواد على أنفسهم أو حرمتها عليهم نزعتهم الإستيطيقية البحتة، ونزل بعض أصحابه من «برجهم العاجي» إلى الواقع واستخدموا لغة الناس وحاولوا أن يكون الشعر قوة تغير الحياة. أصبح بعضهم معلما ومبشرا بإنسانية جديدة مثل ستيفان جورجه، وبعضهم الآخر نبيا أو ثائرا مثل ألكسندر بلوك، واشتغل فريق منهم بالسياسة مثل وليم بتلر ييتس وجورجه، وغاص فريق في بحار التجربة الصوفية إلى أبعد مما فعل الرواد مثل رلكه وييتس وبلوك في مراحلهم الأولى. غير أنهم ظلوا على كل حال بعيدين أو مترفعين إلى حد كبير، وظلت رؤيتهم بوجه عام رؤية غيبية أو صوفية أو روحانية، وبقيت مثاليتهم مرتبطة بالجمال الخالص البعيد على الرغم مما تناولوه في بعض الأحيان من موضوعات قبيحة أو عادية. ولكنهم قد حافظوا في كل الأحوال على احترامهم الذي بلغ حد التقديس للشعر ورسالته، وأخذوا عملية الخلق مأخذ الجد والتعبد والفناء، وأبقوا على المعنى الذي ورثوه عن الرواد من أن الشعر ضرب من السحر أو السر الملهم الذي يحرك القلوب ويثير الخيال. أي أنه شيء لا سبيل إليه إلا بالإخلاص الكامل في التعبير عن تجربة فردية عميقة متميزة، تجربة نابعة الاختيار الشخصي الحر والإيمان المطلق بالذات الصادقة الجسورة المتفردة والمنفردة معا.
3
ومعنى هذا كله أن تجربتهم ظلت في مجموعها قريبة من تجربة الرواد، وأن الظواهر الفنية التي لاحظناها عند هؤلاء بقيت في خطوطها العامة شبيهة بمثيلاتها عندهم وإن اختلفت عنها في كثير من التفاصيل بحيث يمكننا أن نقول إنهم عاشوا وأنتجوا ورأوا العالم من خلال ما نستطيع وصفه بالنزعة المثالية الذاتية. ولا يعني هذا أنهم تأثروا بمدرسة فلسفية أو أنهم أهملوا الحياة وابتعدوا عن الأرض، بل يعني أنهم رأوا العالم الخارجي من خلال ذواتهم ومن خلال رؤية مثالية لما ينبغي أن تكون عليه وظيفة الشعر والشاعر.
وإذا كانت رؤيتهم تختلف عن رؤية الرواد الكبار من حيث الدرجة فإنها لا تختلف عنها من حيث النوع، بل تشاركها في نبلها وبعدها وترفعها وسمو معاييرها الفنية ومحافظتها على النزعة الصوفية واهتمامها بعنصر الموسيقى على نحو ما عبر عنه فيرلين في قصيدته المشهورة «فن الشعر» حيث قال: «الموسيقى أولا وقبل كل شيء.»
4 ... ولعل هذه الرؤية المثالية هي التي جعلتهم يغفلون كثيرا مما عني به الشعراء الذين جاءوا بعدهم وبدوءا من حيث انتهوا، فاهتموا بالأشياء العادية وبلغة الحديث الدارج بين الناس، ونظروا نظرة أخرى إلى الموسيقى والأداء ومعطيات العصر الحديث وهمومه وآلامه وكوارثه.
لعل أعظم ما حققه الشعر الحديث وما يزال يحققه في كبار أعلامه ورواده أنه وصل العالم المنظور بعالم آخر غير منظور، واحتفى بتجربة الخلق أيما احتفاء، وجعلها أقرب إلى التجربة الدينية والصوفية وأكد قدرة الروح المبدعة وانتصارها ورهبتها أمام أسرار الخلق، وقدم الدليل بعد الدليل على أن الفن - وبالأخص الشعر - هو طريق النجاة من قسوة الموت وظلم السلطة وتخبط السياسة وغرور العلم وتعنت الفلسفة وجشع البرجوازية وضياع أنقى وأبقى ما في الإنسان - وهو حياته الباطنة وقدرته على الخلق والتجدد والإبداع - تحت عجلات الآلية والنفعية والوضعية وزحام المدينة الكبيرة. ولقد أعاد هؤلاء الرواد وتلاميذهم المباشرون للشاعر وظيفته الأولى؛ وظيفة الساحر والمتنبئ والكاهن، وعلموه أن مهمته هي الشعر وحده ولا شيء سواه، ورسالته في البحث عن حقيقة واحدة والتغني بهذه الحقيقة، التي قد تتفاوت بين الواحد منهم والآخر بمهابة وإجلال، مستعينين برموز ملهمة موحية. إن الإنسان عندهم ليس هو الحيوان السياسي ولا القديس، ولا هو المتصوف أو الفيلسوف، بل هو الفنان القادر على أن يجعل من الحياة نفسها فنا تستحق من أجله أن تعاش، ويصل الكنوز الخافية في أعماقه الفردية بكنوز الإنسانية وأسرارها ورموزها القديمة، ويثبت جدارته بهذه الإنسانية من خلال جدارته بالخلق والإبداع.
قد يكون صحيحا أن الشعر الأوروبي أصيب بالتدهور في السنوات الأخيرة، وفقد كثيرا من صدقه وحيويته واندفاعه بعد أن خنق الموت أو العجز أصوات أعلامة الكبار.
5
لكن من الصحيح أيضا أنه وصل في بعض المناطق من العالم - مثل بلادنا العربية في السنوات القليلة الأخيرة - إلى درجة مذهلة من التجدد والاستجابة للمحنة التي ألمت بوطن الشاعر وهددت حضارته وتاريخه ووجوده، بل وطردته في بعض الأحيان من وطنه ودمرت بيته وغرزت سكينها في لحمه. والواقع أن الشعر الأوروبي قد بالغ منذ أواخر القرن الماضي في التأمل في نفسه، وقيدها بدقائق الصنعة و«بما ينبغي» أكثر مما ينبغي! ويستحيل بالطبع أن نقول إن الناس انصرفت أو يمكن أن تنصرف عن الشعر؛ فهي تنتظر دائما كما انتظرت في كل الأزمنة صوت الشاعر الذي يعبر (بالأغنية قبل كل شيء) عن آلامها وأفراحها وعن حظها ومصيرها في زمن الكوارث التي تصيبها أو تتوقعها. ولا شك أن شاعر المستقبل - وربما يكون الآن عاكفا على عمله! - سيستفيد من التجارب التي خاضها الشعراء العظام في كل العصور وفي العقود القليلة السابقة على زمننا مباشرة. ومع ذلك فإننا - نحن المتلقين - نتمنى أن يخلص نفسه من قيود الحركات والمذاهب، ويحرر دفعة الخلق الحية فيه، ويعمق حسه بصدق الحياة وعظمتها وحقيقتها، ويعبر عن آلام الإنسان المشتركة في عصره، كما يغني بجوهره الباقي وسعيه الخالد إلى فهم العالم الذي يعيش فيه وحبه وصونه من كل أسباب الشر والدمار التي تعذب بالفعل أعظم وأتعس سكانه ... الإنسان. •••
لم يستطع أحد حتى الآن - ولا أرسطو نفسه في كتابه المعروف! - أن يجد تعريفا كافيا للشعر، والغالب أن أحدا لن يجده. إن كل واحد منا يظن أنه يعرفه، ولكننا سرعان ما نتبين أننا لا نملك التعريف الجامع المانع، وأن التعريف الذي نملكه يذكر أشياء ويغفل أخرى، ويرضي بعض الناس ويسخط بعضهم، ويختلف في كل الأحوال عن آراء النقاد والكتاب الأقدمين. هذا كله أمر طبيعي، فنظرية الشعر وتطبيقه يختلفان من عصر لعصر. وفهمه وتذوقه يختلفان كذلك في العصر الواحد بل ويتفاوتان من قارئ لقارئ بالنسبة للقصيدة الواحدة.
ونحن حين نتكلم عن الشعر نقصد على الدوام ما هو أكثر من الشعر كما أن الشعر يعني على الدوام شيئا أكثر من نفسه. ما هو الشعر إذن؟ من الصعب أن نعرفه كما قلت. ولكننا نستطيع أن نقول إن الشعر في صميمه تأكيد لقيمة العالم وجدارة الحياة وتجربة الإنسان (وقد نشأت ثورات الشعر وأزماته على الدوام عندما أحس الشعراء بأن الحياة قد خلت من الشعر أو أن الشعر قد خلا من الحياة). إن الشعر في صميمه احتفال وثناء، عيد وغناء، بهجته ليست مجرد لذة، شكواه ليست مجرد بكاء، يأسه ليس مجرد قنوط واستسلام، ومهما يكن من أمر فهو في النهاية تأكيد لوجود عالم له معنى وهو يفعل ذلك حتى ولو أنكر فوضاه واحتج على خلوه من كل معنى. الشعر نظام، حتى ولو عبر عن الاضطراب والظلام، والشعر أمل حتى ولو صرخ من اليأس. إنه ينفذ إلى قلب الأشياء، ويغوص إلى صميم كيانها، ولذلك فكل شعر بهذا المعنى الشامل واقعي؛ أي محاولة للعودة بالأشياء إلى الواقع الأصيل، أو إن شئت إلى الحقيقة.
وكلمة الواقع تستحق منا وقفة قصيرة، فلم يكن الشعر في وقت من الأوقات مجرد وصف أو نقل أو محاكاة بالمعنى الذي أراده أرسطو. لقد كان على الدوام قوة مبدعة خلاقة. وهو يبدع ويخلق من ناحيتين؛ إنه يبدع أو «يصنع» أشياء لم تكن موجودة من قبل (وكلمة الشعر باشتقاقها اليوناني تفيد معنى الصنعة والصنع). وهو يبدع كذلك بالمعنى الأعمق لهذه الكلمة عندما يصقل العنصر الخلاق الكامن في التجربة نفسها ويسمو به. فليست التجربة هي الانطباعات والإحساسات والمدركات التي نتلقاها من العالم الخارجي، بل هي إضفاء المعنى عليها، ولهذا فإن الشعر هو أهم من يصنع معنى التجربة، إنه إذا شئنا أن نستخدم لغة أرسطو يحقق في الفعل أجزاء جديدة من التجربة الموجودة بالقوة. ولعل هذا هو السر في غربة الشعراء الدائمة في مجتمعاتهم. إنهم أول ضحايا الشك واليأس؛ لأنهم يعيدون خلق التجربة أو يعطونها معنى جديدا لا يرضي سائر الناس الذين يقنعون بالحياة في ظل تجربة حدد غيرهم معناها من قبل.
ولكن ماذا يحدث لو امتد الشك في حقيقة الأشياء إلى مجال التجربة والوجدان الذي يخلق فيه ومنه الشعر نفسه؟ ماذا يحدث لو أصاب هذا الشك قيمة العالم الواقعي؟ هنالك لا يكون أمام دفعة الخلق الشعري إلا أن تلتمس ملجأ لها في عالم داخلي صغير خاص بها يحتفظ بقيمه التي فقدها الواقع الخارجي. هنالك يصنع الشاعر عالما في العالم كما يوجد لغة في اللغة. (وربما كانت قصة الشعر الغربي الحديث من عصر النهضة إلى الوقت الراهن هي قصة اكتشاف الباطن واستعمار الأعماق). هكذا انطلق المغامرون من أرضهم المجدبة وراحوا يعرضون على العالم كنوزا لم يتوقعها. فهل يكون رجوعهم إلى الواقع أقرب إلى حنين الجنس المهزوم؟ وهل ينتهي بعودة الابن الضال إلى صدر الأب؟
6 •••
الشعر إذن في صميمه غناء، لحن يعيد للعالم انسجامه وتوازنه، صياغة جديدة لمصيره ومعناه، لأخلاقه وقوانينه، لشريعته وسياسته. هذا هو المثل الذي جاهد الشعراء في كل العصور لتحقيقه. والأسطورة الإغريقية القديمة التي تروى في هذا المعنى غير بعيدة عن الأذهان؛ فقد قيل إن شاعرا ركب مع جماعة من البحارة الغلاظ في سفينتهم، وتوهم البحارة من هيئته وصمته أنه يحمل معه كنزا ثمينا فعزموا على قتله، وأعلنوه بالحكم فرضي به، ولكنه طلب منهم أن يمهلوه ريثما ينشد أغنيته. وتناول قيثارته وأخذ يوقع عليها لحنا رائعا جذب الدلفين - صديق الغناء والإنسان - فطفا على وجه الماء ليستمع إليه. ولم يكد الشاعر ينتهي من أغنيته حتى ألقى بنفسه على ظهر الحيوان الصديق. •••
ليست الأغنية هي سبيل الإنقاذ وإعطاء معنى جديد للعالم الذي فقد معناه أو إعادته إلى المعنى المفقود فحسب، بل هي كذلك تعبير عن مغامرة الحقيقة وسط محيط التجربة الإنسانية المضطرب غير المتناهي. هنالك يصبح «الخلق الجديد» هو الهدف الذي يحلم الشاعر ببلوغ شاطئه البعيد.
ويحكي «رلكه» قصة أخرى عن قارب يمخر عباب بحر متلاطم الأمواج، ويحاول الملاحون أن ينقذوا القارب فيجدفوا بإيقاع رتيب. ويتكاثف الظلام وتشتد الأمواج وما من علامة تشير إلى بر الأمان وفجأة يطلق رجل كسول عقيرته بالغناء، وبينما يبذل الملاحون جهدهم اليائس لمقاومة الأمواج تحاول أغنيته أن تقاوم يأسهم. إنهم يريدون السيطرة على العنصر الثائر القريب منهم، وصوت الشاعر يريد أن يربط القارب بالغاية البعيدة ويشيع الأمل في النفوس بقربها منهم أو على الأقل بأن جهدهم لن يضيع
7
ويعقب «رلكه» على هذه الحكاية فيقول: لست أدري لماذا ولا كيف حدث لي هذا؟ ولكنني أدركت فجأة موقف الشاعر، وعرفت مكانه ووظيفته في هذا العصر. لا بأس أن ينكر عليه الناس كل مكان آخر، ما خلا هذا المكان. هنا ينبغي عليهم أن يتحملوه؛ أي لا يضنوا عليه بمغامرة البحث عن الشاطئ المجهول، ومرافقة الملاحين التائهين بالنشيد والغناء، وإرسال سحابة هادئة من المعاني والرموز فوق رحلة المصير المظلم المخوف. وليس المراد بهذا كله أن الخلاص - خلاص الشعر والعالم - مرهون بوجود عدد من البلابل والقبرات والعصافير! صحيح أن الصوت العذب سيظل محبوبا ومطلوبا على الدوام. ولكن الشعر ليس هو المعادل الإنساني لغناء البلابل والطيور، إنه شيء أكبر من هذا؛ إنه فيرجيل ودانتي، وجوته وهولدرلين، وشكسبير وإليوت، والمتنبي والمعري، وحافظ والخيام، وإليوت ولوركا وأنجارتي وتراكل، والسياب وأدونيس والبياتي وصلاح عبد الصبور، هو هؤلاء، وهو كذلك تحديد لحالة الإنسان وكشف لها بطريقته الخاصة التي ستظل دائما - حتى في أكثر الأشعار تعقيدا وغموضا - هي طريقة اللحن والغناء.
كلمة أخيرة
حاولت السطور السابقة أن تصف الشعر الحديث وتبين أهم الخصائص المشتركة في بنائه وأسلوبه. وطبيعي أن الشعراء يختلفون فيما بينهم من حيث الخيال واللغة والاستعارة والرؤية، بل من حيث الوضوح والغموض، والقوة والضعف، والأصالة والسخف. لكنهم يتفقون على كل حال فيما يتفق فيه الفن الحديث في نصف القرن الأخير، أعني في البعد عن الواقع المألوف، واختيار اللغة الجسورة المتميزة التي تختص بكل منهم. وطبيعي أن يحتفظ كل شاعر بخصائصه الفردية، ولكنني أرجو أن تساعد الصفحات السابقة على تمييز الغث من الثمين والثرثرة من الأصالة، كما أرجو أن تمكن القارئ من التفرقة بين الذين يجددون عن عمد وافتعال ليوصفوا بأنهم طليعيون فيكون تجديدهم عبثا وسخفا، وبين الذين يجددون لأنهم لا بد أن يجددوا، أعني لأنهم مدفوعون بالضرورة الخالدة التي لولاها ما وجد فن ولا شعر حقيقي.
ونسأل الآن سؤالا ربما طاف بذهن القارئ: ما هو مستقبل الشعر الحديث؟ والحق أن الجواب على مثل هذا السؤال شيء عسير إن لم يكن أقرب إلى المستحيل. فلا يدري أحد حين تنشب ثورة إلى أين ستنتهي. وقد يقول إن ثورة الشعر الحديث قد أوشكت أن تبلغ نهايتها إن لم تكن قد بلغتها بالفعل، وإن الشعر الجديد قد أوشك أن يستنفد طاقاته، ولا بد أن يبحث الشعراء والنقاد عن مخرج جديد.
ولكن كيف يبدو هذا المخرج وعلى يد أي عبقري أو مجموعة من العباقرة سيتم؟ هل سيبتعد عن الموجات الصاخبة والشعارات الصارخة والمدارس المتحمسة والبيانات المزهوة بكل جديد، أم سيظل يدور تلك الدورة المحتومة التي كتبت على كل نشاط يبذله الإنسان؟
لقد غاص الشعراء في عالم الباطن، واغترفوا من كنوزه ورموزه وأحلامه وأساطيره، وساروا في رحلة طويلة بدؤها من الرومانتيكية إلى الرمزية إلى السيريالية إلى عديد من «المودات» التي لا تكاد تلمع حتى تخبو. فهل سئموا هذه الرحلة المضنية في العالم السفلي للذات، وهل بدءوا يوجهون الأبصار إلى عالم الجسد والواقع والأرض والظواهر التي ترى وتلمس، وتحس وتشم؟ هل سيكفون عن تمزيق الواقع والإغراب في اللغة؟ وهل يزهدون في صوامعهم الزجاجية الملونة التي طالما لجئوا إليها؟ قد نقول: إن محنة العالم ورعب الحروب وأخطاء العلماء وتعاسة الجماهير تهزهم وتقلقهم وتدفعهم إلى محاولة إنقاذ العالم النقي البريء من المصير المخيف الذي ينتظره. ولكن ألم يفعل الشعراء الحقيقيون ذلك في مختلف العصور وبمختلف اللغات والأساليب؟ وقد نقول: إنهم يبحثون الآن مع نقادهم ومنظريهم الأكاديميين عن موجة جديدة، معقولة أو غير معقولة، يطلقون بها صواريخ ملونة تجذب أنظار الناس التي يبدو أنها شغلت عنهم بتعاسة الحروب المتصلة، وسخف الأبطال الزائفين، وشقاء البحث عن لقمة العيش، وملل الكفاح والتعب والانتظار الطويل للسلام والحرية الموعودة. ولكن هل فعلوا دائما غير هذا؟ وهل أجدت قصائد الشعراء أو لوحات الرسامين أو ألحان الموسيقيين في ترويض الوحش الكامن في الإنسان؟ هل استطاعت أن توقف الرصاص أو تغلق السجون أو تخفف التعذيب والشقاء المتصل على مدى العصور؟
لا أحد يدري كما قلت. وترك الأسئلة مفتوحة لا يعني أن نتشاءم أو نستسلم للحزن، فهذا شيء لا بد أن نرفضه ونقاومه دائما وبكل ما نستطيع من وسائل (ومنها الشعر). ولكنه يعني أننا لا نستطيع أن نتنبأ بمستقبل الشعر ولا بمستقبل غيره من الفنون، وكل ما نستطيعه أو ما يجب أن نفعله هو أن نعرف حالته الحاضرة، و«نفهم» كيف وصل إلى ما هو عليه.
إن المدارس الجديدة تلتئم ويلتف حولها المتحمسون حينا ثم ينفضون كل إلى سبيله. والسؤال القديم - الذي لا نكف نحن الشرقيين عادة عن توجيهه!- هل هناك جديد تحت الشمس؟ وهل ترك لنا القدماء ما نقوله؟ يمكن أن يجاب عليه بنعم ليس هناك جديد! كما يجاب عليه: بل هناك ما لا نهاية له كل يوم بل كل لحظة مما يمكن أن يجرب ويقال، وبخاصة بالنسبة لنا نحن العرب الذين نريد أن نحافظ على التراث ونتجاوزه في آن واحد، ونصمد في مواجهة الحاضر بكل نكباته ونصر على ميلاد مستقبل جديد مهما كان الثمن. (وما أكثر ما يستطيع الشاعر العربي الجديد أن يقول ويضيف في هذا المجال! وما أعظم وأجمل ما قاله وأضافه بالفعل!)
لا أحد يستطيع أن يتنبأ بالمستقبل كما قلت. فالثورات في عالم الفن تمضي في سبيلها ثم تنقلب إلى ضدها، وتنشأ ثورات أخرى باستمرار (الفن طائر خجول يأبى أن يرضى بالأقفاص. وطالما حبسوه في المعبد والكنيسة وقصر السلطان وديوان الحكم ومقر الحزب فعرف دائما كيف ينجو بنفسه). وليس معنى هذا أن ندين الثورة الجديدة في الشعر الحديث في أوروبا أو ثورة الشعر الوليدة في بلادنا، فليس من وظيفة الكاتب أن يحكم ويدين، بل من واجبه أن يفهم ويتعاطف. وماذا يمكن أن يتعلمه شاعرنا الجديد (حارس لغتنا وتراثنا وضميرنا، وأمل حاضرنا ومستقبلنا) من دروس نصف قرن قطعها الشعر الحديث في بلاد غير بلاده؟ لا شك أنه يستطيع أن يتعلم الكثير. يستطيع أن يتعلم أولا ألا يقلد هذا الشعر تقليدا أعمى، وألا يتجاهله مع ذلك أو يسدل دونه الأستار. ويستطيع أن يتعلم كيف يضع تراثه بين عينيه وفي حبات قلبه على أن يتعلم في نفس الوقت كيف يتجاوزه إلى مشكلات الحاضر وآمال المستقبل، ويستفيد من حكمه وأخطائه، ويميز كنوزه وروائعه من نفاياته وأعبائه، ويواجه عالم القلق الحديث بمزيد من جسارة اللغة وشجاعة الذات التي تصر على أن تحقق نفسها أو تموت.
إن الشعراء سوف يغنون دائما، كما سيولد الأطفال وتتفتح الأزهار وتغرد العصافير ويعذب المساكين في الأكواخ والحقول والسجون ومكاتب الوظيفة. وستنشأ المدارس الجديدة والشعارات الكبيرة، ويتصارع القديم والجديد، ويثرثر ذوو الأصوات العالية والشعارات التافهة والبدع الرخيصة. سوف تختلط الحكمة بالغباء، والحقيقة بالزيف. لا بأس من هذا كله ولا سبيل إلى تلافيه، ولكن المهم أن يتجاوب الشعراء مع الناس، فيمتعوهم بألحانهم الشجية أو يصدموهم بألحانهم المتنافرة، ويستجيبوا لشوقهم الخالد إلى الغناء وحنينهم الدائم للاستماع إلى الصوت الدافئ الصادق الأمين. المهم أن يدركوا دائما أن الشاعر، بالمعنى القديم الأصيل لهذه الكلمة،
1
هو صاحب رسالة، بل هو نبي يرفع صوته ليبشر أو ينذر، ويغير العالم كما يغير النفوس بقوة الكلمة وسحرها، حتى ولو قدر عليه في بعض الأحيان أن يضيع صوته في الصحراء.
لا يستطيع أحد ولا يجوز لأحد كما قلت أن يتنبأ بمستقبل الشعر الحديث. وكل ما نستطيعه هو أن «نعرف» حالته الحاضرة، «ونفهم» لماذا وكيف وصل إلى ما هو عليه، ونعايش الموقف العقلي والحضاري الذي أدى به إلى هذا المصير. وأنت حر أيها القارئ في أن تحب الشعر الذي يقدمه لك هذا الكتاب أو لا تحبه، وأن تقبل عليه أو تنفر منه. ولكن لا تنس أن يكون حبك له أو نفورك منه عن فهم ومعرفة. (1) لوحة تاريخية عن الوقائع البارزة في الشعر الحديث، وأهم أعلامه ودواوينه والبحوث المتصلة به
1759م وما بعدها
ديدرو، الصالونات.
1760-1772م
ديدرو، ابن أخ رامو (رواية).
1776-1777م
روسو، أحلام جواب وحيد.
1798م
نوفاليس، الشذرات.
1801م
نوفاليس، رواية هينريش فون افتردنجن.
1821م
مولد بودلير في باريس.
1827م
فيكتور هيجو يكتب مقدمة مسرحيته كرومويل.
1842م
مولد مالارميه في باريس.
1845-1855م
بودلير، تطلعات استطيقية.
1846م
مولد لوتريمو في مونتفيدو.
1846م
ادجار الن بو، فلسفة الإنشاء.
1846-1862م
بودلير، الفن الرومانتيكي.
1848م
بو، المبدأ الشعري.
1854م
جيرار دي نيرفال، أوهام.
1854م
مولد رامبو في شارل فيل.
1857م
بودلير، أزهار الشر (الصياغة الأخيرة سنة 1868).
1862م
ظهور قصائد مالارميه الأولى.
1863-1870م
مالارميه يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في تورنو، وبيزانسو، وافينيو.
1864م
بودلير، قصائد نثرية صغيرة.
1867م
لوتريمو في باريس.
1867م
وفاة بودلير في باريس.
1867-1869م
لوتريمو، أغاني مالد ورود.
1869-1873م
رامبو يكتب أشعاره.
1870م
وفاة لوتريمو في باريس.
1870-1894م
مالارميه يعمل مدرسا في باريس.
1871م
رسالتا الرائي لرامبو-رامبو ينتقل إلى باريس.
1871م
مولد فاليري في سيت بجنوب فرنسا.
1874م
رامبو يتخلى عن كل نشاط أدبي ويبدأ حياة التشرد والتجوال.
1874م
مالارميه يشرف على تحرير مجلة «آخر مودة».
1875م
مولد رلكه في براغ.
1876م
صورة مالارميه من رسم صديقه الحميم إدوار مانيه.
1880م وما بعدها
رامبو في إفريقيا.
1880م
مولد أبو للينير في روما.
1881م
مولد رامون خيمنيث في موجوير (بالأندلس).
1884م
الشعراء الملمونون تفيرلين (ومن بين الذين كتب عنهم رامبو ومالارميه).
1885م
وفاة فيكتور هيجو في باريس.
1885م
مولد ازرا باوند في هيلي (بالولايات المتحدة الأمريكية).
1886م
مولد جوتفريد بن في مانسفلد.
1887م
ظهور «الأشعار» لمالارميه (بدأت كتابتها منذ سنة 1862م).
1887م
مولد سان-جون بيرس في سان ليجين لي في (في جزيرة جوا ديلوب إحدى جزر الأرخبيل).
1887م
مولد جورج تراكل في زالسبورج.
1888م
مولد أنجارتي بالإسكندرية.
1888م
مولد ت. س. اليوت في سانت لويس (الولايات المتحدة الأمريكية).
1889م
ظهور كتاب برجسون مقال عن المعطيات المباشرة للشعور.
1891م
وفاة رامبو في مرسيليا.
1891م
فاليري يزور مالارميه لأول مرة.
1892-1893م
ازدهار الندوات الأدبية التي كان مالارميه يعقدها في مسكنه بشارع روما بباريس كل ثلاثاء.
1893م
مولد جيان في فالا دوليد (قشتالة القديمة بإسبانيا).
1894م
ديبوسي يلحن بعض قصائد مالارميه.
1894م
مالارميه يحال إلى المعاش، ويسافر إلى إنجلترا لإلقاء بعض المحاضرات في أكسفورد عن الأدب الفرنسي، ثم يعتزل في مدينة فالفان (على نهر السين).
1896م
مولد ديبجو في سانتاندر (ميناء في منطقة قشتالة القديمة).
1896م
مولد مونتاله في جنوا.
1896م
وفاة فيرلين في باريس.
1897م
ظهور مجموعة من قصائد مالارميه النثرية ومقالاته ومحاضراته في الأدب وفن الشعر بدأ في كتابتها منذ سنة 1864م بعنوان «ضلالات».
1898م
ظهور الطبعة النهائية من أشعار مالارميه ووفاته في نفس السنة.
1898م
أبوللينير ينتقل إلى باريس.
1898م
سان-جون بيرس ينتقل إلى باريس.
1899م
مولد لوركا في فوينتا فاكويروس (بمنطقة غرناطة).
1902م
مولد رافائيل البرتي في بويرتودي سانتا (منطقة كاديز بإسبانيا).
1905م
بداية الصداقة التي ربطت بين بيكاسو وأبوللينير.
1910-1914م
أنجارتي يتصل في باريس بأبو للينير وغيره من الشعراء.
1911م
ظهور ديوان «المدائح» لسان-جون-بيرس.
1914م
ظهور الرسامين التكعيبين لأبوللينير. ظهور ديوانه «الكحول» (وفيه قصيدته المعروفة منطقة).
1914م
أنجارتي ينتقل إلى إيطاليا.
1914م
ظهور «القصائد» لجورج تراكل أكبر الشعراء التعبيريين وموته في نفس السنة في إحدى المستشفيات العسكرية في كراكاو.
1916م
ظهور الشاعر المغتال لأبولينير.
1918م
ظهور «الروح الجديدة والشعراء» و«كالليجرام» لأبوللينير. وفاة أبو للينير في باريس.
1920م
ظهور مجموعة مشهورة من الشعراء التعبيري بعنوان «فجر الإنسانية، سيمفونية الشعر الحديث»، نشرها كورت بينتوس.
1921م
كتاب القصائد نجارنيا لوركا.
1921م
مجموعة أشعار فاليري «رقي» (أو تعاويذ).
1922م «أناباسي» لسان-جون بيرس.
1922م «الأرض الخراب» لاليوت.
1922م
صداقة لوركا والمؤلف الموسيقي مانويل دي فايا.
1924م
أول بيان (مانيفستو) سريالي ينشره أندريه بريتون.
1924-1944م
توالي ظهور كتاب «ألوان» (في خمسة أجزاء) لفاليري.
1924م «بحار على اليابسة» لرافائيل ألبرتي.
1924م
الأغاني لجارثيا لوركا.
1925م «تجريد الفن من النزعة البشرية» للفيلسوف الأديب أورتيجا أي جاسيت.
1925م
صداقة تجمع بين لوركا وجيان والرسام سلفادور دالي.
1926م
وفاة رلكة في فال-مونت (سويسرا).
1927م
اليوت يصبح مواطنا إنجليزيا.
1927م
مجموعة قصائد جوتفريد بن.
1928م «عن الملائكة» لرافائيل ألبرتي.
1928م
إنشودة (الصيغة الأولى) جيان.
1928م
أغاني لوركا - والخيال الشعري عند دون لويس جونجورا (حديث نشر سنة 1932م).
1928م (وما بعدها) مناسبات للشاعر الإيطالي مونتاله (ظهرت سنة 1940م).
1930م وما يليها
لوركا في نيويورك - قصائده التي ظهرت بعنوان شاعر في نيويورك.
1932م
الحياة المباشرة لالوار.
1932م
صور لدييجو.
1934م
البيان السريالي الثاني (أندريه بريتون).
1935م
مرثاة أجناثيو سانشيز ميخياس للوركا (عن صديقه مصارع الثيران).
1936م
عاطفة الزمن لانجارتي.
1936م
مصرع لوركا على يد أتباع فرانكو.
1936م
العيون الخصبة لالوار.
1938م
تمهيد لفن الشعر، لفاليري.
1940م
سان-جون-بيرس يهاجر إلى الولايات المتحدة.
1941م «الحقيقة قبرة» لدييجو (وتضم أشعاره المبكرة).
1942م
عيون الز لأراجون.
1942م
منفى، لسان-جون بيرس.
1944م
أمطار، لسان-جون بيرس.
1944م
الرباعيات الأربع لاليوت.
1945م
وفاة فاليري في باريس.
1948م
للرسم، لرافائيل ألبرتي.
1948م
قصائد ساكنة، لجوتفريد بن.
1948م
فن الموسيقى، لايجور سترافنسكي.
1949م
كلمات، لجاك بريفير.
1950م
إنشودة، لجيان (الصياغة النهائية).
1950م
الأرض الموعودة لأنجارتي.
1951م
مشكلات الشعر لجوتفريد بن.
1952م
قصائد للجميع لالوار (وتضم قصائده من سنة 1917م إلى سنة 1952م).
1952م
علامات العالم لكارل كرولوف.
1956م
وفاة «بن» في برلين
1957م «مرارات» لسان-جون بيرس.
1958م
وفاة خيمنيث في سان خوان دي بويرتو ريكو.
1959م «مذكرات رجل عجوز» لأنجارتي.
1960م
فيثنته أليخاندر؛ الأشعار الكاملة (1924-1957م).
1960م
جوتفريد بن؛ الأشعار الكاملة (1912-1956م).
1961م
الشعر؛ لسان-جون بيرس (وهي الكلمة أ لتي ألقاها بمناسبة منحه جائزة نوبل للآداب).
1965م
وفاة اليوت في لندن.
1965م
شعر الحب، لدييجو (1918-1961م).
1965م
القصائد الكاملة، لكارل كرولوف (1944-1964م).
النصوص
الشعر
في إسبانيا
في إيطاليا
في فرنسا
في ألمانيا
قصائد من إليوت
الشعراء
بعض المصادر
النصوص
الشعر
في إسبانيا
في إيطاليا
في فرنسا
في ألمانيا
قصائد من إليوت
الشعراء
بعض المصادر
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الثاني)
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الثاني)
النصوص
تأليف
عبد الغفار مكاوي
النصوص
قصائد مختارة من الشعر المعاصر في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا، مع نماذج من شعر إليوت ونبذة عن حياة الشعراء وأعمالهم.
الشعر
في إسبانيا
(1) ميجويل دي إدنامونو (1864-1936م)
في المنفى
حب نقي للحياة الوحيدة،
بحث دائب عن السر،
غوص في ينابيع الحياة،
عزاء قاسي!
ابتعدوا عني ، يا إخوتي المساكين،
دعوني أسر على طريق الصحراء،
دعوني وحيدا مع قدري،
بلا رفيق.
أريد أن أذهب إلى هناك وأضيع في رمالها،
وحيدا مع الله، لا وجهة لي ولا مأوى،
لا أشجار ولا أزهار ولا نفس حية،
وحيدين معا ومهجورين.
أنا وحيد ومنفرد على الأرض،
الله وحيد ومنفرد هناك في السماء،
وبيننا تبسط اللانهاية العارية
روحها.
هناك أكلمه بعيدا عن الشهود اللئام،
بصوت مبحوح في السر،
وهو
1
يسمعني في السكون ويحفظ تنهداتي في صدره.
يقبلني الله بفمه اللانهائي،
بفم الحب وكله من نار،
يقبلني على فمي فيشعل فيه أشواقي،
وعندما أحترق أعود إلى الأرض،
وتلمس يداي التربة،
وتغوصان في الرمال الملتهبة
وتدمى الأصابع،
تنسلخ الأظافر، مخالب النهم،
يبلل العرق أعضائي المعذبة
يغلي الدم في عروقي،
أتعطش للماء،
لماء الله الذي تخفيه الرمال،
لماء الله الذي يهجع في الصحراء،
للماء يجرى منعشا وصافيا
تحت تلك التربة؛
للماء الخفي الذي يحفظه الرمل الملتهب
في حب داخل حجر عقيم،
للماء الذي يحيا بعيدا عن النور،
ولكنه مشبع بالسماء،
وعندما يحيي الشراب، وهو نبع الحياة،
قلبي وحسي من جديد،
أرفع جبهتي لله ومن عيني،
تسقط في بطء
دمعتان على الرمال،
التي تتلقاهما في الحجر العقيم،
فتمتزجان هناك بالمياه الصافية،
وتحملان معهما أشواقي.
فابقوا إذن في الحقول الهادئة،
التي تستقبل المياه من السماء،
لأن الله - أثناء المطر - يخفي وجهه في السحاب،
ويراقب الأعمال.
ابقوا في الحقول العامرة بالأشجار والأزهار والطيور ...
إنني أترك لكم كل الطيبات
التي تعيشون في ظلها لاهين
عميانا عن الله.
دعوني وحيدا منفردا.
وحيدا مع إلهي الوحيد في الصحراء؛
وسأبحث في مياهه الدفينة
عن عزائي القاسي.
أشعار، 1907م
أبانا الذي في السموات
أبانا الذي في السموات
مر أبناء إسبانيا أن يتحركوا،
ليتقدس اسمك،
لأن يوم المجد قرب.
ليأت إلينا ملكوتك:
الطغيان يرفع شراعه الدموي.
لتكن مشيئتك،
كما في السماء، كذلك على الأرض الضنينة.
ألا تسمعون زئير الجنود الوحشي
في ميادين الحرب العطاش؟
خبزنا كفافنا أعطنا اليوم،
ففي بيوتنا يسكن الجوع،
واغفر لنا، يا إلهي، ذنوبنا،
إنهم يقتلون نساءنا وأطفالنا،
فاجعلنا نغفر للمذنبين إلينا،
يا مواطني إسبانيا! إلى السلاح!
لنضم صفوفنا،
لا تدخلنا في كمين،
ولا تجعلنا ننزف دمنا في الحفر؟
نجنا من كل شرور المعارك.
مرنا أن نزحف، نزحف: هذا هو الطريق!
لتكن إسبانيا ملكوت الرب.
1928م
فاشية
لا عصبة، بل عصابة،
تلك هي جماعة الفاشيين؟
خلف التحية عدم؛
خلف العدم هاوية.
كتاب الأغاني، 1928م
دعاء
إلهي خلصني من شكي:
أتراك تحمي من أحبك؟
إلهي، تعال، قف بجانبي،
فهم يريدون أن ينتزعوا ذاتي!
كتاب الأغاني
ولما افترقنا على قبلة
ولما افترقنا على قبلة
ويا أسفى أن تكون الأخيرة!
تمزق منا الفؤاد الحزين
على حلوة الطعم لكن مريرة!
وكم ضحكت قبلة عذبة
فودعتها بالدموع الغزيرة!
مضت ومضى العمر في إثرها
وهيهات يرجع ماض بعيد
تقولين سوف تعود الحياة
وقبلتنا يا ترى هل تعود؟
أغنيات، 1935م
الهلال مهد
الهلال مهد
من ذا الذي يهدهده؟
الطفل الذي يرقد فيه
بم يحلم؟
الهلال مهد؛
من ذا الذي يهزه؟
الطفل الذي يرقد فيه
يحيا لأية غاية؟
الهلال مهد،
سرعان ما يصبح بدرا،
الطفل الذي يرقد فيه
أتراه يحفظ عهدي؟
كتاب الأغاني (2) أنطونيو ماتشادو (1875-1939م)
أسير على الطرق الحالمة
أسير على الطرق الحالمة
للأصيل.
التلال ذهبية، أشجار الصنوبر الخضراء،
السنديان المترب! ...
إلى أين ... يؤدي الدرب؟
أمشي عليه مغنيا،
ومسافرا عبر الطريق.
المساء يهبط،
كانت في قلبي شوكة عاطفة،
نجحت ذات يوم في انتزاعها: (والآن)
2
لم أعد أشعر بقلبي:
ويظل الريف كله لحظة
هادئا ومعتما،
متأملا.
الريح يسمع صوتها
في أشجار الحور على الشاطئ .
المساء يزداد ظلاما؛
والطريق الذي يتلوى،
ويبيض في وهن،
تكسوه القتامة ويختفي.
أغنيتي ترتد آنينا: «أيتها الشوكة الذهبية الحادة،
ليتني أحس بك
مغروزة في قلبي.»
1903
أسير حالما
أسير حالما على الدروب،
في ساعة الأصيل.
تلال، أشجار صنوبر خضراء،
شجر بلوط مترب.
يا درب قل لي، إلى أين تسير؟
أسير وأنا أغني،
وأجوب الحقول ... - ينعطف الأصيل
نحو الظلال -
كانت في قلبي
شوكة عاطفة،
وذات يوم
نجحت في انتزاعها:
القلب أصبح فارغا .
الحقول من حولي
تعلق أنفاسها
على حين فجأة،
تصمت، تغرق في التأمل،
في أشجار الحور على النهر
تئن الريح.
الظلال تخيم على الأصيل،
الدرب الأبيض يتشابك،
يظلم، يلفه الضباب، يزول،
أغنيتي تصبح شكوى.
يا شوكة حبي الذهبية،
من ذا يشعر بك
في أغوار القلب؟
وحدة، 1899-1907م
في الليلة الماضية، عندما كنت أحلم
في الليلة الماضية، عندما كنت نائما
حلمت، يا للرؤيا المباركة!
بنافورة تسيل
في قلبي.
قل لي، بأي مجرى خفي
جئت، يا ماء، إلي؟
يا نبع حياة جديدة
لم أشرب أبدا منه؟
في الليلة الماضية، عندما كنت نائما
حلمت، يا للرؤيا المباركة!
بخلية نحل في قلبي؛
والنحلات الذهبية
كانت تصنع فيها
من المرارة القديمة
شمعا أبيض وعسلا جديدا.
في الليلة الماضية، عندما كنت نائما
حلمت، يا للرؤيا المباركة!
بشمس تتأجج
في قلبي.
كانت تتأجج لأنها
تتوهج كالموقد الأحمر،
وكانت شمسا لأنها
كانت تضيء وتبكيني.
في الليلة الماضية، عندما كنت نائما
حلمت، يا للرؤيا المباركة!
أن الله هو الذي كان
في داخل قلبي.
1907م
قال لي فجر ربيع
قال لي فجر ربيع:
منذ سنوات عديدة
أزهرت في قلبك المظلم
يا أيها المسافر العجوز
الذي لا يقطف أزهار الطريق.
قلبك المظلم الكئيب
لعله لا يزال يعبق
بشذا زنابقي القديم؟
ألم تزل ورودي تفوح
بعبير الجنين الأبيض
لجنية أحلامك الماسية؟
أجبت الصباح:
إنما أحلامي بلورية
أنا لا أعرف جنية أحلامي،
ولا أعرف أن كان قلبي مزهرا.
لكن لو انتظرت الصباح النقي
الذي يكسر الزهرية البللورية،
فربما أعادت إليك الجنية ورودك، (وربما رد ) قلبي زنابقك.
1907م
ما أسهل الطيران، ما أسهله!
ما على الإنسان إلا أن يحرص
على ألا تبلغ الأرض الأقدام.
عمل شجاع؛ الطيران! الطيران! الطيران!
بالأمس حلمت (في نومي) أنني رأيت الله،
وأن الله تكلم:
حلمت أن الله سمعني ...
ثم حلمت أنني حلمت.
حقول كاستيلا، 1907-1917م
كان ياما كان ملاح،
زرع حديقة على شاطئ البحر،
وجعل نفسه بستانيا
الحديقة أزهرت،
أما البستاني
فانطلق في بحار الله.
حقول كاستيلا، 1907-1917م
سوريا، يا باردة
3
سوريا، يا باردة،
سوريا ، يا نقية،
يا رأس إكسترا مادورا،
بقلعتها الحربية (و) أطلالها، على (نهر) الدويرو
بجدرانها المتهدمة
وبيوتها السوداء!
أيتها المدينة الميتة،
يا مدينة الجنود والصيادين،
وبوابات عليها شعارات
4
مائة أسرة نبيلة،
وكلاب جائعة،
كلاب هزيلة حادة،
تلد في الأزقة الحقيرة،
وتولول في منتصف الليل،
عندما تتعب البوم.
سوريا، يا باردة!
ناقوس المحكمة
يدق دقة واحدة.
سوريا، يا مدينة في كاستيليا
ما أجملك، تحت القمر!
حقول كاستيلا، 1907-1917م
في ذكري دون فرانشسكو جينيه دي لوس ريوس
عندما مات المعلم
قال لي نور الصباح: «منذ أيام ثلاثة
وشقيقي فرانشسكو لا يعمل!
هل مات»؟ نحن لا نعلم
إلا أنه رحل عنا وسار على طريق مضيء،
وقال لنا: اجعلوا النشاط والأمل
حدادكم. كونوا طيبين
لا شيء أكثر من هذا،
كونوا مثل ما كنت بينكم: روحا.
عيشوا، الحياة لا تتوقف،
الموتى يموتون، والظلال تزول؛
من يعط يملك، ومن عاش يعيش.
أرعدي، أيتها السنادين،
5
أيتها الأجراس، اسكتي!
في النور الباهر غاب
من كان شقيقا للفجر
شمسا لبيوت العلم
الراعي المرح الشيخ
لحياة القدس.
6 - أجل يا أصدقاء!
احملوا جسده إلى الجبال،
الجبال الزرقاء.
في «جوا دارا ما» الشاسعة.
هناك أخاديد عميقة
مخدرات وعرة خضراء،
حيث تغني الريح.
ليسترح قلبه.
تحت شجرة بلوط طاهرة،
في أرض الصعتر
حيث تلهو الفراشات الذهبية ...
هناك راح المعلم ذات يوم.
يحلم بازدهار إسبانيا من جديد.
حقول كاستيلا، 1907-1917م
بيع كل شيء!
يد حاقدة، يا وطني إسبانيا. - يا قيثارة مشدودة بين بحرين -
ألقت مناطق الحرب، والقمم المحصنة
فوق الجبل والوادي والتل والهضاب.
أرواح الحقد والجبن القديمة
تجتث غاباتك من شجر البلوط،
تدوس في معاصرك ثمار التوت الذهبية،
تسحق الغلال التي تخرجها أرضك.
ومن جديد من جديد! يا إسبانيا الحزينة!
كل ما يقف في الريح، ويستحم في البحر،
يسقط (ضحية) للعبة الخيانة،
كل ما كان مستورا في معابد الله
يلطخه النسيان، وكل ما ينضج في حضن الأرض،
نهب للجشع، كل شيء بيع!
شعر ونثر متنوعان عن الحرب، 1937م (3) خوان رامون خيمينيث
7 (1881-1958م)
لا أحد هناك - لا أحد هناك. الماء . - لا أحد؟ هل الماء لا أحد؟ - لا أحد هناك. الزهرة. - لا أحد؟ وهل الزهرة لا أحد؟ - لا أحد هناك، كانت الريح. - لا أحد؟ هل الريح لا أحد؟ - لا أحد. خيال. - لا أحد؟ وهل الخيال لا أحد؟
حدائق بعيدة، 1904م
ريح سوداء وقمر أبيض «... برقة الحس ضيعت أيامي.»
رامبو
ريح سوداء وقمر أبيض
ليلة كل القديسين.
برد، كل الأجراس على الأرض
تقرع للأموات. •••
قاسية هي السماء، وفي الأعماق
زرقة، تشع من القاع
حتى تصل إلى أحلام الخيال
8
التي تلف أبراج الأجراس العجاف. •••
مشاعل، أزهار، باقات،
أجراس تدق للأموات!
ريح هوجاء، قمر كبير،
في ليلة عيد القديسين.
أمشي ميتا،
في نور الطرقات المر،
أهتف بالحياة
بكل جسدي،
أريد الحب؛
أقول كلمتي
لكل من جعلوني أخرس،
أقولها باكيا،
دم شفتي المهان
أحمر من الحب. •••
أريد أن أصبح إنسانا آخر،
أريد أن يكون لي قلب وذراعان عملاقان،
وابتسامات لا حد لها من الشكايات
التي استحالت بسببي إلى دموع! ••• ... لكن هل يقدر قلب مدفون
أن يتحدث عن أشجار وروده؟
يا قلب، كم مت موتا!
غدا يذكرونك
في قداس الأموات!
عاطفة الحس تجمدت.
المدينة تدق للأموات.
قمر أبيض، ريح سوداء
ليلة كل القديسين.
حدائق بعيدة، 1904م
إلى نفسي
دائما ما تعدين الغصن
للوردة الملائمة؛ يقظة تعيشين دائما
الأذن الساخنة على باب جسدك
في انتظار السهم الذي لا أمل فيه.
ما من موجة تخرج من العدم،
لا تحمل معها أبهى أنوار ظلك المفتوح.
بالليل، تتفكرين في نجمك،
تسهرين على الحياة.
تضعين في الأشياء علامة لا تزول.
وبعد أن تصيري مجد القمم
ستبعثين في كل ما طبعته بخاتمك.
وردتك، ستصبح مقياس كل الورود؛
سمعك: مقياس الانسجام،
ومقياس الوضوح فكرك،
والنجوم يقظتك.
1915م
أكتوبر
كنت مستلقيا على الأرض،
أمام ريف كاستيلا الشاسع،
الذي لفه الخريف في العذوبة الصفراء
لشمسه الواضحة الغاربة.
في بطء كان المحراث
يشق الأرض السوداء
في خطوط متوازية،
واليد الطيبة المفتوحة تترك البذور
في أحشائها المشقوقة باحترام.
فكرت أن أنتزع قلبي، وألقي به،
بما يملؤه من عواطف سامية وعميقة ،
في تجاعيد الأرض الحنون؛
لأرى إن كان كسره وبذره
سيجعل الربيع يمنح العالم
شجرة الحب الأبدي الصافية.
أغاني روحية، 1916م
القمر الأبيض
القمر الأبيض يأخذ من البحر
البحر، ويعطيه البحر. بجماله،
في انتصار هادئ صاف،
يجعل الحقيقة غير ما هي عليه،
كما يجعل الحقيقة الخالدة الوحيدة
تصبح شيئا لم تكنه.
نعم.
أيتها الحكمة الإلهية،
يا من تحطمين اليقين
وتضفين على الحق كيانا جديدا!
وردة لم يدركها الخيال أبدا:
لتأخذ الوردة من الوردة،
ولتعط الوردة للوردة!
1916م
أبريل
ذهب الساعة
9 - بغير أن يراه أحد -
يضع روعتة في الغصون،
كأنه لا يزال طفلا: وبغير أن يثنيها
يحمل كل مجد الذهب،
والزمرد، ومجد حياته.
ينظر مرتاحا إلى السماء والأرض،
شابا، مشبوب العاطفة.
1917م
الحديقة
10
الليل وحيد لا متناه،
نسيانك.
أسفل رائحة الياسمين
رائحة غيابك.
الأنجم تبدو عالية
شهقاتك وردات
لن تفتحها روحي ...
أسعى بين ظلال ...
لا أحد يراني
ما دامت عينك لا تقع علي،
وسمائي بعدت
منذ رحلت،
تخفق، ترتعش بعاطفة
لم تحملها لي،
تلمع، تطفح بفراغ أخرس
نهب للوجد،
وجد عذابي الساهر غير المحدود.
1917م
الشعر
في البدء جاء نقيا،
عليه ثوب البراءة،
أحببته مثل طفل.
ثم كسا نفسه - لا أدري من أين -
بخرق زاعقة
فكرهته دون وعي
وبعدها صار ملكا
11
وأخذ يحدق في الذهب ...
يا للحقد المر! يا للغضب المجنون! ... من الثياب تعرى،
أما أنا فضحكت.
ولما عاد
إلى ثوب البراءة الأولى
آمنت به من جديد، ... ثم طرح هذا الثوب
وبدا عاريا تماما ...
أواه يا معنى حياتي،
أيها الشعر العاري،
أنت لي إلى الأبد!
1918م، أبديات
يا عقل أعطني
12
يا عقل، أعطني
الاسم الدقيق للأشياء! ... لتكن كلمتي هي الشيء نفسه
وقد خلق من روحي خلقا جديدا.
عن طريقي فليجد الأشياء
كل من لا يعرفونها!
عن طريقي فليجد الأشياء
كل من يحبونها ...
يا عقل، أعطني
الاسم الدقيق للأشياء
اسمك واسمه واسمي!
1918م
الموسيقى
على حين فجأة،
كدفقة ماء،
من صدر مشروخ،
يكسر تيار العاطفة
الظل - كامرأة
تفتح نوافذ الشرفة
تتنهد عارية للنجوم،
متلهفة على الموت، بلا سبب،
وقد يستحيل لديها
حياة هائلة مجنونة
ولا تعود أبدا، - لا المرأة ولا الماء -
وإن ظلت في داخلنا،
تنبثق على الدوام
حقيقية وغير موجودة،
لا تستطيع أن تتوقف.
جمال، 1923م
الوردة الأخيرة
اقطف الوردة، اقطفها!
لا، لا: فهي الشمس!
الوردة نار،
الوردة ذهب،
الوردة مثال.
لا، لا: فهي الشمس!
وردة المجد،
وردة الحلم،
الوردة الأخيرة.
لا، لا: فهي الشمس!
اقطف الوردة، اقطفها!
أغنيات النور الجديد، 1923-1936م
سهاد
الليل يمضي، ثور أسود - جسد ممتلئ بالفجيعة، والرعب، والسر؛
مفزعا دوي، بغير حدود،
فأخاف جميع الساقطين، خوفا يسيل العرق.
ويأتي النهار، صبي نضر
يلتمس الثقة والحب والضحك - - هناك، بعيدا جدا
في الخفاء
حيث تلتقي كل بداية مع كل نهاية،
لعب الصبي لحظة قصيرة
على مرج
من نور وظل
مع الثور، الذي هرب ...
1923م
الفجر في موجوير
الثور الأسود يصحو وحده، نقيا وجميلا،
فوق الفجر البارد الأخضر، على قمة صخرة زرقاء.
يخور من الجنوب للشمال، يلطم الذروة العميقة الداكنة
التي لا تزال النجوم الكبيرة تشع عليها
يلطمها بعنقه الهائل.
الوحدة اللانهائية تتجمد،
الصمت اللامحدود يخرس.
الثور - صخرة منزوعة -
تهبط في جرف كثيف الأشجار
لا شيء يبقى سواه.
ذلك الأسود الهارب.
ويأتي النور، أبيض ووردي.
1923م (4) خورخه جين (1891م-؟)
طفل
صفاء التيار،
دائرة الوردة،
لغز الثلج:
فجر وشط في الأصداف. (أنت) قوة عاصفة، (يا) أفراح القمر،
بالصبر تزدادين قوة:
ملح الموجة العاتية
لحظة بلا تاريخ
تزخر في عناد
بأساطير كامنة في الأشياء:
بحر وحده بطيوره.
كل هذه الثروة، هذه الرقة،
كل هذا السحر،
مكتمل دائما أمام العين:
بحر، وحدة حاضرة.
شاعر الألعاب
الخالصة التي لا تنتهي
إلهي، بلا خبث:
البحر، البحر، الذي لا يمس!
1928م
مدينة الصيف
مدينة الصيف
العارضة،
13
سيدات
فوق النور. تحت الزرقة.
حرير: حرير مطلق
14
يشير، يتحاشى
الزوايا العابرة.
الخط المستقيم
ينزلق على قضبانه. يسير، يسير
إلى غايته. •••
آه المدينة
مجنونة بالهندسة
أوه، بدائية جدا! •••
أغسطس الحكيم.
بكل بساطته. هامة،
قدر رقيق.
في شبكة من الاتجاهات،
ناصعة في المساء،
تسري مباهج دقيقة.
وتحت أشعة الشمس الساطعة
تتمدد.
مدينة الماهيات.
1928م
كمال الدائرة
كالأسرار تنتهي
في أعلى قمة - تطبع خطا
يناسب البصر -
جدران السر
الواضحة الحبيبة
خفية في داخل
كتل الهواء.
نور إلهي:
سر بلا ظل.
الظل ينشر
أقنعة مزرية
سر كامل،
كمال الدائرة،
دائرة في التدوير،
لغز السماء.
غني بالأسرار
يلمع، يتخفى
ولكن من؟ الله؟ القصيد؟
غني بالأسرار.
1950م
الأسماء
فجر. الأفق
يفتح رموشه نصف فتحة
ويبدأ في الرؤية. ماذا؟ أسماء.
مكتوبة على صدأ الأشياء.
اليوم أيضا لا تزال الوردة
تسمى وردة،
وذكرى تحولها
تسمى سرعة.
سرعة المزيد من الحياة.
كي يحملنا إلى حب أعظم
عنفوان اللحظة
الذي لا يأتي في أوانه:
خفيف هو
حتى إذا بلغ هدفه
بادر بفرض «ما بعد».
انتبهوا! انتبهوا!
سأكون، سأكون!
والورود؟ رموش
مغمضة: أفق
أخير. لعله إذن لا شيء؟
لكن الأسماء تبقي.
1928، 1950م
باب
الباب موارب.
عمن يبحث هذا الضوء؟
الشفق سيال.
يتلألأ عاجزا - لمن هذا الصمت؟ -
مكان مقفل. •••
صوت ينادي، لعله وعد
من المجهول. مشاعر.
لأي شمس مثل هذا الهدوء؟ •••
ويظهر التحول.
يتجه في هواء
فارغ مقنع.
باطن. الجدران بلا شك
تخفي المجهول.
هنا؟ شجرة جوز، كأس. •••
صمت يعزل نفسه.
عادي، مهذب جدا؟
عطر وردة يومية. •••
الباب مغلق: بعيدا.
هذا الضوء، أهو رسول؟
والآن: عين في عين ...
1950م
مذاق الحياة
هناك سماء في الهواء
تتنفس.
أنا أتنفس،
أطفو على الصدفة
15
خلال الأفراح.
أفراح إنسان
تعمق وتنتشر على الشاطئ.
أنا فرحان بالأشجار
بالدفء، بالظل.
مخاطرات؟ إن صيادي
لا يطاردونها.
لي مع الشمس نفسها
موعد أبدي.
الحاضر! يا له من مراوغ
في لبه وروحه،
16
يكافئ تراخيا
بأقصى مذاق للحياة.
بطيئة هي الروح، بطيئة هي الخطى،
هيا نسير معا!
المجد الذي لا يتحقق أبدا
لا يمحى أبدا!
17
أغنية، 1950م
موت من بعيد «احتملت سناء الموت الصافي.»
بول فاليري
في بعض الأحيان يخيفني يقين،
18
ويرتعش مستقبلي أمام عيني.
وبينما أرقد في انتظار، (يبرز) فجأة
جدار في الضاحية الأخيرة
19
يسقط عليه ضوء الحقل.
ولكن هل سيكون هناك حزن
إذا كانت الشمس ستكشف عنه؟
لا، لا جزع هناك.
الثمرة الناضجة هي (الضرورة) الملحة.
اليد تقشرها بالفعل. ... ومن بين هذه الأيام جميعا
سيأتي أشد الأيام حزنا. (و) سوف يكون على اليد
أن تقدم نفسها بلا خوف
وفي خشوع أمام القوة السامية
سأقول بغير دموع:
تعال، أيها القدر العادل.
