وفي هذا الجو نشأ وليم الأوكامي
William Of occam - نسبة إلى قرية إنجليزية تسمى أوكام - ولقد تعلم وليم في كيمبردج وأكسفورد معا، وقام بالتدريس في هذه الأخيرة، وأي تدريس! كان هنالك كتاب تقليدي صنفه بطرس لمبارد في أوائل القرن الثاني عشر، يقع في أربعة أجزاء، وعنوانه «مأثورات»، ويحتوي على مجموعة مختارة مما قاله آباء الكنيسة الأولون.
وكان العرف قد جرى في الجامعات الأوروبية أن يبدأ المدرس الناشئ في الجامعة، بأن تدور محاضراته حول مادة هذا الكتاب، ويكفينا لكي نعلم أهمية هذا الكتاب أن نذكر ما قاله عنه «روجر بيكون»، إذ قال: إن الجامعة في باريس تدرس هذا الكتاب أكثر مما تدرس الكتاب المقدس.
بدأ الأوكامي محاضراته بهذا الكتاب جريا مع العرف، لكنه لم يلبث أن انحرف، فيما يلقيه على طلابه، عن مألوف الطريق انحرافا خطيرا، من ذلك أنه أخذ يغلف محاضراته بمبادئ المذهب التجريبي، وهو مذهب يجعل هذه الدنيا مصدرا للعلم؛ ولذلك فهو مثير للفزع عند رجال اللاهوت الذين لا يرضون بديلا عن الكتاب المقدس مصدرا لكل علم حقيقي جدير بعناية الإنسان. وشاع في الأوساط الدينية ما انحرف به الأوكامي عن الخط المألوف، فاستدعاه البابا في مقره عندئذ بمدينة أفنيون بفرنسا، ليحاكمه على زندقته تلك، ولكن محاكميه أرجئوا إصدار الحكم عليه، وسجنوه في دير لطائفة الفرنسسكان بأفنيون، حيث لبث بضع سنين، لكنه هرب آخر الأمر من سجنه، ولاذ بالإمبراطور لويس في بافاريا - وكان معاديا للسلطة الدينية القائمة ويسعى إلى تبديلها - فكان ذلك من الأوكامي بمنزلة الخروج على البابا وعصيانه.
وشاءت له الأيام أن يخذله الإمبراطور، بمعنى أن هذا الإمبراطور قد عاد واستسلم في خشوع ذليل للبابا ليستعيد رضاه، وأما المفكر الثائر - وليم الأوكامي - فقد مضى قدما في ثورته، يخرج الرسالة تلو الرسالة، دفاعا عن «الفرد» وحقه في أن يستقل برأيه، وضرورة أن يصبح «الفرد» - لا الجماعة التي تحتويه - هو محور الاهتمام، أليس «الفرد» مسئولا أمام نفسه وأمام خالقه وأمام الناس عما يفعل؟ إذن فالحكم على الدولة نفسها إنما ينبثق من حصيلة المواقف الخلقية التي يقفها المواطنون أفرادا قبل أن يكونوا جماعات.
غير أن هذا وسواه من الأفكار التي أذاعها الأوكامي عندئذ في نشراته التي أمطر بها القارئين، إنما جاءت كلها تفريعات عن موقف له أساسي في فلسفة المعرفة، هو الذي اشتهر به في تاريخ الفلسفة، وهو الذي بقيت منه بقية لها المكانة البارزة في فلسفة بعض معاصرينا اليوم، ومن هؤلاء برتراند رسل، وهي ما يسمونه «نصل أوكام»
Occams Razor ، الذي سنتولاه بالشرح فيما بعد.
جاء الأوكامي في مناخ فكري عجيب؛ فالبابا يأمر أسقف باريس - مثلا - أن يراجع كل ما يدرس في جامعة باريس، ليستخرج منها ما هو مخالف للدين في رأيه، فأخرج له الأسقف أكثر من مائتي رسالة علمية يتداولها الدارسون، وكان بين ما صادره: كل رسالة يرد فيها - من قريب أو من بعيد - أن البدن (أي الحواس من بصر وسمع ... إلخ) يشارك في تحصيل العلم، ويتدخل في العمليات العقلية بأي وجه من الوجوه، من أين - إذن - يعرف الإنسان ما يعرفه عن العالم الذي حوله؟! إنه يعرفه بإدراكاته الباطنية التي تهتدي بالنور الإلهي؛ فلا شأن للإنسان بالأشياء نفسها ليعرفها، بل عليه أن ينتظر الإلهام الرباني يلمع بالنور في دخيلة نفسه فيعرفها. وأكثر الناس اعتدالا في ذلك الحين هم الذين قالوا: لنقسم المعرفة قسمين؛ قسم منها يأتي من تجربة الحواس للأشياء، وهي معرفة لا قيمة لها، وقسم آخر يأتي عن طريق الإلهام أو ما يشبهه، وهذا هو الجدير باهتمام الإنسان.
في هذا المناخ الفكري نشأ الأوكامي، فكانت ثورته التي أردنا عرضها في هذا المقال، ومحور فكرته الثائرة هو هذا المبدأ الذي اصطنعه وسماه ب «النصل» أو «الموسى» الذي أراد أن يجز به كل فكرة يثبت ألا ضرورة لافتراضها في تفسيرنا للعالم وظواهره، ومن ثم نشأت قاعدة «الاقتصاد في الفروض» التي يأخذ بها القائمون بالبحوث العلمية أساسا منهجيا معترفا به، وكان لها تطبيق خاص عند برتراند رسل كما أسلفنا.
لست أدري كم يعلم القارئ من نظرية «المثل» الأفلاطونية؛ إذ لا بد من الإلمام بطرف منها لنفهم موقف الأوكامي و«نصله» ذاك؛ لأن الأوكامي قد ظهر والنظرية الأفلاطونية هذه معقود لها السيادة بين رجال الفكر، وخلاصتها أن أفراد النوع الواحد، كأفراد الناس وأفراد الشجر وأفراد الطير ... إلخ، إنما خلقت على غرار نموذج عقلي سابق على الوجود المادي كله؛ أي إننا لو تصورنا أن هذا الوجود المادي كله قد انمحى، أو أنه لم يخلق أصلا، فتلك النماذج العقلية تظل هناك قائمة كما تقوم الكائنات الروحية كلها، فإذا أردنا الحكم على شيء ما بالجودة أو الرداءة، نظرنا: إلى أي حد يقترب ذلك الشيء من النموذج الأزلي الأبدي الروحاني القائم قبل الوجود المادي وخلاله وبعده، إذا كان لهذا الوجود المادي قبل وبعد.
صفحة غير معروفة