2
ويحكي لنا التاريخ حكاية مفصلة عن هذا الهيكل العام للثقافة العربية، ماذا كان من أمره حين ألفى نفسه وجها لوجه مع ثقافة «غربية» قديمة، هي ثقافة اليونان، فقد نقلت هذه الثقافة إلى العربية، في القرن التاسع، بأمر من الدولة وبتدبيرها وبأموالها، على نحو يكاد المرء يلمح فيه رائحة السياسة وأهدافها، لكن ذلك ليس من شأننا في هذا المجال، وحسبنا أن نعلم أن خاصة المثقفين عندئذ قد وجدوا أمامهم هذا الوافد الجديد، الذي هو «الفلسفة» اليونانية خاصة، وإذا قلنا «الفلسفة» فقد قلنا «منطق العقل» فكيف استجابوا له؟
استجابوا له على طريقتين؛ ففريق حاول أن ينتفع به لأغراضه، وفريق آخر وقف منه موقف الرفض الصريح، فأما أول الفريقين فنراه في المعتزلة من المتكلمين وفي الفلاسفة، فحاول فريق المعتزلة أن يستخدموا أداة المنطق العقلي في الوصول إلى صيغة تدفع عن الدين كل شبهة، وتصون للفرد الإنساني في الوقت نفسه حريته في الاختيار، ومسئوليته عما يختار، فركزوا أنظارهم على محورين؛ هما وحدانية الله من جهة، وحرية إرادة الإنسان في دنيا الفعل من جهة أخرى، فسلمت لهم بذلك أركان الهيكل الثقافي العتيد، الذي يحرص على التمييز الواضح بين المطلق في ثباته، والجزئي في تغيره، مع اصطناعهم للثقافة اليونانية الوافدة وسيلة يتوسلون بها، لا غاية يقفون عندها، وأما الفريق الثاني - فريق الفلاسفة - فقد كانت طريقتهم أن يحاولوا التوفيق بين الوافد والمقيم، بين الطارف والتليد، بين ما يؤدي إليه منطق العقل، وما قد هبط به الوحي، بين حكمة الفلسفة وشريعة الدين؛ ليبينوا أن لا اختلاف على الحقائق وإن تعددت المناهج، وهكذا اتفق الفريقان: فريق المعتزلة من المتكلمين، وفريق الفلاسفة، على أن قبولهم للثقافة اليونانية المنقولة إليهما، لا يؤدي إلى تنازلهما عن أي شيء من مقومات الثقافة العربية الأصيلة، بل قد يزيدها رسوخا بما يضفيه إليها من براهين التوكيد والتأييد.
لكن تلك الوقفة المعتدلة المتسامحة اقتصرت على جماعة من خاصة المثقفين، ولا أظنها قد تسربت لتسري في حياة الناس، وأما الذي بدأ بجماعة من خاصة المثقفين كذلك، ثم سرى في جمهور الناس جيلا بعد جيل، فهو وقفة أخرى رفض بها أصحابها فلسفة اليونان المنقولة، ورأوها دخيلة على ثقافتهم وربما أفسدتها، فعند هؤلاء الرافضين أن «علوم الأوائل» - هكذا أسموا ثقافة اليونان - لا تكاد تصلح لشيء في «علوم العرب»، وعلوم العرب هذه لا تخرج عندهم عن عقيدة دينية وشريعة ولغة عربية، فكيف يمكن لهذه الفروع الثلاثة أن تفيد من علوم قوامها «طبيعيات ورياضيات وإلهيات» تدور في مجال آخر وبأسلوب آخر؟ إن هذه العلوم الوافدة - في رأيهم - هي على أحسن الفروض «حكمة مشوبة بكفر» أو هي «حق مشوب بباطل».
وحسبنا أن نذكر من هذا الفريق الرافض للفلسفة اليونانية، الإمام الغزالي، ليدرك القارئ كم كان لوقفته هذه من أثر لم يقتصر على خاصة المثقفين، بل اتسع مداه حتى أصبح مقوما هاما من مقومات الثقافة الشعبية - إذا صح هذا التعبير - فقد كتب الغزالي كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، ليبين - من وجهة نظره - كيف أن الفلسفة الأرسطية بصفة خاصة، منطوية على كلام ينقض بعضه بعضا، نعم .. إن الغزالي قد أمسك بزمام نفسه، فلم تجرفه المبالغات، بدليل أنه أخذ يميز من جملة الثقافة اليونانية التي سلط عليها نقده، جوانب يراها مفيدة، ولا ضير على العقيدة الدينية منها؛ كالرياضيات، والمنطق الخالص، ومع ذلك فقد كان يخشى على الناس أن يقرءوا للفلاسفة الأقدمين أشياء صحيحة كهذه، فيتوهموا أن كل ما قاله الفلاسفة لا بد أن يكون صحيحا كذلك.