الجدار الأبيض سيفرض علي
قانونه، لا صدفته.
20
العاشقان
غصون. وحدة،
21
خفيفة. شرفات
محلقة؟ جبال،
غابات، طيور، أجواء.
فضاء كبير، كبير
يلف العناق الحار
بوجود الكواكب. (وجودها) الحي.
22
شهوات، كتل، شهوات،
كتل، امتلاء،
ضوء مفزوع،
واحمرار نشوان!
والنهار، استواء
الزجاج.
23
الحجرة
تهبط، صامتة.
شرفات بيضاء.
وحدك، يا حب، أنت نفسك،
قبر. لا شيء، لا أحد،
قبر. لا شيء، لا أحد،
مع ذلك ... أنت معي؟
كتبت الصياغة الأخيرة للقصيدة سنة 1950م
ليلة قمرية (بلا حل)
علو يقظان:
الحراس يهبطون
على سنا القمر
24
البياض النجمي للبحر!
25
أجنحة البرد
مفرودة، ترف. •••
والسهل،
26
الأمل.
انتظار الأمواج
ينتشر في صمت.
27 •••
آه، أخيرا؟ من الأعماق
تنور الليل
أحلام حشائش الماء.
إرادة الخفة:
28
شواطئ رائعة
تنشد الرحمة من الريح. •••
ارتفاع للبياض!
أموات الأعماق السفلى،
يمضون، هواء في الهواء. •••
نحول عسير:
أيبحث العالم عن غياب
أبيض، تام، خالد؟
1950م
تلك الجبال
صفاء، وحدة؟ هناك. كابية.
قتامة لم تمس، لا القدم الضالة
فاجأتها، وهي ترف في استعلاء
قائمة، لصيقة بالعدم الكئيب،
الجميل، الذي يتلقاه الهواء كأنه روح،
واضحة من شدة الإخلاص للهدف: الانتظار
وجود، وجود، حتى وهو أكثر بعدا، عن الدخان،
عن نظرات الأعمى نفسه،
عدم، في مأمن: قتامة لم تمس
فوق جدب لطيف، قتامة تلك الجبال!
1950م
كلا
النهار يطلع في زجاج النافدة،
التاريخ يتمدد متعبا،
أحيا بين الخير والشر.
ذباب، أكوام من الذباب.
أيها الذباب الصيفي الأزرق
يا من تتسلى على جلدي.
فليحيا الجليس
29
البارد!
النهار يطلع، أشعر بالبرد!
الخريف يأتي مبكرا،
أسرع إلى البحر، يا نهري، أسرع إلى البحر
بخار بنزين بودلير
فوق الأسفلت، مطر
الليل الناعم يتجول
جائعون؟ ألهم وجود؟ في ضواحي
غير بعيدة في مناطق،
هي أبشع الضواحي،
أولا يرون أبدا أبطالنا الأوذيسيين؟
يا خالق حدودنا، أيها الإله المقدس
لوب دي فيجا - يصارع الحدود - أيفعل اكثر مما يستطيع
إبليس صغير؟ - بلا اهتمام.
الحياة تتفجر في الفكرة.
عدم، سكون سيف.
وأنا أعود نفسي على الفكرة:
ليل، حلم، موت، عدم.
صخب، 1957م
صراخ نجمي
ضوضاء، شبكة ضوضاء، تلف الكوكب
الذي تذوب عليه الانفجارات والطلقات
والهمسات في الأنين والصراخ والعويل
تحت نور صامت.
النور يتراجع واللغط يخفت
ويأوي إلى الواقع الضئيل للظلام
الذي يحمي الجميع، العشاق، المرضى
الأقوياء في أوج الحياة، في المحنة، في الرجاء.
أبدا يستمر العناء، بغير أن يقطع (حبل) الألم
أو الحب، أثناء الهدنة (الممتدة)
بين النوم والظلام، حين توشك العلامة الحلوة الصوت
ألا يكون لها عند الساهدين وجود.
في الأعالي لا تدري الأنوار البعيدة شيئا
عن الإنسان الذي يتأملها، يقويه السلام،
الذي تتم فيه تلك العمليات البالغة العنف،
نيران الخلق تلك.
الخلق الذي يسيء العقل لقاءه،
لا نهائية النجوم والقرون،
التي لا تثير أدنى نشوة في هذا البحر الليلي
الذي تشقه بالخطوط، مثل كوكبنا
الغارق في الصمت بين علامات السماء.
صخب، 1963م (5) فيديريكو جارثيا لوركا (1899-1936م)
الصرخة
منحنى
30
صرخة
يسري من جبل
إلى جبل.
من ناحية الزيتون
يصبح قوس قزح أسود
فوق الليل الأزرق.
آه!
كأنما تحت قوس كمان
ارتعشت تحت الصرخة
أوتار الريح الطويلة.
آه! (سكان الكهوف
يعلقون مصابيحهم أمامها.)
1921م
الصمت
أنصت. يا ولدي، للصمت.
صمت متموج،
صمت،
تنزلق الوديان خلاله،
والأصداء،
ويذل جباها
31
فوق الأرض.
32
أغنية ملقة
الموت
يدخل ويخرج
في الحانة.
تمر خيول سوداء
وأناس مظلمون
فوق الدروب العميقة
للقيثارة ...
وتفوح رائحة ملح
ودم نساء
في المسك المحموم
للبحر البعيد.
الموت
يدخل ويخرج
يخرج ويدخل
الموت
في الحانة.
أغنية
في أغصان الغار
تسري حمامتان سوداوان.
إحداهما كانت الشمس،
الأخرى كانت القمر.
قلت لهما: يا حبيبي،
أين قبري إذن؟
قالت الشمس، في ذيلي.
قال القمر، في رقبتي.
وسرت في طريقي،
والأرض في حزامي،
رأيت نسرين من مرمر
وفتاة عارية.
أحدهما كان الآخر،
والفتاة لا أحد.
قلت لهما: أيها النسر الحبيب
أين قبري إذن؟
قالت الشمس، في ذيلي.
قال القمر، في رقبتي.
في أغصان شجرة الكرز
رأيت حمامتين عاريتين،
إحداهما كانت هي الأخرى
والاثنتان لا أحد.
موت
يا للعناء!
يا لعناء الفرس أن يصبح كلبا!
يا لعناء الكلب، أن يصبح عصفورا!
يا لعناء العصفور، أن يصبح نحلة!
يا لعناء النحلة، أن تصبح جوادا!
والفرس،
أي سهم مسنون يشده من الوردة،
وأي وردة داكنة يطلقها من فمه!
والوردة.
أي خليط من الأنوار والصرخات
تمنحه للسكر الحي في ساقها!
والسكر،
بأي خناجر صغيرة يحلم في اليقظة!
والخناجر،
أي قمر هي بغير إسطبل، وأي عري،
وتفتش دائما عن الجلد الأبدي والحمرة،
وأنا، تحت السقوف،
أي ملاك ناري أبحث عنه وأنا هو نفسه!
لكن القوس المصنوع من الجبس،
كم هو كبير مع ذلك، وكم هو خفي وضئيل!
وبغير عذاب.
سيجويريا تعبر
بين فراشات سوداء
تمشي بنت سمراء
بجانب حية بيضاء
من الضباب.
أرض كالنور،
سماء كالأرض.
تمشي مقيدة برعشة
إيقاع لا يصل أبدا،
تحمل قلبا من فضة
وخنجرا في يمناها.
أرض كالنور،
سماء كالأرض.
سيجويريا، إلى أين تذهبين،
بإيقاع بلا رأس؟
أي قمر سيسترد
الملك المجبول من الجير والدفلي؟
33
أرض من نور،
سماء كالأرض.
1921م
أغنية فارس
قرطبة
وحيدة وبعيدة
فرس أسود صغير، قمر كبير،
حبات زيتون في غرارة سرجي.
أعرف الطرق حقا،
غير أني لا أبلغ قرطبة أبدا.
عبر المدى الفسيح، عبر الريح ،
فرس أسود صغير، قمر أحمر.
الموت يحدق في
من أبراج قرطبة.
آه! ما أطول الطريق!
آه! يا فرسي الشجاع!
آه! الموت يخطفني
قبل أن أبلغ قرطبة!
قرطبة
وحيدة وبعيدة.
1924م
هذه هي الافتتاحية (مقتطفات) ...
ديوان شعر
هو خريف ميت:
الأبيات أوراق سوداء
على الأرض البيضاء. ...
الشاعر يفهم
كل ما يستعصي على الفهم.
والأشياء التي تكره بعضها:
يجعلها أصدقاء
يعرف أن الطرق
جميعها مستحيلة؛
لهذا يسير عليها
بالليل، في هدوء. ...
الشعر مرارة،
عسل إلهي
السيل من خلية مجهولة
تصنعها الأرواح
دواوين الشعر العذبة
نجوم تسري
خلال الصمت والسكون
في مملكة العدم،
وتكتب على السماء
مقطوعاتها الفضية.
روح ذهبت (مقتطفات من مرثيته لمصارع الثيران إجناثيو سانشيت ميخياس)
لا الثور يعرفك ولا شجرة التين،
ولا الخيول ولا النمل في بيتك.
لا الطفل يعرفك ولا المساء،
لأنك مت إلى الأبد.
لا ظهر الحجر يعرفك،
ولا الحرير الأسود، الذي هويت فيه.
لا يعرفك التذكر الصامت فيك،
لأنك مت إلى الأبد.
سيأتي الخريف بأبواق القواقع
بعنب الضباب وسرب الجبال،
لكن ما من أحد سينظر في عينيك،
لأنك مت إلى الأبد،
لأنك مت إلى الأبد،
ككل أموات الأرض
ككل أموات الأرض نسيت
في ركام من الكلاب المطفأة
لا أحد يعرفك. لا. غير أني أغني باسمك،
أغني للأجيال صورتك، سماحتك.
النضج الشهير لحكمتك
شهوتك للموت، وطعم فمه.
الأسى الذي كان في فرحك الشجاع.
سيمضي وقت طويل، قبل أن يولد من جديد
أندلسي نبيل مثلك، وغني بالمغامرة:
أغني روعته بكلمات كالأنين
وأذكر كيف سرت نسمة حزينة في أشجار الزيتون.
وداع
إن مت
دعوا الشرفة مفتوحة.
الصبي يأكل البرتقال (من شرفتي أراه).
الحصاد يحصد القمح (من شرفتي أراه).
إن مت
دعوا الشرفة مفتوحة!
أغنيات، 1927م
أغنية الحزن الأسود
معاول الطيور
تحفر باحثة عن الفجر،
عندما تهبط على الجبل الأسود
مونتويا سوليداد.
34
جسدها نحاس أصفر
يفوح برائحة الفرس والظل.
ثدياها سندانان داخنان
يتنهدان أغنيات مستديرة. - «سوليداد، عمن تبحثين
وحدك، في هذه الساعة؟» - «أبحث عمن أبحث عنه،
أخبرني ما شأنك أنت؟
أبحث عما أبحث عنه
عن سعادتي وعن نفسي.» - «يا سوليداد أحزاني
الفرس الذي يهرب
يعود أخيرا للبحر
وتبتلعه الأمواج.» - «لا تذكر لي البحر
لأن الحزن المر ينبثق
من أرض الزيتون
تحت حفيف الأشجار.»
أي حزن يدعو للإشفاق! - «سوليداد، أي حزن تطوين!
أي حزن يدعو للإشفاق!
دموعك عصير ليمون
مر مشتاق للشفتين.»
35 - «يا للحزن الهائل!
أجري في بيتي كالمجنونة
ضفيرتاي على الأرض
من المطبخ إلى غرفة النوم
يا للحزن! أصبحت في سواد الليل،
جسدي، ملابسي.
آه على قمصاني من الكتان!
آه على فخذي (كأوراق) الخشخاش!»
36 - «سوليداد، استحمي
بمياه اليمام
واتركي قلبك
في سلام
37
يا سوليداد مونتويا.»
في السفح يغني النهر:
38
السماء والأوراق تدور.
النهار الجديد يتوج رأسه
بنوار القرع واليقطين
آه يا حزن الغجر!
حزنهم دوما نقي ووحيد
آه يا حزنا خفي المنبع
فجره ناء بعيد!
أغاني الفجر، 1928م
الزوجة الخائنة ... وكذلك سرت بها للنهر
وأنا أحسبها عذراء،
لكن كان لها زوج.
كانت ليلة سانتياجو
39
وكأني كنت على عهد.
40
انطفأت مصابيح الشوارع،
وتوهجت الفراشات في النار،
41
في أطراف المدينة
لمست نهديها النائمين؛
فازدهرا فجأة
كسنابل الخزامي.
خشونة لباسها
42
رنت في أذني
كقطعة حرير
تشقها عشر سكاكين.
43
والأشجار، بغير نور فضي في أوراقها
لاحت أكبر
44
وأفق من الكلاب
تنبح بعيدا عن النهر.
45
بعد أن تجاوزنا غابة العليق،
والأسل والزعرور،
تحت غطاء شعرها
مهدت فجوة في الوحل
خلعت رباط عنقي
خلعت ثوبها، (نزعت) الحزام مع المسدس (ونزعت) قطعها الداخلية الأربع.
لا الوردة
46
ولا المحارة
لها رقة بشرتها،
ولا الغدير
47
في ضوء القمر
يتلألأ مثل لألائها
فخذاها زاغا مني
كالسمك إذا ما فوجئ
نصفاها ملئا نورا
والنصف امتلأ برودة.
في تلك الليلة سرت
على أجمل طريق،
ركبت على مهرة لؤلؤية،
بلا لجام ولا ركاب،
لا أحب، كرجل، أن أبوح
بما قالته لي،
إن نور ذكائي
يجعلني كتوما،
ملوثة بالقبلات والرمال
عدت بها من النهر.
48
نصل سيوف السوسن
كان يصارع الهواء.
فعلت ما ينتظر مني
كغجري حق
49
أهديتها سلة خيط
من حرير القش،
50
وفضلت ألا أقع في حبها
إذ كان لها زوج،
وأخبرتني أنها عذراء
عندما أخذتها إلى النهر.
51
أغنيات غجرية، 1928م
أغنية في الحلم
أخضر، كم أريدك أخضر!
ريح خضراء. غصون خضراء،
السفينة في البحر،
والفرس في الجبل.
بالظل فوق خصرها
تحلم في شرفتها،
لحم أخضر، شعر أخضر،
وعينان من فضة باردة.
أخضر، كم أودك أخضر!
تحت القمر الغجري،
كل الأشياء ترنو إليها،
لكنها لا تقدر أن تراها.
أخضر، كم أحبك أخضر!
نجوم هائلة من صقيع أبيض
تأتي مع سمكة الظلام
التي تفتح طريق الفجر.
شجرة التين تمسح الريح
بور، أغصانها الخشنة،
52
والجبل، قط متسلل،
ينفش صباره المر.
ولكن من القادم؟ ومن أين؟
تتمشى في شرفتها
لحم أخضر، شعر أخضر،
حالمة بالبحر المر. - يا صديق، أريد أن أستبدل
فرسي ببيتك
سرجي بمرآتك،
سكيني بدثارك.
يا صديق، أنا قادم من مواني كابرا
بجراح تنزف. - لو كنت أستطيع، يا أيها الشاب،
ختمت هذا العقد.
لكنني لم أعد أنا
ولا بيتي عاد بيتي. - يا صديق، أريد أن أموت
في هدوء على سرير
من الحديد، وإن أمكن
على ملاءات من كتان رقيق.
ألا ترى جرحي الممتد
من صدري إلى حنجرتي؟ - قميصك الأبيض يحمل
ثلاثمائة وردة سوداء،
دمك الحار يرشح
حول حزامك.
لكنني لم أعد أنا،
ولا بيتي الآن هو بيتي. - دعني على الأقل أتسلق
الدرج العالي:
53
دعني أصل! دعني أصل!
للدرج الأخضر.
درج القمر العالي
حيث يتردد خرير الماء.
الآن يصعد الصديقان
إلى الدرج العالي.
تاركين وراءهما شريطا من الدم
تاركين شريطا من الدموع.
فوانيس صغيرة من الصفيح
كانت ترتعش على الأسطح.
ألف دف من النجف
كانت تشق الفجر.
أخضر، كم أريدك أخضر!
ريح خضراء، غصون خضراء.
ذهب الصديقان
والريح الطويلة تركت
في الفم طعما غريبا
من المر، والنعناع، والريحان.
يا صديق، أين هي، خبرني،
أين فتاتك المرة؟
ما أكثر ما انتظرتك!
ما أكثر ما انتظرتك!
وجه رطب، شعر أسود،
في هذه الشرفة الخضراء!
على وجه الصهريج
ترنحت فتاة الغجر.
لحم أخضر شعر أخضر،
بعينين من فضة باردة. (كتلة ) جليد من القمر
علقتها على سطح الماء.
الليل صار ودودا
كأنه ميدان صغير،
الحراس السكارى
أخذوا يطرقون الباب.
أخضر، كم أحبك أخضر!
ريح خضراء، غصون خضراء.
السفينة في البحر
والفرس في الجبل.
غزلية الموت الأسود
أريد أن أحلم حلم التفاحات،
54
أن أبتعد عن ضوضاء المقابر،
أريد أن أحلم حلم الطفل
الذي أراد أن يمزق قلبه على البحر العالي.
لا أريد أن أسمع ما يتكرر على الدوام
من أن الموتى لا يفقدون دمهم.
وأن الفم المتعفن لا يكف عن الصراخ طلبا للماء.
لا أريد أن أعرف شيئا عن العذابات التي يعدها العشب،
ولا عن القمر الذي له فم ثعبان
ينشط قبل طلوع النهار.
أريد أن أنام فترة قصيرة،
فترة، دقيقة، قرنا،
ومع هذا فليعلم الجميع أنني لم أمت،
لأنه يوجد إسطبل ذهبي بين شفتي،
لأنني الأخ الأصغر للريح الغربية،
لأنني الظل الهائل لدموعي.
غطني بنقاب في ساعة الفجر،
لأنها سترميني بملء يديها بالنمل.
بلل حذائي بالماء القاسي،
حتى تنزلق لدغة العقرب.
لأنني أريد أن أحلم حلم التفاحات،
أن أتعلم مرثية تطهرني من الأرض؛
لأنني أريد أن أحيا مع الطفل المظلم
الذي أراد أن يمزق قلبه على البحر العالي.
1936م (6) بيدرو ساليناس (1891-1951م)
أنا لا أراك
أنا لا أراك. أعلم جيدا
أنك هنا، خلف جدار
هش من الطوب والطين،
على مسمع مني
إن ناديت.
غير أني لن أنادي.
سأناديك غدا،
حين لا أعود أراك
فأتخيل أنك دائما هنا
بالقرب مني، بجواري،
وإنه سيكفي أن أنطق اليوم
بالكلمة التي لم ألفظها بالأمس.
غدا ... عندما تكونين هناك
خلف جدار هش من الرياح
والسموات والسنين.
1923م
الغرب البعيد
ريح، على بعد ثمانية آلاف كيلومتر!
ألا ترى كيف يطير كل شيء؟
ألا ترى شعر «مابيل» الهارب،
شعر الفارسة المرسل،
التي تفتح نظرتها الصافية نصف فتحة،
أهي ريح تعاند الريح؟
ألا ترى الستارة المرتجفة،
هذه الورقة الطائرة،
والوحدة المدحورة
التي بينك وبينها، بسبب الريح.
أجل: أرى.
لا شيء إلا أنني أرى.
هذه الريح
تسري على الجانب الآخر ،
في عصر بعيد،
55
لبلاد لم تطأها قدماي.
تحرك الغصون
بغير «أين»،
تقبل الشفاه
بغير «من».
لم تعد هي الريح،
بل صورة ريح ماتت،
بغير أن أفطن إليها،
وهي الآن مدفونة
في المقبرة البعيدة للهواء القديم،
للهواء الميت.
نعم: أراها، وإن كنت لا أشعر بها.
هناك تسري، في عالمها،
ريح، ريح السينما، الريح.
1929م، صدفة مؤكدة
ألوان من الموت
في البداية نسيتك في صوتك.
لو أنك تكلمت هنا،
الآن، بجانبي،
لسألت: «من هذه؟»
ثم نسيت خطوتك.
لو أن ظل جسد
تراجع في الريح
56
لما تبينتك.
سلخت نفسك من أوراق الزهر،
57
في بطء، قبل شتاء:
بسمتك نظرتك، لون ردائك،
رقم حذائك.
58
بل سلخت نفسك أكثر من هذا
من أوراق الزهر:
لحمك سقط عنك، جسدك.
لم يبق لي إلا اسمك، لم يبق منك
إلا سبع رسائل،
ما زلت فيها تعيشين،
تتعذبين بيأس
بالجسد والروح.
هيكلك، آثارها،
صوتك، ضحكتك، سبع رسائل، تلك السبع.
جسدك الآن هو وحده الذي ينطق بها.
نسيت اسمك
الرسائل السبع تهيم شاردة،
لا تعرف بعضها البعض.
عربات الإعلانات تمر في الشوارع،
رسائل تسطع ليلا بالألوان،
رسائل تمر على الظروف،
وتنادي بأسماء الغير،
وستكون أنت هناك
مفككا، محطما، ومستحيلا
أنت ستكون هناك، أنت،
اسمك الذي اعتاد أن يدل عليك،
59
صاعدا،
إلى سماء باطلة،
في مجد الألف باء المجرد.
1931م
هم
هم
ألا أفترق عنك
من أجل جمالك.
عناء
ألا أبقى حيث تريد:
في حروف الألف باء،
في (أنوار) الفجر، على الشفاه.
قلق
من أن أمضي، أن أهجر
الدعابات، الملابس، الحنان،
وأنتهي
بعد تجربة
كل ما تغير فيك
إلى العري والثبات.
وبينا تتغير وتتغير بلا نهاية،
وتهب نفسها، وتخدع نفسها
وجوهك (الكثيرة)، ونزواتك وقبلاتك،
لذاتك المتقلبة،
لمساتك السريعة للعالم؛
إذا بي أنتهي
إلى مركز نفسك النقي الثابت.
وأرى كم تتغير - وأنت تسمي ذاك حياة -
في كل شيء، في كل شيء،
أجل، لكن لا تتغير في
حيث تبقى على الدوام.
1923م
تفكيري فيك هذه الليلة
تفكيري فيك هذه الليلة
لم يكن تفكيرا فيك
بفكري أنا وحدي، من داخل نفسي.
العالم الواسع كان يفكر معي فيك.
كان يفكر باستغراق.
نوم الحقول العظيم، النجوم،
البحر الصامت، العشب الذي لا يرى،
ولا يحس إلا من عبيره الجاف،
60
كل شيء،
من الألدبران إلى الصرصار
كان يفكر فيك.
يا للهدوء
الذي تجلى في الانسجام
بين الأحجار، النجوم،
الماء الساكن، الغابة المرتعشة،
كل الجمادات،
وروحي،
تهبها جميعا لك!
كل شيء استجاب
وانقاد لندائي
ومن أجلك،
61
ارتفع للهدف، في قوة الحب!
الظلال والأضواء اتحدت
كي تتلاقى في ضوء حبك،
كذلك اتحد الصمت الهائل على الأرض،
وأصوات السحب الناعمة في السماء،
في تسبيحة باسمك،
أنشدت نفسها في وجداني.
تواؤم العالم والوجود،
الزمن والرغبة،
هدنة بعيدة الاحتمال،
دخلت في نفسي، كما تدخل السعادة
عندما تأتي متأنية، قبلة فقبلة.
كدت أكف عن حبك، كي أزداد حبا لك،
في شيء أكبر مني، وأستودع عهدي في حبك
لليل الهائل، وأهيم في الزمان،
محملا برسالة، رسول حب
تحول إلى نجوم، سكون، عالم
ناجيا من رعب الجثة
التي تبقى عندما ننسى.
عن ديوانه «سبب الحب»، 1936م
لو أن الصوت تدركه العيون
لو أن الصوت تدركه العيون
آه! إذن لوددت أن أراك!
في صوتك نور يضيء كياني،
نور السمع.
عندما تتكلمين
يتوهج فضاء النغم.
يتفجر الظلام العظيم
الذي يسمونه الصمت
كلمتك تتألق ببياض يعشي العيون،
كلما وصلت إلي،
صار كل نهار فجرا شابا.
إن قلت نعم
بلغت راحتي ذروتها،
أصبح الظهر سيدا
لا يحتاج لفن العينين،
الليل يفر، إن كلمتني بالليل
الوحدة تزول، إن كنت هنا وحيدا في غرفتي
وجاءني صوتك، خفيفا، بلا جسد.
لأنه يخلق جسده بنفسه.
الصور المتكسرة الباقية
من جسد صوتك
تولد بغير عدد، في المكان الخالي.
الشفاه والأذرع التي تبحث عنك
تكاد تسقط في الوهم.
وأرواح الشفاه، أرواح الأذرع
تبحث في دائرة ولدها صوتك،
عن مخلوقات إلهية
أبدعها حديثك
وعلى ضوء السمع، بعيدا عن العيون،
يقبل عاشقان بعضهما من أجلنا، (عاشقان) لا يملكان بعد الليل والنهار
إلا صوتك (اللامع) بالنجوم،
إلا شمسك.
سبب الحب ، 1936م
القصيدة
والآن، ها هي ذي تقف أمامي.
كم من صراع كلفتني!
كم من أرق ملهوف!
كم من أخطار الفشل! (ومع ذلك)
فهي في ضوء هذه الروعة الصافية
ليست شيئا، لقد نسيت
أنها تبقى،
62 (ويبقى) فيها العالم،
الوردة، الصخرة، العصفور،
هذه الأشياء الأولية
التي تدهش أمام هذه النهاية.
كانت تبدو لنا شديدة الوضوح!
ولكن كان من الممكن أن تصبح أشد وضوحا
إنها الآن أفضل:
نور لا تعرفه الشمس
يضيئها بأشعته، وراء الليل،
ويكشف عنها للأبد.
إشراق اللحظة الحاضرة
يبدو أكثر صفاء من إشراق مايو.
إن كان قد تجلى هناك، فهو هنا الآن
أكثر بهاء وشفافية.
كم تبدو طبيعية،
ما أبسط المعجزة!
في نور هذه القصيدة
كل شيء،
من القبلة الليلية المظلمة
إلى بهاء السمت
كل شيء أشد وضوحا.
كل شيء أشد وضوحا وقصائد أخرى، 1949م (7) رافائيل ألبرتي (1902م-؟)
إن مات صوتي
إن مات صوتي على اليابسة،
فاحملوه إلى البحر،
واتركوه وحيدا على الشاطئ.
احملوه إلى البحر
وعينوه قبطانا
على سفينة حربية بيضاء.
آه يا صوتي،
تزينك علامة البحر:
فوق القلب مرساة،
وفوق المرساة نجمة،
وفوق النجمة الريح،
وفوق الريح الشراع!
ملاح على الأرض، 1925م
بحر
بالليل أراك
كأنك خيمة
زهرة النوم الشمسية.
63
تطل منها خلسة
أشرعة كالمناديل،
تقول لي وداعا،
بينما أواصل نومي.
ملاح على الأرض، 1925م
صيحة صياد صقور تحت البحر
كم سأكون سعيدا
في بستان بحري
معك، يا حورية بستاني!
في عربة صغيرة،
يجرها حوت سليمان،
يا للفرحة أن أبيع تحت البحر المالح
بضاعتك. يا حب!
أعشاب البحر الطازجة،
أعشاب البحر،
أعشاب البحر!
عن ديوانه الأول «ملاح على الأرض»، 1925م
حلم «إلى المجاذيف أيها الملاحون!»
خيل فيثنته
ليل.
قوقعة خضراء، القمر.
في كل الشرفات
فتيات بيضاوات وعاريات.
أيها الملاحون، إلى المجاذيف!
من الأرض تبزغ الكرة
التي لا بد أن تموت في البحر.
فجر.
نمن، أيتها الفتيات البيضاوات
حتى لا تسقط الكرة الأرضية
بين ذراعي الطوفان.
أيها الملاحون، إلى المجاذيف!
حتى لا تغفو الكرة السماوية
بين نهدي البحر!
الحبيبة ، 1926م
جنة ضائعة
عبر القرون
وسط العدم الكوني
أبحث عنك بلا نوم.
ورائي، لا يرى،
لا يلمس كتفي،
ملاكي الميت، يقظان.
أين هي الجنة،
الظل الذي كنته؟
سؤال في الصمت.
مدن بلا جواب،
أنهار بلا لغة، قمم
بلا أصداء، بحار خرساء.
لا أحد يدري. ناس يقفون
على الشاطئ ساكنين،
طابور قبور،
يجهلونني. طيور محزونة،
أغنيات متحجرة
ركب مذهول.
عميان! لا يدرون شيئا
رياح قديمة، بلا شموس،
على أطراف المدن، عاجزة
عن الهبوب، ترتفع
محترقة، ثم تنكفئ
وتظل صامتة.
منطلقة تفر مني السماوات،
والحقيقة التي لا شكل لها
مختفية في ذاتها.
هناك عند نهاية الأرض،
على الحافة الأخيرة،
تنزلق العيون،
أبحث عن ذلك الدهليز الأخضر
في الهاوية السوداء
وقد مات الأمل في نفسي.
آه يا شرخا في الظلال!
يا دوامة العالم!
يا حيرة القرون!
رجوعا! رجوعا ! يا للأخطار
التي تتهددني بها الظلمات الخرساء!
يا لضياع روحي! - استيقظ، أيها الملاك الميت.
أين أنت؟ أضيء
طريق العودة.
صمت، صمت أكثر عمقا
جامدة هي نبضات
لا نهاية الليل
جنة ضائعة!
ضعت عندما بحثت عنك،
أنا، بلا ضياء إلى الأبد.
عن الملائكة، 1927-1928م
الملاك
64
يصطدم بالأبواب،
بالأشجار. •••
لا النور يراه، ولا الريح،
ولا زجاج النوافذ.
نعم، ولا زجاج النوافذ. •••
لا يعرف المدن.
لا يتذكرها
يسير ميتا. •••
ميتا على قدميه، خلال الشوارع.
لا تسألوه. أوقفوه!
لا، بل دعوه. •••
بلا عيون، بلا صوت، بلا ظل.
نعم، بلا ظل.
خاف عن العالم،
عن كل إنسان.
عن الملائكة، 1927-1928م
ملاك الأعداد
عذاري يحملن زوايا
وبراجل، يسهرن
على ألواح السماء.
وملاك الأعداد
يطير متفكرا
من «1» إلى «2»
من «2» إلى «3»
من «3» إلى «4».
طباشير بارد وإسفنج
يمسح ويشطب
نور الفضاء.
لا الشمس، لا القمر، لا النجوم،
ولا الخضرة المفاجئة
لا البرق والرعد،
ولا الهواء. ضباب فحسب.
عذاري بلا زوايا،
بلا براجل، يبكين.
وفوق اللوح الميت،
ملاك الأعداد
مكفن، بلا حياة
فوق ال «1» وال «2»
فوق ال «3»، فوق ال «4».
عن الملائكة
الملاك الطيب
هناك جاء من طلبت،
من دعوت.
لا من يكتسح السموات العزلاء،
النجوم التي لا مأوى لها،
الأقمار التي لا وطن لها،
الثلوج.
ثلوج من النوع الذي يسقط من يد،
اسم،
حلم،
جبين.
لا من يربط الموت
في شعره.
من دعوت.
بغير أن يحز الهواء.
بغير أن يجرح الأوراق أو يحرك زجاج النوافذ.
من ربط الصمت
في شعره.
كأنما ليحفر
بغير أن يجرحني
نهر ضوء حلو في صدري
ويجعل روحي
صالحة للملاحة.
عن الملائكة، 1929م
شبح يجوس في أوروبا ... والأسر الطيبة العريقة توصد النوافذ،
تؤمن الأبواب،
والأب يهرع في الظلام إلى البنوك،
ونبض البورصات يتوقف،
ويحلم في الليالي بالمحرقات،
بالقطعان المشتعلة بالنار
بأنه يملك اللهب بدلا من القمح.
والشرر بدلا من الحنطة
والدواليب المصفحة،
65
الصناديق الحديدية المملوءة بالتراب الملتهب.
أين أنت؟
أين أنت؟
إنهم يطاردوننا بالرصاص
آه!
الفلاحون يزحفون ليدوسوا على دمنا
ما هذا؟
فلنغلق الحدود،
فلنغلقها سريعا.
أنظروا إليه وهو يزحف من هناك مع الريح الشرقية
من مراعي الجوع الحمراء.
حتى لا يسمع العمال صوته،
حتى لا يصل صفيره إلى المصانع،
حتى لا يرى الرجال في الحقول منجله المرفوع.
قيدوه!
فهو يثب فوق البحار،
ويذرع الأرض بأكملها،
66
وهو يتخفى في غرف الشحن بالسفن
ويتكلم مع الوقادين
ويشدهم إلى ظهر السفينة
ويثير الحقد والشقاء،
ويحض الملاحين على التمرد.
أغلقوا السجون.
ينبغي أن يتكسر صوته على الجدران.
ما هذا؟
أما نحن فنتبعه،
ندعوه للهبوط من على الريح الشرقية التي تحمله إلينا،
نسأله عن المراعي الحمراء، مراعي السلام والنصر،
نجلسه على مائدة الفلاح الفقير،
نقدمه لأصحاب المصانع،
نجعله يقود الإضرابات والمظاهرات،
ويتحدث للجنود والملاحين،
ويرى الموظف الصغير في مكتبه
ويرفع قبضته صارخا في برلمانات الذهب والدم.
شبح يجوس في أوروبا،
في العالم.
ندعوه رفيقا.
شاعر على الدرب، 1931-1936م
إلى إنريك ليستر
عاد الخريف. الحرب مستمرة، باردة كالثلج،
غير عابئة بتساقط الأوراق من جديد.
الجذوع العارية بالقرب من المياه الحمراء
تشبه الإنسان في «جزيرة أيبريا»،
67
تحت نيران المدافع.
صمود الشجرة، يبلغ من الصلاة والإنسانية
ما يبلغه صمود الجندي الواقف تحت عاصفة
الموت الليلي يشهد مشرق الصباح
الذي يزدهر من جديد بالغصون الخالدة.
أرى الأوراق، أرى كيف تتعرى الأرض
لفترة قصيرة من غابتها المحبوبة،
وكيف يشعر الإنسان الصامد في إسبانيا
بأنه شبيه بالجذوع العارية أو الكاسية.
الخريف عاد. ومن بعده الشتاء. لا بأس.
ثوب الشجرة يتساقط، الشمس لا تذكرنا،
بيد أن الإنسان في المعركة أشبه بالجذوع،
فهو أعجف، مصفر، بارد، لكنه يخضر من الأعماق.
عاصمة المجد، 1936-1938م
تحولات القرنفلة
1
على حافة الحر وعند ضفة نهر في سنوات طفولتي
أردت أن أكون فرسا.
الشواطئ المعشوشبة لم تكن إلا رياحا وخيولا
أردت أن أكون فرسا.
الذيول المشدودة كنست النجوم.
أردت أن أكون فرسا.
أماه، أصغي إلى خببي على الشاطئ.
أردت أن أكون فرسا.
من الصباح، يا أماه، سأعيش بالقرب من الماء.
أردت أن أكون فرسا.
في قاع البحر نامت مهرة ذات أربع سيقان بيضاء
أردت أن أكون فرسا.
أخطأت الحمامة
أخطأت الحمامة
الحمامة أخطأت
لأنها أرادت أن تتجه للشمال، طارت للجنوب.
حسبت حقل القمح بحرا
أخطأت.
حسبت البحر سماء
والليل نهارا
أخطأت.
النجوم خالتها ندى،
والحرارة ثلجا
أخطأت.
وتنورتك حسبتها صديريتك
68
وقلبك حسبته بيتها
أخطأت. (نامت على الشاطئ
ونمت على فرع غصن).
بين القرنفلة والسيف، 1939-1940م
قصيدة المنفى
أنتم يا من تنادونني بلا صوت من بعيد
بمثل هذه الأفكار المذعورة
وفي الريح الخائفة الخرساء،
أتنطقون باسمي بلا صوت؟
أنتم يا من تضرعون هناك ويا من تصرخون
ويموت (الصراخ) في مثل هذا النغم البعيد،
أتنزعون بهذا النداء الأخرس
عظامي من جلدي؟
مذاق الأسنان هو مذاق الكلمة المثلجة،
مات اللسان من شدة الرعب،
وكذلك الفؤاد الأخرس النبضات ...
جلد الثور يفر دفاقا بالدماء،
البحر يفر بحر الدموع الجاف ... ... والذين نادوني، قد شبعوا موتا.
بين القرنفلة والسيف، 1939-1940م (8) خيراردو دييجو (1896م-؟)
سحب (إلى أويخنيو دورس؛ راعي الشوارع الواسعة.)
أنا
فككت الأرائك،
ولما جلست على شاطئ النزهة الجاري
تركت حملاني من التلاميذ يتبعثرون،
كان كل شيء قد توقف؛
كراستي. •••
ورقة الشتاء الوحيدة
والجوسق
69
المثبت وسط الزبد. •••
فكرت في الأسرة التي بلا دليل، الطازجة أبدا
لكي أدخن قصائدي وأحصي النجوم،
فكرت في سحبي،
أمواج السماء الفاترة
التي تبحث عن مسكن بغير أن تخفض من (سرعة) الطيران،
فكرت في ثنيات الأصباح الجميلة
المطوية مقلوبة كأنها منديلي،
ولكن لكي نطير
لا بد أن تتذبذب الشمس كالبندول،
وأن تدور المينى
70
في أيدينا
كل شيء أصبح واضحا،
قلبي الراقص يخدع النجم،
وهو من الحمى والكهرباء
بحيث يضيء الزجاجة حتى تتوهج بالبياض.
لا البرج الوحشي يوزع الرياح
التي تدور ببطء حول نفسها،
ولا يداي تحلبان أوعية الساعات.
لا بد أن ينتظر الإنسان
زحف العواصف والنبوءات،
لا بد أن ينتظر الإنسان
أن يلد القمر الطائر المسيح
71
لا بد أن يتم كل شيء.
زحف الأمواج من السينما يشبه أمواج البحر،
الأيام البعيدة تتشابك على الشاشة
الأعلام التي لم يرها أحد تعبق رائحتها في الفضاء،
والهاتف
72
ينقل صدى المعركة،
الأمواج تدور دورتها حول العالم،
لم يعد هناك مكتشفون للقطبين ومضايق البحار.
ومن مرض مجهول
يموت السياح
وفوق صدورهم دليل بمواعيد القطارات،
الأمواج تدور حول العالم،
أتمنى لو أمضي معها،
رأت كل شيء؛
المخدات البالية وصنادل المسيح.
لا ترجع أبدا للوراء ولا تدير الرأس،
دعني متكئا للأبد
سوف أدخن قصائدي وآخذ سحبي معي
على كل طرقات الأرض والسماء،
وعندما ترجع الشمس فوق فرسها الأبيض
سأرفع سريري المتوازن إلى السماء.
1922م
نظرة (إلى رامون جوميز دي لاسيرنا.)
من شرفة إلى شرفة
تسمع كمنجات العميان
بأوتارها العاطفية،
خسارة لا تعوض!
تقطيع هذا الشارع بالمقص،
الرسائل التي تولد في باطني
تتعلم كيف تحسن الطيران قليلا،
وحاج نادم
رآه الناس ينزل في المصعد.
في السوق
تجدد الأعلام الهواء،
وفرس أوراق اللعب
يخطو أفضل من جندي
وأنت أيها الترام الطيب القلب
يا دودة دموعي،
يا من تنسج حزني في أحشائك،
قدني إلى حظيرتك
وأخرجني من البئر
التي أخاطبك منها،
أعدك أن تزدهر أسلاكك
في هذا الربيع فوق كل الأسطح؛
كل الأسطح المنسية
التي لا ترعى الماشية فيها،
ولا يبلغها شعاع من الماء
لندع الرب
يطلق سراح النجوم،
ولنخلد إلى النوم،
فلا نسألها كثيرا.
1924م
شجرة سرو في دير سيلوس
شعاع الأحلام والظلال، يا من تنطلق إلى أعلى
فتخيف السماء برمحك
العين التي تفور فتوشك أن تبلغ النجوم
تندفع بلا كلل أو إعياء.
أنت يا شراع الخلاء، يا جزيرة الأعاجيب،
يا سهم الإيمان والرجاء،
ماذا حدث حتى تحج روحي
إلى «أرلانزا» لزيارتك؟
لما رأيتك وحيدة، حلوة، وثابتة،
شعرت أنني مدفوع للانطلاق،
التحليق معك على جناح البلور،
معك، أيها البرج الأسود الزاخر بالأطراف الحادة،
يا مثلا لكل الذين تطلعوا إلى الله،
أيتها الشجرة الخرساء وسط نيران ديرسيلو.
1925م، أشعار إنسانية
أرق
أنت وحلمك العاري. لا تعرفين.
تنامين. لا. لا تعرفين. أسهر،
وأنت، يا بريئة، تنامين تحت السماء.
أنت في حلمك، والسفن في البحر.
أطباق الهواء تحبسك عنى في سجون الفضاء.
تنتزعك مني. ثلج،
بللور الهواء من آلاف الأوراق. لا.
ما من طيران يحمل أجنحة طيوري إليك.
أعرف أنك تنامين، مطمئنة، في سلام.
تيار الاستسلام المطيع، خط نقي،
قريبة جدا من ذراعي المغلولة.
عبودية مخيفة لرجل الجزيرة،
أنا سهران، مضطرب، فوق الصخور،
السفن في البحر، وأنت في حلمك.
1929م، قبرة الحقيقة
جمل شرطية
إذا كسرت. كما تكسر البيضة
ساعة هجرتها الساعات،
73
فستسقط صورة أمك الميتة فوق ركبتك.
إذا نزعت هذا الزر الصرى من سترتك،
حيث لا يطل أحد من خلف الأوراق؛
فستغمض الإسفنجات عيونها واحدة بعد الأخرى.
إذا فتح لك التأمل الطويل
طريق الأمواج الخالية من الزبد (الذي يصل) لأذن حبيبة
فسوف يشع صميم حياتك بالنور،
74
إذا قشرت مساء اليوم برتقالة بيديك الموضوعتين في قفاز
فسوف يعبر القمر الصامت
على شاطئ النهر في الليل،
ويجمع خواتم الأرامل
وخطط
75
أزهار الأقحوان
76
البطيئة.
إذا اشتقت مرة
إلى الرغبة الأخيرة (التي يبديها) المحكوم عليهم بالإعدام والحملان البريئة
فلا تنس أن تقطع أجمل فجر يشرف عليك،
وأحب الأظافر إلى نفسك. لا تنس.
1941م، سيرة حياة ناقصة
صمت
صمت، صمت. أنا لا أصمت بإرادتي،
أصمت لأن الألم يثقل علي،
حتى لا تخلع الكلمات
صمتي العميق الحق عن عرشه.
يهيمن الصمت، قوة الفعل الجادة،
التي تمد جسرا بين نغمة ونغمة،
لكيما يشدو الفم الأخرس
بمزموره كله، في عمق الباطن، في عمق الهوة.
وددت لو فتحت طرف ردائي،
لو أطلقت سراح طيور الانسجام،
لو وهبتها للسماء على جناح الأنغام،
لولا خوفي أن يثب غصني،
وبدلا من الثناء الجميل الدافئ
يسمح بترديد كلمة لا تعرف الحب.
1951م (9) لويس ثرنودا (1902-1963م)
مخبوء بين الجدران
بنشوة خفية
تمنحني هذه الحديقة
المخبوءة بين الجدران
أغصانها ومياهها.
77
أي هدوء! أهكذا العالم؟
السماء تعبر الحقول
وتصفها بجوار بعضها البعض
باسمة للأفق البعيد.
الأرض غير مبالية.
عبثا يلمع القدر.
بقرب المياه الهادئة
أحلم وأفكر، أنني أعيش،
الزمن وحده
يحدد قدرة هذه الساعة
ينضج مقياسها.
يفلت من بين ورودها.
وترجع الأنسام الرطبة
مع اقتراب الليل،
الغصون والمياه
تنسى نعومتها.
أشعار أولى، 1924-1927م
ولم يقل كلمة
لم يقل كلمة،
قرب جسدا يسأل فحسب،
لأنه لم يكن يعلم أن الرغبة
سؤال لا جواب عليه،
ورقة بلا فرع،
عالم بلا سماء.
القلق يشق لنفسه طريقا بين العظام،
يصعد في العروق،
حتى يحفر في الجلد
نوافير أحلام،
سؤالا من لحم الجسد، يرد إلى السحب.
تكفي لمسة خفيفة عابرة،
نظرة خاطفة في الظلام،
وينقسم الجسد إلى اثنين،
يتشهي أن يحتوي جسدا آخر حالما،
نصفا مع نصف، حلما مع حلم، لحما مع لحم،
شبيهين في الشكل، في الحب، في الشوق.
حتى ولو بالأمل،
لأن الرغبة سؤال، لن يعرف أحد جوابه.
اللذات المحرمة، 1931م
كانت هناك في أعماق البحر
كانت هناك في أعماق البحر لؤلؤة وزمارة قديمة. وكانت طبقات الماء الرفيقة تبتسم بعذوبة كلما جرت بالقرب منها؛ سموهما الصديقتين.
كان هناك طفل غريق بجوار شجرة من المرجان. الذراعان الباهتتان والغصون المضيئة تشابكا بقوة؛ سموهما العاشقين.
كانت هناك بقايا عجلة تدحرجت من مسافة بعيدة جدا وطائر محنط راح، وهو الغريب الأنيق، يفزع الأسماك التي فوجئت به، سموهما الرعاة.
كان هناك ذيل جنية ساحرة ينثر السموم من حوله وفخذ صبي صغير؛ وكانت هناك روائع أخرى عجيبة ، وعندما يجري الماء يجري.
كانت هناك نجمة، جورب رجل، كتاب مفكك الأوراق وكمان صغير، وكانت هناك روائع أخرى عجيبة، وعندما يجرى الماء يجري فوقها ويلمسها لمسا خفيفا كان يبدو كأنه يدعوها أن تكون الحاشدية البراقة التي تسير في ركابه ...
ولكن لم يكن بينها شيء يشبه يدا مقطوعة من الجبس.
لقد بلغت من الجمال ما جعلني أصمم على سرقتها.
من ذلك الحين وهي تملأ علي أيامي وليالي، تعانقني وتحبني، أنا أسميها حقيقة الحب.
اللذات المحرمة، 1931م
حارس الفنار يتحدث مع نفسه
أيتها الوحدة، كيف أملؤك
إلا بنفسك؟
عندما كنت طفلا يحيا في كهوف الأرض التعيسة،
منزويا في ركن مظلم،
فتشت فيك، يا باقة الورد الملتهبة،
عن فجر أيامي المقبلة وليالي المختلسة،
وفيك استشرفتها
أمينة ودقيقة، حرة وصادقة،
صورة من نفسي،
صورة منك، يا وحدتي الخالدة.
ثم ضيعت نفسي في أرجاء الأرض الظالمة
كمن يبحث عن أصدقاء أو حبيبة مجهولة؛
على خلاف العالم،
صرت نورا صافيا ورغبة جارفة،
وفى المطر القاتم أو الشمس الساطعة
نشدت حقيقة يمكن أن تشي بك،
ناسيا في غمرة اللهفة والشوق الجياش
أن الأجنحة العابرة تصنع لنفسها سحابة كابية.
وعندما احتجبت عيناي خلف قناع
من سحب متراكمة في خريف مزبد
ولمحت فيك نور الأيام الغابرة،
أنكرتك متعللا بالقليل؛
بمغامرات الحب الصغيرة التي لم تكن جدا ولا هزلا،
بالأصحاب والمعارف المحترمين ذوي الإشارات السخيفة والكلمات الجوفاء،
باسم ذي سمعة مريبة في عالم المظاهر الخداعة،
باللذات القديمة المحرمة،
واللذات المباحة التي تبعث على الاشمئزاز
ولا تصلح إلا للصالونات الأنيقة وأحاديثها الهامسة،
بالأفواه الكاذبة والألفاظ الثلجية.
ها أنت ذي تدلينني على صدى كياني القديم،
الذي لطخته بألوان من غدر الشباب؛
ها أنت ذي يا كوكب السعد
البريء من كل منزع غريب
ترينني الشمس - إلهتي - والليل الهامس،
المطر، رفيقي الحميم،
الغابة وشذاها الوثني،
البحر، البحر، وما أجمل اسمه!
وفوق كل هؤلاء، يا جسدا مظلما نحيلا
ألقاك يا وحدتي الحبيبة،
فتمنحينني القوة والضعف،
كمثل ذراعين حجريتين للطائر المضني،
ها أنا ذا أستند على الشرفة،
وأنظر إلى المياه بعينين لا تشبعان،
أسمع لعناتها المعتمة،
أتأمل عناقها الأبيض.
وفي وقفة الحراس،
أشبه ماسة تدور لتحذر الناس
الذين أعيش من أجلهم، وإن كنت لا أراهم،
وهكذا أجدني بعد أن بعدت عنهم ونسيت أسماءهم من زمن طويل،
ما زلت أحب جماهيرهم
الخشنة العنيفة كالبحر، بيتي ومسكني،
النقية حين تنتظر ثورة عارمة،
أو الوديعة الأليفة كما يستطيع البحر أيضا أن يكون
عندما تدق ساعة الراحة التي تغلب قوته.
أنت، يا حقيقتي الوحيدة،
يا عاطفتي الشفافة، يا وحدتي المقيمة،
عناق لا متناه؛
الشمس والبحر،
الظلام والبراري،
الإنسان وأشواقه،
الجماهير الغاضبة،
هل هي إلاك؟
لأجلك، يا وحدتي الحبيبة، طلبتهم ذات يوم؛
فيك، يا وحدتي، أحبهم الآن.
توسلات، 1934-1935م
مرثية إسبانية
يا أيتها الحقيقة الغامضة
لجيلنا،
78
أجيبيني، تكلمي معي،
بعد كل هذه القرون،
يا أيها النفس الخلاق
لأبناء اليوم،
الذين أرى كيف يدفعهم الحقد
لتقديم أرواحهم للموت
وهو أعمق الأوطان.
عندما يبدأ الربيع العجوز
في نسج (خيوط) سحره
على جسدك غير المحدود،
أي طائر سيجد هناك عشا،
وأية عصارة ستجد غصنا
تخضل فيه دفعتها الخضراء؟
79
أي شعاع للنور الممراح،
وأية سحابة فوق الحقل المهجور
ستجد (حفنة) ماء، نافذة بيت هادئ،
تعكس عليها ألعاب قوس قزح؟
حدثيني، يا أمي،
وإذا كنت أخاطبك بهذا النداء،
فلأن امرأة لم تعامل إنسانا
كما عاملتني.
كلميني، قولي كلمة واحدة
في هذه الأيام الطويلة المعذبة،
هذه الأيام التي تسودها الفوضى،
التي تتصارع أمام عينيك،
السكين المرة
في أيدي أبنائك.
لا تشيحي هكذا ببصرك عني
وتنطوي خلف الأقنعة الترابية الطويلة،
التي تحجب عنا عينيك الواسعتين الجميلتين.
تلك الورود المتساقطة،
البراعم المسحوقة في الدماء والأقذار،
ظلت خالدة تلمع بين يديك
منذ قرون سحيقة
حين كانت حياتي حلما في رءوس الآلهة.
أنت وعيناك، هذا ما أبحث عنه،
أناديك وأنا أصارع الموت،
أنت أيتها الأم البعيدة الغامضة
يا أم (آلاف) النفوس الميتة
التي توصيك، بلمعة الحجر الناصع،
بأشواقها للخلود، رمز الجمال.
لكنك لست سيدة
الأشواق الميتة نحسب؛
رقيقة كنت دائما وحنونة مع أشواقنا الحية،
شفوقة على حظنا البائس نحن الفانين.
أو كنت تعلمين أننا جديرون بك؟
تأملي الآن من خلال الدموع،
انظري كم من الخونة،
انظري كم من الجبناء،
ينكرون اسمك وحضنك،
وهم يفرون بعارهم بعيدا عنك،
في الوقت الذي نرقد فيه صابرين عند قدميك،
ونرفع إليك أبصارنا من الأرض،
ويشعر أبناؤك شعورا غامضا
بجزائهم على هذه الساعات الشقية!
لن يعرف الحياة
من لم يستمد الشجاعة من الحرب.
إنها تنشر أجنحتها الكثيفة علينا،
وأنا أسمع حفيفها الحديدي،
وأرى الذين يموتون فجأة
يسقطون في العشب المحترق،
بينما يتعذب جسدي،
ويصارع مع فريق منهم فريقا آخر،
لست أدري ما الذي يرتجف في كياني ويموت،
وأنا أراك مكلومة ووحيدة،
وأرى بين الأنقاض عطايا أبنائك
عبر القرون؛
كم أحببت ماضيك،
وبريقه المنتصر بين الظلام والنسيان!
أنت ماضيك،
وأنت كذلك الفجر
الذي لم يشرق بعد على حقولنا.
أنت وحدك تبقين،
مهما ينزل بنا الموت؛
فيك وحدك القوة،
التي تمنحنا الأمل في المستقبل
مهما غشيت منا الأبصار.
فمن وراء هؤلاء وغيرهم من الأموات،
ومن وراء هؤلاء وغيرهم من الأحياء المكافحين،
يشهد شيء بعذابك الذي تقاسينه مع الجميع،
وكل حقدهم، وقسوتهم، وصراعهم.
ليس إلا عدما لديك، مثل حياتهم سواء بسواء.
لأنك خالدة،
وأنت وحدك التي خلقتهم
للسلام ومجد الأجيال.
مرثية إسبانية مهداة إلى فيثته إليخاندره
2
ها هي ذي مسافة البعد التي تفرق بيننا
تحمل معها العذاب،
وتبدد إشراق السعادة،
كأنها سحابة ممزقة
في المطر المنسي؟
لم يتغير شيء بيني وبينك يا بلدي،
كلمتك البائسة،
تدفق الذكريات الخفي
الذي يتلقى الحياة والحقيقة من روحك الطاهرة.
أنا لا أعاديك، (فقد كتب علي) أن أشهد في سكون
هذا الشقاق العقيم الذي يخيم عليك،
وأحس ريح الجنون التي تصرعك.
الله وحده يحرسنا،
فهو الذي يقضي ويفصل في الحقد الأبدي
منذ وعت ذاكرة الإنسان.
سقوفك صارت رمادا، وحقولك المجدبة
تنبت حصاد الجوع؛
جناح الموت يمزق هواءك،
أهلك يتساقطون مسحوقين كالزهور،
وهم الذين قد خلقوا للحب والعمل،
والذين دبروا الحرب تحت ستار الظلام
يتلذذون بانتصارهم.
أما أنت،
يا أرضي، يا حبي الوحيد العظيم،
فتلوذين بالصمت،
تبكين وحدتك، عذابك، عارك.
لم تزل روحي وفية نشوى كالعصفور
الذي طار في الربيع إلى عشه القديم،
ثم ما لبث أن رجع إليك وأنهي رحلته،
عندما جذبه من بعيد، يا وردة القدر،
سحر لا يوصف.
إنها تترك هذا الضباب المنتشر من حولها،
ترسل شكواها في سمائك الرحبة،
بينما يظل الجسد مترددا،
ضائعا، نائيا، بين الحلم والحياة،
يصغي لحفيف الساعات الكسولة.
بيد أن هذه العيون المتيمة بك
لن تستطيع أن تعكس صورتك.
لن تستطيع الروح التي كانت تعيش
مطمئنة في ظلك،
أن تجوب غاباتك
وتحلم بالعالم الذي كنت أتخيله وأبنيه
عندما كنت أذعن لشبابي الحزين.
أنت أيها البرج المنيع وسط الأنقاض،
ولا شيء سواه،
تستطيعين أن تملئي عزلتي حياة،
ففيك وحدك ينعس
هذا الغياب عن كل شيء.
اجعلي نسماتك تمر على جبهتي،
نورك يترقرق في صدري حتى الموت
وهو المجد الوحيد الأكيد.
الذي ما زلت أشتهيه.
السحب، 1937-1940م (10) فيثنته أليخاندره (1900م-؟)
بعد الموت
الواقع الذي يعيش
في أعماق قبلة ناعسة،
حيث لا تجسر الفراشات أن تطير
لكيلا تحرك الهواء الساكن كالحب،
هذه الشفافية المسعدة،
حيث التنفس لا يعني أن تحس بلورة في الفم.
لا يعني أن تتنفس صخرة جامدة،
لا يعني أن تحرك الصدر في الفراغ
بينما ينعطف الوجه البنفسجي كالزهرة.
لا.
الواقع الحسي
يرفرف بجناحين هائلين،
لكن من بعيد، دون أن يمنع
اهتزاز الأزهار الناعم الذي أتحرك فيه،
ولا عبور الطيور الرقيقة
التي تحط لحظة على كتفي كلما استطاعت ذلك ...
البحر كله، وهو بعيد، وحيد،
محبوس في مكان،
يمد ألسنة طويلة خلال نافذة فيمنعه الزجاج،
وتكوم (أمواج) الزبد الغاضبة وجوهها
التي تضغط على الزجاج
دون أن يشعر بها أحد.
البحر أو حية
البحر أو ذلك اللص الذي يسرق الصدور،
البحر الذي ظل جسدي مدى الحياة نهبا لأمواجه،
الواقع الذي أحياه،
هذه الشفافية السعيدة
التي لن تمكنني أبدا من أن أسمي الهواء يدين،
ولا أن أدعو الجبال قبلا،
ولا ماء النهر فتاة تهرب مني.
الواقع الذي لا يمكن أن تختلط فيه الغابة
بهذا الشعر الهائل
الذي يزيد معه الغضب.
كلا ولا يصبح الشعاع الباكي والصوت الذي يناديني،
عندما تتمكن الصخرة - ووجهي مدفون بين يدي -
أن تكون في عين النسر صخرة.
الواقع الذي أحياه،
هذه الشفافية السعيدة المباركة
التي يقترب فيها نغم القميص الروماني الأبيض
80
أو نغم ملاك،
أو النشيج الأبدي لهذا اللحم
وكأنه مطر مصفى
أو هذه النبتة الدائمة الاخضرار،
أو أرض مجدبة، طازجة، عطرة،
تستطيع أن تحمل قدمين خفيفتين.
كل شيء يزول.
الواقع ينقضي
كطائر مرح.
يحملني بين جناحيه
كريشة خفيفة.
ينتزعني من الظلام، من النور، من الجنون الإلهي.
يجعلني ريشة وهمية،
يتجاهلها البحر عندما تمر فوقه،
البحر الذي انتصر في النهاية،
هذه المياه الكثيفة التي تطمس كل شيء متميز
كأنها شفاه سوداء.
الدمار أو الحب، 1932-1933م
بلا نور
سمكة السيف،
81
التي يرجع تعبها إلى العجز عن اختراق الظلام،
إلى الإحساس ببرودة قاع البحار،
حيث السواد لا يعرف الحب،
حيث تفنفد تلك الأعشاب الطازجة الصفراء،
التي تكسوها الشمس في المياه العليا بلون الذهب.
الحزن المتنهد لسمكة السيف الجامدة
التي لا تدور عيناها،
التي يلتهم اطمئنانها الهادي حدقتها،
التي تنزلق دمعتها في المياه نفسها،
بغير أن يفطن أحد إلى اصفرارها المحزن حتى الموت.
قاع هذا البحر، حيث تتنفس السمكة الساكنة،
الطين بخياشيمها،
هذا الماء الذي يشبه الهواء،
هذا التراب بذراته الدقيقة،
الذي يفور كالدوامة كلما داعب حلما عجيبا،
ويهدأ هدوءا رتيبا حين يغطي الفراش الوديع
الذي يحط عليه الجبل الأعلى بثقله.
وتهتز ذراه كباقة ريش،
لكن في حلم معتم.
الزبد على السطح، أمواج الشعر المنفوش،
لا تعرف شيئا على الأقدام الطينية العميقة،
واستحالة الفكاك من الهاوية،
والارتفاع بأجنحة الأمواج الخضراء فوق الهاوية الجافة،
والانطلاق بلا خوف إلى الشمس المتوهجة.
أمواج الشعر البيضاء، أفراح الحياة الشابة،
تكافح بإصرار وسط زحام الأسماك - في سبيل الحياة التي تبدأ الآن -
لكي ترفع صوتها في الهواء الشاب،
حيث تصنع شمس مشعشعة
من الحب فضة ومن العناق ذهبا، (وتصنع) الجلد الواحد،
هذه الصدور المتشابكة كالقلاع،
التي لا تهدأ حتى تتلاحم مع بعضها.
لكن القاع يرتجف مثل سمكة وحيدة مهجورة.
لا جدوى من أن تتجعد في الزرقة جبهة صافية
كأنها شمس تهب نفسها،
كأنها حب يزور البشر.
لا جدوى من أن يحس بحر كامل غير محدود
أن أسماكه وسط أمواج الزبد أشبه بالطيور
الدفء الذي سلبه منه القاع الهادئ الكثيف،
القاعدة الساكنة لعمود عمره ألف عام
التي تسحق جناح بلبل غريق،
ومنقارا غنى بزوال الحب،
أغنية فرحة، تحت ريش ناعم،
وشمس شابة.
هذا الظلام العميق الذي لا موضع فيه للشكوى،
ولا عين تدور في محجرها الجاف،
سمكة السيف التي لا تقوى على اختراق الظلام،
حيث الطين الهادئ لا يقلد حلما أجوف.
الدمار أو الحب، 1932-1933م
تعال دائما، تعال
لا تقترب. جبينك، جبينك المتوهج،
جبينك الملتهب،
آثار القبل،
هذا البريق، الذي أحسه بالنهار
عندما تقترب،
هذا البريق المعدي، الذي يعلق بيدي،
هذا النهر المتألق، الذي أغرق فيه ذراعي،
ولا أجرؤ أن أشرب منه
خشية أن أصبح نجما قاسيا.
82
لا أريد أن تحيا في كما يحيا النور،
بعزلة نجم يتخذ بضوئه،
ويمتنع عليه الحب خلال الفضاء
الفعاء الأزرق القاسي الذي يفرق ولا يجمع،
ويبدو فيه كل كوكب بعيد المنال
وحدة تنشج بالبكاء وترسل حزنها الأليم.
الوحدة تشع في عالم بلا حب.
الحياة قشرة حية،
بشرة مجعدة ساكنة،
لا يستطيع الإنسان أن يجد فيها راحته،
مهما يبن حلمه على نجم منطفئ.
أما أنت فلا تقترب. جبهتك المشعة،
فحم ملتهب يسلبني وعيي،
ألم براق، أشعر فيه بغتة بإغراء الموت،
برغبة في إحراق شفتي بلمستك التي لا تمحى،
بالإحساس بلحمي يتحلل في ماستك المحرقة.
لا تقترب، لأن قبلتك تمتد
امتداد التصادم المستحيل بين النجوم.
أشبه بالفضاء الذي يشتعل فجأة،
الأثير الذي ينمو وينتشر ويصبح دمار العوالم فيه
قلبا واحدا، يحترق ويتحول بأكمله إلى رماد.
تعال، تعال، تعال كفحة مظلمة مطفأة،
تحيط بميتة؟
تعال كالليل الأعمى،
الذي يقرب وجهه مني؛
تعال كشفتين انطبع عليهما اللون الأحمر،
من ذلك الخط الطويل الذي يذيب المعدن.
تعال، تعال، يا حبي؛ تعال، أيها الجبين الغامض،
أيتها الاستدارة التي تكاد تدور،
يا من تلمعين كمدار (فلكي) سيموت بين ذراعي؛
تعال كعينين أو وحدتين عميقتين،
كنداءين آمرين من أعماق لا أدريها.
تعال، تعال، يا موت، يا حب؛
تعال سريعا، إني أدمرك؛
تعال، لأني أريد أن أقتل أو أحب أو أموت
أو أعطيك كل شيء؛
تعال، لأنك تتدحرج كحجر خفيف،
مضطربا كقمر يطلب أشعتي!
الدمار أو الحب، 1932-1933م
تحت الأرض
لا. لا. أبدا. أبدا.
قلبي ليس له وجود.
عبثا تعبرون واحدا بعد الآخر، كأشجار جرداء،
عندما تدور الأرض.
عبثا يردد النور نغمه في الأشجار مثل ريح محبوبة،
ويقلد بعذوبة قلبا يدعو وينادي.
لا. أنا الظل المعتم الذي يتقوس
كالحية في جذور الشجر ويرسل موسيقى.
الحية الجبارة التي تتنفس تحت الأرض كجذع شجرة
دون أن تتوقع عشبا.
أعلم أن هناك سماء. ربما كان فيها إله يحلم.
أعلم أن هذه الزرقة المشعة،
التي تحملونها في عيونكم
سماء صغيرة (يتألق) فيها ذهب ناعس.
تحت الأرض يعيش الإنسان. الرطوبة هي الدم.
هناك ديدان صغيرة كأطفال لم تولد.
هناك درنات تنمو في الداخل كالأزهار،
تجهل أن البراعم - في ذروة الكمال وفي ظل الحرية -
تكون ورودا صفراء، قرمزية أو بريئة.
هناك أحجار، لن تتحول أبدا إلى عيون.
أعشاب هي (في الحقيقة) لعاب مؤلم.
وهناك في الأرض أسنان، تتحرك وسط الأحلام،
وتمضغ ما يستحيل أن يكون قبلة.
والصخر هناك تحت الأرض، في أعماق أبعد غورا،
الصخر العريان النقي، المكان الوحيد
الذي قد يستطيع البشر أن يعيشوا فيه،
والذي يبعث الدفء في اللحم العاري،
هناك في الأعماق، وتتفتح فيه زهور رائعة وضاءة.
هناك الماء تحت الأرض. ماء مظلم، أتعرفون هذا؟
ماء بلا سماء،
ماء ينتظر الوجه في صمت من آلاف السنين،
الوجه الطاهر أو الناصع كالبللور، الذي يعكس ظله،
أو ينتظر ريش الطير الذي يشق سماء مفتوحة.
والنار تطهر في أغوار أبعد، أكثر بعدا
النار الموحشة التي لا يهبط إليها أحد.
المنفى المحرم على النفوس والظلال.
الأحشاء المحترقة في وحدتها الأليمة.
لستم أنتم، يا من تعيشون في العالم،
يا من تعبرون أو تنامون مكبلين بالسلاسل البيضاء،
يا من توشكون أن تطيروا بأسماء الغروب،
أو السحر أو السمت
83
العالي،
لستم أنتم الذين ستدر كون قدر إنسان.
عالم وحدي، 1934-1936م
العناصر الأربعة
84
الأرض
الأرض المتحركة
تسكب فرحتها نباتا.
أنظر: ها هي قد ولدت!
حمرة خضراء، تبحر اليوم
في فضاء لم يزل شابا.
ماذا تحوي؟ وحيدة،
طاهرة بذاتها،
لا يسكنها أحد.
السحر الصامت وحده،
السحر الأول للكون،
يسري بين الأنجم
ويطوف خفيفا عذريا
في هالة نور ذهبية.
النار
كل نار تتحاشى العاطفة.
هي نور وحسب!
انظروا كيف ترتفع
حتى تلامس السماء
بينما تخترقها الطيور جميعا
إذا احترقت لم تتحول إلى رماد
والإنسان؟ أبدا
لم تزل هذه النار
متحررة منك،
يا أيها الفاني.
هي نور، نور بريء.
يا أيها الإنسان،
ليتك ما ولدت!
الهواء
لم يزل الهواء أقوى من البحر،
أشد هولا من البحر،
يحوطه الهدوء والسكون.
حراسة عالية للنصاعة الخالية من البشر.
ربما استطاعت قشرة الأرض في يوم من الأيام
أن تحس بك، يا أيها الإنسان.
الهواء الذي لم يعرف الهزيمة
ينكر أنه عاش في صدرك.
خالدا، بلا ذاكرة، يتألق الهواء.
البحر
ترى من الذي قال إن البحر - شفة الحب الممتدة للشاطئي -
تنهد في حزن؟
دعوه، وقد التف في النور، يخضر.
المجد، المجد في الأعالي، وفي البحر الذهب!
يا أيها النور الجليل، اشمل بغطائك
هذا العمر اليانع أبدا للبحر الفرحان وغن له!
هناك، يعيش البحر
بلا زمن، يبعث بأشعته.
قلب إله خالد،
قلب يخفق!
ظل الفردوس، 1939-1943م
الشمس
خفيفة، حرة،
85
بالتقريب:
صنادل، خطو بلا جسد.
إلهة وحسب،
تطلب عالما
تجعله نعلا لجسدها،
المشمس هناك.
لا تقولوا: شعر، (بل) شعر محترق.
قولوا صنادل،
خطو خفيف؛
لا تقولوا: أرض، (بل) عشب ناعم
يئز تحت هذا البريق،
من الرقة بحيث تعبده
عندما تمر عليه.
آه! أشعري بنورك،
بلمستك الشمسية المهيبة!
هنا، تصبح الأرض سماء
حين تحس بك. وتلمع.
كتبت قبل سنة 1943م
ويغني الشاعر للناس جميعا ...
1
ها هم أولاء جميعا هناك، وتراهم يعبرون.
هناك، أجل هناك، كم تود لو اختلطت بهم وأعلنت (لهم) عن نفسك!
الدوامة الثائرة في قلبك تدفعك للجنون،
كتلة ألم غاضبة،
تفتت على جدران اللحم الخرساء،
وبجهد أخير، تحسن أمرك.
نعم، يمرون.
يمرون جميعا. أطفال ونساء. رجال جادون.
حزن ما. نظرات.
ويمر جمهور وحيد، كائن فريد،
حشد هائل.
وأنت، بقلبك المحزون الذي ينتفض من الملك الوحيد،
تغوص في القاع بجهد أخير.
نعم، كم ترضى في نهاية الأمر وتغتبط!
هنالك تسلم نفسك فرحا للأمواج
تتبع مجرى النهر، يهزك، يصدمك، يهدهدك
فترق وتصفو.
وتسمع ضجة كثيفة، أشبه بأهزوجة تصم الآذان،
وتغدوا آلاف القلوب قلبا واحدا يحملك.
2
قلب واحد يحملك.
تخل عن حزنك. اشرح قلبك المنقبض.
قلب واحد يجري في كيانك، خفقة واحدة
تصعد إلى عينيك،
تقهر جسدك، تنفخ صدرك،
تحرك يديك عندما تسير للأمام
فإن وقفت لحظة، وإن رفعت صوتك،
عرفت غنوتك.
هذا الذي تجمع من كل الأجساد المظلمة التي لا تكاد تحصى،
واتحد وأرسل الصواعق،
كل ما تحرر فجأة في صرختك من خلال الأجسام والأرواح،
إنما هو صوت أولئك الذين يحملونك،
الصوت المرتفع الصادق.
الذي يمكنك أن تسمع نفسك فيه،
وتتعرف نفسك في دهشة.
الصوت الذي يخرج من كل القلوب المتفرقة،
وينفذ من حنجرتك ليرفرف حرا في الهواء.
3
صوت للآذان جميعا. انظر كيف يصيخون السمع إليك.
يستمعون لأنفسهم. يصغون لصوت واحد،
يتغنى بهم.
جماهير الغناء نفسها تتحرك كالموجة.
وأنت في القرار، توشك أن تتحرر،
تعرف أنك عقدة في حبل وجودهم.
ويتردد الصوت الذي يحملهم جميعا.
يتحدر كالدرب.
كل ما تنبته الأرض يخطو عليه.
يخطو في زينته وجماله، يطبخ لحمه فوقه.
وهو يتفتح ويهتدي بنفسه،
والجماهير كلها تعبر بوجوه جادة.
كأنما تصعد جبلا، وهو وجهة الزاحفين.
وتظل تصعد حتى تبلغ ذروته الناصعة.
وتشرق الشمس فوق الجباه.
ويقف الجميع على القمة الرائعة ويغنون.
وصوتك هو الذي يعبر عنهم.
صوتك السامي النبيل، صوتهم أجمعين.
وسماء قادرة كاملة الوجود.
تردد بجلال كل صدى الإنسان.
تاريخ القلب، 1945-1953م (11) ثيثليا ميريليس (1901م-؟)
سأحبك من بعيد
سأحبك من بعيد
من تلك المسافة الهادئة
التي يصبح الحب فيها شوقا
وعاطفة ووفاء.
86
من ذلك المكان المقدس
حيث فرحة الوجود - وهي الأبد والخلود -
تبدو كأنها غياب.
من يحتاج أن يفسر
لحظة الوردة وأريجها
التي تقنع
بغير ما غرور؟
وفي أعماق البحر
يحقق النجم، بغير عنف
حقيقته
ناسيا الشفافية.
أغنيات، 1956م
باعث
أغني لأن اللحظة موجودة
وحياتي كاملة.
لست سعيدا ولا حزينا.
أنا شاعر.
87
شقيق الأشياء الزائلة،
لا أشعر بفرح ولا عذاب،
أعبر الليالي والأيام
في الريح.
سواء كنت أهدم أو أبني،
سواء بقيت أو تحللت،
لا أدري، لا أدري.
بل لا أعلم إن كنت سأبقى
أو أمضي.
أعلم أنني أغني، والأغنية هي كل شيء.
لها دم خالد وجناح موزون.
وأعلم أنني سأخرس ذات يوم:
ولا شيء غير هذا. (12) أويخينيو فلوريت (1903م-؟)
سوناتا
ستلاحظون أنني كنت حيا
من ظل سيلقيه جبيني.
على جبيني وحده (سيكون) القلق حاضرا (القلق) الذي أحتفظ به الآن في نفسي، أسير أحزاني. (سيكون) وجهي أبيض، بغير لهيب الشهوة،
بغير أحلام تعلق بالفكر.
فوقي الآن،
88
في صمتي الأبدي
وردة من ورق، وفرع زيتون أخضر.
يا لهذا النوم بلا أحلام مزعجة،
الروح متفتح للعناق المرتعش،
واليدان فوق القلب مضمومتان.
ما أبعد صوت الأحباب.
آه! في فمي طعم مباهج
المحيطات السامية الصافية.
نغمة مزدوجة، 1937م
الليل
أنا الآن، يا إلهي، أعرف ما تقول
النجوم في سمائك؛
لأن نقاطها الماسية
تكتبها لي.
الآن، في صفحات الهواء
تسقط الحروف، وأنصت،
بعينين مرفوعتين، وفم صامت
وفكر ساكن.
الآن كم تتضح الكتابة
في أعماق الليل،
89
في أعماق القلب المشتاق
ليلقي هذه النار
التي تهبط من وهادك
وتنور أحلامي
وتقتل الجسد
90
وتترك الروح في جوهرها العاري
91
ما تقوله نجومك
ينبهني، يا مولاي،
لأمجاد أسمى،
لتحليق أسرع،
لحذر لا أدريه،
لفرح مرتعش أدريه (كجناحي فراشة
ترفرف على الأرض)
وعلى الأرض يتلاشى
صوت السماء، وهو ينزف
حتى يصل إلى الروح
من باب الشهوة،
حمامة النجوم
92
جناح في الهواء، سهم، جذوة
في بياض الكور (الملتهب) بحبك.
في يقظة كل هذا العدد
من الأضواء الحادة
يبتعد كل شيء، يهرب؛
كل شيء إلاك، يا إلهي؛
لأنني أعلم الآن كيف تكلمني
من خلال نجوم السماء. (13) بابلو نيرودا (1904-1973م)
يمكنني أن أكتب
يمكنني الليلة أن أكتب أتعس الأشعار.
أن أكتب على سبيل المثال: «الليل يسطع بالنجوم،
والنجوم الزرقاء تلمع من بعيد.»
ريح الليل تدور في السماء وتغني.
يمكنني الليلة أن أكتب أتعس الأشعار.
أحببتها، وأحبتني أيضا في بعض الأحيان.
في ليالي كهذه ضممتها بين ذراعي،
قبلتها كثيرا تحت السماء اللامتناهية،
أحبتني، وفي بعض الأحيان كنت أيضا أحبها.
أكان يمكن ألا أحب عينيها الواسعتين الصافيتين؟
أستطيع الليلة أن أكتب أتعس الأشعار.
أن أفكر في أنني لم أعد أحبها. أن أشعر أنني فقدتها.
أن أسمع الليل الهائل، الذي يزداد هولا بدونها.
ويهبط الشعر على الروح كما يهبط الندى على الأعشاب.
ماذا يهم أن حبي لم يستطع الاحتفاظ بها؟
الليل يلمع بالنجوم وهي ليست معي .
هذا هو كل شيء. من بعيد يغني إنسان. من بعيد.
روحي غير راضية عن فقدها.
نظرتي تبحث عنها، كأنما لتقربها.
قلبي يبحث عنها، وهي ليست معي.
هو نفس الليل الذي يجعل نفس الأشجار تبدو بيضاء.
نحن، أبناء الأمس، لم نعد اليوم ما كناه.
أنا لا أحبها الآن، هذا صحيح، ولكن كم أحببتها!
صوتي راح يبحث عن الريح كي يلمس أذنيها.
لغيري. إنها الآن لغيري. كما كانت قبل قبلاتي.
صوتها، جسدها اللامع. عيناها اللامتناهيتان.
أنا لا أحبها، هذا صحيح، لكن ربما كنت أحبها.
الحب ما أقصره! ما أطول النسيان.
لأنني في مثل هذه الليلة ضممتها بين ذراعي!
روحي غير راضية عن فقدها.
مع أن هذا هو آخر حزن تسببه لي،
وهذه آخر أبيات أكتبها إليها.
عن ديوانه «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة»، 1924م
لا نسيان (سوناتا)
إن سألتني أين كنت؟
فلا بد أن أقول: «يحدث هذا.»
لا بد أن أتكلم عن الأرض التي تجعلها الأحجار مظلمة،
عن النهر الذي يدمر نفسه وهو يصر على البقاء:
لا أعرف غير الأشياء التي تفقدها الطيور،
البحر الذي تركته ورائي، أو أختي التي تبكي.
لم كانت هناك مناطق كثيرة، لم يتصل نهار بنهار؟
لم يتجمع ليل أسود في الفم؟ لم يموت الأموات؟
إن سألتني من أين أجيء، فسوف أكلم أشياء مكسورة،
أدوات شديدة المرارة، وحوشا كبيرة يغلب عليها العفن،
قلبي المحزون.
ما هي بذكريات هذه (الأشياء) التي عبرت (بذهني)،
ولا هي الحمامة الصفراء التي تنام في النسيان،
بل وجوه دامعة، أصابع على الحلق،
وتلك التي تتساقط من الأوراق:
ظلمة يوم مضى
يوم تغذى على دمنا الحزين.
هنا أزهار بنفسج، عصافير،
كل ما يسعدنا ويبدو
على البطاقات الحلوة المصورة
حيث يتنزه الزمن والعذوبة.
لكن لا تدعنا ننفذ وراء هذه الأسنان،
لا تدعنا نعض الجلد الذي يكومه الصمت،
لأنني لا أدري بماذا أجيب:
هناك أموات كثيرون،
هناك حواجز كثيرة شجتها الشمس،
ورءوس كثيرة تصدم القوارب،
وأياد كثيرة حاصرت القبل،
وأشياء كثيرة أريد أن أنساها.
عن ديوانه «إقامة في الأرض»، 1935م
في إيطاليا
(1) أمبرتو سابا (1883-1957م)
العنزة
تكلمت مع عنزة.
كانت في الحقل وحيدة، كانت مربوطة.
شبعانة بالعشب، مستحمة بالمطر
كانت تثغو.
مثل هذا الثغاء
كان شقيق حزني.
وأجبت، أولا على سبيل المزاح
ثم لأن الحزن خالد
له صوت واحد، ولا يتغير.
هذا الصوت سمعته
يتأوه من عنزة وحيدة.
في عنزة ذات وجه سام
سمعت كل بؤس آخر،
وكل حياة أخرى
تشكو همها.
منتصف نهار في الشتاء
في تلك الساعة التي كنت لا أزال فيها سعيدا (ليغفر لي الله هذه الكلمة الهائلة المخيفة)
من ذا الذي كاد يدفع فرحتي القصيرة إلى البكاء؟
قد تقولون: «لا شك أنها كانت مخلوقة جميلة
مرت من هناك وابتسمت لك.»
لا بل كان بالونا، بالونا شاردا كالفيروز
في زرقة الهواء، وسماء بلادي
لم تكن أبدا ساطعة، كما كانت
في ظهر ذلك اليوم المشرق البارد من أيام الشتاء.
كانت سماء ذات سحب قليلة بيضاء،
ونوافذ البيوت تتوهج في ضوء الشمس،
والدخان النحيل من مدخنة أو مدخنتين،
وفوق الأشياء جميعا، الأشياء الإلهية،
أفلتت تلك الكرة من يد صبي طائشة (كان وسط الجماهير يبكي همه؛ همه الكبير)
بين مبنى البورصة والمقهى الذي كنت أجلس عليه،
وأنظر في دهشة من خلال النافذة،
وأرى بعينين لامعتين؛
كيف يرتفع كنزه ويهبط.
يوليس
في شبابي سبحت
على طول شواطئ دالماتيا
1
جزر صغيرة كانت تطفو على سطح البحر،
حيث كان يحط طائر على الفريسة،
كانت مغطاة بأعشاب البحر
زلقة، جميلة في الشمس كحبات الزمرد.
عندما كان المد العالي والليل يخفيانها،
كانت الأشعة تنفرد في اتجاه الريح
لكي تفلت من غدرها.
مملكتي اليوم هي أرض لا أحد.
الميناء يرسل أنواره لغيري؛
ما زالت تدفعني إلى البحر الرحيب
الروح التي لم يغزها أحد،
والحب المفجوع للحياة. (2) جو سيبي أنجارتي (1888-1970م)
شعب
فر قطيع النخيل الوحيد
2
والقمر
اللامتناهي فوق ليال جديية،
الليل الأسحم
3
سلحفاة في حداد
4
تتحسس
لا لون يدوم،
اللؤلؤة السكرى بالشك (بدأت) تنبه الفجر،
وعند قدميه السريعتين
تثير الوهج، (ها هي ذي) تدوي
صيحات ريح شابة ،
خلايا النحل تنشأ في جبال
الأبواق الضالة،
ارجعي أيتها المرايا القديمة،
يا خطوط الماء الخفية
بينما الآن
و
براعم مرتفعات الثلج المقطوفة
تحيط بالصورة التي تعود عليها آبائي،
تصطف الأشرعة
في الهدوء الصافي،
آه يا وطني، كل فصولك
5
صحت في دمي،
تتقدم آمنا وتغني
فوق بحر جشع.
1919م
ميلاد الفجر
الليل العذري
في معطفه الطري وفي المجد الرائع
هاربا، ساخرا، كأنه يغازل،
يأخذ من حجره زهرة
شاحبة اللهب
ويلقي بها،
هي الساعة التي تفصل النور الأول
عن الرعشة الأخيرة.
في شحوب تفتح لجة لأطراف السماء.
بأصابع زمردية،
ينسج المطر الغامض ثوبا
وظلال من ذهب تهدئ
التنهدات المسرعة الساذجة،
وتحيل الحفر جداول عابرة.
1925م
نزع
أن تموت كالقبر العطاش
فوق السراب،
أو كالسمان
بعد أن يعبر البحر
في أول أيكة
لأنه فقد الرغبة
في الطيران.
ولا أن تحيا على النحيب
كالبرقش
6
الأعمى.
سهر
ليلة كاملة
ملقى بجانب
رفيق مذبوح
بفمه العابس
المستدير
إلى البدر
بتشنج يديه
المتغلغل في صمتي
كتبت
رسائل مملوءة بالحب
أبدا لم أكن
أكثر تعلقا بالحياة.
حنين
عندما
يوشك الليل أن يمضي
قبل الربيع بقليل
ويندر أن يمر أحد
يتجمع فوق باريس
لون غامض
من البكاء
على جانب
جسر
أتأمل
في الصمت غير المحدود
لفتاة نحيلة
تمتزج
أمراضنا
ونبقى
كأننا حملنا بعيدا.
ذكرى
كان اسمه
محمد شعيب،
سليل
أمراء البدو،
انتحر
لأنه لم يعد
له وطن!
أحب فرنسا
وغير اسمه
أصبح «مارسيل»،
ولكنه لم يصبح فرنسيا،
ولم يعد يعرف
كيف يعيش
في خيمة أهله؛
حيث ينصتون
لترتيل القرآن
ويحتسون القهوة،
ولم يدر
كيف ينشد
أغنية ابتعاده.
رافقته
مع صاحبة الفندق
الذي كنا نسكنه
في باريس
من رقم 5 شارع دي كارم
الشاحب الضيق
المنحدر على جانب التل.
يستريح
في جبانة إيفري؛
الضاحية
التي تبدو دائما
كسوق مهدوم.
وربما لا زلت
أنا وحدي
الذي أعرف
أنه عاش.
هدوء
العناقيد ناضجة، الحقل محروث،
الجبل يخلص نفسه من السحب.
على مرايا الصيف المتربة
سقط الظل،
بين الأصابع المترددة
ضوءها واضح
وبعيد.
مع «السنونو» يطير
آخر ألم ممزق.
مساء
عند أقدام ممرات المساء
يجري ماء ناصع
بلون الزيتون،
ويبلغ النار القصيرة بغير ذاكرة
في الدخان أسمع الآن أصوات الجنادب والضفادع،
حيث يرتعش العشب
رعشة رقيقة.
لا تصرخوا بعد الآن
كفوا عن قتل الموتى،
لا تصرخوا بعد الآن، لا تصرخوا
إن كنتم ما زلتم تريدون
أن تسمعوهم،
إن كنتم ترجون
ألا تفنوا.
همسهم لا يحس
ما عادوا يحدثون ضجيجا
إلا كنمو العشب
الذي يسعده ألا يمشي عليه إنسان.
فقدت كل شيء
فقدت كل شيء من الطفولة
وما عدت أستطيع
أن أفقد ذاكرتي في صيحة.
دفنت الطفولة
في أعماق الليالي
وهي تفصلني الآن
كسيف لا يرى
عن كل شيء.
أذكر عن نفسي
إنني لقيت المجد
في حبك
وها أنا ذا ضائع
في لا نهائية الليالي!
يا يأسا يزداد بلا انقطاع
لم تعد الحياة عندي - وهي حبيسة في عمق لهاتي -
غير صرخة من الصرخات .
الأنهار
استند إلى هذه الشجرة الجريحة
المهجورة في هذا الأسى
الذي يشبه فتور سيرك
قبل العرض أو بعده،
وأرقب السحب
وهي تعبر في هدوء
على (صفحة) القمر.
في هذا الصباح تمددت
في وعاء ماء
ورقدت هناك
كأنني مومياء،
نهر «الأيزونسو» الجاري
جعلني لامعا
كأحد أحجاره
وضعت على
أطرافي الأربعة
ومضيت
كما يمضي بهلوان
فوق الماء.
أقعيت
بجوار ملابسي
ملوثا بالحرب
ومثل بدوي
ملت برأسي
لأستقبل الشمس
هذا هو «الأيزونسو»
وهنا، أفضل من كل مكان،
عرفت نفسي
خيطا لينا
في (نسيج) الكون.
عذابي
حين لا أجد نفسي
في إنسجام.
لكن هذه الأيدي
الخفية
التي تصنعني
تغدق علي
السعادة النادرة
عبرت
بعصور حياتي
هذه هي أنهاري
هذا هو ال «سيركيو»
الذي أستقي منه
ربما لألفي عام
أهلي في الريف
وأبي وأمي،
هذا هو النيل
الذي رآني
أولد وأنمو
وأحترق بجهلي
في السهول الممتدة،
هذا هو السين
وفي لجته
تنبهت
وعرفت نفسي،
هذه هي أنهاري
يروي عنها الأيزونسو،
هذا هو حنيني
يتجلى لي
في كل منها
بعد أن جاء الليل
وبدت لي حياتي
زهرة من الظلال.
أغنية
من جديد أرى فمك البطيء (بالليل يتقدم البحر ليلقاه)
وأرى فرس فخذيك
يسقط متهالكا
بين ذراعي اللتين كانتا تغنيان،
وأرى نوما يعيد إليك
نضارة جديدة وموتا جديدا
والوحدة الشريرة
التي يكتشفها في نفسه كل من يحب
كأنها الآن قبر لا متناه
يفصلني إلى الأبد عنك.
حبيبتي، بعيدة أنت كما في مرآة.
1932م
بلا وزن
من أجل إله يضحك كالطفل،
صيحات كثيرة من العصافير،
رقصات كثيرة في الأغصان،
نفس تتخفف من وزنها
7
المروح رقيقة رقيقة،
وفي العيون يبعث الصفاء،
الأيدي كالأوراق
مسحورة في الهواء ...
من يخاف بعد الآن
من يحكم؟ «عاطفة الزمن»، 1933م
ملالة
8
سكون، عندما ارتفع بأكمله
الجسد المر
9
الذي أتجه نحوه.
اليد التي مدتها إلي كانت مشعة
كلما تقدمت إليها ابتعدت
ها أنا ذا ضائع في هذا السعي العقيم.
عندما تموج الصباح تمددت
وضحكت، وسرقت شيئا من عيني
صبية الجنون، أيتها الملالة،
ما أقل ما كنت نشوانة وحلوة!
لم لم تتبعك الذاكرة؟
أتكون هديتك سحابة؟
هي همسة، تزحم الأغصان
بالأغنيات البعيدة.
ذكرى، صورة عابرة،
ضحكة اكتئاب،
ظلام دم.
كمثل نبع خجول في ظل
قديم لأشجار زيتون
تعودين لتهدهديني ...
في صباح لم يزل سرا،
ربما ما زلت أشتاق لشفتيك
ليتني لا أعرفهما بعد الآن!
سان مارتينو دل كارزو
10
من هذه البيوت
لم يبق شيء
إلا أطلال،
من الجدار
من الكثيرين
الذين كانوا قريبين مني
لم يبق شيء
حتى ولا هذا،
لكن في القلب
لا ينقص صليب
قلبي
هو أشد البلاد
عذابا.
ذكرى من أفريقيا
الشمس تقهر المدينة
العين لا ترى شيئا
ولا القبور نفسها تقاوم طويلا.
ليلة مايو
السماء تضع
على رءوس المآذن
أكاليل نور.
هذا المساء
حاجز من الريح
كي يسند حزني
في هذا المساء
سؤال
من أية كتيبة أنتم
يا إخوتي؟
كلمة ترتعش
في الليل
ورقة لم تكد تولد
في الهواء المثير
تمرد غير مقصود
لرجل
يعرف ضعفه
إخوتي.
صباح
أستضيء
باللانهاية.
ملاك الفقراء
الآن حيث يغزو العقول المطموسة
إشفاق غليظ بالدم والطين،
الآن حيث يثقلنا مع كل نبضة قلب
صمت كل هذا العدد من الموتى والمظلومين،
الآن فليستيقظ ملاك الفقراء،
رقة الروح التي لا تزال على قيد الحياة ...
بتلك الإشارة التي لا تمحى على مر الأزمان
فليهبط على رأس شعبة العجوز
وسط الأشباح ...
جنود
يقفون
كما في الخريف
على الأشجار
ورقة ورقة.
فرحة السفن الغريقة،
وفجأة
نستأنف الرحلة
كما يفعل
دب البحر
بعد غرق السفينة.
الميناء المدفون
هناك يصل الشاعر
ثم يلتفت إلى النور بأغانيه
وينثرها
من هذا الشعر
يبقى لي
ذلك العدم
الذي لا ينفد سره.
أبدي
بين زهرة مقطوفة وأخرى مهداة
عدم لا يوصف.
غروب
احمرار السماء
يوقظ واحات
لراعي الحب.
كون
من البحر
صنعت لي
نعشا من النضارة.
لعنة
حبيسا بين أشياء فانية (كذلك ستفنى السماء ذات النجوم)
ما الذي يجعلني نهما إلى الله؟
البحر
ما عاد يرعد، ما عاد يهمس البحر،
البحر.
يثير الشفقة أيضا، يثيرها البحر،
البحر.
سحب غافلة تحرك البحر،
البحر.
الدخان الحزين يترك الآن فراشة البحر،
البحر.
هو أيضا مات، انظر، البحر،
البحر. (3) سلفاتور كواز يمودو (1901م-؟)
شتاء قديم
رغبة يديك الواضحتين
في ضوء اللهب الشاحب:
تفوحان برائحة خشب السنديان والورد؛
بالموت. شتاء قديم.
الطيور فتشت عن الحب
وفجأة صارت ثلجا؛
كذلك الكلمات:
شمس صغيرة، مجد ملاك،
ثم الضباب؛ والأشجار،
ونحن مخلوقات من هواء.
وفجأة يقبل المساء
كل إنسان يقف وحيدا على قلب الأرض
ينفذ فيه شعاع من ضوء الشمس:
وفجأة يقبل المساء.
إنسان عصري
11
ما زلت رجل الحجر والمقلاع
يا إنسان عصري. كنت في مقعد قيادة الطائرة،
ذات الأجنحة الشريرة، في ظهيرة الموت، - رأيتك - في عربة النار، فوق المشانق،
على عجلات التعذيب، رأيتك؛ كنت أنت،
بعلمك الدقيق الذي يبغي الخراب،
بغير حب، بغير مسيح، عدت إلى القتل،
كعهدك دائما، كما قتل الآباء، كما قتلوا
الحيوانات التي رأوها أول مرة.
وهذا الدم تفوح رائحته كما فاحت
يوم قال الأخ لأخيه الآخر: «لتمض إلى الحقول.» وهذا الصدى البارد، العنيد،
قد وصل إلى جوارك، داخل يومك.
انسوا، أيها الأبناء، سحب الدم
الصاعدة من الأرض، انسوا الآباء؛
إن قبورهم تغوص في الرماد،
الطيور السوداء، الريح، تغطي قلوبهم.
شتاء قديم
لهفة إلى يديك، الساطعتين،
في ظل اللهب الباهت:
12
فاحت (برائحة) تابوت من (شجر) البلوط، وبالورد،
بالموت. شتاء قديم.
الطيور بحثت عن الطعام
وفجأة صارت ثلجا؛
كذلك الكلمات.
قليل من الشمس، هالة ملائكية،
ثم الضباب؛ والأشجار،
ونحن في الصباح من هواء.
1942م
الآن يرتفع النهار
مضى الليل، والقمر
يخلص نفسه على مهل في السماء الصافية.
يغيب في القنوات.
سبتمبر مفعم بالحياة في هذه البلاد
ذات السهول، المراعي خضر
كما في وديان الجنوب وقت الربيع.
هجرت الرفاق،
خبأت الفؤاد داخل الجدران القديمة،
لأبقى وحيدا أفكر فيك
كم أنت أبعد من القمر،
الآن، بينما يرتفع النهار
وتدق على الرصيف حوافر الخيل!
1942م
محاكاة الفرح
حيث الأشجار
تزيد المساء وحشة،
كم كانت واهنة
خطوتك الأخيرة وهي تتلاشى!
حين توشك الزهرة أن تتفتح
على شجرة الزيزفون
وتصر على قدرها.
تبحثين عن دافع لمشاعرك،
تجربين الصمت في حياتك.
الزمن المنعكس في المرآة
يكشف لي عن مغامرة أخرى.
الجمال الذي يتجلى الآن في وجوه أخرى
يجعلني حزينا كالموت.
فقدت كل شيء بريء،
حتى في هذا الصوت
الذي يصر على محاكاة الفرح.
رسالة إلى الأم «يا أمي الحبيبة، الآن يهبط الضباب،
قناة «النافيليو» تضرب جسورها في غموض،
الأشجار تنتفخ بالماء، تحترق بالثلج؛
لست حزينا في الشمال،
لست في سلام مع نفسي
لكني لا أنتظر المغفرة من أحد.
كثيرون يدينون لي بالدموع
كما من رجل لرجل
أعلم أنك لست على ما يرام،
أنك تعيشين كما تعيش كل أمهات الشعراء،
فقيرة وعادلة في مقياس الحب
للأبناء البعيدين.
أنا الذي أكتب اليوم إليك.
ستقولين، أخيرا تصلني كلمتان
من الولد الذي هرب في الليل
على كتفيه معطف قصير
وفي جيبه بضعة أشعار.
مسكين، حسن النية،
سيقتلونه يوما من الأيام في مكان ما. «يقينا»، ما زلت أذكر،
تلك الساحة الكئيبة ذات القطارات البطيئة
التي كانت تحمل اللوز والبرتقال إلى مصب «الإيمرا»
النهر الممتلئ بطيور العقعق،
13
والملح، وأشجار الكافور.
غير أني الآن،
أريد أن أشكرك، على السخرية
التي وضعتها على شفتي
الوديعة كشفتك.
أنقذتني تلك الابتسامة من البكاء والأحزان.
ولا يهم الآن أنني أحمل دمعة لك،
لكل الذين ينتظرون مثلك،
ولا يدرون ماذا ينتظرون.
آه، أيها الموت الرحيم،
لا تلمس ساعة المطبخ التي تدق فوق الحائط.
طفولتي كلها قد مرت على مينائها،
على هذه الزهور المرسومة عليها.
لا تلمس أيدي العجائز،
لا تلمس قلوبهم
ربما أجاب أحدهم!
آه يا موت الرحمة، يا موت الخجل.
الوداع يا حبيبتي،
الوداع يا أمي المحبوبة.»
آه يا حيواناتي الحلوة
آه يا حيواناتي الحلوة،
الآن يتلف الخريف اخضرار التلال.
سوف نسمع من جديد،
قبل أن يهبط الليل،
الشكوى الأخيرة من (أفواه) الطيور.
نداء السهل الأغبر وهو يزحف
ليلتقي بضجة البحر العالية.
ورائحة الخشب في المطر،
رائحة الجحور،
ما أجمل الحياة هنا بين البيوت،
بين الناس، يا حيواناتي الحلوة!
هذا الوجه الذي يدير عينيه حوله في بطء،
هذه اليد التي تطبع علامة على السماء حيث يدوي صوت الرعد،
هما وجهك ويدك، يا ذئابي،
يا ثعالبي المحترقة بالدم.
كل وجه، كل يد، فهي لك.
تقولين لي، كل شيء كان عبثا،
الحياة، الأيام التي جرفتها المياه الثابتة
بينما يرتفع من الحديقة غناء الأطفال.
لعلهم الآن بعيدون عنا؟
لكنهم يتراجعون في الهواء،
أشبه بالظلال.
هذا صوتك.
لكن ربما كنت أعرف
أن كل هذا لم يكن له وجود.
شارع في أجريجنت
هناك تبقى ريح أتذكرها
ملتهبة في أعراف الجياد المنحدرة
وهي تتسابق فوق السهول،
ريح تتلف الحجارة وتنخر
في قلب الأعمدة القاتمة،
المقلوبة على الأرض.
أيتها الروح العجوز،
يا من شيبتك الأحقاد،
عودي إلى تلك الريح،
تنفسي أريج العشب
الذي يدثر العمالقة
التي قذفت بها السماء.
يا لوحدتك في الفراغ الذي بقي لك!
ويزداد أساك كلما سمعت الصوت
الذي يبتعد تجاه البحر
حيث ترسم نجمة الغرب خيوط الصباح:
قيثارة اليهودي ترتعش محزونة
على فم الحوذي
وهو يصعد التل
الذي طهره ضوء القمر،
بطيئا بين همسات الزيتون العربي.
من قلعة برجامو العالية
14
سمعت صيحة الديك في الهواء،
خلف الجدران، وراء الأبراج
تقشعر بنور لم تعرفه
الصيحة المرعدة للحياة،
وهمس الأصوات في الزنزانات،
ونداء الطير الحارس قبل الفجر
ولم تقل لنفسك كلمة
كنت الآن في دائرة الشعاع القصير:
وصمت الريم ومالك الحزين
وقد ضاعا في زوبعة دخان شرير،
تمائم عالم ولد لساعته.
ومر قمر فبراير
طليقا فوق الأرض:
لكنه لم يكن بالنسبة لك
غير صورة في الذاكرة، تضيء في صمتها.
أنت أيضا بين أشجار السرو في القلعة
أذهب الآن بلا ضجيج؛
والغضب هنا تهدئه خضرة الأموات الشبان،
والحسرة البعيدة كادت تصبح فرحة.
يوما بعد يوم، 1947م
في فرنسا
(1) بول فيرلين (1844-1896م)
استشرف عبر الهمسات
بالإطار الرهيف للأصوات القديمة
ومن خلال اللمع المنغمة،
يا حبي الشاحب، بفجر مقبل!
نفسي وقلبي في حمياهما
ليسا سوى عين مزدوجة
يخفق فيها خلف نور عكر
لحن سرى من كل قيثار!
أواه ! أن أموت الميتة الوحيدة
التي تهدهدها دائما، يا حبي الخائف الغالي
هنا وهناك الساعات الشابة والقديمة
أواه أن أموت فوق هذه الأرجوحة!
شارلروا
في العشب الأسود
تسري الأرواح
1
وأنين الريح
شجو ونواح
2
يا للإحساس!
الأذرة تصفر.
والغصن يرف
في عين العابر،
وبيوت تبدو
مثل الحانات.
والأفق شبيه
بالفرن الأحمر!
3
يا للإحساس!
السكة ترعد،
4
والأعين تسأل
عن شارلروا!
عطر نفاذ
بشع، ما الأمر؟
ما هذا الصوت
يصفر ويئز؟
5
بيد وحشية
يا للأنفاس!
وصراخ المعدن
من عرق الناس!
في العشب الأسود
تسري الأرواح
وأنين الريح
شجو ونواح.
الأيام الجميلة الكاذبة ...
الأيام الجميلة الكاذبة يا نفسي المسكينة، شعشعت طوال النهار،
وها هي ذي الآن ترف في نحاس المساء.
أغمضي عينيك، يا نفسي المسكينة، وارجعي إلى بيتك،
أسوأ الإغراء ما ترين؛ فاهربي من العار!
شعشعت طوال النهار في برد ملتهب طويل،
وراحت تجلد الكروم جميعا على التلال،
وتهلك الحصاد كله في الوادي
وتخرب السماء العميقة الزرقاء
السماء التي تناديك مشتاقة الألحان.
آه فليشحب وجهك ولتمض بطيئة مضمومة اليدين!
ماذا (تفعلين) لو التهم الأمس غدنا الجميل؟
لو كان الجنون القديم لا يزال يسعى في الطريق؟
هذه الذكريات، أحتم أن تقتل من جديد؟
وثبة غاضبة، أقصى الوثبات بلا جدال!
آه! هيا اذهبي وصلي كي تزول العاصفة، هيا للصلاة!
السماء فوق السطوح
السماء من فوق السطوح،
كم هي زرقاء وديعة!
وشجرة، فوق السطوح
تهدهد الأغصان.
ناقوس، في السماء التي تراها،
رنينه عذب.
طائر على الشجرة التي تراها
يشجو بشكواه
يا رب، يا ربي، ها هي ذي الحياة
هادئة بسيطة.
وهذه الضوضاء، طيبة أليفة
تأتي من المدينة،
ماذا تراك جنيت
يا من دموعك لا تجف؟
قل لي وماذا فعلت
بصباك أيام الشباب؟
لست أدري لماذا؟
لست أدري لماذا؟
تطير روحي المرة
بجناح قلق مجنون فوق البحر.
وكل غال عليا
يطويه حبي طيا
بجناح الرعب، فوق الموج: لم ذا؟ ما السر؟
فكري طائر نورس،
تذروه الريح بكل سماء،
ويميل يميل مع الأنواء،
فكري طائر نورس
سكران بالشمس،
نشوان بالحرية ،
تدفعه الفطرة، في هذا الأفق، غير المحدود،
ونسمة الصيف
فوق المياه الشقر
تحمله في لطف، بين الكرى والصحو،
وقد يصيح بحزن
فيفزع الملاح
للريح يسلم أمره، فتارة يعلو، وتارة يهبط
ويرفع الجناح
يدمى من الجراح
ويطلق الصياح
فيجفل الملاح
لست أدري لماذا؟
تطير روحي المرة
بجناح قلق مجنون فوق البحر
وكل غال عليا
يطويه حبي طيا
بجناح الرعب، فوق الموج، لم ذا؟ ما السر؟
أغنية خريف
تنهد نحيب
ترسله الأوتار
في موسم الخريف،
وتجرح القلوب
بالألم الدفين،
بالألم الرتيب.
وبينما الناقوس
يدق في الفضاء
يغلبني بؤسي
تهيجني الذكرى
حزنا على أمسي،
يخنقني البكاء،
أمضي مع الريح
والريح كم تقسو
كتائه يسعى
وليس لي مأوى
كأنني أوراق
ذابلة موتى.
خضرة
هذي ثمار، وأزهار، وأوراق، وأغصان،
ثم هذا قلبي، الذي لا يخفق إلا لك.
لا تمزقيه بيديك البيضاوين،
ولتحل الهدية الصغيرة في عينيك الفاتنتين.
ها أنا ذا أقبل ولا يزال الندى يغمرني
الندى الذي جمدته ريح الصباح على جبيني
اسمحي أن يستريح تعبي عند قدميك
فيحلم باللحظات الغالية التي تسري عنه
دعي رأسي يتقلب على صدرك الريان
رأسي الذي ما يزال يرجع صدى قبلاتك الأخيرة
6
دعيه يسترح من العاصفة الرهيبة،
وأنام قليلا ما دمت تهجعين.
فن الشعر
الموسيقى أولا وقبل كل شيء!
وعليك من أجل هذا أن تتخير الفريد،
7
الذي يشتد غموضه ويتبخر بسهولة في الهواء،
ويخلو من الثقل والرغبة في التظاهر والاستعراض.
عليك أيضا أن تنظر إلى انتقاء الكلمات
بشيء غير قليل من الاحتقار:
8
فما من شيء أثمن من أغنية غائمة
يلتحم فيها الغموض بالوضوح
إنها أشبه بعينين جميلتين خلف نقاب،
وهي النهار الحار المرتجف في الظهيرة،
وهي الزرقة التي ترف فيها النجوم الساطعة
تحت سماء خريف شديدة الفتور!
فنحن ما زلنا في حاجة للظلال،
للظلال وحدها، لا للألوان!
آه! فالظل وحده هو الذي يستطيع
إن يجمع الحلم مع الحلم، ويوحد بين الناي والبوق!
تجنب ما استطعت الحذلقة القاتلة،
والقفشة البارعة والنكتة الفاجرة،
وكل هذه التوابل والملح الجوفاء
التي تدفع الدموع إلى عين السماء الزرقاء!
خذ الفصاحة واكسر عنقها!
ستحسن صنعا، وأنت تمارس التجربة،
أن تصقل القافية وتضفي عليها قليلا من النظام،
أما ما سيكون بعد ذلك، فشيء لا يعلمه الإنسان.
كم من حماقة تنطوي عليها القافية!
كم من طفل أصم وكم من زنجي مجنون
استطاع أن يسبك هذا العبث الرنان
الذي يتردد صداه الأجوف الزائف تحت ثوب الإحكام!
الموسيقى مرة أخرى وعلى الدوام!
ليكن شعرك كالنفس الناعم الخفاق
نحسه يرف من روح إلى روح
منطلقا نحو سماوات أخرى ونحو حب جديد!
ليكن شعرك مغامرة جسورة
منثورة في نسائم الفجر الندية
التي تحمل نفحات المسك والنعناع ...
وكل ما خلا ذلك فهو الأدب المصنوع. (2) بول فاليري (1871-1945م)
آلهة القدر الشابة (مقتطفات)
الربيع
أنصت ... لا تطل الانتظار ... السنة التي تولد من جديد
تنبئ دمي كله بحركات خفية:
الثلج يسلم في أسى درره الأخيرة ...
غدا، على تنهيدة من عقود الحنان الساطعة كالنجوم،
يأتي الربيع ليكسر أختام الينابيع:
الربيع المدهش يضحك، يغتصب ... لا يدري أحد من أين يجيء؟
لكن الصفاء يسيل من كلمات بلغت من العذوبة
أن يشد الحنان الأرض من أحشائها ...
الأشجار التي عادت فانتفخت وتغطت بالقشور
وأثقلت بأذرع كثيرة وآفاق بلا عدد،
تحرك أصواتها الراعدة تجاه الشمس
ترتفع في الهواء المر بكل أجنحتها
من أوراق بالآلاف تحس بجدتها ...
أولا تسمعين حفيف هذه الأسماء الهوائية،
أيتها الصماء! ... وفي الفضاء المثقل بالأغلال
المهتز المرتج بالغابة الحية الملتوية عند الأطراف،
تجدف الشجرة الطيعة في اتجاه الآلهة وعكس اتجاهها،
الغابة الطافية التي تحمل جذوعها الغليظة ...
في خشوع إلى جباهها المتقلبة الهوى،
عند البدايات المشقوقة لجزر الأرخبيل الفخمة
نهرا رقيقا، إيه يا موت، ومخفيا تحت الأعشاب!
1917م
الغابة الودود
9
رحنا نتفكر في أشياء نقية
على طول الدروب، جنبا لجنب،
نتجول صامتين، يدا في يد
في ظل الأزهار الغامضة.
سارت خطانا مثل خطبين
وحيدين في ليل البراري الأخضر؛
تقاسمنا هذه الفاكهة التي أطلعتها الجنيات:
القمر صديق المخبولين.
ثم متنا على الطحالب
بعيدا، وحيدين في حضن الظل الرقيق؛
ظل هذه الغابة الحميمة الهامسة،
وهناك في الأعالي، في الضوء الباهر،
التقينا ونحن نذرف الدموع،
آه يا رفيقي الغالي، أنت يا رفيق صمتي!
دعاء لدمعة
لن أبتهل لغير ومضاتك الضعيفة، (أنت يا من) طالما تمنيت أن تذوبي على وجهي،
أيتها الدمعة الوشيكة، يا من تستطيعين وحدك أن تجيبيني،
أيتها الدمعة التي ترعش أمام نظرتي البشرية
عديدا من الطرق الجنائزية؛
أنت تأتين من الروح، فخر متاهة (الجسد)
ترفعين عن القلب هذه القطرة المكتومة،
هذا التشتيت لعصيري النفيس
الذي يضحي بظلالي على عيني،
يا قربانا رقيقا لفكري الخفي!
من مغارة خوف محفورة في أعماقي
ينضح الملح الغامض الماء في صمت.
من أين تنبعين؟ أية مشقة حزينة أبدا وجديدة
تشدك بعد الأوان، أيتها الدمعة، من الظلام المرير؟
أنت تصعدين درجاتي، (درجات) فانية وأم،
وبينما تشقين طريقين، أيها العبء العنيد،
في الزمن الذي أحياه، يخنقني إبطاؤك ...
ألوذ بالصمت، وأنا أشرب مسيرك الأكيد ...
من يدعوك لنجدة جرحي الشاب؟
عن آلهة القدر الشابة، 1917م
باطن
أمة ضيقة العينين، تثقل نظرتها السلاسل الناعمة،
تغير ماء أزهاري، تغوص في المرايا القريبة،
تسخو بيديها الصافيتين في الفراش الغامض؛
تضع بين هذه الجدران امرأة،
تجوس لطيفة في حلمي،
تمر بين نظراتي بغير أن تكسر شرودها،
كما يمر كأس خلال الشمس،
وتترك مظهر الفكر الخالص لم يمس.
1921م
الخطى
خطاك، أطفال صمتي،
قدسية وبطيئة،
نحو فراش يقظتي،
تتقدم خرساء مثلجة.
كيان نقي، ظل إلهي،
ما ألطفها، خطاك المتئدة!
أيتها الآلهة ...! كل الهبات التي أنتظر
توافيني على هذه الأقدام العارية!
إن أردت، بشفتيك الممدودتين،
أن تحملي السلام،
إلى المعتاد من أفكاري
وتهبيه طعام قبلة،
فلا تتعجلي هذا الفعل الرقيق -
حلاوة أن نكون ولا نكون -
لأنني عشت على انتظارك
وقلبي لم يكن إلا خطاك.
1921م
المقبرة البحرية
10
هذا السقف الهادئ، الذي يخطو عليه الحمام
يرف بين أشجار الصنوبر، بين القبور؛
والظهيرة العادلة تشمله بالنيران
البحر، البحر، الذي يبدأ على الدوام ويعيد!
يا لها من نعمة بعد تفكير عميق
في نظرة طويلة إلى هدوء الآلهة!
أي عناء خالص للبروق اللطيفة يستنفد
جواهر كثيرة من الزبد غير المنظور،
وأي سلام يبدو كأنه يتخلق!
11
عندما تستريح شمس على الهاوية،
كأعمال خالصة لقضية أبدية
يتألق الزمن ويصبح الحلم معرفة.
أيها الكنز الثابت، يا معبد منيرفا البسيط،
يا كتلة الهدوء ومدخر الرؤية،
أيتها المياه المتعالية، أيتها العين التي تختزن في أعماقها
كل هذا النوم تحت نقاب من اللهب
إيه يا صمتي! ... يا بناء في روحي
وإن تكن قمته الذهبية ذات ألف سقيفة، يا أيها السقف!
يا معبد الزمن الذي تلم به تنهيدة واحدة،
إلى هذه البقعة الطاهرة أصعد وتعتاد نفسي،
محاطا من كل جانب بنظرتي المفعمة بالبحر،
وبينما أقدم للآلهة قرباني الأسمى
يبذر الألق الصافي على الذروة
احتقارا لا حدود لسطوته.
كما تذوب الفاكهة في المتعة،
وكما تحول غيابها إلى لذة
في فم يتبدد
12
فيه شكلها
أتنسم أنا هنا مستقبلي (الملتف) بالدخان
13
والسماء تغني للروح المجهدة
تغير الشواطئ المغمغمة.
أيتها السماء الجميلة، أيتها السماء الحقة، انظري إلي ترينني أتحول!
بعد كل هذا الغرور، بعد كل هذا الخمول الغريب
14
الحافل مع ذلك بالقوة،
ها أنا ذا أسلم نفسي لهذا الفضاء اللامع،
فوق بيوت الموتى يعبر ظلي
الذي تروضني حركته الواهنة.
بروحي المتعرية لمشاعل الشمس في ميلها الأعظم،
أحتملك (بكل كياني)
15
يا عدالة النور الرائعة
ذات الأسلحة التي لا ترحم!
وأردك خالصة إلى موضعك الأول:
انظري ذاتك! ... لكن إعادة النور إلى منبعه
تفترض نصفا محزونا من الظلال!
16
آه، من أجلي أنا وحدي، لي أنا وحدي، في أنا وحدي،
بجوار قلب، عند منابع الشعر،
بين العدم والحدث الخالص،
أنتظر. (متسمعا) أصداء عظمتي الداخلية،
هذا المستودع المرير، المعتم، الجهير،
الذي يردد في النفس خواء مستقبلا أبدا
أتعلمين أيتها الأسيرة الزائفة لأوراق الشجر،
أيها الخليج الذي يلتهم هذه المشربيات النحيلة:
وأنت أيتها الأسرار المبهرة فوق عيني المغمضتين:
أي جسد يجرفني إلى غايته البليدة،
أي جبين يجتذبه إلى هذه الأرض، أرض العظام،
حيث تتفكر شرارة منه في الغائبين عني؟
مغلق، مقدس: ممتلئ بنار خالصة من المادة :
قطعة من الأرض موهوبة للنور،
يعجبني هذا المكان الذي تحكمه المشاعل. (و) يتكون من الذهب والأحجار، والأشجار المعتمة،
حيث يرتجف كل هذا المرمر فوق كل هذه الظلال،
البحر الوفي يرقد هناك فوق قبوري؛
أيتها الكلبة الباهرة، طاردي الوثني!
إن وجدتني وحيدا وعلى فمي ابتسامة الراعي،
أقف طويلا مع الخراف الغامضة،
مع القطيع الأبيض من قبوري الساكنة،
فأبعدي عنها الحمامات الذكية (و) الأحلام الباطلة، والملائكة الفضوليين!
ما دمنا قد جئنا هنا، فالمستقبل خمول،
17
الحشرة الحادة تخدش الجفاف،
وكل شيء احترق، تحلل، وذاب
في جوهر صارم لا أدريه ...
الحياة شاسعة؛ إذ هي مخمورة بالغياب
والمرارة عذبة، والذهن صاف.
الموتى المختبئون
18
في حال طيبة تحت هذه الأرض
التي تدفئهم وتجفف سرهم.
الظهيرة في الأعالي هناك، الظهيرة بلا حراك.
تتفكر في ذاتها، مكتفية بذاتها ...
أيها الرأس الكامل والتاج المكتمل
أنا في داخلك التغير الخفي.
ليس لك إلاي مثوى لمخاوفك!
ندمي، شكوكي، قهري
هي العيب (الكامن) في ماستك العظيمة ...