لا، لم يكن النظر العقلي - عند الغزالي - هو وسيلة إدراك الحق، والحق هو الله سبحانه، وإنما الوسيلة لذلك هي الحدس الصوفي، فكان بقوله هذا بمثابة من واجهته ثقافة «العقل» الدخيلة، فلاذ بما قد ألفه واستراح إليه ووجد فيه الدفء، ألا وهو القلب ونبضته، والوحي وهدايته.
3
ويخطئ من يظن أن قوائم الهيكل الثقافي الأصيل قد غيرها الزمن، حتى وإن تغيرت جميع القضايا المطروحة للنظر، فإذا تحدثنا عن «الثقافة العربية الحديثة» فلا بد من التفرقة الواضحة بين «المنظار» من جهة، و«الموضوع» الذي ننظر إليه من جهة أخرى؛ فهنالك موضوعات للنظر أثارتها مشكلات العصر لم يكن لنا بد من التعرض لها؛ لأنها تمس حياتنا في الصميم، ومن تفكيرنا فيها توالدت «الثقافة العربية الحديثة»، لكننا نسأل هنا: بأي منظار نظرنا، وعن أي موقف فكري صدرنا؟ وتلك هي «المواجهة».
وإنني لأزعم أن الموقف الفكري الذي صدرنا عنه في مواجهتنا للعصر، هو نفسه الموقف الفكري الذي صدر عنه أسلاف لنا عندما فوجئوا بثقافة جاءتهم من اليونان: ففريق أراد أن يجعل من الثقافة الجديدة أداة ينتفع بها في حل مشكلاته، وفريق آخر رفضها رفضا، وكان الرافضون هم الفئة التي استجابت لها عامة الناس طوال القرون التالية، نعم، إن هنالك فريقا ثالثا ثار على الهيكل نفسه، وخرج منه، بل خرج عليه، وحاول العيش مع الغرباء؛ بغية أن يتبعه الآخرون، لكن سرعان ما تبين لهؤلاء وللناس، أنهم إنما فرضوا على أنفسهم عزلة قد تفيدهم إلى حين، ولكنها لن تكون جزءا باقيا من «الثقافة العربية الحديثة».
أريد أن أكون في هذا الموضع واضحا غاية الوضوح؛ فلست أدافع ولا أهاجم، ولكنني أصف، فأقول إن الثقافة العربية الحديثة إذا واجهت العصر بمقولاتها، لم تجد مقولاتها تلك معدة كل الإعداد لتلقي مادة العصر، فانقسم رجال الثقافة عندنا ثلاثة مذاهب: مذهب وجد الصيد نافرا من القفص، لكنه لم يزل به حتى طوعه بعض التطويع، فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا المذهب تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وغيرهم، فهؤلاء جميعا - على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم - لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصوغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوت بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين. ومذهب آخر وجد الصيد نافرا من القفص، فاستغنى عن الصيد، واحتفظ بالقفص يضع فيه من كائناته المألوفة ما يجده حاضرا بين يديه، وفي هذا المذهب تقع جماعة لا حصر لعددها، ممن ملئوا أوعيتهم من كتب التراث، وغضوا أنظارهم غضا عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكرية، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين. ومذهب ثالث وجد الصيد نافرا من القفص، فحطم القفص، وجرى مع الصيد حيث جرى، وهؤلاء قلة قليلة، لا تجد بأسا في أن نمحو صفحتنا محوا، لنملأها بثقافة العصر وحده، كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريف ولا تعديل. فمن ذلك ترى جماعتين من الجماعات الثلاث، هما اللتان تصدتا للعصر؛ إحداهما بتعديله ليلائم قالبنا الموروث، والأخرى بغير تعديل فيه، ملقية في اليم القالب الموروث، وأما الجماعة الثالثة فقد لاذت بالهروب في حصونها، فلا مواجهة بينها وبين العصر، ومن ثم فلنا أن نسقطها من حسابنا، برغم كثرة عددها، وبرغم أنها هي التي ظفرت بتأييد الجماهير.
صفحة غير معروفة