ولكن في ليله المثقل بكتل الرخام،
قد انحاز إلى جانبك في بطء
شعب غامض عند جذور الأشجار.
لقد ذابوا في غياب سميك،
وتشرب الطين الأحمر النوع الناصع البياض،
هبة الحياة قد انتقلت إلى الزهور!
أين من الموتى العبارات المألوفة؟
أين الفن الذاتي، والنفوس الفريدة؟
ها هي ذي يرقات الدود تغزل حيث انسكبت الدموع.
الصيحات الحادة من الفتيات الماجنات،
العيون، والأسنان، والجفون الندية،
النهد الساحر الذي يعبث باللهب،
والدم الذي يلمع في الشفاه المستسلمة.
العطايا الأخيرة، والأصابع التي تذودها،
كل ذلك يثوى تحت الأرض ويدخل في اللعبة.
وأنت، أيتها الروح الرائعة. هل تأملين في حلم
لا تكون له هذه الألوان الكاذبة
التي تصنعها هنا، لأعين الجسد، الموجة والذهب؟
أتراك ستواصلين الغناء عندما تتبخرين في الهواء؟
إليك عني! كل شيء ينقضي! إن كياني مملوء بالمسام،
وحتى نفاد الصبر المقدس يموت بدوره!
أيها الخلود النحيل أسود مذهبا،
يا واهب العزاء المثقل بحمل نحيف من أكاليل الغار،
يا من تجعل من الموت صدر أم حنون،
يا للأكذوبة الجميلة والخدعة الورعة !
هذه الجمجمة الخاوية وهذه الضحكة الأبدية
من ذا الذي لا يعرفهما ومن ذا الذي لا يرفضهما!
أيها الآباء بعيدو الغور، أيتها الرءوس التي لا يسكنها أحد،
يا من تحت وطأة كل هذا التراب،
تصبحون أنتم الأرض وتربكون خطانا،
إن القارض الحقيقي، الدودة التي لا يناقضها شيء،
19
لم تخلق لكم يا من ترقدون تحت الرخام،
إنها تحيا على الحياة، إنها لا تفارقني!
ألعله الحب، أم الكره لي؟
إن نابها الخفي القريب مني
بحيث تصلح له كل الأسماء!
20
ماذا يهم! إنها ترى، وتريد، وتحلم، وتلمس!
إن لحمي يعجبها، وحتى في فراشي
أعيش لكي أصبح ملكا لذلك الكائن الحي!
21
زينون! يا زينون القاسي! يا زينون الأيلي!
أنفذت في هذا السهم المجنح
الذي يرف، ويطير، ولا يطير!
إن الصوت ينجبني والسهم يقتلني!
آه! الشمس! ... يا لظل سلحفاة (يخيم) على الروح،
يا لأخيل الجامد بخطواته الشاسعة!
لا، لا! ... وقوفا في الأحقاب المتتالية!
حطم، يا جسدي، هذا الشكل المتفكر!
وعب، يا صدري، من مولد الرياح!
إن النداوة التي يجود بها البحر
تعيد إلى روحي ... يا للقوة المالحة!
لنعدو إلى الأمواج لننبثق منها أحياء!
نعم أيها البحر العظيم الموهوب بنعمة الهذيان،
يا جلد الفهد، يا عباءة تثقبها
آلاف وآلاف من أوثان الشمس،
22
أيتها الهيدرا
23
المطلقة، النشوى بجسدك الأزرق،
يا من تعضين ذلك الملتمع
في ضجيج أشبه بالصمت
ها هي الريح تعلو! ... يجب أن نحاول الحياة!
الهواء الهائل يفتح كتابي ويطويه،
والموجة المنسحقة ترابا تحاول الانبثاق من الصخور،
طيري، أيتها الصفحات البراقة!
حطمي يا أمواج! حطمي بمياه فائرة بالبهجة؛
هذا السقف الهادئ الذي كانت تنقره الشراع.
1922م (3) ماكس جاكوب (1876-1944م)
الحرب
الشوارع الخارجية يغطيها بالليل ثلج كثير؛
قطاع الطرق جنود؛ يهاجمونني بالضحكات والسيوف،
يعرونني: أنجو بنفسي لأقع في مربع آخر.
الثلج يسقط! يشكونني بحقنة: إنه سم
يراد به قتلي، رأس هيكل عظمي محجب
بالكريشة يعضني في إصبعي. مصابيح باهتة
تلقي ضوء موتي على الثلج.
قصيدة القمر
على صفحة الليل نبتات من عش الغراب، هي القمر.
على غير انتظار ، كما يغني «كوكوك» ساعة، تغير
مكانها كل شهر عند منتصف الليل. في الحديقة
تنمو زهور نادرة، هي أقزام نائمة تصحو كل صباح. في حجرتي المظلمة
سفينة صغيرة مضيئة تتجول هنا وهناك، ثم سفينتان ... سفن
هوائية من الفسفور، هي انعكاسات مرآة.
في رأسي نحلة تتكلم.
ألوان السحر
استيقظي أيتها الغربان. اخرجي من ضباب السحر،
وانفضي عنك أعلام النوم السوداء،
أبلغي شطآن الظلام الخداع
التي عاقها حلم الأغوار الثقيل؛
أن نداءك الغاضب هو الأرض.
كانت ترجو النهار، فأعلني الآن: «بدأ النوم!»
السحب الفضية تحيي الأحجار:
والنهار مع الليل يحتفلان بعيد الفصح الأبدي.
على السواحل الطباشيرية يتفتح جفن:
تكلم يا غراب نوح: أهي بقايا الطوفان؟
نافذة الإنسان ونظرته الغارقة في الآفاق!
والثيران التي حكم عليها من قديم الزمان
أن تحمل معابد الآلهة الموتى، وحظائر الأحياء،
اقتربت من الظلال والأمواج الوضاء،
وشربت من الماء الجاري وهي تكشف له الأسنان.
ثم صرخت الأرض كأنما انتزع من إصبع مسمار:
وذعرت أسراب الطيور خائفة من الظلال،
الأرض تهيأت لتقديم مذابحها
24
اليومية:
والمولد والممات خرجا من أعواد الغاب.
خالدا وصامتا أشبه بالحصن المنيع،
تخترمني الأيام عاما بعد عام.
كل صباح عندي فهو صباح شتاء
والموت انحنى على بيتي من زمن طويل. (4) جيوم أبوللينير (1880-1918م)
منطقة (مقتطفات)
أخيرا تعبت من هذا العالم القديم.
أيها الراعي. يا برج إيفل، قطيع الجسور يعوي في هذا الصباح.
سئمت الحياة في العهود الإغريقية والرومانية القديمة.
حتى السيارات تبدو هنا وكأنها قديمة قدم الإزل.
الديانة وحدها بقيت جديدة كل الجدة، الديانة
بقيت بسيطة كقاعات المطار.
رأيت صباح اليوم شارعا جميلا نسيت اسمه
جديدا ونظيفا، كان دوي بوق الشمس.
المديرون، العمال، وكاتبات الاختزال الجميلات
يمرون فيه من صباح الاثنين إلى مساء السبت كل يوم أربع مرات.
كل صباح تنوح صفارة الإنذار فيه ثلاث مرات،
ناقوس غاضب يعوي في منتصف النهار،
الكتابات المنقوشة على اللوحات والجدران،
الإعلانات واللافتات تصرخ كالببغاوات.
أحب رقة هذا الشارع الصناعي.
إنه يقع في باريس، بين شارع أومو-تييفيل وميدان تيرن.
ها هو ذا الشارع الشاب، وأنت طفل لا تزال
أمك لا تلبسك إلا الأزرق والأبيض ...
الآن تسير وحدك في باريس بين الجماهير،
قطعان الحافلات تزأر بجانبك.
قلق الحب يخنق لهاتك،
كأنه ليس من حقك أبدا أن تحب من جديد
لو عشت قديما لدخلت الدير.
إنكم تخجلون من أنفسكم عندما تلاحظون فجأة أنكم تصلون،
أنت تسخر من نفسك، وضحكتك تئز كنار الجحيم،
شرارات ضحكتك تكسو بالذهب أعماق حياتك.
إنها لوحة معلقة في متحف كئيب،
وفي بعض الأحياء تذهب لتراها عن قرب ...
أنت الآن على شاطئ البحر الأبيض،
تحت أشجار البرتقال التي تزهر طوال العام،
تتنزه مع أصدقائك في قارب ...
أنت في حديقة فندق في ضواحي براغ،
تحس أنك في غاية السعادة. هناك وردة على المائدة،
وبدلا من كتابة قصتك النثرية
تراقب الجرادة الذهبية النائمة في قلب الوردة ...
تقف أمام مائدة بار حقير،
تشرب بين التعساء قهوة رخيصة.
أنت بالليل في مطعم كبير،
هؤلاء النساء لسن شريرات، ومع هذا فلديهن همومهن.
كلهن، حتى أشدهن قبحا، قد سببت لعشيقها العذاب.
إنها ابنة جاويش في مدينة جيرسي،
يداها اللتان لم أرهما، متورمتان وخشنتان،
أحس بشفقة بالغة نحو الخيوط في بطنها.
أنت وحيد، الصبح وشيك .
بائعو اللبن ترن قدورهم في الشوارع.
وأنت تشرب هذه الخمر الملتهبة كحياتك،
حياتك التي تشربها كما لو كانت نبيذا محترقا
25
تسير في اتجاه «أوتي»، تريد أن تمشي على قدميك إلى البيت
وتنام بين بدودك
26
المجلوية من الأقيانوسة وغينيا:
إنها صور للمسيح من شكل آخر وعقيدة أخرى،
إنها صور دنيا المسيح الأمل المظلم.
الوداع، الوداع.
شمس، رقبة مذبوحة.
1913م
أغنية المهان (مقتطفات) «إلى بول ليوتو»
وغنيت هذه الخيالية
في سنة 1903 دون أن أدري
أن حبي كالعنقاء،
إن مات ذات مساء
ولد من جديد في الصباح.
ذات مساء في لندن، اكتسى نصفه بالضباب
لقيني صبي فاسد،
كان يشبه حبي،
والنظرة التي ألقاها علي
جعلتني أخفض من الخجل عيني.
تبعت هذا الولد الشرير
الذي راح يصفر ويداه في جيوبه،
كنا ونحن نسير بين ألبيوت - طوفان البحر الأحمر المفتوح -
هو أشبه باليهود، وأنا شبيه فرعون.
لتسقط أمواج هذه الأحجار
إن كنت لم تحب!
أنا حاكم مصر
زوجته وأخته، جيشه
إن لم تكن الحب الوحيد.
على دوران شارع مشتعل
بكل أضواء واجهاته - جراح الضباب الذي ينزف
حيث كانت الواجهات تنوح -
امرأة كانت تشبهه،
كانت نظرتها البشعة،
الندبة على رقبتها العارية.
خرجت سكرانة من حانة
في اللحظة التي عرفت فيها
زيف الحب نفسه.
لما رجع أخيرا إلى وطنه
الحكيم أوديسيوس
تذكره كلبه العجوز،
أمام سجادة رفيعة الخيوط
انتظرت زوجته أن يعود.
زوج ساكونتاله
27
الملكي
فرحت نفسه، وقد سئم الانتصار،
عندما وجدها أكثر اصفرارا
شاحبة العينين من الحب والانتظار
تداعب يداها غزالها الذكر.
فكرت في هؤلاء الملوك السعداء
عندما وجدت الحب الكاذب
والحب الذي ما زلت متعلقا به
تتصادم ظلالهما الخائنة
وتجعلني أشد تعاسة.
أحزان يقوم عليها الجحيم.
لتنفتح لضراعتي سماء النسيان!
لأجل قبلتها كان يموت ملوك العالم.
كان العظماء المساكين
يبيعون ظلهم لأجلها.
قضت الشتاء في ماض.
لتعد شمس الفصح من جديد
لتدفئ قلبا أشد برودة
من الأربعين (شهيدا) في سيباست
28
الذين كان عذابهم أقل من حياتي.
سفينتي الجميلة، آه يا ذاكرتي
أسافرنا بما يكفي على أمواج
لا تصلح مياهها للشرب؟
هل تهنأ بما فيه الكفاية
من الصباح الجميل إلى المساء الحزين؟
وداعا أيها الحب الكاذب
يا حب المرأة التي تبتعد عني
والمرأة التي فقدتها
في العام الماضي في ألمانيا
ولن أراها بعد اليوم.
أيتها المجرة، أيتها الأخت الناصعة
للجداول البيضاء في كنعان
ولأجساد المحبين البيضاء
أنتبع - نحن السباحون الموتى - في خشوع
طريقك إلى أفلاك أخرى في الضباب؟
ما زلت أذكر سنة أخرى.
كل صباح يوم من أيام أبريل
غنيت فرحتي الحبيبة
غنيت للحب بصوت الرجال
في زمن الحب من ذلك العام.
رأس حمراء جميلة
ها أنا ذا أمام الناس جميعا رجل حصيف
29
يعرف الحياة ويعرف عن الموت ما يسع الحي أن يعرفه،
جرب أحزان الحب وأفراحه،
وعرف في بعض الأحيان كيف يفرض آراءه،
ملم بلغات عديدة ،
تنقل بين البلاد،
رأى الحرب في المدفعية والمشاة،
جرح في رأسه وأجريت له عملية التربنة تحت البنج،
فقد أعز أصدقائه في الصراع المخيف،
أعرف عن القديم والجديد كل ما يستطيع واحد بمفرده أن يعرف عنهما،
وبغير أن أعني نفسي اليوم بهذه الحرب
فإنني أحكم - فيما بيننا ومن أجلنا يا أصدقائي -
على هذا النزاع الطويل بين التقليد والتجديد
30
بين النظام والمخاطرة
أنتم يا من خلق فمهم على صورة فم الله
فم هو النظام بعينه،
كونوا متسامحين عندما تقارنوننا
بأولئك الذين كانوا كمال النظام
نحن الذين نبحث عن المخاطرة في كل مكان،
نحن لا نعاديكم
نريد أن نمنحكم مناطق شاسعة وغريبة
يقدم السر المزدهر نفسه فيها لكل من يشاء أن يقطفه،
هناك نيران جديدة وألوان لم يرها أحد من قبل،
ألف خيال عديم الوزن
تحتاج لمن يضفي عليها (ثوب) الواقع
نريد أن نكتشف الحنان، تلك البلاد الشاسعة التي يصمت فيها كل شيء،
هنالك أيضا الزمن الذي يمكن أن يبعد أو يستعاد
ارثوا لحالنا. نحن الذين نحارب دائما
على حدود اللامتناهي والمستقبل
ارثوا لأخطائنا، ارثوا لخطايانا.
ها هو ذا الصيف يعود، فصل العنف!
وشبابي مات كما مات الربيع
أيتها الشمس: هذا زمن العقل المتأجج
وأنا أنتظر، كي أتبعه على الدوام، الصورة النبيلة العذبة
التي يتشكل فيها لأحبه هو وحده،
إنه يقبل ويجذبني كما يجذب الحديد حبيبه المغنطيس
له المظهر العذب
لمعبودة حمراء الشعر،
شعرها من ذهب، بل قد نقول (إنه) وميض جميل يمكن أن يدوم،
أو (شعلات) اللهب التي تزهو
في أزهار الشاي الذاوية.
لكن اضحكوا اضحكوا علي
أيها الناس من كل مكان، وأنتم أيها الناس من هذه البلاد
لأن هناك أشياء كثيرة لا أجرؤ أن أقولها لكم
أشياء كثيرة لن تدعوني أقولها
ارثوا لحالي.
1918م
الحسناء ذات الشعر الأحمر
ها أنا ذا أفوق الجميع بذكائي
أعرف الحياة وأعرف عن الموت بقدر ما في طاقة إنسان
جرب أحزان الحب وأفراحه،
وفرض آراءه في بعض الأحيان؛
إنسان يعرف لغات كثيرة
بعد أن رحل في أسفار عديدة،
ورأى الحرب في المدفعية والمشاة،
وجرح في رأسه وعملت له «التربنة» تحت البنج،
وفقد خيرة أصحابه في الصراع المخيف.
أعرف عن القديم والجديد ما يمكن أن يعرفه عنهما إنسان،
وبغير أن أكثرت اليوم كثيرا بهذه الحرب
أحكم - فيما بيننا يا أصدقائي ومن أجلنا -
على هذا النزاع الطويل حول التراث والاختراع،
وحول النظام والمغامرة.
أنتم يا من خلقت أفواهكم على صورة فم الله،
فمه الذي هو النظام نفسه،
كونوا متسامحين عندما تقارنون بيننا
وبين أولئك الذين كانوا كمال النظام،
نحن الذين نسعى وراء المغامرة في كل مكان.
لسنا أعداء لكم
نحن نريد أن نفتح ممالك شاسعة وغريبة
31
حيث يجود سر الأزهار بنفسه لكل من يحب أن يقطفه
هناك نيران جديدة ألوان لم يرها أحد،
ألف رؤيا لم توضع في ميزان
ولا بد من جعلها حقيقة واقعة
نريد أن نكتشف المروءة والأرض الهائلة التي تصمت فيها الكائنات،
وهناك الزمن الذي لا بد من مطاردته أو إعادته من جديد.
رحمة بنا نحن الذين نناضل باستمرار
على حدود اللامتناهي والمستقبل،
رحمة بأخطائنا رحمة بخطايانا
ها هو ذا الصيف يقبل، موسم العنف الشديد
وشبابي مات كما مات الربيع
إيه يا شمس! هذا زمن العقل الوهاج،
وأنا أنتظر
كي أتبعه دائما ذلك الشكل العذب النبيل
الذي يأخذه كي أحبه دون سواه،
إنه يقبل ويجذبني إليه كما يجذب المغنطيس الحديد،
منظره الساحر الفتان،
منظر ذات الشعر الأحمر الحسناء،
خصلات شعرها من ذهب وقد تقول
إنه برق جميل يدوم،
أو هو اللقب الذي يختال
في ورود الشاي الذابلة،
لكن أيها الناس في كل مكان وأنتم يا أيها المواطنون
اضحكوا علي اضحكوا؛
فكم من أشياء لا أجرؤ أن أقولها لكم؛
أشياء كثيرة لن تدعوني أقولها
رحمة بي. (5) جول سوبرفيي (1884-1960م)
قلب
إلى خورخه جين.
32
يا قلبا بطيئا تعود
ولا يدري علام؟
يا قلبا ثقيلا يطوي
في أعماق يقينه
حقولا بلا أوراق،
شوارع بلا خيل،
سفينة بلا وجوه
وأمواجا بلا مياه.
قد كانت تكفي شمعة
لتضيء العالم
الذي تدور حياتك
حوله في صمت.
إن كنت لا ترى أحدا
فأنت تعرف أنهم ينظرون
خلال هذه الأبواب
التي تؤدي إلى ممرات باهتة.
في النوافذ أشكال
بعيون مخفية
وأياد تتحسس
طيورا ذبيحة.
لكن آلاف الأطفال
يقفزون في الميدان
ويطلقون الصيحات
من صدورهم الواهنة
حتى يظهر رجل ذو لحية سوداء - من أي عالم جاء؟ -
ليطاردهم بإشارة واحدة
إلى أعماق السحابة.
المرآة
ليعطوها مرآة في منتصف الطريق
سوف ترى الحياة تنزلق فيها من يديها،
ونجما يسطع كقلب لا يعرف الاستقرار
تشتد ضرباته حينا، وحينا يخفق بغير انتظام.
وعندما يقتربون، سترى طيورها المحبوبة
لكنها لن تفهم شيئا،
ستحاول، وقد تملكها الخوف، أن ترى وجهها،
وستصمت المرآة صمتا يطول.
وحش الليل الجميل «يا وحش الليل الجميل، يا من تختلج بالظلمات،
أنت تكشف عن فاه رطب من وراء السماء،
تقترب مني، تمد إلي مخلبك
ثم تسحبه كأنما انتابتك الشكوك.
ومع ذلك فأنا صديق إشاراتك المعتمة،
عيناي تلمسان أعماق فرائك الأخرس.
ألا تراني شقيق الظلمات
في هذا العالم، حيث أعيش مواطنا في عالم آخر
33
وأحتفظ لنفسي بأصفى أغاني؟
تعال، أنا أعرف أيضا مخاوف الصمت
بقلبي العجلان، الذي يراه الصبر،
ويدق على أبواب الموت بغير جواب.
لكن الموت يجيبك على فترات قصار
عندما يرتطم قلبك المفزوع بالجدار،
وما أنت إلا من عالم، يخشى الناس الموت فيه.»
والعيون في العيون، في خطوات قصار،
يتراجع الوحش في الظل الجسور،
وتزدهر السماء كعادتها بالنجوم.
خيول الزمن
عندما تتوقف خيول الزمن أمام بابي،
أتردد قليلا في النظر إليها وهي تشرب،
لأنها تروي عطشها من دمي.
وتتلفت إلى وجهي بأعين ملؤها العرفان،
بينما تغمرني رشفاتها الطويلة بالضعف
وتتركني في حال من السأم، والوحدة، والاضطراب
بحيث تستولي ليلة عابرة على جفوني
وأظل أجاهد لاستعادة قواي
حتى أستطيع ذات يوم، عندما تأتي الخيول العطاش
أن أبقى على قيد الحياة لأسقيها. (6) سان جون بيرس (1887م-؟) ... ثم هذا الذباب، هذا النوع من الذباب، والدرجة الأخيرة في الحديقة ... صوت نداء، أنا قادم أتكلم في خشوع.
إن لم تكن هي الطفولة فماذا كان هناك قديما، ولم يعد له وجود؟
سهول! منحدرات! كان هناك مزيد من النظام! ولم يكن كل شيء إلا ممالك نور وحدودا منيرة.
وقديما كان الظل والضوء أقرب إلى
شيء واحد بعينه ... أتكلم عن خشوع ... على حافة الحديقة كان يمكن أن تسقط الثمرة بغير أن تفسد البهجة على حافة شفاهنا
34
والرجال كانوا يثيرون مزيدا من الظلام بفم أكثر جدا،
والنساء يثرن مزيدا من الأحلام بأذرع أشد سأما ... أعضائي تنمو، وتثقل، تغذيها الشيخوخة! أبدا لن أرى مكانا مقسما بين الطواحين
وحقول القصب - حلما للأطفال - في مياه مسرعة صداحة ... على اليمين. كانوا يحضرون القهوة، وعلى اليسار نبات التابيوكا
35 (يا للمناديل المطوية! يا للأشياء المحمودة!)، وهنا كانت الجياد تقف بأفواهها الموسومة، والبغال المقصوصة الشعر، وهناك الثيران؛ هنا السياط، وهناك صيحة طائر «الأناو»
36
وهناك أيضا جراح أعواد القصب في الطاحونة،
وسحابة بنفسجية وصفراء، بلون برقوق الإيكاكو، تكف فجأة عن تتويج البركان الذهبي، وتنادي الخادمات بأسمائهن،
فيخرجن من أعماق كهوفهن!
إن لم تكن هي الطفولة، فماذا كان قديما هناك، ولم يعد له وجود؟ ...
للاحتفال بطفولة، 3
مطلع هذه الأغنية لهم يهد للشواطئ ولم يوهب للصفحات ... أناس آخرون يمسكون في المعابد قرون المذبح الملونة:
مجدي فوق الرمال ! مجدي فوق الرمال! ...
وما كان خطأ وضلالا، أيها الحاج، هذا النهم إلى الخلاء العاري، لكي أجمع في خلجان المنفى قصيدة عظيمة ولدت من العدم، قصيدة
عظيمة خلقت من العدم ... اصفري، أيتها المقاليع فوق العالم، غني، أيتها الأصداف فوق الماء!
بنيت فوق الهاوية والزبد وغبار الرمال: سأنام في الصهاريج وفي بطون السفن الخاوية،
في كل مكان موحش وعقيم، يرقد فيه الإحساس بالعظمة وهو كسير.
قليلة الأنفاس التي رفت على جنس الجوليين، قليلون هم الأعوان الذين التفوا حول طائفة الكهنة العظام.
إلى حيث تمضي الرمال بأغانيها، يمضي أمراء المنفى،
حيث كانت الأشرعة عالية، يمضي الحطام أشد نعومة من حلم صانع الأوتار،
حيث كانت معارك الحروب الكبيرة، يشحب فك الحمار،
والبحر في دورته يدفع صليل الجماجم إلى الشطآن، وذات مساء ، على حافة العالم،
روى لنا محاربو الرياح فوق رمال المنفى
أن كل أشياء العالم عندهم وهم وسراب ...
يا حكمة الزبد، يا أوبئة الروح في أزيز الملح
والجير الذي لم يطفأ!
علم يأتيني من عذاب النفس ...
لتحك لنا الريح عن نهبها وسلبها، لتحك لنا الريح عن وهمها وضلالها!
كالفارس، والحبل في قبضته، على مشارف الصحراء،
أتلصص في الدائرة الشاسعة على
ارتفاع العلامات المواتية ...
والصباح تشير لنا إصبعه المتنبئة بين
الكتابات المقدسة.
المنفى لا يعود إلى الأمس فقط! المنفى لا يعود إلى الأمس! «أيتها الآثار، أيتها الرسل»، هكذا يتكلم الغريب بين الرمال، «كل
ما في الأرض جديد علي! ...»
وميلاد أغنيته ليس أقل غرابة لديه.
منفى، 2
مدائح 2
وخادمات أمي، فتيات طويلات مضيئات ... وأجفاننا الخرافية ... يا للبهاء! يا للجميل!
دعوت كل شيء، فرويت أنه كان عظيما، دعوت كل حيوان، فذكرت كيف كان جميلا وعطوفا.
يا لأزهاري الضخمة النهمة، بين أوراق الشجر الحمراء، تلتهم جميع حشراتي الجميلة الخضراء! باقات الأزهار في الحديقة فاحت برائحة مقبرة العائلة. وأخت صغيرة جدا ماتت: كان لدي تابوتها الذي يعبق بعبير الماهون
37
بين مرايا حجرات ثلاث. ولم يكن من الواجب قتل الطائر الطنان بحجر ...
لكن الأرض كانت تجثم قابعة في ألعابنا
38
كما تفعل الخادمة، تلك التي كانت تملك الحق في كرسي عندما تبقى الأسرة بين جدران البيت.
مدائح، 1911م
قصيدة للغريبة
لكن مساء العصر العظيم
39
هذا والصبر العظيم، في الصيف المثقل بالمنحدرات وما السمك
40
المعتم، لتخليص أناس مصابيحكم من أعماق الهاوية،
41 (ها أنا ذا) رجل جد وحيد، أسير في هذا الحي
المرتفع، (حي) مؤسسات العميان، والمستودعات المكفنة (في أوراق الأشجار)، والديوان الحبيسة من أجل الموتى، المحيطة بالبوابات والمروج وكل هذه الحدائق الجميلة على النسق الإيطالي
التي تركها أصحابها ذات مساء، وقد راعهم شذا القبر،
و(ها أنا ذا) أسير في طريقي، أيتها
الذكريات! بخطى إنسان حر،
بلا قطيع ولا ذكريات، بين غناء الساعات
الزجاجية، جبهتي عارية، يكللها النحل الفسفوري، تحت سماء شاسعة
من صلب أخضر كما لو كنت في أعماق البحر، أصفر لشعبي من العرافين، أصفر لشعبي من المنكرين (الكافرين)، وأنا ما زلت ألاطف في الحلم بيدي، بين كائنات كثيرة غير مرئية، كلبتي التي (تعيش) في أوروبا وكانت بيضاء كما كانت شاعرة أكثر مني.
إلى غريبة، 1942م
هذا الذي يجوب الدروب الحجرية في منتصف الليل، لكي يقدر قيمة شهاب جميل؛ والذي يحرس، بين حربين، نقاء العدسات البللورية الكبيرة، الذي صحا من نومه قبل طلوع النهار لكي يطهر الينابيع، وقد انتهت الأوبئة العظيمة؛ الذي يسكر في وليمة بأعالي البحار مع بناته وزوجات أبنائه، وكان هناك ما يكفي من رماد الأرض ...
الذي يتملق الجنون في المصحات الكبيرة (المطلية) بالطباشير الأزرق ويوم الأحد فوق (سنابل) القمح، في ساعة العمى الشديد؛ الذي يصعد للأرغن الوحيد،
42
عند دخول الجيوش؛ الذي يحلم ذات يوم بمغارات حجرية كبيرة، بعد الظهر بقليل، في ساعة الترمل ... الترمل الكبير؛ الذي يوقظه في البحر، تحت رياح تهب من جزيرة منخفضة، عطر جاف منبعث من زهرة رملية صغيرة؛
43
الذي يحرس في الموانئ ... الموانئ أذرع نساء من جنس غريب، وثمة مذاق نبات نجيلي
44
في الرائحة المنبعثة من إبط الليل العميق، والوقت بعد منتصف الليل بقليل، في الساعة التي يدلهم فيها الظلام؛ الذي ينام وتتحد أنفاسه بأنفاس البحر، وعندما تثور الأنواء
45
يتقلب فوق فراشه كسفينة تتوقى الريح ...
الذي يسير على الأرض في اتجاه المراعي الكبيرة، الذي يقدم النصيحة في أثناء الطريق لعلاج شجرة عتيقة؛ الذي يصعد بعد العاصفة فوق الأبراج الحديدية ليتشمم هذا المذاق النباتي المعتم الذي يفوح في الغابة من أشجار العوسج؛ الذي يسهر في الأماكن المقفرة على مصير خطوط التلغراف العظيمة ...
الذي يفتح حسابا في البنك لرعاية الأبحاث العقلية، الذي يدخل دائرة عمله الجديد وهو أشد ما يكون حماسا وانفعالا، وبعد مضي ثلاثة أيام لا يكترث بصمته أحد ما خلا أمه، ولا يسمح لأحد بدخول حجرته فيما عدا أكبر الخادمات سنا؛ الذي يسوق دابته إلى الينابيع دون أن يشرب هو منها؛ الذي يتخيل أنه يستنشق من السروج رائحة أشد نفاذا من رائحة الشمع ...
الذي يضع المهام الكبرى للغة في مراتب ودرجات؛ الذي تعرض عليه، من أعلى مكان، أحجار هائلة تتألق باللهب الصامد ...
أولئك هم أمراء المنفى، وليسوا في حاجة لأغنيتي ...
منفى، 6، 1942م (7) بول إلوار
مرآة لحظة
تبعثر النهار،
تبين الصور للناس خالصة من المظهر،
تسلب الناس القدرة على التشتت.
هي صلبة كالحجر.
الحجر الذي لا شكل له،
حجر الحركة والرؤية،
وبريقها من النوع الذي يجعل كل الأسلحة،
وكل الأقنعة تبدو كاذبة.
حتى ما تمسك به اليد، يزدري أن يأخذ شكل اليد
ما وعاه الفهم، ليس له وجود،
الطائر اختلط بالريح،
والسماء بحقيقتها،
والإنسان بواقعه.
العاشقة
تقف على جفوني
وشعرها في شعري،
لها شكل يدي،
لها لون عيني،
تغوص في ظلي
كحجر على السماء.
عيناها مفتوحتان أبدا
ولا تتركني أنام.
أحلامها في الضوء الساطع
تجعل الشموس تتبخر،
تجعلني أضحك، أبكي، أضحك،
أتكلم دون أن أعرف ما أقول.
1924م
عاشقة
عاشقة تلوذين بالسر خلف ابتسامتك (عندما) تكشف كلمات الحب العارية
عن نهديك وعنقك
وأردافك وجفونك
تكتشف الضمات جميعا
لكيلا تبين القبلات في عينيك
أحدا سواك، بكليتك.
الحب، الشعر، 1929م
أخفي الكنوز السوداء
أخفي الكنوز السوداء
للتراجعات المجهلة
قلب الغابات، نعاس
صاروخ ملتهب،
الأفق الليلي
الذي يتوجني،
أستبق خطاي
وأنا أحيي بسر جديد
ميلاد الصور.
الحب، الشعر، 1929م
حبي (يا) حبي لأنك مثلت
46
رغباتي
وضعت شفتيك كالنجم في سماء كلماتك
قبلاتك في الليل الحي
وصحوة ذراعيك حولي
كأنها شعلة (ترسم) علامة انتصار
أحلامي عن العالم
واضحة ومستديمة
وعندما تغيبين
أحلم أنني أنام، أحلم أنني أحلم.
الحب، الشعر، 1929م
عنف ...
عنف رياح الفضاء،
سفن وجوه قديمة،
مأوى دائم
وأسلحة للدفاع،
شاطئ مهجور،
طلقة نار، طلقة واحدة،
فزع الأب،
الذي مات من زمن بعيد.
1932م
بالكاد مشوه
وداعا يا حزن.
صباح الخير يا حزن.
أنت منقوش في خطوط السقف.
أنت منقوش في العيون التي أحبها.
لست التعاسة تماما
لأن أتعس الشفاه تشي بك
بابتسامة.
صباح الخير يا حزن. (يا) حب الأجساد المحبوبة، (يا) قوة الحب
التي تثب محبتها
47
كوحش بلا جسد،
رأس خائب الأمل،
حزن وجه جميل.
الحياة المباشرة، 1932م
وجود
الجبهة كراية ضائعة،
أجرك، عندما أكون وحيدا
في شوارع باردة،
حجرات سوداء،
وأصرخ في عذاب.
لا أريد أن أتركهما،
يديك الواضحتين العسيرتين،
المولودتين في مرآة يدي المقفلة.
كل ما عدا ذلك حسن،
كل ما عدا ذلك أشد عقما
من الحياة.
احفري الأرض تحت ظلك.
ماء بالقرب من النهدين
يغرق الإنسان فيه
كالحجر.
1936م
لا أطمع إلا في حبك
لا أطمع إلا في حبك
عاصفة تملأ الوادي
سمكة (تملأ) النهر
صنعتك على قدر وحدتي
العالم كله لتختبئ فيه
الأيام الليالي لنفهم بعضنا
لئلا أرى في عينيك
إلا رأيي فيك
وفي عالم على صورتك
وأيام وليال تحكمها جفونك.
العيون الخصبة، 1936م
القبلة
دافئة لا تزالين من الغطاء المرفوع
48
تغمضين العينين وتتقلبين
كما تتقلب أغنية تولد
غامضة، لكن من كل مكان
عطرة وشهية،
تتجاوزين، بغير أن تنكري نفسك،
49
حدود جسدك.
خطوت فوق الزمان
وها أنت ذي امرأة جديدة
تكشفت على اللانهاية.
تفكير عاشق طويل، 1945م
العدالة الحقة
هذا قانون البشر الدافئ؛
من العنب يصنعون النبيذ،
من الفحم يصنعون النار،
من القبلات يصنعون البشر.
هذا قانون البشر القاسي؛
يحافظون على سلامتهم
رغم الحروب والشقاء
رغم مخاطر الموت.
هذا قانون البشر العذب؛
يجعلون الماء ضياء،
الحلم حقيقة،
والأعداء إخوة.
قانون قديم وجديد
ينشد الكمال كل يوم
من أعماق قلب الطفل
إلى العقل الأسمى.
معنا سيحيا كل شيء (أيتها) الحيوانات (يا) أعلامي الذهبية الحقة
أيتها السهول يا مغامراتي الناجحة
أيتها الخضرة النافعة أيتها المدن الحية،
سوف يتقدمك رجال ذات يوم؛
رجال من تحت العرق الضربات الدموع،
لكنهم سيقطفون كل أحلامهم.
أرى رجالا صادقين حساسين طيبين نافعين
يطرحون حملا أخف من الموت
وينامون من الفرح في ضوضاء الشمس.
عيونهم الصافية أبدا
أيام الخمول، أيام المطر،
أيام المرايا المكسورة والإبر الضائعة،
أيام الأجفان المغمضة على أفق البحار،
الساعات المتشابهة أبدا، أيام الحصار،
روحي التي كانت لا تزال تسطع فوق الأوراق والأزهار،
روحي عارية كالحب ،
الفجر الذي تنساه يجعلها تخفض الرأس
وتتأمل جسدها الخاضع العقيم.
مع هذا، رأيت أجمل ما في العالم من عيون،
آلهة فضية، تمسك بأحجار الياقوت في أيديها،
آلهة حقيقية، طيورا في الأرض
وفي الماء، أنا رأيتها.
أجنحتها هي أجنحتي، وليس هناك
سوى طيرانها الذي يهز شقائي،
طيران النجوم والضياء،
طيران الأرض، طيران الحجر
على أمواج أجنحتها.
فكري، يحمله الموت والحياة.
بلا عمر
نتقدم
في الغابات.
اسلكوا شارع الصباح،
اصعدوا درجات الضباب!
نتقدم
يتشنج قلب الأرض.
ما زال هناك
يوم نهديه إلى العالم.
سترحب السماء.
فقد سئمنا السكن،
في أطلال النوم،
في ظل الراحة الدنيء
في ظل التعب والملل.
الأرض ستتخذ شكل أجسامنا الحية،
الريح ستجري على هوانا،
الشمس والليل سيعبران في عيوننا،
بغير أن يغيراها أبدا.
قضاؤنا الأكيد، هواؤنا النقي قادران،
على ملء الفراغ الذي حفرته العادة.
سنرسو جميعا على شط ذاكرة جديدة،
سنتحدث معا لغة محسوسة.
آه يا أخوتي المتنازعين، يا من تحفظون في حدقاتكم
الليل المندفق ورعبه،
أين تركتكم؟
بأيديكم الثقيلة في الزيت الكسول
زيت أفعالكم الماضية؛
بقليل من الأمل، حتى ليصبح الموت على حق،
يا إخوتي الضائعين،
أنا أستقبل الحياة، أنا أحمل شكل الإنسان؛
لأثبت أن العالم قد خلق على قدري.
وأنا لست وحيدا.
ألف صورة مني تضاعف نوري،
ألف نظرة مشابهة تسوي الجسد.
الطائر، الطفل، الصخر، السهل
تنضم إلى صحبتنا.
الذهب ينفجر ضاحكا إذ يرى نفسه خارج الهاوية.
الماء، والنار يتعريان لفصل واحد.
ما عاد هناك كسوف على جبهة الكون.
أيد تعرفتها أيدينا،
شفاه ذابت في شفاهنا،
أول دفء الزهور
اتحد مع انتعاش الدم.
المنشور يتنفس معنا،
فجر ناصع،
على قمة كل عود ملكي،
على رءوس الأعشاب، على أطراف الثلوج
والأمواج والرمال المقلوبة
والطفولات الصامدة
خارج كل الكهوف
خارج أنفسنا.
عن أحد أبطال المقاومة
الليلة التي سبقت موته
كانت أقصر ليالي حياته،
وفكر أنه ما زال حيا؛
فالتهب دمه في قبضتيه،
ثقل جسده أضجره،
قوته جعلته يئن؛
في قلب هذا الرعب
بدأ يبتسم،
لم يكن له رفيق واحد
بل ملايين وملايين،
كان يعلم أنهم سيثأرون له
ثم أشرق عليه النهار.
اغتالوا جارثيا لوركا
بيت من كلمة واحدة.
50
وشفاه اتحدت لتعيش،
طفل صغير بلا دموع
في حدقتيه اللتين من ماء ضائع
ضوء المستقبل
يغمر الإنسان قطرة قطرة
حتى الجفون الشفافة.
اعدموا سان-بول-رو
عذبوا ابنته
مدينة ثلجية ذات أركان متشابهة
أحلم فيها بالثمار الناضرة،
بالسماء كلها وبالأرض
وكأني أحلم بالعذارى تعرين
في لعبة لا تنتهي أبدا،
يا أحجارا ذاوية يا جدرانا بلا أصداء،
إني أتحاشاك بابتسامة «ديكور» حكم عليه بالإعدام.
الفجر يبدد الوحوش
51
لم يعلموا
أن جمال الإنسان أسمى من الإنسان،
عاشوا ليفكروا، فكروا ليصمتوا،
عاشوا ليموتوا، كانوا فاشلين،
استعادوا براءتهم في الموت،
نظموا
تحت اسم الثورة
بؤسهم عشيقاتهم،
مضغوا الزهور والابتسامات
لم يجدوا القلب إلا في أفواه بنادقهم،
لم يفهموا إهانة الفقراء
الفقراء الذين سيتحررون غدا من همومهم.
خلدتهم الأحلام بلا شموس،
ولكنهم لكي يحولوا السحابة إلى وحل
انحدروا لم يرفعوا جباههم للسماء.
كل ليلهم موتهم ظلهم الجميل شقاء؛
شقاء للآخرين.
سوف ننسى هؤلاء الأعداء البلداء.
52
وقريبا تأتي جماهير
تعيد بصوت هامس ما قاله اللهب؛
اللهب من أجلنا معا من أجلنا وحدنا صبرا،
لكلينا قبلة الأحياء في كل مكان.
الأغبياء والأشرار
يأتون من الداخل،
يأتون من الخارج
أولئك أعداؤنا!
يأتون من أعلى،
يأتون من أسفل،
من قريب وبعيد،
من يمين وشمال،
في ملابس خضر،
في ملابس قاتمة،
السترة شديدة القصر،
المعطف شديد الطول،
والصليب معقوف،
طوال ببنادقهم،
قصار بمديهم،
فخورون بجواسيسهم،
مزهوون بجلاديهم،
ومثقلون بالأحزان،
أسلحتهم تبلغ الأرض،
أسلحتهم تنفذ في الأرض،
متصلبون عندما يؤدون التحية،
متصلبون من الرعب
أمام رعاتهم،
سكارى من الجعة،
سكارى من القمر،
ينشدون بوقار
أغنية الأحذية الضخمة،
نسوا فرحة
53
من يحبه الناس!
إذا قالوا نعم
أجاب كل شيء بلا!
عندما يتكلمون عن الذهب
يصبح كل شيء رصاصا،
ولكن محاربة ظلمهم
تحيل كل شيء ذهبا،
وترد كل شيء إلى الشباب.
فليذهبوا فليموتوا؛
إن موتهم يكفينا.
نحن نحب الناس،
وسينجون بأنفسهم،
وسوف نعمل على ذلك
في صبيحة يوم النصر (لبناء) عالم جديد؛
عالم سليم.
الموت الحب الحياة
ظننتني قادرا على كسر الأعماق اللانهاية
بحزني العاري الوحيد بلا أصداء،
تمددت في سجني ذي الأبواب العذرية
مثل ميت عاقل عرف كيف يموت؛
ميت غير متوج إلا بعدمه،
تمددت فوق الأمواج الباطلة
وقد أهلكني السم من حبي للرماد.
الوحدة بدت لي أكثر حياة من الدم،
أردت أن أمزق الحياة،
أردت أن أشارك الموت في الموت،
أن أرد قلبي إلى الفراغ والفراغ إلى الحياة،
أن أمحو الكل لكيلا يبقى شيء لا النافذة ولا الأنفاس
لا شيء أمامها ولا شيء وراءها لا شيء على الإطلاق.
تخلصت من ثلج الأيدي المضمومة،
تخلصت من هيكل العظم الشتوي
لرغبة الحياة التي تلغي نفسها.
جئت فالتهبت النار من جديد؛
الظل تنحى برد الأعماق انتثرت فيه نجوم،
والأرض تغطت
بجسدك الناصع وشعرت أنني خفيف،
جئت فانهزمت الوحدة،
أصبح لي دليل على الأرض،
عرفت وجهتي علمت أنني بلا حدود،
تقدمت كسبت المكان والزمان،
سرت نحوك سرت بلا انقطاع نحو النور،
الحياة صار لها شكل الأمل نشر جناحه،
النوم تقطرت منه الأحلام والليل
وعد الفجر بنظرات ملؤها الثقة والاطمئنان،
أشعة ذراعيك شقت الضباب،
فمك كان مبتلا بقطرات الندى الأولى،
الراحة الباهرة حلت محل التعب،
وتبتلت للحب كما فعلت في أيام الشباب،
الحقول مخضرة بالزرع والمصانع تلمع،
والقمح يبني عشه في موجة هائلة،
الحصاد الكروم لها شهود بلا عدد،
لا شيء بسيط لا شيء عجيب،
البحر في عيون السماء أو الليل،
الغابة تمنح الأشجار الأمان،
وجدران البيوت متشابهة الجلود،
والطرق تتقاطع على الدوام،
خلق البشر ليسمعوا بعضهم،
ليفهموا ويحبوا بعضهم بعضا،
لهم أطفال سيغدون أباء للبشر،
لهم أطفال بلا بيت ولا نار
سيعيدون صنع البشر
والطبيعة ووطنهم
وطن كل الناس
كل الأزمان.
الصدفة
للصدفة ملحمة، لكن فلنعدل عنها الآن.
كل الأفعال مساجين عبيد
لهم لحى عجائز،
والكلمات التقليدية
لا قيمة لها إلا في ذاكرتهم.
للصدفة كل ما يلتهب، كل ما يؤلم،
كل ما يبلي، كل ما يعض، كل ما يقتل،
لكن ما يلمع كل يوم
هو تجانس.
54
الإنسان والذهب
هو نظرة اقترنت.
55
بالأرض.
للصدفة تحرر،
للصدفة الشهاب،
والسماء الخالدة لرأسي
تنفتح لشمسها
لخلود الصدفة.
عاصمة الألم، 1946م
شعرك البرتقالي
شعرك البرتقالي في فراغ العالم،
في فراغ الألواح الزجاجية المثقلة بالصمت والظل
حيث تبحث يداي العاريتان عن كل انعكاساتك.
صورة قلبك طيف خيال.
56
وحبك يشبه رغبتي المفقودة
إيه يا زفرات من عنبر، يا أحلاما، يا نظرات.
لكنك لم تكوني دائما معي. ذاكرتي
ما زالت (ملفوفة) في الظلام لأنها رأتك تأتين وتذهبين.
الزمن، كالحب، يلجأ للكلمات.
57
عاصمة الألم، 1946م
هي ...
هي تكون، ولكنها تكون في منتصف الليل فحسب، عندما تضم كل الطيور البيضاء
أجنحتها على الظلمة الجاهلة، عندما تخفي شقيقة آلاف اللآلئ
كلتا يديها في شعرها الميت، عندما يفرح القائد الروماني المنتصر
بنشيجه، بعدما سئم استسلامه للفضول، هذا الدرع الرجولي
البراق للشهوة. هي من العذوبة بحيث حولت قلبي. كنت أشفق من الظلال الكبيرة التي تغزل أبسطة اللعب والزينة، كنت أخاف من التواءات الشمس في المساء، من الغصون التي لا تنكسر، والتي تظهر نوافذ كل كراسي الاعتراف حيث تنتظرنا هناك نساء غارقات في النوم.
آه يا تمثال الذكرى، يا خطأ الشكل، يا خطوطا غائبة،
يا لهبا خابيا في عيني المغمضتين، أنا أمام رقتك.
58
كطفل في الماء ، كباقة ورد في غابة كبيرة. بالليل يتقلب الكون في دفئك،
وتصبح إشارات الشوارع في مدن الأمس ألطف من وردة شوكية.
59
وأشد امتلاكا للقلب من لحظة الزمن.
60
على البعد
تتكسر الأرض في ضحك جامد، السماء تلف الحياة:
كوكب حب جديد يشرق في كل مكان، وأخيرا، فما من دليل بعد على وجود الليل.
لغة الألوان
أعرفك (يا) ألوان الرجال والنساء،
زهور نضرة، ثمار عطنة، هالات منتثرة
موشورات.
61
موسيقية، (كتل) ضباب أبناء الليل
ألوان، وكل ما يفتح عيني مضيء
ألوان، وكل ما يدفعني للبكاء كئيب
ألوان العافية، الرغبة، الخوف
وعذوبة الحب تضمن.
62
المستقبل
ألوان جريمة وجنون وتمرد وشجاعة
والضحك في كل مكان يعري السعادة،
وأحيانا العقل الذي يبصقنا (ك) أغبياء
ودائما العقل الذي يعيد خلقنا عظماء،
خفق الدم على كل دروب العالم،
ألوان: ليحفر اليأس الليل (كما يشاء)،
ولتسود الألغاز.
63
المؤرقين حتى العظام،
فالأحلام تشرق بالجمال (و) الخير.
إن يقم الشتاء في ركن من قلبي،
ففي (الركن) الآخر أرى بوضوح وأرجو و(أبتهج) بالألوان،
64
أعكس أخصب جسدا سوف يدوم،
65
أكافح، أسكر بالكفاح من أجل الحياة،
في نصاعة الآخرين أشيد انتصاري.
1949م
نقد الشعر
النار توقظ الغابة
الجذوع القلوب الأيدي الأوراق
السعادة في باقة واحدة
مضطربة خفيفة ذائبة محلاة.
66
غاية كاملة من الأصدقاء
تتجمع حول النوافير الخضر
للشمس الطيبة والغابة الملتهبة.
على الشعر أن يستهدف الحقيقة العملية (إلى أصدقائي الطموحين.)
إن قلت لكم إن الشمس في الغابة
تشبه جدا يهب نفسه في الفراش
صدقتموني لبيتم كل رغباتي!
إن قلت لكم إن بلور يوم يطير
يتردد (صداه) دائما في كسل الحب
صدقتموني أطلتم زمن الحب
إن قلت لكم: على أغصاني فراشي
طائر يبني عشه ولا يقول أبدا نعم
صدقتموني شاركتموني عذابي.
67
إن قلت لكم في أعماق نبع.
68
مفتاح نهر يدور ليشق الخضرة.
69
صدقتموني، بل فهمتوني
فإذا تغنيت مباشرة.
70
بشارعي كله
وبلدي كلها التي تشبه شارعا لا ينتهي
لم تصدقوا كلامي، ذهبتم للصحراء
لأنكم تسيرون بلا هدف لا تعرفون أن الناس
في حاجة إلى الاتحاد إلى الأمل إلى الكفاح
من أجل تفسير العالم ومن أجل تغييره.
بخطوة واحدة من قلبي سآخذكم معي،
إني مسلوب لقوة، عشت وما زلت أعيش،
لكني أعجب من نفسي إذ أتكلم كي أبهجكم
بينما أريد أن أحرركم لكي أوحد بينكم
وبين أعشاب البحر وأعواد الفجر
وإخوتنا الذين يشيدون نورهم. (8) أندريه بريتون (1869-1967م)
فعل يكون
أعرف اليأس بملامحه الكبيرة. اليأس ليست له أجنحة، إنه لا يجلس بالضرورة أمام مائدة خالية في شرفة، بالليل على شاطئ البحر. إنه اليأس، لا عودة بعض الأشياء الصغيرة كالبذور، التي تترك عند هبوط الليل حفرة من أجل حفرة أخرى. ليس هو الأعشاب على حجر ولا هو كأس الشراب.
إنه سفينة ثقبها الثلج، إن شئت هذا، كالطيور التي تهبط وليس لديها أدنى كثافة. أعرف اليأس بملامحه الكبيرة. شكل صغير جدا، تحده جواهر معلقة بالشعر.
إنه اليأس. عقد لؤلؤ، لا يعرف الإنسان له قفلا بل ولا يعلق وجوده في خيط، ذلك هو اليأس. نحن لا نتكلم عن شيء آخر. نحن لا نكف عن اليأس، إذا ما بدأناه. أنا، أنا أيئس من غطاء المصباح حول الساعة الرابعة، أيئس من المروحة حول منتصف الليل، أيئس من سيجارة المحكوم عليهم. أعرف اليأس بملامحه الكبيرة. اليأس لا قلب له، اليأس المقطوع الأنفاس يفتتح اللعبة دائما، اليأس الذي لا تقول لنا المرايا أبدا إن كان قد مات. أنا أعيش على هذا اليأس الذي يفتنني. أحب هذه الذبابة الزرقاء، التي تطير في السماء عندما تدندن النجوم. أعرف اليأس بملامحه الكبيرة، اليأس باندهاشاته الطويلة النحيلة، يأس الكبرياء، بأس الغضب. أستيقظ كل صباح كما يفعل كل الناس وأفرد ذراعي على بساط من الورق منقوش بالزهور، لا أتذكر شيئا، وأكتشف دائما في يأس أشجار الليل الجميلة التي اقتلعت من جذورها.
هواء الحجرة جميل مثل عصى الطبلة. إنه جو الجو. أعرف اليأس في ملامحه الكبيرة. إنه كريح الستارة التي تساعدني في الشدائد. هل خطر مثل هذا اليأس على بال أحد! نار! آه، إنهم سيعودون ... النجدة!
ها هم أولاء يسقطون في بير السلم ... وإعلانات الجرائد، واللافتات المضيئة على طول القنال. كوم الرمال، اذهب يا كوم الرمال السخيف! في ملامحه الكبيرة ليس لليأس أهمية. إنه سخرة أشجار، تتكون منها غابة، إنه سخرة نجوم، ستصنع يوما أقل، إنه سخرة أيام أقل، ستصنع حياتي.
يقظة
برج سان جاك في باريس
الذي يتمايل كزهرة عباد الشمس
يخبط السين بجبهته في بعض الأحيان وينزلق ظله
دون أن يلحظه أحد بين السفن الجرارة
في هذه اللحظة أسير في نومي على أطراف قدمي
وأتجه إلى الحجرة التي أتمدد فيها،
وهناك أوقد النار
لكيلا يبقى شيء من هذه الموافقة التي انتزعت مني،
عندئذ تستحيل قطع الأثاث إلى حيوانات تشبهها في الحجم،
تنظر إلي نظرات أخوية،
أسود تلتهم أعرافها الكراسي الوثيرة،
أسماك قرش تزدرد الرعشة الأخيرة لملاءات السرير!
في ساعة الحب والجفون الزرقاء
أراني أحترق بدوري، أرى هذا الصندوق الحفي للعدم
الذي كأنه جسدي
تحفره المناقير الصابرة لطيور أبيس النارية،
وعندما ينتهي كل شيء أدخل السفينة.
71
دون أن يراني أحد
دون أن ألتفت لعابري السبيل
الذين تتردد أصداء خطاهم الثقيلة على البعد
أرى ذؤابات الشمس
عبر شجيرات المطر الشوكية،
أسمع ثياب البشر وهي تتمزق كورقة شجرة كبيرة
تحت أظفر الغياب والحضور (وهما متآمران)
كل الحرف تذبل، لا يبقى منها غير طرف نسيج معطر.
72
صدفة من الدنتيلا لها الشكل الكامل للصدر
ما عدت ألامس إلا قلب الأشياء،
أمسك في يدي الخبط. (9) لوي أراجون (1798م-؟)
ريشارد الثاني - أربعون
وطني مثل مركب
تخلى عنه ملاحوه،
وأنا مثل حاكم
هو أشقى من الشقاء،
ظل ملكا على أحزانه!
ما الحياة الآن إلا مناورة،
الريح لا تحسن تجفيف الدموع
لا بد أن أكره كل ما أحب،
أن أجعلهم يحصلون على كل ما فقدت،
ما زلت ملكا على أحزاني،
ليكف القلب، إذا شاء، عن الخفقان،
ليسل الدم بلا حرارة،
اثنان لم يعودا يساويان أربعة،
كما يلعب اللصوص في ألعاب الأطفال
سأظل ملكا على أحزاني!
لتمت الشمس أو تولد من جديد
السماء قد فقدت ألوانها
يا باريس شبابي المحبوبة
وداعا يا ربيع «الأرصفة الوردية».
73
ما زلت ملكا على أحزاني
فروا بعيدا عن الغابات والينابيع
أسكتي أيتها الطيور المشاكسة
أغانيك فرض عليها الحصار
اليوم يحكم صياد الطيور
ما زلت ملكا على أحزاني
هناك زمن للعذاب
عندما جاءت جان إلى «فوكولير».
74
آه! مزقوا فرنسا إربا
فقد كان النهار بهذا الشحوب
ما زلت ملكا على أحزاني.
انكسار القلب، 1940م
الليالك والورود
آه يا شهر الازدهار يا شهر التحولات
مايو الذي خلا من السحب ويونيو المطعون
أبدا لن أنسى الليالك ولا الورود
ولا أولئك الذين حفظهم الربيع في ثناياه.
أبدا لن أنسى الوهم المأساوي
الطابور الصيحات الجمهور والشمس
العربات المحملة بالحب هدايا بلجيكا
الهواء المرتعش والطريق الذي يطن النحل فيه
الانتصار الطائش قبل أن تبدأ المعركة
الدم الذي تصوره القبلة بلون الياقوت
وهؤلاء الذين سيموتون وقوفا في الأبراج
تحيط بهم الليالك من شعب سكران
أبدا لن أنسى حدائق باريس
شبيهة بكتب القداس في القرون الخالية،
ولا اضطراب الأمسيات لغز السكون
الورود على طول الطريق الذي قطعناه
كذبة الزهور لرياح الرعب،
للجنود العابرين على جناح الخوف،
للدراجات الهاذية للمدافع الساخرة،
لبزة المعسكرين الباطلين الجديرة بالرثاء.
لكنني لا أدري لماذا تعيدني هذه الدوامة من الصور
دائما إلى نفس المحطة
عند سانت - مارت، أغصان سوداء
دارة نورماندية على حافة الغابة
كل شيء هادئ العدو يستريح في الظل
أخبرونا في هذا المساء أن باريس استسلمت!
أبدا لن أنسى الليالك ولا الورود
ولا الحبين الذين فقدناهما.
75
باقات اليوم الأول زنابق زنابق الفلندر،
نعومة الظل الذي يلون الموت به خدودنا،
وأنت يا باقات الانسحاب أيتها الورود الرقيقة
يا لون حريق الورود البعيدة في «أنجو».
انكسار القلب، 1940م
ورود عيد الميلاد
عندما كنا الكأس الزجاجي المقلوب
شجرة الكرز الجرداء تحت وابل الأمطار
الخبز المكسور، الأرض المشقوقة
أو السكارى الذين يجوبون شوارع باريس،
عندما كنا العشب الأصفر الذي تستحقه الأقدام،
القمح المنهوب وخشب النافذة الذي تلطمه الرياح،
الأغلبية المخنوقة والشهقة في الزحام،
عندما كنا الجواد الذي سقط (من الإعياء)
عندما كنا في فرنسا غرباء
شحاذين في وطننا نجوس الطرقات،
عندما كنا نتضرع لأشباح الآمال
ونمد لها عري أيدينا الخجلان
هناك، هناك كان الذين نهضوا من أجلنا - وإن لم يلبثوا لحظات حتى ضربتهم الريح -
كانوا ربيعنا اليانع في قلب الشتاء
وكان لنظراتهم بريق السيوف
عيد الميلاد! عيد الميلاد! هذه الأسحار المختلسة
ردت إلينا، نحن الهيابين ضعيفي الإيمان
الحب العظيم الذي يستحق من أجله أن نموت
ليحيا المستقبل الذي يجدد القديم
أو تقدم على ما أقدموا عليه في الشتاء
يا ربيعي الجميل الذي تجاوز الأخطار:
أو تذكر هذا العطر الفاغم للورود.
76
عندما تلألأ النجم فوق رءوس الرعاة؟
هل ستنسى النجم بعد أن ارتفعت الشمس في السماء،
وهل تنسى الليل وكيف انتهى الظلام؟
وعندما تأتي الريح لتنفخ الشراع
هل تستطيع أن تنسى ميتة أفيجينية؟
وإذا تساقطت الدموع القرمزية من جفون الأقحوان
أو تجمد عليها - كحبة لؤلؤ - عرف من دم
فهل تنسى البلطة التي كانت دائما على استعداد؟
وهل تنظر إليها شارد الذهن والعيون؟
لا يستطيع الدم المسفوك أن يصمت على الدوام.
أيمكنك أن تنسى من أين جاء الحصاد،
وتنسى عنب الشفاه فوق الأرض،
والمذاق المعتم الذي احتفظ به النبيذ؟
جمال الشيطان
أيها الشباب، الزمن أمامكم مثل جواد عابر
من يقبض عليه من عرفه من يشده من ركبتيه
لا يسمع بعد ذلك إذ ضربات حوافره على الأرض،
ينتشي بهذا الكفاح الجديد فلا يفكر في عواقبه.
أيها الشباب! الزمن أمامكم كأنه شهية مبكرة للطعام،
والمرء حائر لا يدري ماذا يختار من الوليمة الفاخرة،
ويرى الخوان ناصع البيان فيخاف من الخمر،
ومن ميدان المعركة الرهيب بعد أن تنفض مأدبة العرس.
من ظن أنه يستطيع أن يقيس الزمن بالمواسم والفصول
فقد صار شيخا عجوزا لا يمكنه النظر إلا للوراء،
يتوه المرء بين هذه التحولات كما تتوه العجلة الدائرة والرماد،
وتعود أوراق الشجر في كل ربيع فتخفي الأفق البعيد.
الزمن أمامكم أيها الشباب لامتناه وقصير
ولكن ماذا يعود عليكم من هذا الهراء السخيف؟
خذوه إذن كما يجيء، كلازمة.
77
لم يرددها المغنون،
كسماء لا يحدها شيء كامرأة تهب نفسها على الدوام.
يا للطفولة! ذات مساء جميل دفعتم باب البستان
وها أنتم أولاء على بابه تتابعون رفيف العصافير.
78
وتحسون في أذرعكم فجأة باتساع العالم الكبير
وبقوتكم وبأن كل شيء ممكن وغير مستحيل.
افتحوا عيونكم لا تتركوا هذه اللحظة تضيع،
إني أسمع ضحككم في الأرض التي اكتشفتموها من جديد،
أسمع في ضحكاتكم وخطاكم خطى الزمن القديم،
ومرة أخرى أسمع ضوضاء اللعب التي ستغدو صيحة الصراع،
ومرة أخرى أسمع صوتكم وقد بدأتم تملكون،
وفرحة الأكتاف عندما تتصور أنها شبيهة بالجسور التي تجري تحتها الأنهار.
وتهليل المقدرة التي اجتهدت واجتازت التجربة بنجاح
وأسمع الليل الذي ازداد عمقا مع جدة الأصوات
وذات صباح لا تكاد تعرف نفسك في المرآة
أسرع قبل أن تستيقظ الحياة واهبط في طراوة الطريق،
لم تعد هناك غير بقية من ضباب يرتعش فيها ماض اختفى وزال،
وريح خفيفة تطرد أنفاسها آخر أخبار المساء،
تلك هي الساعة التي يحييك فيها كل شيء مضيء،
الساعة التي تبدو فيها الكلمات كأنها تشغل في الحال أرجاء المكان،
ولك عندها عيون صافيات، عيون كل النساء العابرات.
انظر حولك بانتباه تر النهار مقبلا عليك كالعشاق.
أيتها الإشراقة الصغيرة
توثبي توثبي في أعين الشباب،
المد والجزر دائما عاليان،
والخطر دائما في ازدياد،
الحظ موضوع الرهان،
والعجلة تدور وتدور،
لا يكسب الإنسان إلا الورود،
ويخسر الإنسان ما يملك،
السماء ماؤها عكر على الدوام،
والنرد يتنقل بين اللاعبين،
ودائما يجازف الإنسان،
وأبدا لا يقنع الإنسان،
لن يعرفوا قيمة هذه الساعة العابرة إلا بعد فوات الأوان،
ومع ذلك فإني أتذكر هذا العطر الذي يتبدد على الدوام،
وبعينين مفتوحتين أستطيع أن أحس بقلبي المفتون من جديد،
كلما رأيت شبابهم تذكرت شبابي
تذكرت شبابي. (10) هنري ميشو (1899م-؟)
حصان صغير جدا
ربيت في بيتي حصانا صغيرا. إنه يركض في حجرتي.
إنه تسليتي.
في البدء راودتني الشكوك. سألت نفسي
إن كان سيقدر له أن يكبر. لكن صبري
لقي خير جزاء؛ فهو يبلغ الآن أكثر
من 53 سنتيمترا ويلتهم ويهضم طعام شخص بالغ.
المشكلة الحقيقية جاءت من جانب هيلينه.
ليست النساء بسيطات. إن كومة صغيرة من
الروث تعكر مزاجهن. شيء كهذا يفقدهن
توازنهن. إنهن يخرجن عن أطوارهن.
قلت لها: «من مقعدة ضئيلة كهذه، لا يمكن
أن يخرج إلا روث قليل.» ولكنها ...
لا يهم، فليست الآن موضوع الحديث.
إن ما يقلقني شيء آخر، وأقصد به تلك
التغيرات العجيبة التي تصيب حصاني
الصغير فجأة في بعض الأيام. ففي أقل
من ساعة ينتفض رأسه وينتفخ؛ ويتقوس
ظهره، ويتموج، وينسل خيوطا ويرفرف
في الريح التي تهب من النافذة.
آه! آه! وأسأل نفسي: ألا يخدعني
إذ يظهر أمامي بمظهر الحصان؟ لأن
الحصان، مهما صغر ، لا يفرد نفسه كالعلم،
لا يرفرف في مهب الريح، ولو كان ذلك
للحظات قليلة.
لا أريد أن أصدق أنني كنت المغفل بعد
كل هذه الرعاية، بعد كل الليالي التي قضيتها
ساهرا بجواره، أحميه من الفيران،
من الأخطار القريبة منه، ومن ألوان
الحمى التي تصيب صغار السن مثله.
في بعض الأحيان يضايقه أن يرى نفسه
صغيرا كالقزم، فيضطرب، أو يشتد
هياجه فيقفز قفزات هائلة فوق الكراسي
ويبدأ يائسا في الصهيل.
وتلقي إناث الحيوانات المجاورة سهام أنتباهها،
من كلاب، ودجاجات، وديوك، وبغال، وفيران.
ولكن الأمر يقف عند هذا الحد. إنهم يقررون
كل بينه وبين نفسه، وهو مقيد بقيود غريزته: «لا، ليس من شأني أن أرد عليه.»
وإلى هذه اللحظة لم ترد أنثى واحدة.
وينظر حصاني إلي وفي عينيه شيء من
الأسى والغضب.
ولكن، من المخطئ فينا؟ أنا؟
أكتب إليك من بلد بعيد
1
قالت: ليس عندنا هنا إلا شمس واحدة تظهر كل شهر، ولمدة
قصيرة فحسب. يفرك الإنسان عينيه أياما قبلها. ولكن بلا جدوى
زمن قاس. الشمس لا تأتي إلا في موعدها. ثم يكون
أمام الإنسان دنيا من الأشياء يقوم بها، طالما ساد
الوضوح، بحيث لا نكاد نجد فرصة لننظر قليلا إلى بعضنا.
يضايقنا في الليل أننا نضطر إلى العمل، ونحن مضطرون
إليه: الأقزام تولد باستمرار.
2
صارحته كذلك بقولها: عندما يتجول الإنسان في
الريف، يحدث له أن يلتقي في طريقه
بكتل عظيمة. إنها جبال، ولا بد بعد فترة تطول أو
تقصر من أن يثني المرء ركبتيه. المقاومة لا تفيد،
فالمرء يعجز عن التقدم، حتى ولو آذى نفسه.
لا أقول هذا لأجرح الشعور. يمكنني
أن أقول أشياء أخرى إن أردت
أن أجرح الشعور حقا.
3
قالت له أيضا: الفجر هنا داكن. لم يكن
دائما كذلك. لا ندري من الذي نتهمه
لهذا السبب.
بالليل تهدر البهائم بصوت عال، ممدود
وفي آخره نبرة صغيرة. نحس بالشفقة،
ولكن ماذا نفعل؟
عبير الريحان.
79
يفوح حولنا: متعة، صفاء،
غير أنه لا يستطيع أن يحفظنا من كل شيء، أم
تظن أنه يستطيع أن يحفظنا حقا من كل شيء؟
4
أضيف كلمة أخرى إليك، أو بالأحرى سؤالا:
هل تسيل المياه في بلادكم أيضا؟ (لا أذكر
إن كنت قد قلت لي شيئا عن هذا)
ويصاب الإنسان برعشة منه، إن كان
ماء حقيقيا.
أأحبه؟ لا أدري. الإنسان يحس بنفسه في
غاية الوحدة، عندما يكون باردا. وهو إحساس
مختلف تماما، عندما يكون دافئا. عندئذ؟
كيف يمكن الحكم عليه؟ قل لي: كيف تحكمون
أنتم عليه، إذا تحدثتم عنه بغير قناع،
بقلب مفتوح؟
5
أكتب إليك من آخر العالم: يجب أن تعرف
ذلك. في كثير من الأحيان ترتعش الأشجار.
يجمع الناس الأوراق. على سطحها عدد لا حصر له
من العروق. ولكن ما الفائدة؟ انقطعت
الصلة بينها وبين الشجرة، ونفترق عن بعضنا
متضايقين.
ألم يكن من الممكن أن تجري الحياة على
الأرض بلا رياح؟ أم لا بد أن يرتعش كل
شيء، دائما، دائما؟
هناك أيضا زلزلات تحت الأرض، وفي البيت ما يشبه
انفجارات الغضب، تواجهك كأنها مخلوقات قاسية
تريد أن تنتزع منك اعترافا.
الإنسان لا يرى إلا ما لا يهمه أن يراه. لا شيء،
ومع ذلك يرتعش الإنسان. لماذا؟
6
نحن جميعا نعيش هنا ضيقي الصدور. أتعلم أنني، وإن
كنت لا أزال صغيرة جدا، قد كنت فيما مضى أكثر شبابا
وكذلك رفيقاتي؟ ما معنى هذا؟ لا شك أنه شيء فظيع.
وقديما، عندما كنا - كما قلت لك - أكثر شبابا،
كنا نحس بالخوف. كان من الممكن استغلال قلقنا.
كان من الممكن أن يقولوا لنا: «انظرن، سوف توارين
التراب. لقد حانت الساعة.»
فكرنا: حقا، من الممكن أيضا أن نواري الليلة في
التراب، إذا ما تأكد أن اللحظة قد جاءت. وما كنا
لنجرؤ على الجري؛ أن نبلغ، في نهاية السباق، قبرا
واسعا وقد تقطعت منا الأنفاس.
قل لي: ما السر إذن ها هنا؟
7
قالت له أيضا: هناك أسود تتنزه في القرية على الدوام،
بغير حرج على الإطلاق. وهي لا تهتم بنا، إذا فرض
أن أحدا لم يهتم بوجودها. ولكنها إذا أبصرت فتاة
تجري أمامها، لم تغفر لها هذا الاضطراب. لا! إنها
تلتهمها على الفور. لهذا تتنزه دائما في القرية، حيث لا تجد شيئا
تعمله، إذ إنها تستطيع بطبيعة الحال أن تتثاءب في أي مكان آخر.
8
صارحته بقولها: منذ زمن طويل، طويل ونحن في صراع مع البحر. في أحيان نادرة جدا، حين يكون أزرق لطيفا، ربما يظن الإنسان أنه راض. غير أن هذا الظن لا يدوم. فرائحته تقول هذا، وهي رائحة فاسدة (إن لم تقله مرارته).
هنا يجب علي أن أشرح موضوع الأمواج. إنه موضوع شائك، والبحر ... أرجوك أن تثق في. هل تعتقد أنني أريد أن أخدعك؟ إنه ليس مجرد كلمة. ليس مجرد خوف. إنه موجود، أقسم لك، يراه الإنسان باستمرار. من؟ نحن بالطبع، نحن الذين نراه. إنه يأتي من بعيد جدا لكي يضايقنا ويفزعنا. عندما تأتي، ستراه بنفسك، ستدهش كل الدهشة. ستقول «أهذا ممكن؟» لأنه يذهل. سوف نتأمله معا. أنا متأكدة أنني لن أخاف بعد ذلك. قل لي: ألن يحدث هذا أبدا؟
9
استمرت تقول: لا يمكنني أن أتركك في شك، لا يمكن أن أتركك مزعزع الثقة. أحب أن أكلمك مرة أخرى عن البحر. ولكنني ما زلت في حرج. إن الجداول تسيل، أما هو فلا. اسمعني، لا تغضب، أقسم لك إنني لا أفكر في خداعك. تلك هي حاله. قد يثور ويهيج، إلا أنه يتوقف أمام قليل من الرمل. إنه يتعطل تماما. إنه يريد بغير شك أن يتقدم، ولكنه يبقى في مكانه. ربما يتقدم ذات يوم، في وقت متأخر.
10
قال خطابها: نحن محاطون بالنمل أكثر من أي وقت مضى. إنها تنفض التراب بنشاط، قلقة، بطونها على الأرض. إنها لا تكترث بنا. ما من واحدة ترفع رأسها.
إنها أشد المجتمعات انغلاقا، برغم أنها تنتشر نحو الخارج باستمرار. لا يهم. المشروعات التي تحققها، مشاغلها ... إنها منطوية على نفسها ... في كل مكان. وإلى الآن لم ترفع أحداها رأسها نحونا. أحب إليها من ذلك أن تدوسها الأقدام.
11
كتبت إليه أيضا: «لا يمكنك أن تتصور كل ما في السماء. لا بد أن يراها الإنسان بنفسه لكي يصدق. مثال ذلك ... ولكنني لن أبوح لك الآن باسمها.» مع أنها تبدو كما لو كانت ثقيلة الوزن أو كأنها تشغل معظم مساحة السماء، إلا أنها، على ضخامة حجمها، لا تساوي وزن طفل حديث الولادة. نحن نسميها السحب.
صحيح أن الماء يأتي منها، ولكنه لا يأتي عن طريق عصرها أو تفتيتها. إن هذا لن يساوي الجهد المبذول، فما تحويه شيء قليل. ولكنه يأتي من أنها تشغل أطوالا وأطوالا، وعروضا وعروضا، وأعماقا وأعماقا، وأنها تحاول أن تنتفخ، بحيث تنجح في آخر الأمر في إسقاط بعض قطرات من الماء، أجل، من الماء.
وفي الواقع يبتل الإنسان. وتفر ساخطات لأننا قد ضحك علينا؛ إذ لا يعلم أحد متى تسقط قطراتها، فكثيرا ما تمر أيام بغير أن تسقط شيئا. ومن العبث أن يبقى الإنسان في بيته لينتظر.
12
إن تعليم الرعشات أمره سيئ في هذه البلاد. نحن نجهل القواعد الصحيحة، وعندما يقع الحدث، نكون غير متهيئات له، إنه الزمن، بغير شك. (هل الأمر كذلك عندكم؟) من الواجب على الإنسان أن يسبقه. أنت تعلم ما أريد أن أقول، يجب أن نسبقه بقليل. أتعرف حكاية البرغوث في درج المكتب؟ نعم، بغير شك. وما أصدقها، أليس كذلك؟! لا أدري ماذا أقول أكثر من هذا. متى نلتقي أخيرا؟
راحة في الشقاء
أيها الشقاء يا فلاحي الكبير،
أيها الشقاء، أجلس ،
استرح
لنسترح قليلا، أنت وأنا،
استرح،
إنك تجدني، تخبرني، تقدم لي الدليل.
أنا حطامك.
يا مسرحي الكبير، مينائي، موقدي،
يا كهفي الذهبي،
يا مستقبلي، أمي الحقة، أفقي الأزرق
في نورك، بعدك، رعبك،
أسلم نفسي.
أناجونج
80
في أغنية غضبي بيضة،
وفي هذه البيضة أمي وأبي وأولادي،
وفي كل هذا يمتزج فرح وحزن وحياة،
هبت لمساعدتي عواصف وأعاصير،
وقفت في طريقي شمس جميلة،
في نفسي حقد قوي وقديم،
وستكشف الأيام أن كان جميلا.
الواقع أنني لم أصبح صلبا إلا في رقائق المعدن النحيلة؛
لو علم الناس كيف بقيت لينا في صميمي.
أنا جونج وقطن طبي وأغنية ثلجية،
أقول هذا وأنا واثق مما أقول. (11) جاك بريفير (1900م-؟)
صراع مع الملاك
لا تذهب إلى هناك
كل شيء قد رتب من قبل،
اللعبة زيفت.
وعندما يظهر في الحلبة،
تحيطه هالة المغنسيوم،
عندئذ ستدوي أصواتهم «حمدا لله.»
81
وقبل أن تنهض من مقعدك
سيدقون لك جميع الأجراس.
سيقذفون في وجهك
بالإسفنجة المقدسة،
ولن تجد الوقت لتتشبث بريشة،
سيلقون بأنفسهم عليك
وسوف يصيبك تحت الحزام.
وعندئذ تنهار،
وذراعاك مصلوبتان في غباء،
في النشارة،
ولن تقوى أبدا على الحب.
1946م
أبانا الذي في السموات
أبانا الذي في السموات
ابق هناك
وسنبقى نحن على الأرض
الرائعة في بعض الأحيان،
بأسرارها في نيويورك
ثم أسرارها في باريس
التي تفوق أسرار التثليث
بقناتها الصغيرة في «أورك»،
82
وسورها العظيم في الصين،
بشاطئها في «مورليه»،
83
وحماقاتها في «كامبريه».
84
بمحيطها الهادي
وحوضي المياه في «التويلري»،
85
بأطفالها الطيبين وفتيانها الأشرار،
بكل عجائب الدنيا
الموجودة هنا
ببساطة على الأرض
متاحة لكل إنسان
متناثرة
تتعجب من كونها عجيبة
ولا تجرؤ أن تعترف لنفسها بذلك
كفتاة جميلة عارية تتهيب أن تري نفسها للناس
الأرض بكل مصائبها المخيفة
بالفيلق الجبار
وجنده الجرار
وكل جلاديه
بسادة العالم
وراءهم كهنة، وخلفهم خونة، يحميهم الحراس
بفصول العام،
بالأعوام،
بالبنات الجميلات والقديسين العجائز،
بقش البؤس المتعفن في صلب المدافع. (12) رينيه شار
لم تراجعتم؟
86
ثلج، نزوة طفل، شمس لا تملك غير الشتاء لتصبح كوكبا. على عتبة مخبئي الحجري، تعالوا وابحثوا عن مأوى! على منحدرات أولان،
87
سيزداد أبنائي مشعلو النيران، أبنائي الذين يقتلون بغير أن تغمض عيونهم، غنى من قوتكم.
هذا الدخان، الذي حملنا
هذا الدخان، الذي حملنا، كان شقيقا للعصا، التي تزحزح الحجر، وللسحابة، التي تفتح السماء. لم يكن يشعر بالاحتقار نحونا، أخذنا على علاتنا، جداول ضئيلة تتعذى على الخيبة والأمل، بمزلاج على الفكين وجبل في النظرة.
أعيدوا لهم ...
أعيدوا لهم، ما لم يعد حاضرا فيهم، سيرون حبات الحصاد وهي تنكمش في السنبلة وتترنح فوق الأعواد.
علموهم، من السقطة إلى النهوض، الاثني عشر شهرا لوجوههم،
سيحبون فراغ قلوبهم حتى الرغبة المقبلة؛ لأنه ما من شيء يعاني الغرق أو يفرح بالرماد؛ والذي يعرف كيف يرى الأرض وهي تصل إلى الثمار، فلن يؤثر الفشل عليه، ولو فقد كل شيء.
الصبر
الطاحونة
أزيز ممدود ينفذ من السقف؛
عصافير جنة دائما بيضاء؛
الحبة التي تقفز، الماء الذي يسحق
والمأوى الذي يغامر فيه الحب،
يتوهج شرره ويترك أثره.
مساعدون
أولئك الذين ينبغي شدهم بالأرض
لإرضاء الجمال،
المألوفون بقدر ما هم مجهولون،
على صورة العاصفة،
ماذا ينتظر بعضهم من بعض؟
ستطاردهم سحابة.
يكفي أنهم عاشوا
في نفس اللحظة كما عاش النورس.
الصفير (3 سبتمبر 1939م)
88
الصفير دخل في ذروة الفجر.
سيف أغنيته طوى الفراش الحزين.
كل شيء انتهى إلى الأبد.
وحدهم يبقون، 1945م
الريح في إجازة
على امتداد رابية القرية حقول ممتلئة بالست المستحية تتولى الحراسة. يتفق في موسم القطاف، بعيدا عنها، أن تلتقي لقاء عطرا بفتاة كانت يداها مشغولتين طوال النهار بالأغصان الهشة. كمثل مصباح هالته الساطعة أريج، تسير في طريقها، ظهرها للشمس الغاربة.
أنت تدنس الحرمات (إن حاولت) مخاطبتها. بينما يدوس صندلك العشب، أفسح لها الطريق.
أترى يكون من حظك أن تميز على شفتيها الخيال المخيف.
89
لرطوبة الليل؟
حبي لرداء المنارة الزرقاء
حبي لرداء المنارة الزرقاء
أقبل حمى وجهك
حيث ينام النور يهنأ سرا.
أحب وأنشج. أنا أحيا
ونجمة الصباح هذه هي قلبك، (نجمة) الدوام المنتصر التي توردت
قبل أن تنهي معركة الكواكب.
بعيدا عنك، يا ليت جسدي يصبح الشراع
الذي يعاف الريح.
1947م
فتون أربعة (1) الثور
أبدا لن يكون ليل، عندما تموت
يحوطك نواح الظلمات،
يا شمسا ذات برجين متشابهين
وحش الحب، حقيقة في السيف
اثنان متطاعنان، فريدان بين الجميع. (2) السمكة
أيتها الشطآن، تغوصين وأنت في زينتك
لكي تملئي المرآة كلها،
أيها الحصى، يتلعثم فيك القارب
الذي يحصره التيار ويرفعه،
يا عود العشب، يا عود العشب، أبدا ممدود،
يا عود العشب، يا عود العشب، أبدا مضطرب مشدود،
ماذا سيكون مصيرك
في الأنواء الشفافة
يرميك إليها القلب؟ (3) الحية
يا أميرة المغالطة، دعي حبي
الذي يعيش في منفى يشبه منفاك،
يفلت من الإله العجوز الذي أكرهه
لأنني استطعت أن أخدعه، بعدما تمكنت من إرباكه.
ويل لألوانك، أيتها الحية الوديعة،
في حمى الغابة وفي كل البيوت.
بالرباط الذي يوحد بين النور والخوف.
تتظاهرين بالهروب، يا حية الحواف والأطراف! (4) القبرة
أقصى وهج في السماء وأول عنفوان النهار،
تكمن جوهرة في الفجر، تشدو للأرض المضطربة
رنة ناقوس، سيدة أنفاسها: حرة التحليق.
الفاتنة، يقتلها الناس بين الدهشة والإعجاب.
في ألمانيا
(1) شتيفان جئورجه (1868-1933م)
سيد الجزيرة
يروي الصيادون أنه في الجنوب
على جزيرة غنية بالقرفة والزيتون
والأحجار النفيسة التي تلمع في الرمال،
كان يعيش طائر إذا حط على الأرض استطاع
أن يفتت بمنقاره تيجان الأشجار العالية،
وإذا ارتفع بجناحيه،
وكأنهما في لون عصير قوقعة صور،
ليحلق تحليقا ثقيلا منخفضا
كان يشبه سحابة سوداء.
في النهار - كما يروون - كان يختفي في الغابة
أما في المساء فكان يأتي إلى الشاطئ
مع النسيم المرطب برائحة الملح وأعشاب البحر
رافعا صوته حتى إن الدلافين - أحباب الغناء - كانت تسبح مقتربة منه.
1
في البحر الزاخر بالريش المذهب بالشرر الذهبي.
هكذا عاش من البدء السحيق
لا يراه إلا من تتحطم سفنهم على الشاطئ،
فلما اهتدت أشرعة البشر البيضاء
إلى الشاطئ لأول مرة
صعد التل - كما يحكون - ليلقي
نظرة على المكان المحبوب كله
نشر جناحيه الهائلين ومضى.
2
وهو يطلق أنات الألم المكتوم.
لا تفكري كثيرا فيما لا يعرفه أحد!
3
لا تفكري كثيرا فيما لا يعرفه أحد!
فمعنى الصور في الحياة.
4
لا يستقر:
الأوزة البحرية التي أصبتها،
5
والتي أمسكتها
في الساحة قليلا بجناحها المكسور
ذكرتك - كما قلت - بكائن بعيد.
6
قريب منك، دمرته فيها.
خارت قواها بغير أن تشكر رعايتك
وبغير أن تحقد عليك ... لكن عندما جاءت نهايتها
لأمتك عينها الخابية لأنك سقتها
إلى دائرة جديدة للأشياء.
الغريبة
جاءت وحيدة، من وديان بعيدة
تجنب الشعب بيتها في فزع
كانت تغلي (الماء).
7
وتخبز وتتنبأ (بالأقدار)
وتغني في (ضوء) القمر بشعر منسدل.
لبست زينتها في يوم العيد
لكي تطل بها من نافذتها ...
ثم أصبحت ابتسامتها عذبة ومرة المذاق.
8
تهلك الأزواج وتفسد الأشقاء.
وبعد عام، عندما راحت في الظلام
تبحث عن الشقيق الأصغر ورجل الغراب.
9
رأى الناس كيف سقطت في المستنقع،
وأقسم البعض أنها اختفت
خارج القرية، وسط الطريق ...
لم تترك وراءها، كرهن، سوى الطفل الصغير
أسود كالليل، وباهتا كالكتان
الطفل الذي ولدته في ضوء فبراير.
10
عن سجادة الحياة وأغاني الحلم والموت، 1899م
ذكرى
آه يا أخت، خذي جرة الفخار.
رافقيني! فما نسيت
ما اعتدنا أن نتلوه في خشوع.
اليوم يكون الصيف قد مر سبع مرات منذ سمعناه
وتحدثنا معا ونحن نستقي من النبع:
في نفس اليوم مات منا العريس.
نريد أن نذهب إلى النبع، حيث تقف هناك
شجرتا حور في المرج مع شجرة تنوب
لنجلب الماء في جرة من فخار.
أنت أيها النحيل الصافي كشعلة اللهب
أنت أيها النحيل الصافي كشعلة اللهب
أنت أيها الرقيق المضيء كالصباح
أنت أيها الفرع النضير من جذع نبيل
أنت يا من تشبه النبع الخفي البريء
ترافقني على المروج المشمسة
تطيف بي رعشتك في دخان المساء
تخفف طريقي في الظل
أنت أيتها الريح الرطبة أيها النسيم الدافئ
أنت رغبتي وفكرتي
أتنفسك مع كل هواء
أرشفك مع كل شراب
أقبلك مع كل عطر
أنت أيها الفرع النضير من جذع نبيل
أنت يا من تشبه النبع الخفي البريء
أنت أيها النحيل الصافي كشعلة اللهب
أنت أيها الرقيق المضيء كالصباح.
11 (2) رينيه ماريا رلكه (1875-1926م)
ماذا تفعل يا ربي حين أموت؟
ماذا تفعل، يا ربي، حين أموت؟
أنا جرتك (ماذا لو انكسرت؟)
أنا شرابك (ماذا لو فسدت؟)
أنا ثوبك وحرفتك،
بفقدي تضيع معناك.
بعدي لن يكون لك بيت
تحييك فيه كلمات قريبة ودافئة.
سيسقط من قدميك المتعبتين
الصندل القطيفي، الذي هو أنا.
معطفك العظيم سيتركك تمضي.
نظرتك، التي أتلقاها بخدي الآن
دافئة، كأني أتلقاها بمخدة
ستأتي، ستبحث عني، طويلا،
وتلقي بنفسها عند الغروب
في حجر أحجار غريبة.
ماذا ستفعل، يا ربي؟ إنني خائف.
عن كتاب الساعات، الكتاب الأول، 1905م
الرب لا يتحدث لكل إنسان إلا قبل أن يصنعه
الرب لا يتحدث لكل إنسان، إلا قبل أن يصنعه،
ثم يمشي معه صامتا، خارج الليل.
غير أن الكلمات، قبل أن يبدأ كل إنسان،
هذه الكلمات السحابية، هي:
مع حواسك المرسلة بعيدا،
سر إلى حدود شوقك،
أعطني ثوبا (يكسوني).
ألم خلف الأشياء كاللهيب،
حتى تمتد ظلالها
فتغطيني على الدوام.
دع كل شيء يحدث لك: الجمال والفزع.
على الإنسان أن يمضي فحسب: ما من إحساس ببعيد.
لا تهجرني.
قريبة هي البلد
التي يسمونها الحياة.
سوف تعرفها
من جديتها.
أعطني يدك.
عن كتاب الساعات، الكتاب الأول، 1905م
يوم من أيام الخريف
ربي: لقد آن الأوان. الصيف كان عظيما جدا.
ألق ظلك على الساعات الشمسية
وأطلق ريحك فوق المراعي.
مر الثمار الأخيرة أن تنضج،
أعطها يومين آخرين من أيام الجنوب،
حثها على الكمال
وسق العذوبة الأخيرة في النبيذ الثقيل.
من لا يملك الآن بيتا، فلن يبني بيتا بعد الآن.
من يحيا الآن وحيدا، فسوف تطول وحدته،
سوف يصحو، ويقرأ، ويكتب رسائل طويلة
ويتجول قلقا في الشوارع التي تحف بها الأشجار
عندما ترتعش الأوراق.
عن كتاب الصور، 1906م
جسر كاروسيل
الأعمى، الذي يقف فوق الجسر،
مظلما كعلامة على طريق ممالك مجهولة،
ربما كان ذلك الشيء، المتشابه أبدا،
الذي تطوف حوله ساعة النجوم من بعيد (وربما كان) المركز الهادئ للأفلاك.
لأن الأشياء كلها تضل من حوله وتنسكب وتبدو رائعة.
إنه العادل الذي لا يتزحزح،
وضع بين طرق عديدة متشابكة،
المدخل المعتم للعالم السفلي
وسط جنس تافه من البشر.
عن كتاب الصور، 1906م
الغسل
كانتا قد تعودتا عليه.
لكن عندما جاء مصباح المطبخ وأرسل شعلته القلقة
في الهواء المظلم، كان المجهول
قد أصبح مجهولا تماما. غسلا رقبته.
وإذ لم تكونا تعرفان شيئا عن قدره
12
فقد اختلقتا له قدرا آخرا،
وراحتا تغسلان. أخذت إحداهما تسعل
وتركت الإسفنج الذي ينضح بالخل على وجهه.
عندها توقفت الأخرى أيضا،
تساقطت القطرات من الفرشاة الخشنة،
بينما أرادت يده البشعة المتشنجة
أن تثبت للبيت كله،
إنه لم يعد يشعر بالعطش.
ولقد أثبت ذلك. واستأنفتا عملهما،
كأنما شعرتا بالضيق، وهما تسعلان سعالا قصيرا
بحيث راح ظلهما المعوج
يتقلب على ورق الحائط ويتلوى
كأنه في شبكة،
حتى انتهت المغسلتان من عملهما.
كان الليل على إطار النافذة المنزوعة الستائر
قاسيا لا يرحم.
وهناك رقد إنسان مجهول الاسم
عاريا ونظيفا وراح يشرع القوانين.
عن القصائد الجديدة، 1908م
تمثال أثري ناقص لأبولو
لم نعرف رأسه العجيب
الذي نضجت فيه الحدقتان.
لكن جذعه لا يزال يتوهج كالشمعدان،
ونظرته المنعطفة إلى أسفل
لا تزال تلمع.
وإلا ما استطاع انحناء الصدر أن يبهر عينيك
ولا جرت في التواءة الخصرين الخفيفة
ابتسامة تصل إلى ذلك الوسط
الذي يحمل أعضاء الإخصاب.
وإلا وقف هذا الحجر مشوها وقصيرا
تحت سقطة الكتفين الشفافة
ولم يومض هذا الوميض
كجلد الوحوش المفترسة.
ولا تفجر من كل أطرافه،
كما يتفجر النجم:
لأنه ما من موضع فيه لا يراك
لا بد أن تغير حياتك.
من «كتاب الساعات»
كل الذين يبحثون عنك، يغرونك.
والذين يجدونك هكذا، يقيدونك
بالصورة والإشارة.
أما أنا فأريد أن أفهمك
كما تفهمك الأرض؛
مع نضجي
تنضج
مملكتك.
لا أريد منك غرورا،
يبرهن عليك.
أعلم، أن الزمن
له اسم آخر
غير اسمك
لا تصنع، لخاطري، معجزة.
أنفذ قوانينك
التي تزداد وضوحا
من جيل إلى جيل.
مولاي، أعط كل إنسان موته الخاص.
الموت، الذي ينبع من تلك الحياة
التي عرف فيها الحب، والمعنى، والمحنة.
عن «قصائد إلى أورفيوس» القصيدة التاسعة عشرة
كذلك يتحول العالم سريعا
كأشكال السحاب
كل ما تم يسقط
عائدا للأزلي القديم.
فوق التحول والمسير
أبعد وأكثر حرية،
يبقى نشيدك الأول
يا أيها الإله ذو القيثار.
لم تعرف الآلام
لم يعلم الحب،
وما يبعده الموت عنا
لم يكشف عنه القناع.
الأغنية وحدها على الأرض
تمنح القداسة والاحتفال.
المرثية الأولى من مراثي دوينو
إن صرخت فمن يا ترى يسمعني
بين منازل الملائكة؟
ولو حدث أن ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه
فسوف يفنيني وجوده الأقوى.
لأن الجمال
13
ليس إلا بداية الفزع
الذي ما زلنا قادرين على احتماله
ونحن نعجب به هذا الإعجاب
لأنه يزدري في هدوء،
أن يحطمنا. كل الملائكة مفزعون.
وهكذا أضبط نفسي وأزدرد
دعاء النسيج المظلم العميق.
آه! من ذا الذي يمكننا أن نلجأ إليه؟
14
لا الملائكة، ولا البشر،
والحيوانات الذكية تدرك جيدا
أننا غير مطمئنين تماما في بيوتنا
في العالم الذي فسر فيه كل شيء
15
ربما بقيت لنا شجرة على المنحدر،
لكي نتطلع إليها كل يوم،
ويبقى طريق الأمس
والوفاء المتقلب لعادة ما
أحبت أن تقيم معنا
وهكذا بقيت ولم تمض.
آه والليل، الليل،
عندما تهب الريح مفعمة بالفضاء الكوني
وتطعم من وجوهنا،
من ذا الذي لا تبقى من أجله
هذه المشوقة، مخيبة الآمال الناعمة
التي تنتظر القلب الوحيد السأمان؟
أهو
16
أرحم بالعشاق؟
آه! إنما يحجبون قدرهم معا،
ألا تعرف ذلك بعد؟ أنفض الفراغ من بين ذراعيك
17
في المكان الذي نتنفسه، ربما تشعر الطيور
بالهواء الأرحب، فتتحمس للطيران.
نعم، فصول الربيع
18
احتاجت إليك. بعض النجوم
أوحي إليك أن تحس بوجودها.
ارتفعت موجة نحوك من الماضي،
أو عندما مررت تحت نافذة مفتوحة،
وهب كمان نفسه لك. كل هذا كان عهدا
19
لكن هل تمكنت من أدائه؟ ألم يشتتك الانتظار دائما
كأنما كان كل شيء يؤذن بمقدم الحبيبة؟ (أين تريد أن تخفيها، بينما الأفكار الكبيرة الغربية
لا تفتأ تتردد على عقلك وفؤادك
20
وكثيرا ما تبقى أثناء الليل)
إن كنت مشوقا، فغن للأحباب
21
إن إحساسهم المشهور ما يزال بعيدا عن الخلود . (غن) أولئك المهجورين - أنت تكاد تحسدهم -
الذين كنت تجدهم أصدق حبا من (السعداء) الراضين.
22
أبدا دائما من جديد
أنشودة الثناء التي لا تعرف الختام؛
فكر في هذا: إن البطل يبقي على نفسه،
حتى هلاكه
23
لم يكن غير مبرر للوجود:
لم يكن سوى ميلاده الأخير.
غير أن العشاق تستردهم الطبيعة المجهدة،
كأنها لم تعد تملك القوة لتحقيق هذا
24
هل فكرت تفكيرا كافيا في جاسبارا ستامبا،
25
بحيث تجعل فتاة، هجرها حبيبها.
تحس إزاء المثل السامي لهذه الحبيبة: «ليتني أكون مثلها!»؟
ألا ينبغي أن تصبح هذه الأحزان القديمة
نافعة لنا؟ ألم يئن الأوان لكي نتحرر - بالحب -
من المحبوب، ونحتمل (الفراق) ونحن نرتعش:
كمثل ما يحتمل السهم الوتر
لكي يصبح - وهو يتجمع للانطلاق - أكثر من نفسه؟
لأن البقاء في غير مكان.
أصوات، أصوات. أنصت يا قلبي،
كما أنصت القديسون وحدهم.
حتى رفعهم النداء الهائل
26
من على الأرض،
أما هم، هؤلاء النادرون،
27
فظلوا راكعين، ولم يلتفتوا إليه.
28
هكذا كانوا منصتين.
ليس معنى هذا أنك تستطيع أن تحتمل صوت الله،
هذا أمر بعيد. لكن أنصت إلى صوت الريح،
إلى النبأ الذي لا ينقطع، والذي يتكون من السكون.
29
إنه يأتيك هامسا من أولئك الأموات الشبان.
ألم يتحدث قدرهم إليك في هدوء
حيثما دخلت الكنائس في روما ونابولي؟
أو فرض أحد النقوش نفسه عليك
في مهابة وجلال، كما فعلت أخيرا تلك اللوحة
في سانتا ماريا فورموزا.
ماذا يريدون مني الآن؟
30
أن أرفع في هدوء شبهة الظلم
التي تقيد في بعض الأحيان
حركة أرواحهم الصافية. (3) هرمان هسه (1877-1962م)
رافينا
1
أنا أيضا كنت في رافينا.
هي مدينة صغيرة ميتة،
فيها كنائس وأطلال كثيرة،
يستطيع الإنسان أن يقرأ عنها في الكتب
تسير فيها وتتلفت حولك،
الشوارع عكرة ومبتلة
وخرساء من آلاف السنين
وفي كل مكان ينمو الكلأ والعشب.
هذا شيء أشبه بالأغاني القديمة
يسمعها الناس ولا يضحك أحد،
وكل إنسان ينصت وكل إنسان
يتفكر فيها حتى يأتي الليل.
2
نساء رافينا يطوين
بنظرة عميقة وإشارة رقيقة
في أنفسهن معرفة بأيام
المدينة القديمة وأعيادها .
نساء رافينا يبكين
كالأطفال الوادعين: في عمق وهدوء
وحين يضحكن، يبدو ضحكهن
ترنيمة مرحة لنص حزين.
نساء رافينا يصلين
كالأطفال: صلاة ناعمة تفيض بالقناعة.
قد ينطقن بكلمات الحب
ولا يعرفن أنهن يكذبن.
نساء رافينا يقبلن
قبلات غريبة وعميقة ومتفانية.
ولا يعلمن جميعا عن الحياة
سوى أننا لا بد أن نموت.
نحن نحيا ...
نحن نحيا في الشكل والمظهر،
ونحس في أيام العذاب وحدها
بالوجود الخالد الذي لا يتغير،
تحدثنا عنه الأحلام الغامضة.
نحن نبتهج بالوهم والزبد،
نشبه عميانا بلا دليل،
نبحث جاهدين في المكان والزمان
عن شيء لا نجده إلا في الأبد.
نحن نرجو الخلاص والنجاة
في عطايا الحلم التافهة،
بينما نحن آلهة ونشارك
بنصيب في مبدأ الخليقة.
عند سماع نبأ وفاة صديق
سريعا يذبل الفاني،
سريعا تعدو السنوات الجافة.
والنجوم التي تبدو خالدة
تنظر في تهكم.
قد يستطيع العقل وحده فينا
أن يتفرج على اللعبة في جمود،
بغير سخرية، ولا ألم.
إن «الفاني» و«الخالد» عنده
شيء واحد في معناه ...
أما القلب فيصمد،
يتأجج بالحب.
ويستسلم، زهرة ذابلة
لدعاء الموت اللامتناهي،
لنداء الحب اللامحدود.
في الضباب
ما أغرب التجوال في الضباب!
كل أيك وحيد، كل حجر،
ما من شجرة ترى الأخرى،
كل شجرة تقف وحيدة.
كل العالم عندي مليئا بالأفراح،
حين كانت حياتي لا تزال مضيئة،
والآن، حيث تسقط الضباب،
لا أحد عدت أراه.
حقا لا يعد حكيما،
من لا يعرف الظلام،
الذي يفصله عن الجميع
كالقدر المحتوم في هدوء.
ما أغرب التجوال في الضباب!
الحياة وجود وحيد.
ما من إنسان يعرف الآخر،
الكل وحيد.
فناء
من شجرة الحياة
تتساقط ورقة بعد ورقة،
أيها العالم المسكر البديع،
كم تشبع!
كم تشبع وتضني!
وكم تسكر!
ما يتوهج اليوم
سرعان ما يهوي.
سرعان ما تزف الريح
فوق قبري البني،
الأم تنحني
على الطفل الصغير.
أريد أن أرى عينيها
نظرتها نجمي،
وليذهب كل ما عداها ويزول،
كل شيء يموت، يموت عن طيب خاطر.
ولا يبقى سوى الأم الخالدة،
التي أتينا منها،
إصبعها اللاهي يكتب
أسماءنا في الهواء الساري. (4) هانز كاروسا (1878-1956م)
وكم من ليلة!
وكم من ليلة
صحوت من نومي
وكان القمر مضيئا على الفراش والدولاب ...
مددت بصري إلى الوادي -
كان بيتك يبدو واضحا كالحلم -
فعدت للنوم وأنا أحلم حلما أعمق.
حمل
دائما تقترب منا أرواح لم تولد
عندما نتنفس، صدرا على صدر،
تحاول أن تتسلل إلى الحياة
على موجة لذتنا.
مرح وقبل وسرف من الأعماق
ليل أعمى لا يستنفد!
الفجر يدعو لمباهج ناضرة؛
غير أن الوجود الجديد يصحو،
وتود العين أن تنظر الآن في العين .
أتشعرين بما يبدأ فينا؟
شمس جديدة ترغمنا أن نعترف
إن كنا نريدها حقا.
ما يكونه الانسان ...
ما يكونه الإنسان، وما كان
يتضح عند الفراق.
نحن لا نسمع ما تتمتم به آية الله،
لكننا نرتجف، عندما تصمت.
النبع القديم
أطفئ نورك! فما هو إلا الخرير اليقظ أبدا
يترنم من النبع القديم
والذي قد كان ضيفا تحت سطحي،
سرعان ما تعود على هذا الرنين.
قد يحدث، حين تكون مستغرقا في الحلم
أن يتجول القلق حول البيت،
ويئن الحصى حول النبع تحت الخطوات الثقيلة.
ويتوقف الخرير الواضح فجأة،
وتستيقظ، عندئذ لا ينبغي أن تفزع!
فالنجوم تسطع كاملة العدد فوق الأرض،
وإنما اقترب مسافر من الحوض المرمري،
وراح يغرف براحته من النبع.
إنه يبتعد على الفور، ويعود الخرير كما كان.
آه فلتفرح نفسك، فلن تبقى هنا وحيدا،
كثير من المسافرين يبتعدون في ألق النجوم،
وبعضهم لا يزال في طريقه إليك. (5) جو تفريد بن (1886-1956م)
دائما أشد صمتا
أنت في الممالك الأخيرة،
أنت في النور الأخير،
إن لم يكن نورا
في الوجه الشاحب المحملق،
هناك الدموع دموعك،
هناك تتعرين من نفسك،
هناك الإله، الواحد،
الذي يخلص كل عذاب.
من بين أزمنة لا تسمى
حطمك واحد منها،
نداءات، أغاني تصحبك،
تسمع فوق الماء،
أطلال أشجار استوائية،
غابات من عمق البحر،
أماكن نشوى بالرعب
تدفعها إلى هنا.
قديما كان شوقك،
31
قديمة كانت الشمس (وكان) الليل،
كل شيء؛ الأحلام والأحزان
تبددت في التيه،
32
دائما أكثر انتهاء، دائما أكثر صفاء
تطوى في الأبعاد،
33
دائما أكثر صمتا، لا أحد
ينتظر ولا أحد ينادي.
1930م
كلمة
كلمة، جملة: من الرموز تصعد
حياة معروفة، معنى فجائي،
الشمس تقف، الأفلاك تصمت
وكل شيء يتكور ويتجه إليه.
كلمة، لمعان، تحليق، نار،
قذفة لهب، شهاب،
ثم ظلام من جديد، ظلام فظيع
في الفراغ الخاوي حول العالم والذات.
أبدا لم تكن أشد وحدة
أبدا لم تكن أشد وحدة منك في أغسطس:
لحظة الامتلاء، في الأرض
الحرائق الحمراء والذهبية،
لكن أين متعة حدائقك؟
البحيرات ناصعة، السموات ناعمة ،
الحقول صافية وتلمع بهدوء؛
لكن أين النصر ودلائل الانتصار
من المملكة التي تمثلها؟
حيث يثبت الجميع أنفسهم بالسعادة،
ويتبادلون النظرات ويتبادلون الخواتم
في رائحة الخمر، في سكرة الأشياء؛
تخدم أنت عدو السعادة، تخدم العقل.
الأنا الضائعة «أنا» ضائعة، تفجرت من الغلاف الهوائي،
ضحية الأيون؛ أشعة جاما - لام،
جزيء ومجال؛ أوهام لا نهاية
على حجرك المعتم من نوتردام.
الأيام تمضي بك بلا ليل ولا صباح،
السنوات تقف بلا ثلج ولا ثمر،
اللانهائي مهدد وخفي،
العالم مهرب وملاذ.
أين تنتهي، أين تعسكر، أين تمتد أفلاكك،
مكسب، خسارة؛
لعبة وحوش، أبد وأزل،
تفر إلى قضبانها.
نظرة الوحوش؛ النجوم أمعاء حيوانات
موت الأدغال أصل الوجود والخلق.
بشر، مجازر شعوب، حقول كروم
تهوي إلى حلق الوحوش.
العالم فتته الفكر والمكان والأزمان.
وما نسجت البشرية وما أبدعت،
ليس إلا دالة اللانهاية،
الأسطورة كذبت.
من أين، إلى أين، لا ليل، لا صباح،
لا تحية ولا حداد،
تود أن تقترض شعارا،
لكن ممن؟
آه، لما توجهوا جميعا إلى مركز واحد،
والمفكرون أيضا لم يفكروا إلا في الله،
وتوزعوا بين الراعي والحمل،
ومن الكأس طهرهم الدم،
والجميع اندفقوا من الجرح الواحد.
كسروا الرغيف، الذي ذاقه كل من شاء؛
آه أيتها اللحظة البعيدة القاهرة الممتلئة،
التي عانقت الأنا الضائعة أيضا ذات يوم.
شوبان
ما كان فياض الحديث،
الآراء لم تكن مكمن القوة فيه،
الآراء تلغو وتلغو،
وعندما كان «ديلاكروا» يبني النظريات،
كان يحس بالضيق، وهو من جانبه
لم يكن يدري كيف يفسر «الليليات».
34
عاشق ضعيف؛
ظل في «نوهان»
حيث أبناء جورج صاند
لا يقبلون منه
النصائح التربوية.
مريض بالصدر، من ذلك النوع
الذي ينزف الدماء ويمتلئ بالندوب،
ويستمر إلى أجل طويل؛
موت هادئ
على عكس من يموت
بنوبات الألم
أو بطلقات البنادق:
نقلوا البيان الكبير (إيرار) عند الباب،
وغنت له دلفينة بوتوكا
في ساعته الأخيرة
أغنية البنفسج.
سافر إلى إنجلترا ومعه ثلاثة «بيانوهات»
ماركة بلايل، وإيرار، وبرود وود،
عزف في المساء مقابل عشرين جنيها
ربع ساعة
لدى عائلتي روتشيلد، ولنجتون وبيت سترافورد
وأمام جمع لا يحصى من أصحاب النياشين،
وعندما أظلمت عيناه من التعب والإحساس بالموت
رجع إلى بيته
في ميدان أورليانز.
ثم أحرق مسوداته
ومخطوطاته،
لكيلا تكون هناك بقايا، شذرات، ملاحظات،
هذه النظرات الخائنة،
قال في النهاية: «محاولاتي تمت على قدر طاقتي.»
كل إصبع ينبغي أن يعزف
بالقوة التي تلائم بنيته،
الرابع هو الأضعف (سيامي فحسب بالنسبة للأوسط).
عندما كان يبدأ العزف
كانت تقف على أي، فيس، جيس، هه، سي.
من سمع مرة
بعض افتتاحياته
سواء في بيت ريفي
أو فوق مرتفع
أو من أبواب شرفة مفتوحة
أو على سبيل المثال من مصحة،
سيصعب عليه أن ينساها.
أبدا لم يؤلف أوبرا،
ولا سيمفونية،
بل هذه الخطوات التراجيدية
عن اقتناع فني
وبيد صغيرة.
1948م
صور
إن نظرت إلى الصور في المعارض؛
ظهور محنية، أفواه كالحة،
تجاعيد عجائز مقززين متورمين،
كالجثث ينفذون خلال الأشياء.
جلود هشة، شعرات ناتئة، ذقون كالجبن،
دهن عليه بقع دم من سكرة الخمر الرخيصة،
حاذقون في الغش والخداع من أجل الشراب
في التقاط عقب سيجارة ولفه في منديل.
مغرب حياة، ديكور غنى،
ذخيرة من القاذورات، والهلاهيل، والأوبئة،
صعود (ولكن) في أماكن الإقامة المتغيرة
في بيت الرهونات نهارا وبالليل في البالوعات.
لو نظرت إلى الصور في المعارض،
كم كلفت هؤلاء العجائز حياتهم!
لو نظرت إلى ملامح من رسموهم،
لرأيت العبقري العظيم، ستراه.
1948م
قصائد ساكنة
غرابة التطور
35
هي كنه الحكيم،
الأبناء وأبناء الأبناء
لا يزعجونه،
لا ينفذون فيه.
تبني الاتجاهات ،
الفعل،
السفر والترحال
سمات عالم
لا يرى بوضوح.
أمام نافذتي - كما يقول الحكيم -
يمتد واد،
تتجمع فيه الظلال.
شجرتا حور تحدان طريقا،
أنت تعلم، إلى أين.
القول بالمنظور
هو كلمة أخرى للسكون:
وضع الخطوط،
ثم مدها
بحسب قانون التسلق،
كذلك قذف الأسراب والغربان.
في الشفق الشتائي لسموات الصباح،
ثم تركها تسقط،
أنت تعلم، لمن.
1948م (6) يوهانس بشر (1891-1958م)
رفض
أنا بريء من كل الآمال.
أنتم أيها المفعمون بالأمل،
يا من بالغتم عبثا في الرجاء،
شارفتم على الموت، ومع ذلك
فما زلتم تأملون؛ ما أجبن هذا الأمل!
أما أنتم أيها اليائسون
يا من تجاهرون برفض الآمال جميعا:
من الحق والعظمة ألا نؤمل شيئا وراء العدم،
وأن نتطلع إلى المستقبل: بغير أمل
المجد لكم، أيها اليائسون الشجعان!
لقد فتحتم الباب إلى عدم الوجود!
يا للنظرة إلى مملكة العدم الخالدة!
ومع ذلك تقفون ثابتين على الأرض،
ولا تشيحون بأنظاركم بعيدا عن الزمن! ... وهو وحده، الذي يدفعنا على الأمل.
عشب
أنا أحني رأسي لك، يا عشب.
وعني أصلي لك، يا أيها العشب!
اغفر لي، إن دست فوقك،
وإنني، يا أيها العشب، قد نسيتك.
أنا أحني رأسي لك، أيها العشب.
أنا أحني رأسي لك، يا عشب.
مهما ارتفعنا إلى الأعالي
فسوف نرقد تحتك.
وما من شيء يعدل في قوته هذا اليقين:
العشب ينمو. العشب ينمو.
أنا أحني رأسي لك، يا عشب.
إلى المجهولين
أنكون أو لا نكون، كان هذا أيضا سؤالنا،
وكذلك سألنا: من هو؟
أهو نفس الإنسان بالليل كما في النهار؟
إلى أين يذهب؟ وإذا جاء على الطريق فمن أين يأتي؟
في أية مهمة؟ وفي خدمة من؟
كل امرئ خليق بأن يسأل وموضع للسؤال.
ربما لم يستطع الإنسان نفسه أن يقدر،
في أي لعبة يشتهي أن يؤدي دوره ...
من أنت. من؟ آه يا زمن علامات الاستفهام:
لما تصنت عليك كل جدار وكل باب،
وفي ليالي الشتاء الشاحبة،
وفي ليالي الصيف الحارة - علامة استفهام ... شرطة -
وشطبت أسماء كثيرة.
الرجل ذو الخوذة الذهبية (عن لوحة لرمبرانت.)
1
ينظر إلى أسفل كما ينظر
في أعماق العدم.
الخوذة الذهبية كانعكاس
ضوء نفيس.
يا للعبء الرفيع
المزين بالذهب،
الذي ناله
ويحمله في حزن!
هو، الذي كان جسورا
حارب في المعركة،
بعد نضال دام
تتوجه القوة،
روعة الخوذة
كلهيب المساء.
2
كم يحمل الخوذة الذهبية في هدوء،
كان عليه أن يتحمل روعة المجد!
غير أنه يبدو أن نظرته المتجهة إلى أسفل
تسأل ذلك الذي هزمه فهوى به إلى الظلام ...
أيكون عليه أن يحجم عن السؤال،
ويذكر نفسه في تردد:
ماذا كانت قيمة الانتصارات والهزائم؟!
ولماذا لا يحملنا المجد ولا يرتفع بنا؟!
هنالك تستقر الخوذة كأنها تسحقه
وتحمله على أن يوجه بصره
إلى حيث تنتهي أعماله إلى النسيان.
إن عبء الخوذة ثقيل وثقيل،
والذي يزينه ضوء الخوذة الذهبي
ميت يرقد في أعماق النسيان،
والميت لا أحد سواه. (7) أرنست بنسولت (1892-1955م)
إلى كرستيانة (عندما ترفض أن تنام)
يا طفلتي المحبوبة، لا تبكي
مهما طال الليل وأظلم.
فوق السطح يلمع القمر والنجوم،
ومن السماء يطل السيد المسيح.
قد يحدث حقا في بعض الأحيان
أن يهمس صوت في الممر
ويتحدث أحد في المدفأة،
فتخافين من الشر.
خطى غريبة تتخبط هنا وهناك.
أحيانا تطل أرواح من النافذة،
لكن عليك ألا تنتبهي لها.
عزي نفسك، فالذين يتأملون نومك
يسعدهم وجهك المحبوب:
ملائكة هم، أشباح صديقة،
لن تنالك بشيء.
الملاك
ها أنت تقترب بجناحين يغطيهما الثلج
أيكون حزني هو الذي صاح بك فهبطت إلى الأرض،
يا أيها الملاك، ما الذي يجعلك تغريني؟
أتعتقد أننا سنكون أسعد حالا هناك؟
آه لقد رأيتك من زمن بعيد
خلف شجرة في الحديقة
تقف جامدا في الظلام
وتنتظر روحي.
أتريد مني أن أختصر عذابي؟
أيها الرفيق الصامت، أتنتظر
أن ألقي بنفسي بين ذراعيك؟
وتبتسم، وتؤمن على كلامي. (8) برتولت برشت (1898-1956م)
برتولت برشت المسكين
1
أنا، برتولت برشت، ولدت في الغابات السوداء.
حملتني أمي إلى المدينة
وأنا بعد جنين في أحشائها.
وسوف تلازمني برودة الغابات.
إلى يوم أموت.
2
في مدينة الأسفلت أحس أنني في بيتي.
منذ مولدي وأنا مزود بما ينعم به الموتى؛
بالصحف، والتبغ، والنبيذ.
مرتاب، وكسول، وقنوع بعد كل شيء.
3
وأنا ودود مع الناس.
أضع على رأسي قبعة خشنة كما يفعلون.
أقول، إنهم حيوانات ذات رائحة خاصة.
وأقول، لا بأس، فأنا واحد منهم.
4
وفي الضحى أتمدد فوق كرسي مريح
وتجلس أمامي جماعة من النساء.
أتأملهن في غير اكتراث وأقول:
لا جدوى من الاعتماد علي.
5
وفي المساء أجمع حولي بعض الرجال
ويخاطب بعضنا بعضا: «يا أيها السيد!»
يضعون أقدامهم على مائدتي
ويقولون: سوف تتحسن أحوالنا.
ولكنني لا أسأل: متى؟
6
وفي غبش الفجر تبول أشجار الزان.
وتشرع الطفيليات التي تزدحم عليها - الطيور - في الصباح
عندها أجرع كأسي في المدينة
وأقذف تفل التبغ بعيدا
وآوي إلى فراشي غير مرتاح.
7
عشنا، ونحن جنس طائش، في بيوت
كنا نحسب أن يد الخراب لن تمتد إليها. (هكذا بنينا الميادين الواسعة في جزيرة مانهاتن
وأسلاك الهواء الدقيقة عبر الأطلنطي.)
8
لن يبقى من هذه المدن إلا ما يجوس خلالها؛ الريح!
البيت يسعد الأكلين، لأنهم يفرغونه مما فيه.
نحن نعرف أننا غير مخلدين،
وأن ما سيأتي بعدنا
لا يستحق الذكر.
9
في الزلزلة القادمة، لن أدع سيجاري ينطفئ
لأن طعمه مر.
أنا برتولت برشت
حملتني أمي من الغابات السود
وألقتني في مدن الأسفلت
من زمن بعيد.
إلى الأجيال المقبلة
1
حقا إنني أعيش في زمن أسود!
الكلمة الطيبة لا تجد من يسمعها،
الجبهة الصافية تفضح الخيانة،
والذي لا يزال يضحك
لم يسمع بعد بالنبأ الرهيب.
أي زمن هذا؟
الحديث عن الأشجار يوشك أن يكون جريمة؛
لأنه يعني الصمت على جرائم أشد هولا،
ذلك الذي يعبر الطريق مرتاح البال
ألا يستطيع أصحابه
الذي يعانون الضيق
أن يتحدثوا إليه؟
صحيح أنني ما زلت أكسب راتبي،
ولكن صدقوني، ليس هذا إلا محض مصادفة؛
إذ لا شيء مما أعمله
يبرر أن آكل حتى أشبع.
صدفة أنني ما زلت حيا (إن ساء حظي فسوف أضيع!)
يقولون لي: كل واشرب!
افرح بما لديك!
ولكن كيف يمكنني أن آكل وأشرب،
على حين أنتزع لقمتي
من أفواه الجائعين،
والكأس التي أشربها
ممن يعانون الظمأ؟
ومع ذلك فما زلت آكل وأشرب!
نفسي تشتاق أن أكون حكيما،
الكتب القديمة تصف لنا من هو الحكيم.
هو الذي يعيش بعيدا
عن منازعات هذه الدنيا،
يقضي عمره القصير
بلا خوف أو قلق.
العنف يتجنبه،
والشر يقابله بالخير.
الحكمة في أن ينسى المرء رغائبه
بدل أن يعمل على تحقيقها.
غير أنني لا أقدر على شيء من هذا؛
حقا، إنني أعيش في زمن أسود.
2
أتيت هذه المدن في زمن الفوضى
وكان الجوع في كل مكان،
أتيت بين الناس في زمن الثورة
فثرت معهم،
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
طعامي أكلته بين المعارك،
نمت بين القتلة والسفاحين،
أحببت في غير اهتمام،
تأملت الطبيعة ضيق الصدر،
وهكذا انقضي عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
الطرقات على أيامي كانت تؤدي للمستنقعات،
كلماتي كادت تسلمني للمشنقة.
كنت عاجز الحيلة.
غير أني كنت أقض مضاجع الحكام (أو هذا على الأقل ما كنت أطمع فيه)
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
القدرة كانت محدودة،
الهدف بدا بعيدا،
كان واضحا على كل حال،
غير أني ما استطعت أن أدركه.
وهكذا انقضى عمري
الذي قدر لي على هذه الأرض.
أنتم يا من ستظهرون
بعد الطوفان الذي غرقنا فيه،
فكروا
عندما تتحدثون عن ضعفنا
في الزمن الأسود
الذي نجوتم منه.
كنا نخوض حرب الطبقات
ونهيم بين البلاد
نغير بلدا ببلد
أكثر مما نغير حذاء بحذاء،
يكاد اليأس يقتلنا
حين نرى الظلم أمامنا
ولا نرى أحدا يثور عليه.
نحن نعلم،
أن كرهنا للانحطاط
يشوه ملامح الوجه
وأن سخطنا على الظلم
يبح الصوت.
آه: نحن الذين أردنا أن نمهد الأرض للمحبة
لم نستطع أن نحب بعضنا بعضا،
أما أنتم
فعندما يأتي اليوم
الذي يصبح فيه الإنسان صديقا للإنسان
فاذكرونا
وسامحونا.
الفتاة الغريقة
36
1
لما غرقت وسبح جسدها
من الجداول إلى الأنهار الكبيرة
بدت قبة السماء رائعة الجمال
كأنها تعانق جثتها.
2
تشبثت بها طحالب الماء
فزادت ثقلها شيئا فشيئا ،
الأسماك الباردة سبحت حول ركبتها،
والنباتات والحيوانات أبطأت رحلتها الأخيرة.
3
وبالليل كانت السماء كالحة كالدخان،
والنور يتراقص بين النجوم،
ولكن عندما طلع النهار أشرقت صفحتها
لكي يكون لها صباح ومساء.
4
وعندما فسد جثمانها الشاحب في الماء
حدث (ولكن على مهل) أن نسيها الله.
نسي وجهها أولا، ثم يديها، وأخيرا شعرها؛
هناك أصبحت جثة في النهر
بين جثث كثيرة.
عن مودة العالم
1
إلى الأرض المقرورة بالريح الباردة
جئتم جميعا أطفالا عراة.
كنتم ترتعشون من البرد ، وليس لديكم متاع
عندما طوقتكم امرأة في اللفافات.
2
لا أحد هتف مرحبا بكم، لا أحد اشتهى مقدمكم،
ولم يحضركم أحد في عربة مطهمة.
هنا على الأرض كنتم مجهولين
عندما امتدت يد إنسان فأخذتكم من أيديكم.
3
عن الأرض المقرورة بالريح الباردة
تذهبون جميعا يغطيكم الجرب والجروح،
ويشبه كل إنسان أن يكون قد أحب العالم
عندما تلقى عليه حفنتا تراب.
قناع الشر
على حائط غرفتي
لوحة يابانية من الخشب،
قناع شيطان شرير
مموه بالذهب.
أنظر في إشفاق
إلى العروق النافرة على جبهته،
وأرى كم يرهق الإنسان
أن يكون شريرا!
أغنية عن قصور سعي الانسان
الإنسان يعيش برأسه
والرأس لا تغنيه.
حاول فحسب، فعلى رأسك
تعيش قملة، على أقصى تقدير.
لأن الإنسان في هذه الحياة
ليس خبيثا بما فيه الكفاية.
إنه لا يفطن أبدا
للكذب كله والخداع.
نعم، ضع خطة واحدة،
كن نورا عظيما!
ثم ضع خطة ثانية
فالخطتان قد لا تنجحان.
لأن الإنسان في هذه الحياة
ليس خبيثا بما فيه الكفاية،
غير أن طموحه ومسعاه
خصلة جميلة فيه.
أجل، اجر وراء السعادة
لكن لا تلهث في جريك!
لأن الجميع يجرون وراء السعادة
والسعادة تجري وراءهم.
لأن الإنسان في هذه الحياة
ليس قنوعا بما فيه الكفاية؛
لذلك كان كل هم مسعاه
مجرد خداع للذات.
حديقة الزهور
على البحيرة، بين أشجار الصنوبر والحور الفضية
حديقة يحميها سور وأغصان متشابكة
نسقت تنسيقا حكيما بأزهار تنبت كل شهر
بحيث تزدهر من الربيع إلى الخريف.
هنا، في الفجر، أجلس في بعض الأحيان
وأتمنى لو أمكنني في كل الأوقات
في الجو السيئ والجميل
أن أؤدي هذا الفعل الطيب أو ذاك.
أغنية المهد
يا ولدي، أيا كان مصيرك
فهم، بعصي في أيديهم، يقفون على استعداد؛
إذ لا موضح لك يا ولدي فوق الأرض
إلا في ميدان القاذورات، وهو الآن زحام.
يا ولدي، اسمع من أمك كلمة:
إن حياة تنتظرك، أسوأ من الوباء.
لكنني لم أحملك إليها
كي ترضى بها في هدوء.
ما لا تملكه، لا تظن أنه ضاع منك
وما لا يعطونك إياه، فاعمل على أن تأخذه منهم.
أنا، أمك، لم ألدك
لكي ترقد ليلا تحت جسور الأنهار.
قد لا تكون خلقت من طينة متميزة
ليس لدي مال من أجلك ولا صلاة
وأنا أعتمد عليك وحدك، حين أرجو لك
ألا تتسكع بين المكاتب، والأختام وتبدد وقتك.
حين أرقد في الليل بجانبك بلا نعاس
أتحسس كثيرا كفك الصغيرة.
هم يخططون لك الآن بالتأكيد حربا جديدة!
ماذا أفعل، حتى لا تصدق أكاذيبهم القذرة؟
أمك، يا ولدي، لم تكذب عليك
ولم تقل إنك شيء فريد،
لكنها لم تقاس الهموم في تربيتك
لكي تعلق يوما في الأسلاك الشائكة
وتصرخ في طلب الماء.
فلتضع، يا ولدي، يدك في أيدي أصحابك
كي تتبدد قوتهم كذرات التراب.
أنت، يا ولدي، وأنا وكل من يشبهوننا
لا بد أن نتحد ولا بد أن نصل يوما
ألا يكون في هذا العالم نوعان من الإنسان.
عودة
مدينة الآباء، كيف أعثر عليها؟
أعود إلى بيتي
في أثر قاذفات القنابل.
أين تقع إذن؟
حيث تقف جبال الدخان الهائلة
تلك التي تشتعل فيها النيران
هي مدينتي.
مدينة الآباء والأجداد، كيف تراها ستلقاني؟
القاذفات تسبقني إليها،
أسراب الموت تعلن لكم عودتي.
الحرائق تسبق الابن.
عن أسد صيني مرسوم على علبة شاي
الأشرار يخيفهم مخلبك.
الأخبار تسعدهم رقتك.
مثل هذا سمعته
عن أشعاري
فسرني.
الدخان
البيت الصغير، تحت الشجر، على البحيرة
من سقفه يصعد الدخان،
إن غاب يوما
فما أتعس البيت، والشجر، والبحيرة!
37 (9) اريش كستز (1899م-؟)
ضحك لا جدوى منه أبدا ...
فجأة خطر له ذات يوم،
أنه لم يضحك من ثلاث سنين؛
فراح يفحص تاريخ حياته
ليرى ماذا صنع فيه ...
في بعض الأحيان، على ما يذكر، كان كل شيء ذنبا.
في بعض الأحيان كان يطلق اللعنات كالبهيم.
في بعض الأحيان كان يبحث لكل شيء عن سبب
مثلما يبحث الإنسان عن أزرار ياقته.
غير أنه يريد الآن أن يبتهج ويضحك!
لقد استطاع ذلك في الأيام الخالية.
وسوف يفعل الآن كما فعل من قبل،
وها هو ذا يجلس، ويضحك.
آه، إنه لضحك مفزع!
وينزعج وسرعان ما يصمت.
ويسأل لماذا لا ترن ضحكته رنينها القديم؟
ولكنه لا يستطيع أن يعرف لماذا؟
ويذهب إلى حيث يجلس الكثيرون،
لأنه يطمع أن يكون مثلهم.
إنهم يستمتعون بآلاف الدعابات.
غير أنه لا يبتسم أبدا.
ويقرر ذات يوم أن ينفق كل ما لديه.
غير أنه يحس، تجاه المدنية،
بشيء يشبه الرثاء
للبهجة والمبتهجين.
ويحزنه هذا الغرور الزائف.
ويقول لنفسه: «في صحتك».
لا لن يفرح ولن يعود إلى الفرح،
وهو لا يملك عن ذلك عزاء.
وأخيرا يقفز في الأتوبيس
وينطلق كالأعمى في آخر الليل.
ويشعر أن عليه أن ينتظر،
حتى يضحك مرة أخرى من قلبه.
تطور الإنسانية
في يوم من الأيام كانوا يتسلقون الأشجار،
بشعور كثة ووجوه قبيحة.
ثم جذبوهم من الغابة الأولى
وسفلتوا العالم ورفعوه
إلى الطابق الثلاثين.
أخذوا يجلسون، وقد هربوا من البراغيث،
في غرف مدفئة.
وهم يجلسون الآن بجانب التليفون.
ولم تزل اللهجة نفسها سائدة
كما كانوا وهم يتسلقون الأشجار.
إنهم يسمعون عن بعد، ويرون من بعيد
38
ويتصلون بالكون الكبير.
إنهم ينظفون أسنانهم، ويتنفسون على أحدث نظام.
الأرض كوكب مهذب
تغسله مياه كثيرة.
إنهم يقذفون الخطابات في الأنابيب
ويطاردون الجراثيم ويربونها.
إنهم يزودون الطبيعة بكل وسائل الراحة
ويرتفعون طائرين في السماء
ويبقون فيها أسبوعين.
فضلات هضمهم
يصنعون منها القطن الطبي.
إنهم يشطرون الذرة، ويعالجون الفجور،
ويثبتون بأبحاثهم في الأسلوب
أن قيصر كانت قدماه مفلطحتين.
هكذا خلقوا برءوسهم وأفواههم
تقدم الإنسانية.
ولكن بصرف النظر عن هذا
إذا تأملنا المسألة في النور
وجدناهم في الحقيقة لا يزالون
هم القرود القديمة.
قصة حب موضوعية
بعد أن عرفا بعضهما ثماني سنوات (ونستطيع أن نقول إنهما عرفا بعضهما جيدا)
ضاع حبهما فجأة
كما يضيع غيرهم قبعة أو عصا.
كانا حزينين، وراحا يخدعان نفسيهما،
حاول القبل، كأن لم يحدث شيء،
وتطلعا إلى بعضهما، ولم يعرفا ماذا يفعلان.
وأخيرا بكت. وكان يقف إلى جوارها.
كان في إمكانهما أن يشيرا إلى البواخر من النافذة
قال: لا بد أن الساعة جاوزت الرابعة والربع
وحان الوقت ليشرب القهوة في أي مكان.
بالقرب منهما كان أحد الناس يجرب أصابعه على البيان.
دخلا أصغر قهوة في المنطقة
وقلبا الملاعق في الأكواب.
وعندما جاء المساء كانا لا يزالان جالسين هناك.
جالسين وحدهما، لا يقولان كلمة واحدة
ولا يستطيعان تصور ما حدث. (10) جنترأيش (1907-1972م)
تأملوا أطراف الأصابع
تأملوا أطراف الأصابع، إن كان قد حال لونها!
يوما يعود الوباء الذي قضي عليه.
يلقي به ساعي البريد كخطاب في الصندوق المشروخ،
تجده في طبقك كوجبة من الرنجة تعطيه الأم لطفلها كثدي يرضع منه.
ماذا تفعل، ولم يعد يعيش أحد
ممن كانوا يتصرفون معه؟
من يصادق الرعب
يستطيع أن ينتظر زيارته في هدوء.
نحن على الدوام نهيئ أنفسنا للسعادة
لكنها لا تحب أن تجلس على مقاعدنا.
تأملوا أطراف الأصابع! عندما تسود
يكون الوقت قد فات.
المعسكر يصحو
في الطابور
39
الأول
صبحا في غبش الفجر
يبدون في المعسكر
كأنهم في يوم الحشر.
في الحفر تتطلع العيون
نحو السماء،
أيقظتها ضجة الملائكة
التي ترعد في الهواء.
جار الدودة والصرصار
أحس بقوة بالصباح.
حفرة في الأرض تفرغ النائمين فيها،
وندي الليل رطب العظام.
في الرءوس المضطربة
يوقظ الجوع التقليد القديم:
النار تحت الأواني
تئز كدخان القرابين.
عندما تصعد الشمس دافئة
فوق مرتفعات «هوننج»
تحيي نشوة البعث
بالفزع النائمين.
الشعور التي لم تحلق
يهزونها على الأذن،
عندما تسبح جوقة القبر
مع أجراس الصباح.
جرد
هذه هي قبعتي
هذا معطفي،
هنا أدوات حلاقتي
في كيس من القماش
علب محفوظة:
طبقي، كوبي ،
في الصفيح الأبيض
حفرت اسمي.
حفرته ها هنا
بهذا المسمار الثمين،
الذي أخفيه،
عن الأعين النهمة.
في كيس الخبز
جورب من الصوف
وأشياء أخرى
لا أبوح بسرها لأحد،
أجعل منه مخدة
بالليل تحت رأسي،
لوح الورق هنا
بيني وبين الأرض.
أنبوبة القلم الرصاص
أحب الأشياء إلي:
بالنهار تكتب لي أبياتا
فكرت فيها بالليل.
هذه مفكرتي
هذه خيمتي،
هذا منديلي
هذا خيطي.
الرجل ذو السترة الزرقاء
الرجل ذو السترة الزرقاء،
العائد إلى بيته ، والفأس على كتفه،
أراه خلف سور الحديقة.
هكذا كانوا يمشون مساء في كنعان.
هكذا يعودون إلى بيوتهم من مزارع الأرز في بورما،
من حقول البطاطس في مكلنبرج،
40
يعودون إلى بيوتهم من جبال الكرم في بور جند
41
ومن بساتين كاليفورنيا.
عندما يضيء المصباح خلف ستار النوافذ،
أحسدهم على حظهم، الذي لا أستطيع أن أشارك فيه،
على المساء العائلي
بدخان المدفأة، وغسيل الأطفال، والقناعة.
الرجل ذو السترة الزرقاء يعود إلى بيته،
فأسه التي وضعها على كتفه،
تشبه في الشفق الهابط بندقية.
نهاية صيف
من الذي يحب أن يعيش بغير عزاء الأشجار!
ما أجمل أن تشارك في الموت!
الخوخ حصد، والبرقوق يكتسي لونا،
بينما يسمع خرير الزمن تحت أقواس الجسور.
أسر يأسى إلى سرب الطيور.
إنه يقيس نصيبه من الأبد في هدوء.
المسافات التي يقطعها
ترى على أوراق الشجر كأنها القمر المعتم،
حركة الأجنحة تلون الثمار.
معناه أن نتعلم الصبر.
قريبا تنزع الأختام عن كتابة الطيور،
تحت اللسان يستلذ طعم المليم.
42
قبل المطر بقليل
ستمطر بعد قليل، فأدخل الغسيل!
على الحبل تهتز المشابك.
ظل سحابة يجعل الحجر مظلما
السقوف ملأى بالأفكار.
فكرت في الطوب والحجارة،
في الأفران الجيرية والدخان القارص.
عيني تتصنت الكلمات المذهلة،
آه أيتها الحكمة الخافتة من الغصن الملتهب!
نشيج بدا يرتفع في حلقي.
الظلال المسافرة تغير الحجر.
لفحة ريح تتجاذب القمصان المرفرفة.
ستمطر بعد قليل. أدخل الغسيل! (11) كارل كرولوف (1915م-؟)
قصيدة حب
بصوت خافت أتحدث إليك:
هل ستسمعينني
خلف وجه القمر المعشوشب المرير
الذي يتفتت؟
تحت الجمال السماوي للهواء ،
عندما يطلع النهار،
ويكون الفجر سمكة محمرة بزعانف مرتعشة؟
أنت جميلة.
رطب وجاف هو جلدك.
نظرتك، ناعمة وواثقة كنظرة طائر.
أقولها للريح
عنقك - أتسمعين - من هواء
يشبه حمامة تندس بين شباك الشجر الأزرق.
ترفعين وجهك.
يبدو على الحائط مرة أخرى كالظل.
جميلة أنت. أنت جميلة.
رطبا كالماء كان نومك بجانبي.
بصوت خافت أتكلم إليك.
والليل يتحطم كالصودا، أسود وأزرق.
1955م
لحظة النافذة
واحد يدفق النور
من النافذة.
وردات الهواء
تزدهر،
وفي الشارع
يرفع الأطفال عيونهم
عن اللعب.
الحمامات تنقر
من حلاوته.
البنات يصبحن جميلات
والرجال وديعين
من هذا النور.
ولكن قبل أن يقول لهم الآخرون ذلك
يعود واحد
فيغلق النافذة.
1955م
أفكار المساء
وجوه في الظلام تضيء،
مصابيح خلف الأشجار.
خدود الخوخ تتندى
سعيدة في ظل الليل.
غليان النهار: زال.
هدأت صورته على شبكة العين،
لم تبق إلا همهمات،
عالقة بزرقة البرقوق
التي سرعان ما تصبح سوداء.
من النوافذ تطل الأصوات
من بعيد وتهمس في الريح.
في أخاديد الهواء تسبح
كالأسماك أفكار المساء.
اختطاف
الريح، التي تغمض
أعين التماثيل السوداء،
تفتح بلوزتك عند الرقبة. •••
الريح التي لا تقول نعم
ولا تقول لا،
تضع يدها عليك. •••
الريح، التي تلقي علامات
فيثاغورس في الهواء،
تمر عليك. •••
الحمامة التي في قلبك
في كامل قوتها.
بغير مقاومة
تستسلم للموت. •••
لكن فوق قلبك
نصبت القوارب أشرعتها.
منديلها يتمسح بخد النسيم. •••
ريح الغربة
بذقون القرود
43
التي ترف فوق المرساة الزرقاء
التي اختطفتك!
كل صباح
كل صباح يؤمن بالله.
أسماك زرقاء ترف أمام عينيه،
وظلال الأذرع والسيقان.
قوية.
السكون يباغت حمامة وحشية،
تبدأ في الغناء.
النساء ينشرن الفراش
الذي نمن تحته بالليل وحدهن.
أعواد الكبريت التي أحرقت في الظلام
تلقى بعيدا.
عنق الهواء يضيء.
لحظة بطولها
يود كل إنسان
أن يريح يده عليه.
في الشوارع يروي الناس
أن الأجسام تسلب منها أعمارها.
الزمن يتغير
لم تبق أحد،
يدهن تماثيل الحنان
باللون الأزرق.
قبلات الشعور الشقراء
وقبعات القش نسيت.
الأطفال الذين كانوا في الحديقة
يمدون أكتافهم لطيور الغناء المتعبة
قد شبوا.
الزمن تغير.
لم تعد الأيدي الشابة
تمسح عليه.
المصابيح تحمل الآن لمبات جديدة.
كرات التنس لم ترجع من السماء.
رداء الحمام الأصفر
مات ميتة الفراش،
وكل ظروف الخطابات
تناثرت رمادا ناعما.
غير أن الشوارع تعج بالأجانب
وفي جيوبهم تذاكر الترام!
قصيدة حب
سواء الرقاد على الجانب الأيسر أو الأيمن،
تقطيع بطيخة أو جعل الماء يلمع في الكأس.
سحر الشمعة في الخلف:
لا أهمية له كالهواء العابر
في الليل من غيرك. •••
عندما جاء العصر، هبط الطاووس أمام النافذة
كأنه باقة أزهار ظليلة.
في الساعة السادسة أمسكت ملعقتك
في طبق توت شفاف.
أنا الآن أحتمل الظلام،
هذا الليل. الذي لم تصنعيه،
وكتبته بالحبر الأسود العنيد،
بطعم الدموع في الفم
والريح الحادة في الأزهار. •••
خلف الجدار المشقوق بالسواد
تسكت الجنادب،
وأذوق نكهة الوحدة على المائدة
بين الصمت والصمت
في الليل من غيرك. •••
سواء الرقاد على الجانب الأيسر أو الأيمن
في عناق السكون، عندما تحصي ساعة اليد
الزمن في خفة،
وتتحول بقية السيجارة إلى رماد ...
بإصبعي أقيس الآخرة،
التي عشت فيها منذ قليل،
من غير شال أحمر ولا حذاء بني،
في الليل من غيرك. •••
أسمعك تحت النجوم تتنفسين! (12) يوهانس ببروفسكي (1917-1965م)
أيقونة
أبراج، مقوسة،
مسورة بالصلبان، حمراء.
معتمة تتنفس السماء.
يوحنا يقف على التل،
المدينة أمام النهر.
يرى البحر آتيا بألواح الخشب،
بالمجاديف والأسماك المجعدة،
الغابة تلقي بنفسها في الرمل.
أمام الريح
يمشي الأمير،
يهز أعلاما في يديه،
ينثر نيرانا خرساء
فوق السهول.
الدون
القرى،
عالية، من نيران.
على الصخر تسقط الشطآن
لكن النهر المغلول
أطلق انفاسا ثلجية
تبعها سكون معتم.
كان النهر أبيض.
الشط الأعلى مظلم.
الخيول صعدت المنحدر.
مرة.
فزعت منها الشطآن هناك،
رأينا وراء الحقول،
بعيدا، تحت الهلال،
أسوارا تجاه السماء.
هناك
يغني الديف
44
في البرج،
يصيح بالسحابة،
الطائر، من بؤسه،
ينادي فوق الشواطئ الصخرية،
يأمر السهول أن تنصت.
يقول: أيتها التلال،
افتحي صدرك،
أيها الموتى،
اظهروا بأسلحتكم،
ضعوا الخوذات.
النسر
بجناحين منشورين
على النهر،
فوق غابة المراعي
يقف النسر،
في قوس قزح
علامة ذات أطراف لم تزل محترقة
مسمرة في خشب بابي، مخالب،
سوف أصحو، نشوان أترنح،
عند الجبل الذي تنمو فيه الغابات
أصحو بعينين خفيفتين
من بين الأغصان.
بجناحين منشورين،
سمرت النسر
على سطح بيتي!
سأنام،
وأسير في نومي
علامة من رماد
فوق الغابات.
المسافر
بالليل،
للنهر خرير مسموع،
أنفاس الغابات ثقيلة،
السماء،
تصيح فيها الطيور،
شواطئ الظلمة،
عجوز،
فوقها نيران النجوم.
عشت حياة الإنسان،
نسيت أعد الأبواب،
الأبواب المفتوحة.
طرقت الأبواب الموصدة.
كل الأبواب مفتوحة.
المنادي يقف بذراعين ممدودين.
تقدم إذن إلى المائدة.
خطبة: الغابات ترن،
الأسماك تمخر في النهر
الثقيل الأنفاس،
السماء ترتعش بالنيران.
رفض
نار،
الإغراء من دم:
الإنسان الجميل.
والماضي كالنوم،
أحلام تهبط في الأنهار،
فوق الماء،
بغير شراع، في التيار.
سهول،
القرى الضائعة
حافة الغابات.
ودخان نحيل
في الهواء،
شديد الانحدار.
ذات يوم،
جاء بيركون،
بفم غليظ،
في ذقنه ريشة،
جاء في أثر الغزال،
المتلعثم جاء،
ركب الأنهار،
شد الظلام،
شبكة سمك، وراءه.
كنت هناك.
في زمن قديم.
ما من جديد قد بدأ.
أنا رجل،
جسد واحد مع امرأته،
يربي أطفاله
لزمن بلا خوف. (13) باول تسيلان (1920-1970)
حريق
أنت، أيتها الساعة، ترفرفين في الكثبان.
الزمن، من رمل لطيف، يغني بين ذراعي:
أرقد معه، في يميني سكين.
ازبدي إذن، أيتها الموجة!
أيتها السمكة تشجعي!
حيث يكون الماء، يكون في استطاعة الإنسان
أن يعيش مرة أخرى،
أن يرسل الغناء للعالم مرة أخرى،
في صوت واحد مع الموت،
أن ينادي مرة أخرى من السرداب: انظروا،
نحن في أمان،
انظروا، كانت البلد بلدنا،
انظروا،
كيف سددنا على النجم الطريق!
بالليل عندما يهتز البندول ...
بالليل، عندما يهتز بندول الحب
بين «دائما» «وأبدا»،
تصيب كلمتك أقمار القلب
وعينك المكفهرة الزرقاء
تعطي السماء للأرض.
من المرج البعيد، الأسود بلون الحلم
يهب علينا ما تنفسناه،
والذي ضيعناه يسير هنا وهناك، كبيرا كأوهام المستقبل.
ما ينخفض الآن ويرتفع.
يصدق على ما دفن في الأعماق:
أعمى كالنظرة التي نتبادلها
يقبل الزمن على فمه.
لحن
45
الموت
لبن الفجر الأسود نشربه في المساء
نشربه في الظهر والصباح نشربه بالليل،
نشرب ونشرب،
نهيل قبرا في الهواء لا يضيق بالإنسان.
رجل يسكن في البيت يلعب مع الثعابين،
يكتب،
يكتب عندما يظلم الليل إلى ألمانيا،
شعرك الذهبي يا مرجريت
يصفر شتائمه الفظة،
يأمر بحفر قبر في الأرض،
يأمرنا بعزف الآن للرقص.
يا لبن الفجر الأسود، نحن نشربك بالليل،
نشربك في الصباح والظهر، نشربك في المساء،
نشرب ونشرب،
رجل يسكن البيت يلعب مع الثعابين،
يكتب،
يكتب عندما يظلم الليل إلى المانيا،
شعرك الذهبي يا مرجريت،
شعرك الترابي يا سولاميت نحن نهيل قبرا في الهواء
لا يضيق بالإنسان،
ينادي يغرز رشفه في مملكة الأرض أنتم أيها الناس
وأنتم أيها الناس يغني ويلعب،
يتحسس الحديد في حزامه، يهزه، عيناه زرقاوان،
يغرز رشفه في الأعماق،
أنتم أيها الناس وأنتم أيها الناس يواصل
عزفه للرقص
يا لبن الفجر الأسود، نحن نشربك بالليل
نشربك ظهرا وصباحا نشربك مساء،
نشرب ونشرب،
رجل يسكن في البيت شعرك الذهبي يا مرجريت،
شعرك المترب يا سولاميت يلعب مع الثعابين،
ينادي يعزف الموت بلحن أعذب،
الموت معلم من ألمانيا،
ينادي يعزف كئيبا على الكمنجات، فترتفعون كالدخان في الهواء،
ويكون لكم قبر في السحاب يتسع للإنسان.
يا لبن الفجر الأسود، نحن نشربك بالليل،
نشربك ظهرا، الموت معلم من ألمانيا،
نشربك مساء وصباحا نشرب ونشرب،
الموت معلم من المانيا عينه زرقاء،
يصيب بطلقة من رصاص، يصيبك في الصميم،
رجل يسكن في البيت شعرك الذهبي يا مرجريت،
يصب شتائمه علينا، يهدينا قبرا في الهواء،
يلعب مع الثعابين ويحلم الموت معلم من ألمانيا،
شعرك الذهبي يا مرجريت،
شعر المترب يا سولاميت.
نوم وطعام
نفس الليل ملاءتك، الظلام ينام معك.
يلامس عظامك وأسلافك، يوقظك للحياة والنوم،
يراقبك في الكلمة، في الرغبة، في الفكرة،
يرقد مع كل منهم، يستدرجك.
يمشط الملح من رموشك وتضعه على مائدتك،
يتنصت للرمل في ساعاتك ويقدمه لك،
والذي كانته كوردة وظل وماء
تصبه في كأسك. (14) إنجبورج باخمان (1926م-؟)
نداء الدب الأكبر
أيها الدب الأكبر، تعال، أيها الليل الأشعث.
أيها الحيوان المتدثر بفراء السحب، يا ذا العيون القديمة،
عيون النجوم،
خلال الدغل تنفذ مبرقة
كفاك المزودتان بالمخالب،
مخالب النجوم،
يقظون نحن ونرعى القطعان،
لكننا مغلولون إليك، ونسيء الظن
بجنبيك المتعبتين
وبالأنياب الحادة نصف العارية،
يا أيها الدب العجوز. •••
عالمكم: سدادة.
أنتم: القشور فيه.
أنا أدفعه، أدحرجه،
من أشجار الصنوبر في البداية
إلى أشجار الصنوبر في النهاية،
أتشممه، أمتحن طعمه في فمي ،
ثم أطبق بالمخالب. •••
خافوا أو لا تخافوا!
عدوا في الكيس الرنان وأعطوا
للرجل الأعمى كلمة طيبة.
حتى يمسك بالدب على جانب الطريق.
وأحسنوا تتبيل الخراف. •••
قد يحدث أن ينطلق هذا الدب
من قيده ولا يعود يهدد،
ويطارد كل السدادات التي تساقطت
من أشجار الصنوبر،
أشجار الصنوبر العظيمة المجنحة
التي هوت من الفردوس.
المهلة
ستأتي أيام أشد.
المهلة التي يمكن استردادها
سترى على الأفق.
بعد قليل سيكون عليك أن تربط الحذاء،
وتطارد الكلاب إلى الساحات.
لأن أحشاء الأسماك
أصبحت باردة في الريح.
أزهار الزينة نورها خافت.
نظرتك تتلمس موقعها في الضباب:
المهلة التي يمكن استردادها
سترى على الأفق. •••
هناك تسقط الحبيبة منك في الرمال،
تصعد حول شعرها الرفيف،
تقطع عليها الكلام،
تأمرها بالصمت،
تجدها قانية
مطيعة في لحظة الوداع
بعد كل عناق. •••
لا تتلفت حولك،
اربط حذاءك.
طارد الكلاب.
ألق بالأسماك في البحر
أطفئ أزهار الزينة!
ستأتي أيام أشد.
الحملة العظيمة
حمولة الصيف العظيمة قد شحنت،
سفينة الشمس على استعداد في الميناء،
عندما يهوي النورس خلفك ويصيح.
حمولة الصيف العظيمة قد شحنت. •••
سفينة الشمس على استعداد في الميناء،
وعلى شفاه الوجوه التي تزين الغليون
تتجلى ابتسامة أرواح الموتى.
سفينة الشمس على استعداد في الميناء. •••
عندما يهوي النورس خلفك ويصيح،
يأتي الأمر من الغرب بالسقوط.
غير أنك ستغرق في النور مفتوح العينين،
عندما يهوي النورس خلفك ويصيح.
رسالة
من ردهة السماء الدافئة بالجثث تبزغ الشمس
ليس الذين هناك هم الخالدون
بل صرعى الحرب، هذا ما سمعناهم يقولون. •••
والمجد لا يعبأ بالعفن
الهنا، التاريخ،
قد أعد لنا قبرا
ليس منه نشور.
خشب ونشارة
لن أقول شيئا عن الزنابير
لأن من السهل معرفتها.
كذلك الثورات الجارية
ليست خطيرة.
الموت في أعقاب الضجيج
قد قرر من زمن سحيق.
لكن خذ حذرك
من ذباب يعيش يوما واحدا ومن النساء،
من الصيادين في يوم الأحد وصناع الجمال،
من المترددين وذوي النية الحسنة
الذين لا يؤثر عليهم الاحتقار.
من الغابات حملنا الحطب والجذوع،
والشمس ظلت طويلا لا تطلع علينا.
أسكرني ورق المطابع وهو يدور بانتظام
فلم أعد أعرف الأغصان،
ولا الكلأ المتخمر في حبر أشد سوادا،
ولا الكلمة المحفورة على قشر الشجر،
صادقة وجريئة.
منشورات مستهلكة، شعارات مرفوعة،
لافتات سود ... بالليل والنهار
ترتج آلة العقيدة،
تحت هذه النجوم أو تلك.
لكن في الخشب، ما دام أخضر،
وبالمرارة، ما بقيت مرة
أحب أن أكتب
ما كان في البدء!
اجتهدوا أن تظلوا يقظين!
على أثر النشارة، التي طارت
يسير سرب الزنابير،
وعند النبع يقف الشعر
في وجه الإغراء
الذي أضعفنا ذات يوم.
في كل يوم
لن تعلن الحرب بعد،
بل ستستمر. الفظائع
أصبحت تجري كل يوم. البطل
يبقى بعيدا عن المعارك. الضعيف
يزج به في مناطق النار.
الصبر هو الحلة الرسمية،
النيشان هو نجمة الأمل البائسة
على القلب.
سيمنحونه
عندما يتوقف كل شيء،
عندما تخرس طبول النار.
46
عندما يختفي العدو عن الأنظار
ويغطي السماء
ظل التسلح الأبدي.
سيمنحونه
على الهروب من الأعلام.
47
والاستبسال، على الصديق،
48
وخيانة الأسرار الوضيعة،
وازدراء
كل الأوامر.
طيران ليلي
السماء حقلنا،
حرثناه بعرق المحركات،
في وجه الليل،
مجهزين بالحلم -
الذي حلمناه فوق الجماجم والمحارق
49
تحت سقف العالم،
الذي حملت الريح أحجاره -
والآن مطر مطر، مطر
في بيتنا، وفي الطواحين
تطير الوطاويط العمياء.
من كان يسكن هناك؟
من كانت يداه طاهرتين؟
من أنار في الليل،
شبح للأشباح؟
مطمئنة في ريش من الصلب
تستجوب الآلات المكان.
والساعات الضابطة وأجهزة القياس
أيك السحاب،
والحب في قلوبنا
يحاول لغة منسية:
قصير وطويل طويل، لمدة ساعة
يلمس البرد طبلة الأذن،
التي تتنصت، نافرة منا ، وتتأسى.
لا السماء هوت ولا الأرض،
وإنما ذهبا كما تذهب الأفلاك
ولم يعد يعرفهما أحد.
صعدنا من ميناء،
لا يهتم فيه أحد بالعودة
ولا بالمركب أو الصيد.
توابل الهند وحرير اليابان
ملك للتجار
كالشبكة تمتلك الأسماك.
لكن رائحة تشم،
تسبق الشهب،
ونسيج الهواء.
تمزقه الشهب الهاوية.
سمها حالة الوحيدين
التي تتحقق فيها الدهشة.
لا شيء غير هذا.
تدرجنا، والأديرة خاوية،
منذ أن صبرنا، في نظام لا يشفي ولا يعلم
الفعل ليس من شأن الطيارين.
القواعد الحربية نصب أعينهم، وعلى ركبهم
خريطة منشورة لعالم،
لا جديد يضاف إليه.
من يحيا تحت؟ من يبكي ...
من ضيع مفتاح البيت؟
من ذا لا يجد فراشه،
من يرقد فوق العتبات؟
من يجسر، حين يجيء الصبح
أن يشرح هذا الخط الفضي:
أنظر ... فوقي ...
حين يعود الماء فيجرف عجل الطاحونة؟
من يجد الجرأة في نفسه
أن يتذكر هذا الليل؟ (15) هانز ماجنوس إنسنز برجر (1929م-؟)
نعاس
دعني الليلة أنم في القيثارة؛
قيثارة الليل المدهوشة،
دعني أسترح
في الخشب المكسور،
دع يدي تنامان
فوق أوتارها؛
يدي المدهوشتين،
دع الخشب العذب
ينام،
دع أوتاري،
دع الليل
يسترح على المفاتيح المنسية،
دع يدي المكسورتين
تنامان
فوق الأوتار العذبة
في الخشب المدهوش.
في كتاب المطالعة لفصول المرحلة الثانوية
لا تقرأ القصائد
50
يا ولدي، اقرأ دليل السفر:
فهو أدق. انشر خرائط البحار (أمامك)،
قبل أن يفوت الأوان، كن يقظا، لا تغني.
51
سيعود اليوم الذي يمكرون فيه على الباب،
ويضربون ويضعون علامة على صدر من يقول لا.
تعلم أن تسير مجهولا (بين الناس)، تعلم أكثر مني:
أن تغير الحي، جواز السفر، الوجه
توقع الخيانة الصغيرة،
النجاة القذرة كل يوم.
الرسائل البابوية تصلح لإشعال النار،
البيانات: للف الزبد والملح
لأجل العجزة. الغضب والصبر لازمان
لنفخ الرماد في رئة السلطة
الرماد الدقيق المميت
الذي سحقه أولئك الذين تعلموا الكثير
الذين يدققون (في كل شيء)،
52
الذي سحقته أنت.
بلدي
التي أسستها بعيني،
التي أسندها اليوم بيدي،
بلدي، بلدي الفاني،
التي تضيء بفرحتي
التي لعنتك لدي
للزمن الغريب والزمن القريب.
53
لكل الأزمنة، التي بقيت لنا.
أقول لك اسمك، تكلمي
وأعيدي لي اللغة
من فمك الذي لا يتكلم.
54
بلدي، أنا لا أذود عنك،
إني أضعك، وأنت الفانية.
55
في هذا النور الفاني.
56
نحن قريبان، يعكس كل منا
من صيف صاحبه الجميل،
يا بلدي، خفيفا كظل شجرة الزيتون
أبلل حدودك الدافئة،
التي تتنفس في بهائها.
وكظل شجرة الزيتون، الصامدة للفساد
أريد أن أستريح فوقك،
يا بلدي الشاسعة الأطراف ،
يا من أستطيع أن أحتويها بذراعي
يا جزءا من العالم حبيبا إلي،
في حجم ظل شجرة الزيتون،
أشبه بقبر، مزدهرة في وجه الرماد الملطخ بالدم،
رماد الأزمنة التي بقيت لنا. (16) هورست بينيك (1930م-؟)
علامات وعبارات
دخان في الهواء
أو نار في البحر
أو صواعق في الغابة؛
علامات الأمس
نسيناها،
لا أحد يراها،
نتحدث إلى بعضنا
بكلمات
أو عبارات
أو دخان
أو نار
مجموع الكلمات هو العبارة،
جملة العبارات هي اللغة.
نتحدث
مسجونين
في اللغة،
نتحدث،
نقيم بجوار بعضنا
في الظلام
والطحلب ينمو على أفواهنا.
رمادنا
السلك الشائك،
معطف القديسين
من يغطيه الريس أو الظلام
يعيش في الخطيئة
في ضوء الكشافات
تستطيع أن تنكر ذنبك
في التحقيق
تكتم فعلتك
ما من أحد يتكلم
عن الأربعين يوما في حبس الجوع (من رسم لك لوحات تنتوريتو
57
على جدار الزنزانة؟)
ولا أحد يتكلم عن طريقك
إلى حفرة المرحاض
لا أحد يعينك
على حمل جرادل القاذورات
وبينهم سقطت
أكثر من ثلاث مرات.
58
لم يأت أحد
غير طائر أسود من دخان،
ثم جاء القتلة
في الموعد المحدد،
حملوا الشمس
جريحة، مذبوحة، نازفة دما
على بنادقهم.
إلى الجدار الأسود
59
تقدم!
هكذا قال صوت.
خمس خطوات نحو الجدار
ولا تتلفت حولك
عندما ينطلق الرصاص!
ماذا يحدث
عندما تصلب الصرخة السماء؟
ماذا يحدث
عندما تدمر الريح الذكرى؟
ماذا يحدث
عندما تثب سمكة الشمس في العروق
ويمحو الجير وجوهنا؟
60
الجواب
قد قدم
لكن من منا؟
من منا سمعه؟
من من الأحياء بيننا
يمكنه أن يقول
إنه سمعه
ورآه؟
من منا؟
الملح في عيوننا
والرمل في آذاننا
والأبد
ينمو بلا ضوضاء في أجسادنا.
متى يتكلم رمادنا؟
قصائد من إليوت
(1) توماس ستيرنز إليوت (1888-1965م)
أغنية حب ج. الفريد بروفروك (إلى جان فيردينال، 1889-1915م الذي مات في الدردنيل.)
1
لو أني اعتقدت أن إجابتي
كانت لشخص سيعود أبدا إلى الدنيا،
لبقيت هذه الشعلة دون أن تحرك ساكنا.
ولكن لما لم يكن قد رجع أبدا من هذا العمق
إنسان حي، إذا صح ما أسمع،
فإني أجيبك دون أن أخشى سوء السمعة.
لتمض إذن، أنت وأنا،
عندما ينتشر المساء على صفحة السماء
كمريض مخدر على منضدة؛
لنمض خلال شوارع نصف مهجورة،
التراجعات المغمغمة
لليالي القلقة في فنادق رخيصة لليلة واحدة،
ومطاعم تقدم المحار وتنتشر على أرضها النشارة:
شوارع تتتابع كأنها جدال ممل
ينطوي على غرض خداع،
وينتهي بك إلى سؤال آخذ بالخناق ...
آه، لا تسل «ما هو»؟
دعنا نمض ونقم بزيارتنا.
في الحجرة تروح النساء وتغدو
وهي تلغو بالحديث عن ميكائيل أنجلو.
الضباب الأصفر الذي يحك ظهره على زجاج النوافذ،
الدخان الأصفر الذي يحك خطمه على زجاج النوافذ
لعق لسانه في أركان المساء،
تسكع فوق البرك الآسنة في البالوعات،
ترك السناج المتساقط من المداخن يسقط فوق ظهره،
2
انزلق من على سطح البيت،
3
وثب وثبة مفاجئة،
فلما رأى أنها كانت ليلة من ليالي أكتوبر الناعمة،
التف مرة واحدة حول البيت، ثم راح في النوم.
وسيتسع الوقت بلا مراء
للدخان الأصفر الذي ينزلق على طول الشارع
ويحك ظهره على زجاج النوافذ؛
سيتسع الوقت، سيتسع الوقت
لتعد وجها تلقى به الوجوه التي تلقاها؛
سيتسع الوقت لتغتال وتخلق،
ويتسع لكل أعمال وأيام الأيدي
التي ترفع وتخفض سؤالا على طبقك؛
وقت لك ووقت لي،
ووقت آخر لمائة تردد،
ولمائة نظرة وإعادة نظر،
قبل تناول الخبز المقدد والشاي.
في الحجرة تروح النساء وتغدو
وهي تلغو بالحديث عن ميكائيل أنجلو
وسيكون هناك وقت بلا مراء
كيما أتعجب: «أتواتيني الجرأة؟» و«أتواتيني الجرأة؟»
وقت لأستدير راجعا وأهبط السلم،
بصلعة وسط شعري؛
سيقولون: «ما أسرع ما يتساقط شعره!»
معطفي الذي أرتديه في الصباح، ياقتي التي ترتفع ثابتة إلى ذقني،
رباط عنقي الأنيق المتواضع، المثبت مع ذلك بدبوس بسيط.
سيقولون: «لكن ما أنحف ذراعيه وقدميه!»
أتواتينى الجرأة
على إزعاج الكون؟
إن لحظة واحدة لتتسع
لقرارات ومراجعات تبطلها لحظة أخرى.
لأني قد عرفتها جميعا، عرفتها جميعا؛
عرفت المساء والصباح والأصيل،
4
قست حياتي بملاعق القهوة؛
أعرف الأصوات التي تسقط ميتة
تحت الموسيقى الآتية من غرفة نائية.
فكيف إذن تواتيني الجرأة؟
ولقد عرفت العيون، عرفتها جميعا؛
العيون التي تثبتك في صيغة جاهزة،
5
وعندما تتم صياغتي وأتمدد على مسمار،
عندما أسمر وأتلوى على الحائط،
فكيف أبدأ
في بصق كل نفايات أيامي وعاداتي؟
6
وكيف تواتيني الجرأة؟
ولقد عرفت الأذرع، عرفتها جميعا؛
الأذرع التي تحيط بها الأساور وتبدو بيضاء وعارية، (لكنها في ضوء المصباح تبدو مكسوة بالزغب البني الفاتح!)
أهو العطر الذي يفوح من رداء
ما يجعلني أستطرد في هذا الهراء؟
7
الأذرع التي ترقد على مائدة أو تلتف في شال.
وهل تواتيني الجرأة حينذاك؟
وكيف يتسنى لي أن أبدأ؟ •••
أأقول إني رحت عند الغسق أجوس في الشوارع الضيقة،
وأراقب الدخان المتصاعد من غلايين رجال وحيدين
يطلون من النوافذ وقد شمروا أكمام قمصانهم؟ ...
كان الأولى بي أن أخلق زوجا من المخالب المهترئة
يهرول في قاع البحار الصامتة.
8 •••
والأصيل، المساء، ينام في سلام!
وقد كسته الأصابع الطويلة نعومة،
مستسلم هو للنوم، متعب، أو متمارض،
ممدد على الأرض هنا بجوارك وجواري.
أتكون لدي القدرة، بعد الشاي والكعك والمثلجات،
على أن أدفع اللحظة إلى قمتها؟
لكن مع أني بكيت وصمت، بكيت وصليت،
كع أني رأيت رأسي «التي دب إليها الصلع الخفيف»
وقد جيء بها على طبق؛
فلست نبيا، وما هذا بأمر ذي بال؛
لقد رأيت لحظة عظمتي وهي تومض وتخبو،
ورأيت الخادم الأبدي يحمل معطفي، ويكتم ضحكته،
وباختصار، كنت خائفا.
وهل كان الأمر يستحق، بعد كل شيء،
بعد الأكواب، والمربى، والشاي،
وسط أطباق الصيني وحديث متبادل بينك وبيني؛
هل كان الأمر عندئذ يستحق
أن أقطع الموضوع كله بابتسامة،
وأضغط الكون في كرة
وأدحرجها نحو سؤال رهيب،
وأقول: «أنا لعازر القادم من عند الأموات،
عدت لأخبركم بكل شيء، وسوف أخبركم بكل شيء.»
لو أن واحدة قالت وهي تسوي مخدة تحت رأسها: «ليس هذا ما كنت أقصده على الإطلاق.» «لا لم أقصد هذا على الإطلاق.»
وهل كان الأمر يستحق، بعد هذا كله،
هل كان عندئذ يستحق،
بعد غروب الشمس
9
وأفنية الدور والشوارع المرشوشة،
بعد الروايات، بعد أكواب الشاي ، بعد التنورات
10
التي تجرجر أذيالها على الأرض،
وبعد هذا، وما هو أكثر منه؟
مستحيل أن أقول بالضبط ما أريد!
لكن كأنما ألقي مصباح سحري بالأعصاب في هيئة نماذج على الشاشة:
أكان الأمر يستحق عند ذاك
لو أن واحدة قالت، وهي تسوي مخدة أو تطرح شالا
وتستدير نحو النافذة: «ليس هذا على الإطلاق،
أنا لم أقصد هذا على الإطلاق.»
لا! لست الأمير هاملت، ولا أريد لي أن أكونه؛
إنما أنا تابع أمين،
11
شخص قد يصلح
ليزين موكبا، يفتتح مشهدا أو مشهدين،
يسدي النصح للأمير؛ وأنا بلا ريب أداة طيعة،
أظهر الاحترام، ويسعدني أن أكون نافعا،
سياسي، حذر، وكثير الوسواس،
موفور الحكمة والفصاحة، وإن كانت تشوبني بلادة الإحساس؛
إني لأكون هزأة في بعض الأحيان،
بل إنني في معظم الأحوال أشبه مضحك البلاط.
إني أهرم وأشيخ، إني أهرم وأشيخ،
وسيأتي يوم أقلب فيه سراويلي.
هل أرسل شعري إلى الوراء؟ أتواتيني الجرأة أن آكل خوخة؟
سوف أرتدي سروالا من الفانلة البيضاء، وأتمشى على الشاطئ،
لقد سمعت عرائس البحر يتناشدن بالغناء.
ما أحسبهن يغنين لي.
لقد رأيتهن مبحرات على متن الأمواج
يمشطن شعر الأمواج الأبيض المتطاير للوراء
عندما تلفح الريح الماء فيكسوه البياض والسواد.
أنا نحن تريثنا في غرفات البحر
عند بنات البحر المضفرات بالأعشاب البنية والحمراء
حتى توقظنا أصوات البشر فنغرق.
1917م
سويني بين البلابل «ويلي، أصابني القدر في الصميم.»
12
أبينيك سويني يمدد ركبتيه،
تاركا ذراعيه تتدليان ليضحك،
ينفح خطوط الفنان على فكيه
13
فتصبح زرافة منقطة
دوائر القمر العاصف
تنزلق غربا تجاه نهر «بلاتا»
14
الموت والغراب يحلقان فوقها
وسويني يحرس البوابة ذات القرون.
الجوزاء المظلمة والكلب الأكبر محجبان،
والبحار المنكمشة ساكنة،
الإنسانة
15 «التي تعيش» في الكاب الإسباني.
تحاول أن تجلس على ركبتي سويني.
فتنزلق وتجذب (معها) المفرش،
وتقلب فنجان القهوة،
وعندما تعتدل على الأرض
تتثاءب وتشد الجورب؛
الرجل الصامت في لون البن
يتسلق حافة النافذة ويبحلق؛
الخادم يحضر البرتقال،
الموز والتين والعنب المستنبت،
16
الحيوان الفقري الصامت في لون بني
يتقلص، يتأهب، يتراجع؛
راخيل ابنة رابينوفيتش
17
تسحب العنب بمخالب ضارية.
هي والسيدة في الكاب
مشبوهتان، من عصابة مريبة؛
ولذلك فالرجل ذو الجفون الثقيلة
يزهد في اللعبة ويتظاهر بالإعياء،
يغادر الحجرة ويظهر من جديد
وهو يميل برأسه من النافذة،
غصون الوستارية.
18
تحيط ابتسامة ذهبية شامتة،
المضيف وشخص مجهول
يتحدثان وحدهما عند الباب،
البلابل تغني بالقرب
من دير القلب المقدس، (وقديما) غنت في الغابة الدموية
لما صاح أجاممنون صيحة عالية،
وتساقطت بقاياها السائلة
لتلطخ الكفن المتصلب المهان.
1920م
شيخوخة «ليس لك شباب ولا عمر، بل لعله نعاس العصر الذي يحلم بهما.»
19
ها أنا ذا، رجل عجوز في شهر محدب،
يقرأ علي غلام ينتظر المطر.
لا وقفت عند البوابات الحارة
20
ولا حاربت تحت المطر الدافئ،
ولا غصت حتى ركبتي في المستنقع المالح،
بينا أهز نصلي في القتال
ويلسعني الذباب.
بيتي بيت منهار،
واليهودي، صاحب الملك، قابع على حافة النافذة،
أفرخ في إحدى حانات أنتفيرب،
21
تقرح جلده في بروكسل، رقع وقشر في لندن.
العنزة تسعل بالليل هناك بعيدا في الحقل،
صخر، طحلب، سيدوم.
22
حديد، أقذار
23
المرأة تعنى بالمطبخ، تصنع الشاي،
تعطس مساء عندما تسلك البالوعة.
أنا رجل عجوز،
رأس غبية وسط فضاء تذروه الرياح.
العلامات تؤخذ مأخذ المعجزات: «نريد أن نرى علامة!»
الكلمة داخل كلمة، عاجزة عن نطق كلمة،
ملفوفة في الظلام. في ريعان شباب العام،
24
جاء المسيح النمر
في النوار المعيب.
25
أشجار الفرانيا والكستناء، وشجرة يهوذا المزهرة
كيما يؤكل، يقسم، يشرب.
بين الهمسات؛ بيدين محبتين من السيد سيلفيرو، (الذي يعيش) في ليموج،
26
والذي ظل يذهب ويجيء طوال الليل في الحجرة المجاورة،
من هاكاجاوا، الذي انحني وسط التيتيانيين ،
من مدام دي تورنكويست، التي تنقل الشموع
في الغرفة المظلمة الآنسة فون كولب
التي استدارت في القاعة، بينما كانت يدها لا تزال على الباب،
الوشائع
27
الفارغة تغزل الريح. أنا لا أملك أشباحا،
رجل عجوز في بيت يلفحه الهواء
تحت هضبة تضربها الرياح.
بعد معرفة كهذه، أي غفران؟
فكر في هذا الآن، للتاريخ مسالك ماكرة، دهاليز
ومنافذ بارعة الحيلة، يخدع بوسوسة الطموح ،
يقودنا للغرور: فكر في هذا الآن،
إنه يعطي عندما نكون مشتتي البال،
ويقرن عطاياه بأساليب ناعمة من التشويش،
حتى إن العطاء ليميت التلهف جوعا. يعطي بعد الأوان،
ما لا نؤمن به أو إن كنا لا نزال به مؤمنين،
فما ذلك إلا في الذاكرة وحدها، كعاطفة نستعيدها فيما بعد.
يعطي قبل الأوان لأيد ضعيفة ما نحسب أننا في غنى عنه،
حتى يولد الرفض خوفا. فكر (في هذا).
لا الخوف ينجينا ولا الشجاعة. بطولتنا
تنجب الرذائل الشاذة. الفضائل
تفرضها علينا جرائمنا الوقحة.
هذه الدموع تتساقط من الشجرة التي تحمل ثمار الغضب.
النمر يقفز في العام الجديد. يلتهمنا.
وأخيرا فكر في هذا، لم نتوصل بعد لأي نتيجة
ما دامت عظامي متصلبة في بيت مؤجر. وأخيرا فكر في هذا،
أنا ما أقمت هذا العرض بلا هدف
ولا كان السبب فيه
هو إقلاق شياطين الماضي.
ولا حاولت أن أخدعك
28
أنا الذي كنت قريبا من قلبك قد أبعدت عنه
كي أفقد الجمال في الرعب، والرعب في التفتيش.
29
لقد أضعت عاطفتي: وما حاجتي للحفاظ عليها
ومصير كل شيء نحتفظ به هو التزييف المحتوم؟
لقد أضعت بصري وشمي وسمعي وذوقي ولمسي:
فكيف السبيل إلى استخدامها لأزداد قربا منك؟
إن هذه الحواس لتتعلل بآلاف الاعتبارات الصغيرة
كيما تؤجل الحصيلة الناتجة من رعشة حمياها،
وتستثير الأغشية بالتوابل الحريفة
بعد أن يبرد الإحساس، وتكثر من الألوان المتنوعة
في متاهة المرايا. ماذا سيفعل العنكبوت؟
هل يوقف نشاطه؟ هل تعلق السوسة أنفاسها؟
دي بيلهاش، فريسكا، ومسز كاميل،
المندفعين بعيدا عن دائرة الدب المرعب
في ذرات متكسرة. نورس يقاوم الريح، في مضايق «بيل إيل»
30
التي تعصف فيها الرياح، أو ينطلق فوق «الكاب هورن»،
31
ريش أبيض في الثلج، يطالب به الخليج الكبير،
ورجل عجوز تدفعه الرياح التجارية
32
إلى ركن وسنان.
مؤجرو البيت،
أفكار دماغ مجدب في فصل جدب.
1920م
الأرض الخراب (مقتطفات)
رأيت بعيني العرافة سيبيلا في مدينة كوماي
33
معلقة في قفص، ولما سألها الصبية: سبيلا، ماذا تريدين؟ أجابتهم قائلة: أريد أن أموت.
34 (عن الكاتب الروماني بترونيوس على لسان بطل روايته «ساتريكون» الذي راح في نشوة السكر يفاخر أصحابه بأغرب أعجوبة رآها في حياته ...) (1) دفن الموتى
أبريل أقسى الشهور، ينبت
الليالك من الأرض الميتة، يمزج
التذكر بالرغبة، يحيي
الجذور المعتمة بأمطار الربيع.
الشتاء أدفأنا، كسا
الأرض بثلوج النسيان، غذى
حياة قليلة الشأن بدرنات يابسة.
الصيف باغتنا، حط على بحيرة شتار نبرجر
بوابل من المطر؛ توقفنا في بهو الأعمدة
ثم واصلنا السير في ضوء الشمس إلى حديقة الفناء،
وشربنا القهوة وتجاذبنا أطراف الحديث ساعة من الزمان. - لست روسية على الإطلاق، إنني من لتوانيا، ألمانية أصيلة
35
وعندما كنا أطفالا، نقيم في بيت الدوق الكبير، - وهو ابن عمي - أخذني معه للتزحلق على الجليد
وشعرت بالخوف، قال: ماري، ماري،
أمسكي بإحكام. ثم انزلقنا.
هناك في الجبال تحس بنفسك حرا.
أنا أقضي شطرا من الليل في القراءة، وأذهب في الشتاء إلى الجنوب. (2) موعظة النار
انهارت خيمة النهر: أصابع أوراق الشجر الأخيرة
تتقلص ثم تسقط على الضفة الرطبة.
الريح تجوس خلال الأرض البنية بلا صوت. الحوريات هربن. «يا نهر التيمز العذب تهادى حتى أنهي أغنيتي.»
ما عاد النهر يحمل الزجاجات الفارغة، ولا أوراق السندوتشات،
36
ولا المناديل الحريرية، ولا علب الورق المقوى، ولا أعقاب السجائر،
ولا أرى شاهدا آخر على ليالي الصيف. الحوريات هربن.
وأصدقاؤهن الورثة المتسكعون لمديري البنوك؛
37
هربوا، لم يتركوا عناوينهم.
جلست بالقرب من مياه بحيرة ليمان
38
ورحت أبكي ... (3) الموت بالماء
فليباس الفينيقي، الذي مات من أسبوعين،
نسي صيحة النورس واصطخاب الموج العميق،
والربح والخسارة.
تيار يجري في قاع البحر،
أخذ يعرق عظامه وهو يهمس. لما ارتفع وسقط
اجتاز أطوار عمره وشبابه
وهو يغوص في الدوامة،
أنت يا من تدير العجلة وتنظر في اتجاه الريح،
وثنيا كنت أم يهوديا
تذكر فليباس الذي كان يوما في مثل جمالك وطولك.
1922م
الرجال الجوف
1
نحن الرجال الجوف،
عظامنا هشة،
يسند بعضنا بعضا
برءوس محشوة بالقش. يا للضياع!
أصواتنا الأجشة حين نتهامس معا
خافتة، وبلا معنى
كالريح بين الأعشاب الجافة،
أو أرجل الفيران فوق الزجاج المتكسر
في قبونا الكئيب.
خطوط بلا صورة ظل بلا لون
طاقة مشلولة، إيماءة بغير حركة؛
يا من عبرتمونا، بعيون نافذة
إلى مملكة الموت الأخرى
اذكرونا، إن فعلتم،
لا كذكركم الأرواح العارمة الضالة
ولكن اذكرونا كرجال جوف
ذوي عظام هشة.
2
عيون لا أجسر على لقائها في الأحلام
في مملكة الموت الحالم
إنها لا تبدو:
هنالك هذه العيون
ضوء الشمس فوق عمود محطوم،
شجرة تتمايل
والأصوات
في أغاني الرياح
أبعد وأهدأ
من نجم خاب.
لا تزدد بي قربا
من مملكة الموت الحالم،
ودعني أرتدي هذه الأقنعة الرزينة؛
جلد فأرة،
إهاب غراب،
عصيا معقوفة.
لا تزدد بي قربا ...
يا بعدا لذلك اللقاء الأخير
في مملكة الكآبة!
3
هذه هي الأرض الميتة،
هذه من أرض الصبار،
هنا ترتفع الصور المنحوتة في الحجر،
وهنا تتلقى ضراعة يد رجل ميت
في ظل اختلاجة نجم خاب.
أشبيه بهذا ما يحدث
في مملكة الموت الأخرى، نستيقظ وحدنا
حينما
ننتفض بالرقة،
الشفاه التي في مقدورها أن تمنح القبل
تنسج الصلوات للحجر المحطم.
4
العيون ليست هنا. لا عيون هنا.
في هذا الوادي؛ وادي النجوم المحتضرة،
في هذا الوادي الأجوف،
هذا الفك المكسور من ممالكنا الضائعة.
في هذا المكان.
حيث اللقاء الأخير
ونحن محشودون على هذه الضفة من النهر الطافح،
نتحسس معا الطريق، ونتحاشى الحديث.
لا نبصر
ما لم تبزغ العيون من جديد.
كالنجمة السرمدية، والزهرة المورقة
في مملكة الموت القاتم،
الأمل الوحيد
للرجال الجوف.
ها نحن ندور حول شجرة الصبار؛
شجرة الصبار، شجرة الصبار،
نحن ندور حول شجرة الصبار
في الساعة الخامسة صباحا
بين الفكرة والواقع
بين الحركة والفعل،
يسقط الظل : الملك لك،
بين التصور والخلق
بين الانفعال والاستجابة
يسقط الظل: الحياة الطويلة جدا
بين الرغبة والنفضة.
بين الإمكان والتحقق،
بين الماهية والوجود الحي
يسقط الظل: الملك لك،
إنك الوجود،
الحياة،
الكل بك.
هكذا ينتهي العالم،
هكذا ينتهي العالم،
هكذا ينتهي العالم
نهاية هادئة، لا ضجيج فيها.
39
1925م
مارينا
40 «أي مكان هذا، أية منطقة، أي جزء من أجزاء العالم؟!»
41
أي بحار، أي شواطئ، أي صخور كابية، أية جزر،
أي مياه تلطم مقدم السفينة؟
وشذا الصنوبر وطائر الدج يغني في الغابة وسط الضباب،
أية صور ترجع وتعود؟
آه يا ابنتي!
أولئك الذين يحدون ناب الكلب، قاصدين
الموت،
أولئك الذين يتألقون ببهاء الطائر الطنان، قاصدين
الموت،
أولئك الذين يجلسون في حظيرة الرضا، قاصدين الموت،
أولئك الذين يحتملون نشوة الحيوانات، قاصدين
الموت،
قد تجردوا من الجوهر،
42
صغرتهم ريح،
أنفاس صنوبرة، والضباب الذي تتردد فيه أغنية الغابة
وهذه النعمة المذابة
43
في المكان.
ما هذا الوجه الأبهت والأوضح في آن
هذا النبض في الذراع، (هذا النبض) الأضعف والأقوى؛
أموهوب هو أم معار؟ أبعد من النجوم وأقرب من العين
همسات وضحك خافت بين أوراق الشجر وخطى مهرولة
تحت (ستر) النوم، حيث تلتقي كل المياه.
عود شراع شققه الثلج ولون شققته الحرارة.
أنا الذي فعلت هذا، أنا الذي نسيت
وها أنا ذا أتذكر.
الحبال رخوة، والشراع بال (على مدار السنة) بين يونيو وسبتمبر.
فعلت هذا جاهلا، في شبه وعيي، مجهولا، جعلته فعلي.
الألواح ترشح في قاع السفينة، الشقوق في حاجة لمن يسدها.
هذا الشكل، هذا الوجه، هذه الحياة،
أعيش لأحيا في عالم زمني وراء عالمي؛
دعني أزهد حياتي لأجل هذه الحياة، وأزهد كلامي لأجل كلام لم يقل،
لأجل الموقظين، ذوي الشفاه المفتوحة، للأمل للسفن الجديدة.
أي بحار، أي شطآن، أية جزر جرانيتية تلاقي أخشاب سفينتي
ونداء الدج في الغابة من خلال الضباب.
بعد 1930م
مناظر ريفية (1) نيوهامبشير
أصوات أطفال في البستان
بين زمن الأزهار وزمن الأثمار:
رأس ذهبية، رأس قرمزية،
بين الذؤابة الخضراء والجذر.
أيها الجناح الأسود، أيها الجناح البني ، رفرفا من أعلى؛
عشرون عاما ثم ينقضي الربيع؛
اليوم هم وغدا هم،
دثرني أيها النور بين أوراق الشجر؛
أيتها الرأس الذهبية، أيها الجناح الأسود،
تماسكا ورفرفا،
تواثبا وغنيا،
رفرفا في شجرة التفاح.
1934م
الرباعيات الأربع «بيرنت نورتون» (مقتطفات)
في الزمن وحده تتحرك الكلمات، تتحرك الموسيقى؛
لكن الشيء الذي لا يقدر إلا على الحياة،
لا يبقى له غير الموت. الكلمة، بعد الكلام،
تبلغ الصمت. بالشكل وحده، بالنظام،
تستطيع الكلمات أو الموسيقى
أن تصل إلى السكون، مثل زهرية صينية
ساكنة في مكانها ومع ذلك تتحرك حركة أبدية.
ليس صمت الكمان، بينما النغم لا يزال يرف،
ليس هذا فحسب، بل هو الوجود في نفس الوقت،
44
أو أن النهاية تسبق البداية،
لأن النهاية والبداية كانتا على الدوام هناك
قبل البداية وبعد النهاية.
وكل شيء يكون دائما الآن. الكلمات تعذب،
وتنوء بالعبء فتنشق وأحيانا تتحطم،
وتشد أوتارها فتزل وتنزلق وتموت،
وعندما يفسدها عدم الدقة، لا تبقى في موضعها
ولا تقبل أن تظل ساكنة. الأصوات الزاعقة،
المؤنبة، المستهزئة أو المقصورة على الثرثرة
تهاجمها على الدوام. الكلمة في الصحراء
تتعرض أكثر ما تتعرض لهجمات تشنها أصوات الغواية،
والظل الذي ينوح في رقصة الجنازة،
وشكوى الخرافة
45
اليائسة بصوت عال.
1944م
الشعراء
نبذة عن حياة كل شاعر وأعماله (1) أونامونو، ميجيل دي أونامونو أي خوجو (1864-1936م)
فيلسوف وشاعر وروائي إسباني معروف. ولد سنة 1864م في بيلبانو. درس الفلسفة والأدب في مدريد، وعين في سنة 1891م أستاذا للغة اليونانية القديمة بجامعة سلامانكا، جرد سنة 1904م من منصبه الجامعي بسبب النقد الذي وجهه إلى النظام الملكي السائد في ذلك الحين. نشر عدة مقالات نادى فيها بتجديد التراث الحضاري الإسباني. تعاطف فترة من حياته مع النزعة الفوضوية ووقف بجانب الحركة الاشتراكية وأسهم في تحرير مجلة «صراع الطبقات» التي كانت تصدرها في مدينة بيلباو، ومجلة «الجامعي الاشتراكي» التي كانت تصدر في برلين. عين مديرا لجامعة سلامانكا. عاود هجومه على النظام الملكي والدكتاتور يريمو دي ريفيرا (1924م) فنفي إلى جزيرة «فوير تيفنتورا» إحدى الجزر الكنارية، ثم هاجر إلى فرنسا وأقام فيها حتى سنة 1929م. أكبرت الحركة الجمهورية التي تألفت في ذلك الحين لمقاومة النظام السائد هذا الموقف الشجاع من أونامونو، فلم يكد يعود من منفاه في ربيع سنة 1929م حتى استقبلته مواكب الطلبة الجمهوريين استقبال الأبطال. رجع في نفس العام إلى منصب مدير جامعة سلامانكا، ورشح نفسه في سنة 1931 عن الجمهوريين الاشتراكيين ففاز بعضوية المجلس الوطني النيابي للجمهورية الثانية. ولكنه لم يلبث أن زهد في السياسة ووهب كل وقته وجهده للتعليم. نودي به في سنة 1935م مواطن شرف للجمهورية الإسبانية. ولما بدأ الصراع الفكري والطبقي قبل نشوب الحرب الأهلية ارتد عن تأييده السابق للنظام الجمهوري وراح يهاجمه من مكانه في سلامانكا التي احتلها الفاشيون. وكانت نتيجة ذلك أن جردته حكومة الجمهوريين من جميع مناصبه، بينما هلل له الفاشيون واعتبروه واحدا منهم! ولكنه اكتشف خطأه سريعا، فألقى خطبته المشهورة التي ندد فيها بالفاشية الإسبانية، وذلك في الاحتفال الذي أقامه الفاشيون بيوم العنصر (12 أكتوبر سنة 1936م). وسرعان ما وضع تحت رقابة البوليس وطرد من منصبه!
ولم يطل به الأجل، فقد ودعه الناس وهم يودعون ذلك العام (1936م)، إذ مات وحيدا في آخر يوم من أيامه.
من أشهر أعماله التي كان لها أثرها على الفكر الوجودي المعاصر كتابه عن العاطفة التراجيدية للحياة (مدريد 1913م)، ومن أظهرها دلالة على إيمانه المطلق بمكانة إسبانيا في العالم واقتناعه بدورها المتميز في الحضارة الإنسانية كتابه المشهور عن حياة دون كيشوت وسانخو بانزا (مدريد 1905م).
من أعماله الشعرية «أشعار» (مدريد 1907م)، «باقة أغنيات» (مدريد 1920م)، «تجولات ورؤى إسبانية» (1922م)، «ألحان من الأعماق» (فاللا دوليد 1923م)، «كتاب الأغاني، أو يوميات شعرية» (من 1928 إلى 1936م) وقد نشره في سنة 1953 في بونيس أيرس وعلق عليه فيديريكو دي أونيس، من فوير تفنتورا إلى باريس.
و«يوميات السجن والمنفى» وقد نشر في باريس سنة 1925م. هذا وقد ظهرت أعماله الكاملة سنة 1951م في أربعة عشر جزءا في مدريد. (2) أنطونيو ماتشادو أي رويز
شاعر إسباني. ولد سنة 1875م في إشبيلية ومات سنة 1939م في كولليور بفرنسا. كان أبوه عالما مشهورا في علم المأثورات الشعبية (الفولكلور). انتقل في سنة 1883م إلى مدريد وقضى في سنتي 1899 و1902م فترات متقطعة في باريس حيث درس على يد برجسون، وعمل بعد حصوله على شهادة الدولة في تدريس اللغة الفرنسية في مدينة «زوريا». تزوج في سنة 1909م من ليونورا أزكو يردو كويفاس التي ماتت بعد زواجه منها ثلاث سنوات فأثر موتها عليه تأثيرا عميقا تردد صداه في شعره. اشتغل من سنة 1912 إلى 1919م في مدن مختلفة وانتخب في سنة 1927م عضوا في الأكاديمية الإسبانية.
لم تكد الحرب الأهلية تشتعل في بلاده (1936م) حتى ذهب إلى فالنسيا ليحارب في صفوف الجمهوريين، ثم سار في سنة 1939م على قدمية حتى وصل إلى فرنسا عبر جبال البرانس ولكنه لم يلبث أن مات من الإجهاد بعد وصوله إلى الحدود بقليل.
من أهم الشعراء الإسبان في القرن العشرين، ويمثل جماعة الأدباء التي سمت نفسها «جيل 1898». يتميز شعره بالبساطة والنبرة العميقة المهموسة، والمضمون الفكري الرفيع، والخلو من النزعة البلاغية والخطابية. من أهم الموضوعات التي يعالجها في شعره: دورة الزمن، عالم الحلم الذي يلجأ إليه فرارا من مرارة الحياة، ذكرى حبه وزواجه الحزين. تأثر بالطبيعة الخشنة في منطقة كاستيلان (قشتالة)، وأصبح شاعرها الأول، كما عبر في شعره عن قلقه على مصير بلاده وألمه لمحنتها. أعجب في أواخر حياته بالشعر الشعبي الأندلسي، وألف بالاشتراك مع شقيقه مانويل بعض المسرحيات التي لا تصل في قيمتها إلى مستوى شعره. من أعماله الشعرية: «ألحان وحيدة» (1903م)، «ألحان وحيدة وصور وقصائد أخرى» (1907م)، «حقول قشتالة» (1912م)، «أغنيات جديدة» (1924م). (3) خوان رامون خيمينيث (1881-1958م)
ولد في مدينة موجير بالأندلس، ومات في سان خوان في بورتوريكو. عاش منذ الحرب الأهلية الإسبانية حتى وفاته في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية وحصل على جائزة نوبل للأدب في سنة 1956م.
يعد من أكبر الشعراء المعاصرين في اللغة الإسبانية الذين حرروا الشعر من النغمة الخطابية والإسراف في الزخرف والوصف اللذين غلبا على أتباع النزعة الرومانتيكية والمذهب الحديث. وصف شعره ابتداء من سنة 1917م «بالشعر الخالص» وجعله تعبيرا عن عواطفه وحدها وبالأخص عاطفة الألم النابع عن إحساس «بتناقضات الحياة التي لا حل لها». وإلى جانب النغمة الشخصية التي تغلب عليه ارتبط جزء كبير من شعره من الناحية الشكلية بالتراث الشعبي وتميز بالتركيز الشديد واستخدام كلمات تحدث بإيقاعاتها وأصواتها تأثيرا موسيقيا، بحيث يرتبط جو القصيدة ولونها ونغمها بفنون أخرى كالموسيقى والرسم الذي مارسه في شبابه، وكلها خصائص أثرت على شعر لوركا الذي يعد تطورا له.
من مؤلفاته العديدة «قصائد الربيع» (1910م)، «مذكرات شاعر تزوج حديثا» (1917م)، «أغنية» (1936م)، ومرثيته النثرية «أنا وبلاتيرو» (1953م) (هي المقطوعات القصصية الغنائية التي نقلها الدكتور لطفي عبد البديع إلى العربية في ترجمة رائعة ظهر في دار المعارف بالقاهرة تحت عنوان «أنا وحماري»). (4) خورخه جين (1893م-؟)
شاعر إسباني. ولد سنة 1893م في فالادوليد، درس الأدب والفلسفة في مدريد وغرناطة، عاش من سنة 1909 إلى سنة 1911م في سويسرا، وقام بالتدريس في جامعة السوربون من سنة 1917 إلى سنة 1923م. حصل على الدكتوراه في سنة 1924م وعين أستاذا للأدب في مورسيا ثم في جامعتي أكسفورد وإشبيلية. عاش منذ سنة 1938م في الولايات المتحدة الأمريكية، وقام منذ سنة 1939م بتدريس اللغة والأدب الإسباني في كلية وليسلي في ماساشوتس. يعيش منذ سنوات في مدينة فلورنسة بإيطاليا.
يعد من رواد الشعر الإسباني المعاصر وأكبرهم أثرا على الجيل الجديد من الشعراء، كما يعد من أكبر الممثلين للشعر الخالص أو الشعر المحض. ظهرت مجموعته الشعرية «أنشودة» التي ضم فيها كل ما كتب من قصائد في حياته في أكثر من طبعة وعلى أكثر من صورة، وأضاف إليها ونقح فيها عدة مرات بحيث احتوت طبعتها الأخيرة على 260 قصيدة قسمها إلى خمسة أقسام. تأثر تأثرا مباشرا بشعر خمينيث ومالارميه وفاليري ويكاد يكون من أشد الشعراء المعاصرين التزاما بالأوزان والبحور التقليدية في الشعر. تعد مجموعة قصائده السابقة الذكر أنشودة كبيرة يمجد فيها الحياة والإنسان. ويلاحظ القارئ لشعره أنه يبدأ دائما من أشياء واقعية محسوسة لا يلبث أن ينقيها ويرتفع بها إلى عالم شاعري غير واقعي. وتذكر له ترجماته عن الشعر الفرنسي وبخاصة عن فاليري وكلوديل وسوبر فييي.
من أعماله الشعرية «أنشودة» (وقد ظهرت في طبعات مختلفة من سنة 1928 حتى 1950م)، «لهب» (1931م)، «متنوعات على موضوعات لجان كاسو» (1951م). (5) فيديريكو جارثيا لوركا (1899-1936م)
ولد في فوينته فاكويروس وقتل على أيدي الفاشيين بالقرب من غرناطة، في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية. من أنبل وجوه الأدب الإسباني الحديث الذين ساهموا في تطويره وأثروا على الشعر المعاصر أبلغ تأثير. أسس في سنة 1936م بالاشتراك مع الشاعر ألبرتي وخوزيه برجامين اتحاد المثقفين المناهضين للفاشية، وفي أغسطس من نفس السنة قتله أتباع فرانكو. بدأ لوركا، متأثرا بشعر خيمينيث، في «كتاب الأغاني» (1921م) بقصائد رقيقة حساسة تشكو عذاب الفرد وأشواقه إلى الحب، ثم ما لبث أن ظهر تأثره العميق بالتراث الشعبي الإسباني وأغاني الغجر وشخصيتهم المعذبة المضطهدة التي تلتهب بالعواطف والأسرار (أغاني الغجر 1928م، أغنية النشيد العميق 1931م) وقد أتاحت له كذلك أن يعبر عن احتجاجه على ظلم القانون والمتجمع لهم. سافر في سنة 1929-1930م في رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتعرف على المجتمع الرأسمالي بكل ما فيه من فساد وآلية وتجرد عن الإنسانية، وعبر عن احتجاجه عليه في ديوانه «شاعر في نيويورك» (1940م). أسندت إليه بعد تأسيس الجمهورية الإسبانية إدارة فرقة مسرحية كتب لها بعض مسرحياته التي أحدثت ثورة في المسرح الإسباني (عرس الدم، يرما، بيت برنارد ألبا) وكلها تصور في نغمة حادة ملتهبة كيف تقف التقاليد البالية عقبة في طريق المحبين، وكيف تخنق شخصية الإنسان وتوقف نموها. واهتمام لوركا في هذه المسرحيات بمشكلات الحب وأقدار النساء بوجه خاص وتصويره لها من الناحية الأخلاقية المثالية دون النواحي السياسية أو الاقتصادية لا يقلل من شأنه كشاعر ثوري كبير أضاف إلى الأدب الإسباني والعالمي كنزا من أغلى الكنوز التي يعتز بها القرن العشرون، ويستنكر من أجله الجريمة البشعة التي أودت بشبابه. (6) بيدرو ساليناس (1892-1951م)
كاتب ودارس وشاعر إسباني. ولد في مدريد ومات في بوسطون بالولايات المتحدة الأمريكية. درس الحقوق والأدب والفلسفة في مدريد، وقام بتدريس اللغة والأدب الإسباني في السوربون من سنة 1914 إلى سنة 1917م. أصبح أستاذا للأدب الإسباني في جامعة إشبيلية، ثم في مورسيا وكامبريدج. قام برحلات في أوروبا وأمريكا وشمال أفريقيا وعاش من سنة 1936م في الولايات المتحدة الأمريكية، كما قام بالتدريس في بويرتو ريكو وبالتيمور.
من أكبر الشعراء والنقاد وكتاب المسرح في الأدب الإسباني المعاصر، تتميز أعماله المختلفة بوحدة موضوعاتها وأساليب التعبير الفني فيها. بدأ يكتب قصائده ذات الخبرة الباطنة العميقة (نبوءات)، ثم مر بمرحلة من الشعر المجرد من النزعة البشرية، فكتب قصائد عن منجزات التكنيك الحديث (كالتليفون والآلة الكاتبة وأجهزة التسخين ... إلخ). كما كتب قصائد عاطفية يصور فيها الأحباب وقد ارتفعوا من عالم الواقع إلى عالم شاعري ومثالي رفيع. كتب قصائد كثيرة تحت تأثير الهجرة والحرب العالمية الثانية، عاد بعدها إلى أسلوبه الأول.
من أعماله الشعرية «نبوات» (1923م)، «صدفة مؤكدة» (1929م)، «حكاية وعلامة» (1931م)، «حب هباء» (1931م)، «صوتك» (1934م)، «سبب الحب» (1936م)، «خطأ في الحساب» (1938م)، مجموعة أشعاره (1942م). (7) ثيثيليا ميريليس
من أبرز الشعراء المعاصرين في البرتغال. ولدت في ريو دي جانيرو سنة 1901م، بدأت حياتها الأدبية متأثرة بالمدرسة الرمزية ولكنها سرعان ما تخلصت من تأثيرها وارتبطت بالتراث الأدبي في بلادها، وبرزت ملامحها الفردية الواضحة. ألفت عددا لا بأس به من المجموعات الشعرية، وكتبت في فنون أدبية أخرى غير الشعر. وتذكر لها دراساتها في الفلكلور ومشكلات التربية، كما تعد من الثقات في أدب الأطفال. قامت برحلات عديدة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وآسيا حيث حاضرت عن الأدب البرازيلي المعاصر. (8) رافائيل ألبرتي (1902م-؟)
ولد في بويرتو دي سانتا ماريا بإسبانيا. بدأ حياته الأدبية في سنة 1925م بمجموعة قصائد بعنوان (ملاح على اليابسة) يعبر فيها عن وحدة الفرد وعذابه بمتناقضات الحياة والمجتمع، ويجمع بين مهارة الرواد (من أمثال خيمينيث) وبساطة الألحان والموضوعات التقليدية، وأصالة العاطفة الذاتية التي لا شك فيها. وقد فاز عن هذا الديوان بالجائزة الأهلية للأدب، وأصبح شاعرا مرموقا وهو في سن الثالثة والعشرين. ورحب خيمينيث بالديوان ووجد فيه تعبيرا عن «صوت جديد وأندلسي جدا»، كما حيا النقاد هذا الشعر الجديد الذي يتميز بتفرده وتجديده ودقة أسلوبه وبهجة موضوعاته وتمكن صاحبه من الشكل وتحرره في استخدام الصور والكلمات وقدرته على استغلال الأوزان الشعبية. وبعد مجموعتين أخريين (عن الملائكة، جير وأغنية)، اتجه ألبرتي إلى الموضوعات الاجتماعية ، تحت وطأة الشعور بالصراع الطبقي وكفاح العمال في بلاده، (كما في قصيدته عن حياة وموت الثائر فيرمين جالان في سنة 1931م) حارب في صفوف الجمهوريين، وشارك مشاركة فعالة في مقاومة الفاشية في بلاده، وكتب في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939م) مجموعة من القصائد الثورية التي ذاع بعضها على لسان الشعب. اشترك مع لوركا وخوزيه برجامين في تأسيس اتحاد المثقفين المناهضين للفاشية (1936م). قضى معظم سنوات حياته في المنفى بالأرجنتين، وقام برحلات إلى الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية، وكان من أول الشعراء الذين رحبوا بثورة كوبا.
يعيش الآن في روما ويشارك في حركة السلام العالمية.
من أهم أعماله الشعرية «ملاح على اليابسة» (مدريد، 1924م)، «الحبيبية، أغنيات» (ملقه، 1926م)، «عن الملائكة» (1927-1928م، مدريد)، «الشاعر على الطريق» (1931-1936م)، قصيدة «البحر الكاريبي» (مدريد، 1936م)، «عاصمة المجد» (1936-1938م، مدريد)، «آه! الثيران» (بونيس أيرس، 1941م)، «الأشعار الكاملة» (بونيس أيرس، 1961م)، «من قال إننا كنا أمواتا؟ قصائد الحرب والمنفى» (باريس، 1964م). (9) أويخنيو فلوريت
ولد في مدريد سنة 1903م من أم كوبية وأب إسباني. انتقل في سن الخامسة عشرة مع عائلته إلى كوبا حيث بقي هناك حتى سنة 1940م. اشتغل بعد تخرجه في جامعة هافانا في وزارة الخارجية ثم عمل في القنصلية الكوبية في الولايات المتحدة الأمريكية، انضم بعد ذلك بخمس سنوات إلى كلية برنارد التابعة لجامعة كولومبيا لتدريس الأدب الإسباني فيها.
من أعماله الشعرية
22 قصيدة قصيرة (1927م)، «مناطق حارة» (1930م)، «نبرة مزدوجة» (1937م)، «مملكة» (1938م)، بالإضافة إلى مجموعتين من قصائده ظهرتا في سنة 1956م بعنوان «قصائدي ومنتخبات شعرية». (10) دييجو ثندويا (خيراردو)
شاعر إسباني. ولد في سنة 1896م في سامنتاندر، درس الأدب والفلسفة في سالامانكا ومدريد، ثم اشتغل بالتدريس في عدة مدن إسبانية، قام برحلات عديدة إلى فرنسا والبرتغال وأمريكا الجنوبية، وحصل في سنة 1925م على جائزة الدولة في الأدب (بالاشتراك مع رافائيل ألبرتي) عن ديوانه «أشعار إنسانية». عضو في الأكاديمية الإسبانية منذ سنة 1947م، وموسيقي مرموق. يعيش الآن في مدريد.
يعد من أهم ممثلي الشعر الإسباني المعاصر. تأثر في بداية حياته الأدبية بتيارات عديدة وبالشاعرين ماتشادو وخيمينيث ومر بمرحلة جرب فيها ما يسمى بالشعر الخالص من النزعات البشرية (راجع الدراسة) حتى وجد طريقه ونفسه أخيرا في شعر رفاف منغم صادق النبرة، نابض بالحرارة والإنسانية. وتذكر له سوناتة ألفها بعنوان «طائر الحقيقة» ويعدها النقاد من معالم الشعر المعاصر في إسبانيا، كما تذكر له مجموعة منتخبة من الشعر الإسباني الحديث تعد من أهم المجموعات المعبرة عن تطور هذا الشعر في القرن العشرين.
من أعماله الشعرية «صور» (1922م)، «زوريا» (1923م)، «قصائد إنسانية» (1925م)، «حكاية أكويس وزيدا» (1932م)، «قصائد مختارة» (1932م)، «طائر الحقيقة» (سوناتة) (1941م)، «خياليات» (1941م)، «المفاجأة» (1944م)، «القمر في الصحراء وقصائد أخرى» (1949م)، «حب وحيد» (1958م). (11) لويس ثرنودا (1902-1963م)
ولد سنة 1902م في إشبيلية، ودرس الحقوق في جامعتها واستمع فيها إلى محاضرات الشاعر بيدرو ساليناس في تاريخ الأدب الإسباني. أنهى دراسته سنة 1928، ولكنه رفض الاشتغال بالمحاماة وسافر إلى فرنسا حيث قام بالتدريس في جامعة تولوز، وزار باريس. رجع إلى وطنه بعد عام واحد وأقام في مدريد واشتغل بالتدريس والنقد الأدبي حتى سنة 1938م. ساهم في أثناء الحرب الأهلية بالكتابة في مجلة «لحظة إسبانيا» الناطقة بلسان الشعراء والمثقفين أعداء الفاشية. وسافر إلى إنجلترا حيث عمل في جامعة جلاسجو (1939-1943م) ثم في جامعة كامبريدج (1943-1945م) أستاذا للأدب الإسباني، وتولى بعد ذلك الإشراف على المعهد الإسباني في لندن. غادر إنجلترا سنة 1947م واشتغل بالتدريس في كلية مونت هوليواك بولاية ماساشوسيتس بالولايات المتحدة الأمريكية. هاجر في سنة 1953م إلى المكسيك وظل يعيش هناك إلى أن مات في سنة 1963م.
ولم يكن ثرنودا شاعرا بارزا فحسب، بل كان كذلك من أكبر المترجمين، وتذكر له ترجماته العديدة لأشعار هولدرلين ومسرحيات شيكسبير.
من أعماله الشعرية «أشعار أولى» (1924-1927م)، شعر، «حب» (1929م)، «اللذات المحرمة» (1931م)، «توسلات» (1934-1935م)، «الدعوة للشعر» (مدريد 1933م)، «حيث يعيش النسيان» (1932-1933م)، «الواقع والرغبة» (1936م مدريد، وصدرت منه بعد ذلك طبعة مزيدة في المكسيك سنة 1940م، وطبعة ثالثة في مدريد سنة 1958م)، «كمن ينتظر الفجر » (1941-1944م، وصدر في بونيس أيرس سنة 1949م).
هذا إلى جانب دراساته عن الشعر الإسباني المعاصر وتأملاته في الشعر الإنجليزي، وقصصه وأبحاثه الأدبية. (12) أليخاندره، فيثنته أي ميرلو (1900م-؟)
ولد سنة 1900م بمدينة إشبيلية، وقضى سنوات طفولته وصباه في مالاجا (ملقا)، درس القانون والحقوق في مدريد والتحق بالمدرسة التجارية العليا. اضطر فترة طويلة من حياته إلى كسب قوته من العمل في إحدى الشركات الصناعية، كما اضطره المرض إلى حياة الوحدة والانعزال. رفض كغيره من الشعراء الإسبان أن يشتغل بمهنة المحاماة التقليدية التي كانت قد ابتذلت في الأعوام السابقة للحرب الأهلية؛ ولذلك تخلى عنها ووهب حياته للشعر. ظهرت أولى قصائده في «مجلة الغرب» التي كان يصدرها الفيلسوف الإسباني المشهور أورتيجا أي جاسيت سنة 1926م، ونال جائزة الأدب الأهلية في سنة 1933م. بقي على إخلاصه للجمهوريين على الرغم من أنه لم يغادر وطنه في أعقاب الحرب الأهلية كما فعل معظم زملائه. جمعت الصداقة الحميمة بينه وبين ثرنودا ولوركا، الذي كرم ذكراه بعد مصرعه على يد الفاشيين. انتخب في سنة 1950م عضوا بالأكاديمية الإسبانية، ويعيش الآن في مدريد.
من أعماله الشعرية «طموح» (مدريد 1928م)، «سيوف كالشفاه» (مدريد 1932م)، «عاطفة الأرض» (المكسيك 1935م)، «الدمار أو الحب» (1932-1933م، مدريد)، «ظلال الفردوس» (1929-1942م)، «الميلاد الأخير» (1927-1952م، مدريد)، «تاريخ القلب» (1945-1953م، مدريد)، «الأشعار الكاملة» (مدريد، 1960م)، «في منطقة شاسعة» (مدريد، 1962م). (13) بابلو نيرودا (1904-1973م)
اسمه الحقيقي هو نيفتالي ريكاردو ريس. ولد في تيمو كو في شيلي، وكان أبوه عاملا بالسكك الحديدية. بدأ كتابة الشعر في سنة 1920 تحت تأثير النزعة الحديثة (المودرنيزم) ثم السيريالية، وتميز إنتاجه في هذه المرحلة بالغموض والتشاؤم والاهتمام بإبراز أوجه القبح والتناقض في رؤيته للعالم.
التحق في سنة 1927م بالسلك القنصلي وعمل من سنة 1934م إلى سنة 1938م في مدريد، وعاصر كفاح الشعب الإسباني ومقاومته لحكم فرانكو الفاشي، وكانت هذه التجربة نقطة تحول في حياته وشعره (إسبانيا في القلب، 1938م). تضامن مع الشعب الإسباني في كفاحه في سبيل الديمقراطية والحرية، وانضم إلى الحزب الشيوعي في بلاده وأصبح في سنة 1945م عضوا في برلمان شيلي. غلبت النغمة السياسية والاجتماعية على شعره حتى أصبح أكبر الشعراء المعبرين عن حركة التحرر الوطني في أمريكا اللاتينية وبخاصة في قصيدته الكبرى «النشيد العظيم، 1950م» التي خرج فيها عن أسلوبه القديم وارتبط بتراث الأغاني والأناشيد الوطنية في أدب أمريكا اللاتينية التي أصبح من أهم ممثليها والناطقين بثورتها الوطنية والاجتماعية في العالم كله.
مات سنة 1973م على أثر الانقلاب الرجعي الذي أطاح بحكومة سلفاتور اللندي الاشتراكية.
من أعماله «عشرون قصيدة حب وأغنية يأس» (1924م)، «إقامة على الأرض» (1931-1947م)، «أناشيد أولية» (1954-1957م)، «العنب والريح» (1955م). (14) أمبرتو سابا (1883-1957م)
شاعر إيطالي ينحدر من أصل يهودي. تعلم مهنة التجارة وفتح في مدينة تريستا محلا صغيرا لبيع العاديات والآثار القديمة، كان ملتقى الكتاب والفنانين. ساهم في شبابه في تحرير عدد كبير من الصحف والمجلات الأدبية. أقام في أثناء الحرب العالمية الثانية في باريس وروما، ثم رجع بعد انتهاء الحرب إلى تريستا، وحصل على درجة الدكتوراة الشرفية من جامعة روما.
يعد شاعر الوحدة المريرة في الأدب الإيطالي المعاصر، ويتميز شعره بالكآبة والتشاؤم العميق، كما يتميز بالتفتح لمؤثرات عديدة، والمحافظة على التراث والتقاليد الشعرية في لغته. لا يكاد يشبهه أحد في رقته وحساسيته التي تقربه من شعر باسكولي. كان أيضا من كتاب القصة.
من أعماله الشعرية «بعيني» (1912م)، «أشياء خفيفة وهائمة» (1920م)، «الأغنيات» (1921م)، «صور وأغان» (1928م)، «تأليفات ثلاث» (1933م)، «كلمات» (1935م)، «أشياء أخيرة» (1944م)، «البحر الأبيض» (1946م). (15) جوسيبي أنجارتي (1888-1970م)
ولد بالإسكندرية، ومات في الولايات المتحدة الأمريكية في النصف الثاني من سنة 1970م. درس في باريس، ثم عاد إلى إيطاليا في سنة 1914م حيث اشترك في الحرب العالمية الأولى واشتغل بعدها بالصحافة. عمل أستاذا للأدب الإيطالي في مدينة ساو باولو بالبرازيل، ثم في روما. نشأ شعر أنجارتي في أثناء الحرب وبتأثير كوارثها على نفوس الأفراد والشعوب. ويعد نقطة تحول في الشعر الإيطالي بوجه عام، وإيذانا ببدء مرحلة جديدة تتخلى عن الخطابية الزاعقة عند شاعر مثل «دانو ننزيو» الذي راح يمجد البطولة والقوة ويملأ شعره بالصور الصارخة ويتغنى بالأساطير الغابرة. جاء شعر أنجارتي بنغمة جديدة هامسة لا تكاد تجد أذنا تسمعها في بلاده، فهو بجمله القصيرة المتقطعة، وتخليه عن الأشكال والأوزان القديمة، وعكوفه في معبد الروح المتأملة في أسرار الكون بعيدا عن الأساطير والبطولات الأساليب البلاغية التي تبهر الشعب؛ يشبه راهبا فرانسيسكانيا كرس حياته للتعبير عن معجزة الوجود وعذابه.
وقد أثار شعر أنجارتي في البداية موجة من الغضب والسخط، وأسست مجلات أدبية لمهاجمته، واتهمه النقاد بالغموض بل ونصبوه زعيما لمدرسة الغموض والإلغاز
ermetismo
التي كانت رد فعل لرومانتيكية القرن التاسع عشر وكل مساوئه في السياسة والفلسفة والإغراق في النغمة الخطابية والبلاغية! فشعراء الغموض، وعلى رأسهم أتجارتي، يبحثون عن جوهر الشعر نفسه، بالنغمة الهامسة الهادئة، واللغة المركزة الكثيفة، والصور والإشارات والاستعارات الغريبة المتنافرة، والنبرة المحايدة الأمينة التي تبرز ألم الفرد بعيدا عن النغمة الذاتية والعاطفية، وسحر اللغة الصافية التي تذيب كل مضمون وتخفي كل موضوع، وتترك القارئ في ذهول وحيرة قد تصل إلى حد اليأس!
هذا وقد تأثر أنجارتي بشعر مالارميه، وأبوللينير، وفاليري، وسان-جون بيرس (الذي ترجمة إلى الإيطالية) وبالشاعر الإسباني القديم جونجورا. ومن أهم المجموعات التي أصدرها أنجارتي: «البهجة» (1931م)، و«عاطفة الزمن» (1933م)، و«الألم» (1947م)، و«الأرض الموعودة» (1950م)، وقد نقلت الشاعرة إنجبورج باخمان معظم أشعاره إلى الألمانية (راجع مقالا عنه لكاتب السطور في مجلة الفكر المعاصر، ديسمبر 1968م). (16) سلفاتور كوازيمودو (1901م-؟)
ولد في سيراقوزة، وهي ميناء يقع شرقي جزيرة صقلية، ويعد الشاعر الإيطالي تاسو (1544-1595م) مثله الأعلى، والمعروف أنه كان شاعرا غريب الأطوار، هام على وجهه في أواخر حياته وانتهى إلى الجنون. ولد كوازيمودو لأب كان يعمل موظفا في السكك الحديدية. وقضى طفولته بين مدينتي باليرمو ومسينا في صقلية، ودرس الهندسة وفقه اللغة في روما، وتقلب في وظائف عديدة، واشتغل فترة من حياته بالنقد المسرحي، وعمل ابتداء من سنة 1939م رئيسا لتحرير مجلة «الزمن» ويعيش الآن في مدينة ميلانو، حصل على جائزة نوبل في الآداب سنة 1959م.
سجل كوازيمودو في شعره ذكريات طفولته في صقلية، وعبر عن جمالها الطبيعي وتراثها التاريخي، وتأثر بألحان الجنوب بكل ما فيها من غرابة وانسجام. وهو ينتمي إلى مدرسة الغموض في الشعر الإيطالي (الهيرميتزم) التي تهتم بسحر الكلمة والنغم وإيراد الصور والاستعارات غير المألوفة، دون اعتبار للمضمون أو حرص على المعنى الذي يستعصي على الفهم في أغلب الأحيان. ومن مجموعاته الشعرية في هذه المرحلة: «مياه وأراض» (1930م)، و«روائح الأويكاليبتوس» (1933م)، و«قصائد» (1938م)، و«سرعان ما جاء المساء» (1942م). وقد اتجه كوازيمودو بعد الحرب اتجاها جديدا في شعره يمكن أن نسميه بالشعر الاجتماعي، حاول فيه أن يخرج عن عزلته الذاتية ويتحدث إلى الناس في شكل أكثر بساطة، وقد تعرض لهذا في مقاله الذي كتبه عن الشعر في سنة 1950م. وهكذا خرجت مجموعاته الجديدة: «يوما بعد يوم» (1947م)، و«الحياة ليست حلما» (1949م)، و«الأخضر الكاذب والأخضر الصحيح» (1956م)، و«البلد الذي لا نظير له» (1958م).
وقد ترجم كوازيمودو بعض أعمال شيكسبير وبابلو نيرودا إلى الإيطالية، كما ترجم كثيرا عن الأدب اليوناني والقديم. (17) بول فاليري (1871-1945م)
يعد قمة من أعلى وأعقد القمم في الشعر «العقلي» أو الشعر «المحض» في القرن العشرين. ولد في سيت، وكانت أمه إيطالية. أقامت أسرته في سنه 1884م في مدينة مونبلييه، درس الحقوق وقرأ مالارميه وتحمس للكاتب الروائي الرمزي «هيزمان» عرض عليه بيير لويس، وكان إذ ذاك أديبا شابا، في سنة 1890م أبياتا مكتوبة بخط اليد من قصيدة مالارميه المشهورة «هيرودياد» فأرسل إلى مالارميه في العشرين من أكتوبر من تلك السنة خطابا يفيض بالإعجاب والحب، ثم التقى بأندريه جيد، واتجه إلى باريس في سنة 1891م حيث تتلمذ على مالارميه وظل وفيا له إلى يوم مماته (1898م). أصابته في إحدى الليالي الممطرة العاصفة في مدينة جنوا أزمة نفسية شديدة، كان لها أثرها الحاسم على حياته. عمل موظفا في وزارة العدل تم سكرتيرا لمدير وكالة أنباء «هافا». انقطع عن النشر في سنة 1896م وظل ملازما للصمت - على الأقل من الناحية العامة - حتى سنة 1917م حين نشر قصيدته الطويلة «آلهة القدر الشابة» التي كتبت له المجد بين يوم وليلة.
اتصل بعد الحرب الأولى بشعراء الحركة السيريالية، وانهالت عليه ألوان التكريم الشعبي والرسمي ابتداء من سنة 1927م، فانتخب عضوا بالأكاديمية الفرنسية وشغل منصب الأستاذية لكرسي فن الشعر في المعهد العريق «الكولليج دي فرانس»، من سنة 1938 إلى 1945م أي السنة التي مات فيها وشيعت جنازته باحتفال رسمي وشعبي مهيب.
من أعماله الشعرية «آلهة القدر الشابة» (1917م)، «المقبرة البحرية» (1920م)، «فتون» (1922م). إلى جانب أعماله النثرية العديدة مثل: «المدخل إلى منهج ليوناردو دافنشي» (1895م)، «أمسية مع المسيو تست» (1896م) (وقد زاده ونقحه في كتابه المسيو تست 1927م)، «ألوان» (في خمسة أجزاء ظهرت من 1924 إلى 1944م)، «فاوست كما أراه» (1946م)، ورسائل عديدة نشرت بعد موته. (18) ماكس جاكوب (1876-1944م)
ولد في كويمبير في مقاطعة بريتاني، وذهب إلى باريس حيث راح يرسم ويكتب. اتصل ببيكاسو وأبوللينير وكوكتو، كما انضم بعد الحرب إلى جماعة السرياليين وعلى رأسهم بريتون.
أعلن إيمانه بالمسيحية ودخوله فيها في اليوم السابع من أكتوبر سنة 1905م (ويروي عن نفسه أن السيد المسيح تجلى له في ثوب أصفر على جدار غرفته). انتقل في سنة 1921 إلى سان-بنوا-سير-لوار المشهورة بدير البندكتيين. غير أنه لم يطل الإقامة بها، فسافر عدة سنوات في رحلات مختلفة حتى رجع أخيرا إلى باريس.
عاد للإقامة في سان-بنوا-سير-لوار حيث عكف على تأملاته وكتابة قصائده الصوفية.
ألقى الألمان القبض عليه في سنة 1944م ومات في نفس السنة في معسكر الاعتقال في درانسي.
من مجموعاته الشعرية «المعمل الرئيسي» (1920م)، «التائبون في الرداء الوردي» (1925م)، و«قصائد مورفان لي جايليك» (1953م). (19) جيوم أبوللينير (1880-1918م)
اسمه الحقيقي هوجيوم أبوللينير كوستروفتسكي، ولد في روما كابن غير شرعي من أم بولندية وأب إيطالي، واعترفت الأم وحدها به.
دخل المدرسة الثانوية في موناكو وكان، ثم جاء إلى باريس وعمره ثمانية عشر عاما حيث عاش حياة مضطربة. عمل في سنة 1901 مدرسا في منطقة الراين . واتصل بمجموعة من الرسامين والشعراء من أمثال بيكاسو وبراك وروسو وماكس جاكوب، وشارك بدور فعال في تجارب أقطاب الفن الحديث، كالتكعيبيين (الذين ألف عنهم كتابا بعنوان رسامو التكعيبية 1913م) والمستقبليين، كما نشر مجموعة من قصائده ومقالاته النقدية في عدد من مجلات الطليعة. تطوع في الحرب العالمية الأولى، وكتب من الميدان رسائل حب إلى «لو» ثم إلى «مادلين» تؤلف جانبا هاما من إنتاجه الشعري، جرح في اليوم السابع عشر من شهر مارس 1916م جرحا خطيرا في رأسه وأجريت له عملية «تربنة»، مات قبل إعلان الهدنة بيومين، وبعد زواجه من جاكلين كولب بزمن قصير، متأثرا بجرحه القديم وبالأنفلونزا الإسبانية. ظهر مقاله المشهور «الروح الجديدة والشعراء» في سنة 1918م في مجلة «مر كير دي فرانس» وكان له أثر كبير على الشعر الحديث. من أهم مجموعاته الشعرية: «الكحولات» (خمريات، 1913م)، «كالليجرام» (خطوط) (1918م)، و«يوجد» (1925م)، و«قصائد إلى لو» (1955م)، ويحتوي بعضها على قصائد تدين الحرب والتقاليد الروحية والأخلاقية السائدة في المجتمع.
يعد رائدا للشعر الحديث في فرنسا، كما يعتبره السيرياليون ممهدا لمدرستهم الأدبية. (20) جول سوبرفييي (1884-1960م)
ولد في مونتيفيد عاصمة أوروجواي. عرف اليتم في سن مبكرة، وراح يتنقل من قارة إلى قارة. دخل المدرسة الثانوية في باريس، وحصل في سنة 1906م على درجة الليسانس في الأدب الإسباني. اتصل في سنة 1919م بأندريه جيد وبول فاليري وجماعة الأدباء في «المجلة الفرنسية الجديدة» والتقى بالشاعر الألماني رلكه الذي كتب إليه آخر رسائله. سافر في سنة 1936م في صحبة هنري ميشو إلى أوروجواي، وعندما نشبت الحرب في سنة 1939م رجع مرة أخرى إلى هناك، ولم يعد إلى فرنسا إلا بعد انتهاء الحرب.
شارك في تحرير مجلة «فرنسا الحرة» ونشر مجموعة قصائده «قصائد فرنسا التعيسة» في سويسرا والأرجنتين.
عمل بعد الحرب ملحقا ثقافيا في سفارة أوروجواي في باريس، وتلقى منذ سنة 1946م حتى وفاته عددا كبيرا من الجوائز الأدبية من فرنسا وغيرها من البلاد.
دفن في أولورون-سانت-ماري. من أعماله: «جاذبيات» (1925م)، «الأصدقاء المجهولون» (1934م )، «خرافة العالم» (1938م)، إلى جانب عدد كبير من القصص والمسرحيات. (21) سان-جون بيرس (1887م-؟)
من أعظم الشعراء المثقفين الذين تغنوا بالطبيعة الخالدة وقدموا إلى معبدها أغلى وأطهر قرابين الحب والإجلال والوفاء، وأشادوا بعظمة الإنسان وتاريخه المجيد في كل الأزمان وعند كل الشعوب، وراحوا - بصوت الأنبياء والملهمين القدماء - ينشدون جمال الأشياء الخالدة أمام عالم محطم خال من النعمة والقداسة، في أسلوب شديد الإحكام والكثافة والتعقيد.
اسمه الحقيقي هو ألكسيس ليجير. ولد في «جواد يلوب» إحدى جزر الأرخبيل الفرنسية (وهي الجزر الواقعة بين أمريكا الشمالية والجنوبية) وقضى طفولته وصباه الباكر بين الغابات والنباتات الاستوائية، وتوثقت صلته بالبحر حيث عاش على جزيرة صغيرة كان يملكها أبواه (وهي جزيرة سان ليجير لوفيي).
اضطرت أسرته تحت وطأة أزمة اقتصادية مدمرة إلى التخلي عن الجزيرة والعودة إلى فرنسا، وكان عمره إذ ذاك أحد عشر عاما. دخل المدرسة الثانوية في «باو» ثم التحق بجامعة «بوردو» لدراسة الحقوق، وأتاحت له الجامعة كذلك أن يشبع رغبته في الإلمام بالفلسفة اليونانية وعلم النفس المرضي. التحق قبل اشتعال الحرب العالمية الأولى بقليل بالسلك الدبلوماسي الفرنسي، وظل يعمل فيه من سنة 1914م حتى سنة 1940م.
أرسل في سنة 1916م إلى بكين، كما اشترك بصفته خبيرا سياسيا في المؤتمر الدولي الذي عقد سنة 1921م في واشنطون. وربما كانت خدمته الطويلة في السلك الدبلوماسي الفرنسي سببا في امتناعه أو تحرجه من نشر إنتاجه، حتى إن القصيدة الوحيدة التي نشرت له في تلك الفترة، وهي قصيدة «أنا باز»، نشرها أصدقاؤه سنة 1924م تحت اسمه المستعار الذي عرف به وبغير رغبته، ثم احتجب بعد ذلك عن الناس حوالي عشرين عاما. أعفي في سنة 1940م من منصبه بوزارة الخارجية بناء على طلبه، وغادر فرنسا في 16 يونيو إلى إنجلترا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية فلم يعد إلى بلاده إلا في سنة 1959م. جردته حكومة فيشي - وهي الحكومة التي قامت في ظل الاحتلال الألماني - من الجنسية، وصادر الجستابو أملاكه في فرنسا، وكان من بينها أعمال كثيرة لم يسبق نشرها . سعى له أصدقاؤه للحصول على وظيفة مستشار بمكتبة الكونجرس في واشنطون. أعيدت له حقوقه بعد تحرير بلاده، وحصل على جائزة نوبل للآداب في سنة 1960م، وهو يقضي حياته منذ بضع سنوات ما بين أمريكا وجنوب فرنسا.
من أعماله الشعرية «مدائح» (1911م)، «أنا باز» (1924م)، «منفى، تتلوها قصيدة للغريب، أمطار، سحب» (1945م)، «رياح» (1946م)، «كرونيك» (1960م). ومما يجدر بالذكر أن الشاعر الإنجليزي الأشهر توماس إليوت قد ترجم ديوانه «أنا باز» إلى الإنجليزية، وفي هذا شهادة أخرى على وحدة الشعر والشعراء المحدثين.
لا أعلم إن كان قد ترجم شيء من إنتاجه إلى العربية، ولكني أحب أن أنبه القارئ إلى المقال القيم الذي كتبه عنه الدكتور أنور لوقا بعنوان «دنيا سان جون بيرس» وظهر في مجلة «المجلة»، العدد 65، يونيو (حزيران) 1962م. (22) بول إلوار (1895-1952م)
ولد في سان-دنيس؛ إحدى ضواحي باريس. كان أبوه موظفا في مكتبة، وكانت أمه خياطة. اشترك في الحرب العالمية الأولى من سنة 1915م إلى سنة 1918م وأصيب بتسمم خطير من الغازات السامة. صدر له كتاب «الواجب والقلق» في سنة 1917م وعبر عن كراهيته للحرب وجمود المجتمع البرجوازي في «قصائد للسلام» (1918م)، وانضم بعد نهاية الحرب إلى جماعة الداديين والسيرياليين وشارك في حركتهما الأدبية مشاركة فعالة. كتب في هذه المرحلة مجموعة من القصائد (الموت من عدم الموت 1924م) التي تحمل سخطه على الظلم الاجتماعي وعدم الاكتراث بالشقاء الإنساني. سافر في سنة 1924م في رحلة إلى شرق آسيا. أصدر مجموعة من الأشعار تتضمن أجمل قصائد الحب التي كتبها: «عاصمة الألم» (1926م) و«الحب، الشعر» (1929م)، واشترك في المؤتمر الدولي الثاني للكتاب الثوريين (1930م) في خاركوف، ووصل إلى ذروة إنتاجه في كتاب «الحياة المباشرة» (1932م) الذي يحتوي على بحثه الهام «نقد الشعر».
انتقل تحت تأثير الحرب الأهلية الإسبانية من التمرد الفردي إلى الإيمان بضرورة الكفاح المشترك (نوفمبر 1936م، انتصار جويرنيكا، درس طبيعي) وقطع صلته نهائيا بالسيرياليين في سنة 1938م. اشترك في الحرب العالمية الثانية (من سنة 1939م إلى سنة 1940م) التي عبر عن احتجاجه عليها في «الكتاب المفتوح 1940م، 1942م» كما اشترك في حركة المقاومة السرية للاحتلال الألماني لبلاده. انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في سنة 1942 وظل عضوا فيه حتى وفاته في سنة 1952م. أثرت قصائده التي كتبها في ظل الاحتلال على الشعب الفرنسي وأثبتت أن الشعر يستطيع أن يكون من أهم أسلحة التحرير، وبخاصة قصيدته المشهورة «الحرية» (وقد نشرت في مجموعته الشعر والحقيقة 1942م) وسبع قصائد حب في الحرب (1943م) وموعد مع الألمان (1947م). اشترك بعد الحرب في حركة السلام العالمية (وجه السلام، 1951م). وعلى الرغم من صعوبة شعر إلوار وشدة تركيزه إلا أنه يعبر عن تعاطف وحب غير محدود للبشر، وحرص على سلامهم وسعادتهم التي كافح طوال حياته في سبيلها. (23) أندريه بريتون (1896-1967م)
ولد في سنة 1896م في قرية تينشبري «بمقاطعة أورن». ظل من سنة 1921 إلى سنة 1926م على صلة وثيقة ببول فاليري.
بدأ دراسة الطب ولكنه قطعها بسبب الحرب. اكتشف فرويد، والتقى بجاك فاشيه الذي سماه «السخرية في شخص إنسان» في نانت سنة 1916م.
اتصل بالشاعر أبوللينير، وشارك مع زميليه أراجون وسوبو بدور فعال في الحركة الأدبية المعروفة «بالدادية».
أسس سنة 1924م في باريس «مكتبا للأبحاث السيريالية»، كان يصدر دورية باسم «الثورة السيريالية». قام برحلات عديدة إلى جزر كاناريا والمكسيك (حيث التقى بالزعيم الشيوعي تروتسكي)، ولندن وبراغ... إلخ مرافقا لمعارض الفن السيريالية.
هاجر في سنة 1941م إلى أمريكا وبقي هناك حتى سنة 1946م. من أعماله: «المجالات المغنطيسية» (1920م)، «بيان السيريالية» (المانيفستو المشهور) (1924م)، «نادية» (1928م)، «البيان الثاني للسيريالية» (1930م)، «الحب المجنون» (1937م)، «أركان 17» (1945م)، «قصائد» (1948م)، «أحاديث» (1952م). (24) لوي أراجون (1897م-؟)
ولد في باريس، ودرس الطب واشترك في الحرب العالمية الأولى من سنة 1916 إلى 1918م. انضم بعد انتهاء الحرب إلى جماعة «الدادا» التي أسسها تريستان تزارا في سويسرا سنة 1916م وكان من أعضائها أندريه بريتون وبول إلوار، ثم شارك بعد ذلك بدور فعال في حركة السيريالية. أصدر من مجموعاته الشعرية في هذه الفترة «الحركة الدائمة» (1925م) ورواية «فلاح باريس » (1926م) وبحثه عن الأسلوب (1928م). انضم إلى الحزب الشيوعي الفرنسي في سنة 1927م، وهو الآن عضو لجنته المركزية.
قطع صلته بالسيرياليين في سنة 1931م، وبخاصة بعد التقائه بزوجته إلزاتريوليه ابنة الشاعر الروسي الكبير ماياكوفسكي التي وجه إليها كل أشعار الحب التي كتبها، وتحت تأثير رحلاته المتكررة إلى الاتحاد السوفيتي. بدأ نشاطه السياسي في سنة 1930م ضد الحرب والفاشية فاشترك في تحرير جريدة الشيوعيين المشهورة «الأومانيتية» (1933-1934م) وأصبح عضوا في اتحاد الكتاب الثوريين، وانضم إلى هيئة تحرير جريدة «سي سوار» المسائية (1937م). سجل إيمانه بالواقعية في رباعيته الروائية «العالم الواقعي» التي ظهرت أجزاؤها: «أجراس بازل» (1933م)، و«أحياء الأغنياء» (1936م)، و«مسافرو الطبقة العالية» (1942م)، و«أرليان» (1945م).
جند في سنة 1939م، وحاز على جوائز عديدة عن خدماته في القسم الطبي للجيش الفرنسي. شارك من سنة 1940م إلى سنة 1944م في حركة المقاومة السرية للاحتلال الألماني لبلاده، وتنظيم جبهة الكتاب المكافحين للفاشية ورئاسة تحرير جريدته الأسبوعية «الآداب الفرنسية» التي ظل يرأس تحريرها حتى توقفت عن الصدور في العام الماضي، وبكتاباته الغزيرة وأشعاره التي ذاع معظمها على لسان الشعب وبخاصة في مجموعته «القلب الكسير» (1941م). واصل أراجون نشاطه السياسي بعد انتهاء الحرب وبخاصة في حركة السلام العالمية وحصل على جائزة لينين للسلام في سنة 1957م. نشر بين سنتي 1949 و1951م روايته الطويلة «الشيوعيون» في ستة أجزاء وهي تقدم صورة تاريخية للأحداث التي جرت في فرنسا من فبراير 1939م إلى يونيو 1940م وأكملها «بالإنسان الشيوعي» في سنة 1946م، كما أعلن سخطه على الحرب في الهند الصينية في كتابه «ابن شقيق المسيو دو فال» (1955م). كتب قصة حياته في «الرواية التي لم تتم» (1956م)، وأصدر مجموعة كبيرة من الروايات والأبحاث والمجموعات الشعرية التي جعلت له مكانة رفيعة في الأدب الفرنسي المعاصر. (25) هنري ميشو (1899م-؟)
ولد في نامور من أبوين بلجيكيين. بدأ في دراسة الطب ثم قطع دراسته. عمل بحارا من سنة 1920م وتعرف بعد عودته إلى بروكسل على شعر لوتريمو (1846-1870م) وبدأ يكتب أولى محاولاته الأدبية.
ذهب إلى باريس في سنة 1924م ولم يعد إلى بلجيكا منذ ذلك الحين.
سافر إلى الأكوادور في سنة 1929م وتجول في أمريكا الجنوبية ثم سافر في رحلة طويلة زار فيها آسيا كلها وأثرت على إنتاجه الأدبي تأثيرا كبيرا. (بربري في آسيا 1933م).
بدأ يرسم من سنة 1937م (وقد بدأ يكتشف موهبته في الرسم وحبه للرسامين من أمثال كليه، وماكس أرنست، وكيريكو ابتداء من سنة 1925م).
يشغل نفسه منذ سنوات بوصف أحواله وتجاربه الغريبة مع المخدرات.
من أهم أعماله «الشخص الذي كنته» (1927م)، «ريشة ما» (1930م)، «رحلة في جارا بانيا الكبرى» (1936م)، «تجارب وتعاويذ» (1945م)، «في مكان آخر» (1948م)، «معرفة عن طريق الهاوية» (1961م). (26) جاك بريفير (1900م-؟)
ولد في نوبي-سين-سين. شاعر ومؤلف كتب أطفال وكاتب سينمائي. اشتهرت قصائده وأغانيه التي جمعها في ديوانه «كلمات» (1946م) في الأوساط الشعبية، وقد عبر في كثير منها عن وقوفه في صف الفقراء والمضطهدين، وتغنى بجمال الحياة وبهجتها. اشتهر شهرة عالمية بتأليفه السيناريو فيلم «أطفال الفردوس» (1944م) الذي اشترك في تمثيله الفنان الكبير جان لوي بارو، وفيلم «ميناء الضباب» (1938م)، و«عشاق فيرونا» (1948م). ومن أعماله الأخرى: «الأسد الصغير» (1947م)، و«رقصة الربيع الكبرى» (1951م).
رينيه شار (1907م-؟)
ولد في إيل-سير-لا-سورج (مقاطعة أفينيون بفرنسا). كان لفترة طويلة من حياته عضوا في جماعة السيرياليين. اشترك في حركة المقاومة السرية للاحتلال الألماني.
قال عنه الكاتب المفكر الكبير ألبير كامي - وكان صديقه الحميم - إنه أعظم عبقرية ظهرت في الشعر المعاصر في فرنسا. يعيش في موطنه الأصلي.
من مجموعاته الشعرية «مطرقة بلا سيد» (1934م)، «غضب وسر» (1948م). (27) شتيفان جئورجه (1868-1933م)
ولد في بودسهايم في مقاطعة هسن، ومات في مينوزيو بالقرب من لوكارنو. كان أبوه تاجر نبيذ وصاحب فندق. دخل المدرسة الثانوية في مدينة دار مشتات من سنة 1881م إلى سنة 1888م. لم تضطره الحياة إلى اختيار مهنة معينة؛ فأتاح له هذا أن يقوم برحلات عديدة في أنحاء أوروبا (سويسرا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا وإنجلترا والدنمارك) وألا يرتبط بموطن ثابت. درس الفلسفة وتاريخ الفن وعلم اللغة في باريس وميونيخ وبرلين وفيينا. اتصل في ربيع سنة 1888م بحلقة الأدباء والفنانين الذين التفوا حول الشاعر الفرنسي الكبير مالارميه. كما تعرف على الشاعر فيرلين والمثال رودان، وانضم إلى جماعة الرمزيين.
سافر من أغسطس إلى سبتمبر سنة 1889م إلى إسبانيا، وعقد صداقة قصيرة في ديسمبر 1891م مع الشاعر النمسوي الكبير هوفمنستال. تعرف في بلجيكا على مجموعة من الأدباء والشعراء منهم فيرفي وإميل فيرهيرن وفان ليبرج والتقى في إنجلترا بمجموعة الأدباء والرسامين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم السابقين على رافائيل ومن بينهم سوينبيرن ودوسون.
بدأ يعيش منذ سنة 1900م حياة منظمة صارمة، قضى معظمها في ألمانيا، وبالأخص في ميونيخ وبحر الشمال وجبال الألب، وبرلين وهيدلبرج. التقى في سنة 1903م في مدينة ميونيخ بماكسميليان كرونبرجر، وهو صبي كان يبلغ من العمر خمسة عشر عاما (مات سنة 1904م) فكان ذلك بداية تجربة دينية وعاطفية شاذة أثرت على شخصية وإنتاج الشاعر الذي رأى في هذا الشاب الرائع تجسيدا للجمال الإلهي.
أسس في سنة 1892م مجلة «صحائف الفن» بالاشتراك مع س. أ. كلاين وجمع حوله طائفة من صفوة العلماء والشعراء والفنانين يربط بينهم نوع من التقدير لشخص الشاعر بلغ حد التقديس والعبادة، كما يجمع بينهم الشذوذ الجنسي والنرجسية المفرطة، ومن بين هؤلاء الأدباء والعلماء أسماء اشتهرت بعد ذلك شهرة كبيرة (مثل الفيلسوفين زيمل وكلاجيس، والنقاد كوميريل وجوندولف وسالين).
وفي سنة 1933م هاجر جئورجه إلى سويسرا احتجاجا على النازيين الذين أساءوا تفسير شعره وحاولوا أن يستغلوه لصالحهم.
يعد جئورجه رأس الحركة الرومانتيكية الجديدة في ألمانيا. وقد جمع بين الشعور الأرستقراطي بالحياة وإرادة البطولة والعظمة وبين لون من عبادة الجمال متأثرا بالأدب الكلاسيكي القديم وأدب عصر النهضة، ورأي في الفن من أجل الفن يؤمن برسالة الشاعر الإلهية ويبعده عن العالم كما يبعده عن شتى العواطف والانفعالات المتطرفة. وقد تميز جئورجه بطريقة جديدة في الكتابة تستغني عن التنقيط كما تسقط رسم الحروف الكبيرة التي اعتاد الألمان أن يبدءوا بها الأسماء وأوائل الجمل.
تمثل السنوات الخمس من 1890م إلى 1895م «مرحلة الشكل» في حياة الشاعر، فقد اهتم باختيار الكلمة النبيلة وإحكام الشكل ودقة الوزن ومعاداة كل ما هو تقليدي أو صارخ أو وضيع أو حوشي مما جاءت به النزعة الطبيعية في الأدب. ولذلك فقد كان من البديهي أن تتوثق صلته بالمدرسة الرمزية الفرنسية، وأن يصبح من أكبر المنادين «بالفن للفن» المجرد عن كل هدف أخلاقي أو اجتماعي.
ولغة جئورجه لغة محسوبة مختارة تغلب عليها نغمة الاحتفال إلى حد التصلب والجمود، وصوره نبيلة غنية بالمؤثرات الموسيقية والتعبيرات الشعورية، وإن كانت تجربة الشكل عنده تطغى على التجربة النفسية الأصيلة التي يفرغها في أبيات منسقة منحوتة باردة كالبللور.
مر بفترة من الاكتئاب والوحدة (من سنة 1897-1899م) انتقل بعدها إلى مرحلة كلاسيكية (1903م وما بعدها). وكان لتجربته الغريبة مع ذلك الفتى ماكس دور كبير فيها، فقد غادر الشاعر برجه العاجي واستغرق في تأملات ميتافيزيقية وصوفية وراح يدعو إلى عقيدة تربوية جديدة وأخلاق قائمة على المثل الأعلى في الجمال وينصب نفسه قاضيا يدين فوضى العصر ووحشيته. وأثر هذا على الأسلوب والشكل في شعره فصار أكثر تحررا وبساطة وصدقا. وحاول الشاعر في أواخر حياته أن يوثق صلته بالرأي العام ويحقق في نفسه ذلك المثل الأعلى للشاعر القديم الذي كان يعد نفسه رسولا وقائدا وعرافا يتنبأ بالغيب ويبشر بمستقبل جديد ومملكة روحية جديدة؛ الأمر الذي أغرى النازيين بمحاولة استغلاله والزعم بأن رؤيا الشاعر قد تحققت في دولة الرايخ الثالث. هذا ويذكر لجئورجه تأثيره الكبير على الحياة العقلية في ألمانيا في الفترة من 1914م إلى 1933م وتأسيسه لمدرسة شعرية كانت في حقيقتها دعوة إلى عبادة الفن والتضحية بكل شيء من أجله، كما تذكر له ترجماته القيمة عن الرمزيين الفرنسيين وجماعة الأدباء الإنجليز السابقين على رافائيل وشيكسبير ودانتي.
من أعماله «أناشيد» (1890م)، «حج» (1891م)، «الجابال» (1892م)، «كتب قصائد الرعاة ومدائح الخرافات والأغاني والحدائق المعلقة» (1895م)، «بساط الحياة» (1900م)، «أعمال وأيام» (1903م)، «ماكسيميليان، كتاب تذكاري» (1907م)، «الخاتم السابع» (1907م)، «نجم الاتحاد» (1914م)، «المملكة الجديدة» (1928م). (28) رينيه ماريا رلكه (1875-1926م)
ولد في مدينة براغ ومات في فال مونت (بالقرب من مدينة مونتريه في سويسرا) ينحدر من ناحية أبيه (الذي كان موظفا بالجيش ثم بالسكك الحديدية) من عائلة من المزارعين في شمال بوهيميا، ومن ناحية أمه من عائلة برجوازية في مدينة براغ. عرف في صباه بالحساسية المفرطة التي صاحبته في إنتاجه الأدبي ووصلت في معظم الأحيان إلى حد المرض. دخل معهد التربية العسكرية في سان بولتن من سنة 1891م إلى سنة 1892م ليتخرج ضابطا ولكنه أخرج منه بعد أن عرف عنه انطواؤه الشديد وعدم صلاحيته للحياة العامة.
دخل بعد ذلك الأكاديمية التجارية في «لنز» ثم درس الفن وتاريخ الأدب في براغ من سنة 1897م إلى سنة 1899م. وقرر - بعد رحلة إلى ميونيخ وبرلين - أن يتفرغ للشعر. قام برحلات إلى إيطاليا وروسيا (التي سجل انطباعاته عنها في مجموعته الشعرية كتاب الساعات 1905م) وهناك التقى بتولوستوي وتأثر بالطبيعة وبالروح الصوفية المتدينة عند الشعب الروسي.
أقام في سنة 1900م في فوربسفيده وتزوج من المثالة كلارا فستهوف ولكنه لم يلبث أن افترق عنها ورحل إلى باريس وإيطاليا والدنمارك والسويد.
عاش منذ سنة 1905م في باريس وهناك تعرف على المثال الفرنسي الشهير «رودان» وعمل سكرتيرا خاصا له لمدة ثمانية شهور كان لها تأثيرها الكبير عليه. كتب في باريس روايته الشهيرة «مذكرات مالت لوريد زبرجه» التي يسجل فيها بأسلوب شاعري رائع خواطره النفسية البالغة الحساسية على لسان شاعر دنماركي.
عاد إلى حياة التجوال بعد أزمة نفسية حادة فسافر في سنة 1910 / 1911م إلى شمال أفريقيا ومصر وإسبانيا. أقام في سنة 1911 / 1912م في قصر دوينو (بالقرب من مدينة تريستا) ضيفا على الأميرة ماري تورن وتاكسيس، وهناك كتب مراثيه المشهورة التي تجد أولاها في هذا الكتاب، وتعبر عن تجاربه الفلسفية والصوفية في لغة عسيرة غامضة. أقام في أثناء الحرب العالمية الأولى في ميونيخ وعمل فترة في أرشيف الحرب في فيينا ثم أعفي من الخدمة لسوء صحته. أخذ يتنقل بعد انتهاء الحرب من قصر إلى قصر بدعوة من الأمراء والنبلاء في سويسرا حتى مات متأثرا بمرض اللويكامية (تزايد كريات الدم البيضاء) ودفن في رارون بسويسرا.
يعد رلكه من أكبر الشعراء الأوروبيين في النصف الأول من القرن العشرين وأعظمهم أثرا على حركة الشعر الجديد. وهو من القليلين الذين استطاعوا أن يفتحوا آفاقا جديدة للتعبير الشعري ويقربوه من تلك الحدود التي تعجز فيها اللغة عن كل تعبير. تأثر شعره بالجو الضبابي الغامض الذي أحاط بشبابه الباكر في براغ وبتجربته في روسيا وانطباعه بأخلاق الشعب الروسي وطبيعة أرضه الشاسعة غير المحدودة، كما تأثر بالمدرسة الرمزية الفرنسية التي اتصل بروادها صلة وثيقة، كما أخذ عن الفنون التشكيلية دقة الشكل وإحكام الصياغة وبخاصة بعد تعرفه على المثال الكبير رودان.
بدأ كتابته للشعر في صياغة دقيقة على أسلوب مدرسة الانحلال في نهاية القرن التاسع عشر في أوروبا (فان-دو-سييكل) بكل ما فيها من تشاؤم وعذاب وشغف بتصوير الأحوال النفسية المعقدة الشاذة، وبلغ ذروة هذه المرحلة في قصته الشعرية «حب وموت كورنيه كرستوف رلكه». ثم وصل في «كتاب الساعات» إلى قمة شعرية أخرى تميزت بجوها الرومانتيكي الجديد الغني بالصور والألحان الحالمة.
ولكنه استطاع - تحت تأثير رودان - أن يتخلص في كتاب «الساعات» (1905م) من العاطفية المائعة الفضفاضة ويتجه إلى تصوير عالم الأشياء في صيغ موضوعية دقيقة، ويبتعد عن الأحزان الدائرة حول «الأنا» المعذبة ليترك الأشياء نفسها تعبر عن ماهيتها.
وأصابته أزمة نفسية شديدة جعلته يتجه إلى قراءة أب الوجودية (كيركجارد) ويتخلى عن نظرته الكونية التي كانت تفيض حتى ذلك الحين بالاطمئنان إلى وجود الله والثقة فيه (وقد عبر عن ذلك في روايته السابقة مالته برجه) فاتجه إلى كتابة شعر فكري يتميز بالجسارة والقوة والتحرر في الشكل والوزن، ويحلق إلى آفاق أسطورية نائية، ويتسم في معظمه بالغموض والوحشة، وقد تمثل ذلك في «مراثي دوينو» التي سبق ذكرها، وفي أناشيد أورفيوس أو بالأحرى «سوناتات إلى أورفيوس» التي تعد قمة إنتاجه الشعري كله.
هذا وقد فشلت كل محاولات رلكه المسرحية في أثناء حياته وإن كان قد قام بعدة ترجمات قيمة عن اللغات الفرنسية والإيطالية والإنجليزية تؤكد كلها وحدة الشعر والشعراء في مطالع هذا القرن (عن مالارميه، وفاليري، وأندريه جيد، وإليزابيث براوننج وميكيل أنجلو) كما ألف هو نفسه بعض القصائد باللغة الفرنسية. (29) هرمان هسه (1877-1962م)
اسمه الحقيقي هو إميل سينكلير. ولد في كالف (مقاطعة فيرتمبورج) ومات في مونتانيولا (بالقرب من لوجانو بسويسرا). كان أبوه واعظا من المبشرين المسيحيين وكانت أمه ابنة أحد المبشرين في الهند. دخل في خريف سنة 1891 معهد مارلبرون البروتستنتي ليدرس اللاهوت تحقيقا لرغبة والديه، ولكنه هرب منه في ربيع سنة 1892م، ثم تقلب بعد ذلك في مهن عديدة كبيع الكتب وصناعة الساعات والحرف اليدوية، وراح يبحث عن نفسه سنوات طويلة سجل ذكرياتها في قصته «تحت العجلة (1906م)» التي قرر بعد نجاحها أن يتفرغ للأدب وأقام في منطقة «البودن زيه» في جنوب ألمانيا. ضاق صدره بالمدنية الغربية فقام برحلة إلى الهند سنة 1911م ليكتشف عالم الشرق الأقصى وكان لهذه الرحلة أثر كبير على إنتاجه.
ساعد في أثناء الحرب العالمية في أعمال التمريض بالصليب الأحمر والعناية بأسرى الحرب في «برن» بسويسرا. أقام في مونتانيولا بالقرب من بحيرة لوجانو وحصل على الجنسية السويسرية في سنة 1923م، كما حصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1946م عن روايته الكبرى «لعبة الكريات الزجاجية» (1943م).
يعد من أهم ممثلي الأدب التقليدي في ألمانيا سواء في الشعر أو في القصة الذين تمتعوا بشهرة كبيرة في النصف الأول من هذا القرن. تأثر بالرومانتيكية الألمانية تأثرا كبيرا ظهر في كتاباته الروائية التي تفيض بروح شاعرية وإنسانية تؤمن بالسلام والإخوة بين البشر. ومعظم رواياته تسجل ذكريات شبابه والأزمات العديدة التي عاناها كشاعر حساس يعيش في مجتمع قاس غبي لا يفهمه، كما تدور حول الصراع بين الروح والحس أو بين العقل والعاطفة وتحاول عن طريق الشخصيات العديدة التي تجسدها أن تصل إلى التجانس والوحدة. وهي شخصيات تجمع بين الفنانين والمتشردين الهائمين على وجوههم الذين يتغنون بحب الطبيعة ويعبرون عن حنينهم إلى الاطمئنان الروحي في نسيج صاف يجمع بين الأحلام والخرافات وحكمة الهند.
اتسع أفقه على أثر المحن التي هزت كيانه في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكشفت له عن أزمة الروح الغربية بوجه عام، فاتجه أسلوبه إلى مزيد من الموضوعية، وراح يقابل بين شخصية الإنسان «الأخلاقي» والإنسان «الجمالي» وبين المفكر والفنان وبخاصة في روايته «نارسيس وجولدموند» التي تعد آية في جمال الأسلوب، وإن كان يعيبها الإفراط في العاطفية. وتعد روايته التي سبق ذكرها «لعبة الكريات الزجاجية» قمة أعماله؛ فقد حاول فيها تحقيق المثل الأعلى الذي يؤلف بين الفن والعلوم الطبيعية والإنسانية في وحدة روحية شاملة تجمع بين حكمة الشرق وتقدم الغرب، ومن حسن الحظ أن القارئ العربي يستطيع أن يطلع عليها في ترجمة الدكتور مصطفى ماهر (صدرت عن دار الكاتب العربي بالقاهرة).
يتميز شعره بلغته البسيطة النقية وموسيقاه الهادئة وقربه من الأغنية الشعبية الصادقة العميقة، وإن لم يكن من ممثلي الشعر الجديد بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؛ إذ يعده النقاد من الرومانتيكيين الجدد ذوي النزعة الإنسانية التي كان لها بالطبع أثرها الكبير على الجيل الجديد.
من أعماله الشعرية «أغنيات رومانتيكية» (1899م)، «قصائد» (1902م)، «في الطريق» (1911م)، «موسيقى الوحيد» (1915م)، «قصائد رسام» (1920م) (كان الشاعر يقوم بالرسم ويصور أعماله بنفسه)، «إيطاليا» (1923م)، «عزاء الليل» (1929م)، «قصائد جديدة» (1937م). (30) هانز كاروسا (1878-1956م)
ولد في باد تولز (في بافاريا العليا) ومات في ريتشتايج (بالقرب من مدينة باساو). كان أبوه طبيبا بالأرياف درس الطب في ميونيخ وفيزتز بورج وليبزج، واشتغل به في مدينتي باساو ونورمبرج إلى أن استقر منذ سنة 1914م في ميونيخ.
التحق بإحدى الفرق الحربية كطبيب عسكري في خلال الحرب العالمية الأولى. ويعد كاروسا - الذي تختلف الآراء حول شخصيته ومواقفه الفكرية والسياسية من النازية أشد الاختلاف - ممثلا عظيما لأفضل ما في التراث الغربي من قيم فنية وإنسانية. فهو في أشعاره وكتاباته الروائية - ومعظمها يدور حول ذكريات طفولته وشبابه - يحافظ على الاعتدال والشكل الكلاسيكي ويبتعد عن كل البدع و«المودات الأدبية». أما من ناحية المضمون فقد تأثر في بداية حياته بالشاعرين الكبيرين جئورجه ورلكه ثم بالشاعر الأكبر جوته والروائي اشتيفتر. يتميز أسلوبه بالبساطة والاتزان والوضوح الشديد الذي يعبر عن فكر نقي ناضج منظم. إن الأدب في رأيه والشعر بوجه خاص هو نوع من الكشف عن الحكمة والنظام الإلهي وسط الفوضى الظاهرة في الحياة. وكثيرا ما يعبر كاروسا في كتاباته عن إجلاله لأسرار الحياة واحترامه لشقيقه الإنسان وشعوره التقي بآثار العناية الإلهية في كل مظاهر الكون. تتميز شاعريته بالعمق والتمكن من الشكل والإنسانية الحقة، وهو من الكتاب القليلين الذين يملكون القدرة على تحويل التجربة الذاتية إلى رمز شاعري صاف يفيض بالتأمل العميق الذي ينبع من نفس أنضجها الزمن، ويتجاوز حياة الفرد ليصبح تجربة كونية عامة.
وتعبر ذكريات حياته عن المتاعب النفسية التي عاناها في ظل النظام النازي، وكيف استطاع أن يخلق لنفسه ولغيره جزيرة آمنة هادئة من التأمل والصفاء النفسي وسط عواصف العصر الوحشي المضطرب؛ الأمر الذي جعل البعض يمتدحه من أجله كمظهر لصدقه وأمانته على التراث الروحي لبلاده، كما جعل البعض الآخر يلومه على انعزاله وإيثاره الصمت في وقت كان يتطلب منه الشجاعة الكافية لإدانة الوحش الفاشي.
من أعماله الشعرية «قصائد» (1910م)، «الهروب» (1916م)، «عيد الفصح» (1920م)، «قصائد» (1932م). ومن أهم أعماله الروائية: «طفولة (ذكريات)» (1922م)، «الطبيب جيون» (1931م)، «أسرار الحياة الناضجة» (1936م)، «سنة الأوهام الجميلة (ذكريات)» (1941م). (31) جوتفريد بن (1886-1956م)
ولد في مانسفلد (منطقة فستبريجنتس) ومات في برلين. كان أبوه قسيسا. درس الأدب واللاهوت في جامعة ماربورج ثم تحول إلى دراسة الطب في برلين، وعمل طبيبا عسكريا في الحربين العالميتين، ثم مارس علاج الأمراض الجلدية والتناسلية منذ سنة 1918م في برلين.
رحب بالنظام النازي في بدايته، واعتقد أنه سيخلص العالم الغربي من العدمية والانحلال والركود الروحي، فلما اكتشف خطأه الرهيب لزم الصمت ابتداء من سنة 1936م، وطرده النظام أيضا من اتحاد كتابه وشهر بأعماله «المنحلة».
عاد إلى النشر منذ سنة 1948م فكتب القصيدة والمقالة والمسرحية والقصة، وتميز بأسلوبه الغريب الذي يزخر بالمصطلحات العلمية والطبية والفلسفية، ونظرته العدمية الصريحة، واهتمامه البالغ بالشكل، وتأثيره الحاسم على الجيل الجديد من الشعراء والمثقفين.
بدا متأثرا بالمدرسة التعبيرية، وراح يسجل بأسلوب تهكمي بارد ولغة قوية متفجرة مشاهد المرض والفساد في الحضارة الغربية الحديثة، ويكشف بمبضع الجراح وموضوعية العالم الطبيعي مظاهر الانهيار المختفية وراء قناع المجتمع. ومع ذلك فإن شغفه بهذه الصور الوحشية المفزعة ينطوي على حنين رومانتيكي إلى البراءة والنقاء، ولغته مليئة بالصور القوية الموحية التي يرصها إلى جانب بعضها البعض على طريقة المونتاج في الأفلام السينمائية.
استطاع في أواخر حياته أن يتغلب على نزعته العدمية الصارخة وأسلوبه المتهكم المرير عن طريق الكلمة الساحرة والشكل الكامل.
يتميز إنتاجه القصصي الشحيح بالتركيز التام، وكراهية الأيديولوجيات، والنزعة الفلسفية الذاتية. يمكن أن يوصف شعره بأنه «شعر ذهني» يميل إلى التشاؤم ويتنبأ بانهيار الجنس الأبيض، وإنتاجه الذي يجمع بين العلم والفن يدعو إلى ما يسميه النقاد «بالعدمية الخلاقة»، التي تحاول عن طريق الشكل الفني أن تجد معنى لعالم خال في رأيه من المعنى ومن العناية الإلهية.
من أعماله الأدبية «مشرحة» (قصائد) (1912م)، «أبناء» (قصائد) (1913م)، «أمخاخ» (قصص) (1916م)، «لحم» (قصائد) (1917م)، «مرحلة، إيتاكا» (مسرحيتان) (1919م)، «الأنا الحديثة» (مقال) (1919م)، «أنقاض» (قصائد) (1924م)، «صدع» (قصائد) (1925م)، «الذي لا يتوقف» (أورتاريوم لحنه الموسيقي هندميت) (1931م)، «بعد العدمية» (مقال) (1932م)، «الدولة الحديثة والمثقفون، الفن والقوة» (مقالان) (1933، 1934م)، «قصائد استاتيكية (ساكنة)» (1948م)، «طوفان السكر» (قصائد) (1949م)، «مشكلات الشعر» (مقال) (1951م)، «الصوت خلف الستار» (تمثيلية إذاعية) (1952م)، «خاتمة موسيقية» (قصائد) (1953م). (32) يوهانس بشر (1891-1958م)
ولد في مدينة ميونيخ ومات في برلين الشرقية. كان أبوه قاضيا. درس الطب والفلسفة في ميونيخ ويينا وبرلين. انضم في سنة 1917م إلى حزب الديمقراطيين الاشتراكيين المستقل، ثم دخل الحزب الشيوعي الألماني في سنة 1918م. زار الاتحاد السوفيتي في سنة 1927م، وهاجر إليه في سنة 1933م على أثر استيلاء النازيين على السلطة، وهناك رأس تحرير مجلتين ألمانيتين كانتا تظهران في الاتحاد السوفيتي وهما «الأدب العالمي» و«صحائف ألمانية».
رجع إلى بلاده في سنة 1945م حيث رأس اتحاد المثقفين للتجديد الديمقراطي لألمانيا، كما انتخب في سنة 1953م رئيسا لأكاديمية الفنون، وعين في سنة 1954م حتى وفاته وزيرا للثقافة في حكومة ألمانيا الشرقية.
يعد بشر الممثل الصريح للواقعية الاشتراكية في الأدب الألماني الحديث. وهو شاعر وروائي وكاتب مسرحي وكاتب مقال. بدأ حياته الأدبية كواحد من أكبر ممثلي النزعة التعبيرية ، وراح بلغته القوية المؤثرة يوجه الاتهام إلى عصره ويبشر بالأخوة العالمية والخلاص على أيدي الطبقة العاملة. أسهم في تحطيم التركيب اللغوي التقليدي، كرمز لانهيار العالم البرجوازي، وتميز بلغته المتدفقة وصيغه المتقنة، وشغفه بالصور الصارخة عند تصويره لحياة المدينة الكبيرة.
اشتهر عدد كبير من أناشيده التي يتغنى فيها بالثورة الاشتراكية وزعمائها، وذاعت على ألسنة الجماهير. اتجه في أثناء إقامته في المهجر الى البساطة الشعبية التقليدية، وإن كان حرصه على النزعة التعليمية وإثارة الجماهير وإكثاره من قصائد المناسبات الهادفة قد أوقعه في سخف خطابي كثير، ونزل به في بعض الأحيان عن المستوى الفني اللائق. ومع ذلك فقد يغفر له سقطاته الفنية العديدة أنه ظل يتغنى في شعره بالأخوة البشرية ويكافح من أجل مستقبل عادل لا ظلم فيه ولا استغلال.
من أعماله الشعرية «المكافح» (1911م)، «إلى أوروبا» (1916م)، «أخوة» (1916م)، «نشيد ضد العصر» (1918م)، «الموكب المقدس» (1918م)، «قصائد الشعب» (1919م)، «إلى الجميع» (1919م)، «تمرد إلى الأبد» (1920م)، «أنغام الآلات» (1926م)، «رقص الموتى الألماني» (1933م)، «ألمانيا» (1934م) (ملحمة) «الباحث عن السعادة والأعباء السبعة» (1938م)، «العودة للوطن» (1946م)، «شعب يتعثر في الظلام» (1948م)، «النشيد الوطني» (1949م)، «نجوم بريق لا محدود» (1951م)، «الوطن الألماني الجميل» (1952م)، «سوناتا ألمانية» (1952م)، «حب بلا راحة» (1957م). (33) أرنست بنسولت (1892-1955م)
ولد في مدينة أرلانجن، ومات في ميونيخ.
كان أبوه أستاذا جامعيا. درس في أكاديمية الفنون في مدينتي فيمار وكاسيل، وتفرغ للنحت والكتابة في حي الفنانين بميونيخ (شفابنج).
اشتغل بالتمريض في خلال الحربين العالميتين. عين في سنة 1953م مستشارا لمسرح «الرزيدنس» في ميونيخ. كتب، الشعر والمسرحية والقصة والرواية وتميز بأسلوبه الرقيق الشفاف الذي يفيض باللطف والرشاقة والدعابة ويدل على تمكن من الشكل وخصوبة في الخيال وروح عامرة بالطيبة والحكمة والذكاء.
تأثر بالأديب الألماني جان باول كما تأثر بديكنز ومونتني ولشتنبرج وبلاتن.
من مجموعاته الشعرية «الرفيق» (1922م)، «اثنتا عشرة قصيدة» (1937م)، أما رواياته فمن أشهرها: «أدولينو»، «سكويرل»، رواية «البطاطس»، «دودة الأرض الصغيرة»، «القزم»، «شاتر تون المسكين». (34) برتولت برخت (برشت) (1898-1956م)
ولد في مدينة أوجسبورج بالغابة السوداء في جنوب ألمانيا، ومات في برلين الشرقية. نشأ في أسرة غنية وكان أبوه صاحب مصنع للورق. درس الطب والعلوم الطبيعية في ميونيخ في سنة 1917م وعمل في سنة 1918م في أحد المستشفيات العسكرية المتنقلة، فأثرت تجارب الحرب المفزعة على إنتاجه. ترك دراسة الطب وعمل في أحد مسارح ميونيخ.
انتقل في سنة 1924م إلى برلين وعمل فترة مع المخرج المسرحي الشهير ماكس رينهارت في المسرح الألماني. بدأ في دراسة الماركسية في سنة 1928م في مدرسة العمال ببرلين. فر من بلاده بعد استيلاء النازيين على السلطة إلى براغ ومنها إلى فيينا ثم إلى الدنمارك عن طريق سويسرا وفرنسا.
اشترك من سنة 1936م إلى سنة 1939م في تحرير مجلة «الكلمة» التي كانت تصدر بالألمانية في الاتحاد السوفيتي بالاشتراك مع الكاتبين ليون فويشتفنجر وفيلي بريدل، كما كتب قصائد لراديو ألمانيا الحرة يسخر فيها من الفاشية. هاجر في سنة 1940م إلى فنلندا ومنها إلى الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق موسكو. وصل في سنة 1947م إلى زيورخ ومنها إلى برلين الشرقية حيث أسس فرقته المسرحية الشهيرة، «برلينر انسمبل» التي تخصصت في عرض إنتاجه المسرحي.
يعد من أكبر الشعراء وكتاب المسرح في القرن العشرين الذين التزموا بالواقعية ودعوا إلى تغيير المجتمع البرجوازي عن طريق الثورة الاشتراكية. وترجع أهميته في الشعر الحديث إلى سخريته المرة من الصيغ والأشكال التقليدية السائدة في الشعر والمجتمع على السواء.
عرف بنظرياته في المسرح الملحمي - الذي لم يكن أول المنادين به، وإن كان من أكبر مؤسسيه والداعين إليه كبديل للمسرح التقليدي أو الأرسطي - وهو مسرح لا يهتم بتسلية المتفرج بل بإشراكه في الأحداث التي تروى أمامه على خشبة المسرح وحثه على اتخاذ موقف إيجابي يدفعه إلى تغييرها والثورة عليها؛ فهو مسرح الحجة لا الإيحاء، والموقف لا العاطفة؛ ولذلك فهو يستعين بما يسميه «أثر الإغراب» عن طريق استخدام الكورس والأغاني والأقنعة والحديث المباشر إلى الجمهور ومطالبته باستمرار أن يفتح عينيه ويفكر ولا يستسلم للأوهام أو يندمج في الأحداث المعروضة عليه. وقد بدأ برخت حياته الأدبية متأثرا بالمدرسة التعبيرية التي سادت في العشرينيات من هذا القرن وغلبت النزعة العدمية والفوضوية على إنتاجه في هذه الفترة. ثم لم يلبث أن انتقل إلى أسلوب موضوعي متطرف يجمع بين السخرية اللاذعة والنقد الاجتماعي المؤلم وبين العاطفة والكآبة والتهكم. كتب المسرحيات التعليمية التي تدعو صراحة إلى الثورة الماركسية ثم مال في إنتاجه المتأخر إلى نوع من المسرحيات «التأليفية» التي تحاول البحث عن الطريق الصحيح بعيدا عن المذاهب والنزعات المتزمتة، وفي سبيل ذلك اختار مادته من مختلف الآداب العالمية واقتبس كثيرا ولم يتورع عن السرقة الأدبية في بعض الأحيان!
يتميز شعره بالتركيز والإيجاز واللهجة التعليمية التي تستخدم لغة حادة جارحة وتجمع بين المفارقات الغريبة والشفقة الغامرة على الإنسان المعذب في المجتمع وفي الكون على السواء، وهو يؤثر الأغاني والقصص الغنائية الشعبية (البالاد) والحكم الموجزة (الأبيجرام) (راجع أيضا لكاتب السطور: قصائد من برخت، مع دراسة لشعره وحياته، دار الكاتب العربي 1967م بالقاهرة).
من أعماله الشعرية «تبتلات البيت» (1927م)، «مائة قصيدة» (1951م)، «قصائد وأغان» (1956م)، «أغنيات وأناشيد» (1957م) (وقد بدأ الناشر زور كامب في مدينة فرانكفورت في نشر مجموعة أشعاره مع منتخبات من القصائد والأغاني المتناثرة في مسرحياته وأوبراته، وقد ظهر منها خمسة مجلدات حتى الآن). (35) أريش كستنر (1899م-؟)
اسمه الحقيقي هو روبرت نوينر. ولد في مدينة درسدن. اشترك في الحرب العالمية الأولى ورجع منها وقد اشتد عليه مرض القلب. عمل موظفا ببنك وصحفيا ثم درس الأدب الألماني في برلين وليبزج وروستوك حتى حصل على الدكتوراة في سنة 1925م. تفرغ للكتابة الحرة منذ 1927م، ولما جاء النظام النازي منعه من النشر وأحرق كتبه فيما أحرق من إنتاج ما يزيد على مائتي أديب ومفكر (ويروي كستنر أنه كان حاضرا بنفسه عندما أحرقت كتبه وسمع الجماهير تهلل وتهتف بسقوطه ...) عمل من سنة 1945م إلى سنة 1948م محررا أدبيا بالجريدة الجديدة في ميونيخ. أسس مجلة للأطفال والشباب «طائر البنجوين» (البطريك) وهو رئيس فرع نادي القلم الدولي (البن) بألمانيا ويعيش الآن في مدينة ميونيخ.
شاعر وقصاص وكاتب أطفال يتميز بأسلوبه الموضوعي المعقول. بدأ يكتب قصائد خفيفة ساخرة ينقد فيها النفاق الاجتماعي والحماسة العاطفية الكاذبة والروح العسكرية الغبية التي انتشرت على عهد النازيين في لغة بسيطة خالية من التنمية والانفعال، بل تكاد تخلو من كل طموح أدبي. ويعتمد أسلوبه على الشكل التقليدي ويمتلئ بالعبارات والشعارات المأخوذة من أفواه الناس؛ ولذلك شاعت سخرياته اللاذعة في «الكباريهات الأدبية» وبين الجماهير وقدر الجميع روحه الإنسانية ودعوته الأخلاقية والتربوية الأصيلة، وحرصه على تخليص الألمان من عيوبهم التقليدية، وتعليمهم التواضع والبساطة والبعد عن الطموح والتعالي الفكري والضجيج بالكلمات الطنانة التي طالما سببت لهم ولغيرهم الكوارث والحروب! ... اشتهر كستنر برواياته، كما عرف في العالم كله بقصص الأطفال الذي يعد من أعظم كتابها في العصر الحديث.
من أعماله الشعرية «قلب على المقاس» (1927م)، «ضجة في المرآة» (1929م)، «رجل يعطي معلومات» (1930م)، «غناء بين الكراسي» (1932م)، «صيدلية البيت الشعرية» (1935م)، «هموم كل يوم» (1949م)، «الحرية الصغيرة» (1952م)، «الشهور الثلاثة عشر» (1955م). ومن أشهر روايات الأطفال التي كتبها: «إميل والمخبرون» (1929م)، «الفصل الطائر» (1933م)، «مؤتمر الحيوانات» (1949م). (36) جنتر أيش (1907-1972م)
ولد في ليبوس على نهر الأودر، وقضى شبابه في منطقة براندنبورج البروسية. درس الحقوق واللغة الصينية في برلين وليبزج وباريس. عاش منذ سنة 1932م في برلين حياة كاتب متفرغ ثم اشترك في الحرب العالمية الثانية من سنة 1939م إلى 1945م وأسر في معتقل أمريكي. تزوج في سنة 1953م من الكاتبة القصصية إلزه أيشنجر. شاعر يتميز بتفرغه وتشاؤمه واهتمامه بوصف أمور الحياة اليومية البسيطة، مع نغمة غنائية فطرية. يختار صورا جديدة غريبة ولغة قوية مقتصدة، ويكثر من الرموز والإشارات إلى معان غير محددة أو يصعب التعبير عنها.
اشتهر بكتابة التمثيلية الإذاعية حتى لتعد تمثيليته «أحلام» (1953م) بداية عصر مزدهر للأدب الإذاعي في ألمانيا، أضاف إليه إمكانيات صوتية جديدة وخلع عليه روحا شاعرية مؤثرة وعالج مشكلات العصر ومآسيه بطريقة التزاوج بين الحلم والواقع، بحيث يبدو الواقع المؤلم كأنه عالم خداع لا وجود له إلا في الكوابيس والأحلام.
من أعماله «قصائد» (1930م)، «فرسان الحظ» (كوميديا) (1933م)، «سنة الاحتفال» (تمثيلية إذاعية) (1936م)، «أحواش بعيدة» (1948م)، «أحلام» (1953م) (تمثيلية إذاعية)، «رسائل المطر» (قصائد) (1955م)، «حريق سيتوبال» (تمثيلية إذاعية) (1957م)، «لله مائة اسم» (تمثيلية) (1958م)، «أصوات» (1958م). (37) كارل كرولوف (1915م-؟)
ولد في مدينة هانوفر، وكان أبوه يعمل موظفا إداريا. درس الأدب الألماني واللغات الرومانية والفلسفة وتاريخ الفن في جامعتي جوتنجن وبرسلاو، ويعيش متفرغا للأدب منذ سنة 1942م (في جوتنجن وهانوفر إلى أن استقر الآن في مدينة دارمشتات). كما يعمل أيضا بالصحافة والنقد الأدبي والترجمة عن الفرنسية والإسبانية. شغل في الفصل الدراسي من سنة 1960م / 1961م كرسي الشعر الذي تعودت جامعة فرانكفورت أن تدعو إليه كبار الشعراء ليحاضروا الطلبة عن تجاربهم الذاتية في الفن. شاعر خصب الإنتاج، تأثر بشاعرين من الجيل السابق عليه هما أوسكار لوركه وفيلهم ليمان، كما تأثر بالسيرياليين الفرنسيين، ولا يخطئ الإنسان في ألحانه نغمة بكائية أخذها عن الشاعر «تراكل». يتصل شعره من الناحية الشكلية بالثورة الجديدة، وبالأخص عند لوركا وإلوار، وإن كان ذلك لا يقلل من قدرته على التعبير الذاتي الأصيل. يتميز شعره بالخفة وسهولة الشكل والإيقاع الراقص واللغة الموسيقية والصور التي تكون في بعض الأحيان شديدة الشفافية أو شديدة الخشونة.
بدأ بشعر الطبيعة الخالصة وقصائد الحب والمناسبات التي تفيض حزنا وسخرية ثم زاد اتجاهه إلى القصائد التجريبية الخالية من القافية مع الإكثار من الاستعارات المجردة.
من أعماله «البلد المحمود الطيب» (1943م)، «قصائد» (1948م)، «مطاردة» (1948م)، «على الأرض» (1949م)، «علامات الكون» (1952م)، «الريح والزمان» (1954م)، «الأيام والليالي» (1956م)، «أجسام غريبة» (1959م)، «ملامح من الشعر الألماني المعاصر» (1961م)، «الأيدي الخفية» (1962م ). (38) يوهانس بوبروفسكي (1917-1964م)
ولد في مدينة تيلسيت وقضى طفولته في منطقة ميميل (ليتوانيا) وشارك في الحرب في الجبهة الروسية، ثم اشتغل بالفحص الأدبي في إحدى دور النشر ببرلين الشرقية.
يمتاز بشعره الذي تتردد فيه أنغام الكآبة والشوق، وذكريات حياته وتجاربه في أوروبا الشرقية.
ترك وراءه مجموعة من القصائد والقصص القليلة ذات قيمة فنية عالية. ولم تزل المعلومات قليلة عنه حتى الآن.
من أعماله الشعرية «زمن سارمائي» (1961م)، و«أنهار بلاد الظل» (1962م)، ومجموعته القصصية التي ظهرت بعد موته «عيد الفيران»، وروايته «طاحونة لفين». (39) باول تسيلان (1920-1970م)
ولد في شيرنوفيتس في منطقة بوكو فينا (على الحدود الرومانية السوفيتية) من أبوين ألمانيين. درس الطب في باريس وبوخارست ثم لجأ إلى فيينا في سنة 1947م وبعدها إلى باريس (1948م) حيث درس الأدب الألماني وعلم اللغة واشتغل بالتدريس والترجمة (ترجم إلى الألمانية أشعارا من إلسكندر بلوك وازينين ورامبو وبازان وكوكتو ورينيه شار).
حصل على جائزة «بوشنر» الأدبية سنة 1960. يعد من أهم الشعراء الذين كتبوا بالألمانية بعد الحرب. تأثر بالرمزية والسيريالية، ويتميز شعره بالبناء المحكم والصور الفنية والنغم الموحي واللحن الأسيان. يكثر من استخدام الاستعارات الجريئة التي لا تربط بينها رابطة منطقية، ويصل في ذلك إلى نوع من «الشعر المحض» الذي يمتاز بموسيقى الكلمة المجردة، وغموض المعنى.
قوبل ديواناه «الرمل (المنساب) من أوعية الفخار» (1948م) و«خشخاش وذاكرة» (1952م) بالترحيب الشديد، وكشفا عن شاعر «جرحه الواقع وراح يبحث عن الواقع.» وعرف زيف المجتمع وأرقه الشوق إلى الإنسانية الحقة. ومهما اختلف النقاد في تفسير أشعاره التي تحتمل تفسيرات عديدة فلا يكاد أحد ينازع في موهبته وأصالته، ولا في روعة ترجماته الشعرية عن الفرنسية والروسية. وقد جاءني نبأ موته أثناء العمل في هذا الكتاب، إذ أغرق نفسه في نهر السين يأسا من الحياة أو من الحب!
من أعماله «رمل من أوعية الفخار» (1948م)، «خشخاش وذاكرة» (1952م)، «من عتبة إلى عتبة» (1955م)، «قصائد مختارة» (1962م). (40) أنجيورج باخمان (1926م-؟)
ولدت في مدينة كلاجنفورت بالنمسا، بدأت بدراسة الموسيقى ثم تحولت عنها إلى دراسة الفلسفة في فيينا وانزبروك وجراتس (من سنة 1945 إلى 1950م) حيث حصلت على الدكتوراه في فلسفة هيدجر من جامعة فيينا. اشتغلت في إحدى محطات الإذاعة في فيينا (1951-1953م) ثم تفرغت للتأليف منذ سنة 1953م حيث أقامت ما بين روما وميونيخ لتستقر أخيرا في مدينة زيورخ. من أبرز أعضاء جماعة ال 47 الأدبية (نسبة إلى سنة 1947م التي تألفت فيها لإحياء الأدب الألماني بعد الحرب وبعث القيم الحقة في التراث العقلي والخلقي الذي جنى عليه النازيون، وشق طريق مستقل لا يزج بالألمان في صراع الشرق والغرب، والوقوف في وجه إعادة التسليح، وتكاد الآن أن تكون هي الجماعة الرسمية المعبرة عن الحياة الأدبية). كرمت عدة مرات ومنحت جوائز أدبية عديدة.
من أكثر شعراء هذا الجيل أصالة وتفردا في الأسلوب واختيار الكلمات الموحية المنغمة التي تتصف بشيء من البرود والتحفظ والخشونة والعاطفة التي تذكرنا بعاطفة «هولدرلين». شعرها شعر فكري مجرد يميل إلى الموضوعات الميتافيزيقية، وينتخب صورا غريبة ورموزا لا تقنع القارئ دائما. كتبت تمثيليات إذاعية تمتاز بالروح الشاعرية والشكل المبتكر، كما ترجمت شعر «أنجارتي» عن الإيطالية.
من أعمالها «المهلة» (1953م)، «دعاء الدب الأكبر» (1956م)، «إله مانهاتن الطيب، والجنادب» (وهما تمثيليتان إذاعيتان)، «العام الثلاثون» (قصص قصيرة) (1961م) (راجع المقال الذي نشره عنها كاتب السطور في مجلة الفكر المعاصر، عدد يونيو 1965م، وظهر في كتاب «البلد البعيد»، دار الكاتب العربي، القاهرة، 1967م). (41) هانز ماجنوس انسنزبرجر (1929م-؟)
ولد في كاوفبويرن في مقاطعة الألجوي، ألحق في سنة 1944، 1945م بفرق العاصفة، ثم أتم دراسته الثانوية بعد الحرب. درس الأدب والفلسفة في جامعات هامبورج وفرايبورج وأرلانجن وباريس، وحصل على الدكتوراه في سنة 1955م برسالة عن فن الشعر عند الكاتب الشاعر الرومانتيكي برنتانو، ثم اشتغل فترة بالعمل المسرحي والعمل الإذاعي وكتابة المقالات النقدية في الصحف والمجلات وقام برحلات وأسفار عديدة (وقد زار القاهرة على ما أذكر في سنة 1966م وقرأ بعض أشعاره في معهد جوته) يعيش متنقلا بين إيطاليا وألمانيا والنرويج التي يقيم فيها.
شاعر يتميز بنزعته السياسية الحادة ونقده المرير للمجتمع الحديث والحياة المعاصرة وبخاصة حياة الطبقة الوسطى الخاملة المتبلدة، وتوحي أشعاره بالتأثر ببرشت في شعره الساخر العدمي في وقت واحد. فهو يهاجم التقاليد والأفكار الشائعة والعواطف الحماسية السخيفة هجوما مؤلما يهدف إلى إقلاق من نسميهم بأوساط الناس، وإثارة التقزز في نفوسهم من الحياة الغبية التي يحيونها أو قل يقضونها في النوم والجبن والنفاق. يتميز بأسلوبه الفني الذي يلجأ إلى التضمين والمونتاج واستخدام الشعارات والعبارات الثقافية المتحذلقة وصيغ الإعلانات التجارية والاستعارات والصور المركبة. ومع ذلك فلا تخلو قصائده من الإحساس الرهيف الرقيق، وإن كان جمالها هو الجمال العقلي البارد. من أعماله الشعرية: «دفاع الذئاب» (1957م)، «لغة الريف» (1960م)، «قصائد وكيف تنشأ القصيدة» (1962م)، كما نشر مجموعة رائعة من الشعر الأوروبي تحت عنوان «متحف الشعر الحديث». (42) هورست بينيك (1930م-؟)
ولد في مدينة جليفتس في منطقة شيلزين أوسيلزيا (على جانبي نهر الأودر) اشتغل فترة قصيرة مساعدا للشاعر والكاتب المسرحي برتولت برشت في مسرحه المعروف ببرلين الشرقية، ثم ألقي القبض عليه في سنة 1951م واعتقل في معسكرات العمل في سيبيريا حتى أواخر سنة 1955م.
هرب إلى ألمانيا الاتحادية وعمل منذ سنة 1957م في دار الإذاعة بمدينة فرانكفورت (على نهر الماين)، ثم التحق في سنة 1961م بدار نشر الجيب في مدينة ميونيخ حيث لا يزال يعمل في فحص الكتب. شاعر وكاتب يتميز بلغته البسيطة الموجزة الخالية من كل انفعال. وتدور كتاباته حول الدعوة إلى المحافظة على جوهر الإنسان وصونه من التمزق والدمار، والإبقاء على حريته الباطنة وسط الأخطار البشعة التي تهدده في هذا العصر.
نذكر من كتبه «كتاب أحلام سجين» وهو مجموعة من القصائد والخواطر النثرية (1957م)، «قطع ليلية» (قصص) (1959م)، «أحاديث مع أدباء» (1962م). (43) إليوت، توماس ستيرنز (1888-1965م)
ولد في مدينة سانت لويس بولاية مسوري (الولايات المتحدة الأمريكية). درس في جامعة هارفارد والسوربون وأكسفورد. عاش في إنجلترا منذ سنة 1915م وتجنس بالجنسية الإنجليزية سنة 1927م، وتحول بعد ذلك بعام واحد إلى الكاثوليكية.
اشتغل في لندن بالتدريس وعمل في مجلات أدبية عديدة ، ثم تولى الإشراف على دار النشر المعروفة «فابر وفابر» التي أصدرت جميع أعماله، وبقي حتى وفاته في هذا المنصب. وجهت إليه دعوات عديدة لإلقاء المحاضرات كأستاذ زائر في جامعات مختلفة داخل الجزر البريطانية وخارجها، ومنحته عدة جامعات درجة الدكتوراه الفخرية، وحصل على جائزة نوبل سنة 1948، وجائزة جوته من مدينة هامبورج. يعد من أعظم الشعراء على الإطلاق، وأحد مؤسسي الحركة الشعرية الجديدة في القرن العشرين، وتأثيره على شعرائنا الجدد أشهر من أن يذكر. ظهر ديوانه الأول (بروفروك) في سنة 1917م، كما ظهرت قصيدته الشهيرة «الأرض الخراب» سنة 1922م.
أما مجموعة قصائده التي اعتمدت عليها في القصائد التي اخترتها له، فقد صدرت سنة 1936م، كما صدرت «الرباعيات الأربع» سنة 1944م. وإليوت كاتب مسرحي قدير وناقد أدبي واسع الثقافة، وقد ترجم عدد كبير من أعماله الشعرية والمسرحية والنقدية إلى العربية، كما ترجم الأستاذ ماهر شفيق فريد معظم إنتاجه.
بعض المصادر
(1)
Friedrich, Hugo, Die Struktur der Modernen Lyrik von Baudelaire bis zur Gegenwart. Hamburg. Rowohlt, 1958. 216 S. 2te Auflage 1968. (1) هوجو فريدريش، بناء الشعر الحديث، من بودلير إلى العصر الحاضر. هامبورج، روفولت، 1958م، 216ص، الطبعة الثانية، سنة 1968م. (2)
Burnshaw, Stanley (Ed.), The Poem itself. 150 European Poems, translated and analysed. Edited and with an introduction by S.B.A., Penguin Book, 1960. (2) القصيدة نفسها، 150 قصيدة أوروبية (من الشعر الفرنسي والإيطالي والألماني والإسباني والبرتغالي) النصوص الأصلية مع ترجمتها وتحليلها باللغة الإنجليزية، ومقدمة بقلم الناشر ستانلي برنشو. (3)
Von Baudelaire bis Saint-John Perse. Französische Gedichte und Deutsche Prosaübertragungen. Ausgewählt von Mayotte Bollack, übersetzt von Bernhard Böschenstein und Jean Bollack. Frankfurt am Main, Fischer Bücherei, 1962, 211 S. (3) من بودلير إلى سان-جون بيرس . قصائد فرنسية وترجمتها النثرية إلى الألمانية، من اختيار مايوت بولاك، وترجمة برنهارد بوشنشتين وجاو بولاك. (4)
Französische Lyrik von Baudelaire bis zur Gegenwart. Französisch und Deutsch. Hrsg. von Kurt Schnelle. Leip zig, Reclam, Band 266, 1967, 396 S. (4) الشعر الفرنسي من بودلير إلى العصر الحاضر ويضم النصوص باللغة الفرنسية مع ترجمتها الألمانية، نشره كورت شنيله. ليبزج دار نشر ركلام، المجلد 266 من السلسلة، 1967م، 396ص. (5)
Metamorphose der Nelke. Moderne Spanische Lyrik, Spanisch und Deutsch. Hrsg. von Carlos Rincon unter Mitarbeit von Karlheinz Barck und F. R. Fries. Leipzig, Reclam, Band 388, 1968, 319 S. (5) تحولات القرنفلة (والعنوان مأخوذ من إحدى قصائد ألبرتي) الشعر الإسباني الحديث، باللغة الإسبانية وترجمتها الألمانية. نشره كارلوس رينكون بالتعاون مع كارل هاينز بارك وف. س فريس.
ليبزج، المجلد 388 من سلسلة ركلام، 1968م، 319ص. (6)
T. S. Eliot, collected Poems 1909-1935. London, Faber and Faber Limited, 1946, p. 191. (6) إليوت، توماس ستيرنز، مجموعة قصائده بين سنتي 1909 و1935م، لندن، فابر وفابر، 1946. (7)
The Penguin Book of Italian Verse, introduced and edited by George R. Kay, with plain prose translations of each poem. Penguin Books, 1960, p. XXX, 424. (7) كتاب بنجوين للشعر الإيطالي، قدم له ونشره جورج. ر. كاي، مع ترجمة إنجليزية منثورة. مجموعة كتب بنجوين، 1960، 424 صفحة. (8)
Ergriffenes Dasein Deutsche Lyrik des Zwanzigsten Jahrhunderts. Ausgewählt von Hans Egon Holthusen und Friedhelm Kemp. Ebenhausen bei München, Langewiesche Brandt, 1957, 405 S., 5. Auflage. (8) الوجود المأخوذ، الشعر الألماني في القرن العشرين، منتخبات اختارها هانز إيجون هولتهوزن وفريد هيلم كيمب. إيبنهاوزن (بالقرب من ميونيخ)، لانجفيشة برانت، 1957م، 405ص، الطبعة الخامسة. (9)
Deutsche Lyrik der Gegenwart. Eine Anthologie. 2. Auflage. Herausgegeben und eingeleitet von Willi Fehse. Stuttgart, Reclam Verlag, 1957, 261 S. (9) الشعر الألماني المعاصر (منتخبات)، الطبعة الثانية. نشرها وقدم لها فيللي فيزه. سلسلة كتب ركلام: شتوتجارت، ركلام، 1957م، 261ص. (10)
In diesem besseren Land. Gedichte der Deutschen Demokratischen Republik seit 1945. Ausgewählt, zusammenges tellt und mit einem Verwort versehen von Adolf Endler und Karl Michel. Halle (Saale), Mitteldeutscher Verlag, 1966, 398 S. (10) في هذا البلد الأفضل قصائد من جمهورية ألمانيا الديمقراطية منذ سنة 1945م، اختارها وجمع بينها وقدم لها أدولف أندلر وكارل ميكل. هاله (على نهر الزاله)، 1966م، 398ص. (11)
Englische Gedichte von Hopkins bis Dylan Thomas. Herausgegeben und übertragen von Ursula Clemen und Christian Enzensberger. Frankfurt am Main, Fischer Bücherei, 1961, 200 S. (11) قصائد إنجليزية (مع ترجمة نثرية بالألمانية) من هوبكنز إلى ديلان توماس. نشرها وترجمها أرزولا كليمن وكرستيان انسنز برجر.
مطبعة ودار نشر فيشر، فرانكفورت على نهر الماين، 1961م، 200ص. (12)
Ungaretti, Giuseppe, Gedichte. Italienisch und Deutsch. Uebertragung und Nachwort von Ingeborg Bachmann.Frankfurt/Main, Suhrkamp Verlag, 1966, 157 S. (12) جوسيبي أنجارتي، قصائد. النص الإيطالي والترجمة الألمانية التي قامت بها الشاعرة أنجبورج باخمان. فرانكفورت، مكتبة ومطبعة زور كامب، 1966م، 157ص. (13) شفيق مقار، شيء من الشعر، مختارات من الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر والقرن العشرين مع دراسة لكل شاعر. مراجعة محمود تيمور. القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1966م. (13)
Gero von Wilpert, Deutsches Dichterlexikon. Stuttgart, Kröner Band 288 der Taschenausgabe, 1963. (14) جيرو فون فيلبرت، معجم الأدباء الألمان، شتوتجارت، كرونر، العدد 288 من طبعة كرونر للجيب، 1963م. (14)
Deutsches Schriftstellerlexikon, von den Aufängen bis zur Gegenwart Volksverlag, Weinar, 1960. (15) معجم الكتاب الألمان، من البداية إلى العصر الحاضر. فيمار، مطبعة الشعب، 1960م. (15)
André Bourin, Jean Rousselot, Dictionnaire de la littérature française contemporaine. Larousse, 1968. (16) أندريه بوران وجان رو سيلو؛ قاموس الأدب الفرنسي المعاصر، لاروس، 1968م. (16)
Jean Rousselot, Dictionnaire de la poésie française contemporaine, Paris, Librairie Larousse, 1968. (17) جان روسيلو، قاموس الشعر الفرنسي المعاصر، لاروس، 1968م. (18) عبد الغفار مكاوي، لحن الحرية والصمت، الشعر الألماني في القرن العشرين، مجلة عالم الفكر، المجلد الرابع، سبتمبر 1973م.
صفحة غير معروفة